الميــاه

قال اللّه‏ تعالى :   وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً  ([1]) .

وعن الإمام جعفر الصادق  عليه‏السلام : « كلّ ماء طاهر إلاّ ما علمتَ أ نّه قذر »([2]) .

وعنه [  عليه‏السلام] أيضاً : « أنّ أمير المؤمنين  عليه‏السلام كان يقول عند النظر إلى الماء :

الحمد للّه‏ الّذي جعل الماء طهوراً ، ولم يجعله نجساً »([3]) .

كلّ ماء جادت به الطبيعة نازلاً من السماء أو نابعاً من الأرض أو ذائباً من الثلج عذباً كان أو مالحاً على أصل خلقته يسمّيه الفقهاء ماءً مطلقاً ، أي يصدق عليه لفظ « ماء » فقط دون أن تضيف إليه أ يّة لفظة اُخرى تبيّن المراد منه ، بل مجرّد اسم الماء كافٍ في الإخبار عن حقيقته .

ومن الماء المطلق : المياه المعدنيّة ، كعيون الكبريت وما إليه . ومنه أيضاً ماء النهر المتغيّر أيّام الفيضان بما يجرفه من تراب وعشب ، وماء البرك والغدران المتغيّر بطول المكث ، أو بما تولّد فيه من سمك أو طحلب ، وهو خضرة تعلو وجه الماء ، أو تغيّر الماء بما تحمله الريح من ورق الأشجار وغيره ممّا يتعذّر أو يتعسّر التحرّز منه .

_____________

[1] الفرقان : 48 .

[2] الوسائل 1 : 133 ، ب 1 من أبواب الماء المطلق ، ح2 .

[3] الوسائل 1 : 135 ، ب 1 من أبواب الماء المطلق ، ح8 .

 

 

قال تعالى :   وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ  ([1]) .

وعن الإمام الصادق  عليه‏السلام : « قال رسول اللّه‏  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : الماء يُطهّر ، ولا يُطهَّر »([2]) .

الماء المطلق يزيل النجاسة الماديّة كالدم والبول ، ويرفع النجاسة المعنويّة ، أي يجوز الوضوء به ، والغسل من الجنابة والحيض ، ويغسّل به الميّت ، وهذا معنى قول الفقهاء :

الماء المطلق طاهر بنفسه ، مطهّر لغيره من الخبث والحدث ، والخبث هو النجاسة الماديّة ، والحدث النجاسة المعنويّة([3]) .

وممّا يُفرّق به بين الخبث والحدث أنّ الماء القليل يتأثّر ، وتزول عنه الطهارة بمماسّة الخبث كالدم والبول والميتة ، ويبقى على الطهارة بمماسّة الإنسان المحدِث بالحدث الأصغر ، كالّذي خرج منه الريح أو البول ، أو كان محدثاً بالحدث الأكبر ، كالجنب والحائض . وأيضاً التطهير من الخبث كغسل الثوب لا يحتاج إلى قصد التقرّب إلى اللّه‏ ، أمّا التطهير من الحدث ـ كغسل الجنابة والوضوء ـ فلا بدّ فيه من هذا القصد .

__________________

[1] الأنفال : 11 .

[2] الوسائل 1 : 134 ، ب1 من أبواب الماء المطلق ، ح6 .

[3] وقيل : إنّ الطهارة من الخبث متوجّهة إلى الأبدان دون القلوب . ولذا لم تحتج إلى نيّة القربة التي هي من صفات القلوب . أمّا الطهارة من الحدث فمتوجّهة إلى الأبدان والقلوب . ومن هنا افتقرت إلى نيّة القربة [  منه  قدس‏سره ] .

 

 

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الوضوء باللبن ؟ فقال : « لا ، إنّما هو الماء والصعيد »([1]) .

ما عدا الماء المطلق من المائعات ـ كالخل والعصير والشاي والشراب وماء الورد ـ يسمّى ماءً مضافاً عند الفقهاء ، فالمضاف إمّا ماء اُضيف إليه ما أخرجه عن أصل الخلقة ، وإمّا ما اعتصر من جسم كالبرتقال والجزر .

________________________

[1] الوسائل 1 : 201 ، ب1 من أبواب الماء المضاف ، ح1 .

 

 

لك أن تشرب الماء المضاف وتستعمله بما شئت ، وليس لك أن تتوضّأ به ، أو تغتسل من الجنابة ، أو تطهّر به متنجّساً كالاناء والثوب والبدن إذا أصابته النجاسة .

وهذا معنى قول الفقهاء : الماء المضاف طاهر بنفسه ، غير مطهّر لغيره خبثاً وحدثاً .

قال صاحب المدارك : ( والدليل على ذلك قوله تعالى :   فَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا حيث أوجب التيمّم عند فقد الماء المطلق ؛ لأنّ الماء حقيقة فيه ، واللفظ إنّما يحمل على حقيقته ، ولو كان الوضوء جائزاً بغير الماء المطلق لم يجب التيمّم عند فقده )([1]) .

وهنالك دليل آخر ، وهو أنّ ما ثبتت نجاسته بالنصّ الشرعيّ ، فلا نحكم بطهارته بزوال النجاسة عنه إلاّ بالنصّ . وقد ثبت شرعاً أنّ الماء المطلق مطهّر لغيره ، ولم يثبت ذلك بالنسبة إلى الماء المضاف ، فيجب إذن استمرار ما كان على ما كان ، حتّى بعد الغسل بالماء المضاف .

_________________

[1] المدارك 1 : 110 .

 

 

إذا رأيت ماءً ولم تدرِ : هل هو مطلق يزيل الخبث ويرفع الحدث ، أو هو مضاف لا يزيل خبثاً ولا يرفع حدثاً ؟ فماذا تصنع ؟ وهل من سبيل يعيّن أحدهما بالذات ؟

الجواب  :

لا بدّ في مثل هذا الحال أن ترجع إلى نفسك ، وتنظر فإن كنت على علم سابق بأنّ هذا الماء كان مطلقاً على خلقته الأصليّة ثمّ طرأ عليه التغيّر اليسير بشيء من الصابون أو الحبر أو العجين أو غير ذلك ممّا يغيّر الماء تغييراً خفيفاً ، وبعد هذا التغيّر شككت هل خرج الماء عن إطلاقه وأصبح مضافاً ، أو بقي على ما كان من الإطلاق ؟

إذا كان الأمر كذلك استمرّ حكم الإطلاق وأبقيت ما كان على ما كان ، وذلك أنّ الإنسان بفطرته إذا تأكّد من وجود شيء أو عدمه فإنّه يبقى مستمرّاً في عمله على ما تأكّد أوّلاً ، بانياً على علمه السابق ، لا يعتني أبداً بالاحتمالات والشكوك المضادّة ليقينه وتأكيده حتّى يثبت خلافه بالعلم واليقين ؛ لأنّ اليقين لا يزيله إلاّ اليقين ، ومحال أن يزيله الشكّ ؛ لأ نّه واهٍ وضعيف ، ولذا إذا سئل الإنسان لماذا تأخذ بيقينك السابق مع أ نّك تشكّ الآن ؟ أجاب بأ نّه لم يثبت العكس .

وقد راعى الفقهاء هذا الأصل ، واعتبروه من اُصول الشريعة ، وفرّعوا عليه أحكاماً شتّى في جميع أبواب الفقه ، وأسموه : الاستصحاب ؛ لأنّ الإنسان يبقى مصاحباً مع يقينه الأوّل ، حتّى يثبت اليقين المعاكس . قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « لا يُنقض اليقين بالشكّ ، ولكن يُنقض باليقين »([1]) .

ومثله تماماً إذا تأكّد بأنّ الماء كان مضافاً ثمّ طرأ عليه ما يوجب الشكّ بأ نّه صار مطلقاً ، فيجب أن يبقى على ما كان عليه من اليقين السابق بأ نّه باقٍ على إضافته ، عملاً بالاستصحاب . وبكلمة أنّ الاستصحاب هو استفعال من الصحبة ، وفي الشرع استدامة إثبات ما كان ثابتاً ، أو نفي ما كان منفيّاً .

وإذا رأيت مائعاً وشككت في أ نّه هل هو ماء مطلق وطبيعي ، أو مضاف تقاطر من جسم طري بحيث كان الشكّ ابتداءً ودون علم سابق لا بالإطلاق ولا بالإضافة ؟ إذا كان الأمر كذلك لا تحكم بإطلاقه ولا باضافته ، حيث لا دليل في النصوص الشرعيّة ، على أنّ الأصل في المياه الإطلاق أو الإضافة .

____________________

[1] الوسائل 1 : 245 ، ب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح1 .

 

 

وعن الإمام الصادق  عليه‏السلام أ نّه قال : « لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ، وكره أن يبول في الماء الراكد »([1]) .

الماء الجاري في اللغة ما يجري في الأرض ، نابعاً كان أو غير نابع ، والراكد هو الواقف المحصور في بئر أو بركة أو غدير . وقال صاحب المدارك : ( المراد بالجاري النابع ؛ لأنّ الجاري لا عن مادّة من أقسام الراكد إتفاقاً )([2]) . ومعنى هذا أنّ للفقهاء اصطلاحاً خاصّاً في معنى الماء الجاري والراكد يخالف اللغة ، فالجاري عندهم هو النابع وإن لم يجرِ بالفعل ؛ لأنّ فيه استعداداً لدوام الجريان ، والراكد هو غير النابع وإن جرى بالفعل ؛ إذ لا استعداد فيه لدوام الجريان .

_________________

[1] الوسائل 1 : 143 ، ب5 من أبواب الماء المطلق ، ح1 .

[2] المدارك 1 : 28 .

 

 

تواتر عن الرسول الأعظم  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم هذا الحديث : « خلق اللّه‏ الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر طعمه أو لونه أو رائحته »([1]) .

وعن الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ »([2]) .

وعن الإمام الرضا  عليه‏السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فيُنزح ، حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ؛ لأنّ له مادّة »([3]) .

 

إذا وقع في الماء نجاسة فلذلك حالات :

1 ـ  أن تقع النجاسة في ماء نابع ولا يتغيّر بسببها لونه ولا طعمه ولا ريحه فيبقى الماء على طهارته ، وإن كان قليلاً ، حيث دلّ قول الإمام : « لأنّ له مادّة » على أنّ وجود النبع مانع من التنجيس بالملاقاة من غير فرق بين القليل والكثير ، ما دام لم يتغيّر بالنجاسة .

2 ـ  أن تقع النجاسة في الماء ويتغيّر طعمه أو لونه أو ريحه فإنّه ينجس بالإتّفاق ، وللرواية المتقدّمة ، من غير فرق بين الكثير والقليل ، ولا بين النابع وغير النابع .

واشترط الفقهاء أن يكون التغيير بنفس الملاقاة ، فلو مات حيوان إلى جنب الماء وتغيّر بواسطة الريح لا بالمماسّة يبقى الماء على طهارته .

وأيضاً اشترطوا أن يكون التغيير بأوصاف النجس لا بالمتنجّس ، فإذا وقع في الماء دبس متنجّس وصار الماء أحمر أو أصفر يبقى على الطهارة .

وأيضاً اشترطوا أن يكون التغيّر ظاهراً للحسّ والعيان ، فلو افترض أن كانت النجاسة من لون الماء ولم يحصل التغيّر ، ولكن لو خالفت لونه لتغيّر ـ لو فرض هذا ـ يبقى الماء على الطهارة ؛ لأنّ العبرة بالتغيير الحسّي لا التقديري .

3 ـ  أن تقع النجاسة في ماء قليل غير نابع فينجس وإن لم يتغيّر ؛ للإجماع والروايات عن أهل البيت عليهم‏السلام([4]) التي بلغت ( 300 ) على ما قيل .

أمّا إذا كان الماء غير النابع بقدر كُرّ فحكمه حكم النابع لا ينجس إلاّ إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ؛ لما ثبت عن الإمام [  عليه‏السلام]  بالتواتر : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء »([5]) .

___________________________

[1] الوسائل 1 : 135 ، ب1 من أبواب الماء المطلق ، ح9 .

[2] الوسائل 1 : 139 ، ب3 من أبواب الماء المطلق ، ح4 .

[3] الوسائل 1 : 141 ، ب3 من أبواب الماء المطلق ، ح12 .

[4] انظر الوسائل 1 : 150 ، ب8 من أبواب الماء المطلق .

[5] انظر الوسائل 1 : 158 ، ب9 من أبواب الماء المطلق .

 

 

قدّمنا أنّ النجاسة إذا لاقت الماء غير النابع ينجس وإن لم يتغيّر ، وإذا لاقت النابع لا ينجس إلاّ إذا تغيّر ، فإذا حصلت الملاقاة لقليل من الماء وشككنا هل هو نابع كي لا ينجس بمجرّد الملاقاة أو غير نابع كي ينجس ، فماذا نصنع ؟

 

الجواب  :

إنّ موضوع النجاسة مركّب من أمرين : أحدهما : ملاقاة النجاسة للماء القليل ، وثانيهما : أن يكون الماء غير نابع . والأوّل : وهو ملاقاة النجاسة للقليل ثابت بالوجدان . والثاني : وهو عدم النبع نثبته بالاستصحاب ؛ لأ نّنا نعلم يقيناً أ نّه قبل وجود هذا الماء لم يكن هنا نبع ، وبعده نشكّ فنستصحب([1]) عدم وجوده ، ومتى تمّ الأمران : الملاقاة للقليل وعدم النبع تحقّقت النجاسة .

__________________

[1] هذا الموضوع ونظائره من باب الموضوعات المركّبة التي يثبت أحد جزأيها بالوجدان ، والآخر بالاستصحاب ، والفقهاء يسمّون هذا الاستصحاب بالأزلي تارة ، وبالعدم الأصلي أُخرى ، ولهم فيه كلام طويل ومعقّد يعسر فهمه إلاّ على أهل الاختصاص [  منه  قدس‏سره ] .

 

 

قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « كلّ شيء يراه [ ماء ]([1]) المطر فقد طهر »([2]) .

ولذا اتفقوا على أنّ حكم الغيث حال نزوله من السماء حكم النابع لا ينجس بملاقاة النجاسة ، سواء أوردت عليه ، أو ورد عليها .

____________________

[1] من المصدر .

[2] الوسائل 1 : 146 ، ب6 من أبواب الماء المطلق ، ح5 .

 

 

سئل الإمام الباقر  عليه‏السلام عن فأرة وقعت في السمن فماتت ؟ قال : « ألقها وما يليها إن كان جامداً وكل ما بقي ، وإن كان السمن ذائباً فلا تأكل ، واستصبح به ، والزيت مثل ذلك »([1]) .

قال الفقهاء : إذا لاقت النجاسة الماء المضاف فإنّه ينجس بمجرّد الملاقاة بالغاً ما بلغ . واستدلّوا بهذه الرواية رغم أ نّها وردت في الزيت والسمن الذائب ، وأ نّهما ليسا من المضاف في شيء . ولكنّهم قالوا : إنّ الزيت والسمن الذائب يشاركان الماء المضاف في بعض أوصافه ، وهو سريان النجاسة ووصولها إلى الذائب . وهذا السريان والوصول هو علّة الحكم بالنجاسة ، وعليه كما تدلّ رواية السمن والزيت على النجاسة بالملاقاة تدلّ أيضاً على نجاسة المضاف ، وربّما بطريق أولى ؛ لأنّ الزيت والسمن أثقل وأشدّ .

ويظهر من قول السيّد الحكيم في المستمسك الفرق بين المضاف الكثير والمضاف القليل ، وأنّ الأوّل لا ينجس بملاقاة النجاسة ؛ لعدم السراية ، والثاني ينجس بها ؛ لوجود السراية والوصول . وفرّع على ذلك عدم تنجيس عيون النفط بملاقاتها للنجاسة([2]) .

ونحن لا نشكّ بأنّ النفط يختلف في حقيقته وأوصافه عن الماء المضاف كما هو في أذهان الفقهاء ، وعليه يكون قول السيّد في محلّه .

_________________

[1] الوسائل 1 : 206 ، ب5 من أبواب الماء المضاف ، ح1 .

[2] المستمسك 1 : 114 .

 

 

قال الإمام  عليه‏السلام : « كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر »([1]) .

وقال [  عليه‏السلام] : « ماء النهر يطهّر بعضه بعضاً »([2]) .

_________________

[1] الوسائل 1 : 146 ، ب6 من أبواب الماء المطلق ، ح5 .

[2] الوسائل 1 : 150 ، ب7 من أبواب الماء المطلق ، ح7 .

 

 

1 ـ  أن يكون الماء نابعاً ، وكان قد تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة .

ويكفي في طهارته زوال التغيّر فقط ، قليلاً كان أو كثيراً ، زوال التغيّر تلقائيّاً أو بالواسطة ؛ لأنّ وجود النبع كافٍ ، بدليل قول الإمام [  عليه‏السلام] : « لأنّ له مادّة » في الرواية التي ذكرناها في فقرة : « الماء وملاقاة النجاسة » .

2 ـ  أن يكون الماء قليلاً وغير نابع ، فإن لم يكن قد تغيّر بالنجاسة كفى في تطهيره نزول الغيث عليه ، أو اتصاله بكرّ أو بماء نابع ، بحيث يصير الماءان واحداً ، وإن كان متغيّراً بالنجاسة فلا بدّ أوّلاً من زوال التغيّر ثمّ التطهير بما ذكر ، أو إلقائه بماء كثير بحيث يستهلك ، ولا يستبين له أيّ أثر .

3 ـ  أن يكون الماء كثيراً وغير نابع ، وليس من ريب أنّ هذا لا ينجس إلاّ إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، ولا يطهر إلاّ بزوال التغيّر ونزول المطر ، أو اتصاله بكرّ أو بنبع على شريطة أن يصير الماءان واحداً .

ولا يشترط الفقهاء أن يمتزج كلّ جزء من الماء المتنجّس بكلّ جزء من الماء الطاهر ، ولا مساواة سطحهما ، بل يصحّ أن يكون المطهّر أعلى والمتنجّس أسفل ، دون العكس . وكذا لا يشترطون زوال التغيّر أوّلاً ثمّ حصول الاتصال بعده ، بل لو ذهب التغيّر وحصل الاتصال معاً كفى في الطهارة .

 

 

قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : «  الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر »([1]) .

إذا رأيت ماء ولم تكن على علم سابق بطهارته ولا نجاسته فهو طاهر ؛ لهذه الرواية الخاصّة بالماء ، والرواية العامّة التي تشمله مع غيره ، وهي كلّ شيء طاهر حتّى تعلم نجاسته . وبالأولى إذا كنت على يقين سابق بالطهارة ، أمّا إذا كنت على يقين سابق بنجاسته ثمّ شككت بطروّ الطهارة فتستصحب النجاسة .

______________

[1] الوسائل 1 : 134 ، ب1 من أبواب الماء المطلق ، ح5 .

 

 

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما ، وليس يقدر على ماء غيرهما ؟ قال : « يهريقهما ويتيمّم »([1]) .

إذا وجد إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس ولم تستطع التمييز بينهما وجب اجتنابهما معاً ؛ لأنّ امتثال الأمر بترك النجس لا يتحقّق إلاّ باجتناب الإناءين ، وإذا لم يكن ماء آخر غيرهما تعيّن التيمّم للصلاة .

_____________________

[1] الوسائل 1 : 151 ، ب8 من أبواب الماء المطلق ، ح2 .

 

 

إذا كان الماء قليلاً وفي الوقت نفسه كان متنجّساً ثمّ طرأ عليه ماء آخر وبهذه المكاثرة صار المجموع كرّاً ، فهل يصير الماء طاهراً أو يكون نجساً ؟

الجواب  :

بل يكون نجساً ؛ لأنّ قول الإمام [  عليه‏السلام] : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء »([1]) معناه أنّ الكرّ لا بدّ أن يتحقّق أوّلاً ، ثمّ تعرض عليه النجاسة ؛ إذ لا بدّ في الموضوع أن يتقدّم على الحكم ، هذا إلى أنّ الماء الثاني إن كان نجساً فضمّ النجس إلى مثله لا يجعل المجموع طاهراً ، وإن كان طاهراً فإنّه ينجس بالملاقاة .

______________

[1] انظر الوسائل 1 : 158 ، ب9 من أبواب الماء المطلق .

 

 

قال الإمام  عليه‏السلام : « كان النبيّ  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إذا توضّأ أُخذ ما يسقط من وضوئه فيتوضؤون به »([1]) . وقال  عليه‏السلام أيضاً : « أمّا الماء الّذي يتوضّأ به الرجل فيغسل به وجهه ويده فلا بأس أن يأخذه غيره ويتوضّأ به »([2]) . وأيضاً سئل عن الجنب يغتسل بماء الحمام : هل يغتسل به غيره ؟ قال [  عليه‏السلام] : « لا بأس أن يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه »([3]) . ونستفيد من هذا أنّ الماء لا يتنجّس بمماسّة بدن الجنب ، بل ولا يسلب عنه صفة التطهير به ، ولذا اتفق الفقهاء على أنّ الماء الذي يتوضّأ به الإنسان أو يغتسل غسلاً مستحبّاً كغسل الجمعة يجوز أن يطهّر به الخبث ، أي النجاسة الماديّة ، والحدث أيضاً أي يتوضّأ أو يغتسل به ثانية . أمّا الماء الّذي اغتسل به غسلاً واجباً كالجنابة فإنّه مطهّر للخبث بالإتّفاق ، وللحدث على المشهور .

_____________

[1] الوسائل 1 : 209 ، ب8 من أبواب الماء المضاف ، ح1 .

[2] الوسائل 1 : 210 ، ب8 من أبواب الماء المضاف ، ح2 .

[3] الوسائل 1 : 148 ، ب7 من أبواب الماء المطلق ، ح2 .

 

 

قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء »([1]) .

وممّا قاله [  عليه‏السلام] في تحديد الكرّ بالمساحة : « إذا كان ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذاك الكرّ من الماء »([2]) .

وعنه [  عليه‏السلام] في تحديده بالوزن : « الكرّ الّذي لا ينجّسه شيء ألف ومئتا رطل »([3]) . وهناك روايات اُخر .

وللرواية الاُولى منطوق ، وهو ما خصّص بالذكر ، ومفهوم من هذا المخصّص بالذكر ، وهو أنّ الماء الّذي دون الكرّ ينجّسه الشيء النجس ، وحكم المفهوم دائماً مخالف لحكم المنطوق ، ولكن من بعض الجهات لا من جميعها ، أي لا يُشترط أن يكون الحكم في المفهوم مخالفاً للحكم في المنطوق من شتّى أنحائه وجهاته ، فإذا كان المنطوق عامّاً كما نحن فيه ـ لأنّ النكرة([4]) في سياق ٍ تفيد العموم ـ فلا يجب أن يكون

المفهوم عامّاً أيضاً بحيث يكون معناه هنا إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ نجّسه كلّ شيء ، لذا قيل : إنّ المفهوم لا عموم له([5]) .

وممّا قدّمنا يُعلم أنّ المراد من عدم تنجيس الكرّ بالملاقاة هو إذا لم يتغيّر بالنجاسة ، وأنّ ما دون الكرّ ينجّس بها ، وإن لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه .

بقيت مسألة تحديد الكرّ ، وكم يبلغ ؟ وقد جاءت فيه روايتان عن الإمام أحدهما  بالمساحة  والاُخرى  بالوزن  كما  رأيت ،  والأفضل  الاعتماد  على  المساحة ـ  أيالأشبار ـ لاُمور :

1 ـ  إنّ الرطل مجمل لا يعرف تحديده بالضبط في عهد الإمام .

2 ـ  إنّ المياه تختلف في الوزن خفّة وثقلاً .

3 ـ  إن الوزن متعذّر على أكثر الناس ، بخاصّة في حال البعد عن العمران ، بخلاف المساحة حيث يمكن تقديرها ، ولو بالنظر على سبيل التقريب الّذي تركن إليه النفس .

__________________

[1] الوسائل 1 : 158 ، ب9 من أبواب الماء المطلق ، ح1 ، 2 .

[2] الوسائل 1 : 166 ، ب10 من أبواب الماء المطلق ، ح6 .

[3] الوسائل 1 : 167 ، ب11 من أبواب الماء المطلق ، ح1 .

[4] في الطبعات السابقة « لأنّ الفكرة » والصحيح ما أثبتناه .

[5] المختلف 1 : 230 ، كما نقله عنه في هداية المسترشدين 2 : 455 .

 

 

إذا رأيت ماءً ولم تدرِ هل هو بمقدار كرّ أو دونه نظرت ، فإن كنت على علم سابق بأ نّه كان كرّاً ثمّ شككت هل طرأ عليه النقصان استصحبت بقاء الكرّية ، ورتّبت عليها جميع الآثار من عدم نجاسة الماء بالملاقاة وطهارة المتنجّس الّذي غسل فيه . وإن كنت على علم سابق بأ نّه كان دون الكرّ ثمّ شككت هل طرأت عليه الزيادة استصحبت عدم الكرّية ، ورتّبت عليه جميع الآثار من نجاسته بالملاقاة ، وعدم طهارة المتنجّس الّذي غسل فيه .

وإن شككت ابتداءً ولم تكن على علم سابق لا بالكثرة ولا بالقلّة فلا تحكم بثبوت الكرّية ولا بنفيها([1]) ، وإذا غسلت فيه ـ والحال هذه ـ جسماً متنجّساً يبقى الماء على طهارته ما لم يتغيّر بالنجاسة ؛ لأنّ المفروض أ نّه مشكوك الكرّية ، والشكّ فيها يستدعي الشكّ في الطهارة ، وبديهة أنّ مجرّد الشكّ كافٍ للحكم بها ، كما أنّ الجسم المتنجّس الّذي غسل فيه يبقى على نجاسته عملاً بالاستصحاب ، ولا منافاة بين طهارة الماء وبقاء النجاسة في الجسم الّذي لاقاه ؛ لتعدّد الموضوع ، فإنّ موضوع أصل الطهارة هو الماء ، وموضوع استصحاب النجاسة هو الجسم الّذي لاقاه .

_____________________

[1] وقيل : هنالك أصل يثبت نجاسة هذا الماء المشكوك ، وهو استصحاب العدم الأزلي للكرّية ، فيقال هكذا : إنّ الماء غير الكرّ ينجس بملاقاة النجاسة ، وهذا ماء بالوجدان ، وقد لاقته النجاسة ، وقبل وجوده لم تكن الكرّية متحقّقة وبعده نشكّ فنستصحب عدمها ، ويكون المورد من باب الموضوعات المركّبة من جزءين يثبت أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل . وقيل غير ذلك [  منه قدس‏سره ] .