سيرة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم -1

النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم

﴿قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعا﴾

سورة الأعراف، الآية: 158

* النبي الخاتم صلى الله عليه وآله والقافلة البشرية

{الحجة البالغة}

 

مقدمة:

قبل البعثة المحمدية، كانت القافلة البشرية تعيش أحط أدوارها، فالقرن السادس الميلادي كان قد طفح بعرق الإنحراف ووصف بأنه كان من أشد القرون ظلاما. حيث ادعى الجبابرة في رقع كثيرة من العالم الحق الإلهي وعلى هذا ملأوا العالم ظلماء وخرجوا يبحثون بمخالبهم وأنيابهم عن فريسة من نبي الإنسان ليقتلوه أو يسبوه خلال حروبهم. التي أشعلوها من أجل مزيد من الشهوات والأهواء. قبل البعثة خرج أصحاب بيوت العنكبوت التي ليس لها من آثار البيت إلا اسمه بعد أن وجدوا أن البيت لا يدفع حرا ولا بردا ولا يقي من مكروه! خرجوا ليبحثوا عن بيوت أخرى وكلما انتهوا إلى بيت وجروه كبيوتهم!

 

وهكذا دارت جحافل الظلام في حلقة مفرغة. من بيت سوء! ومن أولياء ليس لهم من الولاية إلا الاسم فقط لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا. إلى أولياء لم يتخصصوا إلا في بناء بيوت كبيوت العنكبوت!

 

كانت الوثنية قد رفعت أعلامها على بلاد الروم واليونان والهند والفرس ومصر وسوريا وغير ذلك من البلاد. وتحت ظل الوثنية أطيح بسنة العدل الإجتماعي، وأنت الفطرة تحت أحمال غليظة، وقام فقهاء الانحراف بتقديم ثقافة تفقد الإنسان رشده وقوة تمييزه بين الخير والشر. فلم يعرف في عالمهم الحسن من القبيح. وكيف يعرف من ألقى مقياس المعرفة الفطرية وراء ظهره وانطلق مسرعا إلى عالم الضلال الذي لا يفلج من سار على طريقه أبدا. فتحت رايات الوثنية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان الإنسان أرخص شيئا على أرضها. كانوا يدفعون بالرقيق إلى حلبات المصارعة كي يصارع إنسان مثله حتى الموت أو يصارع السباع! وكل هذا من أجل أن يدخلوا السرور على شريف من أشرف القوم بع عناء يوم عمل. كانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف. والمؤامرات والمجاملات الزائدة والقبائح والعادات السيئة. كان هم الجميع هو اكتساب المال من أي وجه. فهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الأفراد وهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الشعوب. أما أوروبا فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية وكانت بعيدة عن قافلة الحضارة التي شيدها الناس من حولهم. كان لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعلم. وكانت أجسامهم قذرة ورؤوسهم مملوءة بالأوهام. وكان الرهبان هناك يبحثون في أن المرأة حيوان أم إنسان؟ ولها روح خالدة أم ليس لها روح خالدة. وأن لها حق الملكية والبيع والشراء أم ليس لها شئ من ذلك. ويقول روبرت برفلوت: لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر. وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا. وكانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم. لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت.. وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا. فريسة الدمار والفوضى والخراب (1) أما الهند فكانت قبل عصر البعثة المحمدية قد احترفت صنع الآلهة وذكر صاحب كتاب الهندوكية السائدة. بأنهم ألحقوا بالديانة الهندوكية عددا من الآلهة قد بلغ (330 مليون) إله!! وفي ظل هذه الآلهة رتعت عقائد التثليث والتجسد والحلول وجميع معالم الانحراف. وفي بلاد فارس أقيمت للناس المعابد العديدة! وفي بلاد العراق أقيمت المعابد للكواكب والأوثان! أما العرب فقد انغمسوا في الوثنية بأبشبع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل لكل بيت صنم خاص، وكان في جوف الكعبة وفنائها ثلاثمائة وستون صنما، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر من أي جنس مان، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجن والكواكب. وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله! وأن الجن شركاء الله!

 

واعتقدوا أن هؤلاء لهم مشاركة في تدبير الكون! وقدرة ذاتية على النفع والضرر والإيجاد والإفناء! فآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم (2) وعلى أرض العرب وبالتحديد في مكة كان العديد من علماء أهل الكتاب يقيمون فيها أو حولها انتظارا لظهور النبي الموصوف عندهم في كتبهم والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم نظرا لدقة الوصف الذي وصفه لهم الأحبار والرهبان الذين أؤتمنوا على ما أخفاه من الكتاب.

 

وبالجملة كانت القافلة البشرية في حاجة إلى مشعل هداية بعد أن سقطت أطروحات الأصنام في الأوحال العميقة. مشعل هداية يهدي إلى صراط الله المستقيم، وجاء النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن جفت الحكمة وجف العلم من آنية أهل الكتاب.

 

أولا: وجاء النور الهادي:

1- من صفاته عند أهل الكتاب:

كان عليه السلام أميا، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب. قال القرطبي في تفسيره: (جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران) " إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك. اجعل كلامي على فيه. فمن عصاه انتقمت منه " فمن إخوة بني إسرائيل؟ فلا محالة أنهم العرب أو الروم. فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة. فلم يبق إلا العرب. فهو إذن محمد عليه السلام. وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب " إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته " فكني عن بني إسرائيل بأخوة إسماعيل. كما كني عن العرب بأخوة بني إسرائيل في قوله: " إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك " ويدل ذلك أيضا قوله: " اجعل كلامي على فيه " وتلقيناه من فلق فيه (3) واليهود يطلقون على أي أمة غير أمتهم لقب " الأمة الأمية " وفي ذلك يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (4). فالنبي الأمي ليس من الحي الإسرائيلي. وإما هو من بني إسماعيل. ووصفه بالأمي لا ينطبق إلا عليه. لأن المسيح ابن مريم عليه السلام كان قارئا وكاتبا. ففي إنجيل لوقا " وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ " (لوقا 4 / 16) وفي إنجيل " وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب " (يوحنا 8 / 6) وكان عليه السلام رسولا إلى بني إسرائيل. البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل صنف فيها كتب كثيرة.

 

2 - من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم:

• اختصه الله بعموم الدعوة للناس كافة قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (5) وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (6). قال المفسرون: إن في مدلول الآية حجة على التوحيد. وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية، التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم وسيرهم إلى غايات وجودهم، فعموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم. وهو رسول الله تعالى لا رسول غيره. دليل على أن الربوبية منحصرة في الله تعالى. فلو كان هناك رب غيره ولجاءهم رسوله. ولم يعم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عمتهم. واحتاجوا معه إلى غيره. ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه. أمس بجهل الناس من كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا. فمفاد الآية: لا يمكنهم أن يروك شريكا له. والحال أنا لم نرسلك إلا كافة لجميع الناس بشيرا ونذيرا. ولو كان لهم إله غيرنا، لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم عباد لإله آخر. والله أعلم (7).

 

ونزول القرآن الكريم على رسول الله بلسان عربي، لا ينافي عموم دعوته لعامة البشر، لأن دعوته كانت مرتبة على مراحل، فأول ما دعى دعى الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم، ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة، ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (8). ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (9) ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (10) وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ (11) والدليل على عموم الدعوة. إنه كان من المؤمنين به سلمان وكان فارسيا، وبلال وكان حبشيا، وصهيب وكان روميا، وفي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا سابق العرب. وصهيب سابق الروم. وسلمان سابق الفرس. وبلال سابق الحبشة "(12) " وبعد استقرار الدعوة أخذ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك في إيران ومصر والحبشة والروم. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " (13) وقال: " أنا رسول من أدركت حيا ومن يولد بعد "(14) وقال: " ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار " (15) وقال: " أنا النبي الأمي الصادق الزكي. الويل كل الويل لمن كذبني وتولى عني وقاتلني..." (16) وقال: " إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال"  (17) وقال: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " (18) وقال: " أنا رحمة مهدا ة" (19) وقال: " إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ودينكم واحد ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أخمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى " (20).

 

• ومن خصائصه أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم / وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (21) وآيات القرآن في هذا المقام عديدة. كما جعل الله أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرط في حب الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ (22) قال المفسرون: إن حب الشئ يقتضي حب جميع ما يتعلق به.

 

ويوجب الخضوع والتسلم لكل ما هو في جانبه. والله سبحانه هو الله الواحد الأحد، الذي يعتمد عليه كل ما شئ في جميع شؤون وجوده ويبغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل. فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين بدين التوحيد وطريق الإسلام، وهذا هو الذين الذي ينسب إليه سفرائه. ويدعو إليه أنبيائه ورسله. وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه.

 

وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة، كما يختم بصادعه صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء عليهم السلام، وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، طريقة الإخلاص على ما أمره الله تعالى حيث قال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (23) فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك، فسبيله دعوة وإخلاص، واتباعه واقتفاء أثره، إنما في ذلك صفة من اتبعه.

 

ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له صلى الله عليه وآله وسلم هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (24) وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ (25) ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراط المستقيم فقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (26) فتبين بذلك كله أن الإسلام - وهو الشريعة المشرعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة - هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، وهو دين الحب. ومن جميع ما تقدم يظهر معنى الآية ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ فالمراد والله أعلم: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب، الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن. أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب، وعند ذلك تجدون ما تريدون. وهذه هو الحب الذي يبتغيه محب بحبه (27).

 

• ومن خصائصه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم كقول نوح عليه السلام: (يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) (28) وقول هود عليه السلام: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) (29) وغير ذلك، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد تولى تعالى تنزيهه عما نسبه إليه أعداؤه والرد عليهم فقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ (30) وقال تعالى: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ (31) وقال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى / وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ (32).

 

• ومن خصائصه أن كتابه معجز، ومحفوظ، يسره الله تعالى للذكر ليفهمه العامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (33) قال المفسرون: والمعنى لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به. فهل من متذكر فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه الدين الحق. والقرآن لا انحراف فيه في جميع الأحوال. ولا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير. ووصف القرآن بالحكيم دليل على عدم وجود نقطة ضعف أو لهو الحديث فيه. جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة فيه تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (34) قال المفسرون: أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ (35) وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفة بالقيام كما قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (36) وقال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ (37) وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنيا هم وآخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وليس إلا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الإنسانية (38).

 

والقرآن الكريم لا يجد الباطل طريقا إليه قال تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ / وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ / إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ (39) قال المفسرون: لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به. إنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله.

 

والقرآن حق لا سبيل للباطل إليه. فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد ﴿مَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي وما يقدرون على التنزل به، لأنه كتاب سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى: ﴿إنهم عن السمع لمعزولون﴾ أي أن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملأ الأعلى معزولون. حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا (40) والله تعالى تحدى بالقرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثله فقال: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (41) وعندما عجزوا أن يأتوا بمثله تحدى أن يأتوا بعشر سور من مثله قال تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾(42) وعندما عجزوا تحدى أن يأتوا بسورة واحدة قال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ (43) قال المفسرون: في الآيات ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم. فلا ترى أثرا منهم. والقرآن باق على إعجازة متحد بنفسه كما كان (44).

 

• ومن خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جعل أهل بيته عليهم السلام طرفا أصيلا مع القرآن وأنهم والقرآن لن يفترقا حتى يرد عليه الحوض ففي الحديث: "ذ إني تارك فيكم الثقلين أحداهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض" (45) وأن الله تعالى طهر أهله بيته الذين ارتبطوا بالقرآن تطهيرا قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (46) كما أجب الله تعالى مودة قرابة رسول الله في قوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (47) وسيأتي الحديث عن أهل البيت فيما بعد مفصلا. وخصائص النبي الأعظم عديدة نكتفي بما أوردناه منها.

 

3 - من صفاته عليه الصلاة والسلام:

قال الحسين بن على عليهما السلام قال: سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع (48) وأقصر من المشذب (49). عظيم الهامة ". إلى أن قال: " أزهر اللون واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن وبينهما عرق يدره القضب له نور يعلوه يحسبه من يتأمله أشم " إلى أن قال: " إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جمعيا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. جل نظره الملاحظة. يبدأ من لقيه بالسلام " وما أوردناه من الصفات يوجد بتمامه في تفاسير أهل الكتاب. ثم قال الحسن فقلت له: صف لي منطقه. فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة.. يتكلم بجوامع الكلم فصلا فصلا لا فضول فيه ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين... " وعن الحسين عليه السلام قال سألت أبي عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " كان يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إبطانها (50) إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أجدا أكرم عليه منه. من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، وكانوا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا يؤمن فيه الحرم (51). ولا تثنى فلتاته (52) متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. قال الحسين عليه السلام فقلت: كيف كانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه؟ فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر (53). سهل الحلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (54) ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عمالا يشتهي فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمنيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره. ولا يطلب عثراته ولا عوراته. ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه. وإذا تكلم أطرق جلساؤه كان على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم انصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليتهم (55)، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه. حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم (56). ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (57). ولا يقطع على أحد (*) كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام (58).

 

قال الحسين: فسألت أبي عن سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكير.

 

فأما التقدير، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى وجمع له الحلم والصبر. فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه. واجتهاده الرأي في صلاح أمته. القيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة (59) وما أوردناه ما هو إلا بعض من صفات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي وصفه الله بأنه على خلق عظيم. وصاحب هذه الخلق العظيم هو الذي قدر الله تعالى أن تكون هداية البشرية على يديه بما أنه خاتم الأنبياء والرسل. فهو صلى الله عليه وآله وسلم الذي يشير إلى قوافل الضلال والانحراف بمصباح الهدى كي يخرجهم من الظلمات إلى النور، فمن استجاب فقد فاز، ومن أمسك بذيول آباء الضلال والانحراف فقد هلك والله غني عن العالمين.

 

1-  السيرة النبوية / الندوى: ص 9.

2-  السيرة النبوية / الندوى: ص 11.

3-  البشارة نبي الإسلام / أحمد حجازي السقا: ص 226 / 1 ط دار البيان.

4-  سورة آل عمران، الآية: 75.

5-  سورة الأعراف، الآية: 158.

6-  سورة سبأ، الآية: 28.

7-  الميزان: 377 / 16.

8-  سورة الشعراء، الآية: 214.

9-  سورة الحجر، الآية: 94.

10-  سورة الأعراف، الآية: 158.

11-  سورة الأنعام، الآية: 19.

12-  رواه الحاكم (كنز العمال 644 / 11).

13-  رواه ابن سعد (كنز العمال 445 / 11)

14- رواه ابن سعد (كنز العمال 404 / 11).

15-  رواه الحاكم (كنز العمال 453 / 11).

16-(رواه ابن سعد (كنز العمال 403 / 11).

17-  رواه الطبراني في الأوسط (كنز 425 / 11).

18-  رواه ابن سعد والحاكم (كنز 425 / 11).

19-  رواه ابن سعد الحاكم (كنز 425 / 11).

20-  رواه ابن النجار (كنز 484 / 11).

21-  سورة النساء، الآيتان: 13 - 14.

22-  سورة آل عمران، الآية: 31

23-  سورة يوسف، الآية: 108.

24-  سورة الجاثية، الآية: 18.

25-  سورة آل عمران، الآية: 20.

26-  سورة الأنعام، الآية: 153.

27-  الميزان: 159 / 3.

28-  سورة الأعراف، الآية: 61.

29-  سورة الأعراف، الآية: 67.

30-  سورة يس، الآية: 69.

31-  سورة القلم، الآية: 2.

32-  سورة النجم، الآيتان: 2 - 3.

33-  سورة القمر، الآية: 22.

34-  سورة الإسراء، الآية: 9.

35-  سورة الأنعام، الآية: 161.

36-  سورة الروم، الآية: 30.

37-  سورة الروم، الآية: 43.

38-  الميزان: 47 / 13.

39-  سورة الشعراء، الآيات 210 - 212.

40-  الميزان: 328 / 15.

41-  سورة الإسراء، الآية: 88.

42-  سورة هود، الآية: 13.

43-  سورة البقرة، الآية: 23.

44-  الميزان: 201 / 13.

45-  رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 186 / 1).

46-  سورة الأحزاب، الآية: 33.

47-  سورة الشورى، الآية: 23.

48-  المربوع: الذين بين الطويل والقصير.

49-  المشذب: الذي لا كثير لحم على بدنه.

50-  أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من القصور.

51-  أي لا تعاب عنده حرمات الناس.

52-  أي إذا وقعت فيه عثرة من أحد جلسائه بينها لهم ليحذروا من الوقوع فيها ثانيا.

53-  البشر: بشاشة الوجه.

54-  الصخاب: الشديد الصياح.

55-  أي كانوا يتكلمون عنده الواحد بعد الآخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر.

56-  أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم.

57-  أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح.

58-  حتى يجوز: أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام.

59-  الميزان: 306 / 6 وما بعدها.

-------------------------------------------

ثانيا: الدعوة إلى الهدى:

1 - معسكرات الانحراف:

لم يكن طريق الدعوة بالطريق السهل. فالانحراف كان شاسعا وعميقا، وعلى امتداد ليلة ظهرت له مخالب وأنياب تدافع عن الأهواء والشذوذ، فأهل مكة كانوا قد أقسموا قبل إرسال الرسول إليهم، لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم، وعندما جاءهم الرسول النبي الأمي الذي لم يعهدوا فيه إلا كل خلصة كريمة، نسوا ما كانوا قد أقسموا به من قبل وغاصوا في مستنقعات الأوحال على دروب الانحراف. ومن داخل الأوحال قذفوا أتباع الهدى بجميع ما يستقيم مع ثقافة الانحراف. يقول تعالى عن خط الصد في مكة: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ (1) قال المفسرون: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يكونوا أهدى من إحدى الأمم التي جاءهم نذير. فلما جاءهم تباعدوا عنه وهربوا! فهذا الخط من خطوط الصد وضع في طريق الدعوة العديد من العراقيل دفاعا عن أهوائه وطريق آبائه. نفورهم واستكبارهم لا يقودهم إلا إلى السنة الجارية في الأمم الماضية، وهي العذاب الإلهي، ولن تجد لسنة الله تبديلا، والله تعالى يبعث الرسل لإقامة الحجة، ولكن لا يكون للناس على الله حجة. وحط الصد في مكة لبس الحجة كاملة وهو يقف على خنادق الإنحراف والشذوذ. يقول تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ / أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾ (2).

 

فالذي يسمك بحجر ويقف على خندق من خنادق الصد أقيمت عليه الحجة بالدعوة، ولا يبالي الله به في أي واد هلك، ولم يكن حال أهل الكتاب بأحسن من حال كفار قريش، فلقد شاركوهم خطوط الصد ولكن كل حسب طريقته.

 

وأهل الكتاب كانوا يستفتحون ويستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلما بعثه الله كفروا به وحسدوه قال تعالى: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " (3) وأهل الكتاب تصدروا خطوط الصد بعد هجرة الرسول إلى المدينة ولذا كانت آيات القرآن التي نزلت على رسول الله في المدينة لتكشف كيدهم أكثر مما نزل عليه في مكة. وباختصار لقد وقف في وجه الدعوة جميع أبناء الشذوذ والانحراف الذين استقامت أهواؤهم مع أهواء الظالمين في الأمم الماضية من عهد نوح عليه السلام، ولقد قدمت الدعوة الإسلامية إلى هؤلاء الدواء الشافي من كل داء لنخرجهم من الظلمات إلى النور فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

 

2- الداعي إلى الله:

أمام معسكرات الشذوذ وخيام الإنحراف تلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم آيات القرآن الكريم في مكة ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ / وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ /  قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (4) قال المفسرون: أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، ولا ذاك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي، فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري، فأنا أخاف ربي وأعبده بإخلاص آمنتم به أو كفرتم (5). عقب ذلك قال: " فاعبدوا ما شئتم " وهذا أمر تهديدي. بمعنى أن عبادتهم لن تنفعهم، لأنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله، حيث يخسرون أنفسهم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة، كما يخسرون أهلم بحملهم على الكفر والشرك، وهذا هو الخسران الحقيقي لأنه لا زوال له ولا انقطاع. وأمام معسكرات الشذوذ وخيام الانحراف تلى الرسول الأعظم: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ / وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (6) قال المفسرون: الدعوة تبشير وإنذار. ولا يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أمرها شيئا. وإنما الأمر إلى الله. ومعنى الآيات قل: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾- مكة المشرفة - التي حرمها الله ولم يشكر أهلها هذه النعمة. نعمد تحريم بلدهم. بل عبدوا الأصنام! ولكي لا يتوهم كفار مكة أن الله يملك مكة.. فيكون حاله حال سائر الأصنام. جعلوا لكل منها جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا قال: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ إشارة إلى سعة ملكه تعالى وقوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدى إليه الخلقة وتهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.

 

وقوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي أمرت أن أقرأ القرآن عليكم. فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه، ولا يعود نفعه إلي. ومن لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه. وهو الضلال. فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي. لأني لست إلا نذرا مأمورا بذلك ولست عليه بوكيل والله هو الوكيل عليه (7). وأمام معسكر الإنحراف تلى الرسول الأعظم قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (8) قال المفسرون، أي آمنت بالكتب السماوية التي نزلها الله على رسله. وأمرت أن أعدل بينكم أي أسوي بينكم. فلا أقدم قويا على ضعيف ولا غني على فقير ولا كبير على صغير ولا أفضل أبيض على أسود ولا عربي على عجمي ولا هاشميا أو قرشيا على غيره، فالدعوة متوجهة إلى الجميع والناس قبال الشرع الإلهي سواء.

 

فقوله: ﴿آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ﴾ تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها وقوله: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ تسوية بين الناس من حيث الدعوة وما جاء به الشرع وقوله: ﴿اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى وفليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه ويتفاضلوا بالأرباب، بل الله هو رب الجميع، وهم جميعا عباده المملوكون له المدبرون بأمره وقوله: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ يشير إلى أن الأعمال وإن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة ومن حيث الجزاء. ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها. فلكل امرئ ما عمل. فلا ينتفع أحد بعمل آخر. ولا يتضرر بعمل غيره وقوله: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ أي لا خصومة بيننا وبينكم بتفاوت الدرجات.

 

لأن ربنا واحد. ونحن لأننا جميعا عباده ولكل نفس ما عملت، فلا حجة في البين. أي لا خصومة حتى نتخذ لها حجة (9).

 

هذا هو شرع النبي الأعظم الذي أذاع معسكر الانحراف على الغوغاء والرعاع على امتداد الزمان أنه بدأ بالسيف وكان القهر عنوانه، هذا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي صد عن سبيله رموز الانحراف والشذوذ الذين توغلوا في عالم الطمس والقردية واستمع إليهم القردة والخنازير في كل مكان.

 

لقد جاء ليقول: " أمرت " ولم يرفع سيفا إلا بأمر وذلك بعد أن خرج عليه أصحاب المخالب والأنياب يريدون إطفاء نور الله. ولكن أبي الله إلا أن يتم نوره. لقد أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله في مكة في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ / قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ /لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ / قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (10) قال المفسرون: أمره الله أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه. هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل واضح قيم. لا تخلف فيه ولا اختلاف.

 

دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام، لكونه مبنيا على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا. مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين. وأمره تعالى أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه. كما أنه مأمور بذلك. ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول. فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه ويطابق فعله قوله. فقال له سبحانه قل: إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وأفعال وتروك. ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه الحياة. جعلتها كلها لله رب العالمين. من غير أن أشرك به فيها أحدا. فأنا عبد في جميع شؤوني: في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه. لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له. ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له. فإنه رب العالمين. يملك لكل ويدبر أمرهم. وقد أمرت بهذا النحو من العبودية. وأنا أول المسلمين به فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة (11).

 

فهل في سبيل رسول الله إكراه كما أشاعت جماهير الطمس على طريق القهقري؟ ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ / وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (12) ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (13).

 

3 - هدم انحراف بلادة الفكر والوجدان:

طالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معسكر الانحراف بالنظر في الكون، ليعلموا أن النظام القائم في الكون يدل على توحيد الله تعالى. فالتدبير السائد على جميع أنحائه متواصل. وجميع أجزائه مسخرة لنظام واحد. تلى عليه الصلاة والسلام عليهم في مكة قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ / فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ / كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ / قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَََلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ / قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (14) قال المفسرون: قل لهم يا محمد من يرزقكم من السماء بالأمطار والثلوج ونحوه. ومن الأرض بإنباتها نباتا وتربيتها الحيوان ومنها يرتزق الإنسان. وبركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني. أمن يملك السمع والأبصار منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق. فهو تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم للإنسان أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها. فالإنسان إنما يشخص ويميز ما يريده. مما لا يريده بأعمال السمع والبصر واللمس والذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده. ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها. فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي. وإنما خص الله السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرها. والله تعالى هو الذي يملكهما ويتصرف فيهما بالإعطاء والمنع والزيادة والنقيصة. ولولا نعم الله هذه ما وفقتم وفنيتم عن آخركم. ﴿وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ من يخرج من الأمور غير المفيدة في باب. أمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتوالد.

 

كخلق الإنسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب الميت وبالعكس. وكخروج الإنسان العاق الصالح من الإنسان الذي لا عقل له ولا صلاح وبالعكس وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. ومن يدبر الأمر في جميع خلقه؟ ﴿فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾ اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان وغيره ولأن الوثنيين يعتقدون ذلك. أمر الله نبيه أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة. ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: ﴿فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ثم قال: ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ وقد وصف الله بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ لأنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقه. فإن الهدى في اتباعه وعبادته. لأن الهدى مع الحق لا غير. وعلى هذا فلا يبقى عند غيره. الذي هو الباطل إلا الضلال. ثم تمم الآية بقوله: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.

 

وقوله بعد ذلك: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى ما تحصل من الآية السابقة. أن المشركين صرفوا عن الحق. وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال. إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. ومعنى قوله: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أن الكلمة الإلهية والقضاء الحتمي الذي قضى به في الفاسقين - وهو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنهم صرفوا عن الحق فوقعوا في الضلال. أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا.

 

وإنما قضينا ذلك. لأنهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما.

 

ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَََلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ لأن الذي بيده كل شئ ثم يعيده يستحق أن يعبده الناس. اتقاء من يوم لقائه. ليأمن من أليم عذابه. وينال عظيم ثوابه يوم القيامة. والله تعالى له ذلك ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي إلى متى تصرفون عن الحق ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ وتوضيح ذلك.. أن من المرتكز في الفطرة الإنسانية. وبه يحكم عقله. إن من الواجب على الإنسان أن يتبع الحق.

 

والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق. ومن الحق. ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه. أو يهدي إلى غيره. لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري. وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية. فافتتح بسؤالهم عن شركائكم. هل فيهم شركاءهم. هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ ومن الواضح أن لا جواب للمشركين في ذلك. لأن شركاءهم سواء أكانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان والأصنام. أم كانوا من الأحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما. لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وإذا لم يكن للمشركين جواب في ذلك. أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب بإثباتها لله فقال: ﴿قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شئ إلى مقاصده التكوينية والأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: " ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " (15) وقوله: " الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {الأعلى/2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى " (16) وهو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة بإذنه. بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.. وإذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق. وأن الله سبحانه يهدي إلى سألهم بقوله: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾ أن يقضوا في الترجيح بين أتباعه تعالى وأتباع شركائهم. وهو تعالى يهدي إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم. ومن المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدى أي لا تباعه تعالى على أتباعهم. والمشركون يحكمون بالعكس، ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(17).

 

إن هذا من مواجهات الإسلام مع أعدائه. فالدعوة الإسلامية تشق طريقها على أساس التوحيد الخالص. ومنذ أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام لا يرى غير الله من يملك أي شئ. فالله وحده له ملك السماوات والأرض وما بينهما. وهو سبحانه المدبر لجميع خلقه. وهو الغني بذاته وعلى الإطلاق وغيره فقير. وهو الواحد القهار الذي لا يماثله شئ في وجوده وهو العزيز الذي لا يغلبه شئ وغير ذليل. النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلى على أسماع بني الإنسان في مكة آيات الله التي تدعو إلى النظر في الكون كي تضاء منطقة الفكر والوجدان لديهم ويفروا من حياة الظلام ولا يتمسكوا بقيود الضلال لأن تمسكهم يدرجهم في القوم الفاسقين الذين حقت عليهم كلمة الله. فهل دعوة الإسلام لإيقاظ الفكر ونجاة بني الإنسان جريمة؟ إن جماهير الطمس والقهقري اعتبروها جريمة. وويل للظالمين من عذاب يوم عظيم.

 

1-  سورة فاطر، آية: 42.

2-  سورة الأنعام، الآيات: 155 - 157.

3-  سورة البقرة، الآية: 89.

4-  سورة الزمر، الآيات: 11 - 13.

5-  الميزان: 237 / 11.

6-  سورة النمل، الآيات: 90 - 92.

7-  الميزان: 404 / 15.

8-  سورة الشورى، الآية: 15.

9-  الميزان: 34 / 18.

10-  سورة الأنعام، الآيات: 161 - 164.

11-  الميزان: 394 / 7.

12-  (سورة الأنفال، الآيتان: 22 - 23.

13-  سورة الفرقان، الآية: 44.

14-  سورة يونس، الآيات: 31 - 35.

15-  سورة طه، الآية: 50.

16-  سورة الأعلى، الآيتان: 2 - 3.

17-  الميزان 57 / 10.

--------------------------------

4 - هدم الانحراف السلفي:

لقد وضع معسكر الانحراف قاعدة إتباع الآباء ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾ (1) وعلى هذه القاعدة شقوا طريقهم وقالوا: " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ " (2) وعندما جاءتهم رسل الله قالوا: ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا﴾ (3) وباختصار كان طريق السلف الضال من أخطر الطرق على الفطرة. فتحت راياته تهود الفطرة أو تنصرها أو يتم توثينها بصورة من الصور. ومعسكر الانحراف استغل هذه القاعدة حتى في ارتكابه للفواحش يقول تعالى: ﴿وإذا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (4) وعلى أرضية آباء الضلال أقام معسكر الانحراف خيامه وقام فقهاء كل خيمة بالالتفاف حول عجل من العجول لا يعرفون لهم طريقا إلا به. إذا قلت قال الله. قالوا: وماذا عن العجل وإذا قلت هذا سبيل رسول الله قالوا: وأين موضع العجل في هذا السبيل؟

 

والرسالة الخاتمة قامت بتحطيم العجول بالحجة التي توقظ الفطرة وتغذي الفكر.

لقد أخبرهم القرآن في أكثر من موضع بأنهم كانوا وآباؤهم في ضلال مبين.

 

وأخبرهم أن آباء هم وأبناءهم لا يدرون أيهم أقرب لهم نفعا (5). وأن الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والبنوة والأخوة وسائر أقسام القرابة - فبين الإيمان وموادة أهل المحاداة تضاد لا يجتمعان لذلك (6).

 

ولكن الحلف السلفي ظل متمسكا بمنطق آبائه الذي لا يخدم إلا مخططات الشيطان من أجل هدم الإنسان. وكما أن تمسكهم بأعلام الآباء يخدم الشيطان. إلا أنه في الوقت ذاته يحقق لهم السير في الحياة وفقا لأهوائهم التي تستقيم مع معطيات كل عصر. فهم يعربدون لتغذية أهواءهم الحاضرة تحت مظلة سنة الآباء الماضية. وفي صدر الرسالة المحمدية حاول الانحراف السلفي أن يحاصر الرسالة بأدوات حاضرهم لحساب ماضيهم. فبدأوا بالتشكيك في الرسالة تارة والدخول من باب القضاء والقدر تارة أخرى.

 

ويخبر الله تعالى بأن فصائل الإنحراف قد قالوا:﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ ثم صرف الله الخطاب عنهم لسقوط فهمهم وقال لنبيه: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ / وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (7) قال المفسرون: فكأنهم يقولون: لو كانت الرسالة حقة. وكان كما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام والأوثان والنهي عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها. نواهي لله سبحانه. كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره. وأن لا نحرم من دونه شيئا.

 

ولو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا. لم نعبد ولم نحرم. لاستحالة تخلف مراده عن إرادته. لكنا نعبد غيره ونحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهي ولا أمر منه تعالى. ولا شريعة ولا رسالة من قبله.

 

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم. أن عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه. وبالجملة عامة أعمالهم. لم تتعلق بها مشيئة من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة. وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. يأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا. ولا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة والحجة التامة عليهم بالبلاغ. فقوله:﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء. سلك الذين من قبلهم. فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرم الله. ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا: ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا..﴾ وقوله: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم. فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين. وليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه. ولا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد. ولا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان. ويضطروا العاصي على الطاعة.

 

فإنما الرسول بشر مثلهم. الرسالة التي بعث بها إنذار وتبشير. وهي مجموعة قوانين اجتماعية. أوحاها إليه الله. فيها صلاح الناس في دنيا هم وآخرتهم. صورتها صورة الأوامر والنواهي المولوية. وحقيقتها الإنذار والتبشير قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ (8) فهذا ما أمر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم. وقد أمر به نوحا ومن بعده من الرسل عليهم السلام أن يبلغوه أممهم (9) ولقد بعث الله تعالى في كل أمة رس. ل. وما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت ومن الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي تحكي عن نزول العذاب عليهم وفسروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم أن الدعوة النبوية التي هي إنذار حق إن الرسالة ليست كما تزعمون (10).

 

إن أصحاب العقول الفارغة يستمعون إلى نداء النبي وهو يبلغ عن ربه ومطالبته لهم بأن يجتنبوا عبادة العجول مع أشكالها فيقولون لو كان النهي صحيحا ما شاء الله أن نعبد غيرها. فإن قلت لقد شاء الله وأرسل لكم رسولا ليزيل من عقولكم بصمات سلفكم الضال ومعه المعجزة التي تثبت رسالته إليكم. هرولوا إلى مظلات السلف وقالوا كما قال الذين من قبلهم إن هذا إلا خلق الأولين وما سمعنا بهذا من قبل يكفينا ما دونه فقهاء الآباء وإنا على آثارهم مقتدون. هكذا لا يسمع الصم الدعاء. وإذا كان هذا الفريق قد حاول الالتفات حول الرسالة. فإن الفريق الأقذر منه هو الذي حاول الدخول من باب القضاء والقدر يقول تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ / قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (11) إنه فريق فقهاء الجدل الذي ينام في حاضره تحت مظلة سلفه الضال. ولكي يخدم سنة آبائه القومية. يفتح لأهوائه العنان، قال ببساطة: هب أننا مشركون. ألم يشأ الله لنا ذلك لماذا نلام على الشرك. قال المفسرون: وهي حجة داحضة باطلة. فالذين من قبلهم قالوا بهذا ولو كان قولهم صحيحا ما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم. (قل هل عند كم من علم) أي بأن ما تفعلوه هو بأمر الله ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ أي فتظهره لنا ﴿إِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ والخيال. والمراد بالظن هنا. الإعتقاد الفاسد. ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ تكذبون على الله فيما ادعيتموه (12) وقال صاحب الميزان: الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة، ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها. وإنما يركنون فيها إلى الظن والتخمين. فإنهم احتجوا بها لإثبات أن شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله، بإمضاء من الله سبحانه. لا بأس في ذلك. فحجتهم: أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك والتحريم.

 

لكنا مضطرين على ترك الشرك والتحريم. فإذا لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك والتحريم فلا بأس بهذا الشرك والتحريم. كانت هذه حجتهم. وهذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة. إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك. لم يوقعهم موقع الاضطرار والإجبار وفهم مختارون في الشرك والكف عنه. والتحريم وتركه. فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به ورفض الافتراض. فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك. إلا اتباع الظن والتخمين.

 

وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ إلخ والفاء الثانية للتعليل. فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها. والمعنى: أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك، وترك الافتراء عليه. وأن الحجة إنما هي لله عليكم. فإنه لو شاء لهداكم أجمعين. أجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم. وإذا لم يجبركم على ذلك. وأبقاكم على الاختيار. فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك والتحريم. وبعبارة أخرى: يتفرغ على حجتكم. أن الحجة عليكم. لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان. فهداكم أجمعين. ولم يفعل بل جعلكم مختارين. يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه (13).

 

وهكذا أخرج فقهاء الانحراف كل ما في جعبتهم لمواجهة الدعوة الإسلامية في مكة. أرادوا أن يحاصروا الدعوة فزجوا باسم الله في عمليات الصد عن سبيل الله. ولكن حجج الله كانت لهم بالمرصاد. وقلد دخل من باب القضاء والقدر العديد من حملة المعاول التي تهدم الفطرة. وكم مارس فقهاء الانحراف من عمليات التمييع التي نسجت في النهاية شباك التغييب حول الفطرة الأمر الذي أدى بمعظم القافلة البشرية أن تسير بلا هدف. يقترفون كل منكر تحت لافتة لقد أمر الله بهذا ويحرفون كل نص ويقولون لقد شاء الله ذلك ولو شاء غير ذلك ما حرفنا وما تأولنا وما سرنا وراء من ترفضون. إن القول بالجبر لم يقل الإسلام به. لأنه لو قال به لما أقام حجته على العقلاء الذين يقولون أن الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل والقبيح يجب أن يجتنب عنه. ويقولون بأنه لا بد من جزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإساءة. ومن أحكامهم أن الأمر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل. فلو أنه سبحانه أجبر على الطاعات أو المعاصي. لم يكن جزاء المطيع بالجنة والعاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع. وظلما في مورد العاصي والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء. ولا حجة في قبيح.

 

ولكن الإسلام جاء بما تستقيم عليه الفطرة لتغمر الحجة جميع العقلاء والأغبياء وقد قال تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (14) ويقول: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ (15) يقول صاحب الميزان (16): إن التشريع ليس مبنيا على أساس الجبر في الأفعال. فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم أولا. وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا. والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير وشر اختيارا. كما أن ما ينسبه القرآن إلى الله تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوب إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألوان النقص والقبح والمنكر. فإن جميع هذه المعاني راجعة في النهاية إلى الاضلال وشعبه وأنواعه. ليس كل إضلال حتى إضلال البدوي وعلى سبيل الإغفال المنسوب إليه ولا لائق بجنابه تعالى. بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ (17): ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (18) وقال: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ (19).

 

إن معسكر الانحراف دخل من الباب الذي ترفضه الفطرة متاجرين بخلق أفعال العباد كي يحافظوا على شذوذ القديم ويعبرون به إلى المستقبل كي يزدحم طريق الطمس. وقيما سئل أبو الحسن عليه السلام عن أفعال العباد، أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها. وقد قال سبحانه: ﴿أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم. وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم (20) وقيل لأبي عبد الله هل فوض الله الأمر إلى العباد؟ قال: الله أكرم من أن يفوض إليهم. قيل: أأجبر الله العباد على أفعالهم؟ قال: الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه (21) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله. ومن زعم أن أخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه " (22) وروي عن الرضا (ع) أنه قال: " إن الله عز وجل لم يطع بإكراه. ولم يعص بغلبة. ولم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملكهم. والقادر على ما أقدرهم عليه.

 

فإن أمر العباد بطاعته. لم يكن الله منها صادا. ولا منها مانعا. وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل. وإن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه " (23).

 

وكما تاجر فقهاء الانحراف بقضية الإجبار تاجروا أيضا بلافتة الحسنة والسيئة. وحاولوا وضع رداء التمييع عليها كي تواصل القافلة مسيرها في ظلمة الليل إلى الدجال. وهم يظنون أن الحسنات والسيئات تلقى عليهم من السماء ليصيب الله بها من يشاء ولا دخل لهم فيما يقترفوه من سيئات. لقد جاء الإسلام ليصحح هذه المفاهيم ليهلك من هلك عن بينة. مبينا أن لكل شئ غاية فمثلا الحياة النباتية لشجرة ما تؤدي إلى إثمارها ثمرة كذا. فهذه الثمرة هي غاية وجودها - فإذا كان هذا هو حال النبات. فما بالك بالإنسان. إن الإنسان له هدف وغاية وعلى امتداد طريقه يصيب الحسنات والسيئات، والحسنات هي الأمور التي يستحسنها الإنسان بالطبع. كالعافية والنعمة والأمن. وكل ذلك من الله.

 

والسيئات هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة. وكل ذلك يعود إلى الإنسان إليه سبحانه. يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (24) لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى. كما قال سبحانه: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا / مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (25) وقال في الميزان: وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله: ﴿اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (26) وقوله: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (27) فعد سبحانه كل شئ مخلوقا حسنا في نفسه. وقد قال جل شأنه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ (28) وقال: " لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى " (29) فمعنى قوله ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾ (الآية) أن ما أصابك من حسنة - وكل ما أصابك حسنة - فمن الله. وما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيار ها السيئ. واستدعتها كذلك من الله. فالله أجل من أن يبدأك بشر وضر. والآية وإن كانت خصت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب. لكن المعنى عام للجميع. وبعبارة أخرى. هذه الآية والآيتين الأخريين ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا﴾ " الآية " ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَة﴾" الآية " متكفلة الخطاب الاجتماعي لتلفها للخطاب الفردي.

 

فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك، فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده. ويؤاخذ متأخر وهم بسيئات المتقدمين. وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا. فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه. وأصيب المسلمون بما أصيبوا. هو صلى الله عليه وآله وسلم نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله. كان ذلك مصيبة سيئة صابته بما كسبت أيدي مجتمعه وهو فيهم كموسى عليه السلام فقد أصاب بني إسرائيل عذاب التيه في الصحراء بما كسبت أيديهم كان موسى عليه السلام فيهم - وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله. وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة. فإنما هي نعمة رافعة الدرجات. وكذا كل ما ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق. وأن ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه...

 

والله تعالى يذكر في آياته، أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية. ولا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (30) وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ (31) ويتبين بهاتين الآيتين وما تقدم من معنى آخر.

 

لكون الحسنات لله عز اسمه. وهو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه. فالحسنات كلها لله والسيئات للإنسان. وبه يظهر معنى قوله تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له. والخلق والحسن لا ينفكان. وله الحسنات بما أنها خيرات. بيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه. ولا ينسب إليه شئ من السيئات من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق. وإنما السيئة فقدان الإنسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمت أيدي الناس (32) وهكذا أطاح الإسلام بالحجة الشيطانية التي أراد بها فقهاء الشيطان أن يتخذوا منها سندا شرعيا لإضلال أكثر الناس والسير بهم في طريق القهقري الذي يحمل أعلام الغايات الشيطانية.

 

ثانيا: هدم الأهواء الشيطانية: بعد أن طرح فقهاء الشيطان فكر اللافكر وعلم اللاعلم من داخل باب القضاء والقدر والحسنة والسيئة. حاصروا الفطرة بعلوم الأهواء التي تتميز بأنها لا غاية لها ولا هدف إلا الصب في نهاية المطاف داخل الوعاء الشيطاني. والإسلام في مكة بعد أن قام بتصحيح النظر في الكون ودل الإنسان على الطريق المستقيم مبينا له أنه ليس حصاة ملقاة على قارعة الطريق تحركها الأقدام والرياح حيث تريد. خاطب رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان في أعماقه. كي يأخذ الإنسان بأسباب النجاة ويحطم الأصنام الراسخة في نفسه. لقد أخبرهم بأن اتباع الأهواء فيه تحقير منهم للكون وإذا كان الأقدمون قد حقروا وانتقصوا من الإنسان. فإن أبناءهم قاموا بتوسيع رقعة التحقير لتشمل الكون كله وذلك لأن إتباعهم للهوى يقتضي بأن يأتيهم الله بتشريع يلائم الأهواء وفي هذا مفسدة للتدبير السائد في الكون قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾ (33) قال المفسرون: إن الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام. وله في نوعيته غاية هي سعادته. وقد خط له طريق إلى سعادته وكماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نطير غيره من الأنواع الموجودة.

 

وقد جهزه الكون العام وخلقته الخاصة به من القوي والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها. وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.

 

فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته. أعني الإعتقادات والأعمال الخاصة المتوسطة بينه وبين سعادته. وهي التي تسمي بالدين وسنة الحياة. فتعينه حسب اقتضاء النظام العام الكوني والنظام الخاص الإنساني الذي نسميه الفطرة وتابعه لذلك. وهذا هو الذي يشير إليه تعالى بقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ 9(34) فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق. وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق. وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الإنساني. وتدبره وتسوقه إلى غاياته وهو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتما مقضيا. فلو اتبع الحق أهواءهم. فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم. لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه وتبدل العلل والأسباب غيرها. وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها ومجازفات أهوائهم. وفي ذلك فساد السماوات والأرض ومن فيهن في أنفسها والتدبير الجاري فيها. لأن كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين. والخلق والأمر متصلان غير منفصلين (35) بين لهم أن أهل الأهواء يطالبون بتشريع ينسجم مع ما يهوونه من الإعتقاد والعمل وما يريدوه من الفحشاء والمنكر والفساد. وبما أن الهوى لا يقف عند حد ولا يستقر على قرار. فإنهم يريدون مع كل جيل كونا جديدا ينسجم مع حركتهم. وهذا خبر فطرة الوجود.

 

ولكن طابور الأهواء في معسكر الانحراف وقف على حطام حججه التي حطمها الإسلام له. أمسك بذيول آبائه ليكمل مسيرة الانحراف حتى نهايتها. وبعد قيام الحجة عليه أوصى تعالى إلى رسوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ / إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (36) قال المفسرون: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ما يوحي إليه من الدين وأن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الحق. ويظهر من الآية. أن كل حكم عملي لم يستند إلى الوحي الإلهي ولم ينته إليه فهو هوى من أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم. قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا﴾ أي أن لك إلى الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو. والذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير. فلا يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني شيئا من الإغناء. قوله: ﴿وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ المراد بالظالمين المتبعون لأهوائهم المبتدعة وبالمتقين المتبعين لدين الله. والمعنى:

إن الله ولي الذين يتبعون دينه لأنهم متقون والله وليهم. والذين يتبعون أهواء الجهلة. ليس هو تعالى وليا لهم. بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون.

 

حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا. وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق (37) لما يستفاد من قوله تعالى: ﴿أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ / الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ (38).

 

فأهل الأهواء بجميع أنواعها وألوانها يربطهم جميعا رباط واحد. ويسرون في اتجاه واحد يحدده طريق الطمس الذي يسير القردة عليه أدلة لمن خلفهم.

 

وهم ما سلكوا هذا الطريق إلا بعد أن رفضوا الطريق الحق. قال تعالى لرسوله: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا / أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (39) قال المفسرون: المراد باتخاذ الهوى إلها: طاعته واتباعه من دون الله. وقد أكثر الله سبحانه في كتابه ذم اتباع الهوى. وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ / وَأَنْ اعْبُدُونِي﴾ (40) وقوله: ﴿أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد. فليس في مقدرتك ذلك. وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (41) وقوله: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ (42) والآية كالإكمال للتفصيل الذي في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾ (43).

 

ثم يقول الله تعالى لرسوله: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد لسماع الحق ليتبعه. أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجوا اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ أي أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون. أي أنهم ليسوا إلا كالأنعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ أي من الأنعام. وذلك أن الأنعام لا تقتحم على ما يضر ها. وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم. وأيضا الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق. فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه. وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا (44).

 

إن طابور الأهواء لم يبنوا شركهم على التعقل. بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم. لقد ظلموا أنفسهم أولا فأدى بهم هذا الظلم إلى ركوب طريق الضلال. يقول تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ (45) قال المفسرون: كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا. ولكنه قال:﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال بعد ذلك في قوله: ﴿فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي. قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾  (46).

 

إن الرسالة الخاتمة كانت رحمة من الله للعالمين. لقد قامت بتعرية طريق السلف الذي التقط المنهج الشيطاني. في أول الطريق. وقام بتعرية حججهم الواهية التي صاغوا لتحفظ لهم سنتهم القومية وترتع فيها أهواؤهم. وتعرية الإسلام لطريق الانحراف الهدف منه إقامة حجة الصراط المستقيم. ولم يكن الهدف في يوم من الأيام إكراه الناس على الإيمان. كما ادعى طابور الانحراف. الشذوذ على امتداد تاريخه. قال تعالى لرسوله: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (47) قال المفسرون: والمعنى في الآيات: لا تأسف عليهم. واتل ما يوحى إليك واصبر نفسك مع المؤمنين الفقراء وقل للكفار: الحق من ربكم. ولا تزد على ذلك. فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شاء منهم أن يكفر فليكفر. فليس ينفعنا إيمانهم ولا يضرنا كفرهم. بل ما في ذلك من نفع أو ضرب وثواب أو تبعه عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاؤوا فقد اعتدنا للظالمين النار وللصالحين جنات تجري من تحتها الأنهار (48) وقال تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ (49) قال المفسرون: أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه. فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم. فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان والحاجة. وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر وقوله: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ إنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان. فلا موجب له أن يريد منا الإيمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده. والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: ﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ والمحصل: أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية. وهي نسبة المالكية والمملوكية. لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصي المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا (50).

 

إن الإسلام عندما قام بتحطيم السلف الوثني وحججه كان يفسح الطريق أمام الإنسانية كي تتبين خطاها وتأخذ بأسباب الهدى. بعد أن أوحى الشيطان إلى أوليائه كي يفتحوا أبواب الفتن ويدخلوا من باب رافعين رايات القضاء والقدر والحسنة والسيئة تارة وحرية الإنسان الشخصية تارة أخرى. وأولياء الشيطان اعتبروا أن هذه أقرب الطريق للدخول بأكثر الناس تحت ظلال الظلام الشيطانية من أجل تتفيذ المخطط الشيطاني الذي حمله الشيطان على عاتقه منذ أن رفض السجود لآدم. وبينما كان فقهاء الشيطان وتلاميذه يسيرون نحو غاياتهم. كانت سهامهم توجه إلى صدر الإسلام فيتهمونه تارة بأنه دين جامد لم يقدم دليلا على أنه من عند الله وتارة أخرى على أنه دين يصادر الحرية ولا هم له إلا السلب والنهب!

 

وإذا كنا هنا لم نقدم سوى بعض من الآيات المكية فقط. فإننا نقول لمعسكر الانحراف. هل في حجج الإسلام سلب ونهب وإكراه؟ هل وجدتم جمود؟ هل علم معسكر الانحراف نظام أعطى خصومه الحرية الكاملة الإبداء آرائهم وصححها بما يخدم إنسانيتهم أكثر من الإسلام؟ إن الإسلام جاء ليتكلم هو لن يتكلم إلا إذا تكلم الطرف الآخر. وبعد أن يقول الإسلام كلمته يذر الظالمين يخوضوا ويلعبوا حتى يأتيهم اليوم الذي يوعدون. فهل في هذا إكراه وإجبار؟ فإذا كانت الإجابة بلا.. فلماذا قلتم وتقولون وستقولون عن الإسلام بأنه دين للجمود والدماء؟ إن القول الذي تقولون به من ثقافة طريق الطمس والإسلام أسمي من أن ينظر في ثقافة قردية الطمس فهؤلاء لهم يوم حدده الله. وفيه يكون عذاب الاستئصال. ونحن وإياكم في انتظاره. إن الزيت السلفي بدأ في الجفاف على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والذين تاجروا بالأديان أصبحت تجارتهم راكدة. إن الجفاف الأكبر قادم. معه ستقطع حبال الأهواء التي يتدلى فيها أبناء الانحراف. وسيسقطون بينما تكون قوافل الهدى التي على الصراط المستقيم ترتل كتاب ربها بآياته التي قرأها رسولهم أول مرة. والله ولي المتقين.

 

1-  سورة لقمان، الآية: 21.

2-  سورة الزخرف، الآية: 22.

3-  سورة إبراهيم، الآية: 10.

4-  سورة الأعراف، الآية: 28.

5-  سورة النساء، الآية: 11.

6-  سورة المجادلة، الآية: 22.

7-  سورة النحل، الآيتان: 35 - 36.

8-  سورة الأنعام، الآية: 50.

9-  الميزان: 241 / 12.

10-  الميزان: 245 / 12.

11-  سورة الأنعام، الآيتان: 148 - 149.

12-  ابن كثير: 186 /.

13-  الميزان: 317 / 7.

14-  سورة النساء، الآية: 165.

15-  سورة الأنفال، الآية: 42.

16-  الميزان: 95 / 1.

17-  سورة البقرة، الآية: 26.

18-  سورة الصف، الآية: 5.

19-  سورة غافر، الآية: 34.

20-  الميزان: 101 / 1.

21-  الميزان: 103 / 1.

22-  الميزان: 103 / 1.

23-  الميزان: 99 / 1.

24-  سورة الأنفال، الآية: 53.

25-  سورة النساء، الآيتان: 78 - 79.

26-  سورة الزمر، الآية: 62.

27-  سورة السجدة، الآية: 7.

28-  سورة مريم، الآية: 64.

29-  سورة طه، الآية: 52.

30-  سورة طه، الآية: 50.

31-  سورة النور، الآية: 21.

32-  الميزان: 15 / 5.

33-  سورة المؤمنون، الآية: 71.

34-  سورة الروم، الآية: 3.

35-  الميزان: 47 / 15.

36-  سورة الجاثية، الآيتان: 18 - 19.

37-  الميزان: 167 / 18.

38-  سورة الأعراف، الآيتان: 44 - 45.

39-  سورة الفرقان، الآيتان: 43 - 44.

40-  سورة يس، الآيتان: 60 - 61.

41-  سورة القصص، الآية: 56.

42-  سورة فاطر، الآية: 22.

43-  سورة الجاثية، الآية: 23.

44-  الميزان: 224 / 15.

45-  سورة الروم، الآية: 29.

46-  الميزان: 177 / 16.

47-  سورة الكهف، الآية: 29.

48-  الميزان: 304 / 13.

49-  سورة الزمر، الآية الآية: 7.

50-  الميزان: 239 / 17.

-----------------------------

5 - لبنات المجتمع الصالح:

لقد أيقظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الفكر عند من أراد العودة إلى الله. وجعل قلوبهم عامرة بذكر الله ولم الدعوة مقتصرة على ضرب الانحراف والشذوذ بالحجج البالغة فقط. وإنما قدمت الدعوة البديل لا قامة المجتمع الصالح. الذي يحيا فيه الإنسان الحياة اللاشريفة وينال سعادته الحقيقة.

 

والأساس الذي أقامه الإسلام لبناء هذا المجتمع يقوم على التوحيد. ولبنات هذا الصرح العظيم تتكون من الأخلاق الفاضلة. وذلك لأن المعارف الحقيقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما يصلح أخلاقه. فالشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم تنطلق بالأخلاق وبوقود التوحيد بصائر للناس يميزون بها أي الطرق يسلكونها لتؤدي بهم إلى الحياة الكريمة في الدنيا والآخرة. وفي مكة وفي الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي على معسكرات الانحراف بخلع ثياب الأهواء وإلقاء أعلام سلف الضلال. كان عليه الصلاة والسلام يتلو آيات البناء ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ / وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (1) قال المفسرون: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب. أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني. لما أن صلاح المجتمع العام. أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه.

 

ولأن سعادة الفرد مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه. وما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد. أحاط به الشقاء من كل جانب. أهتم الإسلام في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره. وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك. كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته.

 

فقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ العدل هو المساواة في المكافأة. إن خيرا فخير. وإن شرا فشر. والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه. وظاهر السياق أن المراد بالعدل في الآية هو العدل الاجتماعي.

وهو أن يعامل كل أفراد المجتمع بما يستحقه. ويوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه. وهذا أمر من الله بخصلة اجتماعية متوجه إلى الأفراد المكلفين.

 

بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل. ولازم ذلك. أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا. فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع وتدبره. والإحسان من حيث السياق كسابق. فالمراد به الإحسان إلى الغير. والإحسان على ما فيه من صلاح حال من أذلته الفاقة وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة. يعود محمود أثره إلى نفس المحسن. بدوران الثروة في المجتمع وجلب الأمن. وقوله: ﴿وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾ أي إعطاء المال لذوي القرابة. وهو من أفراد الإحسان. خص بالذكر. ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير. الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير. ومن المعلوم أن المجتمعات المدينة الكبيرة، إنما ابتدأت من مجتمع بيتي. عقده الزواج ثم بسطة التوالد والتناسل. ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة. ولم يزل يتزايد ويتكاثر. حتى عادت أمة عظيمة (2).

 

وقوله: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ الفحشاء ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها. كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية. والبغي المراد به في الآية التعدي على الغير ظلما. وهذه الثلاثة: الفحشاء. المنكر. البغي. إذا أصابت مجتمع من المجتمعات ظهر الفعل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله.

 

فينقطع بعضها من بعض. ويبطل الالتئام بينها. وتفسد بذلك النظم. ويخل المجتمع في الحقيقة. وإن كان على ساقه. وفي ذلك هلاك سعادة الأفراد.

 

فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. أمر بحسب المعنى. باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه. وتتلاءم أعماله. لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، ولا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه، لا فحشاء ولا منكرا، وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والألفة، وترتكز فيهم القوة والشدة، وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة. وكل خصلة سيئة تؤدي إلى التفرق والتهلكة. وختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي تتذكرون. فتعلمون أن الذي يدعوكم إليه. فيه حياتكم وسعادتكم (3).

 

ثم أمر سبحانه بالوفاء بالعهد وعدم نقص اليمين بعد أن جعلوا الله عليهم كفيلا. لأن نقص اليمين إهانة وإرزاء بساحة العزة والكرامة. مضافا إلى ما في نقص اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.

ثم أمر سبحانه أن لا يتخذوا أيمانهم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة. يطيبون بها نفوس الناس ثم يخونون ويخدعونهم بنقضها. لأن من يفعل ذلك تزل قدمه بعد الثبوت. ويذوق العذاب بما صد عن سبيل الله بإعراضه وامتناعه عن السنة الفطرية التي فطر الله الناس عليها. ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود والمواثيق والإيمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور فمعنى الآية: ولا تتخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما أبرمتموه، وفيه إعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة وبالجملة الافساد في الأرض بعد إصلاحها ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم ولكم عذاب عظيم في الآخرة (4) فمن هنا يبدأ المجتمع الصالح ولقد جهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله التي تدعو لإقامة المجتمع. الصالح ولكن أبناء الانحراف كانوا يريدون كونا آخر يسير وفقا لأهوائهم. وراحوا يحللون ويحرمون وفقا لمقاييس فقهاء الجمود والصد. وعلى طريق الطمس رفعوا أصواتهم بأن الإسلام دين جمود لأنه لا يساير جماهيرهم وما جماهيرهم إلا جماهير الغدر والكذب والخيانة والفساد في الأرض. لقد حرم آباؤهم من قبل ما لم يحرمه الله فتلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ردا عليهم وفي نفس الوقت كان رده لبنة من لبنات المجتمع الصالح قال له تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ / قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (5) ففي هذه الآيات ردا على ما فعلوه وما قالوا به فيما سبق هذه الآية من آيات. وفيها قواعد أساسية لإقامة المجتمع الصالح وفيها أخيرا ردا كافيا على من اتهم الإسلام بالجمود فيما بعد. قال المفسرون: والمعنى: أن الله تعالى هدى الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعة ويستدعي انجذاب نفوسهم إليه وارتفاع نفرتهم واشمئزازهم عنه. فالله يخرج لهم الزينة. قد كانت مخبية خفية. بإظهارها لحواسهم. ولو كان الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله. لم يحتاج إلى زينة يتزين بها قط. ولا تنبه للزوم إيجادها. لأن ملاك التنبيه هو الحاجة. لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد. وهم يعيشون بالإرادة والكراهة والحب والبغض. والرضى والسخط. فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه وما يستقبحونه من الهيئات والأزياء. فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم ويزين ما يشين منهم.

 

وهذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني. وهي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات. وتترقى وتنزل على حسب تقدم المدنية والحضارة. ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات. انهدم الاجتماع. وتلاشت أجزاءه من حينه، لأن معنى بطلانها، ارتفاع الحسن والقبيح، والحب والبغض، والإرداة والكراهة، ولا مصداق للاجتماع الإنساني عندئذ. وقوله: ﴿وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ الطيب هو الملائم للطبع. وهي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإنسان بالتغذي منه. أو مطلق ما يستمد به في حياته وبقائه. كأنواع الطعام والشراب والمنكح والمسكن ونحوها. وقد جهز الله سبحانه الإنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق. ويستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في بطنه. إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته. وهذا هو الطيب والملاءمة الطبيعية.

 

وبناء حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان. فلا يسعد الإنسان في حياته من الرزق. إلا بما يلائم طباع قواه وأدواته التي جهز بها.

 

ويساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به. وما جهز بشئ ولا ركب من جزء، إلا لحاجة له إليه، فلو تعدى في شئ مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا.

 

اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم. فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم. ولا يزال يستعمل ويفرط حتى يعتاد بها. فلا تؤثر فيه. فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة. وأهمها الفكر السالم الحر، والتعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شئ آخر. لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له.

 

وأي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون. ويسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة. وينال غاية غير غايته. وهو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة والشره. ويصور له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن.

والله تعالى يذكر في هذه الآية. أن هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبينها لهم من طريق الالهام الفطري ولا تلهم الفطرة إلا بشئ قامت حاجة الإنسان إليه. ولا دليل على إباحة عمل من الأعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه. بحسب الوجود والطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه. وهو الرابط بين الإنسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه. بما أودع في نفسه من القوى والأدوات الباعثة له إليه. بحسب الخلقة والتكوين. والفطرة تقضي بالوسط العدل في الزينة وطيبات الرزق. لأن التعدي إلى أحد جانبي الافراط والتفريط.

 

فيه تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط. فما ظهر فساد في البر والبحر إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق (6). إن الاسراف فساد وقال تعالى في صدر الآية التي نحن بصددها: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ / قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ...﴾ وقال فيما قبل ذلك: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾.

أما قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ قال المفسرون: بعد أن بين الزينة والرزق الطيب. بين ما حرم الله. والفواحش هي المعاصي البالغة قبحا وشناعة. كالزنا واللواط ونحوهما. والإثم هو الذنب الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك. والبغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحق. كأنواع الظلم والتعدي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم. ولما كان صدر الآية إباحة الزينة وطيبات الرزق ويمكن أن يكون في هذا داعيا في نفس السامع. إلى أن يحصل على ما حرمه الله. ألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك. ولا يشذ عما ذكره شئ من المحرمات الدينية. وفي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال وهي الثلاثة الأول. وما يرجع إلى الأقوال والاعتقادات وهو الأخيران. والقسم الأول منه: ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحق. ومنه غيره وهو أما ذو قبح وشناعة فالفاحشة وأما غيره فالإثم. والقسم الثاني: إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه (7).

 

ما أعظم الرسالة الخاتمة. بثلاث آيات من سورة النحل وآيتين من سورة الأعراف وضعت قوائم المجتمع الصالح فما بالك بباقي آيات القرآن الكريم. وما ذكرناه من الآيات مكي فما بالك بالآيات التي أقامت دولة في المدينة. ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ / وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ / وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (8).

 

قال في الميزان: ومن شواهد أنها شرائع عامة، أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام... على أن المتأمل فيها يعطى أن الدين الإلهي لا يتم أمره ولا يستقيم حاله بدون شئ منها. وإن بلغ من الاجمال والبساطة ما بلغ. وبلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ (9).

 

فماذا كان موقف طابور الانحراف والصد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة؟ ماذا فعلوا عندما كان يزيح أصنام التوثين من دائرة الفكر والوجدان كي يتدبروا في خلق السماوات والأرض بحرية الإنسان. وماذا فعلوا وهو يدلهم على الطريق الحق الذي لم يبصره سلفهم الغير صالح؟ هذا السلف الذي عكف على الفقه الشيطاني ليضع تعاريف لا تنتج إلا الإنسان المشوه روحيا. إن طابور الانحراف واجه الرسالة الخاتمة بكل قواه للصد عن سبيل الله.

 

6 - الصد عن سبيل الله:

أولا: طرح قضية البشر الرسول:

لقد شكك الذين رفضوا الهدى في الرسول وفي القرآن وأثاروا قضية آبائهم التي ترفض البشر الرسول. يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا / أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ ثم يطيب الله تعالى خاطر رسوله بعد الذي قالوه فيقول سبحانه: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا / تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾ (10) قال المفسرون: تعبيرهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: ﴿هَذَا الرَّسُولِ﴾ مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء. وقولهم، ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ إن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الأسواق لاكتساب المعاش. فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية وليست إلا من شؤون الملائكة. وقولهم: ﴿لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في السواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية. فإن سلمنا برسالته وهو بشر.

 

فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا. ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب وسط الملك و ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ﴾ أي إن لم ينزل إليه ملك. واستقل بالرسالة وهو بشر. فليلق إليه من السماء كنز. حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية. و يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به. ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ وإن لم يلق إليه كنز. فليكن له جنة يأكل منها. ولا يحتاج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.

 

﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ المراد بالظالمين هم المقترحون السابقوا الذكر - كما قيل - وقولهم: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ﴾ خطاب منهم للمؤمنين. تعبيرا لهم وإغواء عن طريق الحق. ومرادهم بالرجل المسحور النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يريدون أنه مسحور. سحره بعض السحرة. فصار يخيل إليه أنه رسول. يأتيه ملك بالرسالة والكتاب. وقوله تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ محصلة: أنظر كيف وصفوك.

 

فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق. كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة. لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة! ولا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش. وكقولهم: إنه رجل مسحور ﴿فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق. ولا يرجى لهم معه ركوبها ثانيا. وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا. ومن سمى كتاب الله بالأساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق. كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه؟ وقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾ الإشارة في قوله: ﴿مِّن ذَلِكَ﴾ إلى ما اقترحوه من قولهم: ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة. ولم يقل سبحانه: قل إن شاء ربي جعل كذا وكذا. بل عدل إلى قوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ..﴾ وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا.

 

ولا يصلحون لأن يخاطبوا. لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه. النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه. ولم يدع أن له قدرة غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه. أعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه. وإنما ذكر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا. قادر على أعظم مما يقترحونه. فإن شاء جعل له خيرا من تلك جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل له قصورا، لا يبلغ وصفها واصف، وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.

 

وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة. وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الانذار ويعينه على التبليغ. فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه. وقد أجاب تعالى في مواضع بأجوبة مختلفة (11) منها: ﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ / وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ (12) إن الله لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم. فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري. وهم لابسون على أنفسهم معه يتشككون. فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري. الذي هو في صورة رجل. ليبدلوا بذلك شكهم يقينا. وإذا صار الملك على هذا النعت - ولا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.

 

 وبالجملة فإن الدعوة الإلهية. لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني. من غير اضطرار وإلجاء. فالدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا مسلوك مسلك الاختيار. واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته ويضره. وسلوك أي الطريقين رضى لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (13) فإنما هي هداية وإراءة للطريق. ليختار ما يختاره لنفسه. من التطرق والتمرد. من غير أن يضطر إلى شئ من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه. بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث. قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى / وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى / ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾ (14) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه. فإن كان خيرا أراه الله ذلك. وإن كان شرا أمضاه له. قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ (15) ولما كانت الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء. فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس. يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة، أو الشقاء بالمخالفة والمعصية. من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ / إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ (16) فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا. لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون. فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري. فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (17).

 

فإنزال الملك رسولا. لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري. ويكون حينئذ لغوا. فقول الذين كفروا: لولا أنزل إليه ملك. ليس إلا سؤال لأمر لغو. لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا. لقد أخرج كفار مكة ملفات بشرية الرسول التي دونتها الأمم السابقة. ولم يتفكروا ماذا حدث للأمم السابقة؟ لقد أخبرهم الرسول عن ربه: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ / قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ (18) لقد أخبرتهم الرسالة الخاتمة أن سؤالهم ورفضهم لبشرية الرسول ما هو إلا نسخة مكررة على لسان آبائهم من آلاف السنين وكانت الإجابة على ما طرحه آباؤهم تبدو بوضوح على ما تركوه من آثار. ولكن الانحراف لا يفكر إلا بعقلية الانحراف لقد ركبوا سفينة سلفهم التي لا أمل في وصولها إلى بر الأمان. وكما تمنى قوم نوح أن تكون الرسالة في واحد من الأفاضل والأشراف فكذلك فعل أبناؤهم في معسكر الانحراف الذي عاصر الدعوة الخاتمة يقول تعالى: ﴿قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ ثم يجيب تعالى على ما طلبوه فيقول لرسوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (19) قال المفسرون: مرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف في نفسه عظيم في قومه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نظرهم فاقد لهذه الخصلة. فلو كان القرآن الذي جاء به وحيا نازلا من الله، فلو نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة. فرد الله تعالى قولهم. ومحصله: أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه.

 

فإنهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون ويرتزقون وهي رحمة منا. لا قدر لها ولا منزلة عندنا. وليس إلا متاعا زائلا. نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم. فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى. وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤوا ويمنعونها ممن شاؤوا. إنهم لا يملكون النبوة التي هي رحمة لله خاصة به حتى يمنعوك يا محمد منها ويعطوها لمن هووا. إن طابور الدفاع عن مقولات الآباء لم يفهم أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله وسعادته. والإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلمة. ولا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين وسنن تضمن سعادة حياته في الدنيا وبعدها. وترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الأفراد.

 

وإذ كانت حياته حياة شعورية. فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن. ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره. فإن العقل يعينه ويهديه إلى الاختلاف. فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله. وهو شعور الوحي. الإنسان المتلبس به هو النبي (20) لم يفهم حملة أعلام السلف أن الذي يصلح لتلقي الوحي من الله هو الرسول، وأما غيره فهم محرومون من ذلك لعدم استعدادهم لذلك.

 

1-  سورة النحل، الآيتان: 90 - 91.

2-  الميزان: 330 / 12.

3-  الميزان: 333 / 12.

4-  الميزان: 338 / 12.

5-  سورة الأعراف، الآيتان: 32 - 33.

6-  الميزان: 80، 81 / 8.

7-  الميزان: 86 / 8.

8-  سورة الأنعام، الآيات: 151 - 153.

9-  الميزان: 373 / 7.

10-  سورة الفرقان، الآيات: 7 - 10.

11-  الميزان: 186 / 15.

12-  سورة الأنعام، الآيتان: 8 - 9.

13-  سورة الإنسان، الآية: 3.

14-  سورة النجم، الآيات: 39 - 41.

15-  سورة الشورى، الآية: 20.

16-  سورة الشعراء، الآيتان: 3 - 4.

17-  سورة الصف، الآية: 5.

18-  سورة إبراهيم، الآيتان: 9 - 10.

19-  سورة الزخرف، الآيتان، 31 - 32.

20-  الميزان: 206 / 15.

--------------------------------

ثانيا: دفاعهم عن تيار السلف:

خرج معسكر الانحراف من أجل الدفاع عن حجارته وأهوائه ومنهج شيطانه يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ثم يطيب الله خاطر رسوله فيقول: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ / وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ / قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ / قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (1) قال المفسرون: خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم، وتحريض لهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات. وهي بينة لا ريب فيها. فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها. حثوهم على الاصرار على تقليد آبائهم وحرضوا عليه - وفي إضافة الآباء إلى ضمير " كم " مبالغة في التحريض والإثارة وقالوا لأتباعهم: ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه. مكذوبا به على الله. بدلا من أن يقولوا: إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى. والذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم وظهر لهم. هذا سحر ظاهر سحريته وبطلانه. والحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل. ولم نرسل إليهم قبلك رسول ينذرهم ويبين لهم ذلك. فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير: إنه حق أو باطل ­﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي: وكذب بالحق من الآيات، الذين كانوا من قبل كفار قريش. من الأمم الماضية. ولم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة والشدة. فكذب أولئك الأقوام رسلي، فكيف كان أخذي بالعذاب، وما أهون أمر قريش. قل لهم: إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا، وتنتصبوا لوجه الله. متفرقين حتى يصفوا فكركم ويستقيم رأيكم اثنين اثنين.

 

وواحدا واحدا. وتتفكروا في أمري. فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي. وصدق وأمانة. ليس في جنة. ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد يوم القيامة. فأنا ناصح لكم غير خائن ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ...﴾ كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة. فإنه إذا وهبهم كل ما سألهم من أجر.

 

فليس له عليهم أجر مسؤول. ولازمه أن لا يسألهم. وهذا تطييب لنفوسهم. أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه. ثم تمم القول بقوله: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية. فدفعه. بأن لعملي أجر. لكنه على الله لا عليكم وهو يشهد عملي وهو على كل شئ شهيد (2).

 

لقد أرادوا تهييج العامة والغوغاء، فأمرهم الإسلام بالتفرق وتجنب التجمع والغوغاء. فإن الغوغاء لا شعور لها ولا فكر. وكثير ما تميت الحق وتحيي الباطل. فهل فهم طابور الانحراف ما دعاهم إليه الإسلام؟ لقد قابلوا العلم بالجهل. وغاب عن طابور الانحراف عقله المميز. الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم. وانطلقوا نحو دوائر التحقير التي شرب منها سلفهم حتى ارتووا يقول تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا / أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا / أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً / أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ﴾ وبعد أن عرض أبناء السلف مطالبهم قال تعالى لرسوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً / وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً / قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً / قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ (3) قال المفسرون: قالت قريش: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ يا محمد ﴿حَتَّى تَفْجُرَ﴾ وتشق ﴿لَنَا مِنَ الأَرْضِ﴾ من مكة لقلة مائها ﴿يَنبُوعًا﴾ عينا لا ينضب ماؤها ﴿أَوْ تَكُونَ﴾ بالإعجاز  ﴿لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ﴾ أي تشقها وتجريها ﴿خِلالَهَا﴾ أي وسط تلك الجنة وأثناءها ﴿تَفْجِيرًا﴾ ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ﴾ أي مماثلا لما زعمت يشيرون به إلى قوله تعالى: ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء﴾ (4) ﴿عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ وقطعا ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً﴾ مقابلا نعاينهم ونشاهدهم. أو يكون لك ببيت من زخرف وذهب ﴿أَوْ تَرْقَى﴾ وتصعد ﴿فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ وصعودك ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا﴾ منها كتابا ﴿قْرَؤُهُ﴾ ونتلوه (5).

 

لقد أمسكوا بذيول السلف بكل قوة ورددوا مقولاتهم التي أرادوا بها التعجيز. ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ قال المفسرون: أمره الله تعالى أن يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر. فإنهم طالبوه بأمور عظام، لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية. وفيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله والملائكة قبيلا. ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدي لذلك.

 

المجيب لما سألوه. فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا.

بل قالوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ﴾ ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ...﴾ ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ﴾ إن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر. فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية.المحيطة حتى بالمحال الذاتي. وإن أدوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة.

 

فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد. ويوجد كل ما شاؤوا.

 

وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعي لنفسه ذلك. فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح. ولذلك أمره تعالى أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا. من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب. فالمقام صالح لذلك. وثانيا. إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام ﴿هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ وهو يؤيد كون قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي﴾ واقعا موقع التعجب. أي: إن كنتم اقترحتم على هذه المور وطلبتموها مني بما أنا محمد. فإنما أنا بشر ولا قدرة للبشر على شئ من هذه الأمور. وإن كنتم اقترحتموها لأني رسول ادعي الرسالة. فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.

قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله ﴿بَشَرًا﴾ و ﴿رَّسُولاً﴾ دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم. أما قوله: ﴿بَشَرًا﴾ فليرد به اقتراحهم عيه أن يأتي بهذه لآيات عن قدرته في نفسه. وأما قوله: ﴿بَشَرًا﴾ فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه مكتسبة من ربه (6).

 

ثالثا: وجاءتهم كلمة العذاب:

بعد أن بين لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة الأمر وأنه لا يملك إلا ما يأذن فيه ربه أمره ربه جل وعلا أن يبلغهم أن الأمر بينه وبينهم إلى ربه يحكم فيه بما يشاء ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ قال المفسرون: لما احتج عليهم بما احتج. وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به.

 

ويقترحون عليه بأمور جزافية أخرى. ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل.

أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله. فهو شهيد بما وقع منه ومنهم. فقد بلغ ما أرسل به ودعا واحتج وأعذر. وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا والآية في معنى إعلام قطع المحاجة. وترك المخاصمة ورد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض (7) ﴿وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ﴾ (8) قال المفسرون: إن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه. والله لا يهدي هؤلاء. فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا (9).

 

لقد دخل أبناء الانحراف داخل عباءة آبائهم. لم يتبعوا النور الذي يهدي إلى صراط الله. واتبعوا طابور العمي الذي لا يهدي إلى الظلام والضلال.

 

كان النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليهم آيات ربه فما يزيدهم إلا نفورا. تحداهم بالقرآن وطالبهم أن يأتوا بمثله ولن يأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لهم وأعضادا يمدونهم. لكنهم هربوا من أمام المعجزة وطالبوا بالأنهار والحدائق وغير ذلك هربوا من أمام المعجزة كما هرب آباؤهم من قبل. وعندما طالبوا بما طالب به الأوائل في طابور الانحراف تلى عليهم الرسول الأعظم قول ربه: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (10) قال المفسرون: ﴿إن أتبع﴾ ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه. ليس له إلا اتباع ذلك ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي أني وإن ساويتكم في البشرية والعجز. لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي. فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم. فأنا وأنتم كالبصير والأعمى لا يستويان في الحكم. وإن كانا متساويين في الإنسانية. فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى. والعالم يجب أن يتبعه الجاهل (11)!

وسارت قافلة الظلام تشق طريقها في غبار الضلال ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (12)! وبينما هم يقولون ذلك يقول تعالى لرسوله: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ (13) وقال: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾ (14) وقال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ / وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ (15) وقال: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (16) لقد طيب الله تعالى خاطر رسوله وخاصة في السور المكية لشدة الأمر عليه وأخبره بأنه سبحانه نزل الذكر عليه وأنه تعالى يحفظه. فلا يضيق صدره بما يقولون فإن ما يقولوه دأب المجرمين من الأمم الإنسانية. وأن حال دعوته بالذكر المنزل عليه، تشبه حال الرسالة من قبله، فكلما أرسل الله من قبله رسولا، قابلوا الرسالة بالصد والاستهزاء. وهؤلاء المجرمين، لو فتح الله عليهم بابا من السماء، ويسر لهم الدخول في عالمها. فداموا فيه عروجا بعد عروج، حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب وملكوت الأشياء. لقالوا: إنما غشيت أبصارنا، فشاهدت أمورا لا حقيقة لها. بل نحن قوم مسحورون وهو قوله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ / لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ (17) إن طابور الانحراف توغل بأقدامه داخل دروب الظلام ولن يأخذ بأسباب الهدى حتى ولو فتحت له أبواب السماء لينظر بأم عينيه معجزات الله الباهرة. لقد بعث الله فيهم رسولا منهم ليهديهم ولكنهم أغلقوا الأبواب فحقت عليهم كلمة العذاب يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ / عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ / تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ / لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ / لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ / إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ / وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ / وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (18) قال المفسرون: المعنى: إنما أرسلك وأنزل عليك القرآن لتنذر وتخوف قوما لم ينذر آباءهم فهم غافلون. والمراد بالقوم هو قريش ومن يلحق بهم. وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم نظرا إلى عموم رسالته. والمراد بالقول الذي حق عليهم. أنه قد وجب العذاب على أكثرهم وذلك لأن الله قد ختم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله (19). وقال تعالى إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة ممن جعل في عنقه غل فجمع يده مع عنقه تحت ذقنه وارتفع رأسه فصار مقمحا ولذا قال تعالى: ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾ أي رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم فهم مغلولون عن كل خير ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ عن الحق ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ عن الحق فهم مترددون (20). و بالجملة غشينا أبصارهم عن الحق فلا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. أي ركبوا طريق الطمس باختيارهم فاستحقوا إضلال الله لهم. و قال في الميزان: المراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء الخلقة مخاطبا بها إبليس ﴿فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ / لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (21) والمراد بتبعية إبليس طاعته بما يأمر به بالوسوسة والتسويل بحيث تثبت الغواية وترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لا بليس: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ / وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (22) ولازمه الطغيان والاستكبار على الحق كما يشير إليه ما قاله تعالى من تساؤل المتبوعين والتابعين في النار ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ / فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ / فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ (23) وقوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ / قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ (24).

 

لازمه الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة بالمرة ورسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: ﴿وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ / ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ / أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (25) فيطبع الله على قلوبهم. ومن آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (26) بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ للتقريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم (27) وقوله تعالى: ­﴿وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ قال المفسرون: أي قد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الانذار ولا يتأثرون

به. وكما قال تعالى: ﴿­حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ / وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ (28) ولا منافاة بين إخباره بأنهم سواء أنذروا أم لم ينذروا وبين إنذارهم. لأن في البلاغ إتماما للحجة (29) ﴿­لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ (30).

 

لقد طالبهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينظروا في الكون نظر المتدبر البصير كي يحطموا الأصنام بأنفسهم تلك الأصنام القابعة على طريق عقولهم ووجدانهم ولكنهم أبوا إلا طريق الآباء يقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ / وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (31) فأهل هذه الآية هم الذين تعاموا عن آيات الله في الكون وأمسكوا ذيول سلفهم على طريق الانحراف. والله تعالى كتب على نفسه أن يصرف عن آياته كل من يعرض عن سبيل الهدى قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (32) قال المفسرون: أي سأضع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق. وقال سفيان: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. وقال ابن جرير: هذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة (33) وقال في الميزان: الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق. كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز. ويراد به الدلالة على وجه الذم. وأن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق وقوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ أي اعتنائهم الشديد ومراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد. واتباع سبيل الغي. بحيث لا يعذرون بخطأ ولا تحتمل في حقهم جهل أو اشتباه (34).

 

لقد جلس معسكر الانحراف في المكان الذي اختاره لنفسه. المكان الذي يكون فيه أضل من البهيمة. وذلك بعد أن صادر سمعه وبصره وفؤاده وألقى بنفسه في أحضان الشيطان يقول تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (35) قال المفسرون: وليست ولايتهم وتصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة والغرور. فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاؤوا وكما أرادوا (36) لقد دعاهم الرسول الأعظم إلى الطهر والنقاء وسعادة الدارين. ولكنهم تعاملوا مع الدعوة كتجار فاعتبروها سلعة كل منهم يحسب مكسبه منها في حالة الاقتراب أو الابتعاد عنها. وفي جميع الحالات يتحرك التجار وفقا لسنة الآباء القومية. وفاتهم أن العقيدة لا تصلح للتجارة ولا تخضع لأكياس النقود.

 

1-  سورة سبأ، الآيات: 43 - 47

2-  الميزان: 389 / 16.

3-  سورة الإسراء، الآيات: 90 - 96.

4-  سورة سبأ، الآية: 9. والآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا.

5-  الميزان: 202 / 13.

6-  الميزان: 205 / 13.

7-  الميزان: 208 / 15.

8-  سورة السراء، الآية: 97.

9-  الميزان: 209 / 15.

10-  سورة الأنعام، الآية: 50.

11-  الميزان: 97 / 7.

12-  سورة الحجر، الآية: 6.

13-  سورة القلم، الآية: 2.

14-  سورة الأنعام، الآية: 10.

15-  سورة الأنعام، الآيتان: 33 - 34.

16-  سورة الطور، الآية: 48.

17-  سورة الحجر، الآيتان: 14 - 15.

18-  سورة يس، الآيات: 3 - 10.

19-  تفسير ابن كثير: 564 / 3.

20-  تفسير ابن كثير: 564 / 3.

21-  سورة ص، الآيتان: 84 - 85.

22-  سورة الحجر، الآيتان: 42 - 43.

23-  سورة الصافات، الآيات: 30 - 32.

24-  سورة الزمر، الآيتان: 71 - 72.

25-  سورة النحل، الآيات: 106 - 108.

26-  سورة يونس، الآية: 96.

27-  الميزان: 64 / 17.

28-  ابن كثير: 565 / 3.

29-  الميزان: 72 / 17.

30-  سورة الأنفال، الآية: 42.

31-  سورة يوسف، الآيتان: 105 - 106.

32-  سورة الأعراف، الآية: 146.

33-  ابن كثير: 247 / 2.

34-  الميزان: 247 / 8.

35-  سورة الأعراف، الآية: 27.

36-  الميزان: 71 / 8.

---------------------------

2 - استعجال العذاب:

على أرض مكة تعالت أصوات طوابير الانحراف وأخذوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانهالت سياطهم وعصيهم على ظهور الضعفاء من الذين آمنوا. وتقدم سادة خيام الانحراف ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بالعذاب إن كان من الصادقين. آخذين في ذلك بسنة آبائهم في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين. كانوا يستعجلون أي عذاب. سواء أكان عذاب في الدنيا أم عذاب الآخرة. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (1) قال المفسرون: أي امطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما. وإنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر. لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن وعذاب الروح بما فيه من الذلة والإهانة (2) لقد استعجل طابور الانحراف العذاب أي عذاب كان. يقول تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ / يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ (3) قال المفسرون: إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. وقال تعالى في استعجالهم للعذاب ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ (4) واستعجالهم للعذاب يدل على كمال جهلهم وفساد فهمهم. لأن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا. واستعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم. لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا. والمراد بالأجل المسمى في الآية هو الذي قضاه الله تعالى لبني آدم. حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ (5) وقال: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (6) وهذا العذاب الذي يحول بينه وبينهم الأجل المسمى. هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة. كما قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ (7). ولا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال وإنظار (8). قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ﴾(9).

 

وأمام استعجالهم للعذاب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بما أجاب به أنبياء الله أقوامهم حين طالبوهم بالعذاب قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا﴾ (10) وقال: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ / قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (11) وقال: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ / قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ /قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ / أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ / ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ / وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ (12) قال المفسرون: سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود.

 

وهو القضاء بينهم في الدنيا. والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ...﴾ الآية. وقول البعض إن السؤال عن عذاب يوم القيامة. أو أن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه (13).

 

فقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. في معنى قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك. أو يأتي بما أوعدنا به إنه يقضي بيننا وبينك. فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك. فيصفوا لكم الجو. ويكون لكم الأرض وتخلصون من شرنا؟

فهل عجل لكم ذلك؟ وذلك إن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء. كما تدل على استعجالهم الآيات التالية في السورة. وهذا نظير قولهم: ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (14). لقن سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأهم في الحواب ببيان. إنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها. ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن يملكه من ضر ونفع. فالأمر لله سبحانه جميعا. واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء والعذاب من الجهل. ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا إجماليا. بالإعراض عن تعيين الوقت والإقبال عن ذكر ضرورة الوقوع. أما الأول: فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وأمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو.

 

وأما الثاني: أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك. بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة. وهي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه. فهو آتيهم لا محالة. وإذا آتاهم لم يخبط في وقوعه موقعة ولا ساعة. وهو قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم فإذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.

 

فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه. ظهر لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها. ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها. ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغي والثواب والعقاب نصيبها. وهي مما اعتنى بها التدبير الإلهي. نظير الفرد من الإنسان.

 

ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ. ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية. وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح وعاد قوم هود. وثمود قوم صالح. وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم. فهؤلاء أمم منقرضة. سكنت أجراسهم.

 

وخمدت أنفاسهم. ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك. ولم يعذبوا إلا بعدما جاءتهم رسلهم بالبينات. ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم. فمنهم من آمن و منهم من كذب به وهم الأكثرون.

 

فهذا يدلهم على أن هذه الأمة. - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضي الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله لبالمرصاد. وعلى الباحث المتدبر. أن يتنبه لأن الله سبحانه وإن بدأ في وعيده بالمشركين. غير أنه تعالى هدد في آياته المجرمين فتعلق الوعيد بهم.

 

ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم. فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم. أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة. فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب. مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى. وقد خاطب المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾(15).

 

وربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا. فذكر أن الأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاؤوا. فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن. ولا في الآخرة إلا المغفرة والجنة؟! ولا يبقى على هذا للملة والشريعة. إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. تعالى عما يقولون علوا كبيرا. فهذا كله من العراض عن ذكر الله وهجر كتابه. وقال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. أما قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ فإنهم لما استعجلوا آية العذاب قال تعالى ملقنا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا﴾ ليلا ﴿أَوْ نَهَارًا﴾ فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ﴾ من العذاب ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ أي ماذا تستعجلون منه. وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا آتاكم. ثم وبخهم على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه. وهو حين نزول العذاب فقال تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ العذاب ﴿آمَنْتُم بِهِ﴾ أي بالقرآن أو بالدين أو بالله. " الآية " أي أتؤمنون به في هذا ﴿آلآنَ﴾ والوقت ﴿وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره وبالإستهزاء به..

 

وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ الخ. فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكهم إياهم.

 

والآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة. ولا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها وذنوبكم التي تحملونها (16).

 

لقد استعجلوا العذاب ولله في خلقه شؤون يقول تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ /أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ / ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ / مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ (17) إن العذاب قادم. أما كيف ومتى فهذا في علم الله ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ / أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ / فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (18) ­﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ / رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (19) اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين. اللهم باعد بيننا وبين القوم الظالمين وصلى الله على نبيك وآله وسلم. لقد استعجلوا العذاب كما أخبر الله تعالى في كتابه في آيات نزلت بمكة واستعجلوه أيضا في آيات نزلت بالمدينة وسيكون لنا حديث آخر مع استعجال العذاب في موضعه بإذن الله تعالى.

 

3 - الخروج من مكة:

لم يدخر معسكر الانحراف جهدا من أجل الصد عن سبيل الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحث المؤمنين به على الصبر. في مواجهه جحافل الليل المغير تحت قيادة الجبابرة الذين ورثوا من قوم نوح تحقير عباد الله.

 

ومن عاد الاستكبار بغير الحق. كان معسكر الانحراف يضرب بالسيف وبالحجر وبلسانه. والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يدافع عن نفسه وعن المؤمنين إلا بالكلمة الطيبة وبالوحي. وظلت جحافل الليل تكيد للإسلام. ولكن كيدهم في كل مرة كان يذهب كما تذهب رغوة جوفاء في خلاء واسع عريض. وتحداهم النبي الأعظم كما تحدى هود عليه السلام قومه أن يكيدوا له. لقد سخر منهم ومن قوتهم لأنهم باطل لا يستند إلا على باطل. وعلى أسماعهم تلى قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ / إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ / وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ (20) قال المفسرون: أي قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي. ثم كيدوني فلا تنظروني ولا تمهلوني. إن ربي ينصرني ويدفع عني كيدكم. فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس. وهو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم.

 

وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة. وأما أربابكم الذين تدعون من دونه. فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم. ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم (21) وأمام هذا التحدي عجز طابور الانحراف في مكة على إحداث أي ضرر في الدعوة أو الداعية رغم محاولاتهم العديدة. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (22) قال المفسرون: أذكر أو ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك. أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما أن يحبسوك وإما أن يقتلوك وإما أن يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. والترديد في الآية بين الحبس والقتل والإخراج. بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان بينهم شورى. تشاور فيها مع بعضهم بعضا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وما كان يهمهم ويهتمون به من إطفاء نور دعوته (23).

 

لقد أرادوا أن تخرج هداية الله من بينهم. والله تعالى لا يريد أن تخرج هدايته إلا بعد أن تبلغ حجته عليهم مداها. فكان ما أراد الله ورد الله كيدهم في نحورهم. وبعد أن أقامت الدعوة حجتها عليهم أمر تعالى رسوله بالخروج من مكة مهاجرا هو والذين آمنوا معه.. ليقف الذين مكروا من قبل لإخراج الرسول على أرضية إخراج الرسل. تلك الأرضية التي ينال من يقف عليها عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة. يقول تعالى في الطابور الذي أخرج الرسول ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ (24) قال المفسرون: المراد بالقرية: أهل القرية. بدليل قوله بعد ذلك: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ وفي الآية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتهديد لأهل مكة وتحقير لأمرهم. فلقد أخبر سبحانه. أنه أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم (25) وفي الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم وكانوا أشد قوة من هؤلاء.

 

فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة (26) وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج بعد أن رفض معسكر الانحراف الهدى. فإن تلاميذ هذا المعسكر قاموا بوضوح الإسلام في صورة المعتدي من يومه الأول. لم يتبين التلاميذ أن طلائع النهار قد تركوا وراء ظهورهم الأرض والأموال وتركوا جحافل الليل تمتع بما تريد. ولم يفهم التلاميذ أن الله كان يمكن أن يخزي أعداء دينه ويمكن لرسوله في مكة. ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لأن صراطه المستقيم يقوم على أن لا إكراه في الدين. لقد رفضوا الدين وعندما أقيمت عليهم الحجة أخرج الرسول من باب الإخراج وليس من باب الخروج. لم يفهم التلاميذ ذلك لأنهم يسيرون في طريق الطمس وطريق القهقري الذي يتجه إلى الآباء وليس فيه علم يرى. بل أهواء يلوكها ذئاب الطابور الأول ثم تتلقفها كلاب الطابور الأخير.

 

1-  سورة الأنفال، الآية: 32.

2-  الميزان: 67 / 9.

3-  سورة العنكبوت، الآيتان: 53 - 54.

4-  سورة هود، الآية: 8.

5-  سورة البقرة، الآية: 36.

6-  سورة الأعراف، الآية: 34.

7-  سورة الكهف، الآية: 58.

8-  الميزان: 141 / 16.

9-  سورة الإسراء، الآية: 59.

10-  سورة الجن، الآية 25.

11-  سورة النعام، الآيتان: 134 - 135.

12-  سورة يونس، الآيات: 48 - 53.

13-  الميزان: 72 / 10.

14-  سورة الحجر، الآية: 7.

15-  سورة النساء، الآية: 123.

16-  الميزان: 75 / 10.

17-  سورة الشعراء، الآيات: 204 - 207.

18-  سورة الزخرف، الآيات: 41 - 43.

19-  سورة المؤمنون، الآيتان: 93 - 94.

20-  سورة الأعراف، الآيات: 195 - 197.

21-  الميزان: 378 / 8.

22-  سورة الأنفال، الآية: 30.

23-  الميزان: 67 / 9.

24-  سورة محمد، الآية: 13.

25-  الميزان 232 / 18.

26-  ابن كثير: 175 / 4.