في الذرة و النمل و أسد الذباب و العنكبوت و طبائع كل منهما

قال المفضل فقلت قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر فصف لي الذرة و النملة و الطير فقال ع يا مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عما فيه صلاحها فمن أين هذا التقدير و الصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق و كبيره انظر إلى النمل و احتشاده في جمع القوت و أعداده فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك من الجد و التشمير ما ليس للناس مثله أ ما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم فإن أصابه ندي أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها و كل هذا منه بلا عقل و لا روية بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله جل و عز انظر إلى هذا الذي يقال له الليث و تسميه العامة أسد الذباب و ما أعطي من الحيلة و الرفق في معاشه فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به فإذا رأى الذباب قد اطمأن و غفل عنه دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث تناله وثبته ثم يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف و استرخى ثم يقبل عليه فيفترسه و يحيى بذلك منه فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا و مصيدة للذباب ثم يكمن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب أحال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه فذلك يحكي صيد الكلاب و الفهود و هذا يحكي صيد الإشراك و الحبائل فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة و استعمال الآلات فيها فلا تزدرى بالشي‏ء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة و النملة و ما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشي‏ء الحقير فلا يضع منه ذلك كما لا يضع من الدينار و هو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد