الإيمان بالقدر خيره و شرّه

الإيمان بالقدر خيره و شرّه

    هذا هو الأصل الثالث الذي اتّفقت عليه كلمات أهل الحديث.

    القدر كما ذكره بعض أئمّة اللغة. حدّ كلّ شيء ومقداره. والقضاء بمعنى الحكم البات ، قال سبحانه : ( إِنّا كَّلّ شَيء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) (1) وقال تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّإِيّاهُ ) . (2)

    وعلى هذا فالقدر في الأشياء ، هو تحديد وجود الشيء والقضاء هو إبرامه ، ويؤيد ذلك ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) : القدر هو الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين. (3)

    القول بالقضاء والقدر على نحو الإجمال من العقائد الإسلامية التي لا يصحّ لمسلم إنكارها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في تفسيرهما وأنّه هل القضاء والقدر بمعنى التقدير والحتم على أفعال الإنسان وخلقها بلا إرادة واختيار منه ، وأنّه في مسرح الحياة مكتوف اليدين فيما كتب وقدر عليه حتى فيما يتعلّق بالتكاليف ( الحلال والحرام ) أو أنّه بمعنى علمه السابق ، على وجود الأشياء وتقديره وتحديده والحكم بوجودها على وجه لا ينافي اختيار العبد وحريته من

________________________________________

1 ـ القمر : 49.

2 ـ الإسراء : 23.

3 ـ الكافي : 1/158.

________________________________________

(235)

الأساس.

    وإن شئت قلت : ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الإلهي مع إعطاء القدرة على الفعل والترك وتعريف الخير والشر ، وبيان عاقبة الأوّل ومغبة الأخير ، فهذا العلم السابق لا يستلزم جبراً ، وعلمه سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين وما يأتون به من العمل من خير أو شر لا ينافي التكليف ، كما لا سببية له في اختيار المكلّفين ولا يقبح معه عقلاً ، العقاب على المعصية ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.

    أمّا سبق علمه سبحانه على خصوصيات الفعل وتحقّقه وعدمه ، فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّه يَسير ). (1)

    وقوله سبحانه : ( وَكُلّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر* وَكلُّ صَغيروَكَبِير مُسْتَطَر ). (2)

    وقال عزّ من قائل : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذنِ اللّه ) . (3)

    و أمّا كون القدر والقضاء لا ينافي التكليف ، فيكفي قوله سبحانه : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (4) وقوله سبحانه : ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ). (5)

    وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَشْكرْ فَإِنّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَميد ). (6)

    فاللّه سبحانه خلق الإنسان مزيجاً من العقل والنفس مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء ، فمن عامل بالطاعة بحسن اختياره ، ومن مقترف للمعصية بسوء الخيرة.

    وتدلّ على ذلك الآيات التالية : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيرات ). (7) ( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ). (8) ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ

________________________________________

1 ـ الحديد : 22.

2 ـ القمر : 52 ـ 53.

3 ـ الحشر : 5.

4 ـ الإنسان : 3.

5 ـ البلد : 10.

6 ـ لقمان : 12.

7 ـ فاطر : 32.

8 ـ يونس : 108.

________________________________________

(236)

وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ) . (1) ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْها ). (2) ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) . (3)

    إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حرية الإنسان في اختياره خصوصاً فيما يرجع إلى الطاعة والمعصية.

    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة :

    إنّه سبحانه « يعلم ما في السماء والأرض إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على اللّه يسير » (4) و في ضوء ذلك نعتقد بأنّه سبحانه يعلم أعمارنا وأرزاقنا وما يجري في حياتنا من الأحداث ، وما نقوم به من الأفعال كما يعلم مواعيد وفاتنا والكلّ موجود في ( كتاب مُبِين ) . (5)

    لكن علمه السابق بما يجري في صحيفة الكون لا يجعل الإنسان مكتوف اليد أمام الملابسات التي حوله ولا يصيره كالريشة في مهب الريح ، بل هو في الكون محكوم من جهة ومختار من جهة أُخرى ، محكوم بالسنن العامة السائدة على الكون والحياة ولا يمكن الخروج عنها ، مختار في ما تتعلق به إرادته وفي موقفه من الملابسات التي حوله.

    فالنوازل والمصائب والحروب الطاحنة تنتابه ، شاء أم لم يشأ والموت يدمّر حياته وكيانه والسموم القتالة تهلكه والجراثيم الضارية تنحرف بها صحته ، ولكنّه غير مسؤول أمام هذه الأُمور الخارجة عن اختياره ، ولكنّه أمام نعمه سبحانه والإمكانيات التي حوله أمام خيارين : فله أن يستفيد منها بما يمد حياته في الدنيا ويسعده في الآخرة كما أنّ له خلاف ذلك. فلو قلنا : الإنسان مخيَّر لا مسيّّر ، فإنّما

________________________________________

1 ـ الجاثية : 15.

2 ـ الأنعام : 104.

3 ـ الإسراء : 7.

4 ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( ألم تعلم أنّ اللّه يعلم ما في السماء ... ) ( الحج : 70 ).

5 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( وَيَعْلَمُ ما في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبّة في ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْب وَلا يابِس اِلاّ في كِتاب مُبين ) ( الأنعام : 59 ).

________________________________________

(237)

نريد هذا الجانب الثاني ، ولو قيل إنّه مسيّر لا مخيّر ، فلابدّ أن يراد منه الجانب الأوّل. ثمّ إنّ في الذكر الحكيم آيات ودلالات وتصريحات على كون الإنسان مخيراً ، وهي على حدّ لا يمكن جمعها في مقام واحد.

    يقول اللّه لِكلِّ بشر على ظهر الأرض : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبل أَنْ يَأْتِيَ يَومٌ لا مَردَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَومَئِذ يَصَّدّعُون* مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُون ) (1) ، فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟

    وعندما يصف ربّنا جزاء الكذبة والمكّذبين ويبيّن عقبى عملهم ويقول : ( فَلَنُذيقَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَلَنَجزِيَنَّهُمْ أَسوأ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءاللّه النّار لَهُمْ فِيها دارُ الخُلْد جَزاءً بِما كانُوا بِ آياتِنا يَجْحَدُون ) (2) هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ وهل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين تومئ من قرب أو بعد إلى أنّ القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق أو كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم! في يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم. والقرآن حريص كلّ الحرص على إعلان هذه الحقيقة وهي أنّك واجد ما قدمت لن تؤخذ أبداً بشيء لم تصنعه ، لم تغلب على إرادتك يوماً فيحسب عليك ما لم تشأ. إنّ المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبداً بل إنّ التكليف يسقط عنه.

    وتدبر قوله تعالى : ( أَلْقيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّار عَنِيد* مَنّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّه ِإِلهاً آخَرَ فَألقِيَاهُ فِي العَذابِ الشَّدِيد* قالَ قَرينُهُ رَبّنا ما أَطغيتُهُ ولكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيد ) (3) ربّنا سبحانه و تعالى ينفي الظلم عن نفسه ويقول إنّه ما عذب إلاّ من فرط وأساء. (4)

________________________________________

1 ـ الروم : 43 ـ 44.

2 ـ فصلت : 27 ـ 28.

3 ـ ق : 24 ـ 27.

4 ـ السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : 148 ـ 149 ، ولكلامه ذيل فراجعه.

________________________________________

(238)

    وعلى ذلك فهنا أمران مسلّمان لا يصح لأحد إنكار واحد منهما :

    1 ـ إنّ للّه سبحانه علماً سابقاً على كلّ شيء ، ومنه أعمال العباد ويعبر عنه بالقدر والتقدير.

    2 ـ الإنسان مخيّر في ما تتعلّق به إرادته ومحكوم فيما هو خارج عن إطار إرادته. وللمسلم الواعي الجمع بينهما على وجه صحيح ، وسوف يوافيك بيان هذا الجمع عند البحث عن عقيدة الأشاعرة في كون الإنسان مسيّراً لا مخيراً. (1)

    وعلى ذلك فالاعتقاد بالتقدير والقضاء أمر لا يمكن لمسلم إنكاره كما أنّ حرية الإنسان في مجال التكليف مثله أيضاً ، فإذاً ما هو الذي وقع مثاراً للنقاش؟

    في النصف الثاني من القرن الأوّل بل قبله بقليل أيضاً ، انتشر القول بالقدر حتى فرق المسلمين إلى قولين : إلى قدري وجبري ، ولكن قد عرفت أنّ القدرية مع أنّها في اللغة بمعنى مثبتة القدر يرادمنه في المصطلح النافون للقدر.

    لابدّمن أن نقف ملياً للتأمل في تشخيص النزاع بين الطرفين.

    فنقول : إنّ التأمّل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنّهم كانوا قائلين بالقدر ومثبتين له بشكل يستنتجون منه سلب المسؤولية عن أنفسهم وإلقاءها على عاتق القدر. وهذا التفسير كان رائجاً بينهم وإن لم يعم الجميع ، يقول سبحانه : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخرجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تخرصُون ). (2)

 

________________________________________

1 ـ لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة ، وسيوافيك إجماله في آخر هذا البحث عند القول بأنّ « القدر لا يلازم الجبر ».

2 ـ الأنعام : 148.

________________________________________

(239)

    ولعلّ قوله سبحانه : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) (1) يشير إلى أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ تقديره سبحانه يلازم الجبر ونفي الاختيار ، واللّه سبحانه يرد على تلك المزعمة بهذا القول.

    فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة ، فقد روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب ( منهزماً ) فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر اللّه. (2)

    والعجب أنّ تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتّى بعد رحلة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فهذا السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنى بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ اللّه قدّره علي ثمّ يعذّبني؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (3)

    لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر ، فسأل الخليفة عن كون الزنى مقدّراً من اللّه أم لا؟ فلمّا أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك لأنّ العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئاً بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : فإنّ اللّه قدره علي ثمّ يعذبني؟ فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه وقال : نعم يابن اللخناء.

________________________________________

1 ـ الأعراف : 28.

2 ـ مغازي الواقدي : 3/904.

3 ـ تاريخ الخلفاء : 95.

________________________________________

(240)

استغلال الأمويين للقدر

    لقد اتّخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيّئة ، وكانوا ينسبون وضعهم الراهن بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها. (1)

    ولأجل ذلك لمّا سألت أُمّ المؤمنين عائشة ، معاوية عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها : إن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (2)

    وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد اللّه بن عمر عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد بقوله : إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم. (3)

    وقد كانت الحكومة الأموية الجائرة متحمّسة على تثبيت هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي ، وكانت تواجه المخالف بالشتم والضرب والإبعاد.

    قال الدكتور أحمد محمود صبحى في كتابه « نظرية الإمامة » : إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ، ولكن ب آيديولوجية تمس العقيدة في الصميم ، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه و بين علي ( عليه السَّلام ) قد احتكما فيها إلى اللّه فقضى اللّه له على علي ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة في أمرهم ، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين ، أنّ كلّ ما يأمر به الخليفة ـ حتى و لو كانت طاعة اللّه في خلاف هـ فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد. (4)

________________________________________

1 ـ الأوائل : 2/125.

2 ـ الإمامة والسياسة : 1/167.

3 ـ الإمامة والسياسة : 1/171 .

4 ـ نظرية الإمامة : 334.

(241)

    وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويين من الذين كانوا في خدمة خلفائهم وأُمرائهم فهذا عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الشهيد الحسين ( عليه السَّلام ) لمّا اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همذان والري على قتل ابن عمك فقال عمر : كانت أُمور قضيت من السماء ، وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّما أبى. (1)

    ويظهر أيضاً ممّا رواه الخطيب عن أبي قتادة عندما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة فقالت عائشة : ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق سمعت النبي يقول : تفترق أُمّتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم ، مخفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبهم إلي ، وأحبهم إلى اللّه. قال : فقلت : يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟!

    قالت : يا قتادة وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب ». (2)

    وقد كان حماس الأمويين في هذه المسألة إلى حدّ قد كبح ألسن الخطباء عن الإصحار بالحقيقة ، فهذا الحسن البصري الذي كان من مشاهير الخطباء ووجوه التابعين ، وكان يسكت أمام أعمالهم الإجرامية ولكن كان يخالفهم في القول بالقدر بالمعنى الذي كانت تعتمد عليه السلطة آنذاك. فلمّا خوّفه بعض أصدقائه من السلطان ، وعد أن لا يعود.

    روى ابن سعد في طبقاته عن أيّوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرّة حتّى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود بعد اليوم. (3)

    كيف وقد جلد محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة في مخالفته في القدر.

    قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : « إنّ محمّد بن إسحاق اتّهم بالقدر ، وقال الزبير عن الدراوردي : وجلد ابن إسحاق يعني في القدر. (4)

________________________________________

1 ـ طبقات ابن سعد : 5/148.

2 ـ تاريخ بغداد : 1/160.

3 ـ طبقات ابن سعد : 7/167.

4 ـ تهذيب التهذيب : 9/38 ـ 46.

________________________________________

(242)

أحاديث مختلقة لا تفارق الجبر

    وفي ظل هذا الإصرار على القضاء والقدر بهذا المعنى نسجت أحاديث لا تفارق الجبر قيد شعرة. وإليك أمثلة منها :

    1 ـ روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب ، عن عبد اللّه قال : حدّثنا رسول اللّه وهو الصادق أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها; وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها. (1)

    2 ـ وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا ربّ أشقي أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثمّ تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص. (2)

    3 ـ قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال : يا رسول اللّه بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن فيما العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال : لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال : ففيم العمل؟ قال : اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله. (3)

    فبناء على الحديث الأوّل لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم : 8/44 كتاب القدر.

2 ـ صحيح مسلم : 8/45 كتاب القدر.

3 ـ جامع الأُصول : 1/516 صحيح مسلم : 8/48.

________________________________________

(243)

لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنّة أو النار ، فكلّما أراد من شيء يكون الكتاب السابق حائلاً بينه و بين إرادته.

    والحديث الثاني يدلّ على أنّ الإنسان لا يقدر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والأدعية والصدقات ، وأنّ الكتاب الذي سبق ، حاكم على الإنسان فلا يزاد ولا ينقص وهو يخالف النصوص الثابتة في القرآن والسنّة من تغيير المصير والزيادة والنقص على المكتوب ، بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

    إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا الشكل الذي يجعل الإنسان مكتوف اليدين في بحر الحياة ممّا ترغب عنه الفطرة السليمة.

    إنّ هذه الأحاديث قد نسجت وفق المعتقدات السائدة للسلطة آنذاك حتى تبرر أنّ الوضع الاجتماعي آنذاك لا يمكن تغييره أبداً فإنّه شيء قد فرغ منه. فالفقير يجب أن يبقى هكذا ، والغني كذلك يبقى غنياً ، وهكذا المظلوم والظالم.

    ترى أنّهم قد رووا عن عبد اللّه بن عمر ، عن أبيه قال : يا رسول اللّه أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع ـ أو مبتدأ ـ أو فيما قد فرغ منه؟ فقال : « بل فيما قد فرغ منه ، يا ابن الخطاب وكلّ ميسر; أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء ».

    وفي رواية قال : لما نزلت ( فَمِنْهُمْ شَقيٌّ وَسَعيدٌ ) (1) سألت رسول اللّه ، فقلت : يا نبي اللّه فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : « بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر! ولكن كلّ ميسر لما خلق له ». (2)

    وهذا الحديث يعرب عن أنّه قد تم القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكل ميسر لما خلق له ، لا لما لم يخلق له ، فأهل السعادة ميسرون

________________________________________

1 ـ هود : 105.

2 ـ جامع الأُصول : 10/516 ـ 517 ، وفيه أخرجه الترمذي.

________________________________________

(244)

للأعمال الصالحة فقط ، وأهل الشقاء ميّسرون للأعمال الطالحة فقط.

    وهذه المرويات في الصحاح والمسانيد ـ و قد تقدّم بعضها ـ (1) لا تفترق عن الجبر وهي تناقض الأُصول المسلّمة العقلية والنقلية وحاشا رسول اللّه وخيرة أصحابه أن ينبسوا بها ببنت شفة وإنّما حيكت على منوال عقيدة السلطة ، وعند ذلك لا تعجب ممّا يقوله أحمد بن حنبل في رسائله :

    القدر خيره وشره وقليله وكثيره وظاهره وباطنه وحلوه ومرّه ومحبوبه ومكروهه وحسنه وسيّئه وأوّله وآخره من اللّه. قضاء قضاه ، وقدر قدّره ، لا يعدو أحد منهم مشيئة اللّه ولا يجاوز قضاءه ، بل كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له ، واقعون فيما قدر عليهم لأفعالهم وهو عدل منه عزّ ربّنا وجلّ. والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر. (2)

    وقد سرى الجهل إلى أكثر المستشرقين فاستنتجوا من هذه النصوص أنّ الإسلام مبني على القول بالجبر وفي ذلك يقول « ايرفنج » ـ من أعلام الكتاب في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ـ : القاعدة السادسة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية ، وقد أقام محمد جلّ اعتماده على هذه القاعدة لنجاج شؤونه الحربية ، وهذا المذهب الذي يقرر أنّ الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب ، ويعتبره بعض المسلمين منافياً لعدل اللّه ، فقد تكونت عدّة فرق جاهدت وهم لا يعتبرون من أهل السنّة. (3)

    هذا غيض من فيض ممّا يمكن أن يذكر حول القول بالقدر وسيوافيك توضيحه والمضاعفات الناجمة عنه عند البحث عن عقيدة الأشاعرة.

    إنّ هنا كلمة للشيخ « محمد الغزالي » المعاصر حول القدر والجبر يعرب

________________________________________

1 ـ لاحظ ص 156 ـ 161 من هذا الجزء.

2 ـ طبقات الحنابلة : 1/15 بتصرّف يسير ، وقد تقدّم نصّ الرسالة.

3 ـ حياة محمد : 549.

________________________________________

(245)

عن أنّ المحقّقين من أهل السنّة بدأوا يدرسون الإسلام من جديد أو يدرسون الأُصول الموروثة من أبناء الحنابلة وأهل الحديث من رأس وقد رد على القول بالقدر المستلزم للجبر رداً عنيفاً يعرب عن حريته في الرأي وشجاعته الأدبية في تحليل عقائد الإسلام نقتبس منه ما يلي :

    فمن الناس من يزعم أنّ الحياة رواية تمثيلية خادعة ، وأنّ التكليف أُكذوبة وأنّ الناس مسوقون إلى مصائرهم المعروفة أزلاً طوعاً أو كرهاً وأنّ المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة والغريب أنّ جمهوراً كبيراً من المسلمين يجنح إلى هذه الفرية بل إنّ عامة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر ، ولكنّهم حياءً من اللّه يسترون الجبر باختيار خافت موهوم ، وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع.

    إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف كشّاف يصف ما كان ويكشف ما يكون والكتاب الدالّ عليه يسجل للواقع وحسب!لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب.

    إنّ هذه الأوهام ( التقدير سالب للاختيار ) تكذيب للقرآن والسنّة ، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك والقول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك ، وأنّه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً ، هذا كلّه تضليل وإفك لقوله تعالى : ( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) (1) ، ( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) . (2)

    والواقع أنّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة بل هي تكذيب للّه والمرسلين قاطبة ومن ثمّ فإنّنا

________________________________________

1 ـ الأنعام : 104.

2 ـ الكهف : 29.

________________________________________

(246)

نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره : إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ... . (1)

    ونظير ذلك ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أنفُسِهِمْ ألستُ بربِّكُمْ قاَلُوا بَلَى شَهِدْنا أن تقُولُوا يومَ القِيامَِةِ إنّا كُنّا عِنْ هذا غافِلين ) (2) قال عمر ابن الخطاب : سمعت رسول اللّه يسأل عنها فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّ اللّه خلق آدم ثمّ مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثمّ مسح على ظهره فاستخرج منه ذريّة فقال : هؤلاء خلقت للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول اللّه ففيم العمل؟ قال : فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّ اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة ، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اللّه النار ». (3)

    فإنّ هذا التفسير المنسوب لعمر يسير في اتجاه مضاد للتفسير البديهي المفهوم من الآيات البينات.

    على أنّه ليس هنا أثر من الجبر الإلهي في الآية التي ورد الحديث في تفسيرها ولا يفيد أنّ اللّه خلق ناساً للنار يساقون إليها راغمين ، وخلق ناساً للجنّة يساقون إليها محظوظين! وإنّ التعلق بالمرويات المعلولة إساءة بالغة للإسلام.

    كلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمد لدين اللّه ودنيا الناس ،

________________________________________

1 ـ قد مرّ نصّ الحديث في ص 264.

2 ـ الأعراف : 172.

3 ـ صحيح الترمذي : 5/266 ، رقم الحديث 3075.

________________________________________

(247)

وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله ، وكأنّهم يقولون للناس : أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه ، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم!

    إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربّنا ، ولا اقتداء دقيقاً بسنة نبيّنا إنّه تخليط قد جنينا منه المر!

    وكلّ أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدها حديث واهي السند أو معلول المتن ، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا ننسى أنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط والسفينة تحكمها الأمواج ولا تحكم الأمواج ، ويعني هذا أن نلزم موقفاً محدداً بإزاء الأوضاع المتغيرة التي تمر بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب.

    أمّا الأوضاع التي تكتنفنا فليست من صنعنا ومنها يكون الاختيار الذي يبت في مصيرنا ، إنّ تصوير القدر على النحو الذي جاءت به بعض المرويات غير صحيح ، وينبغي أن لا ندع كتاب ربّنا لأوهام وشائعات تأباها روح الكتاب ونصوصه.

    القرآن قاطع في أنّ أعمال الكافرين هي التي أردتهم ( يا أَيُّهَا الَّذينَ كَفَروا لا تَعْتَذِرُوا الْيَومَ إِنّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) (1) وقاطع في أنّ أعمال الصالحين هي التي تنجيهم ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) . (2)

    فلا احتجاج بقدر ولا مكان لجبر وعلى من يسيئون الفهم أو النقل أن لا يعكّروا صفو الإسلام.

    جاءت في القدر أحاديث كثيرة نرى أنّها بحاجة إلى دراسة جادة حتى يبرأ المسلمون من الهزائم النفسية والاجتماعية التي أصابتهم قديماً وحديثاً. (3)

________________________________________

1 ـ التحريم : 7.

2 ـ الأعراف : 43.

3 ـ السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : 144 ـ 157 بتلخيص.

________________________________________

(248)

تكوين القدرية كرد فعل

    و لمّا كان القدر والقضاء بالمعنى الذي تروّجه السلطة الأموية مخالفاً للفطرة والعقل قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركّزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته فيما يرجع إلى سعادته وشقائه ، وفيما عينت للثواب والعقاب ، ولكن السلطة اتهمتهم بنفي القضاء والقدر ومخالفة الكتاب والسنة ثمّوضعت السيوف على رقاب بعضهم ، هذا هو معبد الجهني اتّهموه بالقدر ( نفي القدر ) ذهب إلى الحسن البصري فقال له : إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر اللّه ، فقال : كذب أعداء اللّه. (1)

    ومعبد هذا قد اتّهم بالقدرية وأنّه أخذ هذه العقيدة عن رجل نصراني ، ولكنّه اتهام في غالب الظن قد أُلصق به وهو منه براء وهذا الذهبي يعرّفه بقوله : إنّه صدوق في نفسه ، وإنّه خرج مع ابن الأشعث على الحجاج حتى قتل صبراً ، ووثّقه ابن معين ونقل عن جعفر بن سليمان أنّه حدثه مالك بن دينار قال لقيت معبداً الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهوجريح وكان قاتل الحجاج في المواطن كلّها. (2)

    ولا أظن أنّ الرجل الذي ضحى بنفسه في طريق الجهاد ومكافحة الظالمين ينكر ما هو من أوضح الأُصول وأمتنها ، ولو أنكر فإنّما أنكر المعنى الذي استغله النظام آنذاك ويشهد بذلك محاورته الحسن البصري الآنفة.

    ومثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتهم به أُستاذه ، فهذا الشهرستاني يقول : كان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد. وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز ، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته ، فأفتى بقتله ، فصلب على باب كيسان بدمشق. (3)

________________________________________

1 ـ الخطط المقريزية : 2/356.

2 ـ ميزان الاعتدال : 4/141.

3 ـ الملل النحل للشهرستاني : 1/47.

________________________________________

(249)

    وقد صارت مكافحة هذا الاتجاه الظاهر عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومحاربته سبباً لظهور المفوّضة الذين كانوا يعتقدون بتفويض الأُمور إلى العباد وأنّه ليس للّه سبحانه أي صنع في أفعالهم ، فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ، مستغنياً عن اللّه سبحانه فصار كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر حاكماً على كلّ شيء ولا يمكن تغييره بأي صورة أُخرى من الصور. فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط في الخلق وسيوافيك تفصيل القول في محله.

 

الاحتجاج بالقدر

    إنّ القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية من شأنه أن يجعل الإنسان مسلوب الاختيار ، مسيراً في حياته غير مختار في أفعاله فعند ذلك يصحّ للعبد أن يحتجّ على المولى في عصيانه ومخالفته.

    ومن العجيب انّه جاء في الصحيحين حديث عن أبي هريرة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « احتجّ آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت أبوالبشر الذي خلقك اللّه بيده ، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ » فقال له آدم : أنت موسى الذي كلّمك اللّه تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً « وعصى آدم ربّه فغوى » قبل أن أخلق؟ قال : بأربعين سنة قال فحج آدم موسى ». (1)

    وقد اضطرب القائلون بالقدر ومالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذا الحديث وأمثاله إذ لو صحّ القدر بالمعنى الذي جاء في الأحاديث النبوية لكان باب العذر للعبد مفتوحاً على مصراعيه.

    والعجب من ابن تيمية حيث فسر الحديث في رسالة أسماها

________________________________________

1 ـ جامع الأُصول : 10/523 ـ 525; صحيح البخاري : 4/158 و 6/96 و 8/126 و 9/148.

________________________________________

(250)

ب ـ « الاحتجاج بالقدر » بأنّ موسى لم يلم آدم إلاّمن جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل لا لأجل أنّ تارك الأمر الإلهي مذنب عاص ، ولهذا قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولم يقل : لماذا خالفت الأمر؟ ولماذا عصيت؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم ، بالتسليم للقدر وشهود الربوبية كما قال اللّه تبارك و تعالى : ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَة إِلاّبِإِذْنِ اللّه ) . (1)

    ووجه العجب : أنّ ابن تيمية قصر النظر على كلام موسى حيث اعترض على آدم بأنّه لماذا أخرج نفسه وذريته من الجنة ، ولم يلتفت إلى جواب آدم ، فإنّه صريح في الاحتجاج بالقدر في مورد العصيان وأنّ معصيته كانت أمراً مقدراً قبل أن يخلق فلم يكن بد منها حيث قال لموسى : أنت موسى الذي كلمك اللّه تكليماً وكتب لك التوراة فبكم تجد فيها مكتوباً « وعصى آدم ربّه فغوى » قبل أن أخلق ، قال : بأربعين سنة قال : فحج آدم موسى. (2)

    وعلى ذلك فموسى وإن لم يلم آدم إلاّمن جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل ، لكن لما كانت المصيبة نتيجة المعصية ، احتج آدم على موسى بأنّ المعصية لما كانت أمراً مقدراً وهو بالنسبة إليها مسيراً ، وكانت المصيبة نتيجة لها ، فهو معذور في المصيبة الّتي عمّته وذريته. فالكلّ من السبب والمسبب كانا خارجين عن قدرته واختياره فلا لوم على المصيبة لعدم صحّة اللوم على المعصية المقدّرة قبل خلقته بأربعين سنة.

    ثمّ إنّ كثيراً من القائلين بالقدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث لمّا رأوا في صميم عقلهم وأغوار فكرهم أنّه لا يجتمع معالتكليف ، صاروا إلى الإجابة بأصل مبهم جداً ، وهو أنّه « لا يحتج بالقدر ».

    و عندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي :

    لو كان القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الأحاديث أمراً صحيحاً يجب

________________________________________

1 ـ التغابن : 11.

2 ـ الاحتجاج بالقدر : 18.

(251)

الإذعان به و بنتائجه ولوازمه وهو كون الإنسان مجبوراً مسيراً فلا محالة يصحّ الاحتجاج به أيضاً في مقام الاعتذار.

    وبالجملة : لا مناص عن اختيار أحد الأمرين : إمّا الإذعان بالقدر ونتائجه ولوازمه ومنها الاحتجاج على المولى سبحانه في مقام المخالفة ، وإمّا رفض ذلك الاعتقاد والقول بكون الإنسان مخيراً مختاراً. فالجمع بين الإذعان بالقدر وعدم الاحتجاج به أشبه بالأخذ بالشجرة وإضاعة الثمرة.

    ثمّ إنّ ابن تيمية قد التجأ في حلّ العقدة إلى جواب آخر : وهو أنّ القدر لا يحتج به ، قال : « وليس القدر حجّة لابن آدم ولا عذراً بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين فإنّ القدر إن كان حجّة وعذراً لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه ، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن لأحد أن يفعله ، وهو ممتنع طبعاً ، محرم شرعاً ، ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطرة الخلق وعقولهم ، لم تذهب إليه أُمّة من الأُمم ، ولا هو مذهب أحدمن العقلاء ». (1)

    وكان على ابن تيمية أن يتنبّه عندئذ فيجعل عدم احتجاج العقلاء بالقدر دليلاً على بطلان القدر بالمعنى الذي اختاره وتديّن به ، وإلاّفلو صحّ القدر لا يصحّ أن يقال « لا يحتج به ».

    وبالجملة : إمّا أن يؤمن بالقدر ويحتج به ، وإمّا أن لا يؤمن به ولا يحتج به.

    وهناك أمر آخر ، وهو : أنّ القائل بالقدر يصرح بوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره ، وبما أنّ القدر فعل اللّه سبحانه ، فتكون النتيجة كون الخير والشر من أفعاله سبحانه وتقديراته حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته. مع أنّ صريح الصحاح من الأحاديث خلافه وأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « والشر ليس إليك ». (2)

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : 1/88 ـ 91.

2 ـ سنن النسائي : 2/130 ، كتاب الصلاة ، أبواب الافتتاح ، باب « نوع آخر من الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة ».

________________________________________

(252)

    وعلى ذلك فيجب تفسير الشر بشكل يناسب مقام الرب كالجدب و المرض والفقر والخوف. وإطلاق الشر عليها نوع مجاز وتأويل.

 

محاولة للجمع بين القدر وصحّة التكليف

    إنّ بعض المتحذلقين في العصر الحاضر لمّا رأى أنّ القدر بالمعنى الذي تفيده ظواهر الروايات لا يجتمع مع الاختيار والحرية ويناقض صحّة التكليف ، صار بصدد الجمع بينهما فقال : « إنّ للقدر أربع مراتب :

    المرتبة الأُولى : العلم : علمه الأزلي الأبدي ، فلا يتجدّد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم.

    المرتبة الثانية : الكتاب : فنؤمن بأنّ اللّه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالأَرضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتاب انَّ ذلكَ على اللّهِ يَسِير ) . (1)

    المرتبة الثالثة : المشيئة : فنؤمن بأنّ اللّه تعالى قد شاء كلّ ما في السماوات والأرض لا يكون شيء إلاّبمشيئته ، ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن.

    المرتبة الرابعة : الخلق : فنؤمن بأنّ ( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء و هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل* لَهُ مقالِيدُ السّماواتِ والأرض ) (2) ».

    وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من اللّه نفسه ولما يكون من العباد. فكلّ ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك ، فهي معلومة للّه تعالى مكتوبة عنده واللّه قد شاءها وخلقها. ثمّ يقول :

    ولكنّنا مع ذلك نؤمن بأنّ اللّه تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة ، بهما يكون الفعل ، والدليل على أنّ فعل العبد باختياره وقدرته أُمور. ثمّ استدل ب آيات تثبت للعبد إتياناً بمشيئته وإعداداً بإرادته مثل قوله سبحانه : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُم ) (3) وقوله : ( وَلَو

________________________________________

1 ـ الحج : 70.

2 ـ الزمر : 62 ـ 63.

3 ـ البقرة : 223.

________________________________________

(253)

أَرادُوا الخُرُوجَ لأَعدّوا لَهُ عُدَّة ) (1) . (2)

    انظر إلى التناقض الذي ارتكبه الكاتب المعاصر وهو بصدد بيان العقيدة الإسلامية ، إذ لو كان فعل العبد معلوماً للّه ومكتوباً في اللوح المحفوظ وقد شاء اللّه فعله وخلقه ، فكيف يكون للعبد اختيار وقدرة بهما يوجد الفعل؟ وهل الفعل بعد علمه تعالى وكتابته ، ومشيئته وخلقه يكون محتاجاً إلى شيء آخر حتّى يكون لاختيار العبد وقدرته دور في ذلك المجال؟ « هل قرية وراء عبادان »؟؟!

    فكما أنّه لا يكون للعباد دور في خلق السماوات والأرض بعد ما تعلّق به علمه سبحانه وكتبه في لوحه ، وشاء وجوده ، وخلقه ، فهكذا أفعال عباده بعد ما وقعت في إطار هذه المجالات الأربعة.

    وبالجملة فعندما تحقّق الخلق من اللّه لا تكون هناك أية حالة انتظارية في تكوّن الفعل ووجوده. فلا معنى لأن يكون للعبد بعد خلقه سبحانه دور أو تأثير. وأمّا مسألة « الكسب » الذي أضافه إمام الأشاعرة إلى « الخلق » فعده سبحانه خالقاً والعبد كاسباً ، فسيوافيك أنّه ليس للكسب مع معقول بعد تمامية الخلقة ، فتربص حتى حين.

 

صراع بين الوجدان وظواهر الأحاديث

    لا شكّ أنّ كلّ إنسان يجد من صميم ذاته أنّ له قدرة واختياراً ولا يحتاج في إثباته إلى الاستدلال بالآيات والروايات كما ارتكبه الكاتب وهذا شيء لا يمكن لأحد إنكاره ، ولذلك صحّ التكليف وحسن بعث الأنبياء وعليه يدور فلك الحياة في المجتمع الإنساني.

    والقدر بالمعنى الذي تصرح به الأحاديث لا يجتمع مع اختيار العبد وقدرته ، فلو صحّ القدر بالمعنى المعروف بين أهل الحديث لم يكن مناص في

________________________________________

1 ـ التوبة : 46.

2 ـ « عقيدة أهل السنّة والجماعة » بقلم محمد صالح العثيمين من منشورات الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة : ص 27 ـ 29.

________________________________________

(254)

الصراع عن ارتكاب أحد أمرين : إمّا إنكار القدر و القضاء وهو لا يصحّ أن يصدر من مسلم مؤمن بكتاب اللّه ، وإمّا إنكار القدرة والاختيار وهو يخالف الوجدان والفطرة السليمة ، وأمّا الجمع بينهما فهو أمر غير ممكن.

    والحقّ أنّ الاعتقاد بالقدر بالمعنى الوارد في الروايات السابقة لا ينفك عن الجبر قيد شعرة ، وللعبد الاحتجاج على المولى بأنّ الفعل ـ بعد تنزّله من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة ومنهما إلى درجة المشيئة فدرجة الخلق والإيجاد ـ يكون عندئذ مخلوقاً للّه سبحانه و فعلاً له ، وكلّ فاعل مسؤول عن فعل نفسه لا فعل غيره. ( وَلاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ) (1) . ولا تكون حينئذ للفعل أية صلة بالعبد إلاّ كونه ظرفاً للصدور ومحلاً لإيجاده سبحانه.

    ولكن الإمامية مع اعترافهم بالمراتب الأربع للقدر لا يرونه ملازماً للجبر ، بل يرون للعبد بعدها اختياراً وحرية. ولأجل ذلك يجب تركيز الكلام في تفسير كون الفعل مورداً لمشيئته وكونه مخلوقاً له سبحانه ، وإليك بيان هذين الأمرين :

القول بالقدر لا يلازم الجبر

    إنّ منشأ توهم الجبر وكون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً ً أحد أمرين :

    1 ـ كون فعله متعلّقاً لمشيئته سبحانه وما شاء اللّه يقع حتماً.

    2 ـ كونه خالقاً لكلّ شيء حتّى أفعال عباده وإلاّ بطل التوحيد في الخالقية.

    وبالبيان التالي يظهر بطلان التوهم المذكور ، وأنّ واحداً من الأصلين لا يقتضي الجبر ، إذا فسر على الوجه الصحيح ، لا على الوجه الذي يتبنّاه أهل الحديث وحتى الأشاعرة. فنقول :

________________________________________

1 ـ الأنعام : 164.

________________________________________

(255)

الأمر الأوّل : تعلّق مشيئته بالأفعال

    أمّا كون أفعال العباد متعلّقة لمشيئته سبحانه ، فهناك من ينكر ذلك ويقول : إنّ التقدير يختص بما يجري في الكون من حوادث كونية ممّا يتعلّق به تدبيره سبحانه ، وأمّا أفعال العباد فليست متعلّقة بالتقدير والمشيئة ، بل هي خارجة عن إطارهما ، والحافز إلى ذاك التخصيص هو التحفّظ على الاختيار ونفي الجبر ، فهذا القول يعترف بالقدر ولكن لا في أفعال العباد بل في غيرها.

    يلاحظ عليه : أنَّّ الظاهر من الآيات أنّ فعل العباد تتعلّق به مشيئة اللّه ، وأنّه لولا مشيئته سبحانه لما تمكن من الفعل.

    يقول الراغب : لولا أنّ الأُمور كلّها موقوفة على مشيئة اللّه وأنّ أفعالنا معلّقة بها وموقوفة عليها لما أجمع الناس على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا نحو ( سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرينَ ) ، ( سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ صابِراً ) ، ( يَأِتْيكُمْ بِهِ الّلهُ إن شاء ) ، ( ادخُلُوا مِصْرَ إن شاءَ اللّهُ ) ، (قُلْ لا أملِكُ لِنَفْسِي َنْفْعاً ولا ضَرّاً إلاّ ما شاءَ اللّهُ ) ، ( وَما يكونُ لَنا أنْ نعودَ فِيها إلاّأن يشاءَ اللّهُ ربُّنا ) ، ( ولا تَقُولَنَّ لِشَيء إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غداً * إلاّ أن يشاءَ اللّهُ ) . (1)

    وهناك آيات أُخر لم يذكرها « الراغب » :

    1 ـ قوله سبحانه : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أو ترَكْتُمُوها قائِمَةً عَلَى أُصُولِها فبإذنِ اللّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقين ) . (2)

    فالإذن هنا بمعنى المشيئة وما ذكر من القطع والإبقاء من باب المثال.

    2 ـ قوله سبحانه : ( إن هُوَ إلاّ ذِكْرٌ لِلعالَمِين* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيم* وما تَشاؤُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ربُّ العَالَمِينَ ) . (3)

    3 ـ قوله سبحانه : ( إنَّ هَذِهِ تَذْكِرةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخذَ إلى ربّهِ سَبِيلاً*

________________________________________

1 ـ المفردات : 271.و الآيات كالتالي : الصافات : 102 ، الكهف : 69 ، هود : 33 ، يوسف : 99 ، الأعراف : 188 و 89 ، والكهف : 23 ـ 24.

2 ـ الحشر : 5.

3 ـ التكوير : 27 ـ 29.

________________________________________

(256)

وما تَشاءُونَ إلاّ أن يَشاءَ اللّهُ إنّ اللّهَ كانَ علِيماً حكِيماً ) . (1)

    4 ـ قال سبحانه : ( كَلاّ بَلْ لا يَخافُونَ الآخِرةَ* كَلاّ إنّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ* و ما يَذْكُرُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ هُوَ أهْلُ التَّقْوى و أهْلُ المَغْفِرَةِ ). (2)

    وجه الدلالة في الآيات الثلاث واحدة ومفعول الفعل ( وما تشاءون ) في الآية الأُولى هو الاستقامة. معناه وما تشاءون الاستقامة على الحقّ إلاّ أن يشاء اللّه ذلك ، كما أنّ المفعول في الآية الثانية عبارة عن اتّخاذ الطريق والمعنى وما تشاءون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة اللّه تعالى إلاّأن يشاء اللّه تعالى ، كما أنّ المفعول للفعل ، ( وما يذكرون ) في الآية الثالثة هو القرآن ، أي وما يذكرون القرآن ولا يتذكّرون به إلاّ أن يشاء اللّه.

    إذا عرفت ذلك ففي الآيات الثلاث الأخيرة احتمالان :

    الأوّل : المراد أنّكم « لا تشاءون الاستقامة أو اتّخاذ الطريق أو التذكّر بالقرآن إلاّ أن يشاء اللّه أن يجبركم عليه ويلجئكم إليه ، ولكنّه لا يفعل ، لأنّه يريد منكم أن تؤمنوا اختياراً لتستحقوا الثواب ، ولا يريد أن يحملكم عليه » واختاره أبو مسلم كما نقله عنه « الطبرسي » وحاصله : وما تشاءون واحداً من هذه الأُمور إلاّأن يشاء اللّه إجباركم وإلجاءكم إليه ، فحينئذ تشاءون ولا ينفعكم ذلك ، والتكليف زائل ، ولم يشأ اللّه هذه المشيئة ، بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب. (3)

    وعلى هذا فالآيات خارجة عمّا نحن فيه ، أعني : كون أفعال البشر على وجه الإطلاق ـ اختيارية كانت أو جبرية ـ متعلّقة لمشيئته سبحانه.

    الثاني : إنّ الآية بصدد بيان أنّ كلّ فعل من أفعال البشر ومنها الاستقامة واتخاذ الطريق والتذكّر لا تتحقّق إلاّ بعد تعلق مشيئته سبحانه بصدورها غير أنّ

________________________________________

1 ـ الإنسان : 29 ـ 30.

2 ـ المدثر : 53 ـ 56.

3 ـ مجمع البيان : 5/39 و 413 و 446.

________________________________________

(257)

لتعلّق مشيئته شرائط ومعدّات منها كون العبد متجرّداً عن العناد واللجاج متهيئاً لقبول الصلاح والفلاح موقعاً نفسه في مهب الهداية الإلهية ، فعند ذلك تتعلّق مشيئته بهداية العبد ، وبما أنّ الكفّار المخاطبين في الآية لم يكونوا واجدين لهذا الشرط لم تتعلّق مشيئته باستقامتهم واتّخاذ الطريق والاتّعاظ بالقرآن.

    وليس هذا بكلام غريب وإنّه هو المحكّم في الآيات الراجعة إلى الهداية فإنّ له سبحانه هدايتين : هداية عامة تفيض إلى عامة البشر : مؤمنهم وكافرهم وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (1) وهناك هداية خاصة تفيض منه سبحانه إلى من جعل نفسه في مهب الرحمة واستفاد من الهداية الأُولى ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَيَهْدي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) (2) ، والظاهر من مجموع الآيات حول المشيئة هو الاحتمال الثاني دون الأوّل واختاره العلاّمة الطباطبائي فقال في تفسير سورة الإنسان.

    الاستثناء من النفي يفيد أنّ مشيئة العبد متوقّفة في وجودها على مشيئته تعالى فلمشيئته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيئة العبد وليست متعلّقة بفعل العبد مستقلاً وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبرياً ولا أنّ العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه ، شاء اللّه أو لم يشأ ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد. (3)

    هذا كلّه في الصغرى أي كون أفعال العباد متعلقة لمشيئته سبحانه. إنّما الكلام في الكبرى وهو أنّ تعلّق المشيئة بفعل العبد لا يستلزم الجبر ، وهذه هي النقطة الحسّاسة في حلّ عقدة الجبر مع القول بكون أفعالنا متعلّقة لمشيئته.

    بيان ذلك أنّ هناك فرضين :

    1 ـ تعلّقت مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد إيجاداً واضطراراً.

    2 ـ تعلّقت مشيئته سبحانه بصدوره منه عن إرادة واختيار.

________________________________________

1 ـ الإنسان : 3.

2 ـ الشورى : 13.

3 ـ الميزان : 20/ 142.

________________________________________

(258)

    فالقول بالجبر إنّما هو نتيجة الفرض الأوّل دون الثاني.

    إنّ مشيئته سبحانه تعلّقت بصدور كلّ فعل عن فاعله مع الخصوصية الموجودة فيه ، كالصدور عن لا شعور في النار بالنسبة إلى الحرارة والصدور عن اختيار في الإنسان بالنسة إلى التكلم والمشي. وعلى ذلك يجب أن تصدر الحرارة من النار عن اضطرار ، ويصدر التكلّم أو المشي عن الإنسان باختيار وإرادة.

    فلو صدر الأوّل عن النار بغير هذا الوضع ، أو الثاني من الإنسان بغير هذه الكيفية لزم التخلّف عن مشيئته سبحانه وهو محال ، إذ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

    ومجرّد كون الفعل متعلّقاً لمشيئته وأنّ ما شاء يقع ، لا يستلزم القول بالجبر ، ولا يصير الإنسان بموجبه مسيّراً إذا كان الفعل صادراً عن الفاعل بالخصوصية المكتنفة به. فالنار فاعل طبيعي تعلقت مشيئته سبحانه بصدور أثرها ( أي الحرارة ) عنها بلا شعور.

    والإنسان فاعل مدرك شاعر مريد ، تعلّقت مشيئته سبحانه بصدور فعله عنه مع الشعور والإرادة. فلو صدر الفعل في كلا الموردين لا مع هذه الخصوصيات لزم التخلّف. فتنزيه ساحته عن وصمة التخلّف يتوقّف على القول بأنّ كلّ معلول يصدر عن العلّة. لكن بالخصوصية التي خلقت معها. فقد شاء اللّه سبحانه أن تكون النار فاعلاً موجباً ، ويصدر عنها الفعل بالإيجاب ، كما شاء أن يكون الإنسان فاعلاً مختاراً ويصدر الفعل عنه لكن بقيد الاختيار والحرية.

    ولقائل أن يقول : إنّ تعلّق المشيئة المهيمنة من اللّه سبحانه على صدور الفعل من العبد عن اختيار موجب لكون صدور الفعل أمراً قطعياً وعدم المناص إلاّعن إيجاده ومع هذا كيف يكون الفعل اختيارياً فإنّ معناه أنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل وهذا لا يجتمع مع كون صدور الفعل قطعياً.

    والجواب : إنّ قطعية أحد الطرفين لا تنافي كون الفعل اختيارياً ، وذلك بوجهين :

 

________________________________________

(259)

    1 ـ بالنقض بفعل الباري سبحانه ، فإنّ الحسن قطعي الصدور ، والقبيح قطعي العدم ، ومع ذلك فالفعل اختياري له واللّه سبحانه يعامل عباده بالعدل والقسط قطعاً ولا مناص عنه ولا يعاملهم ظلماً وجوراً قطعاً وبتاتاً ، ومع ذلك ففعله سبحانه المتّسم بالعدل ، اختياري لا اضطراري.

    2 ـ إنّ تعلّق مشيئته سبحانه بأفعال العباد ، يرجع لباً إلى تعلّقها بحريتهم في الفعل والعمل ، وعدم وجود موجب للجوئهم إلى أحد الطرفين حتماً فشاء اللّه سبحانه كونهم أحراراً غير مجبورين ، مختارين غير مضطرين حتى يهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة. هذا كلّه حول المشيئة.

 

الأمر الثاني : خلق الأفعال

    وأمّا كون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه فهذا أصل يجب الاعتراف به بحكم التوحيد في الخالقية ، وبحكم أنّ ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وََكِيلٌ ) . (1)

    إلاّ أنّه يجب تفسير التوحيد في الخالقية ، وليس معناه انحصار الفاعلية والخالقية ، أعمّ من المستقل وغير المستقل باللّه سبحانه ، بأن يكون هناك فاعل واحد يقوم مقام جميع العلل والفواعل المدركة وغير المدركة ، كما هو الظاهر من عبارات القوم في تفسير التوحيد في الخالقية ، إذ معنى ذلك رفض مسألة العلية والمعلولية بين الأشياء.

    وهذا ما لا يوافق عليه العقل ولا الذكر الحكيم ، بل معناه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللّه ، ولا فاعل مستقل سواه سبحانه ، وأنّ كلّ ما في الكون من كواكب وجبال ، وبحار وعناصر ، ومعادن وسحب ، ورعود وبروق ، وصواعق ونباتات ، وأشجار وإنسان وحيوان وملك وجن ، وعلى الجملة كلّ ما يطلق عليه عنوان الفاعل والسبب كلّها علل وأسباب غير مستقلة

________________________________________

1 ـ الزمر : 62.

________________________________________

(260)

التأثير ، وأنّ كلّ ما ينسب إلى تلك الفواعل من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال. وإنّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللّه سبحانه ، فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباط بعضها ببعض مخلوقة للّه ، فإليه تنتهي العلية ، وإليه تؤول السببية ، وهو معطيها للأشياء ، كما أنّ له تجريدها عنها إن شاء ، فهو مسبب الأسباب وهو معطّلها.

    وهذا هو نتيجة الجمع بين الآيات الناصة على حصر الخالقية باللّه سبحانه ، والآيات المثبتة لها لغيره ، كما في قوله سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيح ـ على نبيّنا وآله و ( عليه السَّلام ) ـ : ( أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكونُ طيراً بِإِذْنِ اللّه ) (1) ، وقوله سبحانه : ( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقينَ ). (2)

    فهذا الصنف من الآيات الذي يسند الخلق إلى غيره سبحانه إذا قورن بالآيات الأُخرى المصرحة بانحصار الخالقية باللّه سبحانه ، مثل قوله تعالى : ( قُل اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (3) يستنتج أنّ الخالقية المستقلة غير المستندة إلى شيء سوى ذات الخالق منحصرة باللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه الخالقية والفاعلية غير المستقلة المفاضة من الواهب سبحانه إلى الأسباب ، تعم عباده وجميع الفواعل المدركة وغير المدركة.

    وعلى ذلك فكلّ فعل صادر عن فاعل طبيعي أو مدرك كما يعد فعله سبحانه كذلك يعدّ فعلاً للعبد ، لكن بنسبتين.

    فاللّه سبحانه فاعل لها بالتسبيب ، وغيره فاعل لها بالمباشرة. فليست ذاته سبحانه مبدأً للحرارة بلا واسطة النار ، أو للأكل والمشي بلا واسطة

________________________________________

1 ـ آل عمران : 49.

2 ـ المؤمنون : 14.

3 ـ الرعد : 16.

(261)

الإنسان ، بل الفاعل الذي تصدر عنه هذه الأُمور هو النار والإنسان ، ولكن فاعلية كلّ واحد بقدرته وإفاضة الوجود.

    وبذلك يتبيّن أنّ أفعال العباد في حال كونها مخلوقة للّه ، مخلوقة للإنسان أيضاً ، فالكلّ خالق لا في عرض واحد ، بل فاعلية الثاني في طول فاعلية الأوّل. والبيتان التاليان يلخّصان هذه النظرية :

وكيف فعلنا إلينا فوّضالكن كما الوجود منسوب لنا            وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضىفالفعل فعل اللّه وهو فعلنا

    وبذلك يتبين أنّ الاعتراف بالمرتبة الثالثة والرابعة من القدر لا يلازم الجبر ، بشرط تفسيرهما على النحو الذي تقدّم. (1)

    ثمّ إنّ هناك رسائل ثلاثاً تعدّ من بدايات علم الكلام في القرن الأوّل تعرب عن آراء متضاربة في استلزام القول بالعلم الإلهي السابق ، القول بالجبر وعدمه. فالأمويون على الأوّل وفي مقدّمتهم عمر بن عبد العزيز.

    وغيرهم على الثاني كالحسن البصري وأصحابه ، نذكر نصّ الرسالتين إحداهما لعمر بن عبد العزيز والأُخرى للحسن وهما يغنيان عن الرسالة الثالثة للحسن بن محمد بن الحنفية ، كما سنذكره.

    عرف الأمويون منذ عصر معاوية إلى آخر دولتهم أنّ سلطتهم على الناس لا تبقى إلاّ مع إذاعة فكرة الجبر بين الأُمّة. وقد أشرنا إلى نماذج من أقوال معاوية فيما سبق ، ونضيف في المقام ما نقله القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي علي الجبائي أنّه قال : إنّ أوّل من قال بالجبر وأظهره معاوية ، وإنّه أظهر أنّ ما يأتيه بقضاء اللّه ومن خلقه ، ليجعله عذراً فيما يأتيه ويوهم أنّه مصيب فيه وأنّ اللّه جعله إماماً وولاّه الأمر وفشا ذلك في ملوك بني أُميّة.

    وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان رحمه اللّه ، ثمّ نشأ بعدهم

________________________________________

1 ـ ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا : « مفاهيم القرآن » : 1/299 ـ 334.

________________________________________

(262)

يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف مالا يطاق ، وأخذ هذا القول عن ضرير (1) وكان بواسط زنديقاً نبوياً (2) وقال جهم : إنّه لا فعل للعبد. وتبعه ضرار في المعنى ، وإن أضاف الفعل إلى العبد وجعله كسباً له وفعلاً وإن كان خلقاً للّه عنده. (3)

الرسائل الثلاث

    إنّ الأُمّة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الأوّل ومجموع القرنين التاليين كانت تعيش في مأزق حرج بالنسبة إلى العقائد الإسلامية عامة ، والجبر والاختيار خاصة ، إذ لم تكن العقيدة الإسلامية مدوّنة ولا مضبوطة ، وتكفينا في البرهنة على ذلك الرسائل الثلاث التي تعد من أقدم الوثائق التاريخية في مسائل علم الكلام :

    الرسالة الأُولى : الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية ( المتوفّى حوالي 100 هـ ) حفيد الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ، ويستظهر أنّها كتبت بإيحاء من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ( المتوفّى 86 هـ ) وأنّ تاريخ تأليفها يرجع إلى سنة 73هجري. (4)

    الرسالة الثانية : ما كتبه الحسن البصري ( المتوفّى 110 هـ ) إلى الخليفة نفسه. والرسالتان تقعان على جانبي النقيض ، فالأولى تمثّل فكرة الجبر لكن بصورة ملائمة ، والأُخرى تبيّن عقيدة الاختيار والحرية.

    الرسالة الثالثة : رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز رداً على قدري مجهول

________________________________________

1 ـ كلمة ضرير وصف لا علم.

2 ـ كذا في المصدر ويحتمل أن تكون الكلمة تحريف : « ثنوياً ».

3 ـ المغني للقاضي عبد الجبار : 8/4.

4 ـ ترجمه ابن سعد في الطبقات الكبرى و قال : يكنّى أبا محمد ، و كان من ظرفاء بني هاشم وأهل العقل منهم و كان يقدم على أخيه أبي هاشم في الفضل والهيئة ، توفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز ، ولم يكن له عقب. ( الطبقات الكبرى : 5/328 ).

________________________________________

(263)

الهوية افترض أنّه ينكر العلم الأزلي ، ليستريح من عواقب الجبر ، فردّ عليه مثبتاً لعلمه القديم ، وخرج بالجبر الشديد الذي ربما لا يقع موقع القبول حتى لدى بعض الطوائف الجبرية كالأشاعرة.

    ولأجل إيقاف القارئ على الحالة الحرجة التي كان المسلمون يعانون منها ، ننشر نص رسالة عمر بن عبد العزيز فإنّها تغني عن الرسالة المنسوبة إلى حفيد الإمام ، إذ هما تتحدان م آلاً ونهاية ، ونردفها بنشر رسالة الحسن البصري التي تقع منها على جانب النقيض.

    غير أنّا نقدم في المقام الخطبة المروية عن الإمام علي ( عليه السَّلام ) حول القضاء والقدر ، ثمّ نردفها بكتاب لابنه الحسن ( عليه السَّلام ) إلى الحسن البصري عند ما سأله عن القدر. وإليك الخطبة :

 

________________________________________

(264)

1 ـ خطبة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام )

    روى الكليني عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد مرفوعاً قال : كان أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه (1) ، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من اللّه وقدر؟

    فقال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « أجل يا شيخ ما علوتم تلعة (2) ولا هبطتم بطن واد إلاّبقضاء من اللّه وقدر.

    فقال له الشيخ : عند اللّه أحتسب عنائي (3) يا أمير المؤمنين؟

    فقال له : « مه يا شيخ! فواللّه لقد عظّم اللّه الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين ».

    فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين ، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟

    فقال له : « وتظن أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي والزجر من اللّه ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ، ولا

________________________________________

1 ـ جثا يجثوا جثواً وجثياً بضمهما : جلس على ركبتيه وأقام على أطراف أصابعه.

2 ـ والتلعة ما ارتفع من الأرض.

3 ـ أي منه أطلب أجر مشقتي.

________________________________________

(265)

محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها.

    إنّ اللّه تبارك وتعالى كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يملك مفوضاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ».

    فأنشأ الشيخ يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعتهأوضحت من أمرنا ماكان ملتبساً                 يوم النجاة من الرحمن غفراناًجزاك ربّك بالإحسان إحساناً (1)

    وقال الرضي : ومن كلام له ( عليه السَّلام ) للسائل الشامي لما سأله : أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من اللّه وقدر؟ بعد كلام طويل هذا مختاره :

    ويحك! لعلك ظننت قضاء لازماً ، وقدراً حاتماً! ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد. وإنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلّف يسيراً ، ولم يكلّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً : ( ذلِكَ ظَنُّالّذِينَ كفَروا فَوَيلٌ لِلّذينَ كَفَرُوا مِنَ النّار ) (2) . (3)

    روى هذا النصّ من الإمام مشايخ الحديث في القرن الثالث والرابع منهم :

    1 ـ ثقة الإسلام الكليني ( حوالي 250 ـ 329 هـ ) في جامعه « الكافي » ج1 ، ص 155 بسند مرفوع.

    2 ـ الصدوق ( 306 ـ 381 هـ ) في توحيده ص 273 ، و في عيون أخبار الرضا ، ج1 ، ص 138 بأسانيد ثلاثة.

________________________________________

1 ـ الكافي : 1/155 ـ 156 ، كتاب التوحيد باب الجبر والقدر.

2 ـ ص : 27.

3 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم 78.

________________________________________

(266)

    3 ـ أبو محمد الحسن بن علي الحسيني بن شعبة الحرّاني الذي يروي عن أبي علي محمد بن الهمام الإسكافي الذي ( توفّي عام 336 هـ ) فالرجل من أعلام أواسط القرن الرابع.

    4 ـ الشيخ المفيد ( 336 ـ 413 هـ ) في كتابه « العيون والمحاسن » ص 40.

    5 ـ محمد الرضي جامع نهج البلاغة ( 359 ـ 406 هـ ).

    6 ـ محمد بن علي الكراجكي ( المتوفّى 449 هـ ) في كتابه « كنز الفوائد » ص 169.

    وهؤلاء أساتذة الحديث عند الشيعة لا يمتون للاعتزال ولا للمعتزلة بصلة ، بل يصارعونهم في كثير من المسائل والمبادئ ، ولبعضهم ردود على المعتزلة في بعض المجالات ، كما ستوافيك أسماؤها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة ، وبعد هذا لا يصحّ تقوّل بعض المتحذلقين كالدكتور علي سامي النشار حيث رأى أنّ هذا النصّ موضوع على لسان علي ( عليه السَّلام ) ببراعة نادرة يرى فيه محاكاة ممتازة بأسلوب علي ( عليه السَّلام ) بحجة أنّه ورد فيه جميع المصطلحات المعتزلية. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ الكاتب لم يتحمّل جهد التتبّع حتى يقف على مصادر الحديث في كتب الشيعة في القرن الثالث والرابع فألقى الكلام على عواهنه فحكم بوضع النصّ ، وقد عرفت وجوده في كتب الشيعة الذين كانوا هم والمعتزلة متصارعين وأمّا ما تمسّك به من وجود مصطلحات المعتزلة في الكلام فهو ناشئ عن عدم إلمام الرجل بتاريخ تكوّن المعتزلة فإنّهم أخذوا أكثر مبادئهم من خطب الإمام علي ( عليه السَّلام ) في التوحيد والعدل ، مضافاً إلى أنّ « عطاء بن واصل » مؤسس المنهج تتلمذ على يد « أبي هاشم » ولد « محمد بن الحنفية » ، وهو أخذ عقائده عن أبيه وهو عن علي ( عليه السَّلام ) ، و هذا شيء قطعي في التاريخ ، ولا ينكره إلاّ المتعصّب وهو

________________________________________

1 ـ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : 1/412.

________________________________________

(267)

ممّا تعترف به أئمّة الاعتزال ، كما سيوافيك نصوصهم في الجزء الثالث إن شاءاللّه.

    إنّ مسألة القضاء والقدر و كون الإنسان مخيّراً أو مسيّراً ليست من المسائل التي طرحتها المعتزلة بل من المسائل القديمة التي كانت مطروحة عند جميع الأُمم ، و قد عرفت عقيدة المشركين المعاصرين للنبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كما عرفت بعض الأحاديث المروية عن الخلفاء حول القدر والجبر ، فلو كان وجود تلك المصطلحات شاهداً على وضع النص ، فليكن ذلك شاهداً على كون أحاديث القدر بأجمعها موضوعة لاشتمالها على مصطلحات لم تكن موجودة في عصر الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).

    والعجب العجاب أنّ الدكتور ينكر النص ولكنّه يصحح روايات أبي هريرة ويقول : وقد أكثر حقاً من روايات الحديث لكثرة ملازمة الرسول. (1)

    ولا أظن أنَّ من درس تاريخ حياة أبي هريرة يوافق الدكتور في هذا الرأي ، فإنّه أسلم بعد خيبر وما أدرك من حياة الرسول إلاّسنتين وبضعة أشهر ، ومع ذلك فهوأكثر الصحابة حديثاً!!

    فيفوق عدد أحاديثه أحاديث عائشة وعلي ( عليه السَّلام ) مع أنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) عاش في كنف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من لدن ولادته إلى أن لبّى الرسول دعوة ربّه ، فمرويات الإمام في الصحاح والمسانيد حوالي خمسمائة حديثاً و مرويات أبي هريرة تناهز خمسة آلاف حديث!!

________________________________________

1 ـ المصدر السابق : 1/285.

________________________________________

(268)

2 ـ كتاب الحسن السبط ( عليه السَّلام )

إلى الحسن البصري

    كتب الحسن بن أبي الحسن البصري (1) إلى أبي محمد الحسن بن علي ( عليهما السَّلام ) : أما بعد فإنّكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة والأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح ( عليه السَّلام ) التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون ، كتبت إليك يابن رسول اللّه عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الاستطاعة ، فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك ( عليهم السَّلام ). فإنّ من علماللّه علمكم وأنتم شهداء على الناس واللّه الشاهد عليكم ، ذرّية بعضها من بعض ، واللّه سميع عليم.

    فأجابه الحسن ( عليه السَّلام ) : « بسم اللّه الرحمن الرّحيم وصل إلي كتابك ، ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذاً ما أخبرتك ، أمّا بعد : فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، [و ] أنّ اللّه يعلمه فقد كفر ، ومن أحال المعاصي على اللّه فقد فجر ، إنّ اللّه لم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يهمل العباد سدى من المملكة ، بل هو المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، بل أمرهم تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً ، وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل ، وإن لم يفعل

________________________________________

1 ـ هو الحسن بن يسار ، مولى زيد بن ثابت ، أخو سعيد وعمارة ، المعروف بالحسن البصري ، مات سنة 110 هـ وله تسع وثمانون سنة.

________________________________________

(269)

فليس هو الذي حملهم عليها جبراً ولا أُلزموها كرهاً ، بل منّ عليهم بأن بصّرهم وعرّفهم وحذّرهم وأمرهم ونهاهم لا جبلاً لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة ، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه وللّه الحجّة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين ، والسلام على من اتّبع الهدى ». (1)

________________________________________

1 ـ تحف العقول : 231; ورواه المجلسي في البحار : 10/136 نقلاً عن كتاب العدد القوية لدفع المخاوف اليومية تأليف الشيخ الفقيه رضي الدين علي بن يوسف بن المطهّر الحلّي; وأيضاً رواه الكراجكي في كنز الفوائد : 170 الطبعة الأُولى ، بأدنى اختلاف في اللفظ.

________________________________________

(270)

3 ـ رسالة عمر بن عبد العزيز

في الرد على القدرية (1)

    حدثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا محمد بن إسحاق السراج ، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام ، ثنا محمد بن بكر البرساني ، ثنا سليم بن نفيع القرشي ، عن خلف أبي الفضل القرشي ، عن كتاب عمر بن عبد العزيز :

    1 ـ إلى النفر الذين كتبوا إليّ بما لم يكن لهم بحق في ردّ كتاب اللّه ، وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه السابق الذي لا حدّ له إلاّ اللّه وليس لشيء مخرج منه ، وطعنهم في دين اللّه و سنّة رسوله القائمة في أُمّته.

    2 ـ أمّا بعد ، فإنّكم كتبتم إليّ بما كنتم تستترون فيه قبل اليوم في ردّعلم اللّه والخروج منه إلى ما كان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يتخوّفه على أُمّته من التكذيب بالقدر.

    3 ـ وقد علمتم أنَّ أهل السنّة كانوا يقولون : الاعتصام بالسنّة نجاة ، وسينقص العلم نقصاً سريعاً ، وقول عمر بن الخطاب وهو يعظ الناس : « إنّه لا عذر لأحد عند اللّه بعد البيّنة بضلالة ركبها حسبها هدى ، ولا في هدى تركه

________________________________________

1 ـ نقلها أبو نعيم الإصبهاني في كتابه « حلية الأولياء » : 5/346 ـ 353 في ترجمة عمر بن عبد العزيز. ونحن ننقلها عمّا نشره « المعهد الألماني للأبحاث الشرقية » تحت عنوان « بدايات علم الكلام » عام النشر 1977 م.

(271)

حسبه ضلالة. قد تبيّنت الأُمور وثبتت الحجة وانقطع العذر » فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى.

    4 ـ وإنّكم ذكرتم أنّه بلغكم أنّي أقول : إنّ اللّه قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون ، فأنكرتم ذلك عليّ وقلتم : إنّه ليس يكون ذلك من اللّه في علم حتى يكون ذلك من الخلق عملاً.

    5 ـ فكيف ذاك كما قلتم؟! واللّه يقول : ( إِنّا كاشِفُوا العَذابِ قَليلاً إِنَّكُمْ عائِدُون ) (1) يعني العائدين في الكفر وقال : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُون ) . (2)

    6 ـ فزعمتم بجهلكم في قول اللّه : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) (3) أنّ المشيئة في أي ذلك أحببتم ، إليكم من ضلالة أو هدى.

    7 ـ واللّه يقول : ( وَما تَشاءُونَ إِلاّأَنْ يَشاء اللّهُ ربُّ العالمينَ ) (4) ، فبمشيئة اللّه لهم شاءوا ، لو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئاً ، قولاً ولا عملاً ، لأنّ اللّه لم يملّك العباد ما بيده و لم يفوّض إليهم ما يمنعه من رسله. فقد حرصت الرسل على هدى الناس جميعاً ، فما اهتدى منهم إلاّمن هداه اللّه; ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعاً ، فما ضلّ منهم إلاّمن كان في علم اللّه ضالاً.

    8 ـ وزعمتم بجهلكم أنّ علم اللّه ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي يصدّهم عمّا تركوا من طاعته ، ولكنّه بزعمكم كما علم أنّهم سيعملون بمعصيته ، كذلك علم أنّهم سيستطيعون تركها.

    9 ـ فجعلتم علم اللّه لغواً ، تقولون : لو شاء العبد لعمل بطاعة اللّه وإن كان في علم اللّه أنّه غير عامل بها ، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم

________________________________________

1 ـ الدخان : 15.

2 ـ الأنعام : 28.

3 ـ الكهف : 29.

4 ـ التكوير : 29.

________________________________________

(272)

اللّه أنّه غير تارك لها ، فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علماً ، وإذا شئتم رددتموه وكان جهلاً ، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علماً ليس في علم اللّه ، وقطعتم به علم اللّه عنكم ، وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضاً ، وكان يقول : « إنّ اللّه لم يجعل فضله ورحمته هملاً بغير قسم ولا احتظار ، ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه » فأنتم تقرّون بالعلم في أمر وتنقضونه في آخر ، واللّه يقول : ( ... يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيديهِمْ وَما خَلفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِشَيء مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ ... ) . (1) فالخلق صائرون إلى علم اللّه ونازلون عليه وليس بينه شيء هو كائن حجاب يحجبه عنه ولا يحول دونه ، إنّه عليم حكيم.

    10 ـ وقلتم : لو شاء لم يعذب بعمل.

    11 ـ بغير ما أخبر اللّه في كتابه عن قوم ( وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُون ) (2) وأنّه سيمتعهم قليلاً ( ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِيمٌ ) (3) ، فأخبر أنّهم عاملون قبل أن يعملوا وأخبر أنّه معذّبهم قبل أن يخلقوا.

    12 ـ وتقولون أنتم إنّهم لو شاءوا خرجوا من علم اللّه في عذابهم إلى ما لم يعلم من رحمته لهم.

    13 ـ ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب اللّه بالرد. ولقد سمّى اللّه رجالاً من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه ، فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييراً ، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلاً ، فقال : ( وَاذْكُر عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيدِي وَالأَبصار* إِنّا أَخلَصْناهُمْ بِخالِصة ذِكرى الدّار ) (4) فاللّه أعزّ في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه في شيء من ذلك ، فهو المسمّي لهم بوحيه الذي ( لا يَأْتيهِ

________________________________________

1 ـ البقرة : 255.

2 ـ المؤمنون : 63.

3 ـ هود : 48.

4 ـ ص : 45 ـ 46.

________________________________________

(273)

الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِه ) (1) أو أن يشرك في خلقه أحداً ، أو أن يدخل في رحمته من قد أخرجه منها ، أو أن يخرج منها من قد أدخله فيها. ولقد أعظم باللّه الجهل من زعم أنّ العلم كان بعد الخلق ، بل لم يزل اللّه وحده بكلّ شيء عليماً وعلى كلّ شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً ، وبعد ما خلق لم ينقص علمه في بدئهم ولم يزد بعد أعمالهم ، ولا تغير بالجوائح التي قطع بها دابر ظلمهم ، ولم يملك إبليس هدى نفسه ولا ضلالة غيره.وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم اللّه في خلقه وإهمال عبادته ، وكتاب اللّه قائم بنقض بدعتكم وإفراط قذفكم. ولقد علمتم أنّ اللّه بعث رسوله والناس يومئذ أهل الشرك ، فمن أراد اللّه له الهدى لم تحل ضلالته الّتي كان فيها دون إرادة اللّه له ، ومن لم يرد اللّه له الهدى تركه في الكفر ضالاً فكانت ضلالته أولى به من هداه.

    14 ـ فزعمتم أنّ اللّه أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية ، فعملتم بقدرتكم بطاعته وتركتم بقدرتكم معصيته ، وإنّ اللّه خلو من أن يكون يختص أحداً برحمته أو يحجز أحداً عن معصيته.

    15 ـ وزعمتم أنّ الشيء الذي يقدر إنّما هو عندكم اليسر والرخاء والنعمة وأخرجتم منه الأعمال.

    16 ـ وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من اللّه ضلالة أو هدى أو أنّكم الذين هديتم أنفسكم من دون اللّه ، وأنّكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من اللّه ولا إذن منه.

    17 ـ فمن زعم ذلك فقد غلا في القول ، لأنّه لو كان شيء لم يسبق في علم اللّه وقدره لكان للّه في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون اللّه واللّه يقول : ( حَبَِّّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم ) (2) وهم له قبل ذلك كارهون ( وَ كَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ ) (3) وهم له قبل ذلك محبون وما كانوا على شيء من ذلك لأنفسهم بقادرين. ثمّ أخبرنا بما سبق لمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ

________________________________________

1 ـ فصلت : 42.

2 ـ الحجرات : 7.

3 ـ الحجرات : 7.

________________________________________

(274)

من الصلاة عليه والمغفرة له ولأصحابه فقال : ( أَشِدّاءُ عَلَى الكُفّارِ رَُُحماءُ بَيْنَهُمْ ) (1) وقال : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (2) ، فكرماً غفرها اللّه له قبل أن يعملها ثمّ أخبرنا بما هم عاملون قبل أن يعملوا وقال : ( تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً ) (3) . فضلاً سبق لهم من اللّه قبل أن يخلقوا ورضواناً عنهم قبل أن يؤمنوا.

    18 ـ وتقولون أنتم إنّهم قد كانوا ملكوا ردّ ماأخبر اللّه عنهم أنّهم عاملون وإنّ إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله ، فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولاً ولا يكون لوحي اللّه فيما اختار تصديقاً.

    19 ـ بل ( فللّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ ) (4) و ( هي ) في قوله : ه ( لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (5) ، فسبق لهم العفو من اللّه فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم ـ

    20 ـ وقلتم : لو شاءوا خرجوا من علم اللّه في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا.

    21 ـ فمن زعم ذلك فقد غلا و كذب ، و لقد ذكر بشراً كثيراً هم يومئذ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال : ( وَآخرِينَ مِنْهُمْ لمّا يَلْحَقُوا بِهِم ) (6) ، ( والّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإخوانِنَا الّذِين سَبَقُونا بالإِيمان ) (7) ، فسبقت لهم الرحمة من اللّه قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممّن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا.

________________________________________

1 ـ الفتح : 29.

2 ـ الفتح : 2.

3 ـ الفتح : 29.

4 ـ الأنعام : 149.

5 ـ الأنفال : 68.

6 ـ الجمعة : 3.

7 ـ الحشر : 10.

________________________________________

(275)

    22 ـ ولقد علم العالمون باللّه أنّ اللّه لا يشاء أمراً فيحول مشيئته غيره دون بلاغ ما شاء ، ولقد شاء لقوم الهدى فلم يضلّهم أحد وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا. فقال لموسى وأخيه : ( اذْهَبا إِلى فِرْعَونَ إِنّهُ طَغى* فَقُولا لَهُ قَولاً لَيّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى ) (1) ، وموسى في سابق علمه أنّه يكون لفرعون عدواً وحزناً فقال : ( ونُرِيَ فِرعونَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنهُم ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) . (2)

    23 ـ فتقولون أنتم : لو شاء فرعون كان لموسى ولياً وناصراً ، واللّه يقول : ( ِلَيكونَ لَهُمْ عَدُواً وحَزَناً ) (3) . وقلتم : لو شاء فرعون لامتنع من الغرق واللّه يقول : ( إِنّهُمْ جُنْدٌ مُغرَقُونَ ) (4) . فثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأوّلين ، كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه : ( إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة ) (5) فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلي بها ، وكما كان إبليس في سابق علمه أنّه سيكون ( مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) (6) وصار إلى ذلك بما ابتلي به من السجود لآدم فأبى ، فتلقى آدم بالتوبة فرحم و تلقى إبليس باللعنة فغوى ، ثمّ أهبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوماً متوباً عليه ، وأهبط إبليس بنظرته مدحوراً مسخوطاً عليه.

    24 ـ وقلتم أنتم : إنّ إبليس وأولياءه من الجنّ قد كانوا ملكوا ردّ علم اللّه والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال : ( فَالحَقُّ وَالحَقَّ أقُولُ* لأَمْْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ ممّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (7) حتّى لا ينفذ له علم إلاّ بعد مشيئتهم.

________________________________________

1 ـ طه : 43 ـ 44.

2 ـ القصص : 6.

3 ـ القصص : 8.

4 ـ الدخان : 24.

5 ـ البقرة : 30.

6 ـ الإسراء : 18.

7 ـ ص : 84 ـ 85.

________________________________________

(276)

    25 ـ فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في ردّ علم اللّه؟ فإنّ اللّه جلّوعلا لم يشهدكم خلق أنفسكم ، وكيف يحيط جهلكم بعلمه؟ وعلم اللّه ليس بمقصر عن شيء هو كائن ، ولا يسبق علمه في شيء فيقدر أحد على ردّه. ولو كنتم تنتقلون في كلّ ساعة من شيء إلى شيء هو كائن ، لكانت مواقعكم عنده. ولقد علمت الملائكة قبل خلق آدم ما هو كائن من العباد في الأرض ( من الفساد ) وسفك الدماء فيها ، وما كان لهم في الغيب من علم ، فكان في علم اللّه الفساد وسفك الدماء ، وما قالوه تخرصاً إلاّ بتعليم العليم الحكيم لهم فظن ذلك منهم ، وأنطقهم به.

    26 ـ فأنكرتم أنّ اللّه أزاغ قوماً قبل أن يزيغوا وأضلّ قوماً قبل أن يضلّوا.

    27 ـ وهذا ممّا لا يشك فيه المؤمنون باللّه : إنّ اللّه قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم وبرهم من فاجرهم. وكيف يستطيع عبد هو عند اللّه مؤمن أن يكون كافراً أو هو عند اللّه كافر أن يكون مؤمناً؟ واللّه يقول : ( أو َ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحْيَيناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِج مِنْها ) (1) . فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبداً إلاّ بإذن اللّه.

    28 ـ ثمّ آخرون « اتّخذوا » من بعد الهدى ( عِجْلاً جَسَداً ) (2) فضلّوا به ، فعفا عنهم لعلّهم يشكرون ، فصاروا ( مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ ) (3) وصاروا إلى ما سبق لهم. ثمّ ضلّت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا ، فصاروا في علمه إلى ( صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هُمْ خامِدُونَ ) (4) ، فنفذوا إلى ما سبق لهم ، لأنّ صالحاً رسولهم وأنّ الناقة ( فِتْنَةً لَهُمْ ) (5) وأنّه مميتهم كفّاراً ، فعقروها.

________________________________________

1 ـ لأنعام : 122.

2 ـ الأعراف : 148.

3 ـ الأعراف : 159.

4 ـ يس : 29.

5 ـ القمر : 27.

________________________________________

(277)

    29 ـ وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة فابتلي فعصى فلم يرحم ، وابتلي آدم فعصى فرحم. وهمّ آدم بالخطيئة فنسي ، وهمّ يوسف بالخطيئة فعصم ، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك؟ هل كانت تغني شيئاً فيما كان من ذلك حتى لا يكون ، أو تغني فيما لم يكن حتى يكون ، فنعرف لكم بذلك حجّة؟ بل اللّه أعزّممّا تصفون وأقدر.

    30 ـ وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من اللّه ضلالة أو هدى ، وإنّما علمه بزعمكم حافظ وإنّ المشيئة في الأعمال إليكم ، إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة. ثمّ جعلتم بجهلكم حديث رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الذي جاء به أهل السنّة ـ و هو مصدق للكتاب المنزل ـ أنّه من ذنب مُضاه ذنباًخبيثاً ، في قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حين سأله عمر : « أرأيت ما نعمل أشيء قد فرغ منه أم شيء تأتنفه؟ فقال ( عليه السَّلام ) : « بل شيء قد فرغ منه ». فطعنتم بالتكذيب له ، و تعليم من اللّه في علمه إذ قلتم : إن كنّا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر. والجبر عندكم الحيف.

    31 ـ فسمّيتم نفاذ علم اللّه في الخلق حيفاً.

    32 ـ وقد جاء الخبر أنّ اللّه خلق آدم فنثر ذريّته في يده فكتب أهل الجنّة وما هم عاملون ، وكتب أهل النار وما هم عاملون. وقال سهل بن حنيف يوم صفين : أيّها الناس ، اتهموا رأيكم على دينكم ، فوالذي نفسي بيده ، لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لرددناه. واللّه ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلاّأسهلت بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا.

    33 ـ ثمّ أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حقّ على تأويل باطل تدعون الناس إلى ردّ علم اللّه فقلتم : الحسنة من اللّه والسيّئة من أنفسنا; وقال أئمّتكم وهم أهل السنّة : الحسنة من اللّه في قدر سبق ، والسيّئة من أنفسنا في علم قد سبق.

    34 ـ فقلتم : لا يكون ذلك حتّى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيّئة من أنفسنا.

 

________________________________________

(278)

    35 ـ وهذا رد الكتاب منكم ونقض الدين ، وقد قال ابن عباس رضي اللّه عنه حين نجم القول في القدر : هذا أوّل شرك هذه الأُمّة ، واللّه ، ما ينتهى بهم سوء رأيهم حتّى يخرجوا اللّه من أن يكون قدر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدر شراً.

    36 ـ أنتم تزعمون بجهلكم أنّ من كان في علم اللّه ضالاً فاهتدى ، فهو بما ملك ذلك حتّى كان في هداه ما لم يكن اللّه علمه فيه ، وأنّ من شرح صدره للإسلام فهو ممّا فوض إليه قبل أن يشرحه اللّه له ، وأنّه إن كان مؤمناً فكفر فهو ممّا شاء لنفسه وملك من ذلك لها وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة اللّه في إيمانه.

    37 ـ بل أشهد أنّه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها ، وأنّ من عمل سيئة فبغير حجّة كانت له فيها وأنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء وأنّ اللّه لو أراد أن يهدي الناس جميعاً لنفذ أمره فيمن ضلّ حتّى يكون مهتدياً.

    38 ـ فقلتم : بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنة إليكم وتفويض السيئة ، ألقى عنكم سابق علمه في أعمالكم وجعل مشيئته تبعاً لمشيئتكم.

    39 ـ ويحكم ، فواللّه ، ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوّة حتى نتق ( الجَبَلَ فَوْقَهُم كَأنّهُ ظُلَّة ) (1) . فهل رأيتموه أمضى مشيئة لمن كان قبلكم في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف في الإسلام كرهاً بموقع علمه بذلك فيه؟ أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلَّهم العذاب ف آمنوا و قبل منهم ، ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم. وقال : ( فَلَمّا رأوا بَأْسنا قالُوا آمَنّا باللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرنا بما كُنّا بِهِ مُشْرِكين* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لما رأَوا بَأْسَنا سُنّةَ اللّهِ الّتي قَدْ خَلَتْ في عِبادهِ ) (2) أي علم اللّه الذي قد خلا في خلقه ( وَخَسِرَ هُنالِكَ

________________________________________

1 ـ الأعراف : 171.

2 ـ غافر : 84 ـ 85.

________________________________________

(279)

الكافِرُون ) (1) وذلك كان موقعهم عنده أن يهلكوا بغير قبول منهم ، بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان والخير والشر بيد اللّه يهدي من يشاء ويذر من يشاء ( في طُغيانهم يَعْمَهُون ) (2) . كذلك قال إبراهيم ( عليه السَّلام ) : ( رَبِّ ... واجْنُبْني وَبَنِيَّ أَنْ نعبُدَ الأَصنامَ ) (3) ، قال : ( رَبّنا وَاجْعَلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمةً لَك ) (4) ، أي إنّ الإيمان والإسلام بيدك وإنّ عبادة من عبد الأصنام بيدك ، فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكاً بأيديكم دون مشيئة اللّه عزّوجلّ.

    40 ـ وقلتم في القتل إنّه بغير أجل.

    41 ـ وقد سمّاه اللّه لكم في كتابه فقال ليحيى : ( وَسَلامٌ عَليهِ يَومَ وُُلدَ ويَومَ يَمُوتُ وَيَوَم يُبْعَثُ حَيّاً ) (5) فلم يمت يحيى إلاّ بالقتل ، وهو موت كما مات من قتل شهيداً أو قتل خطأ كما مات بمرض أو بفجأة ، كلّ ذلك موت بأجل استوفاه ورزق استكمله وأثر بلغه ومضجع برز إليه ، ( وَ ما كانَ لِنَفْس أنْ تَمُوتَ إلاّ بِإذنِ اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً ) (6) ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلاّ بلغته ولا موضع قدم إلاّ وطئته ولا مثقال حبة من رزق إلاّ استكملته ولا مضجع حيث كان إلاّبرزت إليه ، يصدق ذلك قول اللّه عزّوجلّ ( قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلبُون و تُحْشَرُون إِلى جَهَنّم ) (7) ، فأخبر اللّه بعذابهم بالقتل في الدنيا وفي الآخرة بالنار وهم أحياء بمكة.

    42 ـ وتقولون أنتم : إنّهم قد كانوا ملكوا رد علم اللّه في العذابين الذين أخبر اللّه ورسوله أنّهما نازلان بهم.

________________________________________

1 ـ غافر : 85.

2 ـ الأعراف : 186.

3 ـ إبراهيم : 35.

4 ـ البقرة : 128.

5 ـ مريم : 15.

6 ـ آل عمران : 145.

7 ـ آل عمران : 12.

________________________________________

(280)

    43 ـ فقال : ( ثانيَ عِطْفهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدُّنيا خِزْيٌ ) (1) يعني القتل يوم بدر ( ونُذِيقُهُ يَومَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ ) (2) فانظروا إلى ما أرادكم فيه رأيكم كتاباً سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم.

    44 ـ ثمّ قول رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « بني الإسلام على ثلاثة أعمال : الجهاد ماض منذ يوم بعث اللّه رسوله إلى يوم تقوم فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجّال لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل ، والثانية : أهل التوحيد لا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل ، والثالثة : المقادير كلّها خيرها وشرها من قدر اللّه ». فنقضتم من الإسلام جهاده ، وجرّدتم شهادتكم على أُمّتكم بالكفر وبرئتم منهم ببدعتكم ، وكذبتم بالمقادير كلّها والآجال والأعمال والأرزاق ، فما بقيت في أيديكم خصلة بني الإسلام عليها إلاّنقضتموها وخرجتم منها.

    هذه رسالة عمر بن عبد العزيز إلى بعض القدريين مجهولي الهوية ، وقد نسب إليهم إنكار علمه الأزلي في أفعال العباد ، ومصائرهم ، ونحن نتبرّأ ممّن ينكر علمه الوسيع المحيط بكلّ شيء ، ونؤمن بما قاله سبحانه : ( وَلا رَطْب وَلا يابس إِلاّ في كِتاب مُبِين ). (3)

    وقوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كتاب من قَبلِ أَنْ نَبرَأَها إِنَّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسير ) . (4)

    ولكن نتبرّأ من كلّ من جعل علمه السابق ذريعة إلى نسبة الجبر إلى اللّه سبحانه ، ونؤمن بأنّ علمه السابق المحيط لا يكون مصدراً لكون العباد مجبورين في مصائرهم وأنّهم يعملون ويفعلون ، ويختارون بمشيئتهم التي منحها اللّه لهم في حياتهم ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حيّ عن بيّنة.

________________________________________

1 ـ الحج : 9.

2 ـ الحج : 9.

3 ـ الأنعام : 59.

4 ـ الحديد : 22.

(281)

    فمنكر علمه السابق المحيط بكلّ شيء ضالّ مضلّ ، ومن استنتج منه الجبر مثله في الضلالة والغواية ، عصمنا اللّه جميعاً من الزلّة ، والعثرة في العلم والعمل.

    ولأجل أن يقف القارئ الكريم على أنّه كان في تلك العصور الحرجة رجال من أهل السنّة يذهبون إلى غير ما ذهب إليه أصحاب السلطة الأمويون ننشر رسالة الحسن البصري في ذلك المجال ، وهي رسالة قيمة. (1)

________________________________________

1 ـ الهدف هو نشر هذه الرسالة لما فيها من فائدة ، ولا صلة له بتقييم الحسن البصري في كلّ ما يقول أو ما يروى عنه أو ينسب إليه ، فإنّ لبيان ذلك مجالاً آخر.

________________________________________

(282)

4 ـ رسالة الحسن البصري في الدفاع

عن نظرية الاختيار

    قال القاضي عبد الجبار : المشهور أنّ عبد الملك بن مروان كاتبه بأنّه قد بلغنا عنك من وصف القدر ما لم يبلغنا عن أحد من الصحابة ، فاكتب بقولك إلينا في هذا الكتاب ، فكتب إليه :

    بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

    سلام عليك

    أمّا بعد : فإنّ الأمير أصبح في قليل من كثير مضوا ، والقليل من أهل الخير مغفول عنهم ، و قديماً قد أدركنا السلف الذين قاموا بأمر اللّه ، واستنّوا بسنّة رسوله ، فلم يبطلوا حقاً ، ولا ألحقوا بالرب تعالى إلاّ ما ألحق بنفسه ، ولا يحتجون إلاّ بما احتج اللّه تعالى به على خلقه بقوله الحقّ : (وَماخَلَقْتُ الجنَّ والإِنسَ إِلاّ ِليعبُدُونِ ) (1) . ولم يخلقهم لأمر ثمّ حال بينهم و بينه ، لأنّه تعالى ليس بظلام للعبيد ولم يكن في السلف من ينكر ذلك ولا يجادل فيه ، لأنّهم كانوا على أمر واحد متسق. (2) وإنّما أحدثنا الكلام فيه ، حيث أحدث الناس النكرة له ، فلمّا أحدث المحدثون في دينهم ما أحدثوه ، أحدث المتمسّكون بكتابه ما يبطلون به المحدثات ، ويحذرون به من المهلكات.

________________________________________

1 ـ الذاريات : 56.

2 ـ في مخطوطة أيا صوفيا : متفقين.

________________________________________

(283)

    وذكر : إنّ الذي أوقعهم فيه تشتت الأهواء ، وترك كتاب اللّه تعالى ، ألم تر إلى قوله : ( قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقيِن ) (1) . فافهم أيّها الأمير ما أقوله ، فإنّ ما نهى اللّه عنه فليس منه ، لأنّه لا يرضى ما يسخط ، وهو من العباد ، فإنّه تعالى يقول : ( ولا يَرضى لِعبادِهِ الكُفرَ وَإِنْ تشكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) . (2)

    فلو كان الكفر من قضائه وقدره ، لرضي به ممّن عمله ، وقال تعالى : ( وَقَضى ربُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيّاهُ ) (3) ؟! وقال : ( وَالّذي قدَّرَ فَهَدى ) (4) ولم يقل والذي قدّر فأضل ، لقد أحكم اللّه آياته وسنّة نبيّه ( عليه السَّلام ) فقال : ( قُلْ إِنْ ضَلَلتُ فَإِنّما أَضِلُّ عَلى نَفسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِليَّ رَبِّّي ) (5) . وقال : ( الّذي أَعطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى ) (6) . ولم يقل ثمّ أضل ، وقال : ( إِنّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (7) ، ولم يقل إنّ علينا للضلال ولا يجوز أن ينهى العباد عن شيء في العلانية ، ويقدره عليهم في السر ، ربّنا أكرم من ذلك وأرحم ولو كان الأمر كما يقول الجاهلون ما كان تعالى يقول : ( اعْمَلُوا ما شِئْتُم ) (8) . ولقال : اعملوا ما قدرت عليكم ، وقال : ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقدَّمَ أو يَتَأخَّرَ ) (9) . لأنّه جعل فيهم من القوّة ذلك لينظر كيف يعملون ، ولو كان الأمر كما قاله المخطئون ، لما كان إليهم أن يتقدّموا ولا يتأخّروا ، ولا كان لمتقدم حمد فيما عمل ، ولا على متأخّر لوم ، ولقال : جزاء بما عمل بهم ، ولم يقل جزاء بما عملوا وبما كسبوا ، وقال تعالى : ( وَنَفْس وَما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها

________________________________________

1 ـ النمل : 64.

2 ـ الزمر : 7.

3 ـ الإسراء : 23.

4 ـ الأعلى : 3.

5 ـ سبأ : 50.

6 ـ طه : 50.

7 ـ الليل : 12.

8 ـ فصلت : 40.

9 ـ المدثر : 37.

________________________________________

(284)

وَتَقواها ) . (1) أي بيّن لها ما تأتي و ما تذر ثمّ قال : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها ). (2) فلو كان هو الذي دسّاها ما كان ليخيب نفسه ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وقوله تعالى : ( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لنَا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعفاً فِي النّار ). (3)

    فلو كان اللّه هو الذي قدّم لهم الشر ، ما قال ذلك ، وقال تعالى : ( رَبّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونا السَّبِيلا ) (4) . فالكبراء أضلّوهم دون اللّه تعالى ، بل قال تعالى : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (5) ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنّما يَشْكُرُلِنَفْسِهِ ) (6) . وقال : ( وَأَضلَّ فِرعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدَى ). (7) وقال تعالى : ( وما أضَلَّنا إلاّ المُجْرِمُون ) (8) . ( وأضَلَّهُمُ السّامِرِي ) (9) . ( إنَّ الشيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) (10) . ( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشّيطانُ أعْمَالَهُم ). (11) و قال : ( وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحبُّوا العَمى عََلى الهُدى ) (12) فكان بدو الهدى من اللّه واستحبابهم العمى بأهوائهم وظلم آدم نفسه ، ولم يظلمه ربّه فقال : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) (13) . وقال موسى : ( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ إنّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِين ) (14) . فغواه أهل الجهل وقالوا : ( فَإِنَّ

________________________________________

1 ـ الشمس : 7 و 8.

2 ـ الشمس : 9 و 10.

3 ـ ص : 61.

4 ـ الأحزاب : 67.

5 ـ الإنسان : 3.

6 ـ لنمل : 40.

7 ـ طه : 79.

8 ـ الشعراء : 99.

9 ـ طه : 85.

10 ـ الإسراء : 53.

11 ـ النحل : 63.

12 ـ فصلت : 17.

13 ـ الأعراف : 23.

14 ـ القصص : 15.

________________________________________

(285)

اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1) ولِمَ لم ينظروا إلى ما قبل الآية وما بعدها ، ليبيّن لهم أنّه تعالى لا يضلّ إلاّ بتقدّم الكفر والفسق ، كقوله تعالى : ( ويُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ ) (2) . وقوله : ( فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ ) (3) . ( وما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقِين ) (4) .

    وبين الحسن في كلامه الوعيد ، فقال : إنّه تعالى قال : ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفأنتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النّارِ ) (5) . وقال : ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الّذِيَن فَسَقُوا ) . (6) وقال تعالى : ( أُدْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّة ) (7) . فكيف يدعوهم إلى ذلك وقد حال بينهم وبينه؟ وقال : ( وَما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (8) . فكيف يجوز ذلك و قد منع خلقه من طاعته؟ قال : والقوم ينازعون في المشيئة وإنّما شاء اللّه الخير بمشيئته قال : ( يُريدُ اللّهُ بِكُُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ) (9) . وقال في ولد الزنى إنّه من خلق اللّه ، وإنّما الزاني وضع نطفته في غير حقّها ، فتعدّى أمر اللّه ، واللّه يخلق من ذلك ما يشاء وكذلك صاحب البذر إذا وضعه في غير حقّه. (10)

    وقال في الرسالة : إنّ اللّه تعالى أعدل وأرحم من أن يعمي عبداً ، ثمّ يقول له : أبصر وإلاّ عذبتك ، وإذا خلق اللّه الشقي شقياً ، ولم يجعل له سبيلاً إلى السعادة فكيف يعذبه؟! وقد قال اللّه تعالى لآدم وحواء : ( فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ) (11) . فغلبهما الشيطان على هواه ثمّ قال : ( يا بَنِي

________________________________________

1 ـ فاطر : 8.

2 ـ إبراهيم : 27.

3 ـ الصف : 5.

4 ـ البقرة : 26.

5 ـ الزمر : 19.

6 ـ يونس : 33.

7 ـ البقرة : 208.

8 ـ النساء : 64.

9 ـ البقرة : 185.

10 ـ كذا في النسخة والظاهر : حقله.

11 ـ الأعراف : 19.

________________________________________

(286)

آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيطانُ كَما أَخرجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجِنَّةِ ) . (1) وليس للشيطان عليهم سلطان إلاّ ليعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك. وبعث اللّه الرسول نوراً ورحمة فقال : ( اسْتَجِيُبوا للّهِ وللرّسُولِ ) (2) وقال : ( اسْتَجِيبُوا لرَبِّكُم ) (3) وقال : ( أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ ) (4) و ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوه ) (5) وقال : ( وَما كُنّا مُعذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (6) فكيف يفعل ذلك ثمّ يعميهم عن القبول. وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ ) (7) وينهى عمّا أمر به الشيطان قال في الشيطان : ( يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصحابِ السَّعِيرِ ) (8) فمن أجاب الشيطان كان من حزبه ، فلو كان كما قال الجاهلون لكان إبليس أصوب من الأنبياء ( عليهم السَّلام ) إذ دعاؤه إلى إرادة اللّه تعالى وقضائه ، ودعت الأنبياء إلى خلاف ذلك ، وإلى ما علموا أنّ اللّه قد حال بينهم و بينه.

    وقال القوم فيمن أسخط اللّه : إنّ اللّه جبلهم على إسخاطه ، وكيف يسخط أن عملوا بقضائه عليهم وإرادته ، واللّه يقول : ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) (9) وهؤلاء الجهّال يقولون : إنّ اللّه قدّمه وما أضلّهم سواه : ( لِيُرْدُوهُمْ ولِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ ) (10) فلو كان الأمر كما زعموا ، لكان الدعاء والأمر لا تأثير له ، لأنّ الأمر مفروغ منه ، لكن التأويل على غير ما قالوه وقد قال تعالى : ( ذلِكَ يَوٌم مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ

________________________________________

1 ـ الأعراف : 27.

2 ـ الأنفال : 24.

3 ـ الشورى : 47.

4 ـ الأحقاف : 31.

5 ـ الأنعام : 153.

6 ـ الإسراء : 15.

7 ـ النحل : 90.

8 ـ فاطر : 6.

9 ـ الحج : 10.

10 ـ الأنعام : 137.

________________________________________

(287)

يَومٌ مَشْهُود ) (1) ، والسعيد ذلك اليوم هو المتمسّك بأمر اللّه والشقي هو المضيع.

    وقال في الرسالة : واعلم أيّها الأمير ، أنّ المخالفين لكتاب اللّه تعالى وعدله يحيلون في أمر دينهم بزعمهم على القضاء والقدر ثمّ لا يرضون في أمر دنياهم إلاّ بالاجتهاد والتعب والطلب والأخذ بالحزم فيه. وذلك لثقل الحقّ عليهم ، ولا يعولون في أمر دنياهم وفي سائر تصرفهم على القضاء والقدر ، فلو قيل لأحدهم : لا تستوثق في أُمورك ، ولا تقفل حانوتك احترازاً لمالك و اتّكل على القضاء والقدر ، لم يقبل ذلك ، ثمّ يعوّلون عليه في الذي قال :

    وما يحتجون به أنّ اللّه تعالى قبض قبضة فقال : « هذا في الجنّة و لا أُبالي. وقبض أُخرى و قال : هذا في النار ولا أُبالي ». فإنّهم يرون ربّهم يصنع ذلك ، كالمقارع بينهم المجازف ، فتعالى اللّه عمّا يصفونه.

    فإن كان الحديث حقّاً ، فقد علم اللّه تعالى أهل الجنّة وأهل النار ، قبل القبضتين وقبل أن خلقهم ، فإنّما قبض اللّه أهل الجنة الذين في علمه أنّهم يصيرون إليها ، و إنّما مرادهم أن يقرروا في نفوس الذين يقبلون ما رووه ، أن تكون أعمال الناس هباءً منثوراً ، من حيث قد فرغ من الأمر ، وكيف يصح ذلك مع قوله : ( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْن َمِنْهُ و تَنْشَقّ الأرضُ وتَخِرُّالجِبَالُ هَدّاً* أن دَعَوْا للرّحمنِ وَََلداً ) (2) وهو الذي حملهم عليه.

    وما معنى قوله : ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُون ) (3) وقد منعهم؟ وكيف يقول : ( ما كانَ لأَهلِ المَدينةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعرابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ) (4) بل كان يجب أن يقول : ما كان لأهل المدينة أن يعملوا بما قضيت عليهم (5) ، ولما قال : ( فَلَولا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّة يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي

________________________________________

1 ـ هود : 103.

2 ـ مريم : 90 ـ 91.

3 ـ الانشقاق : 20.

4 ـ التوبة : 120.

5 ـ كذا في النسخة والظاهر : إلاّ بما قضيت عليهم.

________________________________________

(288)

الأرْضِ ) (1) . وهو الذي حال بينهم و بين الطاعة.

    وإذا كان الأمر مفروغاً منه ، فكيف يقول : ( لَيْسَ عَلَيالأعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) (2) وكيف ابتلى العباد فعاقبهم على فعلهم؟ وكيف يقول : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيَل إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (3) وكيف يقول : ( قَدَّرَ فَهَدَى ) (4) ولم يقل قدّر فأضل ، وكيف يصحّ أنّه خلقهم للرّحمة والعبادة بقوله : ( فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَالنّاسَ عَلَيْها ) (5) وقوله : ( فَطَركُمْ أَوّّلَ مَرَّة ) (6) وقوله : ( إِلاّمَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) (7) فإذا خلقهم لذلك ، فكيف يصحّ أن لا يجعل لهم سبيلاً ، ويقرهم على السعادة والشقاء على ما يذكرون.

    وكيف يبتلي إبليس بالسجود لآدم ، فإذا عصى يقول له ( فَاهْبِطْ مِنها ) (8) ويجعله شيطاناً رجيماً؟ وكيف يقول : ( فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ) (9) وكيف يحذر آدم عداوته. إن كان الأمر مفروغاً منه على ما تقولون؟

    وقال في الرسالة : واعلم أيّها الأمير ما أقول : إنّ اللّه تعالى لم يخف عليه بقضائه شيء ، ولم يزدد علماً بالتجربة ، بل هو عالم بما هو كائن وما لم يكن ، ولذلك قال : ( ولَوْ بَسَطَالّلهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا ) (10) ، ( ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً واحِدَةً ) (11) فعلم سبحانه أنّه خلق خلقاً من ملائكة وجن وإنس ، وأنّه يبتليهم قبل أن يخلقهم ، وعلم ما يفعلون كما قدّر أقواتهم ، وقدّر ثواب أهل

________________________________________

1 ـ هود : 116.

2 ـ النور : 61.

3 ـ الإنسان : 3.

4 ـ الأعلى : 3.

5 ـ الروم : 30.

6 ـ الإسراء : 51.

7 ـ هود : 119.

8 ـ الأعراف : 13.

9 ـ الأعراف : 13.

10 ـ الشورى : 27.

11 ـ الزخرف : 33.

________________________________________

(289)

الجنّة وعقاب أهل النار قبل ذلك ، ولو شاء إدخال العصاة النار لفعل ، لكنّه سهل سبيلهم لتكون الحجة البالغة له على خلقه ، والعلم ليس بدافع إلى معاصيه ، لأنّ العلم غير العمل ، ( فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقِين ) . (1)

    وقال : في قولهم في الضلال والهدى ، وقوله : ( وَلو شاءَ ربُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) (2) ، ( وَلَو شاَء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى ) (3) ، لأنّ المراد بذلك إظهار قدرته على ما يريده كما قال : ( إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نَسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السّمَاءِ ) (4) ، ( ولو نشاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَاَنَتِهِمْ ) (5) ، ( ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أعْيُنِهِمْ ) (6) ، ( ولَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة نَذِيراً ) (7) ، و قال : ( فلَعَلَكَّ َبَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ) (8) ، حتّى بلغ من قوله أن قال : ( فَإِنِ اسْتََطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفقَاً فِي الأَرضِ أَو سُلَّماً فِي السَّماِء ) (9) ، فإنّما يدلّ بذلك رسوله على قدرته ، فكذلك غير الذي شاء منهم ، ولذلك قال في حجتهم يوم القيامة ردّاً عليهم لقولهم : ( لَوْ أَنَّ اللّهَ هَدانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ ) (10) ورد ذلك بقوله : ( بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ ). (11)

    وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم : ( لو شاءَ الرّحمَنُ ما عَبَدْنَاهُمْ ما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ ). (12)

    وقال تعالى بعد ما حكى عنهم قولهم : ( سَيَقُولُ الّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ ما أشْرَكْنَا ولاَ آباؤُنا ولا حَرَّّْمنا مِنْ

________________________________________

1 ـ المؤمنون : 14.

2 ـ يونس : 99.

3 ـ الأنعام : 35.

4 ـ سبأ : 9.

5 ـ يس : 67.

6 ـ يس : 66.

7 ـ الفرقان : 51.

8 ـ الكهف : 6.

9 ـ الأنعام : 35.

10 ـ الزمر : 57.

11 ـ الزمر : 59.

12 ـ الزخرف : 20.

________________________________________

(290)

شَيْء ) (1) مكذباً لهم : ( كَذلِكَ كَذَّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا ) (2) ، فنعوذ باللّه ممن ألحق باللّه الكذب. وجعلوا القضاء والقدر معذرة ، وكيف يصحّ ذلك مع قوله : ( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالمين ) (3) ؟! وكيف يصحّ أن يقول : ( وَما أَصابَكَ مِنْ سَيّئَة فَمِنْ نَفْسَكَ ) (4) ؟! أي العقوبة التي أصابتك هي من قبل نفسك بعملك. ولو شاء تعالى أن يأخذهم بالعقوبة من دون معصية لقدر على ذلك ، لكنّه رؤوف رحيم. ولذلك أرسل موسى إلى فرعون و قد قال : ( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي ) (5) فقال : ( فَقُولا لَهُ قَولاً لََيِّنَاً ) (6) وقال : ( اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى ) (7) ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزكّى ) (8) وقال : ( وَلَقَدْ أَخذنا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الثَّمراتِ لَعلَّهُمْ يَذَّكَّرون ) (9) فيتوبون ، فلمّا لجّوا في كفرهم بعد ذلك الأمر والترغيب إلى طاعته ، أخذهم بما فعلوا.

    قال : ثمّ انظر أيّها الأمير ، كيف صنيعه لمن أطاع فقال : ( إلاّقَوْمَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الخِزْيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا ومَتَّعْناهُمْ إلى حِين ) (10) ، ( ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتُّّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ ) (11) ، ( ولو أنّهُمْ أقامُوا التوراةَ والإنجيَل ) (12) ، و قال موسى : ( ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ولا تَرْتَدُّوا عَلَى أدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) (13) ، وقال : ( فَلَمّا عَتَوْا عَنمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا

________________________________________

1 ـ الأنعام : 148.

2 ـ الأنعام : 148.

3 ـ الزخرف : 76.

4 ـ النساء : 79.

5 ـ القصص : 38.

6 ـ طه : 44.

7 ـ طه : 24.

8 ـ النازعات : 18.

9 ـ الأعراف : 130.

10 ـ يونس : 98.

11 ـ الأعراف : 96.

12 ـ المائدة : 66.

13 ـ المائدة : 21.

(291)

لَهُمْ كُونُوا قِرَدةً خاسِئِينَ ) (1) ، فهذا صنيعه بأهل طاعته ، وما قدّمناه صنيعه بأهل معاصيه عاجلاً ، فإذا هم اتّبعوا أهواءهم ، عاقبهم بما يستحقون.

    وقال في الرسالة : ولا يصحّ الجبر إلاّ بمعونة اللّه ، ولذلك قال لمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( وَلولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتّ تَرَُْْكَنُ إِلَيهِمْ شَيئاً قَليلاً ) (2) ، وقال يوسف ( عليه السَّلام ) : ( وإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ ) (3) فقد بيّن وأمر ونهى ، وجعل للعبد السبيل على عبادته ، وأعانه بكلّ وجه ولو كان عمل العبد يقع قسراً لم يصحّ ذلك.

    هذا نصّ الرسالة نقلناها برمتها عن « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » للقاضي عبد الجبار ص 216 ـ 223.

    قال المعلّق على كتاب القاضي : رسالة الحسن إلى عبد الملك بن مروان مطبوعة في مجلة « دار الإسلام » طبعها رويتر عدد 21 سنة 1933 م ـ وأضاف ـ منها نسخة من مكتبة أيا صوفيا استنبول برقم 3998.

    وهذه الرسالة تعترف بعلمه السابق ولكن تنكر كونه موجباً للجبر بمحكم آياته.

    ومن لطيف كلامه في الرسالة قوله : « والعلم ليس بدافع إلى معاصيه ، لأنّ العلم غير العمل ».

 

كلام مؤلّف كتاب المعتزلة

    إنّ عامة المسلمين في صدر الإسلام كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره من اللّه تعالى وأنّ الإنسان في هذه الدنيا مسيّر لا مخيّر وأنّ القلم قد جفّ على علم اللّه ، وقد قال أحد رجاز ذلك الزمان معبراً عن تلك العقيدة :

________________________________________

1 ـ الأعراف : 166.

2 ـ الإسراء : 74.

3 ـ يوسف : 33.

________________________________________

(292)

يا أيّها المضمر همّاً لاتهمولو علوت شاهقاً من العلم                   إنّك إن تقدر لك الحمى تحمكيف توقيك وقد جف القلم (1)

    يلاحظ عليه : أنّ نسبة كون الإنسان مسيّراً لا مخيّراً إلى عامّة المسلمين خطأ جداً ، وإنّما هي عقيدة تسربت إلى المسلمين من بلاط الأمويين ، وهم أخذوه من الأحبار والرهبان ، وإلاّ فالطبقة المثلى من المسلمين كانوا يعتقدون بالاختيار في مقابل التسيير.

    و هذه خطب علي ( عليه السَّلام ) وأبناء بيته الرفيع جاهرة بالاختيار ونفي كون التقدير سالباً للحرية ، وهذا هو الحسن البصري يسأل « الحسن بن علي » عن مكانة القدر في التشريع الإسلامي ، وهو ( عليه السَّلام ) يجيب بما عرفته. (2)

    كيف وإنّ التكليف والوعد والوعيد يقوم على أساس الحرية ولا يجتمع مع الجبر كما أنّ إرسال الرسل لا يتم إلاّ بالقول بأنّ الإنسان مخيّر في اتّباع الرسول ومخالفته مضافاً إلى أنّ تعذيب الإنسان المسيّر ظلم قبيح منفيّ عنه سبحانه عقلاً ونقلاً. وهذه الوجوه كافية في إثبات أنّ الرأي العام للمسلمين ـ لولا الضغط من البلاط الأموي ـ هو الاختيار. وما تقدم من رسالة عادل بني أُمية! لأصدق شاهد على أنّ مذهب الجبر أذيع من قبل الحكام الأمويين.

________________________________________

1 ـ كتاب المعتزلة : 91 نقلاً عن تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : 25.

2 ـ لاحظ ص : 292.