إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من الآية

فصل

 

مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه المعني بالمدحة فيها، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه.

وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه، وعرفها كافة عباده، بما يوجب لهم العلم بحقائقها، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد:

فأولها: وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله.

وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول:

" لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "(1) فأعطاها عليا عليه السلام، ولم

____________

(1) تقدم مع تخريجاته في ص 34.

 

الصفحة 133 

يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الأحوال، بل مجئ هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام، واتباعه بوصف الكرار دون الفرار، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر، وألزمهما ذم الفرار.

وثانيها: وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين، حيث يقول جل اسمه: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم }(1).

وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين، ونكايته في المشركين، وغلظته على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين، ورأفته بالمؤمنين، ورحمته للصالحين.

ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية، أو الظن دون اليقين، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام، ولا بارز قرنا، ولم ير له(2) موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله(3)، ولا نازل بطلا، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما، ولا كان له فيهم جريح، ولم يزل من قتالهم هاربا، ومن حربهم ناكلا، وكان على المؤمنين غليظا، ولم يكن بهم رحيما.

____________

(1) سورة المائدة 5: 54. - (2) (بارز.. له) ليس في أ، ب، م.

(3) في ب، زيادة: ولا بارز قرنا.

 

الصفحة 134 

ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام وما أدخله من الذل على ولدها، وما صنع بشيعتها(1)، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم(2)، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين.

فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.

ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية(3) من الذكر الحكيم ينعت(4) أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالانفراد بها من العالمين.

فقال جل اسمه: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }(5).

فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي

____________

(1) للتوسع في هذا البحث راجع الشافي 4: 57 - 123، تقريب المعارف: 163 - 168، الصراط المستقيم 2: 282 - 302، نهج الحق: 265 - 272.

(2) في أ: الذميم.

(3) في ب، ح، م: ثم خرج به جل اسمه بما وصله في الآية.

(4) في ب، ح، م: حازه بدل (بنعت).

(5) سورة المائدة 5: 55: 56.

 

الصفحة 135 

بكر على ما بيناه.

فصل

 

ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من بعده، حيث جاءه سهيل بن عمرو(1) في جماعة منهم، فقالوا: يا محمد، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لتنتهن - يا معشر قريش - أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضر بكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ".

فقال له بعض أصحابه: من هو - يا رسول الله - أبو بكر؟!

فقال: " لا " فقال: فعمر؟! فقال: " لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة " وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى عليه وآله في الحجرة(2).

وقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: " تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين "(3)

____________

(1) سهيل بن عمرو بن عبد شمس، القرشي العامري من لؤي، خطيب قريش وأحد ساداتها في الجاهلية، أسلم يوم الفتح بمكة، وهو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية. توفي بالشام في 18 هـ. " سير أعلام النبلاء 1: 194 / 25، الجرح والتعديل 4: 245 / 1058، صفوة الصفوة 1: 731 / 112، الإصابة 3: 146 / 3566 ".

(2) إرشاد المفيد: 64، صحيح الترمذي 5: 634 / 3751، مستدرك الحاكم 2: 125 و 137، مسند أحمد 3: 82، مناقب ابن المغازلي: 438 - 440، دلائل النبوة للبيهقي 6: 435.

(3) مستدرك الحاكم 3: 139، أسد الغابة 4: 33، تاريخ بغداد 13: 187، مجمع الزوائد 6:

235، مناقب الخوارزمي: 122 و 125، الطرائف: 104 / 154، فرائد السمطين 1:

282 / 221.

 

الصفحة 136 

وقول الله عز وجل: { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون }(1).

وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: منهم بعلي منتقمون(2) وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل(3).

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام خاصة على ما بيناه.

وقد صح أنه المراد بقوله تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }(4) على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.

فصل

 

على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا، لم نجد في(5) ذلك أكثر من الأخبار

____________

(1) سورة الزخرف 43: 41.

(2) (وهي في.. منتقمون) ليس في ب، ح.

(3) أنظر الفرودس 3: 154 / 4417، شواهد التنزيل ج 2: 151 - 155، الدر المنثور 7: 380.

(4) سورة المائدة 5: 54.

(5) في أ، ب، م: نفي.

 

الصفحة 137 

بوجود بدل من(1) المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.

ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له، وقال لهم: يا هؤلاء، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني، ويجاهد معي على الاخلاص في النصحية لي، ولا يخالف أمري.

لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه.

وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك، ورجع بالخيبة حسيرا، ومن الله نسأل التوفيق.

____________

(1) في أ، ب، م: بوجوده يدل على. وزاد عليها في ب، م: أن.