إيمان أبي طالب عليه السلام

إيمان أبي طالب عليه السلام

 

إن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنّة، ومثل أبن أبي الحديد شارح نهج البلاغة والقسطلاني في (إرشاد الساري) وزيني دحلان في حاشية السيرة الحلبية، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإسلام،وهناك في المصادر الإسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا.

 

ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة: ما السبب الذي حدا ببعضهم إلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الاتهام الكبير إليه؟!

 

ذلك لأن أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب قرابته من أمير المؤمنين علي (ع)، بل إننا نلاحظ على امتداد التاريخ الإسلامي أن كل من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أمير المؤمنين علي (ع) لم ينج من هذه الحملات اللئيمة، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنّه والد الشخصية الاسلاميه الكبرى علي (ع).

 

سبعة أدّلة:

ونذكر بإيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب، تاركين التفاصيل للكتب المختصة في هذا الموضوع.

 

أولا: كان أبو طالب يعلم قبل بعثة الرسول الأكرم(ص) أنّ ابن أخيه سوف يصل إلى مقام النبوة، فقد كتب المؤرخون أنّه في رحلته مع قافلة قريش إلى الشام اصطحب معه ابن أخيه محمد البالغ يومئذ الثانية عشرة من العمر، وفي غضون الرحلة رأى منه مختلف الكرامات،ثمّ عندما مرّت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي أمضى سنوات طوالاً في صومعته على طريق القوافل التجارية،استلف محمد(ص) نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه،ثمّ التفت إلى الجمع سائلاً: من منكم صاحب هذا الصبي؟فأشار الجمع إلى أبي طالب الذي قال له: هذا أبن أخي، فقال بحيرا: إن هذا لهذا الصبي شأناً،إنّه النبي الذي أخبرت به وبرسالته الكتب السماوية، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كلّه.

 

ولقد كان أبو طالب قبّل ذلك أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من أنّ أبن أخيه سيكون نبّي هذه الأمّة.

 

وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب (الملل والنحل) وغيره من علماء السنّة أنّ سماء مكّة قد جست بركتها عن أهلها سنه من السنين،فواجه الناس سنه جفاف شديد فأمر أبو طالب أن يأتوه بابن أخيه محمّد، فأتوه به وهو رضيع في قماطه، فوقف تجاه الكعبة،وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إلى أعلى ثمّ يتلقفه وهو يقول: يا ربّ بحق هذا الغلام اسقنا غيثاًَ مغيثاً دائماً هطلاً، فلم يمض إلاّ بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الأفق وغطّت سماء مكة كلّها فهطل مطر غزير كادت معه مكة أن تغرق.

 

ثم يقول الشهرستاني هذه الواقعة، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة أخيه ورسالته منذ طفولته وتؤكد إيمانه به،وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك بتلك المناسبة:

 

وأبيض يستقي الغمام بوجهه         ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم           فهم عنده في نعمه وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة        ووزان صدق وزنه غير عائل

 

إن حكاية إقبال قريش على أبي طالب(ع) عند الجفاف، واستشفاع أبي طالب إلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين.

 

ثانياً: أشعار أبي طالب شاهد حي، إضافة إلى كتب التاريخ المعروفة، فأنّ بين أيدينا شعراً لأبي طالب في (ديوان أبي طالب) ومنه الأبيات التالية:

 

والله لن يصلوا إليك بجمعهم          حتى أوسد في التراب دفينا

فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة      وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي        ولقد دعوت وكنت ثمّ أميناً

ولقد علّمت بأن دين محمد             من خير أديان البّرية دينا

 

كما قال أيضاً..

 

ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً      رسولاً كموسى خط في أوّل الكتب

وإن عليه في العباد محبة      ولا حيف في من خصّه الله بالحب

 

يذكر أبن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب ثمّ يقول: إن هذه الأشعار لا تدع مجالاً للشك أنّ أبا طالب كان يؤمن برسالة أبن أخيه.

 

ثالثاً: ثمّة أحاديث منقولة عن رسول الله (ص) تؤكد شهادته بإيمان عمه الوفي أبي طالب،من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب (أبو طالب مؤمن قريش) فيقول: عندما توفى أبو طالب رثاه رسول الله(ص) قائلاً: (وأبتاه وأبا طالباه وأحزناه عليك! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيراً وأجبتني كبيراً وكنت عندك بمنزله العين من الحدقة والروح من الجسد (كثيراً ما كان رسول الله (ص) يقول: (ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب).

 

رابعاً: من المتفق عليه أنّ رسول الله (ص) قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له بالمشركين، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات، وعلية فانّ ما أظهره رسول الله (ص) من الحبّ والتعلق بأبي طالب يدل على أنّه كان يرى في أبي طالب تابعاً لمدرسة التوحيد، وإلاّ كيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين، ويبقى هو على حبّة العميق لأبي طالب؟

 

خامساً: في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت(ع) أدلة وافرة على إيمان أبي طالب وإخلاصه، ولا يسع المجال لذكرها، وهي أحاديث تستند إلى الاستدلال المنطقي والعقلي، كالحديث المنقول عن الإمام زين العابدين(ع) الذي قال بعد أن سئل عن إيمان أبي طالب وأجاب الإيجاب (إنّ هنا قوماً يزعمون أنّه كافر... وأعجبنا كل العجب!! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله(ص) وقد نهاه الله أن تقّر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن-أي في أكثر من آية- ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله عنها من المؤمنات السابقات،فأنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه).

 

سادساً: وإذا تركنا كل هذا جانباً فأننا قد نشك في كل شيء إلاّ في حقيقة كون أبي طالب كان على رأس حماة الإسلام ورسول الإسلام، وكان حمايته تتعدى الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها.

 

ومن الأمثلة الحيّة على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على أنه عندما حاصرت قريش النبي(ص) والمسلمين محاصرة اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم،ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد عنهم مدّة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله،وسار ببني هاشم إلى واد بين جبال مكّة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه، وقد بلغت تضحياته حداّ أنّه، فضلاً عن بنائه الأبراج الخاّصة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم، كان في كل ليلة يوقظ رسول الله(ص) من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر يعده له ويجعل أبنّه الحبيب علياُّ(ع) في مكانه،فإذا ما قال ابنه علي(ع) يا أبه،إنّ هذا سيودني موارد التهلكة،أجابه أبو طالب(ع): ولدي عليك بالصبر،كل حي إلى ممات،لقد جعلت فداء ابن عبدالله الحبيب،فيرد علي(ع): يا أبه، ما قلت ذلك خوفاً من الموت في سبيل محمد(ص) بل كنت أريد أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي للوقوف إلى جانب محمد(ص) .إننّا نرى أن من يترك التعصب ويقرأ -بغير تحيّز- ما كتبه التاريخ بحروف من ذهب عن أبي طالب، سيرفع صوته مع صوت أبن أبي الحديد منشداً:

 

ولولا أبو طالب وابنه        لما مثل الدين شخصاً وقاماً

فذاك بمكّة آوى وحامى      وهذا بيثرب جس الحماما

 

سابعا: إن تأريخ حياه أبي طالب وتضحياته العظيمة للنبي (ص) وعلاقة النبي (ص) والمسلمين الشديدة به إلى درجة النبي سمى عام وفاته بـ (عام الحزن) كل ذلك يدل على أنّه يعشق الإسلام ولم يكن دفاعه عن النبي (ص) على أّنه أحد أرحامه، بل دفاع رجل مؤمن مخلص وعاشق نظيف وجندي مضّح عن قائده وإمامه.فمع هذه ألحاله، كم يلغ من الجهل والغفلة والظلم وعدم الشكر بطائفة أن تصّر على أن هذا الرجل المخلص المؤمن الموحّد مات مشركاً.