المعاطاة

اتفق فقهاء المذهب الجعفري على أن مجرد التراضي بدون التعبير عنه بقول أو فعل لا يتم به البيع ولا غيره من العقود أي ان السبب الموجب الترتيب الآثار هو انشاء التراضي والتعبير عنه لا نفس التراضي من حيث هو ([1]) .

قال السيد صاحب العروة الوثقى في حاشية المكاسب ص 64 طبعة 1324 هـ: «يعتبر في حقيقة البيع أن يكون بايجاب خارجى من لفظ أو اشاره أو كتابة أو تعاطٍ من الطرفين أو أحدهما فلو أنشأ التمليك في قلبه وقبل المشتري لا يكون بيعاً حقيقياً بل الظاهر أن الأمر كذلك في جميع العقود والايقاعات». وعلى هذا يحمل قول الإمام الصادق عليه‏السلامانما يحلل الكلام ويحرم الكلام .

وايضاً اتفقوا على أن الصيغة اللفظية الكاشفة عن التراضي بتم بها البيع وغيره من المعاملات بل هي افضل الطرق واكملها للكشف والتعبير .

واختلفوا في ان البيع: هل يتحقق اذا عبر عنه بالفعل الكاشف لا بالقول المؤلف من الايجاب والقبول ومثال ذلك أن يحصل السوم بين اثنين وبعد التفاق على الثمن دفعه المشتري لصاحب السلعة فقبضه راضياً واعطاه السلعة بدون تلفظ بايجاب وقبول والفقهاء يسمون هذا النوع بيع المعاطاة لأنها مبادلة بالاخذ والاعطاء من الطرفين بقصد التمليك والتملك مع استجماع هذه المبادلة لكل ما يشترط في البيع ما عدا التلفظ بالايجاب والقبول.. هذا اذا صدق على كلٍ من الطرفين أنّه آخذ ومعطٍ في آن واحد أما الاعطاء أو الاخذ من جانب واحد كقبض الثمن دون المثمن والعكس فيأتي الكلام عنه .

ثم ان بيع المعاطاة من صغريات المسألة التي تكلمنا عنها في الفصل السابق فقرة «العقد والفعل» حيث كان الكلام هناك عن مطلق العقد والمعاملات بيعاً كانت أو غيرها وهنا عن البيع فقط. وعلى اية حال فان علماء الفقه الجعفري اختلفوا في المعاطاة على أقوال أنهاها الشيخ الانصاري في كتاب المكاسب إلى ستة وعمدتها أربعة كما قال الميرزا النائيني في تقريرات الخوانسياري :

القول الأول: أنها تفيد الملك اللازم وإليه ذهب المفيد وشيخ الطائفة وجماعة آخرون .

القول الثاني: أنها تفيد الملك الجائز وبه قال الشيخ علي الكركي المعروف بالمحقق الثاني وكثيرون ممن تأخروا عنه وبلغوا المراتب العليا من العلم والشهرة كالسيد «أبو الحسن الأصفهاني» والميرزا حسين النائيني والسيد محمد بحر العلوم وغيرهم حتى قبل: انّه المشهور بين المتأخرين. قال السيد الأصفهاني في وسيلة النجاة الكبرى: «الاقوى ان المعاطاة تفيد الملك ولكنها جائزة من الطرفين ولا تلزم إلاّ بتلف أحد العوضين أو التصرف المغيّر للعين والناقل لها أو موت أحد المتعاقدين» .

وقال السيد بحر العلوم في البلغة: «القول بافادة المعاطاة الملك المتزلزل دون الباحة المجردة هو الاقوى» .

وقال النائيني في تقريرات الخوانساري ص 49: «الاقوى أن يقال: ان التعاطي بقصد التمليك يفيد الملك الجائز لأن هذا هو مقتضى القواعد الشرعية والادلة المأثورة» .

القول الثالث: ان المعاطاة تفيد الاباحة المطلقة الشاملة لجميع التصرفات حتى التصرف المتوقف على الملك كالبيع والعتق ووط‏ء الجارية حيث لا بيع ولا عتق ولا وط‏ء إلاّ في الملك. وقد نسب هذا القول إلى المشهور عند الفقهاء المتقدمين .

القول الرابع :أنّها تفيد إباحة نوع خاص من التصرف وهو الذي لا يتوقف على الملك فاذا اشترى عبداً أو جارية بالمعاطاة جاز استخامهما ولا يجوز له بيعهما ولا وط‏ء الجارية .

واتّفق القائلون بالملك الجائز والاباحة على أنّه مع تلف الثمن والمثمن تصبح المعاطاة لازمة تماماً كالبيع المنشأ بالصيغة.. قال صاحب مفتاح الكرامة في كتاب المتاجر ص 157: «ولا خلاف عندهم ـ أي عند الفقهاء ـ في أنّه لو تلفت العين من الجانبين صار البيع لازماً وانما الكلام في تلف أحدهما». وقال صاحب الجواهر: «لا ريب ولا خلاف في أن المعاطاة تنتهي إلى اللزوم وان التلف الحقيقي أو الشرعي للعوضين معاً باعث على اللزوم» .

وقد ذكرت هذه الاقوال الأربعة في المعاطاة مفصلة مع ادلتها في أكثر كتب الفقه الجعفري كالحدائق والجواهر وبلغة الفقيه والمكاسب وتقريرات الخوانساري ومفتاح الكرامة وغيرها وبالرغم من هذا كله نسب العلامة السنهوري إلى المذهب الجعفري القول بعدم جواز المعاطاة ونقل كلمات متقطعة اقتطفها من صفحة 151 و154 و163 ومن ج 4 مفتاح الكرامة مع أن الأقوال التي نقلناها موجودة في هذه الصفحات بالذات وفيما بينها من صفحات فقد ذكرها صاحب المفتاح صراحة مع أدلتها كما ذكر هو وصاحب الجواهر أن القائلين بالاباحة قالوا بان المعاطاة تنتهي إلى اللزوم قهراً بتلف العوضين كما أشرنا. وبهذا يتبين أن قول العلامة السنهوري: «المذهب الجعفري لا يجيز المعاطاة» يبعد اقصى البعد عن التعبير العلمي الأمين الذي يجب فيه مراعاة الدقة والحذر في كل لفظة من ألفاظه بخاصة في مقام النقل.. وقد يوجه قول الدكتور بأنه لما رأى أن أكثر المتقدمين من فقهاء هذا المذهب يقولون بأن المعاطاة تفيد الاباحة نسب إليهم القول بعدم الجواز من الاساس ولكن هذا التوجيه ـ كماترى ـ لا يتفق واسلوب أهل التحقيق والتدقيق بخاصة الكبار منهم كالسنهوري.. والعصمة للّه‏ .

____________________________________________

[1] قد يكون مجرد الرضا سبباً للاباحة كتصرف الانسان في بعض أموال قريبه وصديقه بما جرت عليه العادة والفقهاء يعبرون عن مثله باذن الفحوى.. ونقل عن الشيخ الطوسي الكبير أن النذر والعهد ينعقد ان بمجرد النية. والتفصيل يرجأ إلى محله ان شاء اللّه‏ .

 

 

وأصح الأقوال الأربعة القول بأن المعاطاة تفيد الملك اللازم وقد ذهب إليه من القدماء المفيد شيخ الطائفة (ت 413 هـ) ومن المتأخرين السيد صاحب العروة الوثقى (1337 هـ) واستدل هذا السيد في حاشية المكاسب باربعة أدلة ننقلها فيما يلي بشيء من التصرف في الشكل والصورة مع الاحتفاظ بالمحتوى والمضمون :

1 ـ ان المعروف من سيرة أهل الدين والدنيا خلفاً عن سلف منذ عهد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلمإلى زمننا انهم يعاملون المأخوذ بالمعاطاة معاملة المأخوذ بالصيغة اللفظية بدون ادنى تفاوت وان النبي والاصحاب والأئمة والعلماء والناس كافة يتصرفون بالهدايا والعطايا تصرف الملاك باملاكهم دون اجراء الصيغة مع العلم بأنّه لافرق بينها وبين البيع .

2 ـ ان فقهاء المذهب الجعفري قد اجمعوا على أن المأخوذ بالمعاطاة تجوز فيه جميع التصرفات وليس من شك ان القول بجواز التصرفات بكاملها لا يجتمع مع القول بدعم الملك إلاّ ببعض التوجيهات الباطلة التي لا ينبغي ان تصدر من فقيه .

3 ـ ان مسألة المعاطاة ترجع في الحقيقة إلى الشك في أن الصيغة للفظية: هل هي شرط في انعقاد البيع أو لا؟. ولا دليل على هذا الشرط وعدم الدليل في مثل هذه المسألة دليل على العدم لأنه لو كان لوجب على الشارع البيان مع أنّه لم يصل إلينا لا من طريق السنة ولا من طريق الشيعة مع توافر الدواعي والبواعث على النقل بخاصة في هذه المسألة وما إليها .

4 ـ ان المأخوذ بالمعاطاة يصدق عليه اسم البيع عرفاً ولغة ولم تثبت الحقيقة الشرعية للبيع واذا صدق اسم البيع على المعاطاة شملها جميع ما دل على الصحة من الآيات والروايات مثل قوله تعالى: أَحَلَّ اللّه‏ البَيْعَ.. وَتِجارَةً عَن تَرَاضٍ وَأَوْفُوا بِالعُقُودِ. ومثل قول الرسول الأعظم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم: المؤمنون عند شروطهم.. والناس مسلطون على أموالهم.. وغير ذلك من الأدلة على صحة البيع بل ولزومه أيضاً.

وملخص هذا الدليل الرابع الذي وصفه السيد بأنّه العمدة والأصل في هذا الباب ملخصه أنّا نعلم علم اليقين بأن الشارع قد أمضى البيع العرفي ونعلم أيضاً أن للبيع العرفي فردين: بيع بالصيغة اللفظية وآخر بالمعاطاة وان الفرد الأول مراد للشارع قطعاً لأنه محل وفاق أما الفرد الثاني فنشك: هل هو مراد له أو لا؟ لمكان الاختلاف فيه بين الفقهاء ولكن قول الشارع: أحل اللّه‏ البيع وما إليه الظاهر بكلا الفردين على السواء يثبت أن البيع بالمعاطاة مراد له تماماً كالبيع بالصيغة ولو اراد البيع بالصيغة فقط لم يتكلم بما هو ظاهر بالفردين معاً لأنه والحال هذه قد اراد شيئاً خاصاً وتكلم بما هو أعم منه وهذا عين الاغراء بالجهل الذي يتنزه عنه الحكماء .

هذا إلى أن المعاطاة في هذا العصر قد انتشرت وعمت أكثر نواحى الحياة فبها يشتري الناس ما يحتاجون من مأكل وملبس واثاث لا يفرقون في ذلك بين الحقير والخطير وبها ينزلون في الفنادق ويشتركون بالماء والكهرباء والهاتف ويركبون الطائرات والسيارات وما إلى ذلك مما يتعاطون به على سبيل اللزوم وعدم جواز الرجوع حتى قبل التلف والتصرف الناقل وكل ما تباني عليه العرف فهو صحيح ونافذ بخاصة اذا عملت به البلوى إلاّ أن يرد فيه نهي خاص أو يحلل حراماً أو يحرم حلالاً ولا آية أو رواية تشعر من قريب أو بعيد بالنهي عن المعاطاة أو عن أحداث معاملة جديدة بل ان مثل هذه المعاملة يتفق كل الاتفاق مع مبادى‏ء الشريعة السهلة السمحة .

وما دامت الأدلة تدل على أن المعاطاة تفيد الملك اللازم يتحتم أن تترتب جميع آثار الملك على العين المأخوذ بالتعاطي من جواز البيع والهبة والعتق والانتقال إلى الوارث وعليه فلا يبقى موضوع للثمرات التي فرعها الفقهاء على الفرق بين القول بافادة المعاطاة للاباحة وبين القول بافادتها للملك .

وبعد أن ذكر الفقهاء الاقوال في المعاطاة وادلتها وما قيل حولها وما يمكن أن يقال وما يتفرع على ذلك مما يكشف عن شدة مراسهم في الجدال والنقاش وتمرن افكارهم حتى أصبح لهم طبيعة ثانية بعد هذا كله ذكروا تنبيهات ضمنوها فوائد تتصل بالموضوع ونلخصها فيما يلي :

 

 

ليس من شك في أن المعاطاة تصدق بأوضح معانيها على الاخذ والاعطاء من الجانبين بحيث يكون كل منهما آخذاً ومعطياً في آن واحد.. وهل تصدق المعاطاة على الاعطاء من جانب واحد فقط كما لو كان المثمن حالاً والثمن مؤجلاً أو بالعكس ثم لو افترض ان هذا النوع لا يصدق عليه اسم المعاطاة لأنه فعل من جانب واحد وهي مفاعلة من جانبين فهل نعطيه حكم المعاطاة الحقيقية ونرتب عليه جميع احكامها بحيث يكون خارجاً عنها موضوعاً وداخلاً فيها حكماً ؟

الجواب  :

ان هذا النوع من المعاملة لا يدخل في المعاطاة موضوعاً ولا يصدق عليه اسمها وعنوانها حقيقة وواقعاً لأن المعاطاة مفاعلة من الجانبين وليست فعلاً من جانب ولكن لفظ المعاطاة وتحديد معناها لايهم الفقهاء لأنّهم يهتمون بخصوص الالفاظ التي جاءت على لسان الشارع والمفروض ان المعطاة لم ترد في آية ولا رواية وانما الذي جاء في دليل الشرع هو لفظ البيع وتكلم الفقهاء عن المعاطاة لأن اسم البيع يصدق عليها لذا اعطاها البعض اسم البيع وحكمه لعموم الدليل والبعض الآخر اسم البيع دون حكمه مدعياً تخصيص الدليل فالعبرة اذن بالدليل عند الجميع لا باسم المعاطاة. والدليل الشرعي لم يفرق في الحكم بين الاعطاء من جانب او من جانبين بعد صدق اسم البيع على الاثنين.. اذن فحكم الاعطاء من جانب هو حكم الاعطاء من الجانبين وان لم يصدق عليه اسم المعاطاة حقيقة وان شئت قلت: انّه خارج عن المعاطاة موضوعاً داخل فيها حكماً .

وبهذا نجد تفسير قول الشيخ الانصاري في المكاسب: «لاريب أنّه لا يصدق على الاعطاء من جانب واحد معنى المعاطاة ولكن هذا لا يمتع من اجراء حكمها عليه بناء على عموم الحكم لكل بيع فعلي فيكون اقباض أحد العوضين تمليكاً أو مبيحاً بعوض وأخذ الآخر تملكاً أو اباحة» .

وعلق السيد اليزدي في حاشيته ص 47 على ما قاله الانصاري حلو هذه المسألة علق بقوله: «لا حاجة إلى هذا التطويل بعد أن كان المناط هو شمول الدليل الشرعي لا صدق عنوان المعاطاة ومن المعلوم عدم الفرق في شمول الدليل لما يكون من طرفين أو من طرف واحد» .

وقال صاحب الجواهر: «لا يخفى عليك أن لفظ المعاطاة لم يرد في النص حتى يكون الحكم تابعاً له وحينئذ فلا يشترط قبض العوضين بل يكفي قبض احدهما كما نص عليه الشهيد الكركي» .

وهذا الاقوال وكثير غيرها للفقهاء صريحة في أن حكم الاعطاء من جانب كحكمه من الجانبين على الرغم من اختلافهم في أن المعاطاة تفيد الملك أو الاباحة .

 

 

هل يجب أن تتوافر في المعاطاة جميع الشروط المعتبرة في العقد ما عدا الايجاب والقبول اللفظيين بحيث يشترط في معاطاة البيع ما يشترط في عقده وفي معاطاة الاجارة ما يشترط في عقدها وهكذا كل معاملة تقع فيها المعاطاة فاذا فقد شرط تفسد المعاطاة ولا تصح أو لا يجب اجتماع الشروط بكاملها بل يكفي التراضي.. وتظهر الثمرة فيما لو كان العوضان أو أحدهما غير معلوم في البيع مثل أن يقول المشتري للخباز: اعطني بهذه الليرة خبزاً وهو لا يعلم بكم الرغيف أو يقول له بعني ما عندك من الخبز بما في جيبي من الدراهم أو يشترى بثمن إلى أجل غير مسمى فاذا قلننا بأن المعاطاة لا بد فيها من توافر الشروط كاملة تكون هذه المعاملة فاسدة حيث اتفق الفقهاء على أن العلم شرط في العوضين بالبيع وان قلنا بالعدم لأن المعاطاة معاملة مستقلة برأسه عن البيع وسائر العقود أمكن القول بصحة هذه المعاملة .

قال صاحب مفتاح الكرامة: في المسألة قولان. ثم اختار بأن المعاطاة لا يشترط فيها ما يشترط في العقد واستشهد باقوال جماعة من الفقهاء .

أما نحن فبعد أن اخترنا وقلنا: ان المعاطاة فرد من البيع واعطيناها جميع احكامه تحتم أن تعطيها جميع شروطه وكذلك الشأن في سائر العقود بدون فرق بين العلم بالعوضين وغيره لأن الدليل الذي دل على اعتبار الشرط لم يفرق بين وقوع المعاملة بالصيغة اللفظية أو بالفعل وعلى هذا تكون المعاطاة باطلة اذا لم تتوافر فيها جميع الشروط التي لا بد منها في العقد .

 

 

من باع سلعة بنقد فصاحب السلعة هو البائع ودافع النقد هو المشتري وكذلك اذا باع سلعة بثمن معين ثم أخذ من المشتري بدلاً عنه سلعة بمقدار الثمن. واذا بادل سلعة بسلعة لا بقصد الثمن والمثمن بل بقصد المعاوضة والمقايضة فهل تصح هذه المعاملة أو لا؟ وعلى افتراض صحتها فهل تقع بيعاً او صلحاً أو معاملة مستقلة برأسها؟. وعلى افتراض صحتها بيعاً فايهما البائع؟. وأيهما المشتري؟. أو أن كلاً منهما بائع من جهة ومشترٍ من جهة .

وقد تعددت في ذلك الاحتمالات والاقوال ومال الشيخ الانصاري إلى صحة هذه المعاملة بيعاً وان البائع من اعطى سلعته أولاً لأنه بهذا الاعطاء يكون موجباً وآخذها يكون مشترياً لأنه بهذا الاخذ يصير قابلاً. وقال السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: تقع صلحاً لأن فيها معنى المسالمة. وقال الشيخ النائيني: هي باطلة من الاساس لأن المتبادلين قصدا البيع دون سواه ولا يمكن أن تتصف هذه المعاملة بالبيع بحال لعدم معرفة البائع وتمييزه من المشتري كما أنه لا يمكن أن يكون كل من الطرفين بائعاً من جهة ومشترياً من جهة لأنه متى حصل الايجاب والقبول مرة واحدة لا يبقى لهما محل ثانية اذ هو تحصيل للحاصل وأما عدم الاتصاف بغير البيع من المعاملات فلان غير البيع لم يقصد اطلاقاً فالقول بوقوعه مع عدم القصد معناه أن ما يقصد لم يقع وما وقع لم يقصد ولا ملتزم تذلك .

هذا ملخص الاقوال في هذه المسألة.. والحق أنها صحيحة ولازمة اذا صدرت من ذوي الاهلية وكان العوضان قابلين للتمليك والتملك ومعلومين عند الطرفين أما التسمية فانها وسيلة لا غاية فليسمها من شاء بما شاء بيعاً أو صلحاً أو تقايضاً أو نحو ذلك ما دامت لا تحلل حراماً ولا تحرم حلالاً .

 

 

يجب ان لا ننسي ان السبب الموجب لصحة المعاطاة في البيع ليس المعاطاة بذاتها وبما هي وانما السبب هو صدق اسم البيع وعنوانه على المعاطاة فيه وشمول ادلته لها وعمل العقلاء بها والمضي عليها اذن فكل معاطاة يصدق عليها اسم عقد من العقود كالاجازة والهبة أو اسم ايقاع من الايقاعات كل هذه تصح وتكون فرداً للعقد أو الايقاع الذي صدق عليها وتشمله ادلته حتى يثبت العكس تماماً كما هى الحال في البيع واذا لم يصدق عليها اسم عقد أو ايقاع تكون المعاطاة باطلة لأنّا نشك في صحتها والاصل عدم ترتب الاثر هذا هو الضابط المبدأ العام الذي اتخذه الفقهاء أو أكثرهم لصحة المعاطاة في غير البيع.. ولنا مسلك آخر نشير إليه قريباً .

وعلى اساس هذا الضابط قالوا: ان المعاطاة تجري في الاجارة والهبة والقرض العارية والوديعة والمزارعة والمساقاة لصدق اسم الاجارة على المعاطاة في الاجارة والقرض على المعاطاة في القرض والهبة على المعاطاة فيها الخ فتشملها أدلة هذه العناوين كما أن سيرة العقلاء مستمرة على ذلك منذ القديم أما الزواج فلا تجري فيه المعاطاة لعدم صدق اسم الزواج على المعاطاة فيه من الاساس او لأنه لا أثر لهذا الصدق على تقرير وجوده لمكان الاجماع ونص الكتاب والسنة بل وضرورة الدين ومثله الوصية والايصاء والطلاق والظهار واللعان والايلاء والعتق والضمان والكفالة لأن هذه تتقوم بالقول والصيغة اللفظية ولا توجد بدونها تماماً كالزواج .

أما الوقف فتصح المعاطاة فيه اذا كان على جهة عامة كالمساجد والمقابر والمصحات ولا تصح اذا كان على جهة خاصة كالوقف على الذرية وما إليها . واختلفوا في الرهن فبعضهم اشترط الصيغة واكتفى آخرون بالمعاطاة فيه. وباقي الكلام على كلٍ في بابه إن شاء اللّه‏ .

وهذا التفصيل ـ كما ترى ـ يرتكز على مبدأ حصر العقود بالمسماة فقط أما على مبدأنا نحن من أن جميع المعاملات ما حدث وما سيحدث جائزة ما لم تحلل حراماً أو تحرم حلالاً ـ أما على هذا المبدأ فان المعاطاة تجوز في كل شيء وان لم يصدق عليها عقد أو ايقاع معهود ومعروف على شريطة أن يتحقق التراضي واهلية العاقدين والعوضين وان لا تتنافي المعاملة مع شيء من مبادى‏ء الشريعة الغراء .