سورة النّصر

سورة النّصر

مدنيّة.

و آيها ثلاث بالإجماع.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في ثواب الأعمال ، بإسناده: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من قرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ في نافلة أو فريضة، نصره اللّه على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق قد، أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من جسر جهنّم ومن النّار ومن زفير جهنّم. فلا يمرّ على شي‏ء يوم القيامة إلّا بشّره وأخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة، ويفتح له في الدّنيا من أسباب الخير ما لم يتمنّ ولم يخطر على قلبه.

و في مجمع البيان : في حديث ابيّ: من قرأها، فكأنّما شهد مع رسول اللّه [- صلّى اللّه عليه وآله-]  فتح مكّة.

و عن عبد اللّه بن مسعود ، قال: لمّا نزلت السّورة، كان النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يقول كثيرا: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، اللّهمّ اغفر لي إنّك أنت التّوّاب الرّحيم.

و عن أمّ سلمة ، قالت: كان [رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بآخره  لا يقوم‏و لا يقعد ولا يجيئ ولا يذهب إلّا قال: سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه.

فسألناه عن ذلك فقال: إنّي أمرت بها ثمّ قرأ إِذا]  جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.

و في رواية عائشة : أنّه كان يقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك.

قال مقاتل : لمّا نزلت هذه السّورة قرأها على أصحابه، ففرحوا واستبشروا.

و سمعها العبّاس، فبكى.

فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: ما يبكيك، يا عمّ؟

فقال: أظنّ أنّه قد نعت إليك نفسك، يا رسول اللّه.- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقال: إنّه لكما تقول.

فعاش بعدها  سنتين، ما رئي فيهما ضاحكا مستبشرا.

قال: وهذه السّورة تسمّى: سورة التّوديع.

و قال ابن عبّاس : لمّا نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال- صلّى اللّه عليه وآله-: نعيت إليّ نفسي بأنّها مقبوضة في هذه السّنة.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد [بن يحيى‏]  وسهل بن زياد، عن منصور بن العبّاس، عن محمّد بن الحسن بن السّريّ، عن عمّه، عليّ بن السّري، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: أوّل ما نزل على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وآخره إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرّضا- عليه السّلام-: سمعت أبي يحدّث، عن أبيه، أنّ أوّل سورة نزلت على رسول اللّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وآخره إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ.

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ، أي: إظهاره إيّاك على أعدائك.

وَ الْفَتْحُ : وفتح مكّة.و قيل : المراد جنس نصر اللّه المؤمنين وفتح مكّة وسائر البلاد عليهم. وإنّما عبّر عن الحصول بالمجي‏ء تجوّزا، للإشعار بأنّ المقدرات متوجّهات من الأزل إلى أوقاتها المعيّنة لها، فتقرب منها شيئا فشيئا، وقد قرب النّصر من وقته، فكن مترقّبا لوروده مستعد لشكره.

وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً : جماعات كثيرة، كأهل مكّة والطّائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب.

و «يدخلون» حال، على أنّ «رأيت» بمعنى: أبصرت. أو مفعول ثان، على أنّه بمعنى: علمت.

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قيل : أي: فتعجّب لتيسير اللّه ما لم يخطر ببال أحد، حامدا له عليه. أو فصلّ له حامدا على نعمائه .

روي : أنّه [- صلّى اللّه عليه وآله-]  لمّا دخل مكّة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلّى ثمان ركعات.

أو فنزّهه عمّا كانت الظّلمة يقولون فيه، حامدا له على أن صدق وعده. أو فأثن على اللّه بصفات الجلال ، حامدا له على صفات الإكرام.

وَ اسْتَغْفِرْهُ: هضما لنفسك، واستقصارا لعملك.

و عنه- صلّى اللّه عليه وآله- : إنّي لأستغفر اللّه في اليوم واللّيلة مائة مرّة.

و قيل : استغفره لأمّتك.

و تقديم التّسبيح [على الحمد]  ثمّ الحمد على الاستغفار، على طريق النّزول من الخالق إلى المخلوق، كما قيل: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت اللّه قبله.

إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً : [لمن استغفر]  منذ خلق المكلّفين.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : [إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏]  قال: نزلت بمنى‏في حجّة الوداع إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. فلمّا نزلت قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: نعيت إليّ نفسي. فجاء إلى مسجد الخيف فجمع النّاس، ثمّ قال: نصر اللّه امرأ سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغلّ عليهنّ: قلب امرئ مسلم أخلص  العمل للّه، والنّصيحة لأئمّة المسلمين، واللّزوم لجماعتهم فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم. أيّها النّاس، إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي. فإنّه قد نبّأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كإصبعيّ هاتين، وجمع بين سبّابتيه. ولا أقول: كهاتين، وجمع بين سبّابته والوسطى، فتفضل هذه على هذه.

و في جوامع الجامع : وعن جابر بن عبد اللّه أنّه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك.

فقال: سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: دخل النّاس في دين اللّه أفواجا، [و سيخرجون منه أفواجا] .

و قيل : أراد بالنّاس أهل اليمن. ولمّا نزلت قال- صلّى اللّه عليه وآله-: اللّه أكبر، جاء نصر اللّه والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم. الإيمان يمان، والحكمة يمانيّة. وقال- صلّى اللّه عليه وآله-: أجد نفس ربّكم من قبل اليمن.

و في مجمع البيان : قصّة  فتح مكة: لمّا صالح رسول اللّه [- صلّى اللّه عليه وآله-]  قريشا عام الحديبية كان في اشتراطهم ، أنّه من أحبّ أن يدخل في عهد رسول اللّه دخل فيه، فدخلت خزاعة في عقد رسول اللّه ودخلت بنو بكر في عقد  قريش، وان بين القبيلتين شرّ قديم. ثمّ وقعت فيما بعد بين بني بكر وخزاعة مقاتلة، فرفدت قريش بني بكر بالسّلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفيا. وكان ممّن أعان بني بكر على خزاعة  بنفسه عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو. فركب عمرو بن‏سالم الخزاعيّ حتّى قدم على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- المدينة، وكان ذلك ممّا هاج فتح مكّة، فوقف عليه وهو في المسجد بين ظهراني القوم، فقال:

         لا هم إنّي ناشد محمّدا             حلف أبينا وأبيه الأتلدا

         إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

 

          ونقضوا ميثاقك المؤكّدا             وقتلونا ركّعا وسجّدا

 فقال رسول اللّه: حسبك، يا عمرو. ثمّ قام فدخل دار ميمونة، وقال اسكبي عليّ  ماء. فجعل يغتسل، وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، وهم رهط عمرو بن سالم.

ثمّ خرج بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة حتّى قدموا على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر [عليهم‏] ، ثمّ انصرفوا راجعين إلى مكّة. وقد كان- صلّى اللّه عليه وآله- قال للنّاس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد ويزيد في المدّة، وسيلقى بديل بن ورقاء. فلقوا أبا سفيان بعسفان، وقد بعثته قريش إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ليشدّد العقد.

فلمّا لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت، يا بديل؟

قال: سرت في هذا السّاحل وفي بطن هذا الوادي.

قال: ما أتيت محمّدا؟

قال: لا.

فلمّا راح بديل إلى مكّة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علف بها النّوى. فعمد إلى مبرك ناقته وأخذ من بعرها ففتّه ، فرأى فيه  النّوى، فقال: أحلف باللّه، لقد جاء بديل محمّدا.

ثمّ خرج أبو سفيان حتّى قدم على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: يامحمّد، احقن دم قومك وأجر بين وزدنا في المدّة.

فقال [- صلّى اللّه عليه وآله-] : أغدرتم، يا أبا سفيان؟

قال: لا.

قال: فنحن على ما كنّا عليه.

فخرج فلقى أبا بكر، فقال: أجر بين قريش.

قال: ويحك، واحد يجير  على رسول اللّه.

ثمّ لقى عمر بن الخطّاب، فقال له، مثل ذلك.

ثمّ خرج فدخل على  أمّ حبيبة، فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته.

فقال: يا بنيّة، أرغبت بهذا الفراش عنّي؟

فقالت: نعم، هذا فراش رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك.

ثمّ خرج فدخل على  فاطمة [- عليها السّلام-] ، فقال: يا بنت سيّد العرب، تجيرين بين قريش [و تزيدين‏]  في المدّة، فتكونين أكرم سيّدة في النّاس.

فقالت: جواري جوار رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فقال: أ تأمرين ابنيك أن يجيرا بين النّاس؟

قالت: واللّه، ما بلغ ابناي أن يجيرا بين النّاس، وما يجير على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أحد.

فقال: يا أبا الحسن، إنّي أرى الأمور قد اشتدّت عليّ، فانصحني.

فقال [عليّ- عليه السّلام-] : أنت شيخ قريش، فقم على باب المسجد وأجر بين قريش، والحق  بأرضك.

قال: أو ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟قال: لا، واللّه، ما أظنّ ذلك، ولكن ما  أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: يا أيّها النّاس، إنّي قد أجرت بين قريش.

ثمّ ركب بعيره فانطلق.

فلمّا أن قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟

فأخبرهم بالقصّة.

 [فقالوا] : واللّه، أن أراد عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- على أن لعب بك، فلا يغني عنّا ما قلت.

قال: لا، واللّه، ما وجدت غير ذلك.

قال: فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بالجهار  لحرب مكّة، وأمر النّاس بالتّهيّؤ ، وقال: اللّهمّ، خذ العيون الأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها. وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فأتى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الخبر من السّماء، فبعث عليّا والزّبير حتّى أخذا كتابه من المرأة، وقد مضت هذه القصّة في سورة الممتحنة.

ثمّ استخلف رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أبا ذرّ الغفاريّ، وخرج عامدا إلى مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين ونحو من أربعمائة فارس، ولم يتخلّف من المهاجرين والأنصار عنه أحد.

و كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وعبد اللّه بن أميّة بن المغيرة قد لقيا رسول اللّه بنبق العقاب، فيما بين مكّة والمدينة، فالتمسا الدّخول عليه، فلم يأذن لهما.

فكلّمته أمّ سلمة فيهما، فقالت: يا رسول اللّه،- صلّى اللّه عليه وآله- ابن عمّك وابن عمّتك وصهرك.

قال: لا حاجة لي فيهما. أمّا ابن عمّي فهتك عرضي، وأمّا ابن عمّتي [و صهري‏]  فهو الّذي قال لي بمكّة ما قال.

فلمّا خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبي سفيان بنيّ له، قال: واللّه، ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد بنيّ هذا ثمّ لنذهبن في الأرض حتّى نموت عطشا وجوعا.فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه [- صلّى اللّه عليه وآله-]  رقّ  لهما، فأذن لهما، فدخلا عليه فأسلما.

فلمّا نزل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- مرّ الظّهران ، وقد غمّت  الأخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول اللّه خبر، خرج في تلك اللّيلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسّسون الأخبار. وقد قال العبّاس ليلتئذ : يا سوء صباح قريش، واللّه، لئن بغتها رسول اللّه في بلادها فدخل مكّة عنوة أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدّهر. فخرج على بغلة رسول اللّه، وقال: أخرج إلى الأراك لعليّ أرى حطّابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكّة فنخبرهم  بمكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فيأتونه فيستأمنونه.

قال العبّاس: فو اللّه، إنّي لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وسمعت أبا سفيان [يقول: واللّه، ما رأيت كاللّيلة  قطّ نيرانا! فقال بديل: هذه نيران خزاعة.

فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك.

قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، يعني: أبا سفيان‏] .

فقال: أبو الفضل؟

فقلت: نعم.

قال: لبّيك فداك أبي وأمّي، ما وراءك؟

فقلت: هذا رسول اللّه وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين.

قال: فما تأمرني؟فقلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فو اللّه، لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك. فردفني، فخرجت أركض به بغلة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: هذا عمّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على بغلة رسول اللّه، حتّى مررت بنار عمر بن الخطّاب، فقال، يعني:

عمر: يا أبا سفيان، الحمد للّه الّذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. ثمّ اشتدّ نحو رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. وركضت البغلة حتّى اقتحمت باب القبّة، وسبقت عمر بما يسبق به الدّابّة البطيئة الرّجل البطي‏ء.

فدخل عمر، فقال: يا رسول اللّه، هذا أبو سفيان عدوّ اللّه قد أمكن اللّه منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه.

فقلت: يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إنّي قد أجرته.

ثمّ إنّي جلست إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأخذت برأسه، وقلت:

 [و اللّه‏]  لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلمّا أكثر فيه عمر، قلت: مهلا، يا عمر، ما يصنع هذا الرّجل إلّا أنّه رجل من آل بني عبد مناف، ولو كان من عديّ بن كعب ما قلت هذا.

قال: مهلا، يا عبّاس، فو اللّه  لأسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطّاب لو أسلم.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: اذهب فقد آمنّاه حتّى تغدوا به عليّ بالغداة.

قال: فلمّا أصبح غدوت به على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

فلمّا رآه قال: ويحك، يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألّا إله إلّا اللّه؟

فقال: بأبي أنت وأمّي، ما أوصلك وأكرمك وأرحمك وأحلمك، واللّه، لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر  ويوم أحد.

فقال: ويحك، يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-؟فقال: بأبي أنت وأمّي، أمّا هذه فإنّ في النّفس منها شيئا.

قال العبّاس: فقلت له: ويلك، أشهد بشهادة الحقّ قبل أن تضرب» عنقك.

فتشهدّ.

فقال- عليه السّلام-  [للعبّاس‏] : اذهب ، يا عبّاس، فاحبسه عند مضيق الوادي حتّى تمرّ عليه جنود اللّه.

قال: فحبسته عند خطم  الجبل بمضيق الوادي، ومرّ عليه القبائل قبيلة قبيلة، وهو يقول: من هؤلاء؟ وأقول: أسلم وجهينة وفلان. حتّى مرّ رسول اللّه في الكتيبة الخضراء  من المهاجرين والأنصار في الحديد، لا يرى منهم إلّا الحدق.

فقال: من هؤلاء، يا أبا الفضل؟

قلت: هذا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في المهاجرين والأنصار.

فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما.

فقلت: ويحك، إنّها النّبوّة.

قال: نعم إذا.

و جاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [فأسلما وبايعاه. [فلمّا بايعاه‏]  بعثهما رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-]  بين يديه إلى قريش يدعوانه إلى الإسلام، وقال: من دخل دار أبي سفيان، وهي بأعلى مكّة، فهو آمن.

و من دخل دار حكيم، وهي بأسفل مكّة، فهو آمن. ومن أغلق بابه وكفّ يده ، فهو آمن.و لمّا خرج أبو سفيان وحكيم من عند رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عامدين إلى مكّة، بعث في أثرهما الزّبير، وأمّره على خيل المهاجرين وأمره أن يغر . رأيته بأعلى مكّة بالحجون، وقال له: لا تبرح حتّى آتيك. ثمّ دخل - صلّى اللّه عليه وآله- مكّة، وضربت خيمته هناك. وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار  في مقدمته، وبعث خالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم، وأمره أن يدخل من أسفل مكّة ويغرز  رايته دون البيوت.

و أمرهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- جميعا أن يكفّوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلّا من قاتلهم. وأمرهم بقتل أربعة نفر: عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، والحويرث بن نفيل، وابن خطل ، ومقيس بن صبابة . وأمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان  بهجاء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقال: اقتلهم ولو وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة. فقتل عليّ- عليه السّلام- الحويرث بن نفيل وإحدى القينتين ، وأفلتت الأخرى، وقتل مقيس بن صبابة  في السّوق. وأدرك ابن خطل  وهو متعلّق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حويرث وعمّار بن ياسر، فسبق سعيد عمّارا فقتله.

 [قال‏] : وسعى أبو سفيان إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأخذت غرزه  [: أي: ركابه‏]  فقبّله. ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي، أما تسمع ما يقول سعد؟ إنّه يقول:

         اليوم يوم الملحمة             اليوم تسبى الحرمةفقال- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ- عليه السّلام-: أدركه فخذ الرّاية منه، وكن أنت الّذي يدخل بها، وأدخلها إدخالا رفيقا . فأخذها عليّ- عليه السّلام- وأدخلها، كما أمر.

و لمّا دخل رسول اللّه [- صلّى اللّه عليه وآله-]  مكّة، دخل صناديد قريش الكعبة، وهم يظنّون أنّ السّيف لا يرفع عنهم. وأتى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ووقف قائما على باب الكعبة، فقال: لا إله إلّا اللّه وحده وحده ، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا إنّ كلّ مال أو مأثرة ودم يدعى  فهو تحت قدميّ هاتين، إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، فإنّهما مردودتان إلى أهليها. ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم اللّه، لم تحلّ لأحد كان قبلي ولم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار، وهي محرّمة إلى أن تقوم السّاعة، لا يختلى خلاها  ولا يقطع شجرها، ولا ينفّر صيدها، ولا تحلّ لقطتها  إلّا لمنشد.

ثمّ قال: ألا لبئس جيران النّبيّ [- صلّى اللّه عليه وآله-]  كنتم، لقد كذّبتم وطردتم، وأخرجتم وآذيتم، ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتم الطّلقاء.

فخرج القوم، كأنّما انشروا من القبور ودخلوا في الإسلام. وكان اللّه أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا ، فلذلك سمّي أهل مكّة الطّلقاء.

و جاء ابن الزّبعريّ إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [و أسلم‏]  وقال:

         يا رسول اللّه إنّ لساني             راتق ما فتقت إذ أنا بور          إذ أباري» الشّيطان في سنن الغيّ             ومن مال ميله مثبور

          آمن اللّحم والعظام لربّي             ثمّ نفسي الشّهيد أشهد أنت النّذير

و عن ابن مسعود، قال: دخل النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم [رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-]  مكّة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت. وأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، فقال [- صلّى اللّه عليه وآله-: قاتلهم اللّه‏]  أما واللّه لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.