الباب السابع في شئ مما ورد في فضائله عليه السلام المنبهة على تعديله

الصفحة 151 

 

واعلم أن ما نذكر منها قطرة من بحار متلاطمة أمواجها، وشذرة من قطار متلازمة أصولها وإنتاجها، نشت حيث ارتضعت عن حكمة رب الجلالة، وفشت حين تكلمت بهداية المخصوص بالرسالة، فحصر كل باغ الاحصاء عن حصرها، و قصر كل باع الاستقصاء من قصرها، فمن رام ذلك فقد رام مس الشمس، ورد ما فات بالأمس، وبالجملة فهذا باب واسع لا يتأدى لموافق حصره، ولا يتهيأ لمنافق ستره، وقد روى مسلم والبخاري حديث خروج النبي في مرضه إلى عزل أبي بكر عن صلاته أنه خرج بين رجلين أحدهما الفضل ورجل آخر وكان عليا فلم تذكره عايشة باسمه طلبا لإعفاء رسمه.

وقال معاوية لابن عباس: كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي فكف لسانك، قال أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا، قال: فعن تأويله، قال: نعم، قال:

أفنقرأه ولا نسأل؟ قال: سل عن غير أهل بيتك، قال: فإنه منزل علينا أفنسأل غيرنا أتنهانا أن نعبد الله فإذن تهلك الأمة قال: اقراؤا ولا تأولوا ما أنزل الله فيكم فقال:

(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم(1)) ثم نادى: برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي.

وقال ابن شداد الليثي: وددت أن أحدث بفضائل علي يوما وأن عنقي ضربت فكانوا يقولون: قال رجل من قريش ويقول ابن أبي ليلى: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ويقول الحسن: قال أبو زينب. وسئل ابن جبير عن حامل اللواء فقال: إنك لرخي البال.

قال ابن شهرآشوب: صاحب المصالت، قيل: الزم السنة تدخل الجنة قال:

____________

(1) الصف: 8.

الصفحة 152 

وما السنة؟ قال: حب أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ولعن أبي تراب، قال هو الذي كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال صار اليوم خارجيا، ونهى معاوية عن تسميته فسمى موسى بن رباح ابنه عليا فذبح في حجره.

وكتب معاوية إلى عماله لا تجيزوا شهادة شيعي. وقال بعض الشيعة لمالك:

كم جزية ذمي. قال: دينار، قال: فهنا ديناران على أن أذكر الحق فأبى.

قال المعتمر بن سليمان: سمعت أبي يقول: كان في أيام بني أمية ما أحد يذكر عليا بخير إلا قطع لسانه، وفي كتاب المبرد كانوا يرجمون أبا الأسود الدئلي بالليل فشكاهم إلى رؤسائهم، فقالت العامة: الله يرميه، فقال: لو رماني لما أخطأني.

واجتمعوا لقتل رجل قال علي خير من معاوية وقتل.

تذنيب:

ذكر الراوندي في خرائجه في خبر طويل عن الأعمش أنه صلى إلى جانب رجل فلما سجد سقطت عمامته فإذا رأسه رأس خنزير فسأله عنه فقال كنت مؤذنا وكلما أصبحت لعنت عليا ألف مرة فلعنته يوم جمعة أربعة آلاف ونمت فرأيت القيامة والنبي وعليا وولديه يسقون الناس فقال لي النبي صلى الله عليه وآله عليك لعنة الله أتلعن عليا؟ ثم بصق في وجهي وقال: قم غير الله ما بك من نعمة فانتبهت كما ترى.

وقد بذل معاوية لسمرة بن جندب أربع مائة ألف درهم على يجعل قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها(1)) في علي (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(2)). في ابن ملجم ففعل ذلك، ذكره السيد ابن طاووس في الرد على الجاحظ، وقال الشعبي: كنت أسمع خطباء بني أمية يسبون عليا فكأنما يشال بضبعيه إلى السماء، ويمدحون أسلافهم فكأنما يكشفون على جيفة.

وقال بعض البلغاء: أصبح المختلفون مجتمعين على مدحه فيقول العدو

____________

(1) البقرة: 205.

(2) البقرة: 207.

الصفحة 153 

اضطرارا ما يقوله الولي اختيارا.

وأسند ابن مردويه في كتاب المتون إلى عائشة كان أبو بكر يديم النظر إلى علي فقيل له في ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: النظر إلى علي عبادة، و روى نحوه ابن مسعود ومحمد بن حصين وجابر وأنس وأبو هريرة عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله وروت نحوه معاذة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله.

فقد سخر الله خلقه لنقل فضائله وما فيه الحجة عليهم من دلائله، فصنف ابن جرير كتاب الغدير، وابن شاهين كتاب المناقب، وابن [ أبي ] شيبة كتاب أخباره وفضائله، والجاحظ كتاب العلوية في فضايل بني هاشم على بني أمية، و الأصفهاني كتاب منقبة المطهرين وما أنزل من القرآن في أمير المؤمنين، وأبو - المحاسن الرؤياني كتاب الجعفريات والموفق المكي كتاب الأربعين في فضائل أمير المؤمنين، وابن مردويه كتاب رد الشمس في فضائل أمير المؤمنين، والشيرازي نزول القرآن في شأن أمير المؤمنين، والمؤذن كتاب الأربعين في فضائل فاطمة، و ابن حنبل مسند أهل البيت والنطنزي [ في ] الخصائص العلوية على سائر البرية وابن المغازلي كتاب المناقب، والبستي كتاب المراتب، والبصري كتاب الدرجات، والخطيب كتاب الحدائق.

وفي حديث الدوانيقي كم تروي في علي حديثا فقال: عشرة آلاف، قال رجل لابن عباس ما أكثر مناقب علي إني لأحسبها ثلاثة آلاف، فقال أولا تقول:

هي إلى ثلاثين ألف أقرب.

قال المرتضى: سمعت عمر ابن شاهين وهو شيخ مقدم في الرواية يقول: جمعت من فضائل علي ألف جزء، وقال ابن حنبل ما جاء لأحد من الصحابة ما جاء لعلي وروى المطرزي عن الخوارزمي مسندا إلى ابن عباس قول النبي صلى الله عليه وآله: (لو أن الغياض أقلام، والبحار مداد، والجن حساب، والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي ابن أبي طالب).

 

[ أبا حسن لو أن ذا الخلق تاجروا        بحبك يا مولاي ما كان أخسروا

 

الصفحة 154 

 

ولو كانت السبع السماوات كاغدا؟       وكانت بعون الله تطوى وتنشر

وكانت جميع الإنس والجن كتب        وكان مداد القوم سبعة أبحر

ولو كانت الأشجار جمعا بأسرها         تقصص أقلام وتبرى وتحضر

لكلت أياديهم وأفنى مدادهم    وما حصلوا معشار من فضل حيدر ]

 

وأسنده ابن شهرآشوب إلى الزمنى إلى الليث إلى مجاهد إلى ابن عباس وروى الخوارزمي عن الصادق عليه السلام قول النبي صلى الله عليه وآله (جعل الله لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى، فمن ذكر له فضيلة مقرا بها غفر الله له [ ما اكتسب ] ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين، ومن كتبها لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام لكتابته رسم، ومن استمع إليها غفر له ما اكتسب بالسماع، ومن نظر إلى كتاب في فضائله غفر الله له ما اكتسب بالنظر) وقد عرفت نقل الفريقين، وشهادة الخصمين.

قال ابن عبد البر: فضائله لا يحيط بها كتاب، ونحوه قال النشوي والخطيب الخوارزمي، فهذه الشهادة خرق العادة حيث صدرت من المايل إلى الكتمان واستمرت على مرور الأزمان.

 

نشرت حيلة قريش فزادته       إلى صحة القيامة قيلا

وروى فضله المعاند حتى       زاده ما روى علوا ونبلا

 

وقال الآخر:

 

شهد الأنام بفضله حتى العدا    والفضل ما شهدت به الأعداء

فتلألأت أنواره لذوي النهى     وتزحزحت عن غيها الظلماء

يروي مناقبهم لنا أعداؤهم       لا فضل إلا ما رواه حسود

وإذا رواها مبغضوهم لم يكن   للعالمين على الولاة محيد

 

وسأذكر فصلا مفصلا فيه انتساب فرق العلماء إليه، وإحاطته ما يعتمد الحكماء وغيرهم من الفضلاء عليه.

 

نطقت بوحي الله فيك خصائص         خير الأنام نذيرها وسفيرها

ما عصبة إلا وأنت وليها          وكذاك مولاها وأنت أميرها

 

الصفحة 155 

قال خطيب دمشق وابن أبي الحديد في علي وهما قائلان بإمامة أبي بكر:

ما أقول في رجل أقر له بالفضل من خصمه، ولم يمكنهم جحد مناقبه، مع استيلاء بني أمية على الأرض، واجتهادهم في إطفاء نوره، ولعنه على منابرهم، ووضع معايبه، وقتلوا مادحيه وحبسوهم عن رواية حديث يعليه، فما زاده ذلك إلا سموا فكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، تعزى إليه كل فضيلة، وتتجاذبه كل طائفة، كل من نزع من الفضايل بعده، فله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، ومن كلامه اقتبس العلم الإلهي، وإليه إنتهى.

فالمعتزلة الذين هم أهل هذا الفن تلامذته لانتسابهم إلى واصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وهو تلميذ أبيه، والأشعرية ينتمون إلى أبي الحسن وهو تلميذ أبي علي الجبائي المعتزلي، فرجع علمهم إلى علي عليه السلام، والإمامية والزيدية انتسابهم واضح إليه.

وعلم الفقه فكل فقيه عيلة عليه، وقد قرأ مالك على ربيعة، وربيعة على عكرمة، وعكرمة على ابن عباس، وهو تلميذ علي. وابن حنبل قرأ على الشافعي والشافعي على محمد بن الحسن من أتباع أبي حنيفة، وأبو حنيفة على الصادق، و انتهى الأمر إلى علي عليه السلام.

وعلماء الصحابة ابن عباس وقد علمت أنه تلميذه، وعمر بن الخطاب وقد عرف رجوعه إليه فيما أشكل عليه، حتى قال: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن وقد روى الخاص والعام قول النبي صلى الله عليه وآله له لما بعثه قاضيا إلى اليمن: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فقال: ما شككت بعدها في قضاء، وقال ارتجالا على المنبر: صار ثمنها تسعا وسيأتي قريبا.

والتفسير فهو مأخوذ عنه وعن ابن عباس وقد قيل له: أين علمك من علم علي قال: كقطرة في البحر المحيط.

وعلماء الطريقة ينسبونها إليه والخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم مقصورة

الصفحة 156 

عليه صرح بذلك الجنيد والشبلي والكرخي والبسطامي وقد قيل إنهم ينتمون إليه في سلسلتين النورية هم ينتسبون إلى أبي الحسن النوري أخذه عن كميل بن زياد خادم علي عليه السلام والجنيدية ينسبون إلى جنيد البغدادي أخذه عن الحسن البصري تلميذ علي عليه السلام وهؤلاء ونحوهم المتبعون لعفته وزهده، تقرعت ينابيع الحكمة فيهم عن غزير علمه، قال عز الدين المقدسي في تفسير كلامه: (من عرف نفسه فقد عرف ربه): الروح لطيفة ربانية لاهوتية في جثة ناسوتية دالة من عشرة أوجه على وحدانية ربانية:

1 - لما حركت الهيكل ودبرته، علمنا أنه لا بد للعالم من محرك ومدبر.

2 - دلت وحدتها على وحدته.

3 - دل تحريكها للجسد على قدرته.

4 - دل اطلاعها على ما في الجسد على علمه.

5 - دل استواؤها إلى أعضائه على استوائه إلى خلقه.

6 - دل تقدمها عليه وبقاؤها بعده على أزله.

7 - دل عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به.

8 - دل عدم العلم بمحلها من الجسد على عدم أينيته.

9 - دل عدم مسها على امتناع مسه.

10 - دل عدم إبصارها على استحالة رؤيته.

وقال أيضا: صور الله آدم صورة مدنية أتقن فيها من المباني ما يدل على قدرة الباني، وحرك فيها مثالث ومثاني يشير بأن ليس له ثاني، ونصب وسطها قصر المملكة وهو القلب إذ هو بيت الرب وجعل مدارها عليه، ومرجعها إليه، و وضع فيه سرير العز والسلطان، وأجلس عليه ملكا يقال له الإيمان، وبث في خدمته الجوارح كالغلمان، فقال اللسان أنا الترجمان، والعينان نحن الحارسان والأذنان نحن الجاسوسان، واليدان نحن العاملان، والقدمان نحن الساعيان وقال الملكان نحن الشاهدان. وقال صاحب الديوان كما تدين تدان.

الصفحة 157 

ثم قال الوزير الذي هو العقل: أيها الملك لا بد لك من خاصة يؤثرونك ولو كان بهم خصاصة، فتحتاج إلى تاج هو الولاية، وإلى معراج هو العناية، وإلى دليل هو الهداية، وإلى مركوب هو الصدق، وإلى حلية هي السكينة، وإلى صاحب هو العلم، وإلى بواب هو الورع، وإلى سياف هو الحق، وإلى كاتب هو المراقبة وإلى سجن هو الخوف، وإلى ميزان هو الرجاء، وإلى سراج هو الحكم، و إلى نديم هو الفكر، وإلى خزانة هي اليقين، وإلى كنز هو القناعة، وإلى صاحب بريد هو الفراسة.

ثم قال أيها الملك: انظر إلى رعيتك بعين الرحمة، واقسم بكل ما تقيم به رسمه، فقال الملك: بل انظر أنت في الرعية، وأزل عنهم الشكية فقالت اليدان علي جمع الآلة، والأسنان أنا أطحن وأعزل النخالة، والريق أنا أعجن وأتولى إلى المعدة إنزاله، والمعدة أنا أطبخ وما أزيد على ذلك عمالة، والكبد أنا آخذ الصافي وأترك الحثالة، والقدرة أنا أفرقه بالعدالة إلى كل عضو ما يطيق احتماله.

ثم نادى منادي الفيض: يا معشر الرعية! قد أقسم الملك بالألية، أن من عدل عن الطريق السوية، وكفر نعمة العطية، وأنفقها في الخطية، فقد أفسد النية، ونقض البنية، وأولئك هم شر البرية.

واعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات، حتى تقطع ست عقبات:

1 - فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية، فتشرف على ينابيع الحكمة العقلية.

2 - فطم النفس عن المألوفات العادية، فتشرف على سرائر العلوم الربانية.

3 - فطم القلب عن الرعونات البشرية، فتشرف على أعلام المناجاة الملكوتية.

4 - فطم النفس عن الكدورات الطبيعية، فتشرف على أنوار المنازلات القرينية.

5 - فطم الروح عن البخارات الحسية، فتشرف على أقمار المشاهدات الحبيبية.

6 - فطم العقل عن الخيالات الوهمية، فتهبط على رياض الحضرة القدسية فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائف الأنسية، عن الكثائف الحسية.

الصفحة 158 

هذا وقد سعى إلى الخليفة بأن الصوفية زنادقة رفضوا الشريعة، فأمر بقتلهم فبدر أبو الحسن النوري إلى السياف فقال: لم بدرت؟ قال: أحببت أن أؤثر أصحابي بحياتي هذه اللحظة فتعجب وكتب إلى الخليفة فردهم إلى القضاة فسألوا النوري عن أصول الفرائض فأجاب فبعثوا إلى الخليفة: إن كانوا زنادقة فما على ظهر الأرض موحد.

وقال شقيق لإبراهيم بن أدهم: كيف تعملون؟ قال: أعطينا شكرنا، و إن منعنا صبرنا، قال: فأنتم؟ قال: إذا أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا، ولقي السقطي رجلا جليلا فسلم عليه سلاما ناقصا فقيل له في ذلك، فقال: روي عن النبي صلى الله عليه وآله: إذا التقى المسلمان قسم بينهما مائة رحمة تسعة وتسعون لأبشهما فأردت أن يكون معه النصيب الأكثر، فهذا ونحوه قطرة مما استنزع من علم علي عليه السلام وزهده وإيثاره، وليس التصوف المنسوب إليه ما يفعله المغنيون والرقاصون بليالي العبادات، في بيوت الصلوات فما أحسن ما وصف من رقصهم لإظهار نقصهم:

 

 

أيا جيل التصوف شر جيل       لقد جئتم بشئ مستحيل

أفي القرآن قال لكم إلهي        كلوا مثل البهائم وارقصوا لي

 

ولقد رأيت كتابا مصنفا في معايبهم، وكشف الستر عن حيلهم، التي يوهمون بها على أتباعهم، أنهم بالقرب من ربهم.

قالوا: ضرب بنات النجار بالدف بحضرته عليه السلام لما قدم المدينة وغنت:

 

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا       ما دعى لله داع

أنت يا مرسل حقا       جئت بالأمر المطاع

جئتنا تسعى رويدا       مرحبا يا خير ساع

يا نبيا من ضياه أشرقت كل البقاع

 

فطرب النبي صلى الله عليه وآله ووهب لهن عمامته، ورقصت الحبشة في مسجده فظلل على عائشة لتتفرج على ذلك، وأنشد شخص بحضرته:

الصفحة 159 

 

لسعت حية الهوى كبدي        فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الحبيب الذي كلفت به       فإنه منيتي وترياقي

 

فتمايل صلى الله عليه وآله وسقط رداؤه من أعلاه فتقاطعوه تبركا.

قلنا: هذا كله من زخاريفكم الفاسدة، وسخرياتكم الواردة، وقد عاب الدف ابن حنبل وأبو حنيفة.

قالوا: روى بريدة أن جارية قالت له عليه السلام بعد رجوعه من غزاة كنت نذرت إن رجعت سالما أضرب بين يديك بالدف وأنغنى، فقال: إن كنتي نذرتي فاضربي وإلا فلا، فضربت فدخل أبو بكر ثم علي ثم عثمان وهي تضرب فدخل عمر فوضعت الدف تحت استها وقعدت، فقال النبي صلى الله عليه وآله: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، أخرج ذلك الترمذي في صحيحه.

قلنا: لا يخفى ما فيه من القول بالباطل، إذ لو نذرت الزنى أو غيره لأباحه لها وحاشاه أن يرضى بذلك وفي قوله (وإلا فلا) نهي صريح وهو للتحريم وكيف يصير النذر الحرام مباحا وفي قوله (إن الشيطان يخاف منك يا عمر) تصريح بأنه فعل الشيطان، وتفضيل لعمر على النبي ومن حضره، وقد روى العبدي في آداب الكتاب أنه عليه السلام قال: (من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) وأخرج البخاري قول عمر: أمزمار الشيطان عند رسول الله؟

وفي تظليله على عائشة للتفرج نقص لا يرضى به الأدنى، فضلا عمن لا ينطق عن الهوى، وقد وافقوا على تحريم نظر المرأة إلى الرجال في قوله عليه السلام. أعمياوين أنتما، كيف ويعارض حديثهم قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية(1)) وقوله (ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة(2)) والطرب المذكور جاز كونه لإقرارهن بنبوته لا للدف بحضرته، على أن الطرب مشترك بين الحزن والسرور قال شاعر:

____________

(1) الأنفال: 35.

(2) الجمعة: 11.

الصفحة 160 

 

وقالوا قد بكيت فقلت كلا       وهل يبكي من الطرب الجليد

 

فيحمل طربه على كراهته.

إن قيل: فهبة العمامة تدل على رضاه. قلنا: لا، إذ جاز أن يكون ليسر عن الانصراف عنه، كما أن الله تعالى يحب قضاء حاجة الكافر كراهية منه لسماع صوته كما جاء في الحديث النبوي.

(الفصل الثاني)

 

ولنرجع إلى النمط الأول من ذكر فضائله عليه السلام.

فعلم النحو أملا على أبي الأسود جوامعه وهذا يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بحصر الكلام في الثلاثة، والإعراب في الأربعة، وأما أحواله في الحروب فبها تضرب الأمثال، بأفواه الأولياء والأعداء من الرجال، فإنه لما دعى بصفين معاوية ليبارزه ليستريح الناس، فيقتل أحدهما وتقصر الفتنة بينهما، قال ابن العاص: قد أنصفك، قال: غششتني أتأمرني بمبارزته وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق.

وانتبه يوما فرأى ابن الزبير تحت رجليه فقال: لو شئت أن أفتك بك لفعلت قال: شجعت بعدنا؟ قال: وما تنكر من شجاعتي، وقد وقفت بإزاء علي بن أبي طالب في الصف؟ قال: لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.

وافتخرت أخت عمرو بقتله أخاها فقالت:

 

لو كان قاتل عمرو غير قاتله     بكيته أبدا ما دمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له         وكان يدعى أبوه بيضة البلد

 

وطلب المشركون ببدر الأكفاء، فخرج وأرداهم وكان النصر بقتلهم، قال بعض الفضلاء فيهم:

الصفحة 161 

 

أردى ببدر قروم المشركين وقد         عتوا بضرب يقد الهام كالشعل

ما بارزوا فارتضوا قرنا سواه لكي         يروا به العذر عند اللوم والعذل

كأنما رام قتلاه الفخار به         فما التقوا غيره والعمر في مهل

ما كان يبرز في حرب إلى بطل إلا ويبطل منه حيلة البطل

وأي مشهد حرب لم يروه به    قطبا يدير رحا حرب بلا وجل

 

وفي الحديث: كانت ضرباته وترا. قال ابن قتيبة في المعارف: ما صارع أحدا إلا وصرعه، أقول: إن أهل الذمة مع تكذيبهم بالنبوة يحبونه، والفلاسفة مع معاداتهم للملة يعظمونه، والفرنج والروم تصور صورته في بيعها وملوك الترك و الديلم على أسيافها تضعها، وكانت على سيف عضد الدولة وابنه، وعلى سيف أرسلان وابنه، كأنهم بها يتفألون، وللنصر بها يطلبون.

وبالجملة فكل شجاع ينتهي إليه ويعول في انتصاره عليه، وقال الجاحظ:

ليس في قتل الأقران فضيلة للرئاسة، إذ ليس المقاتل في منزلة الرئيس وإلا لكان النبي مرؤسا لعدم قتاله. قلنا: في هذا تصغير لأمر الجهاد، ورد على القرآن في قوله (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما(1)) ولم يكن لأبي بكر رئاسة والنبي حاضر مختص بها غني عنه وعن غيره فيها على أنا لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقاتل، وقد قاتل بأحد وغيرها وقد قال علي عليه السلام: كنا إذا أجم البأس(2) اتقينا برسول الله.

قال: الشجاع قد يترك النزال لمعان أشرف منه. قلنا: فهربه في خيبر [ عنه ] كان لمعان أشرف منه! هي انكسار قلوب المؤمنين! ونزول الغم بسيد المرسلين!

حين ألبس بهزيمته جلابيب المذلة لرايته، واقتفى عمر أثره في وصمته، على أن ما ذكر يسري في العبادات، فيقال: إن تاركها أفضل من فاعلها لمعان أخر أشرف منها، وقد كان الرئاسة لأمير المؤمنين بصفين وغيرها، وقد قاتل بنفسه فيها.

____________

(1) النساء: 94.

(2) وفي النهج: كنا إذا احمر البأس.

الصفحة 162 

وأما الجود فظاهر عليه وقد شهد له أعداؤه، فقد دخل محقن الضبي على معاوية وقال: جئتك من عند أبخل الناس، فقال: ويحك لو ملك علي بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه.

قال الشعبي: ما قال لسايل قط: لا، وناهيك بما أتى في هل أتى حين إيثاره بالطعام ثلاثا مع صيامه تلك الأيام، ونزل فيه (الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا وعلانية(1)) لما تصدق بأربعة دراهم والمخالف يزعم أن أبا بكر أنفق أمواله على النبي الذي هو أفضل من المسكين واليتيم والأسير، ولم ينزل فيه شئ يسير، وذلك إما لعدم الإنفاق في نفسه، أو لعدم الاخلاص فيه.

وأما الحلم فقد صفح يوم الجمل عن مروان وكان أعدى الناس عداوة له في كل أوان، وعن ابن الزبير مع شتمه لعلي جهارا، وكرم عائشة بتجهيزها إلى المدينة في عشرين امرأة عليهن لبس الرجال فقالت في الطريق: هتك ستري برجاله فلما وصلت إلى المدينة ألقين العمائم وقلن: نحن نسوة، وعفى عن أهل البصرة و الأحقاد لم تبدد، وموجبات المؤاخذة لم تشرد، وصفح عن معاوية وأصحابه حين ملك الماء بعد أن منعوه منه.

وأما الفصاحة فمنه تعلم الناس الكتابة والخطابة، ولا يخفى ما له من مفرد الكلام ومركبه، حتى اعتنى العلماء بشروحه، والنظر في كشف أسراره، كنهج البلاغة وغيره، وقد أطنب الجاحظ في كتاب البيان، في مدح علي في هذا الشأن.

وأما حسن الأخلاق، فهو المضروب به المثل على الاطلاق، قال ابن العاص:

(إن به دعابة) أخذه من قول عمر لما عزم على استخلافه: (لله أبوك لولا دعابة فيك) قال صعصعة: كان فينا كأحدنا في لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، و قال معاوية: رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة.

وأما زهده فهو أحد الأبدال العظام، فلم يشبع قط من طعام، يلبس الغليظ القصير، ويأكل جريش الشعير، وكان من كرامته أن الجوع لم ينقص من قوته

____________

(1) البقرة: 274.

 

 

 

 

الصفحة 163 

ولم ينقض أيده، وناهيك بنهج البلاغة في ذلك وغيره.

فمنه: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، وأجر في الأغلال مصفدا أحب إلي من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، أو غاصبا لشئ من الحطام، وكيف أظلم وأجل النفس يسرع إلى البلا قفولها، ويطول في الثرى حلولها.

ومنه: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت، وإن دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جراذة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى، ولذة لا تبقى؟

ومنه: والله إن دنياكم عندي أهون من عراق خنزير في يد مجذوم.

دل هذا وغيره على غاية زهده، مع أن الدنيا بأسرها في يده لما أتقن من أصول الكيميا لما يأتي مما نقلته عنه الفضلاء.

أما غيره فزهده في الدنيا تابع لزهدها فيه فهو منقاد قهرا إليه بخلاف من أعرض عنها بحسب اختياره، كما تمدح به في بعض أشعاره:

 

دنيا تخادعني كأني لست أعرف حالها  مدت إلى يمينها فرددتها وشمالها

ورأيتها محتاجة فوهبت جملتها لها

 

قال الجاحظ: أبو بكر أزهد منه مات عن بعير وعبد مع كثرة الفتوح و الغنايم، ولم يتزوج من ذلك امرأة ولا اتخذ منه سرية وعلي مات عن مزارع و نخيل وأزواج وسراري. قلنا: أما زهد علي في مطعمه وملبسه فظاهر أنه لم يلحقه أحد إليه، ولا قارب ما اشتمل عليه، ولم يخلف سوى سبع مائة درهم يشتري بها خادما، وما كان له في حياته فلا خفاء أنه صرفه في صدقاته، وما ذكره من كثرة نسائه ففيه تعريض بالنبي صلى الله عليه وآله حيث مات عن تسع، وقد قال سفيان بن عيينة: كثير النساء ليس من الدنيا فإنه لم يكن أحد من الصحابة أزهد من علي وكان له سبعة عشر سرية، وأربع نسوة.

الصفحة 164 

وأما العبادة فكان أكثر الناس صلاة وصياما، ومنه تعلموا الأوراد ليلا حتى بصفين ليلة الهرير وضع له بين الصفين نطع فصلى عليه، والسهام تقع بين يديه، وتمر على صماخيه، فلا يرتاع لها، ولا ينتقل عنها، ومن تأمل مناجاته لربه، وخشوعه لهيبته، فهم أنها خرجت عن قلب مخلص، ولسان محق.

وأما القرآن فاتفقوا على أنه كان على عهد النبي يحفظه وقالوا ما تأخر عن بيعة أبي بكر إلا لجمعه، والقراء يرجعون إليه، فإن أبا عمرو وعاصم وغيرهما أخذوا القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو تلميذه عليه السلام.

وأما قوة الرأي فكان أسد الناس رأيا ولقد أشار على عثمان بصلاحه لو قبل ذلك ما قتل، وإنما قال أعداؤه: لا رأي له. لأنه كان مقيدا بالشريعة دون غيره وقد قال: (لولا الدين لكنت أدهى العرب).

وأما السياسة فكان خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل ولاه، وجبه بكلامه عقيلا أخاه، وحرق بالنار قوما وصلب آخرين، وقطع قوما ونقض دور آخرين، ومن أكثر سياسته حرب الناكثين والقاسطين والمارقين.

وأما سبقه إلى الاسلام، فمل يقل بخلافه إلا النادر من الأنام، ومن وقف على كتب الأحاديث والسير، علم سبقه إلى سيد البشر، وسنأتي بطرف منه في مكان آخر.

قال ابن أبي الحديد: ذهب إلى سبقه الواقدي والطبري ورجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون، وهذا راجع إلى خطيب دمشق وابن أبي الحديد من كلاميهما لمعناه لما عقلنا لمعناه.

الصفحة 165 

 

(الفصل الثالث)

 

وقد عرفت به جواب أرذل النصاب من الناس، أن التفسير منسوب إلى مقاتل وابن عباس، وإلى مجاهد والزهري، والحديث منسوب إلى أبي هريرة، إلى ابن عمر، إلى نافع، والفقه منسوب إلى الأئمة الأربعة وأتباعهم كالغزالي الشافعي فإنه صنف في العلوم ألف كتاب وابن الجوزي الحنبلي نحوه والنحو منسوب إلى سيبويه، إلى الأخفش، إلى الكوفيين، إلى البصريين، والعروض منسوب إلى الخليل، والأصولان والطب وغيرها لها أهل تنسب إليهم، ومن قوله:

إن ذلك في أفواه الرفضة، لم يوجد في كتاب، لما رأوا ذكر أئمة السنة على المنابر، أرادوا مقابلتها بما لا يخفى بطلانه على ذوي البصائر.

قلنا: قد عرف ما ذكر في أمير المؤمنين، من أئمة المخالفين وكتب المؤلفين وقد ذكرت سلاطين السوء على المنابر، وسب علي عليها أشهر للبادي والحاضر فأي دليل في هذه الكلمة، على إمامة الظلمة، والمنسوب إليهم تلك العلوم، إنما يفتخرون بأنهم أتباع [ أتباع ] علي عليه السلام.

على أن الجوزي الذي مدحه الناصب قال في كتابه: (الرد على المتعصب العنيد): مقاتل كذاب بإجماع المحدثين لا يدري ما يقول، وقال: وكيع كذاب وقال السعدي: كان جسورا وقال البخاري: كان مقاتل لا شئ البتة وقال الساجي: كذاب متروك. وقال الرازي: متروك الحديث، وقال النسائي:

الكاذبون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله أربعة ابن أبي يحيى بالمدينة، و الواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، وابن سعيد بالشام، وسيأتي تكميل ذلك في الباب السادس عشر.

وقال الجاحظ أيضا نحو القول الأول ينسب: حفظ القرآن إلى زيد وابن زيد وغيرهما ولم يذكر علي فيهم وأصحاب الحروف أبي وابن مسعود وغيرهما

الصفحة 166 

ولم يذكر علي فيهم، وأصحاب التأويل ابن عباس والحسن وغيرهما ولم يذكر علي فيهم.

قلنا: قال الأهوازي إن قراءة عصام تنتهي إلى السلمي وهو قرأ على علي عليه السلام، قال: وقراءة حمزة والكسائي ينتهيان إلى علي عليه السلام وأما التفسير والتأويل فأسند الشيخ المعظم ابن عبد البر إلى أبي الطفيل قوله عليه السلام على المنبر: (سلوني عن كتاب الله فما من آية إلا وأنا أعلم بها) ومن المحال أن يقول ذلك على رؤس الأشهاد بغير علم، وقد فسر لابن عباس حروف الجمل فقال: علمي بالقرآن في علم علي كالقرارة في المثعنجر، وفي تفسير الثعلبي عن ابن عطا قال: رأيت ابن سلام فقلت هذا الذي عنده علم الكتاب، قال: إنما ذلك علي بن أبي طالب ونحوه روى أبو نعيم عن ابن الحنفية بطريقين.

قال والرواية منسوبة إلى ابن عمر، إلى جابر، إلى أبي هريرة، إلى عائشة.

قلنا: أسند صاحب الاستيعاب إلى ابن عباس (كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به) وكيف يفضل أبو هريرة المطعون فيه عند عمر وغيره عليه، وترك ذكره معه لعلوه، فإن التام الكامل لا يذكر مع الناقص الحامل.

 

والشمس لا يهبطها عايب        سيان دار أو غفول جهول

والنقص إذ ذاك على عايب     قد قيدته بالصغار الكبول

 

قالوا: ادعيتم أن عليا يعلم ما في السماوات والأرض وأنه أعلم جبرائيل حين سأله عن نفسه وهو في الأرض وهذا يبطله قوله سبحانه: (لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله(1)) وقوله (لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين(2)) قلنا: جاز أن يكون علمه ببعض المغيبات بإعلام النبي له لقوله تعالى (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول(3)) ولو صح الاستدلال بالآية على عدم

____________

(1) النمل: 65.

(2) أسرى: 95.

(3) الجن: 26.

الصفحة 167 

نزول جبرئيل إلى الأرض، لزم أن لا يكون نزل على النبي وهو خلاف إجماع الولي والغوي.

قالوا: علي لم يبلغ غرضا بتحكيم عبد الرحمن في الشورى، وتحكيم معاوية للأشعري، وخروج علي في حرب الجمل والخوارج، فلو [ كان ] يعلم غيبا لم يفعل من ذلك شيئا. قلنا: فالنبي أخبر بالغيب إجماعا مع أنه لم يبلغ غرضا إذ غرضه كون الناس ملة واحدة، ولم يأخذ سوى جزيرة العرب، فإن دل ذلك على عدم الإمامة دل هذا على عدم النبوة، بل وعلى عدم الإلهية، فإن الله تعالى غرضه إذهاب الكفر، ولم يحصل بالكلية، والخلفاء الثلاثة لم يبلغوا كل غرض.

وقد أخرجوا لعمر حديث سارية وهو من علم الغيب، والاعتذار عن التحكيم قد عرف في موضعه من طرقهم.

تذنيب لذلك، أخذنا معانيه من شرح نهج البلاغة لميثم البحراني:

النفس الانسانية إذا فرغت من علائقها من الحواس الظاهرة، رجعت بطبعها إلى جناب ربها، فيحصل لها من الصور هناك من هو أليق بها من أحوالها، ثم ترتسم في المخيلة وتنحط إلى الحس المشترك، فتصير كالمشاهدة، هذا حالها في منامها و أما حال يقظتها فمتى كانت قوية لم يكن اشتغالها بتدبير بدنها عايقا لها عن ملاحظة مباديها، والاتصال بحضرة ربها، فيفيض من جنابه صورا عليها، ثم ترتسم في مخيلتها حتى تصير كأنه مشاهد لها.

إن قيل: إخبار علي بالمغيبات إنما هو بعلم علمه النبي ولو علمه غيره لكان مثله وحينئذ لا مزية له، ولهذا لما وصف الأتراك، قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت علم الغيب. فضحك وقال: إنما هو تعلم من ذي علم، وإنما الغيب علم الساعة وما عدده الله بعدها، ونحوه هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما سواه فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن أعيه.

قلنا أما القسم الأول فمسلم اختصاصه بالله وأما المدعى علمه، فإن النفس القدسية لها استعداد لانتقاش الأمور الغيبية فتتأهل لإفاضة جود الله، والاختصاص

الصفحة 168 

بعناية الله إما بواسطة الرسول ونحوه، أو بغيرها كإعداد نفسه للقوانين الكلية، و لو كان النبي إنما أعطاه صورا جزئية لم يحتج إلى دعائه بفهمه، فإن فهمها سهل لمن له أدنى فهم، ويؤيده: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب انفتح لي من كل باب ألف باب، وقول النبي: أعطيت جوامع الكلم وأعطي علي جوامع العلم، وفي عطف (أعطي) على (أعطيت) دلالة على أن المعطي لهما هو الله وهو المطلوب.

تذنيب آخر:

قوله تعالى (قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون(1)) والمراد بالمؤمنين بعضهم والإمام أعلى من غيره، فالمراد هو، ومتى كان نظره مساويا لنظر النبي تعين كونه معصوما كالنبي وصح اطلاعه على أشياء بواسطة النبي.

إن قيل: لم لا يكون المراد بالمؤمنين مؤمني غير هذه الأمة؟ قلنا: يبطله (لتكونوا شهداء على الناس(2)).

إن قيل: لم لا يراد بالمؤمنين الملائكة؟ قلنا: لا يتناولهم اسم المؤمنين عرفا ولهذا لم يسارع الفهم عند الاطلاق إليهم.

إن قيل: المراد برؤية العمل العلم بجزائه وذلك في المستقبل، وهو لا يختص بالإمام ويعضد ذلك سين الاستقبال. قلنا: لو أريد الاستقبال لم يكن الرب عالما به في الحال وهو محال على أن السين جاءت لغير الاستقبال (فاستجبنا له) (فاستجاب له ربه).

(الفصل الرابع)

 

قالوا: قلتم: اعتقد الغلاة في علي أنه الإله، وما ذلك إلا لمعنى موجب لترجيحه يغتني الفهيم بتلويحه عن تصريحه، وأي حجة في الاعتقاد الباطل للكفرة وقد اتخذت غطفان الغوي إلها وهي شجرة، وثقيف مناة وهي صخرة، وغير ذلك

____________

(1) براءة: 106.

(2) البقرة: 143.

الصفحة 169 

ولا معنى فيها يوجب ترجيحها، وادعيت النبوة لمسيلمة ولسجاح وهي امرأة فأي معنى رأى فيهما أتباعهما.

قلنا: إنا لم نقل بأفضلية علي لكونه معبودا بل: لما ظهر من أفعاله مما يبهر العقول: ضل فيه لعدم تحقيق النظر الجهول، كما ظهر لعيسى من إحياء الأموات، وإبراء ذوي العاهات، فرأوا العجز عن ذلك في القوة البشرية، فوصفوه لذلك بالإلهية. ولم يعلموا أن الكرامات الدالة على الخلوص من الذنوب، من أكبرها الإجابة من علام الغيوب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله إن لله عبادا أطاعوا الله فأطاعهم يقولون للشئ بأمره كن فيكون، وقد أورد المخالف قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي (لولا أن تقول طائفة فيك ما قالت في عيسى النصارى، لقلت فيك..) الحديث، ولما بهر عقول النساء حسن يوسف العظيم (قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم(1)).

قال ابن أبي الحديد، في مدحه للسيد المجيد:

 

تقبلت أفعال الربوبية التي        عذرت بها من شك أنك مربوب

وقد قيل في عيسى نظيرك مثله         فخسر لمن عادى علاك وتتبيب

 

وقصده المبالغة في المقال، لا قبول عذر الضال، ولا نسلم عدم المعنى في تلك الأصنام، فإن أكثر المفسرين قالوا: وضعت على صور قوم كرام من الأنام تبركا بشرفهم فلما طالت الأوقات عبدها أولادهم جهلا منهم، وقيل: إنما وجهوا إلى الأصنام العبادات لأنها صور الكواكب المؤثرات فأرادوا تعظيمها لارتباط منافع العالم السفلي بها، واستنادها إليها، فلما تناسلت القرون نسي ذلك في التابعين وصاروا مقلدين، وأيضا لا يلزم من عدم وجود المعنى فيها عدم وجوده في غيرها و المجتمعون على مسيلمة وسجاح طلبوا الدنيا بهما لا لفضل رأوا فيهما، كما جرت عوائد أتباع الظلمة لإحراز الأموال وعلو الكلمة.

____________

(1) يوسف: 31.

الصفحة 170 

 

(الفصل الخامس)

 

قالوا: قلتم: علي أفضل بالمصاهرة قلنا: زوج النبي عتبة بن أبي لهب و أبي العاص بن الربيع، وهما كافران وزوج عثمان ابنتين، وتزوج من الشيخين بالابنتين، فالأئمة الأربعة أصهاره. أجبنا بأن فاطمة أفضل من باقي بناته وزوجاته وأورد الثعلبي في تفسير قول ابن عمر: لعلي ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويج فاطمة، وإعطاء الراية، وآية النجوى. ولم يقل ذلك في بناته وقد أخرج صاحب جامع الأصول عن النسائي أن الشيخين خطباها فاعتذر بصغرها وخطبها علي فزوجه بها، وأخرجه أيضا عن رزين، وما قال من تزويج النبي بالكفار يرد عليهم في تزويجه عثمان الذي سموه ذا النورين، سبب تزويجه الابنتين.

وليس لهم أن يقولوا: عند خطبة علي كانت قد كبرت، فلهذا ردهما وأجابه لأنا نقول: فالتعقيب في قول كتبكم (فخطبها) تمنع ذلك وأما فضل فاطمة على غيرها من بناته وغيرها، فمشهور بأقوال النبي صلى الله عليه وآله فيها: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع وعدها منهن وأخرج البخاري قوله في حقها (سيدة نساء العالمين، يريبني ما رابها) وأخرج صاحب الوسيلة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ما لك إذا أقبلت فاطمة جعلت لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلا؟ فقال صلى الله عليه وآله: لما أسري بي دخلت الجنة فناولني جبرائيل تفاحة فأكلتها فصارت نطفة، وفاطمة منها وكلما اشتقت إلى ريح الجنة قبلتها وإن خديجة هجرتها نساء قريش عند ولادتها لأجل تزويجي بها فتولى أمرها حواء وآسية وكلثم أخت موسى ومريم فلما وضعت فاطمة وقعت ساجدة نحو القبلة رافعة أصبعها، ناطقة بالشهادتين.

وقد روى مسلم في الجزء الرابع من صحيحه بعدة طرق: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها، وبعض المعصوم معصوم.

الصفحة 171 

وقد قالت في خطبتها المشهورة: أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم لفظتم بعد أن عجمتم، وسبرتم بعد أن خبرتم، ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، وما نقموا من أبي الحسن تالله إلا نكال سيفه، ونكير وقعه، وشدة وطئه، وتشهيره في ذات الله، إلى أي لجاء أسندوا، وبأي عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير استبدلوا الذنابى بالقوادم، والأعجاز بالكواهل رغما لمعاطس قوم، يحسبون أنهم مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون.

وناهيك من قولها بعد عرفان عصمتها من تقديم بعلها، وقد أورد الثعلبي تزويجها في قوله (وهو الذي خلق من الماء بشرا وجعله نسبا وصهرا(1).

ومن الوسيلة أيضا إنما سميت فاطمة لأنها فطمت محبوها عن النار، ومنها عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله ينادى يوم القيامة أيها الجمع نكسوا رؤسكم، و غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة على الصراط، ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله قال لها إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك، ومنها قول النبي لعلي إن جبرائيل يخبرني أن الله زوجك بفاطمة وأشهد أربعين ألف ألف ملك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن تنثر الدر والياقوت، فنثرت فلقطه الحور فهو عندهن يتهادينه إلى يوم القيامة، فمعاني هذه الأقوال نقلت من الوسيلة.

وفي تفسير الزمخشري في قوله تعالى: (قالت هو من عند الله(2)) إن فاطمة في زمن قحط أعدت للنبي رغيفين وبضعة لحم فكشفت الطبق فوجدته مملوءا خبزا ولحما، قال لها: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ثم جمع بعلها وولديها و أهل بيته وأكلوا حتى شبعوا والطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها، فهذه تشهد بأفضليتها، وأنتم تقيسونها بغيرها، وقد وردت مدائح الشعراء بذلك فيها، و

____________

(1) الفرقان: 54.

(2) آل عمران: 37.

الصفحة 172 

لم يرد قليل منها في غيرها، قال السوسي:

 

وزوج بالطهر البتولة فاطمة      ورد سواه كاسف البال منحصر

وخاطبها جبريل لما أتى بها     ومن شهد الأملاك يلقط ما نشر

تناثر ياقوت ودر وجوهر         ومسك وكافور من الخلد قد نثر

وقولا لهم يا خاطبيها بحسرة    تزوجت الشمس المنيرة بالقمر

ويطلع من شمس الضحى ومن الدجى كواكب قد لاحت لنا أحد عشر

 

وقال العوني:

 

زوجك الله يا إمامي     فاطمة البرة الزكية

ورد من رامها جميعا    بأوجه كره خزية

أليس قد نافقوا وإلا     لم ردها القوم جاهلية

 

وقال سلامة:

 

أنا مولى من حباه ربه   بالرضا فاطمة زين العرب

لست مولا الخاطب الوغد الذي رد بالخيبة لما أن خطب

 

وقال ابن عباس وابن مسعود وجابر والبراء وأنس وأم سلمة والسدي وابن سيرين والباقر عليه السلام في قوله تعالى: (هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) قال: هو محمد وعلي وفاطمة والحسنان (وكان ربك قديرا(1)) القائم في آخر الزمان.

الصادق عليه السلام: أوحى الله تعالى إلى رسوله: قل لفاطمة لا تعصين عليا فإنه إن غضب غضبت لغضبه.

المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام: لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض، ونحوه رواه الأندلسي عن النبي صلى الله عليه وآله وعلى هذا قال الصاحب بن عباد.

 

كفؤ البتول ولا كفؤ سواه لها     والأمر يكشفه أمر يوازيه

 

____________

(1) الفرقان: 54.

الصفحة 173 

وقال آخر:

 

يا كفؤ بنت محمد لولاك ما     زفت إلى بشر مدى الأحقاب

يا أصل عدة أحمد لولاك لم    يك أحمد المبعوث ذا أعقاب

 

وأسند المروزي في فضائل فاطمة والبلاذري في التاريخ: خطبها أبو بكر ثم عمر فقال النبي صلى الله عليه وآله لكل منهما: أنتظر بها القضاء.

(الفصل السادس)

* (في مبيت علي عليه السلام على فراش النبي حين خرج إلى الغار) *

* (وفي رواية إلى الشعب) *

 

قال المفيد: يجوز صدق الروايتين بالنوم مرتين وهذه الفضيلة لم يأت أحد بمثلها ولم يتهيأ لشخص إحراز فضلها، لأن النبي صلى الله عليه وآله خرج سرا عند اجتماع القبائل على قتله فأعلم عليا واستكتمه، وأمره بالنوم على فراشه، فنام وبذل نفسه دون نبيه، فأنزل الله تعالى فيه بين مكة والمدينة على رسوله: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(1).

قال المخالف: هي رواية مظنونة فلا يعول عليها، قلنا: قد نقلها من الخاص والعام جماعة يوجب تواترها، فمن العامة، الثقفي، والفلكي، والطوسي، و الشيباني والحسن البصري، وأبو زيد الأنصاري، والسدي، ومعبد، والعكبري والسمعاني، والغزالي في الإحياء وفي كيمياء السعادة، وابن عقبة في ملحمته وأبو السعادات في فضائل العشرة، وابن حنبل في مسنده، وابن المغازلي في مناقبه والخطيب الخوارزمي، والقاضي، والجوزي، والفراء، والزمخشري، و الثعلبي ومن الخاصة ابن شاذان، والطوسي، وابن بابويه، والكليني، و

____________

(1) البقرة: 207.

الصفحة 174 

ابن أبي هالة، والصفواني، وابن عقدة، والعبد لي، وابن فياض، وأبو رافع والبرقي.

ورووا هم والثعلبي في تفسيره الحديث القدسي أن الله أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من صاحبه، فأيكما يؤثر أخاه؟ فكل منهما كره الموت، فقال: هلا كنتما مثل علي وليي آخيت بينه وبين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فهبطا فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وبخ بخ له جبرائيل وقال: من مثلك؟ يباهي الله به ملائكته.

وفي كتاب الخوارزمي نزل جبرائيل صبيحة الغار فرحا فقال: أراك فرحا؟

قال: وكيف لا أفرح وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي ابن أبي طالب، باهى الله بعبادته البارحة ملائكته وحملة عرشه، فقال: انظروا إلى حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه وعفر في التراب خده تواضعا لعظمتي أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي، وما امتحن الله خاصة ملائكته بذلك إلا وقد علم من حالهم عدم صبرهم على هذه المهالك، فكلفهم وقد علم كراهتهم لتلك المسالك، وأراد يعلم بني آدم أن الملائكة لم تقدم على فعله، فيقرون أنه ليس فيهم كمثله.

وهذا المبيت لو وزن بأعمال الخلائق لرجحها، لأنه سبب نجاة نبيها وأداء رسالته إليها، وإنفاذ الأمر الإلهي فيها وثبوته، وهو ابن عشرين سنة، مع كثرة الأعداء، مراغما لهم، ينادي على الكعبة ثلاثا بصوت عال، وقوة جنان، وقلب راسخ، وثبات لسان، مع قلة الأعوان، وكثرة الخذلان: هل من صاحب أمانة أو وصية أو عدة عند رسول الله؟ فأدى الحقوق، وجهز العيال جهازا، وفيهم عائشة فله المنة على أبيها وعليها بحفظها، وفي وصيته بذلك سالفا دليل استحقاقه، و وصيته خالفا قال ابن جبر في نخبه: الشجاع الثابت بين أربعمائة سيف مظهرا لعداوتهم حين سألوه عنه فقال: (هو في حفظ الله أو رقيبا كنت عليه) وهذا مما يعجز عنه

الصفحة 175 

ذو القدر، لولا التأييد من خالق البشر.

قال الجاحظ: إنما لم يهرب خوفا من العار، قلنا: يرد هذا قوله تعالى:

(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(1)) وصبره عليه السلام أعظم من صبر إسماعيل لوجود الشفقة من أبيه، وتجويز العفو من باريه، وتجويز كون ذلك امتحانا، إذ لم يعهد ذلك من أحد، وتجويز نسخة قبل فعله، وتجويز كون باطن الكلام بخلاف ظاهره، وتجويز كون تفسير المنام بضد حقيقته، وتجويز الاتيان بفدائه، ولا شئ من هذه التجويزات حاصل لعلي حال البيان.

إن قيل: بل محنة إسماعيل أعظم لعلم علي أن قريشا إنما طلبت النبي دونه بخلاف إسماعيل، إذ كان يعلم أن ذلك بالوحي الإلهي. قلنا: فتفويته غرضهم مما يوجب شدة الحرج والغضب عليه، وذلك معروف بالعادات أن من فوت عليهم حيلتهم، حتى فات غريمهم، لا يلحقهم شفقة عليه، ولا ميل ما إليه، فظهر أن ما سلف من النوم، أقوى في الشجاعة من براز القوم، إذ مبارزة الأبطال الكبار، فيها رجاء السلامة بالمكر والفرار، ولهذا لما غلب ظن الملكين بالتلف، لم يؤثر أحدهما الآخر بالخلف.

قال الجاحظ: في الروايتين النبي بشره أنهم لا يصلون إليه، فلا فضيلة له فيه. قلنا: تلك الزيادة لم تنعرف، إلا من عدو منحرف، نعم في رواية ابن المغازلي:

لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، وهذا لا جزم فيه لتعلقه بالمشيئة، وابن حنبل أعرف من ابن المغازلي، وقد نقل في مسنده أنهم رموه بالحجارة، ولئن سلمت الزيادة ففيها فضيلة الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وآله.

وقد رووا قوله عليه السلام أن الشيخين يليان الخلافة، ومنهم من يقول إنه نص عليه بالخلافة، فإن صدق بقول النبي فما قعوده عن لقاء الأبطال، وإن شك في النص فأين مقام علي من هذا الحال.

____________

(1) البقرة: 207.

الصفحة 176 

وقد أورد المفيد في العيون والمحاسن قول علي لأبيه: إني مقتول، فقال:

 

اصبرن يا بني فالصبر أحجى    كل حي مصيره لشعوب

قد بذلناك والبلاء شديد          لفداء النجيب وابن النجيب

 

فأجابه عليه السلام:

 

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد  فوالله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنني أحببت أن تر نصرتي   وتعلم أني لم أزل لك طائعا

وسعيي لوجه الله في نصر أحمد         نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا

 

وهذا يتأتى على رواية الخروج إلى الشعب لما ورد أن أبا طالب كان قد مات عند الخروج إلى المدينة كما ذكره صاحب جامع الأصول وسيأتي إن شاء الله.

قالوا: إنما أباته لعلمه أن الاسلام لا ينهدم بقتله، واستصحب أبا بكر لعلمه بخلافته. قلنا: قد رويتم أنه قال صلى الله عليه وآله: الخلافة بعدي ثلاثون سنة على أعمار الأربعة فكيف يحرص عليه خاصة دون غيره، بل قد روي أنه صحبه خوفا من أن ينم عليه قال ابن طوطي:

 

ولما سرى الهادي النبي مهاجرا وقد مكر الأعداء والله أمكر

وصاحب في المسرى عتيقا مخافة      لئلا بمسراه لهم كان يخبر

 

وروى أبو بصير عن الصادق عليه السلام أنه تبعه يريد أن يعلمه به قريشا فأوحى الله إليه ذلك، فقال له: ويلك ما زلت من ذي الليلة مؤذيا لي، فقال: إنما أردت أشيعك، وأعلم علمك، ولا حاجة لي في أن أكون معك، بل أحب أن أكون مخملا أكذب عنك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله إن الله أن آخذك ثم قبض عليه وكان من أشد الناس قبضة فأخذه كارها وسيأتي لذلك في باب رد الشبهات عند ذكر آية الغار مزيد كلام، فليراجعه من يريد هذا المرام.

وقد افتخر علي في المبيت وأنشأ في هذا المقام:

 

وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى      ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

أردت به نصر الإله تبتلا          وأضمرته حتى أوسد في القبر

 

الصفحة 177 

ومدحه الفضلاء والشعراء كالحميري والطوطي ودعبل الخزاعي والناشي ومن أحسن ما قيل فيه للسيد المرتضى:

 

وقى الرسول على الفراش بنفسه         لما أراد حمامه أفوامه

ثانيه في كل الأمور وحصنه      في النائبات وركنه ودعامه

لله در بلائه ودفاعه      واليوم يغشى الدارعين قتامه

فكما أجم إلى العوالي غيلة      وكأنما هو بينها ضرغامه(1)

طلبوا مداه ففاتهم سبقا إلى      أمد يشق على الرجال مرامه

 

وذكر الواقدي وغيره أنه لما أراد الخروج بعيال النبي صلى الله عليه وآله قال له العباس: ما أراك تمضي إلا في خفارة خزاعة، فقال:

 

إن المنية شربة مورودة لا تجزعن وشد للترحيل

إن ابن آمنة النبي محمد          رجل صدوق قال عن جبريل

أرخ الذمام ولا تخف من عائق فالله يرديهم إلى التنكيل

إني بربي واثق وبأحمد وسبيله متلاحقا بسبيلي

 

وقال السيد الحميري في مبيته عليه السلام:

 

ومن قبل ما قد بات فوق فراشه وأدنى وساد المصطفى وتوسدا

وأخمر منه وجهه بلحافه         ليدفع عنه كيد من كان أكيدا

فلما بدا صبح يلوح تكشفت    له قطع من حالك الليل أسودا

ودارت به أحراسهم يطلبونه     وبالأمس ما سب النبي وأوعدا

أتوا طاهرا والطيب الطهر قد مضى       إلى الغار يخشى فيه أن يتوردا

فهموا به أن يقتلوه وقد سطوا   بأيديهم ضربا مقاما ومقعدا

 

دعبل:

 

وهو المقيم على فراش محمد  حتى وقاه مكائدا ومكيدا

 

____________

(1) فكأنما أجم العوالي عيلة. خ.

 

 

 

 

الصفحة 178 

 

وهو المقدم عند حومات الوغى          ما ليس ينكر طارفا وتليدا

 

الناشي:

 

وقى النبي بنفس كان يبذلها     دون النبي قرير العين محتسبا

حتى إذا ما أتاه القوم عاجلهم   بقلب ليث يعاف الرعب ما وجبا

فساءلوه عن الهادي فشاجرهم  فخوفوه فلما خافهم وثبا

 

وقال آخر:

 

مبيت علي في الفراش فضيلة   كبدر له كل الكواكب تخضع

فرهن علي بالفكاك معادل      وهذا سبيل واضح النهج مهيع

 

(الفصل السابع)

 

حمله النبي لتكسير الأصنام، عن البيت الحرام، وهو من الفضائل العظام حيث تشرف قدماه بمنكب خير الأنام، وقد رواه الفريقان مثل ابن حنبل والموصلي والخطيب والخوارزمي والزعفراني والنطنزي والشيرازي وعمار بن أحمد و أبي عمر والقاضي وابن منده والبيهقي وابن مردويه والثعلبي والجرجاني و شاذان والحسكاني.

قالوا: لا فضيلة لعلي في حمل النبي إذ لو وجد آلة يرمي بها غيره لم يحمله قلنا: لم يشك أحد في أن ذلك فضيلة لعلي فقد ذكره شيخ المعتزلة ابن أبي الحديد في قوله:

 

رقيت بأسمى غارب أحدقت به          ملائكة تتلو الكتاب لمطهرا

فيا رتبة لو شئت أن تلمس السها         بها لم يكن ما رمته متعذرا

ويا قدماه أي قدس وطئتما      وأي مقام قمتما فيه أنورا

 

وهذا أخذه من قول النبي صلى الله عليه وآله فيما رواه ابن المغازلي أن عليا قال للنبي:

أنا أحملك فقال النبي لو أن ربيعة ومضر جهدوا أن يحملوا مني بضعة وأنا حي

الصفحة 179 

ما قدروا، ولكن أنا أحملك، فاقتلعه من الأرض بيده ورفعه حتى بان بياض إبطيه وقال: ما ترى؟ قال: أرى أن الله قد شرفني بك حتى لو أردت أن ألمس السماء للمستها، فلما رمى بها صرخ النبي من تحت علي فترك رجليه، فسقط على الأرض فضحك قال: مم تضحك؟ قال: سقطت من أعلى الكعبة فما أصابني شئ، قال:

كيف يصيبك وإنما حملك محمد، وأنزلك جبرائيل.

فهذا الحديث مجمع عليه، يتبين فضيلة علي منه، والمخالف يبطل ترجيحه بذلك، ويرجح أبا بكر بإخباره بموضع قبر النبي بخبر رواه، وبإخباره بأنه يجوز عليه الموت مع اشتهار قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون. وكل نفس ذائقة الموت(1)) وأيضا إذا ادعيتم أن النبي لم يقصد الفضيلة لعلي بحمل علي لزمكم أنه صلى الله عليه وآله لم يقصد الفضيلة لأبي بكر بصحبة أبي بكر، وقد روي أن الثلاثة هبطوا عن مقام النبي في المنبر وعلي صعد إليه فتكلم الناس فيه فقال: سمعت النبي يقول: (من قام مقامي ولم يعمل بعملي أكبه الله في النار وأنا والله العامل بعمله والحاكم بحكمه).

قلت: فمن أقام الاسلام بحسامه، ووضع رجله من النبي على ختامه، كيف ينكر عليه الصعود إلى مقامه، قال الناشي:

 

وكسر أصناما لدى فتح مكة     فأورث حقدا كل من عبد الوثن

فأبدت له عليا قريش عداوة     فأصبح بعد المصطفى الطهر في محن

يعادونه أن أخفت(2) الكفر سيفه        وأضحى به الدين الحنيفي قد علن

 

قال المخالف: روت أهل السنة أن النبي ليلة الهزيمة كان يحمل أبا بكر في الرمل لأن قدم النبي لا يؤثر فيه وأبو بكر يحمل النبي في الصخر لأن قدم النبي تؤثر فيه. قلنا: الحديث المجمع عليه، فيه: (لو أن ربيعة ومضر جهدوا على أن يحملوا مني بضعة وأنا حي ما قدروا) ينفي ويكذب ما قدرووا ولو فرضت

____________

(1) الزمر: 30. آل عمران: 185.

(2) أخمد. خ ل.

الصفحة 180 

صحة هذا المحال، لم يتفضل بحمله للنبي على حال، إذ يقال له: لو وجد النبي حمارا يركبه لما حمله كما قلتم: لو وجد النبي آلة بدلا من علي لما حمله.

قالوا: لم يطق حمل النبي أحد كما في الحديث. قلنا: قد قلتم: إن أبا بكر حمله، فكيف تعثرون هذا العثور؟ وقد حملته العضباء واليعفور قال الناشي:

 

إمام علا من خاتم الرسل كاهلا وقد كان عبلا يحمل الطهر كاهله

ولكن رسول الله أعلاه عامدا    على كتفيه كي يباهي فضائله

أيعجز عنه من دحى باب خيبر ويحمله أفراسه ورواحله

 

قالوا: حمل النبي الصبيان: أسامة والحسنين وأمامة، ولا فضل بذلك فضلا عن اقتضاء الإمامة. قلنا: بلى، فإن كل واحد اشتهر به افتخاره، ولم يسع مسلم إنكاره، كيف وفيه حط لمنصب النبوة والرسالة، وحط لمنقب الفتوة والجلالة والفرق أيضا بين حملهم وحمل علي ظاهر، لكل عاقل خابر، إذ كان في حمله عليه السلام وسيلة إلى إعزاز الاسلام، بكسر الأصنام، وإرغام الطغام، قال المرتضى:

 

ولنا من البيت المحرم كلما      طافت به في موضع أقدامه

وبجدنا وبصنوه دحيت من البيت        الحرام وزعزعت أصنامه

فهما علينا أطلعا شمس الضحى حتى استنار حلاله وحرامه

 

وقال آخر:

 

قالوا مدحت علي الطهر قلت لهم:       كل إمتداح جميع الأرض معناه

ماذا أقول لمن حطت له قدم    في موضع وضع الرحمن يمناه

 

(الفصل الثامن)

 

عمل بآية النجوى وبخل غيره، قال الثعلبي في تفسيره: قال ابن عمر: لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلى من حمر النعم: تزويج فاطمة، و إعطاء الراية، وآية النجوى.

الصفحة 181 

وروى ابن المغازلي أنه عليه السلام قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وذكر آية النجوى، وقال بعدها: فبي خفف الله عن هذه الأمة.

وأورده في التفسير الثعلبي، وشريك، والليث، والكلبي، وأبو صالح والضحاك ومقاتل، والزجاج، ومجاهد، وقتادة، وابن عباس، والترمذي، والأشنهي عن الأشجعي، والثوري، وسالم ابن أبي حفصة، وابن علقمة الأنباري، والموصلي وزاد أبو القاسم الكوفي: لو لم أعمل بها لنزل العذاب عند امتناع الكل منها، و حكى القاضي في تفسيره وقال: في هذا تعظيم الرسول، وانتفاع الفقراء، والنهي عن الافراط في السؤال، والتمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا وذكر قريبا منه رزين العبدري.

وفي الكشاف للزمخشري: ومن طريق الحافظ أبي نعيم: بخلوا أن يتصدقوا وتصدق ولم يفعل ذلك أحد غيره، فهنا عتب الله تعالى على كل الأمة لقوله تعالى:

(فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم(1)) وذلك أن الله لم يقيد الصدقة بقليل ولا كثير فلا اعتذار للفقراء بعدم المقدرة، وكان ذلك ليتميز علي عليه السلام وتظهر فضيلته فيهم إذ كان الله عالما قبل اختبارهم بفعله وامتناعهم، فأراد بذلك إظهار شرفه بامتثال أمره، واستحقاق إمرته.

قالوا: كان علي سبب نسخها ومنع الأمة عن نيل ثوابها، إذ عملت بها.

قلنا: [ إذ ] المراد تثبيت فضيلته، وإن لزم منها نقص غيره، وقد كان عند النذير زيادة النفير، وزيادة الرجس عند إنزال السورة، فلا تنفعهم كلمتهم العورة.

قالوا: تفتخرون بصدقة النجوى مع قلتها فكيف يكون افتخارنا بإنفاق أبي بكر مائة ألف كل ماله وعمر نصف ماله؟ قلنا: صدقة النجوى كثرها القبول كما قال عليه السلام: (لا يقل عمل مع التقوى وكيف يقل ما يتقبل) ولولا إعلام

____________

(1) المجادلة: 13.

الصفحة 182 

النبي بقبولها لم يصرح ابن عمر بتمنيها، وما يدعونه من إنفاق أبي بكر فدعوى قام الدليل على خلافها بما ذكره البخاري وغيره أنه كان خياطا وأن بنته أسماء كانت تنقل النوى على رأسها من أرض الزبير وهي عنها ثلاث فراسخ وكان أبوه عضروطا(1) لابن جذعان ينادي على مائدته كل يوم بمد، لو كان ذا مال لصان أباه عن أجرة النداء إلى طعام غيره.

إن قلت: فأيسر بعد ذلك، قلت: الأصل عدمه ولا دليل عليه، ودعوى الإنفاق لا تجري فيه لبنائها عليه، وقبل الهجرة كان النبي غنيا بمال خديجة، وقد أخرج صاحب الوسيلة أنه عليه السلام كان يجازي على الهدية بأكثر منها، قال: كان كل ذلك تنزيها له عن المنن، وتشريفا له بالعز والغناء بما آتاه الله، ولو كان الإنفاق صحيحا، وعلى تقدير صحته لو كان مخلصا، نزل القرآن فيه كما نزل في علي هل أتى وآية الخاتم ونحوها، مع كونه هو الأقل والمنفق عليه وهو النبي هو الأجل.

تذنيب:

اتحاد النبي وعلي عليهما السلام في دار في الجنة يدل على شدة المناسبة في الفضيلة، واستحقاق الثواب دون غيره بيانه أن النبي صلى الله عليه وآله سئل عن شجرة طوبى فقال: أصلها في داري في الجنة وسئل ثانيا في دار علي فقيل له في ذلك، فقال:

داري ودار علي واحدة. روي ذلك عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام.

(الفصل التاسع)

 

مرض الحسنان فعادهما جدهما ووجوه العرب، فنذر علي وفاطمة صيام ثلاثة أيام إن برئا، فكان ذلك. فاقترض علي ثلاثة أصوع من شعير من يهودي و روي أنه أخذها ليغزل له بها صوفا، فطحنت فاطمة عليها السلام صاعا واختبزته فأتاهم مسكين فسألهم فأعطوه، وفي اليوم الثاني يتيم فأعطوه، وفي الثالث أسير فأعطوه

____________

(1) العضروط والعضارط: الخادم على طعام بطنه.

الصفحة 183 

ولم يذوقوا الثلاثة إلا الماء فأتى علي بالحسنين وبهما ضعف إلى النبي صلى الله عليه وآله فبكى فنزلت سورة (هل أتى على الانسان حين من الدهر)(1).

قال الجاحدون: السورة مكية فكيف تتعلق بما كان في المدينة؟ قلنا: ذكر الرازي في الأربعين، وابن المرتضى، والزمخشري، والقاضي في تفاسيرهم و الفراء في معالمه، والغنوي في شرح طوالعه، والواحدي، وعلي بن إبراهيم، و أبو حمزة الثمالي، وأسنده أحمد الزاهد، والحسكاني أنها مدنية، وكذا عن عكرمة، وابن المسيب، والحسن بن أبي الحسن البصري، ونحو ذلك قال خطيب دمشق الشافعي، وأورد القضية بجزئياتها الثعلبي وفي آخرها: بكى النبي صلى الله عليه وآله وقال: وا غوثاه يا الله أهل بيت محمد يموتون جوعا، فهبط جبرائيل و قال: خذ ما هناك الله في أهل بيتك، ثم أقرأه (هل أتى).

وزاد محمد بن علي صاحب الغزالي في كتابه البلغة أنه نزلت عليهم مائدة فأكلوا منها سبعة أيام، وعد أبو القاسم الحسين بن حبيب وهو من شيوخ الناصبية في كتاب التنزيل، ما نزل بالمدينة وهو تسعة وعشرون سورة وذكر هل أتى منها ولم يذكر خلافا فيها، ويقرب منه ما ذكره هبة الله المفسر البغدادي في الناسخ و المنسوخ، بل ذلك قد شاع وذاع، وقرع جميع الأسماع، وأنشد فيه:

 

أنا مولا لفتى    أنزل فيه هل أتى

 

آخر(2):

 

إلام ألام وحتى متى     أفند في حب هذا الفتى

فهل زوجت فاطم غيره أفي غيره أنزلت هل أتى

 

____________

(1) راجع الكشاف ج 4 ص 169 أسباب النزول ص 331 تفسير الرازي ج 3 ص 243، تفسير القرطبي ج 19 الدر المنثور ج 6 ص 299، فتح القدير للشوكاني ج 5 ص 338. على ما في ذيل إحقاق الحق ج 3 ص 157.

(2) نسبه في ذيل الاحقاق إلى الإمام الشافعي.

الصفحة 184 

وقال ديك الجن:

 

شرفي محبة معشر      شرفوا بسورة هل أتى

وولاء من في فتكه      سماه ذو العرش الفتى

 

ولما كان الله سبحانه قد علم صدق نياتهم وإخلاص طوياتهم أنزل على نبيه:

(إنما نطعمكم لوجه الله(1)) قال مجاهد وابن جبير لم يتكلموا بذلك بل علم الله ما في قلوبهم فأثنى به عليهم.

(الفصل العاشر)

 

نزل في علي وفاطمة والحسنين (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(2)). وفي رواية القمي: إنما نزلت في علي والسبطين والأئمة من ولده، قال أحمد بن فارس اللغوي صاحب المجمل، فيه: التطهير:

التنزيه عن الإثم وعن كل قبيح، وأقول: فيه شاهد عدل على عصمتهم.

إن قلت: الواحد المعرف بلام الجنس لا يعم، قلت: بل يعم في النفي لأنه لو ثبت من الرجس فرد كانت الماهية فيه، فلم يصدق إلا ذهاب وليست اللام للعهد لعدم تقدم ذكر الرجس.

قالوا: الله يريد إذهاب الرجس عن كل أحد. قلنا: نمنع أن الرجس المستلزم إذهابه للعصمة يريد الله إذهابه عن كل أحد.

قالوا: (يريد) لفظ مستقبل فلا دليل على وقوعه، قلنا: دعا النبي صلى الله عليه وآله لهم به، ولا يدعو إلا بأمر ربه، فيكون مقبولا فيقع، مع أن صيغة الاستقبال قد جاءت للماضي والحال: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة. يريد الله أن يخفف عنكم. يريدون أن يبدلوا كلام الله(3)).

____________

(1) الدهر: 9.

(2) الأحزاب: 33.

(3) المائدة 94. النساء: 27. الفتح: 15.

الصفحة 185 

قالوا: الاذهاب يستلزم الثبوت أولا وليس من قولكم ذلك، قلنا: لا، لأن الانسان يقول لغيره: أذهب الله عنك كل مرض، ولم يكن حاصلا له كل مرض.

قالوا: المراد النساء لأن مبدء الآية وختامها فيهن قلنا: الميم الذي هو علامة التذكير يخرجهن.

قالوا: فلتخرج فاطمة وليس قولكم. قلنا: يدخل المؤنث إذا جاء معه بخلاف قولكم فإنكم خصصتموها بالنساء.

إن قالوا: خاطب موسى امرأته بالميم في قوله (لعلي آتيكم منها بقبس) قلنا:

أقامها مقام الجمع مجازا إن قالوا: فكذا هنا بل أولى، قلنا: لا ضرورة تحوج إلى المجاز هنا وحديث أم سلمة أخرج النساء وسيأتي ذلك منا، مع انعقاد الاجماع في أن ترتيب القرآن ليس على ما نزل وقال الإمام الطبرسي: عادة الفصحاء الذهاب من خطاب إلى آخر والعود إليه، والقرآن مملوء منه: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء(1)) وقد أخرج صاحب جامع الأصول ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم لما قيل له: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا إن المرأة تكون مع الرجل الدهر ثم يطلقها فترجع إلى قومها أهل بيته هم أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

وأسند ابن حنبل إلى واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وآله أجلس عليا على يساره وفاطمة على يمينه والحسنين بين يديه، ثم التفع عليهم بثوبه وتلا هذه الآية ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي هؤلاء أحق). وفي الرواية قالت أم سلمة:

أنا معكم قال: إنك على خير(2)

____________

(1) يونس: 22. الدهر: 21 و 22.

(2) قد نقل المصنف رحمه الله روايات في هذا الفصل ترى مواضعها ذيل إحقاق الحق ج 2 ص 502 و ج 3 ص 513، وأخرجها في البحار ج 35 ص 217 الطبعة الحديثة.

الصفحة 186 

قالوا: عنى بالخير نزول الآية فيهن. قلنا: لو كن معنيات بالآية لم يكن لقول أم سلمة فايدة، وأيضا فقد أسند ابن حنبل إليها أنها لما قالت ذلك قال لها قومي فتنحي عن أهل بيتي، قالت: فتنحيت، وأسند أيضا إليها أنه ألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم وقال: اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد، قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي، وقال إنك على خير ورواه في المصابيح عن عائشة ورواه أحمد ابن حنبل عن أم سلمة بطريق آخر، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بطريق آخر، في الجزء الرابع للبخاري على حد كراسين.

وفي تفسير الثعلبي عن الصادق عليه السلام معنى طه طهارة أهل البيت ثم تلا آية التطهير، وروى مثل ذلك في تفسيره عن الخدري وعن أبي الحمراء ورواه أيضا الطبراني في معجمه عن الخدري.

قال صاحب المستدرك: إنه حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه قال الترمذي! إنه حديث حسن صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه، وذكر نحو ذلك أبو داود في مواضع من سننه، وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الرابع والستين من افراد مسلم وذكر مسلم أيضا في الجزء الرابع في ثالث كراس أن النبي لما خرج بالأربعة إلى المباهلة قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.

وذكر الشيخ المفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وضع الكساء عليهم ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأنزل الله آية التطهير فيهم وفي أخبار مسلم أنه قال لأم سلمة: إنما نزلت في وفي أخي وابني وتسعة من ولد الحسين ليس معنا فيها غيرنا.

ومما يدل على تخصيصهم ما أسنده الثعلبي في تفسيره إلى الخدري أن النبي قال: نزلت آية التطهير في وفي علي والحسنين وفاطمة وأسند إلى مجمع قال:

دخلت على أمي عائشة فقلت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: كان قدرا من الله، قلت: فعلي؟ قالت: أحب الناس إلى رسول الله، ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله جمعه وفاطمة والحسنين وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس

الصفحة 187 

وطهرهم تطهيرا، قلت: أنا من أهل بيتك؟ فقال: تنحي إنك على خير، ونحوه في زينب.

ومما يدل على خروج النساء قوله (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ولو كن مقصودات لم تخرج عائشة عن الاسلام، وحاربت المجمع على إمامته عليه السلام كما عرفت من صاحب المجمل أن التطهير التنزيه عن كل قبيح، وفي الفردوس:

(قال النبي صلى الله عليه وآله إنا أهل بيت أذهب الله عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

وبهذا يسقط قول من زعم أنه لا يلزم من إرادة ذلك وقوعه، وقد سلف، ولأن الله مدحهم ولا يمدح بغير الواقع، ولأن وصفهم بالطهارة ليس عدميا لأنه نقيض الاتصاف العدمي فوصفهم بها ثبوتي.

وقال: انتهت دعوة إبراهيم إلي وإلى علي في قوله: (اجنبني وبني أن نعبد الأصنام(1)) وأنساب الجاهلية ليست بصحاح لما فيها من السفاح: أسند يزيد ابن هارون أن عمر بن الخطاب لما قيل له إن عليا نذر عتق رقبة من ولد إسماعيل فقال: والله ما أصبحت أثق إلا ما كان من حسن وحسين وعلي وعبد المطلب فإنهم شجرة رسول الله.

وروى الحديث عن أم سلمة الفقيه الشافعي علي بن المغازلي في كتاب المناقب، ورواه عن زادان عن الحسن عن عطاء بن يسار، ورواه ابن عبد ربه في كتاب العقد، وأسند نزولها فيهم صاحب كتاب الآيات المنتزعة، وقد وقفه المستنصر بمدرسته، وشرط أن لا يخرج من خزانته، وهو بخط ابن البواب وفيه سماع لعلي بن هلال الكاتب وخطه لا يمكن أحد أن يزوره عليه.

قال الحميري:

 

طبت كهلا وغلاما       ورضيعا وجنينا

ولدى الميثاق طيبا       يوم كان الخلق طينا

 

____________

(1) إبراهيم: 35.

الصفحة 188 

 

كنت مأمونا وجيها      عند ذي العرش مكينا

 

وقال:

 

له شهد الكتاب ألا تخروا        على آياته صما وعميا

بتطهير أماط الرجس عنه        وسمي مؤمنا فيها زكيا

 

وهذه آيات تطهيرهم قد ظهر سرها فيهم، قال الحسن: والله ما شرب الخمر قبل تحريمها، قال شاعر:

 

علي على الاسلام والدين قد نشا        ولا عبد الأوثان قط ولا انتشا

وقد عبد الرحمن طفلا ويافعا   وذلك فضل الله يؤتيه من يشا

 

وفي التاريخ من طرق كثيرة عن بريدة الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وآله:

قال لي جبرائيل: إن حفظة علي تفتخر على الملائكة لم تكتب عليه خطيئة منذ صحباه.

قال العبدي: وإن جبرائيل الأمين قال لي عن الملائكة الكاتبين. إنهما لم تكتبا على الطهر على زلة ولا خنا.

تذنيب:

ذكر ابن قرطة في مراصد العرفان عن ابن عباس: قال شهدنا النبي تسعة عشر شهرا يأتي كل يوم عند كل صلاة إلى باب علي فيسلم عليهم ويتلو الآية ويدعوهم إلى الصلاة، ونحوه عن أنس وأبي بردة الأسلمي وعن الخدري لما دخل علي بفاطمة جاء النبي أربعين صباحا ويتلو الآية ويقول: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم.

(الفصل الحادي عشر)

 

جعل الله أجر رسالة نبيه في مودة أهله في قوله تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى(1)).

____________

(1) الشورى: 23.

الصفحة 189 

قالوا: المراد القربى في الطاعات أي في طاعة أهل القربى. قلنا: الأصل عدم الاضمار، ولو سلم فلا يتصور إطلاق الأمر بمودتهم إلا مع عصمتهم.

قالوا: المخاطب بذلك الكفار يعني راقبوا نسبي بكم يعني القرشية. قلنا:

الكفار لا تعتقد للنبي أجرا حتى تخاطب بذلك، على أن الأخبار المتفق عليها تنافي الوجهين ففي صحيح البخاري: قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما ومثله في صحيح مسلم، وتفسير الثعلبي ومسند ابن حنبل، ونقله ابن المرتضى والزمخشري في تفسيريهما، وقال صاحب التقريب: قد صح ذلك عن ابن عباس، وقي مناقب ابن المغازلي بالإسناد عن السدي في تفسير (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا(1)) قال: المودة في آل الرسول. قال مكي القيسي في مشكل إعراب القرآن: أصل آل أهل، وهو أعلم ممن صنف في المشكل(2).

قالوا لا ننكر تعظيم الآل والتقرب بهم إلى الله لكن لا ندخلهم في حيز المغالاة من تفضيلهم على الأنبياء، ووجوب العصمة، وعلم الغيب، وحضور المهدي في كل مكان، وعند ذاكريه في كل أوان، وهل ذلك إلا فسوق وعدوان؟

قلنا: لولا إنكاركم فضلهم ما جحدتم ما قال الله ورسوله فيهم حتى بغضتم التسمية بأسمائهم، ونادى إمامكم معاوية بالكف عن فضائلهم، وسب علي على المنابر فلم يتحام للاسلام أحدكم، أما تفضيلهم على الأنبياء ففيه كلام، وإذا قام الدليل على إمامتهم لم يكن دعوى العصمة مغالاة فيهم، وإلا لزم مثله في جدهم.

قال الرازي في مفاتح الغيب في تفسير (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل خاتم التشهد، وهذا التعظيم لم يوجد في غير الآل، وكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب، قال وقال الشافعي:

____________

(1) الشورى: 23.

(2) ترى تلك الأحاديث مشيرا إلى مواضعها في إحقاق الحق ج 3 ص 2 - 19.

الصفحة 190 

 

يا راكبا قف بالمحصب من منى          واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى من         فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد    فليشهد الثقلان أني رافضي

 

فائدة: قال القاضي النعماني: أجمل الله في كتابه قوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)(1) فبينه النبي لأمته ونصب أوصياءه لذلك من بعده، وذلك معجز لهم لا يوجد إلا فيهم، ولا يعلم إلا فيهم، فقال حين سألوا عن الصلاة عليه: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

فالصلاة المأمور بها على النبي وآله ليست هي الدعاء لهم كما تزعم العامة إذ لا نعلم أحدا دعا للنبي فاستحسنه، ولا أمر أحدا بالدعاء له وإلا لكان شافعا فيه ولأنه لو كان جواب قوله تعالى (صلوا عليه) اللهم صل على محمد وآل محمد لزم أن يكون ذلك ردا لأمره تعالى كمن قال لغيره افعل كذا فقال افعل أنت، ولو كانت الصلاة الدعاء لكان قولنا اللهم صل على محمد وآل محمد بمعنى اللهم ادع له و هذا لا يجوز.

وقد كان الصحابة عند ذكره يصلون عليه وعلى آله، فلما تغلب بنو أمية قطعوا الصلاة عن آله في كتبهم وأقوالهم، وعاقبوا الناس عليها بغضا لآله الواجبة مودتهم، مع روايتهم أن النبي صلى الله عليه وآله سمع رجلا يصلي عليه ولا يصلي على آله فقال: لا تصلوا علي الصلاة البترة، ثم علمه ما ذكرناه أولا فلما تغلب بنو العباس أعادوها وأمروا الناس بها وبقي منهم بقية إلى اليوم لا يصلون على آله عند ذكره.

هذا فعلهم ولم يدركوا أن معنى الصلاة عليهم سوى الدعاء لهم، وفيه شمة لهضم منزلتهم حيث إن فيه حاجة ما إلى دعاء رعيتهم، فكيف لو فهموا أن معنى الصلاة هنا المتابعة ومنه المصلي من الخيل، فأول من صلى النبي أي تبع جبريل حين علمه الصلاة ثم صلى علي [ على ] النبي إذ هو أول ذكر صلى بصلاته فبشر

____________

(1) الأحزاب: 56.

الصفحة 191 

الله النبي أنه يصلي عليه بإقامة من ينصبه مصليا له في أمته، وذلك لما سأل النبي بقوله: (اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به أزري) ثم قال تعالى (صلوا عليه) أي اعتقدوا ولاية علي وسلموا لأمره، وقول النبي: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد. أي اسألوا الله أن يقيم له ولاية ولاة يتبع بعضهم بعضا كما كان في آل إبراهيم، وقوله وبارك عليهم أي أوقع النمو فيهم، فلا تقطع الإمامة عنهم.

ولفظ الآل وإن عم غيرهم إلا أن المقصود، هم، لأن في الاتباع والأهل و الأولاد فاجر وكافر لا تصلح الصلاة عليه، فظهر أن الصلاة عليه هي اعتقاد وصيته والأئمة من ذريته، إذ بهم كمال دينهم، وتمام النعمة عليهم، وهم الصلاة التي قال الله إنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة الراتبة لا تنهى عن ذلك في كثير من الموارد.

فهذا وجه من البيان، وعند أولياء الله من ذلك ما لا يحصى، فقد ذكر أن الصادق عليه السلام بين في شئ ثانيا خلاف ما بين أولا فقال: إنا نجيب في الوجه الواحد سبعة أوجه، قال الرجل بسبعة؟ - مستنكرا لذلك - قال: نعم وسبعين.

وهذا معنى ما نقله، ولكن لمظته بلفيظات قليلة، روجت دخوله كل روية صقيلة، وقد أجملت فيهم تفصيل ما قيل فيهم.

 

هم الهداة إلى دين الإله فلا      قوم سواهم بهم يهدى إلى الباري

قل للمعادي لهم مهلا فأنت على        سبيل غيك موقوف على النار

 

تذنيب:

أسند صاحب نهج الإيمان إلى الصادق عليه السلام في تفسير (ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين) قال: لم يكونوا من أتباع الأئمة السابقين وهذا قريب مما سلف، وأسند نحوه إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام أي كنا لا نتولى وصي محمد والأوصياء من بعده، ولا نصلي عليهم.

تكميل: قال المرتضى في رسالته الباهرة في تعظيم العترة الطاهرة: دلنا الله على أن المعرفة بهم إيمان، والشك فيهم والجهل بهم كفران، وقد أجمعت الإمامية

 

 

 

الصفحة 192 

على وجوب معرفتهم، وهو حجة لدخول المعصوم فيهم، بل ويمكن الاستدلال بإجماع الأمة على وجوب معرفتهم، فإن أكثر الشافعية يوجبون في التشهد الأخير الصلاة عليهم، فوجبت معرفتهم، والباقون استحبوها، فعلى الحالين هي من العبادة، وهذه فضيلة لم تحصل لغيرهم بعد جدهم، وقد غرس في القلوب مع اختلاف أديانهم عظم شأنهم، فيهتمون مع تباعد البلاد لزيارة مشاهدهم، ليستفتحون بها الاغلاق، ويسألون عندها الأرزاق.

قيل: هذا التعظيم لهم إنما هو لأجل جدهم. قلنا: كم من قرابة لجدهم ولا تعظيم لهم يقارب تعظيمهم، مع زهادة لهم وعلم وغيره فيهم.

إن قيل: لم لا تكون الأئمة على غير مذهب الإمامية. قلنا: فشيوخ الإمامية كانوا أهل بطانتهم، ومظهرين أن كلما ينتحلونه ويصححونه فعنهم أخذوه، فلو لم يكونوا عليهم السلام مع شدة صلاحهم بذلك راضين، وعليه مقرين، لأبوا عليهم نسبة المذهب إليهم.

إن قيل: قد لا يمكنهم إظهار ذلك لهم لأجل تقيتهم. قلنا: فالتقية إنما هي للإمامية لا منهم.

(الفصل الثاني عشر)

 

في الطائر المشوي فضيلة لعلي بدعوة النبي لا ينكرها إلا الغوي أخرج الفراء في مصابيحه، وصاحب جامع الأصول، وصاحب الوسيلة، وابن حنبل في في مسنده، وابن المغازلي في مناقبه، ورزين في الجزء الثالث من الجمع بين الصحاح الستة، وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، وأبو نعيم في حليته، والبلادري في تاريخه، وابن البيع، والخركوشي، ومسعود، والنطنزي، وداود، وأبو حاتم، والسمعاني، وابن إسحاق، والأزدي، وشعبة، والمازني، وابن شاهين والبيهقي، ومالك، والطبري.

الصفحة 193 

وقال ابن المغازلي: رواه عن أنس يوسف بن إبراهيم الواسطي وإسماعيل ابن سليمان الأزهري؟ وإسماعيل السدي، وإسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة وثمامة بن عبد الله بن أنس، وسعيد بن زر؟ ي، ورواه من الصحابة عن أنس خمسة و ثلاثون رجلا، وذكره الخطيب في تاريخ بغداد، وصنف فيه أحمد بن سعيد كتابا وصححه القاصي عبد الجبار.

وقال أبو عبد الله البصري إن طريقة أبي علي الجبائي في تصحيح الأخبار تقتضي تصحيحه، حيث ذكره علي عليه السلام يوم الشورى، فلم ينكروا.

وفي تكرير الدعاء زيادة مرتبة لعلي في محبة الله ورسوله لا يقاربه أحد فيها فسقط ما يهولون به من أن الله يحب المتقين لأن المحبة تتفاوت بتفاوت التقوى.

وفي مسند أحمد ابن حنبل: أهدت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وآله طيرين فقال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك يأكل معي، فدخل علي و أكل معه، وزاد ابن المغازلي أنه أتى مرتين ويرده أنس وفي الثالث سمعه النبي فقال صلى الله عليه وآله: ادخل ما أبطأك عني، قال هذه ثالثة ويردني أنس، قال: ما حملك؟

قال: سمعت دعوتك فأحببت أن يكون رجلا من قومي وفي موضع آخر من المناقب أنه قال: أحب خلقك إليك وإلي. وفي موضع منها: يا أنس أو في الأنصار خير من علي؟ أو في الأنصار أفضل من علي؟ وقد رواه ابن المغازلي قريبا من ثلاثين طريقا؟.

وفي المحاسن للمفيد أنه لما دخل قال له: قد كنت سألت الله أن يأتيني بك مرتين ولو أبطأت لأقسمت عليه أن يأتيني بك ونحو ذلك في كتب القوم كثير حذفناه وحذفنا بعض الألفاظ اختصارا، فهل يسوغ لمسلم أن يدعي أنه حديث مكذوب بعد هذه الشهرة وقد جعل القوم أساس دينهم قول عائشة وحدها: مروا أبا بكر فليصل.

قالوا: قلتم: كذب أنس ثلاث مرات أن رسول الله صلى الله عليه وآله على الحاجة، فكيف قبلتم روايته، قلنا: ذكرناه إلزاما وقد أجمع على جواز الأخذ عن الراوي قبل

الصفحة 194 

فسقه كما ذكره ابن الصلاح في كتابه.

 

هذا روى أنس بن مالك لم يكن         ما قد رواه مصحفا ومبدلا

وشهادة الخصم الألد فضيلة      للخصم فاتبع الطريق الأسهلا

 

قالوا: خبر واحد. قلنا: تلقته الأمة بالقبول، فلحق بالمجمع عليه، ولأنه موافق للقرآن في قوله تعالى (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)(1) الآية، و للسنة فذكر ابن جبر في نخبه قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي: من زعم أنه آمن بما جئت به وهو مبغضك فهو كاذب، وفي كتاب الثقفي قال عليه السلام: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق، وفي إبانة العكبري وكتاب ابن عقدة، وفضائل أحمد عن جابر و الخدري: كنا نعرف المنافقين على عهد النبي ببغض علي وفي شرح الآلكاني عن زيد بن أرقم: كنا نعرفهم ببغض علي وولده.

قالوا: معنى أحب خلقك أي الذي كتبته رزقا له لا أنه أحب الخلق إلى الله وإلا لكان أحب من النبي. قلنا: خرج النبي بقوله (ائتني) فإنه ليس بمن يأتي إلى نفسه وقد رويتم ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر، فيلزم على قولكم أنه أصدق من نبيكم، ولو كان القصد بالمحبة ما ذكروه من كتب الرزق، فلم يبق لقوله إلي أو إلى رسولك فايدة، وكان الواجب على العلماء على هذا التأويل أن لا يخرجوا ذلك في مناقب علي عليه السلام.

إن قالوا: فلفظة أحب قد لا توجب [ أفعل ] التفضيل لقوله تعالى: (أصحاب الجنة خير مقاما(2)) وقال الشاعر:

 

تمنت سليمى أن أموت وإن أمت        فتلك سبيل لست فيه بأوحد

 

أي بواحد. قلنا: لا شك أن ذلك من المجاز، فلا يعدل عن الحقيقة إليه فإن الانسان إذا قال: فلأن أحب الناس إلي. تبادر إلى الذهن أن غيره لم يبلغ في المحبة منزلته، وأيضا فلولا قصد التفضيل حتى صار المعنى ائتني بالمحبوبين

____________

(1) المائدة: 54.

(2) الآية في الفرقان هكذا: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا).

الصفحة 195 

لم يكن قد أجيب دعاء النبي صلى الله عليه وآله لعدم إتيان كل المحبوبين، ولكان إفراد علي من بينهم ترجيحا بلا مرجح، ولأن في قول النبي صلى الله عليه وآله له: ما أبطأك عني؟

دليل على أنه كان ينتظره بعينه دون غيره، ولولا ذلك لم يحب أنس أن يكون رجلا من قوله لما فهم الفضل والشرف بذلك.

قالوا: لا يدل الفضل في الحال على الفضل في الاستقبال. قلنا: لولا ذلك لم يخصم به علي في الشورى معانديه من الرجال، وفي عدم رد ذلك منهم دليل ثبوت الفضل في الاستقبال كالحال، وقد أنشأ الفضلاء في ذلك أشعارهم فمن أبيات للحميري:

 

وفي طائر جاءت به أم أيمن    بيان لمن بالحق يرضى ويقنع

فقال إلهي آت عبدك بالذي    تحب وحب الله أعلى وأرفع

 

وقال الصاحب:

 

علي له في الطير ما طار ذكره   وقامت به أعداؤه وهي تشهد

 

وقال ابن رزيك:

 

وفي الطائر المشوي أوفى دلالة لو استيقظوا من غفلة وسبات

 

وفي رواية أن كلا من عائشة وحفصة قالت: اللهم اجعله أبي وفي بعضها لم يبق في البيت أحد إلا أرسلته إلى أبيها وفي رواية لما قال: أحببت أن يكون رجلا من قومي، قال النبي صلى الله عليه وآله أبى الله إلا أن يكون علي ابن أبي طالب.

قال الطبرسي في احتجاجه: أسند الصادق عليه السلام إلى آبائه عليهم السلام أن عليا قال: جاع النبي فطلب من الله فجاءه جبرائيل عليه السلام بطير قال النبي فقلت: اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني يأكل معي، فلم يأت أحد فقلت: ثانية اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني وأحبه، فلم يأت أحد، فقلت ثالثة: اللهم يسر عبدا يحبك و تحبه ويحبني وأحبه، فسمعت صوتك، فقلت لعائشة أدخليه أخبرني ما أبطأك عني فقلت: طرقت الباب مرة فقالت عائشة نائم، فانصرفت، وطرقته ثانية فقالت:

على الحاجة، فرجعت وجئت وطرقته ثالثا عنيفا فسمعني النبي فأدخلني وقال:

ما أبطأك عني فقلت هذه ثالثة وتردني عائشة فكلمها فقالت: اشتهيت أن يكون أبي

الصفحة 196 

فقال صلى الله عليه وآله: ما هذا بأول ضغن بينك وبينه لتقاتليه، وإنه لك خير منك له ولينذرنك بما يكون الفراق بيني وبينك في الآخرة، وكذا كل من فرق بيني وبينه بعد وفاتي.

(الفصل الثالث عشر)

 

روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي حبك حسنة لا تضر معها سيئة، و بغضك سيئة لا تنفع معها حسنة.

قالوا: أحبه أبوه وقد روي أن في رجليه نعلان يغلى منهما دماغه. قلنا:

هذا الحديث افتراء من علماء السوء الذين رضوا بسب علي جهارا وستعلم إيمان أبهى، ولو سلم عدمه إنما لم تنفعه محبة ابنه لأنها طبيعية والمحبة المرغب فيها إنما هي في الله، فهي ربانية.

قالوا: الخبر مكذوب. قلنا: رواه الخوارزمي في الأربعين والديلمي في الفردوس، وقد أجمع المسلمون على قوله عليه السلام: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. ولا شك أنه الإمام، فلا تنفع الجاهلية حسناتهم.

قالوا: لو صح ذلك لزم إحباط أكثر أعمال الناس لأنكم تزعمون أن الأكثر يبغضه، وقد كذب القرآن ذلك بمدحه للصحابة: (ومن يعمل صالحا. ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره(1)) ونحوها، ولم يشترط فيه حب علي ولا بغضه.

قلنا: لا، فإن أعاظم الصحابة كانت في جانب علي كما قاله شارح الطوالع وغيره، إلا أنهم الأقل عددا، وكذلك أتباع كل نبي ووصي، وقد أخرج صاحب المصابيح وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله مات ساخطا على ثلاثة أحياء من العرب و عد منهم أمية، وقال ابن الجوزي في زاد المسير: ورد أن الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية، وقال في المصابيح وغيرها: قال النبي صلى الله عليه وآله: هلاك أمتي على يد أغلمة من قريش، وظاهر في بني العباس شرب الخمور، وركوب الفجور، و

____________

(1) التغابن: 9. الزلزال: 7.

الصفحة 197 

قتلهم أولاد علي وتشريدهم، حتى أنشئت الأشعار، في القتل والطرد لبني المختار منها قول دعبل:

 

لا أضحك الله سن الدهر إذ ضحكت   يوما وآل رسول الله قد قهروا

مشتتون نفوا عن عقر دارهم    كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

 

وقال أبو نواس:

 

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت      تلك الجرائم إلا دون نيلكم

أأنتم آله فيما ترون وفي          أظفاركم من بنيه الطاهرين دم

 

وقال الشهرستاني:

 

بمحمد سلوا سيوف محمد      ضربوا بها هامات آل محمد

فكأن آل محمد أعداؤه وكأنما الأعداء عترة أحمد

 

وقال العلوي:

 

أهل النبي الذي لولا هدايتهم    لم يهد خلق إلى فرض ولا سنن

مشتتين حيارى لا نصير لهم    مشردين عن الأهلين والوطن

 

وقال السروجي

لأصبح دين الله من بعد قوة     على جرف هار بغير دعائم

وآل علي الطهر شرقا ومغربا    يطاف بهم في عربها والأعاجم

كأنهم كانوا على الدين سوقة    تطل دماها بالقنا والصوارم

وأوصى رسول الله قبل وفاته    بقتل بنيه دون أولاد آدم

 

ونحو هذا كثير يخرج عن قانون الكتاب، فكيف يقال إنهم غير مبغضين وفي أي موضع مدح القرآن الصحابة، بل ذمهم وذم كثيرا منهم في آية النجوى (فتاب عليكم(1)) وفي سورة الفتح (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه. لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة(2)). وقد كانت البيعة على عدم الفرار وقد

____________

(1) وتاب عليكم: المجادلة 23.

(2) الفتح: 10 و 18.

الصفحة 198 

فر كثير بأحد وخيبر وحنين، ولهذا قال: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه(1)) ولم يقل كل المؤمنين وقال تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا(2)).

وقد جاء في السنة ذم بعضهم كحديث الحوض، وحديث الدبادب أخرج مسلم في صحيحه والجامع بين الصحيحين ونحوه ذكر ابن كيسان والثعلبي في تفسيره وفي تفسيره لبراءة في قوله (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم(3)) قال الحسن: كانت هذه السورة تسمى الخفارة خفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته وقد قال النبي: (لتركبن سنن من كان قبلكم).

وآية مثقال الذرة من الخير مخصوص بغبر المشركين إجماعا مع أنه قد يرى في الدنيا أو في الآخرة بتخفيف العقاب.

قوله: ولم يشترط حب علي ولا بغضه. قلنا: بل حيث قال تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة(4)) الآية وقوله: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى(5)) نقل ابن المرتضى والكواشي وغيرهما أن الاهتداء إلى محبة أهل البيت، وقد أجمع المسلمون على قوله: (حب علي يأكل الذنوب، كما تأكل النار الحطب) قال صاحب الوسيلة: إنه من خصائصه وأخرج أيضا من خصائصه قوله عليه السلام: (من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله). و حديث ابن عمر: (من فارق عليا فقد فارقني) وقوله: (يا علي طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك) وقوله: (علي أقضى أمتي بكتاب الله، فمن أحبني فليحبه، فإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحب علي) وقال: (لا يقبل الله فريضة إلا بحب علي) وقال: (حب علي فرض، وبغضه كفر) وقد

____________

(1) الأحزاب: 23.

(2) الأحزاب: 15.

(3) براءة: 65.

(4) المائدة: 55.

(5) طه: 82.

الصفحة 199 

أخرج ذلك كله صاحب الوسيلة فيما خص به علي دون غيره.

قالوا: لو كان حبه حسنة لا تضر معها سيئة، لم يضر ترك العبادات، ولا فعل المنهيات، وبطلت الحدود والتوعدات. قلنا: قد جاء عن النبي: (المرء مع من أحب، ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ونحو ذلك كثير فالطعن فيه و فيما سلف نحوه طعن على ملة الاسلام، وتأويل ذلك أن من أحب عليا لا يخرج من الدنيا إلا بتوبة تكفر سيئاته، فتكون ولايته خاتمة عمله، ومن لم يوفق للتوبة ابتلي بغم في نفسه، أو حزن على ماله، أو تعسير في خروج روحه، حتى يخرج من الدنيا ولا ذنب له يؤاخذ به قالوا: فقد ضر ذلك. قلنا: متناه محتقر بالقياس إلى الخلوص من طبقات الجحيم، والخلود في جنات النعيم، فصح إطلاق اللفظ من النبي كما أطلقت اللغة الأسود على الزنجي، وقالوا: لا ضرر على من نجت من المهلكة نفسه وإن تلف ماله، ولو لم يكن لنا إلا الحديث المجمع عليه: (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق) لكفى ولقد علمت ما جاء في المنافق، ولا يشك عاقل أن حبه حسنة وقد قال تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات(1)) وكيف تقولون لا يضر ترك العبادات، وفعل المنهيات، وعندكم لا طاعة للعبد ولا معصية، وأن الله لا يفعل لغرض فله إثابة العاصي، ومؤاخذة الطائع، وناهيك بقول المضلين فسادا في الدين أعاذنا الله منه وسائر المؤمنين.

إن قالوا: إنما ذكرنا ذلك إلزاما لكم لأنكم ترون للعبد فعلا، وتعتقدون في أفعال الله غرضا، قلنا: نرجع إلى جوابنا الأول من أن ضرر اليسير ينغمر في جنب الحاصل بمحبته من الخير الكثير.

____________

(1) هود: 115.

الصفحة 200 

 

(الفصل الرابع عشر)

 

أخرج صاحب الوسيلة في المجلد الخامس قول النبي لعلي: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى لقلت مقالا لا تمر على ملأ إلا أخذوا من تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وإنك تبرئ ذمتي وتقاتل على سنتي، وإنك في الآخرة معي، وعلى الحوض خليفتي، وأول من يدخل الجنة معي، وإن شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم، أشفع لهم ويكونون جيراني وإن حربك حربي، وسلمك سلمي، وسرك سري، وعلانيتك علانيتي، وإن الحق معك، وعلى لسانك، وفي قلبك، وبين عينيك، وإن الإيمان يخالط لحمك ودمك، كما خالط لحمي ودمي، ولن يرد الحوض مبغض لك، ولن يغيب عنه محب لك. وقد أخرج صاحب المناقب صدر هذا الحديث بأسانيده، وأخرج ابن المغازلي الشافعي في موضعين من مناقبه قول النبي صلى الله عليه وآله: علي يوم القيامة على الحوض، لا يدخل الجنة إلا من جاء بجواز منه.

قالوا: جاء القرآن بأن الكوثر للنبي لا لعلي. قلنا: قد ذكرنا كون علي خليفة فيه للنبي وسيأتي في ذلك شئ مما روي.

قالوا: لو تولى علي سقي أهل الأرض، لم يفرغ من سقي الأقل إلا وقد مات الأكثر عطشا. قلنا: هذا تعجيز لله فإنه إذا أراد أمرا بلغه وأيضا فقد أورد الكنجي الشافعي أن هذا منصب النبي فيرد عليه ما أوردتم على علي وقد جاء في ملك الموت وملك الرزق مثل ما قلنا في علي، وقد أخرج البخاري سعة الحوض وأن آنيته كعدد النجوم، والسقي عبارة عن التخلية بينهم، وعدمه عبارة عن الذود عنه.

قالوا: كيف يليق لعلي الرفيع جعله خادما ويسقي الرفيع والوضيع؟

الصفحة 201 

قلنا: لا بل هو منصب شريف لا ينكره إلا ذو عقل سخيف، وهل يشرب من الحوض وضيع كذوي المحال الشنيع، وناهيك بشناعته جرأته على النبي كما ذكرنا عن الكنجي.

قال ابن الأطيس:

 

من قال فيه المصطفى معلنا     أنت لدى الحوض لدى الحشر

أنت أخي أنت وصيي كما       هارون من موساه في الأمر

 

قال ابن أبي الحديد في مدحه عليه السلام:

 

والمترع الحوض المدعدع حيث لا      واد يفيض ولا قليب ينزع

 

وقال آخر:

 

صفات أمير المؤمنين من اقتفى يدارجها أقنته ثوب ثوابه

صفات جلال ما اغتذى بلبانها  سواه ولا حلت بغير جنابه

تفوقها طفلا وكهلا ويافعا        معاني المغالي فهي ملء إهابه

مناقب من قامت به شهدت له  بإزلافه من ربه واقترابه

مناقب لطف الله أنزلها به        وشرف ذكراه بها في كتابه

 

(الفصل الخامس عشر)

 

أخرج أبو بكر ابن فورك في كتاب الفصول عن أسماء بنت عميس حديث رد الشمس على أمير المؤمنين عليه السلام، وأسند محمد بن عثمان المزني، وأخرج ابن المغازلي من طريقي فاطمة بنت حبش ورافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأخرجه القاضي أبو يعلى في المعتمد، وصاحب كتاب الشافي في بشائر المصطفى، وقال فيه إمام المعتزلة ابن أبي الحديد:

 

إمام هدى بالفرض آثر فاقتضى له القرص رد القرص أبيض أزهرا

 

وأخرج ابن مردويه، والنطنزي، وابن منده، والجرجاني، وابن إسحاق

الصفحة 202 

والشيرازي، والوراق، والحسكاني، وصنف أبو عبد الله الجعل فيه كتابا، و ابن شاذان كتابا، وقد ذكر ابن شهرآشوب أنه روي أنها ردت له في مواضع كثيرة منها بالصهباء في غزوة خيبر، قال ابن حماد:

 

والشمس قد ردت عليه بخيبر  وقد انبدت زهر الكواكب تطلع

وببابل ردت عليه ولم يكن      والله خير من علي يوشع

 

وقال العوني:

 

ولا تنس يوم الشمس إذ رجعت له      بمنتشر وار من النور مقنع

كذلك بالصهباء وقد رجعت له ببابل أيضا رجعة المتطوع

 

وروى الكليني في الكافي ردها بمسجد الفضيخ، والمشهور مرتان: مرة بكراع الغميم روتها أم سلمة وأسماء بنت عميس، وجابر، وابن عباس، والخدري وأبو هريرة، والباقر والصادق عليهما السلام أن الوحي تغشى النبي صلى الله عليه وآله فأسنده علي فلما تم قال صليت؟ قال: لا، قال: ادعوا الله يرد عليك الشمس، فدعا فردت، وقد ذكره ابن جمهور في كتاب الواحدة وقد روي أنه صلى إيماء فلما ردت الشمس أعاد فأمر النبي صلى الله عليه وآله حسانا أن ينشد شعرا فقال:

 

لا تقبل التوبة من تائب إلا بحب ابن أبي طالب

أخي رسول الله بل صهره        والصهر لا يعدل بالصاحب

يا قوم من مثل علي وقد         ردت عليه الشمس بالغائب

 

ومرة ببابل، رواها جويرية ابن مسهر، وأبو رافع، وزين العابدين، و الباقر عليهما السلام أنه لما عبر الفرات لم يفرغوا من العبور حتى غابت فلم يصل الجمهور فتكلم الناس في ذلك فسأل الله فردت فصلوا فقال قدامة السعدي:

 

رد الوصي لنا الشمس التي غربت        حتى قضينا صلاة العصر في مهل

لم أنسه حين يدعوها فتتبعه    طوعا تلبيه مهلاها بلا عجل

وتلك آياته فينا وحجته فهل له في جميع الناس من مثل

أقسمت لا أبتغي يوما به بدلا    وهل يكون لنور الله من بدل

 

الصفحة 203 

 

حسبي أبي حسن مولا أدين به ومن به دان رسل الله في الأول

 

وبالجملة فهذان الموضعان، أمران شايعان، قال السيد المرتضى:

 

ردت عليه الشمس يجذب ضوءها      صبحا على بعد من الإصباح

من قاس ذا شرف به فكأنما     وزن الجبال السود بالأشباح

 

وقال الحميري:

 

ردت عليه الشمس لما فاته      وقت الصلاة وقد دنت للمغرب

وعليه قد ردت ببابل مرة         أخرى وما ردت لخلق مغرب

 

وقال الصاحب بن عباد الرازي:

 

كان النبي مدينة العلم التي       حوت الكمال وكنت أفضل باب

ردت عليك الشمس وهي مضيئة        ظهرت ولم تستر بكف نقاب

 

وقال آخر:

جاد بالقرص والطوى بين جنبيه وعاف الطعام وهو سغوب

فأعاد القرص المنير عليه        الفرض والمقرص الكريم كسوب

 

وقد أنشد فيه ابن حماد، والمفجع المصري، وكشاجم، والعوني، و الرضي، والسروجي، وابن الحجاج، والصنوبري، وابن رزيك، وابن الرومي والجماني، والإسكافي، والإصفهاني.

اعترض ابن فورك في كتاب الفصول أنه لو كان صحيحا لرآه جميع الأبشار في ساير الأقطار، أجبنا بانشقاق القمر للنبي المختار، ولم تعترف به طوائف الكفار وقد اختلف الناس فيما هو أظهر من ذلك: البسملة والوضوء وغيره مما كان النبي يكرره، وقد عرفت برواية الفريقين بطلان ما قالوه من أن تلك الروايات ليست حجة علينا لأنها من طرقكم.

قالوا: لو ردت الشمس لعلي لزم أن يكون أفضل من النبي لأن العصر فاتته يوم الخندق، ولم ترد له. قلنا: هذا من رواياتكم الكاذبة، لتسقطوا بها فضيلة علي كيف ذلك وقد ذكر خطيب دمشق عن صاحب كتاب الفتوح أن عليا عليه السلام

الصفحة 204 

ليلة الهرير بسط له نطع فصلى نافلته والسهام تمر عليه، فلم ترعه، وتريع النبي يوم الخندق فلم يصل، والهرير أشد من الخندق لأنها انكشفت عن ستة وثلاثين ألف قتيل، فكان يلزم كون علي أشجع من النبي وبطلانه إجماعي.

قالوا: نام النبي عن صلاة الغداة ولم ترجع الشمس إلى الليل: قلنا: قد أخرج البخاري في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وآله: تنام عيني ولا ينام قلبي، وهو ؟ كذب ذلك.

قالوا: ترك علي للصلاة إن كان عمدا أو نسيانا بطل ما تدعونه من عصمته، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (ليس بين الإيمان والكفر إلا ترك الصلاة). قلنا: قد جاء أن عليا صلى جالسا ليجمع بين طاعة ربه في صلاته، وما فيه تكميل الوحي إلى نبيه فلما أفاق النبي ورأى غمه على تكميل صلاته، سأل ربه أن يردها كرامة له وله وفي رواية أن الله تعالى ألقى على علي النعاس ليفرد نبيه بإسماع الوحي، فلم ينتبه فنزلت عن موضع الفضيلة، ورجعت إليه، وببابل اشتغل الناس بالعبور وصلى وحده فتكلموا في ذلك فأراد جمعهم على الصلاة، وليريهم كرامته، وقيل لم يصل فيها لأنها أرض خسف، وقد أمر النبي أصحابه أن لا يبيتوا في واد خوف الشياطين ففعلوا ففاتهم الصبح، وقيل صلى علي منفردا وأعادها بهم لا ذهاب إرجاف أعدائهم، و ليزيل بكرامته شك أصحابه في أمره.

تذنيب:

روى محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام عن جابر أن الشمس كلمت عليا سبع مرات:

الأول: قالت يا أمير المؤمنين اشفع لي عند ربي لا يعذبني. الثاني: أمرني أن أحرق مبغضيك. الثالث: لما قال لها ببابل: ارجعي قالت: لبيك. الرابع:

قال لها: هل تعرفين لي خطيئة؟ قالت: وعزة ربي لو خلق الله الخلق مثلك لم يخلق النار. الخامس: لما اختلفوا في الصلاة في عهد أبي بكر فخالفوا عليا فقالت:

الحق له وبيده ومعه، وسمعها قريش ومن حضر. السادس: لما جاءته بالسطل

 

 

 

الصفحة 205 

فتوضأ وقال: من أنت؟ قالت: الشمس المضيئة. السابع لما دنت وفاته جاءته فسلمت عليه، وعهد إليها وعهدت إليه، وأنشأ في ذلك الناشي والعوني وابن حماد والمغربي وغيرهم.

(الفصل السادس عشر)

 

جاء في الأخبار الحسان أن عليا عليه السلام مضى في ليلة إلى المدائن لتغسيل سلمان، فأنكر الناصبية ذلك، وقالوا: هذا خارج عن قدرة الانسان، قلنا: قد جاء من خبر آصف وعرش بلقيس ما حكاه القرآن حيث أتى به من مسيرة شهرين إلى سليمان في طرفة عين، وقد صح في أخبارهم أن الدنيا خطوة رجل مؤمن، وقد نسب إلى بعض شيوخ الصوفية ذلك: فلم ينكروه، فكيف بأمير المؤمنين ورووا حديث عمر بسارية وهو قريب من ذلك فلم ينكروه، وحكموا في كتبهم بأنه لو عقد رجل بالمشرق على امرأة بالمغرب فولدت لحق به استنادا إلى كون الدنيا خطوة مؤمن، وقد روي أن ابن هبيرة شكا إليه عليه السلام شوقه إلى أولاده فأغمض عينيه ثم فتحهما وإذا بداره في المدينة وعلي على السطح فجلس هنيئة ثم قال: هلم ننصرف فأغمض عينيه ثم فتحها فإذا هو بالكوفة فتعجب وسيأتي فيه مزيد كلام.

قالوا: ادعيتم إنكار سلمان على المشايخ إمامتهم وقد كان عاملا لعمر على المدائن يدعو إلى إمامته، قلنا: لا يرتاب أحد أن سلمان كان من شيعة علي وقد روى سبط الجوزي الحنبلي في كتاب الرجال أن جماعة من الصحابة سألوه لمن الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:

 

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا        عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتهم     وأعرف الناس بالأحكام والسنن

ما فيهم من صنوف الخير يجمعها       وليس في القوم ما فيه من الحسن

 

فانصرفوا عنه إلى السقيفة، فلما أخبر بها، قال: (كردن ونيك نكردن)

الصفحة 206 

فكيف يقال: إن يدعو إلى خلافة عمر، وأما توليته فالظاهر أنها كانت بإذن علي لأن الحق له ولو أمكنه تولية جميع أصحابه عن أمره وجب عليه.

قالوا: عرضتم بكفر المشايخ وغيرهم أن عليا لم يشرك قط والمراد أنه أسلم قبل البلوغ وليس ذلك من خصائصه إذ ساير أطفال المسلمين كذلك. قلنا:

لا قياس إذ المراد زمان الفترة التي هلك الناس فيها بعبادة الأصنام وعلي وآباؤه على ملة إبراهيم عليه السلام، وقد ذكرنا من طرقكم قول النبي صلى الله عليه وآله سباق الأمم ثلاثة لم يشركوا بالله طرفة عين، فلو لم يكن من خصائصه، انتفت الفائدة في التنويه بذكره وفيه أكبر دليل على عصمته، حيث قطع النبي بعدم الشرك وهو غيب لا يكون إلا بإعلام ربه.

إن قلت: فحديث السبق ينافي أنه لم يشرك قط قلت: لا ينافي إذ المراد السبق إلى الإيمان بالنبي وهو استدلالي وعلي ظهر له ذلك قبل آبائه وغيرهم لا أنه كان مشركا.

قالوا: كان طفلا في كفر آبائه فمحجور على إيمانه إلى بلوغه. قلنا: سيأتي إسلام أبويه في باب النص من الرسول عليه، وقد اشتهر في شعرهم (نحن آل الله في كعبته) لم يزل ذلك على عهد إبراهيم، وهل قولكم إلا ردا على النبي سباق الأمم ثلاثة، وقد أخرج صاحب الوسيلة في مناقب علي قول النبي صلى الله عليه وآله: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين من قبل أن يسلم بشر، والمحجور عليه كافر فكيف تصلي الملائكة عليه، وأيضا فقد ذكر شارح المصابيح أنه أسلم ابن خمس عشر سنة وشارح الطوالع ابن أربعة عشر سنة، وسيأتي.

قالوا: قلتم: علي لم يزل مسلما فلو كان صحيحا لكان أفضل من النبي لقوله تعالى لنبيه: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان(1)) قلنا: قد بينا أن معنى (لم يزل مؤمنا) أي لم يسبقه بشرك وأما إسلامه بمحمد فلم يشك في تجدده عاقل والإيمان المنفي عن النبي ليس هو المستلزم للشرك لعلمنا وعلمكم بسلامة الأنبياء

____________

(1) الشورى: 52.

الصفحة 207 

منه، بل المراد: ما كنت تدري ما الإيمان الذي تبلغه.

قال الإمام الطبرسي: ما كنت تدري معالم الإيمان، وقيل ما كنت تدري أهل الإيمان، من يؤمن ومن لا يؤمن، وقد أخبر عليه السلام أن الإيمان بضع وسبعون شعبة ولم يدر كلها في أول البعثة وأيضا فمعرفة الإيمان كسبية، فحال النظر لا يسمى الانسان كافرا وإلا لم يسلم من الكفر أحد.

تذنيب:

جوز الفضيلية من الخوارج الكفر على الأنبياء، وذهب ابن فورك إلى جواز بعثه من كان كافرا، وقال بعض الحشوية أن نبينا عليه السلام كان كذلك لقوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى(1)) وقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) وصاحب هذا الاعتراض إن كان يعتقده فهو لاحق بها ولاء أعاذنا الله من ذلك.

(الفصل السابع عشر)

 

روى أبو المؤيد الخوارزمي في كتاب المناقب قول النبي: خاطبني ربي في المعراج بلغة علي فقلت: يا رب تخاطبني أم علي؟ فقال: خلقتك من نوري، و خلقت عليا من نورك، فأطلعت على سرك فلم أجد إلى قلبك أحب منه في قلبك فخاطبتك بلسانه كي يطمئن قلبك.

قالوا: في الرواية سمعتك تقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى فما رأيتك تحب أكثر منه فخاطبتك بلغته، ولا شك أن حديث هارون من موسى كان في غزوة تبوك والمعراج قبله بنحو ستة، فالرواية بالمخاطبة بلغته مزورة، قلنا:

بل قولكم سمعتك تقول الخ هو المزور إذ حديث هارون بالوحي لامتناع الاجتهاد من النبي عند المحققين، فكيف يقول الله: سمعتك تقول، وأيضا نمنع اختصاص حديث هارون بغزوة تبوك، فإن أوله حديث الأخوة وقد أورده صاحب الوسيلة في عدة مواضع منها قول النبي مكتوب على باب الجنة لا إله إلا الله، محمد رسول -

____________

(1) الضحى: 7.

الصفحة 208 

الله، علي أخو رسول الله، ومنها قول جبرائيل له في المعراج: نعم الأخ أخوك علي ابن أبي طالب، ومنها أنه رأى ليلة المعراج حوراء ولم ير أحسن منها فسلمت عليه وقالت: خلقني الله لأخيك علي بن أبي طالب ومنها لما ولد الحسن أهبط الله جبرائيل يهنيه ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون شبر فقال: لساني عربي قال: سمه الحسن.

قالوا: فيلزم من مخاطبة الله بلسان علي أن يكون فيه شبه ما لعلي وهو كفر قلنا: الله متكلم عندنا بخلق الكلام في جسم فالشبه لذلك الجسم دون الله، فلا كفر.

قالوا: فيلزم أن يكون علي أحب من الله إلى النبي. قلنا: زيادة الاستيناس بلغة علي لكثرة الممازجة لا تدل على أنه أحب من الله إلى النبي(1) ولهذا نزل جبرائيل إليه في صورة دحية الكلبي ولم يكن أحب من جبرئيل إلى النبي.

قالوا: بذكر الله تطمئن القلوب، لا كما رويتم في اطمينان قلب النبي بلغة علي. قلنا: إن عنيتم بالذكر القرآن فهو غير لازم، وإن عنيتم ما هو أعم منه فلغة علي منه على أن الله قد عبر بالذكر عنه في قوله: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني(2)) وعبر به عن النبي في قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا(3)) وظاهر أن الاطمينان بالنبي والوصي كما هو بالكتاب الإلهي، مع أن القلوب عام مخصوص بغير الكفار، وقد يكون الذكر موجبا للخوف، كما قال: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم(4)) ونحوها.

ثم إن المخالفين الجاحدين اقتدوا بأسلافهم في بغضة أمير المؤمنين، وأنكروا ما خصه رب العالمين، ورسوله النبي الأمين، وكتبهم ناطقة بالأحاديث القدسية والأخبار النبوية، فقد أخرج صاحب الوسيلة قول النبي لعلي: أكرمك الله علي بأربع خصال: زوجة مثل فاطمة زوجها الله فوق عرشه، وصهر مثلي، وولدين مثل

____________

(1) في النسختين: أحب إلى الله من النبي. وهو سهو.

(2) المائدة: 29.

(3) الطلاق: 11.

(4) الأنفال: 8.

الصفحة 209 

الحسنين، ولم أرزق مثل ذلك، وقوله نظرت في الإسراء فإذا على ساق العرش الأيمن: محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته به، وقال: علي مني بمنزلة رأسي من جسدي، وقال: من أحب أن يحيى حياتي، ويموت موتي، ويتمسك بالقضيب الياقوت الذي خلقه الله فليتمسك بعلي ابن أبي طالب بعدي.

 

أيها المؤمن الذي طاب فرعا    وزكى منه أصله وتمسك

طب بدين النبي نفسا وإن       خفت من النار في غداة تمسك

فاستجر من لظا لظى بعلي       وبنيه وبالبتول تمسك(1)

 

وقال: ذكر علي بن أبي طالب عليه السلام عبادة، وقال: أول من يأكل من شجرة طوبى علي بن أبي طالب، وقال: علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة وقال: علي بن أبي طالب وأهل بيته عمود الجنة، وقال: لعلي من الثواب ما لو قسم على أهل الأرض لوسعهم، وقال: علي يحمل لوائي يوم القيامة وقد أعطي كصبري وحسن يوسف وقوة جبرائيل، وجميع الخلائق تحت لوائي، وقال و هو في منزل علي: أخبرني جبرائيل أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، قال الحسين: فمن يزورنا؟ قال: طائفة من أمتي يريدون بذلك بري وصلتي، إذا كان يوم القيامة زرتهم وأنجيتهم من أهواله، وفي حديث آخر: ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم، كما تعير الزانية، أولئك أشرار أمتي، وقد أوردناه تاما في شرح التكليفية من وفق له وقف عليه، وقال: أخبرني جبرائيل أن السعيد كل السعيد من أحب عليا في حياتي وبعد وفاتي، وقال صلى الله عليه وآله: أنا شجرة و فاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسنين ثمرها، والمحبون لأهل البيت ورقها إلى الجنة حقا حقا.

وأسند ابن ماجيلويه في كتاب الآل إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه لما خلق الله آدم وحوى تبخترا في الجنة وقال آدم: ما خلق الله تعالى أحسن منا فأمر الله جبرائيل فأخذهما إلى الفردوس فرأيا جارية على رأسها تاج من نور، وفي أذنيها قرطان من

____________

(1) قد مر في ص 100 فراجع.

الصفحة 210 

نور، قد أشرقت الجنان من نور وجهها، فقال آدم: ما هذه؟ قال جبرائيل: هذه فاطمة بنت محمد نبيي من ولدك، قال: فما التاج؟ قال: بعلها علي ابن أبي طالب قال فما القرطان؟ قال: ولداها الحسنان قال: خلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة.

فهذه روايات الفريقين، ناطقة بأفضليته، وشاهدة من الله ورسوله بعظم منزلته، والسوالف ينكرونها ببغيهم وحسدهم، والخوالف يجحدونها بغيهم و بغضهم. شعر:

 

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله فالناس أعداء له وخصوم

كضراير الحسناء قلن لوجهها   حسدا وبغيا: إنه لدميم

 

وقال آخر:

 

أزاحوك ظلما عن مقامك غصة          رأوا فيك فضلا لم يروا في جيادها

ومن عادة الغربان تكره أن ترى بياض البزاة الشهب بين سوادها(1)

 

(الفصل الثامن عشر)

 

نقل مالك بن أنس أخبارا جمة في فضائل علي وكان يفضله على أولي العزم من الأنبياء فرمي بالغلو لذلك، وكان الجعارتي، وأبو الأزهر الهروي وغيرهم يرون الحق فرموهم بالرفض، وأكثر شيوخنا يفضلونه على أولي العزم لعموم رئاسته، وانتفاع جميع أهل الدنيا بخلافته، لكونه خليفة لنبوة عامة بخلاف نبوتهم ولقول النبي صلى الله عليه وآله في خبر الطائر المشوي: ائتني بأحب خلقك إليك، ولم يستثن الأنبياء، ولأنه مساو للنبي الذي هو أفضل في قوله: (وأنفسنا وأنفسكم(2)) والمراد المماثلة لامتناع الاتحاد ولأنه أفضل من الحسنين في قوله صلى الله عليه وآله: (أبوهما خير منهما) وقد جعلهما جدهما سيدين لأهل الجنة في الحديث المشهور فيهما.

____________

(1) البزاة جمع البازي وهو ضرب من الصقور.

(2) آل عمران: 61.

الصفحة 211 

وقد أسند الأعمش إلى جابر الأنصاري قول النبي صلى الله عليه وآله له: أي الإخوان أفضل؟ قلت: النبيون، فقال (أنا أفضلهم وأحب الإخوة إلي علي بن أبي طالب فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن قال: إنهم خير منه، فقد جعلني أقلهم لأني اتخذته أخا لما علمت من فضله، وأمرني ربي به).

وأسند ابن أبي عمير إلى الصادق عليه السلام أن الله قال لموسى عليه السلام: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ(1) ولم يقل كل شئ وفي عيسى: (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه(2)) وقال في علي بن أبي طالب: (ومن عنده علم الكتاب(3)) وقال: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين(4)) فعند علي علم كل رطب ويابس.

إن قلت: عند علي علم الكتاب، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب، هذا من الشكل الثاني وعقيم، وهو هنا لا يجاب مقدمتيه قلت: فلنرده إلى الأول، فنقول: كل رطب ويابس علمه في كتاب مبين وعلم ذلك الكتاب كله عند علي بطريق أبي نعيم وفي تفسير الثعلبي.

وفي هذا أيضا نظر من عدم اتحاد أوسطه فإن الكتاب الذي فيه الرطب و اليابس، وهو اللوح المحفوظ، والكتاب الذي علمه عند علي هو القرآن، إلا أن يقال: نذكر ذلك إلزاما للخصم، لأنه يقول: كل شئ أحصيناه في إمام مبين هو القرآن وعلم القرآن عند علي عليه السلام.

على أنه لا مانع من حمل الكتاب الذي عند علي على اللوح لإطلاق اللفظ.

إن قلت: المانع امتناع إحاطة علي بعلم الله، قلت: ليس في تلك دليل على حصر علم الله فيها، على أنه يجوز أن يريد بالعلم باللوح علم بعضه إطلاقا للعام وإرادة الخاص.

____________

(1) الأعراف: 144.

(2) الزخرف: 63.

(3) الرعد: 45.

(4) الأنعام: 59.

الصفحة 212 

إن قلت: فيلزم أن يكون عند علي بعض علم القرآن لذلك وحينئذ فلا فضيلة له لأن قليلا من علماء الاسلام إلا ويعلم بعضه، قلت: الأفضلية في التفاوت وإلا لخلا تقييده في الآية عن الفائدة، ولأنه لا مانع في القرآن من الحمل على كله، بخلاف ما في اللوح المحفوظ لما ذكرتم.

وقد أخرج البيهقي ما رواه صاحب الوسيلة من قول النبي صلى الله عليه وآله: (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب). فقد اجتمع فيه ما تفرق فيهم فهو أفضل من كل واحد منهم.

وقد استدل الرازي في المعالم بمثل هذا على تفضيل النبي على الأنبياء، عند قوله تعالى (فبهداهم اقتده(1)) قالوا: آتى الله نوحا السفينة وانتصر فأغرق قومه، ونجا إبراهيم من ناره ومن الملك الذي هم بزوجته، وانتصر له بهلاك نمروده، وأعطى موسى العصا و اليد البيضاء وسلط الآيات التسع على أعدائه، وانتصر له بهلاك فرعون، ونفخ في عيسى من روحه ورزقه يبرئ ذوي العاهات، وانتصر له من أعدائه برفعه إلى السماوات، ولم ينتصر لعلي من معاوية وابن ملجم، فليس له كرامة تقابل واحدة من معجزات الأنبياء، وهو وإن كان له المنزلة العالية لكن أين درجة الولاية من درجة النبوة السامية.

قلنا: ما ذكرتم من كرامات الأنبياء فهو حق لكن لا يلزم من فقدها عن علي أفضليتهم عليه، وإلا لزم أفضليتهم على النبي حيث لم يحصل له مثلها، و أنتم جعلتم عدم مثلها موجبا لعدم أفضلية فاقدها، ولا يبعد أفضلية الولاية على النبوة كما في الخضر وموسى وقد أخرج أبو نعيم في كتاب الفتن في حق المهدي أن عيسى وزيره، وقال بعض علماء الطريقة: بداية النبوة نهاية الولاية، وقال آخرون

____________

(1) الأنعام: 90.

الصفحة 213 

بداية الولاية نهاية النبوة، وأبلغ من ذلك ما أجمع فيه من قول النبي صلى الله عليه وآله:

علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.

وقد تجريتم على الأنبياء في قولكم كذب إبراهيم ثلاث كذبات، وولد ابن نوح على فراشه، وعشق داود امرأة أوريا، ووطئ الشيطان نساء سليمان وغير ذلك وقد قال الغزالي: أما علي فلم يقل فيه ذو تحصيل شيئا.

قلنا: فعلى تقريركم هو أفضل من الأنبياء، حيث قلتم فيهم تلك الأشياء وقد باهى الله به الملائكة ليلة الفراش وهم عند الرازي وغيره أفضل من الأنبياء وأشار إلى ذلك ابن الجوزي في تفسيره: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله(1)) والانتصار له من معاوية لا يتعين في الدنيا، فإن الكفار إلى الآن يصورون النبي في بيوت عباداتهم بأقبح الصور، ولم ينتقم الله منهم في الدنيا (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما).

ونفيكم لكراماته لم يقل أحد به، منها قوله للخثعمي الذي أبى أن يبايعه إلا على سنة الشيخين: كأني بك وقد نفرت في هذه الفتنة، وقد شدخت حوافر خيلي وجهك ورأسك ومثل بك، وقال قبيصة لما رآه كذلك: لله أبو حسن ما حرك شفتيه بشئ قط إلا كان كما قال، وأجيب دعاؤه على بشر بن أرطاة أن يسلبه الله عقله فخولط فيه حتى كان يدعو بالسيف فاتخذ له سيف من خشب، ودعا على العيزار حين حلف لا يرفع أخباره إلى معاوية فقال: إن كنت كاذبا فأعمى الله بصرك فما دارت الجمعة حتى عمي، وأخرج خطيب دمشق الشافعي في قتال الخوارج لما قال له رجل: قد عبروا النهر هاربين، فقال: لا يعبرون ولا يبلغون قصر كسرى حتى يقتل الله مقاتلتهم على يدي، فلا يبقى منهم إلا أقل من عشرة، ولا يقتل من أصحابي إلا أقل من عشرة، فكان كما قال.

ومن ذلك ما وجدناه مرويا عن سعد بن عبادة والأصبغ بن نباته: أنه عليه السلام

____________

(1) البقرة: 207.

الصفحة 214 

لما خرج إلى النهروان استقبله دهقان، وقال لتعودن عما قصدت إليه لتناحس النجوم والطوالع فسعد أهل النحوس، ونحس أهل السعود، واقترن في السماء كوكبان يقتتلان، وشرف بهران في برج الميزان، وقدحت في برجه النيران وتناشت الحرب حقا بأماكنها، فتبسم الإمام عليه السلام وقال: أنت المحذر من الأقدار أم عندك دقائق الأسرار، فتعرف الأكدار والأدوار، أخبرني عن الأسد في تباعده في المطالع والمراجع، وعن الزهرة في التوابع والجوامع وكم من السواري إلى الدراري، وكم من الساكنات إلى المتحركات، وكم قدر شعاع المدبرات، وكم أنفاس الفجر في الغدوات؟ قال: لا علم لي بذلك.

فقال عليه السلام: هل عندك علم أنه قد انتقل الملك في بارحتنا من بيت إلى بيت بالصين، وانقلب برج ماجين، وهاج نمل الشيخ، وتردى برج الأندلس وطفح جب سرنديب، وفقد ديان اليهود ابن عمه، وعمي راهب عمورية، وجذم بطريق الروم برومية، وتساقطت شرافات من سور قسطنطينية أفأنت عالم بمن أحكم هذه الأشياء من الفلك؟ قال: لا، فقال عليه السلام: هل عندكم علم أنه قد سعد في بارحتنا سبعون ألف عالم منهم في البر؟ ومنهم في البحر، أفأنت عالم بمن أسعدهم من الكواكب؟ قال: لا.

ثم أخبره عليه السلام بأن تحت حافر فرسه اليمنى كنز، وتحت اليسرى عين من الماء، فنبشوا فوجدوا كما ذكر عليه السلام فقال الدهقان: ما رأيت أعلم منك إلا أنك ما أدركت علم الفلسفة، فقال عليه السلام: من صفي مزاجه اعتدلت طبايعه، ومن اعتدلت طبايعه قوي أثر النفس فيه - ومن قوي أثر النفس فيه، سما إلى ما يرتقيه، ومن سما إلى ما يرتقيه تخلق بالأخلاق النفسانية، وأدرك العلوم اللاهوتية، ومن أدرك العلوم اللاهوتية صار موجودا بما هو انسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان، ودخل في باب الملكي الصوري، وما له عن هذه الغاية معبر، فسجد الدهقان وأسلم، وقد وجدت هذا الحديث في كتاب نهج الإيمان ذكره الحسين

الصفحة 215 

ابن جبر في نخبه مسندا إلى سعيد بن جبير، وفيه ألفاظ مختلفة اكتفيت عنها بما وضعت منها.

ومنها ما نقله ابن طلحة عن صاحب فتوح الشام وعن كتاب ابن شهرآشوب أن عليا عليه السلام صلى الصبح يوما ثم قال لرجل: اذهب إلى محلة بني فلان تجد رجلا وزوجته يتشاجران فأحضرهما إلي فذهب فأحضرهما فقال عليه السلام: قد طال تشاجركما الليلة، قال الرجل: وجدت في نفسي منها نفرة، فقال لها علي عليه السلام: أليس كان يرغب فيك ابن عمك ومنعه أبوك منك، فخرجت ليلة لقضاء الحاجة فاغتالك ووطئك وحملت وأعلمت أمك، فلما وضعتيه ألقيتيه خارج الدار، فجاء كلب فشمه فخشيت أن يأكله فرميتيه بحجر فشجيت رأسه فعدت إليه أنت وأمك فشدت أمك رأسه بخرقة من مرطها ومضيتما؟ قالت: نعم، لم يعلم بها سوى أمي، قال:

فقد أطلعني الله عليه فأخذه بنو فلان وربوه وهو زوجك هذا، اكشف عن رأسك فكشف فوجدت الشجة فيه فقال: هو ابنك فخذيه، ولا نكاح بينكما.

ومنها ما قاله خطيب دمشق عن الحسين بن زكريا الفارسي أن أهل الكوفة طلبوا من علي أن ينقص لهم الفرات لما طفت، فلبس جبة النبي وعمامته وبردته وأخذ في يده قضيبه وأهوى به إليها فنقصت ثلاثة أذرع، فهذا بعض ما جاء من طريق الخصم وأما الطريق الآخر فكثير سلف منه جانب وسيأتي إن شاء الله جانب.

ولما ادعى الإمامة وأقسم عليها في قوله: وأيم الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، وقد أظهر الله كراماته على يده الدالة على صدقه، لأن الله تعالى لا يخرق العادات لعدوه والكاذب عليه، فعلم من ذلك صحة إمامته، كما علم من اقتران دعوى الرسول بمعجزته صحة نبوته.

وهذا كاف شاف لو لم يوجد نص على خلافته كما قال العلامة الفريد عز الدين ابن أبي الحديد:

 

وخلافة ما إن لها لو لم تكن     منصوصة عن جيد مجدك معدل

عجبا لقوم أخروك وكعبك الـ  ـعالي وخد سواك أضرع أسفل

 

الصفحة 216 

 

(الفصل التاسع عشر)

 

نذكر فيه ما وعدنا به في أول الباب من إحاطته عليه السلام بفضائل أولي الألباب ولا عجب ممن رباه النبي المؤيد بالوحي الإلهي أن يبلغ الغاية القصوى من العلوم ويطلع على سر السر المكتوم فقد روى مسلم في أول كراس من صحيحه في تفسير سورة غافر عن ابن عباس كان علي تعرف به الفتن قال وأراه ذكر فيه كل جماعة كانت في الأرض أو تكون، وقال وروي عنه نحو ذلك كثير وروت الفرقة المحقة قوله عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية لأخبرتكم بوقت نزولها وفي من نزلت وأنبأتكم بناسخها ومنسوخها، و خاصها وعامها، ومحكمها ومتشابهها، والله ما من فئة تضل أو تهدي إلا وأنا أعرف قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة، وزاد في نهج البلاغة: ومن يقتل من أهلها ومن يموت وفي غرر الحكم عن الآمدي: سلوني قبل أن تفقدوني فإني بطرق السماوات أخبر منكم بطرق الأرض. وقد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وآله علمه ألف باب فتح له كل باب ألف باب، وفيه قال الشاعر:

 

علمه في مجلس واحد ألف حديث حسبة الحاسب

كل حديث من أحاديثه يفتح ألفا عجب العاجب

وكان من أحمد يوم الوغا        جلدة بين العين والحاجب

 

قال الجاحظ: في تزكية علي لأبي بكر بالرواية عنه دون العكس، دليل الأفضلية، قلنا: ليس في الرواية عنه إن صح ذلك تزكية له، ولا استفادة منه، لجواز أن يكون عالما بها من الرسول فيرويها عنه إلزاما له، أو ليحتج بها على من يحسن ظنه به، وعلي لم يحتج إلى تزكية أبي بكر بعد تزكية الله تعالى في قوله:

(ويطهركم تطهيرا)(1) وتزكية رسول الله في قوله: (أنا حرب لمن حاربتم وولي

____________

(1) الأحزاب: 33.

الصفحة 217 

لمن واليتم). على أن الدرك على تارك الفضيلة لا على صاحب الفضيلة.

قال: سكت علي ترجيحا للشيخوخة عليه، قلنا: في خطبته الشقشقية جواب هذا الكلام وقد روى أخطب خوارزم أن النبي صلى الله عليه وآله أعطى الراية ببدر لعلي وهو ابن عشرين سنة، فلم تمنعه الفتوة عن تأميره ولما بهرت عجايبه عقول الغلاة، ترفعوا به عن درجات المخلوقين، فحفر النار وألقى منهم كثيرا لينزلوا به إلى درجات المحدثين.

وأسند ابن جبر في نخبه إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه كان إذا نزل الوحي ليلا لم يصبح حتى يخبر به عليا وإذا نزل نهارا لم يمس حتى يخبر به عليا، وفيه أيضا من طرق عديدة أنه عليه السلام قال بحضرة المهاجرين والأنصار وأشار إلى صدره: كنيف ملئ علما لو وجدت له طالبا، سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله، هذا ما زقني رسول الله زقا، عندي علم الأولين والآخرين، لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان بكتبهم حتى ينادي كل كتاب بأنه حكم الله في وفي رواية: حتى يزهر كل كتاب ويقول: يا رب إن عليا قضى في.

وفيه أيضا: لو شئت أخبرت كل أحد منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه وفيه أيضا عن سلمان عندي علم المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الاسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، والفاروق الأكبر، سلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي.

وفيه عن المسيب: ما كان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: سلوني، غير علي وعن ابن شبرمة ما قال أحد على المنبر سلوني غير علي، وفي تفسير الشيرازي من علمائهم في قوله: (فاسألوا أهل الذكر(1)) يعني محمدا وعليا وفاطمة والحسن و الحسين، هم أهل العلم والعقل والبيان، والله ما سمي المؤمن مؤمنا إلا كرامة لأمير المؤمنين علي عليه السلام.

____________

(1) النحل: 43.

الصفحة 218 

تذنيب:

طعن أبو هاشم في الحكم بالكتب المتقدمة بأنه منسوخ لا يجوز الحكم بها. قلنا: لعل المراد منها علمه بأحكامها [ وعلمه بأحكامها ] الواردة في القرآن الناسخ لها أو أنه يعرف ما حرف منها فيقضي بينهم بغيره، ويرد قضاءهم به، أو يمكنه استخراج النصوص الواردة في حق النبي وأهل بيته منها.

تذنيب آخر:

مما سمعناه مذاكرة أن ابن الجوزي قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فسألته امرأة عما روي أن عليا سار في ليلة إلى سلمان فجهزه ورجع، فقال روي ذلك، قالت وعثمان تم ثلاثة أيام منبوذا في مزابل البقيع، و علي حاضر؟ قال: نعم، قالت: فقد لرم الخطأ لأحدهما. فقال: إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة الله وإلا فعليه فقالت خرجت عائشة إلى حرب علي بإذن النبي أولا؟ فانقطع.

وذكر ابن شهرآشوب عن الصفواني قالت: أم سلمة أعطاني النبي كتابا وقال من طلبه منك ممن يقوم مقامي فأعطيه فمضت الثلاثة ولم يطلبوه فلما بويع علي عليه السلام طلبه قالت: وكان فيه كل شئ دون قيام الساعة، وفي رواية عن ابن عباس لما فتحه قال: هذا علم الأبد.

تنبيه:

إذا كان الرب القديم جعل كل شئ في القرآن العظيم، فقال: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)(1) ومن المعلوم أن ذلك ليس في ظاهره فهو في باطنه فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام قوله: سلوني ونحوها ولم يرد عليه أحد من الصحابة والتابعين، فهو الذي عنى الله بقوله (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين)(2) فهو أولى من الله بإمامته لقبح تقديم المفضول في حكمته والعلماء والحكماء وأهل الزواجر بفضله يعترفون، ومن لجج بحاره الزواخر يغترفون.

وأما المتكلمون فناهيك بنهج البلاغة وما فيه من التوحيد لباريه، وقد شهد له الرسول الذي هو مدينة العلم بأنه رباني هذه الأمة وقال الغزالي في كتاب

____________

(1) الأنعام: 59.

(2) يس: 12.

الصفحة 219 

إحياء العلوم: أول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق علي بن أبي طالب وقد ناظرته الملاحدة في مناقضات القرآن فأجاب مسألة الجاثليق فأسلم.

وقد روى ابن جبر في نخبه عن ابن عباس أن الله تعالى جمع القرآن في قلبه وجمعه بعد موت رسوله، وأما القراء فحمزة والكسائي يعولان على قراءته وقال ابن مسعود: ما رأيت أحدا أقرأ من علي، ونافع وابن كثير وأبو عمرو يرجعون في الأكثر إلى ابن عباس وهو قرأ على علي وأبي وقراءتهم تخالف قراءة أبي فهو عن علي، وعاصم قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي وهو قرأ على علي.

وأما المفسرون فابن عباس، وابن مسعود، وأبي، وزيد بن ثابت، معترفون له بالتقدم قال ابن شهرآشوب: سمعت مذاكرة أنه عليه السلام تكلم لابن عباس في الباء من بسم الله إلى قرب الفجر وقال لو زادنا الليل لزدنا، وفي قوت القلوب: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير الفاتحة، وفي فضائل العكبري قال الشعبي: ما أحدكم أعلم بكتاب الله بعد نبي الله من علي ابن أبي طالب، وفي حلية الأولياء وتاريخ البلاذري أنه عليه السلام قال: ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، بليل أو نهار، في سهل أو جبل؟ إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا.

وأما الفقهاء فابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وشريك من أهل الكوفة يرجعون إليه، ويترجمون الأبواب بقولهم هذا قياس قول علي، و الحسن وابن سيرين من أهل البصرة يأخذان عمن أخذ عن علي وقد أفصح ابن سيرين بأخذه عن عبيدة السلماني، وهو أخص الناس بعلي والمكيون أخذوا عن ابن عباس وعلي وأخذ ابن عباس معظم علمه عن علي، والمدنيون قد صنف الشافعي كتابا في اتباعهم لعلي وفي مسند أبي حنيفة قال له الصادق عليه السلام: من أين أخذت القياس، قال من علي وزيد حين شاجرهما عمر في الجد مع الإخوة فقال له علي:

لو أن شجرة انشعب منها غصن ثم انشعب منه غصنان أيهما أقرب إلى أحدهما الغصن الأول أم الشجرة، وقال زيد: لو انبعث من الجدول ساقية وانبعث من الساقية

 

 

 

الصفحة 220 

ساقيتان أيهما أقرب إحدى الساقيتين إلى الأخرى أم إلى الجدول.

وأما الفرضيون فقد روي في فضايل أحمد أن أعلم أهل المدينة بالفرايض علي ابن أبي طالب. قال الشعبي: ما رأيت أفرض منه، ولا أجيب منه، سئل على المنبر وهو يخطب عمن مات وترك امرأة وأبوين وبنتين كم نصيب المرأة؟ فقال عليه السلام صار ثمنها تسعا. وذلك إما استفهام أو بيان حكم على رأي من يقول بالعول، فلقبت المسألة بالمنبر، وروت العامة أنه سئل عمن خلف ست مأة دينار فاستحقت امرأة من الورثة دينارا واحدا، كم كانوا؟ فقال: بنتان وأم وزوجة واثنا عشر أخا و أختا فسميت المسألة الدينارية فأين هذا من عمر حيث أتى إليه زوج وأم وأخوان لأم وأخوان لأبوين فجعل للزوج نصفا وللأم سدسا ولأخوي لأم ثلثا فقال:

أخوا الأبوين: هب أن أبانا كان حمارا فأشركنا بأمنا فسميت الحمارية.

وأما النحاة فظاهر وصفه لأبي الأسود الدؤلي فإنه دخل عليه فرآه متفكرا فقال له: فيما أنت متفكر؟ قال: سمعت في بلدكم لحنا وأردت أن أصنع في اللغة كتابا، قال: فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها: الكلام كله ثلاثة: اسم وفعل، وحرف، والأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وغيرهما، فانح هذا النحو.

فجمع حروف النصب ولم يذكر (لكن) منها، فقال له: هي منها فزدها فيها، وبخل أبو الأسود به زمانا حتى سمع قارئا يقرء: (أن الله برئ من المشركين ورسوله(1)) بكسر اللام فقال: لا يحل أن أترك الناس بعد هذا، فوضع أدوات الإعراب الثلاث والوصل والتسكين، والتشديد، والتمديد، ثم أخذه عنه، عتبة، ثم ابن أبي إسحق وهو أول من فتح النحو وشرح العلل وصنف، ثم عيسى، ثم الخليل ثم سيبويه، ثم الأخفش، ثم المازني، ثم المبرد، ثم ابن السراج، ثم أبو علي الفارسي، ثم علي بن عيسى، ثم الحسن بن حمدان، ثم أحمد بن يعقوب، كل واحد من المذكورين أخذ عمن تقدمه. قاله الزجاج في أماليه.

____________

(1) براءة: 3.

الصفحة 221 

وأما الخطباء والفصحاء، فناهيك بكلامه في نهج البلاغة وكتاب الخطب و غيره في الأصول من خطبته في التوحيد وغيرها، وفي الفروع من أحكامه التي لا يمكن أحد أن يفوه بنكيرها، ومن نظر في العلوم وجد أسها(1) عليه، ورآه رأسها المنقادة إليه، وكل من حصل علما فمنه احتذى وابتدى، وبه اقتدى واهتدى كل جليل من بحره اغترف، وبدقيق علمه اعترف، فقد قيل لعبد الحميد كاتب بني أمية لما كتب إلى أبي مسلم كتابا بجملة أجمل فيها: من أين لك هذه البلاغة؟

قال: من حفظي لألف خطبة لأصلع بني هاشم.

وقد دهش الجاحظ الذي هو علامة الدهر في مفردات كلماته الحكمية، و اعترف بأنها حوت متفرق المعاني، واشتملت على أحسن المباني، ومن رزق الهداية رآى كلامه منضودا في عقد الألفاظ الرائقة، والأساليب الفائقة، لا بالمستعمل الخلق، ولا بالمشكل الغلق، بل أشهى إلى النفوس من الخرد الحسان، وأعلق بالقلوب من تعلق الجزع بالأمان، فإن وجدت شاردا منسوبا إلى غيره فبتفضيله وإن رأيت واردا مضافا إلى سواه فلا تعرض عن تبجيله، ومن بلغ في الهداية إلى هذا المرتبع، كان أحق بقوله (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع)(2) فوجب اتباعه بعد النبي بلا فصل، لاختصاصه بعظيم الخصل، شعر رواه ابن جبر في نخبه عن الصادق عليه السلام:

 

محال وجود النار في بيت ظلمة          وأن يهتدي حيران في ظل حاير

فلا تطمعوا في العدل من غير أهله      ولا في هدى من غير أهل البصاير

 

قال السيد الرضي: كان عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة و مولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذ قانونها، وأنشد بعضهم في المعنى:

 

وخوطب بالوزارة من إليه        تناهي الفضل واجتمع الفخار

منيع لا يطاوله زمان     وفي لا يضام له جوار

خطيب لا يعثره خطاب بليغ لا يجاوزه اختصار

 

____________

(1) اسمها، خ 1.

(2) يونس: 35.

الصفحة 222 

فنحن ننتهب جواهر البلاغة من بحار خطباته وملح أشعاره، وننتقب فرائد البراعة من وجيز توقيعاته وكنوز أفكاره، فمن كلامه فهمت جواهر العربية، و يواقيت الحكم الدينية والدنياوية، عليه مسحة من الكلام الإلهي وفيه عبقة من اللفظ السوي.

قال قطب الدين الراوندي: سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: رأيت بمصر مجموعا من كلام علي في نيف وعشرين مجلدا. وأسند صاحب النخب إلى الكلبي إلى أبي صالح أن الصحابة اجتمعت وقالت: الألف أكثر دخولا في الكلام، فارتجل خطبته المونقة أولها: حمدت من عظمت منته، وسبغت نعمته، وسبقت رحمته غضبه، إلى آخرها لم يوجد فيها ألف، ثم ارتجل أخرى خالية من النقط.

وأما الوعاظ فليس لأحد من الرجال ماله من العبر والأمثال، مثل: من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنية نسي الأمنية، من قعد به العقل قام به الجهل، من عدل في سلطانه استغنى عن عدوانه، من طال عدوانه زال سلطانه، من ساءت سيرته سارت منيته، من مال إلى الحق مال إليه الخلق، من ساء اختياره قبحت آثاره، من قل اعتباره قل استظهاره، من جار في سلطانه صغره، ومن من بإحسانه كدره، العدل أقوى جيش، والأمن أهنى عيش، كل دولة يحوطها الدين لا تغلب، وكل نعمة يحرسها الشكر لا تسلب.

وله مائة كلمة مشهورة قد تضوع المحققون بنشرها، واعتنى المدققون بكشف سرها، اشتملت من العلوم على أعذاق جانية، وأقطاف دانية.

وأما الفلاسفة فهو أرجحهم، قال عليه السلام: أنا النقطة أنا الخط، أنا الخط أنا النقطة، أنا النقطة والخط. وقال جماعة: القدرة هي الأصل، والجسم حجابه، و الصورة حجاب الجسم، لأن النقطة هي الأصل والخط حجابه ومقامه، والحجاب غير الجسم الناسوتي.

وقال صاحب النخب: سئل عليه السلام عن العالم العلوي فقال: صور عارية عن المواد. عالية عن القوة والاستعداد، تجلى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، و

الصفحة 223 

ألقى في هويتها مثاله، فأظهر عنها أفعاله، وخلق الانسان ذا نفس ناطقة، إن زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوايل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.

وأما المهندسون فقد روي أن رجلين مرا بعبد مقيد فقال أحدهما: إن كان وزن قيده كذا فامرأته طالق، وقال الآخر بخلافه، فسألا سيده أن يحله فأبى حله، فارتفعا إلى عمر فأمرهما باعتزال نسائهما، وبعث إلى علي فوضع رجليه بالقيد في إجانة وصب الماء عليه، ثم رفع ووضع الحديد مكانه، ثم أخرج الحديد ووزنه، ثم أخرج القيد ووزنه فتعادلا، فتعجب منه عمر.

وفي المصالت: جاء رجل بآخر وقال: هذا احتلم بأمي، فقال: أوقفه في الشمس واضرب ظله، وفي التهذيب قال له رجل: حلفت أن أزن الفيل، فأدخل الفيل قرقورا(1) وعلم الماء ثم أخرجه ووضع القصب، فلما وصل الماء إلى العلامة أخرجه ووزن القصب، وقال: هذا وزن الفيل.

وأما الحساب فذكر الشيخ في النهاية وغيره مسألة الأرغفة وهي مشهورة ووجدنا أن انسانا سأله من الكسور التسعة فقال: هي مضروب أيام أسبوعك في أيام سنتك.

وأما أصحاب الكيمياء فسئل في أثناء الخطبة: هل لها كون؟ فقال: لها كون وهي كائنة، قالوا: مم هي؟ قال: في الزيبق الرجراج، والأسرب والزاج، و الحديد المزعفر، وزنجار النحاس الأخضر، قيل: زدنا. قال: اجعلوا البعض أرضا والبعض ماء، وافلجوا الأرض بالماء، وقد تم، قيل: زدنا. فقال: لا زيادة إن القدماء الحكماء ما زادوا لئلا يتلاعب الناس به: وفي كلام آخر له: إن الكيمياء أخت النبوة، وعصمة المروة، ما في الأرض من شئ إلا وفيه منه أصل وفرع إني لأعلم به من العالمين، إنه في الزيبق الرجراج، والذهب والزاج، والحديد المزعفر، وزنجار النحاس الأخضر، تكون إصباغ لا يؤتى على عابرها، يصلح بعضه ببعض، فتفتر عن ذهب كاين، وصبغ غير متباين.

____________

(1) القرقور: السفينة الطويلة أو العظيمة.

الصفحة 224 

قيل: ما نعقل هذا، قال: ماء جامد، وهواء راكد، ونار حامية، وأرض سائلة. فمن يبلغ زهده إذ ترك الدنيا باختياره، وغيره باضطراره.

وأما الأطباء فروي عن الصادق عليه السلام أن عليا عليه السلام قال: إذا كان الغلام ملتاث؟ الأزر، صغير الذكر، ساكن النظر، فهو ممن يرجى خيره، ويؤمن شره وإن كان شديد الأزر، كبير الذكر، حاد النظر، فهو ممن لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره.

وروي عنه أنه قال: يعيش الولد لستة أشهر ولسبعة ولتسعة لا ثمانية، و قال: لبن الجارية من المثانة، والغلام من العضدين والمنكبين، وقال يشب الصبي كل سنة أربع أصابع بأصابع نفسه، وقد روى المخالف وفير علمه، وغزير حكمه، فأسند ابن حنبل إلى ابن المسيب أن عمر كان يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن، فإذا ثبت أنه الأعلم بقول الفريقين، والأحكم باتفاق الخصمين كان بالإمامة أولى ممن سئل عن الله أين هو؟ فقال: في السماء.

روى المفيد في إرشاده أن حبرا قال لأبي بكر: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟

قال: نعم. قال: فإنا نجد في توراتنا أن خلفاء الأنبياء أعلم أمتهم فأخبرني أين الله؟ قال: في السماء. قال فأرى الأرض خالية منه، ثم ولى مستهزئا بالاسلام فلقيه علي عليه السلام فقال له: قد عرفت سؤالك وإنا نقول: إن الله أين الأين فلا أين له، جل أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسة، يحيط علما بما فيها ولا يخلو من تدبير شئ منها.

أليس في كتبكم أن موسى جاءه ملك فقال له: من أين أقبلت؟ فقال: من المشرق من عند الله، ثم آخر من المغرب وآخر من السماء وآخر من الأرض كل يقول: جئت من عند الله، فقال اليهودي: هذا هو الحق وأنت أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه.

ولقد سألت جمعا من أهل الذمة قرأوا التوراة وكتاب يوشع وكتبا تسمى

الصفحة 225 

كتب النبوة فقالوا: فيها أن خليفة الأنبياء لا بد أن يكون أعلم الرعية وأزهد الخليفة، وأسدهم رأيا، وأعلاهم حسبا، وذلك أيضا في الجزء الخامس من السفر الثاني والأول من السفر الخامس.

وقد روى أنس وغيره قول النبي صلى الله عليه وآله لسلمان: إنما أوصى موسى ليوشع لأنه كان أعلم أمته، وإذا ثبت في الكتب السالفة، والأخبار الخالفة، أن الأولى هو الأعلم، وظهر مما ذكرنا وغيره أن عليا هو الأعلم، اتضح أنه أحق ممن تقدم، وقد روي أن أبا بكر حفظ البقرة في سبع عشرة سنة، ونحر جزورا وليمة عند فراغه من حفظها، وقد حكمت ضرورة العقل بقبح تقديم المفضول، و عضدها قول الرب والرسول (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع(1)) (زوجتك أعظمهم حلما، وأقدمهم سلما، وأعلمهم علما. وفي علوم علي الولي، قال السيد الحميري:

 

علي أمير المؤمنين أخو الهدى وأفضل ذي نعل ومن كان حافيا

أسر إليه أحمد العلم جملة      وكان له دون البرية واعيا

ودونه في مجلس منه واحد     بألف حديث كلها كان هاديا

وكل حديث من أولئك فاتح    له ألف باب فاحتواها كماهيا

 

وقال ابن الفودي:

 

ومن ذا يساميه بمجد ولم يزل  يقول اسألوني ما يحل ويحرم

سلوني ففي جنبي علم ورثته   عن المصطفى ما فاه مني به الفم

سلوني عن طرق السماء فإنني  بها من سلوك الطرق في الأرض أعلم

ولو كشف الله الغطا لم أزد به   يقينا على ما كنت أدري وأفهم

 

وقال الصاحب:

 

من كالوصي علي عند مشكلة   وعلمه البحر قد فاضت نواحيه

 

____________

(1) يونس: 35.

الصفحة 226 

 

من كالوصي علي عند مخمصة قد جاد بالقوت إيثارا لعافيه

يا يوم بدر تجشم ذكر موقفه    فاللوح يحفظه والوحي يمليه

وأنت يا أحد قل ما في الورى أحد      يطيق جحدا لما قد قلته فيه

براءة استرسلي في القول وانبسطي      فقد لبست جمالا من توليه

 

ومما ارتجله جامع الكتاب في هذا الباب:

 

علي علا فوق السماوات قدره  وسار مع الركبان في الأرض أمره

بعلم وزهد وافر وشجاعة        وأنواع إفضال بها شيد ذكره

رواها الموالي والمولى فإن يكن          لها منكر يوما فقد فاه نكره

فباء بحوب لا يعد عذابه         وأصروهتك لا يؤمل ستره

 

(الفصل العشرون)

 

من تكميل ما سبق، أنواع الفضائل خمسة: الأول: العلم وقد سبق جانب منه، ويزيده وضوحا ما أسنده أبو نعيم في حلية الأولياء إلى علقمة عن عبد الله أنه سأل النبي عن علي فقال: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة والناس كلهم جزاءا. ونحوه ذكر ابن جبر في نخبه عن ابن عباس، قال: إنه لأعلمهم بالعشر الباقي.

وفي أربعين الخطيب قسم عمر العلم ستة وقال: لعلي خمسة، وللناس واحد ولقد شركنا في السدس الآخر حتى لهو أعلم منا به.

وعن الصادق عليه السلام: أهدي إلى النبي خوفا فسأل أبا بكر وعمر وعثمان اسمه فلم يعرفوه فسأل عليا فقال تسميه أهل فارس خوخا فقال عمر: من أين علم علي تسمية أهل فارس، فقال النبي صلى الله عليه وآله علمه الله الأسماء التي علمها لآدم.

وفي تفسير النقاش عن ابن عباس: ما علمي وعلم أصحاب محمد في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر وفي كتاب الحسن البصري: رأى الخضر عصفورا وضع نقطة

الصفحة 227 

على يد موسى فقال: هذا العصفور يقول: ما علمكما في علم وصي نبي يأتي في آخر الزمان إلا كما أخذت بمنقاري من هذا البحر.

وفي المناقب مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يأتي الناس يوم القيامة بالأعمال فلا تنفعهم إلا ما قبلت أنا وعلي بعد قبول الله تعالى إن الله تعالى جعلني ميزان قسط وجعل عليا كلمة عدل، وهذا يدل على زيادة علمه بأفعالهم الموجبة للدارين ولا يخفى ذلك إلا على ذي رين.

الثاني: العمل وقد اشتهر زهده وعبادته وملاك العمل الخشية وملاكها العلم (إنما يخشى الله من عباده العلماء(1)) وقد بان أنه أعلم، فهو أخشى، فهو أعمل، ومن العمل الجهاد، وهذا الباب غني عن الايراد، فإنه لا خفاء على أحد من أن سيفه أقام الاسلام قال:

 

يا من به للدين فخر والهدى    نور وفي كتب العلوم تمائم

ومن الذي لولا ثباة حسامه      ما قام للاسلام قط دعائم

يا من له فصل الخطاب وعنده  علم الكتاب ومن بنيه القائم

 

الثالث: المال وعلي استغنى فيه بالله عن غيره، حيث نزلت المائدة عليه عند سغبه، والماء لطهوره، وأسند ابن المغازلي إلى أنس قول النبي لأبي بكر وعمر:

امضيا إلى علي يحدثكما بما كان منه في ليلته وأنا على أثركما، فمضيا وقالا:

بعثنا النبي لتحدثنا فجاء النبي صلى الله عليه وآله وقال: حدثهما. فقال: أردت الطهور و خفت أن تفوتني الصلاة فانشق السقف ونزل سطل مغطى فتطهرت منه ثم ارتفع و التأم السقف، فقال النبي صلى الله عليه وآله: السطل والمنديل من الجنة، من مثلك؟ جبريل يخدمك. ونحوه ذكر أخطب خوارزم إلا أنه قال: كان الطهور لصلاة العصر، قال النبي صلى الله عليه وآله: ما زال إسرافيل قابض على ركبتي حتى لحقت معي الصلاة، أفيلومني الناس على حبك، والله وملائكته يحبونك؟ والمفهوم من هذين الحديثين نزول السطل عليه مرتين.

____________

(1) فاطر: 28.

الصفحة 228 

تنبيه:

الظاهر أنه إنما أرسل الشيخين إليه ليعلمهما بنقصهما عنه، فلا - يستوجبان التقدم عليه وفي ذلك يقول ابن حماد:

 

أعطيت بالفضل ما لم يعطه أحد          كذا روى خلف منا عن السلف

كالجام والسطل والمنديل يحمله         جبريل ما أحد فيه بمختلف

 

وقال العوني:

 

وهل يقاس حيدر بحبتر         وهل تقاس الأرض جهلا بالسما

 

هل يستوي المؤمن والمشرك والمعصوم عن معصية ومن عصا هل يستوي من كسر الأصنام والساجد للأصنام كلا لا سوى

هل يستوي الفاضل والمفضول أم        هل يستوي شمس النهار والدجى

 

الرابع: الجاه ولا ريب في بسط قدرته وقيام الاسلام بسيفه وقوته، ونزول (إنما وليكم الله ورسوله) في ولايته.

الخامس: النسب ولا نسب أعلى من بني هاشم، في الجاهلية بأجداده الكرام وفي الاسلام فناهيك بالنبي وابنته وابنيه عليهم السلام، وعلي أول من ولد من هاشميين(1) وقد ذكر الخركوشي والثعلبي عن جابر قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي:

الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة، وبنحوه ذكر ابن عقدة وعطاء والخراساني وابن شريح الفلكي والطوسي في الأربعين وفي الفردوس وفي بعضها: أنا الشجرة وعلي فرعها والأئمة من ولده أغصانها والأئمة ثمرها وشيعتهم ورقها ونحو هذا كثير.

فضيحة:

لما عد دغفل النسابة للأول مقابح رهطه هرب منها وتبسم النبي صلى الله عليه وآله لها، ذكر ذلك سلمة في الفاخر، وابن عبد ربه في العقد، والخطيب في التاريخ، وقد قيل للفرزدق: وصفت كل قبيلة إلا تيما فقال: لم أجد حسبا فأصفه ولا بناء فأهدمه.

قال الجاحظ: النسب لا تأثير له في الخلافة بل الدين (وأن ليس للانسان

____________

(1) بل الصحيح ما ذكره المؤرخون بقولهم: وأمه أول هاشمية ولدت لهاشمي.

الصفحة 229 

إلا ما سعى(1)) قلنا: النسب من السعي كما جاء في الحديث: ولد الانسان من كسبه.

قال: (يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا(2) قلنا: هذا مختص بالكفار للاجماع بإثبات الشفاعة.

قال: (لا يغني مولى عن مولى(3)) قلنا: في آخرها (إلا من رحم الله) وقرابة النبي مرحومة.

قال: روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا.

قلنا: رواية ساقطة من الكتب والرجال، فلا يعتمد فيها على حال، ويردها ما أسنده الثعلبي برجاله من قوله عليه السلام: من صنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها في القيامة، وقد أورد المرزباني في كتابه: " كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي " وقد ألح عمر في التزويج عند أمير المؤمنين لهذه العلة.

قال شيعي لناصبي: لو بعث النبي أين كان يحط رحله قال: في أهله وولده قال: فقد حططت هواي حيث يحط النبي صلى الله عليه وآله رحله وثقله، قال الحسن من بني العباس:

 

وقالت قريش لنا مفخر رفيع على الناس لا ينكر

فقد صدقوا فلهم فضلهم         وبينهم رتب تقصر

فأدناهما رحما بالنبي    إذا فخروا فبه المفخر

بنا الفخر فيكم على غيركم      وأما علينا فلا تفخروا

ففضل النبي عليكم لنا  أقروا به بعد أن أنكروا

فإن طرتم بسوى مجدنا          فإن جناحكم الأقصر

 

____________

(1) النجم: 39.

(2) البقرة: 48 وفيه: واتقوا يوما لا تجزى الآية.

(3) الدخان: 41.

الصفحة 230 

وفي خبر حرة بنت حليمة مرضعة النبي لما أراد الحجاج هلاكها لتفضيلها عليا على الثلاثة: أنها لما رأت شدة غضبه قالت: إن الله ورسوله فضلاه عليهم بل هو أفضل من آدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم وموسى وعيسى، فاشتد غضبه وطلب منها سبب ذلك، فقالت: (وعصى آدم ربه فغوى(1)) وشكر الله سعي علي في (هل أتى) وامرأة نوح خائنة وزوجة علي فاطمة الطاهرة، وإبراهيم قال:

(ليطمئن قلبي(2)) وعلي قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، موسى خرج خائفا وعلي ليلة المبيت لم ير خائفا، وداود حكم في الغنم وكان الصواب في حكم سليمان كما نطق به القرآن وقال النبي: أعلمكم علي أقضاكم علي، وسليمان طلب ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلي يا دنيا اعزبي عني لا حاجة لي فيك وقال الله لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله(3)) فاعتذر بقوله: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) وعلي لم يعتذر بقتل الخوارج وغيرهم، فتخلى غضبه وأمر لها بألف دينار وجعلها رسما لها في كل سنة.

وفي قضاء العقول: من كان أفضل من رعيته، امتنع أن يستحق أحدهم عظم رتبته، فما ظنك بمن فضل على الأنبياء هل يكون غيره أولى منه بمنازل الأولياء ولما أنكر قوم طالوت ملكه بقولهم: (أنى يكون له الملك علينا(4)) رد الله عليهم بقوله: (إن الله فضله عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) قال ابن الرومي:

 

رأيتك عند الله أعظم زلفة       من الأنبياء المصطفين ذوي الرشد

 

وجدت هذا البيت مفردا فأحببت أن أنسج على منواله، وأقتدي به في إفضاله بمقاله، فقلت:

 

فآدم لما أن عصى زال فضله    وفي هل أتى شكر الإمام على الرفد

وامرأتا نوح ولوط فخانتا         ونور الورى عن طهر فاطمة يبدي

 

____________

(1) طه: 121.

(2) البقرة: 260.

(3) المائدة: 119.

(4) البقرة: 247.

الصفحة 231 

 

وقد سأل إبراهيم إحياء ميت    ليطمئن منه القلب بالواحد الفرد

ولو كشف المستور مولاي لم يزد       يقينا على ما كان في سالف العهد

وقد خاف موسى حين ولى مبادرا       وبات علي لم يخف سطوة الضد

ولم يخف ما في حكم داود سابقا        وحكم علي إذ تجل عن الرد

سليمان جاء الذكر فيه بقوله     هب الملك لا تحبيه من أحد بعدي

ودنيا أتت مولاي زي بنية       فقال اعزبي عني ولا تمكثي عندي

وقد عاتب الرحمن عيسى بقوله         أأنت أمرت الناس أن يعبدوا عبدي

فأبدى اعتذارا إن تعذبهم على  جرائمهم أو تعف لا زلت ذا مجد

ومولاي لم يبد اعتذارا بقتله البـ ـغاة ولكن فاز بالشكر والحمد

فقد عرف التفضيل حقا لطالب لحق ولم يحتج إلى متعب الكد

فقد ضل من قاس العتيق بحيدر         ولا ملحة فيه لمنفعة تجدي

 

(الفصل الحادي والعشرون)

* (في سد الأبواب دون باب علي عليه السلام) *

 

هذا الفصل يتضمن معنى النص من الله ورسوله لكونه بأمر الله وفعل رسوله وفي رواية أبي رافع: لما سد الأبواب تكلموا فيه فصعد المنبر وقال: ما فعلت إلا عن أمر ربي إن الله تعالى أوحى إلى موسى وهارون: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة(1)) ثم أمره أن يسكن مسجده فلا يدخله جنب غيره وغير هارون وذريته، واعلموا أن عليا مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهذا أمر مستفيض رواه الفريقان، واتفق عليه الخصمان، فرواه عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن ابن عمر، وعن عمر، وعن زيد بن أرقم: ولما تكلموا فيه صعد المنبر وقال: أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، وقال فيه قائلكم

____________

(1) يونس: 87.

الصفحة 232 

فوالله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشئ فاتبعته.

وأسنده الحافظ الإصفهاني إلى ابن عباس وفيه أن موسى سأل الله أن يطهر مسجده ولا يسكن فيه إلا هو وهارون وأولاد هارون، وإني سألت الله لك و لذريتك ذلك، وفيه ما أنا سددت ولا فتحت ولكن الله سد أبوابكم وفتح باب علي، ورواه ابن المغازلي الشافعي من طرق ثمانية: عدي بن ثابت وسعد بن أبي وقاص بسندين، والبراء بن عازب وابن عباس بسندين، ونافع مولى عمر وحذيفة ابن أسيد.

وفيه انقض كوكب فقال النبي صلى الله عليه وآله: من انقض في داره فهو الوصي من بعدي، فنظر فتية من بني هاشم فإذا هو في دار علي فقالوا: غوى في حب علي.

فنزل: (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى(1)).

وفيه أنه بعث معاذ بن جبل إلى أبي بكر وعمر وعثمان وحمزة بسد أبوابهم فقالوا: سمعا وطاعة، وقال لعلي عليه السلام: اسكن طاهرا مطهرا فبلغ حمزة قول النبي فقال: تخرجنا وتسكن غلمان بني عبد المطلب؟ فقال: لو كان الأمر لي ما جعلت من دونكم أحدا، والله ما أعطاه إياه إلا الله ورواه أحمد في فضائله وأبو يعلى في مسنده والسمعاني وذكره في الخصائص وحلية الأولياء والخطيب في تاريخ بغداد وصاحب الإبانة في مسند العشرة، وشرف المصطفى، والزمخشري في الفائق، وأبو صالح في الأربعين والعطار الهمداني والترمذي في جامعه والخطيب أيضا في الحدائق.

وفيه: لا يحل أن يدخل مسجدي جنبا غيره وغير ذريته فمن شاء فهنا و أشار بيده نحو الشام، فقال المنافقون: لقد ضل وغوى في أمر ختنه، فنزل: (ما ضل صاحبكم وما غوى) ورواه ابن جبر في نخبه عن الباقر والرضا عليهما السلام وعن نحو ثلاثين رجلا من الصحابة منهم ابن عباس وعن أم سلمة أيضا.

هداية: إذا كان الله هو المطلع على البواطن سد أبوابهم وفتح بابه، فعلمه

____________

(1) النجم: 2.

الصفحة 233 

بصلاح باطنه دونهم، أوجب تميزه عنهم، وأرشد بذلك إلى المنع من اتباعهم، إذ نوه بشرف ذكره وظهور فضله، وعرض بنقصهم وعدم صلاحهم، قال السيد الحميري:

 

وخص رجالا من قريش بأنني  لهم حجرا فيه وكان مسددا

فقيل له أسدد كل باب فتحته    سوى باب ذي التقوى علي فسددا

لهم كل باب أشرعوا دون بابه   وقد كان منفوسا عليه محسدا

 

وقال أيضا:

 

وأسكنه في مسجد الطهر وحده          وزوجته والله من شاء يرفع

فجاوره فيه الوصي وغيره        وأبوابهم في مسجد الطهر شرع

فقال لهم: سدوا عن الله صادقا  فضنوا بها عن سده وتمنعوا

 

(الفصل الثاني والعشرون)

* (في السبق إلى الاسلام) *

 

قال الثعلبي: قال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي: نزلت: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله(1)) حين افتخر طلحة بن أبي شيبة بالمفاتيح، والعباس بالسقاية، فقال علي: ما أدري ما تقولان؟ لقد صليت ستة أشهر قبل الناس: وأنا صاحب الجهاد، فنزلت الآية، وذكره في الجمع بين الصحاح رزين العكبري(2) في الجزء الثاني من صحيح النسائي مسندا إلى القرظي وأسند نحو ذلك الشافعي ابن المغازلي من طريقين فلا سبيل إلى مشابهته لأن الله تعالى نوه بعظيم ذكره ونبه على علو قدره، مضافا إلى ما آتاه الله من وجوب ولايته، كولاية نفسه ورسوله.

وأسند ابن جرير الطبري في كتاب المناقب إلى النبي صلى الله عليه وآله: امتحن الله قلب أبي بكر بالصبر فلم يجده صابرا وبالشجاعة فوجده خوارا(3) وبالسبق إلى

____________

(1) براءة: 20.

(2) العبدري خ.

(3) أي جبانا.

 

 

 

 

الصفحة 234 

الإيمان فوجده لم يكن مسارعا، وهذه من أعظم صفات الإمامة فالموصوف بأضدادها موصوف بضد استحقاقها.

وأسند ابن مردويه إلى ابن عباس في قوله تعالى: (اركعوا مع الراكعين(1)) قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وعلي وإنهما أول من صلى وركع.

قال الجاحظ: لو كان إسلامه ذلك معتبرا لاحتج به في السقيفة. قلنا: قد كانت الصحابة تناظر النبي وترد عليه في غير أسباب الإمامة فكيف بأمير المؤمنين في ذلك، وهم في مقام طرده وصرفه.

قال: ولقي أبو بكر من الأزدي ما يفوق سبق علي ولم يلق مثله علي. قلنا:

المشهور خلاف ذلك كيف والنبي صلى الله عليه وآله وعلي أصل القاعدة في تغيير الشرك، و إسقاط كل غوى، ولو سلم فلا يدل ذلك على شرف إسلامه إلا بعد علمه أو ظنه أنه يؤذى، وعلم علي أو ظنه أنه لا يؤذى.

قال: إسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه إد لا ظهر لهما كأبي طالب قلنا:

هذا كله واه لأن هاشما كلها لم يكن فيها مقاومة قريش كيف ذلك وقد طردوا إلى الشعب ونالهم ألم السغب.

إن قيل: هذا رجوع منكم من أن أبا طالب كان يحمي النبي صلى الله عليه وآله. قلنا:

جاز أن يحميه من الواحد والاثنين ونحو ذلك أما إذا اجتمعت قريش فظاهر عدم قدرته على منعها.

وأسند سبق إسلامه جماعة من أهل المذاهب ستأتي، وبها تسقط رواية الشعبي النادرة أن أول من أسلم أبو بكر مع أنه منحرف عن علي وضعفه الشافعي. وأي عاقل يقبل إسلام البعيد عنه في حال كبره، على من رباه النبي صلى الله عليه وآله في حجره وكيف لا يبدء في هذا الأمر المهم بالمختصين، مع قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين(2)).

____________

(1) البقرة: 43.

(2) الشعراء: 214.

الصفحة 235 

1 - سلمة بن كهيل قال علي عليه السلام: اللهم إني لا أعرف عبدا لك عبدك من هذه الأمة قبلي غير نبيها، ولقد صليت قبل أن يصلي أحد سبعا.

2 - المنهال قال علي عليه السلام: لقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين.

3 - جابر الحضرمي قال علي عليه السلام: لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث سنين لم يصل فيها أحد غيري.

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: المراد أنه عليه السلام صلى سبع سنين بعد بلوغه إلى ثمان سنين ولم يكن للنبي صلى الله عليه وآله دعوى رسالة بل كان يتعبد في الاسلام بدين إبراهيم عليه السلام وكان إسلام علي صغيرا كإسلام إبراهيم فقد ذكر أهل العلم أن أمة حملته وهو صغير في سرب لئلا يطلع عليه فلما نشأ قال لأمه:

من ربي؟ قالت: أبوك، فقال: ومن رب أبي، فزبرته فتطلع من شق السرب فرأى كوكبا الآية.

4 - بعادة العدوية، قال [ علي ] عليه السلام على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم.

5 - البختري، قال [ علي ] عليه السلام صليت قبل الناس بسبع سنين.

6 - خالد الخفاف: قال عثمان بن عفان: أبو بكر وعمر خير منك، فقال علي عليه السلام: كذبت والله لأنا خير منك ومنهما، عبدت الله تعالى قبلهما وبعدهما.

7 - الحارث الأعور قال علي عليه السلام: لا أعرف عبدا من عبادك عبدك قبلي وقال عليه السلام حين بلغه أنه يكذب: على من أكذب؟ أعلى الله فأنا أول من عبده أم على رسول الله فأنا أول من صدقه.

8 - أبو أيوب قال النبي صلى الله عليه وآله: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي رجل غيره. ومثله عن ابن عباس من طريقين، وعن مجاهد وعن أنس وفي آخره: لم ترفع الشهادتان إلى السماء إلا مني ومنه.

9 - سلمان قال النبي صلى الله عليه وآله: أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما:

علي ابن أبي طالب.

الصفحة 236 

10 - أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي: أنت أول من آمن بي.

11 - حذيفة: علي أقدم الناس سلما وأرجحهم علما.

12 - جابر الأنصاري: بعث النبي يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء.

13 - زيد بن أرقم: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله علي ابن أبي طالب.

14 - أم سلمة: والله لقد أسلم علي ابن أبي طالب أول الناس وما كان كافرا وقد نقل ذلك عن جماعة منهم الأشتر، وسعيد بن قيس، وعمرو بن الحمق، و هاشم بن عبيد، ومحمد بن كعب، ومالك بن الحارث، وأبو بكر، وعمر، وأبو مخلد، وأنس، وابن العاص، والأشعري، والحسن بن أبي الحسن البصري، و قتادة، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إسحاق، والحسن بن زيد، وأسند ذلك ابن جنبل من عدة طرق وابن المغازلي من عدة طرق والثعلبي في تفسيره قال: وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم وابن المنكدر وربيعة الرأي وابن حبان و المزني وذكره ابن عبد ربه في الجزء التاسع والعشرين من كتاب العقد.

وروى ابن مردويه وهو من أعيانهم قول أبي ذر: دخلنا على النبي صلى الله عليه وآله و قلنا: يا رسول الله من أحب إليك فإن كان أميرا كنا معه؟ قال صلى الله عليه وآله: هذا علي أقدمكم سلما وإسلاما وقد أنشد في ذلك من الأشعار، ما يغني عن الاكثار، قال خزيمة في أبيات له:

 

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا      أبو حسن مما نخاف من الفتن

 

إلى قوله:

 

وأول من صلى مع الناس كلهم سوى خيرة النسوان والله ذو منن

 

وقال كعب بن زهير:

 

صهر النبي وخير الناس كلهم   فكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلاة مع الأمي أولهم    قبل العباد ورب الناس مكفور

 

وقال ربيعة بن الحارث عند البيعة:

الصفحة 237 

 

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف        عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتهم     وأعلم الناس بالآثار والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبي ومن   جبريل عاونه في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به    وليس في القوم ما فيه من الحسن

ما ذا الذي ردكم عنه فنعلمه     ها إن بيعتكم من أول الفتن

 

وقال مالك بن عبادة:

 

رأيت عليا لا يلبث قرنه          إذا ما دعاه حاسرا أو مزملا

فهذا وفي الاسلام أول مسلم    وأول من صلى وصام وهللا

 

وقال زفر بن زيد:

 

فحوطوا عليا واحفظوه فإنه      وصي وفي الاسلام أول مسلم

 

وقال قيس بن عبادة:

 

هذا علي وابن عم المصطفى    أول من أجابه حين دعى

 

وقال في ذلك: الفضل، وعبد الله بن أبي سفيان، والنجاشي، وابن الحارث وجرير بن عبد الله، وعبد الله بن حكيم، وعبد الرحمن بن حنبل، وأبو الأسود الدؤلي، وهاشم بن عتبة تركنا أشعارهم خوف الإطالة، وقد روى المنحرفون روايات شاذة ضعيفة في تقدم إسلام أبي بكر سنذكرها في باب الروايات المختلقة و نجيب عنها ونبين ندورها.

تذنيب:

قالت البكرية: إسلام علي لا على النظر والمعرفة، بل على وجه التلقين، فليس كإسلام البالغين، فإنه كان ابن سبع سنين. قلنا: من المعلوم أنه صحب النبي صلى الله عليه وآله ثلاثا وعشرين منها عشرا بعد الهجرة، ومات سنة أربعين فعلم أن عمره عند المبعث يزيد على سبع سنين وقد اشتهرت الأخبار بأن عمره ثلاث و ستين وخمس وستين وأما ما سواهما فشاذ مطروح بعيد، لا يؤثره من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد قال بصفين لما بلغه قول أعدائه أنه شجاع لكن لا بصيرة له بالحروب: (لله أبوهم وهل أحد أبصر بها مني؟ لقد قمت فيها وما بلغت

الصفحة 238 

العشرين، وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع)(1) فأخبر أنه قد نيف على الستين ثم عاش بعد ذلك دهرا.

فممن روى الثالث والستين محمد بن الحنفية وأبو نعيم عن شريك عن إسحاق ويحيى ابن أبي بكر عن مسلمة عن الخدري وأحمد بن زكريا عن عائشة وممن روى الخمس والستين الكواسجي عن الوليد بن هاشم وروى قتادة عن الحسن وغيره أنه أول من آمن وهو ابن خمس عشر سنة وقال خباب بن الأرت:

أسلم وهو ابن خمس عشر سنة، ولقد رأيته يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ، وروى الحسن بن زيد أنه أول من أسلم وهو ابن خمس عشر سنة، وذكره محمد بن عبد البر منهم وقال ابن عمر: قال إبراهيم: هذا أصح ما قيل وعلى هذا قال عبد الله بن أبي سفيان بن عبد المطلب:

 

وصلى علي مخلصا بصلاته      لخمس وعشر من سنيه كوامل

وخلى أناسا بعده يتبعونه        له عمل أمصل به صنع عامل(2)

 

قال الجاحظ: لو كان بالغا كان إسلام زيد وخباب أفضل منه حيث تركا المألوف من عبادة الأصنام، قلنا: بل إسلامه طفلا أشرف وقد كان يخالط الكفار وينفر عن أفعالهم ثم ما يدريه أنهما أظهرا الاسلام. وأن إظهاره جازا لمجاورتهما رؤساء كفارا تمنع

____________

(1) أما كلامه هذا فهو نص على أن إسلامه كان في السادسة أو السابعة من عمره الشريف فإنه أول ما قام بالحرب كان في بدر السنة الخامسة عشر من المبعث وأما حديث صلاته مع النبي صلى الله عليه وآله قبل الناس سبعا فلأنه كان يصلي معه جماعة في المسجد الحرام وأصحابه المسلمون لا يقدرون على ذلك خوفا من المشركين بل يصلون فرادى خفية في دورهم حتى إذا حوصروا في الشعب للسنة السابعة من المبعث وحرم النبي صلى الله عليه وآله من الصلاة في المسجد صلى معه بنو هاشم وسائر أصحابه هناك جماعة مع النبي، فصح أنه كان يصلي قبل الناس معه سبعا ولا يصلي معهما أحد من الرجال.

(2) كذا، وقد صحح في إحدى النسختين (أفضل به)، يقال: مصل ماله: أفسده وصرفه في ما لا خير فيه، وامصل به صيغة تعجب. كأفضل به.

الصفحة 239 

منهما كما جرى لغيرهما، على أنه ليس الحد في التكليف بالمعارف بلوغ الحلم بل ذلك في الشرعيات وقد كمل الله عقل الطفل حتى برأ يوسف وقال الله في يحيى: (وآتيناه الحكم صبيا(1)) وقال في عيسى: (وجعلني نبيا(2)).

ولعلهم يقولون: ما ذكرتم في الطفل بمعجزة ليوسف، ويحيى وعيسى معجزة لهما أيضا فإسلام علي صبيا خارقا للعادة لا يجوز أن يكون معجزا له، وإلا لكان نبيا، ولا للنبي لأنه لم يعد في معاجزه، ولا نقله المسلمون في دلائله.

قلنا: بل إسلامه صغيرا كرامة له، ولا يلزم منها نبوة، وأنتم تجوزون الكرامات لمشايخ الطريقة وليس لهم نبوة، بل وربما لا عدالة لهم مع جواز كونه معجزة للنبي، وإن لم يشع ذلك في العوام، إذ ليس كل معاجزه عليه السلام أعلام ولو استشهد على حال صغره بتصديق النبي صلى الله عليه وآله لشهد كما شهد ليوسف الطفل ببراءته، ونطق عيسى ببراءة أمه، ويحيى بتقرير نبوة أبيه، والمعاجز التي هي أعلام تدل على نبوته بظواهرها، فاستغني به عن غيرها، ولما تقررت نبوته أخبر بإسلامه صغيرا فكان معجزا لكنه غير مقرون بالدعوة، ومن الجايز أن يكون الله تعالى أعلم نبيه الكف عن ذكر إسلامه لعلمه بما في ذلك من مصلحة خلقه.

ثم نرجع ونقول: كيف يكون إسلامه علي على وجه التلقين، وقد تمدح به بين أعدائه، وجعله من أعظم فضائله، وذلك كله في معنى الشهادة بصدق نبيه ولم يرد أحد من خصومه ما تمدح به من سبق إسلامه، ولا ذكروا أن ذلك لا فضيلة له فيه، لأنه حال صغره، وقد اشتهر ذلك في شعره عليه السلام:

 

سبقتكم إلى الاسلام طرا         على ما كان من فهمي وعلمي

 

وكذا وجدناه في العيون والمحاسن للشيخ المفيد رحمه الله وقد قال

 

وصليت الصلاة وكنت طفلا     صغيرا ما بلغت أوان حلمي

 

____________

(1) مريم: 11.

(2) مريم: 30.

الصفحة 240 

وقد أظهرنا وجه فضيلته على القولين.

قالوا: لو سلم سبق إسلامه فإسلام أبي بكر أفضل منه، لحصول الشوكة و القوة للاسلام به دونه، لأنه كان شيخا من الشيوخ محترما، ودعى الناس إلى الاسلام. قلنا: نمنع احترامه، ودعاءه إلى الاسلام، وحصول الشوكة، ففي إسلام علي صغيرا فضيلة لا تعادل إذ الميل إلى الأبوين في طباع الصبيان، وكثير اللعب مع الأخدان، فالعدول عن ذلك بصحيح النظر، لم يكن لغيره من البشر، فكانت التقوى المستلزمة للكرامة، ثابتة له لسبق إسلامه، لا لمن مضى على الكفر أكثر أعوامه، وكيف لا يكون إسلامه بالاستدلال، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله في مناقبه حيث قال لفاطمة: أما ترضين أني زوجتك أقدمهم سلما، وقال في حديث سلمان: أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب ونحو ذلك قد سلف.

وأيضا فالنبي صلى الله عليه وآله لم يستكتمه على سره و [ لا ] يثق بعقله وأمانته إلا وهو عالم بصدق سريرته، وعلمه وحكمته، وحصول عصمته، وإلا لكان مضيعا لحرمته ومفرطا بوضع الشئ في غير موضعه، ومتشاغلا عما يجب عليه من المهم بغيره ولأن حاله بعد الاسلام ليس كما كان من قبله، وإلا لم يصدق الاسلام عليه.

إن قيل: قد يصدق الاسم بمجازه دون حقيقته كإسلام الطفل تبعا لأبيه وسابيه(1) قلنا: الأصل في الاطلاق الحقيقة وعندكم لا إسلام لأبيه، ومن المعلوم نفي سابيه ولو صدق بمجازه لصدق السلب فيه، ويلزم صدق الكفر حقيقة عليه، وذلك قول فنيد، لم يذهب إليه رشيد، والحمد لله القوي الحميد.

____________

(1) أي الذي سباه في دار الحرب.

الصفحة 241 

 

(الفصل الثالث والعشرون)

 

في كونه عليه السلام بمنزلة: (قل هو الله أحد)، والبئر المعطلة، والحسنة، و أبو الأمة.

[ روى ذلك ] وأسند بن جبر في نخبه قول النبي صلى الله عليه وآله: مثل علي في هذه الأمة مثل (قل هو الله أحد) وأسنده الشافعي ابن المغازلي إلى النعمان بن بشير وإذا كان علي مماثلا لنسبة الرب تعالى إلا ما أخرجه العقل، فمن يطمع في مساواته أو مداناته.

وأسند ابن جبر في نخبه إلى الصادق عليه السلام: البئر المعطلة والقصر المشيد علي بن أبي طالب.

وأسند إلى الكاظم عليه السلام: البئر المعطلة: الإمام الصامت، والقصر المشيد:

الإمام الناطق.

قال العوني:

 

هو القصر والبئر المعطلة التي   متى فتحت تروي الأنام عن السغب

فمن دخل القصر المشيد بناءه  فلا ظمأ يلقا هناك ولا نصب

 

وقال آخر:

 

علي هو البئر المعطلة التي       مياها شفاء للغليل من الظما

إذا كشفت للخلق فاضت علومها         كفيض مياه البحر في البر إذ طما

 

وأما الحسنة، فأسند صاحب النخب إلى الباقر عليه السلام في قوله تعالى: (و من يقترف حسنة(1)) قال عليه السلام: هي المودة لعلي بن أبي طالب، وروى زادان عن السبيعي، عن الجدلي أن عليا عليه السلام قال: في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها(2)) الحسنة حبنا أهل البيت والسيئة بغضنا.

____________

(1) الشورى: 23.

(2) الأنعام: 160.

الصفحة 242 

وفي تفسير الثعلبي: إني أنبئك بالحسنة التي من جاء بها دخل الجنة وبالسيئة التي من جاء بها دخل النار، ولم يقبل معها عملا؟ فقلت: بلى، قال:

الحسنة حبنا أهل البيت والسيئة بغضنا.

وأما الأبوة فأسند ابن جبر في نخبه إلى النبي صلى الله عليه وآله: أنا وعلي أبوا هذه الأمة. وروى الثعلبي في ربيع المذكرين، والخركوشي في شرف النبي، والديلمي في الفردوس، والطوسي في الأمالي قول النبي صلى الله عليه وآله: حق علي على هذه الأمة كحق الوالد على الولد، وفي الخصائص عن أنس: حق علي على المسلمين كحق الوالد على الولد، وفي مفردات الراغب قال النبي صلى الله عليه وآله: يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة. ومن حقوق الآباء على المسلمين أن يترحم عليهم في أوقات الإجابات.

والمراد بالأبوة وجوب شكر نعمتها كما وجب للوالدين على ولدهما وقد روى أبان بن تغلب عن الصادق عليه السلام أن قوله تعالى (أن اشكر لي ولوالديك(1)) نزلت فيه، وروى هو أيضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (وبالوالدين إحسانا(2)) الوالدين رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين. وروي عن الرضا عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أنا وعلي الوالدان.

وذكر ميثم في شرح نهج البلاغة ما يقرب من هذا المعنى حيث روى قول النبي صلى الله عليه وآله: كل نبي هو آدم وقته فصدقت الأبوة عليه وعلى علي عليه السلام بالمجاز ولم يخص النبي صلى الله عليه وآله غير علي عليه السلام بمثل ذلك الاعزاز.

قلت: لما كانت الرحمة توجب السرور، فأي ترحم ممن قتلوا ذريتهم وصرفوا بنت نبيهم عن حقها بغصبهم وسبوا إمامهم على رؤس منابرهم.

وقد روينا عن شيخنا زين الدين علي بن محمد التوليني أن الأصبغ بن نباته دخل على علي عليه السلام حين ضربه ابن ملجم اللعين فأخذ علي عليه السلام بأصبعه وقال:

دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذ بأصبعي هكذا وقال: اخرج فناد: ألا من عق

____________

(1) لقمان: 14.

(2) البقرة: 83.

الصفحة 243 

والديه فعليه لعنة الله، ألا من أبق من مواليه فعليه لعنة الله، ألا من ظلم أجيرا أجرته فعليه لعنة الله، فخرجت فناديت فلم يفهموا، فرجعت فقلت له: يا رسول الله لم يفهموا، فقال: يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فعليه لعنة الله، وأنا وأنت مولا هذه الأمة فمن أبق منا فعليه لعنة الله، وأنا وأنت أجيرا هذه الأمة فمن ظلمنا أجرنا فعليه لعنة الله، فخرجت فأوضحت ذلك.

(الفصل الرابع والعشرون)

 

أسند الخطيب في الأربعين إلى محمد بن الحنفية قول النبي صلى الله عليه وآله: لما عرج بي رأيت في السماء ملكا مكتوب على جبهته: أيد الله محمدا بعلي. فتعجبت فقال الملك: إنه مكتوب قبل الدنيا بألفي عام، وفي الكتاب المذكور أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: مكتوب على جناح جبرائيل: (لا إله إلا الله محمد النبي) وعلى الآخر:

(لا إله إلا الله علي الوصي).

وأسند ابن جبر في نخبه إلى ابن عباس وابن مسعود قول النبي صلى الله عليه وآله:

مكتوب على وجه القمر الذي يلي السماء: الله نور السماوات، وعلى الوجه الذي يلي الأرض محمد وعلي نور الأرضين.

وأسند الفحام وهو علمي إلى أنس قول النبي صلى الله عليه وآله وقد ركب إلى موضع كذا: خذ البغلة وأت عليا في موضع كذا تجده يسبح بالحصى فاحمله عليها إلي فلما جاء قال له: اجلس هنا فقد جلس في هذا الموضع سبعون مرسلا ما جلس فيه نبي إلا وأنا أكرم على الله منه، وجلس موضع كل نبي أخ له ما جلس منهم أكرم على الله منك ثم أظلتنا غمامة فأكلنا منها عنبا ثم قال: يا أنس والذي يخلق ما يشاء، لقد أكل منها ثلاث مائة وثلاثة عشر نبيا ما فيهم أكرم على الله مني و أوصياؤهم ما فيهم أكرم على الله من علي.

وفي أمالي النيسابوري: دخل الكاظم على الصادق، والصادق على الباقر والباقر

الصفحة 244 

على زين العابدين، وزين العابدين على الحسين الشهيد عليهم السلام، وكلهم فرحون قائلون: ناول النبي عليا(1) تفاحة فسقطت من يده، فانفلقت فخرج فيه مكتوب:

من الغالب الطالب لعلي بن أبي طالب.

وأسند الخوارزمي إلى ابن عباس أن جبرائيل أتى النبي بأترنجة وقال:

هذه هدية لعلي بن أبي طالب فدفعها إليه فسقطت فإذا فيها: هذه هدية من الطالب الغالب لعلي بن أبي طالب ويقال: إن ذلك كان لما قتل علي عمرو بن عبد ود.

وفي أحاديث ابن الجعد أن النبي صلى الله عليه وآله ليلة المعراج رأى تحت العرش ملكا على صورة علي يسبح فقال: يا جبرائيل من هذا الملك؟ فقال جبرائيل:

اشتاق العرش إلى علي لإكثار الله تعالى الثناء والصلاة عليه، فخلق هذا على صورته يسبح وثوابه لأهل بيتك.

وأسند ابن جبر في نخبه إلى ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله رأى صورة علي في السماء فقال: سبقتني يا أبا الحسن؟ قال جبرائيل: هذا ملك على صورته لأن الملائكة اشتاقت إلى صورته فسألت ربها فخلقه ليزورونه قال العبدي:

 

يا من شكت شوقه الأملاك إذ شغفت  بحبه وهواه غاية الشغف

فصاغ شبهك رب العالمين فما تنفك من زائر منها ومعتكف

 

(الفصل الخامس والعشرون)

 

في قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا(2)) قال ابن عبد البر: أخرج أبو نعيم الحافظ من كبار الجمهور قول النبي صلى الله عليه وآله: لما أسري بي [ إلى ] السماء جمع الله تعالى بيني وبين الأنبياء وقال: سلهم على ما بعثتم فسألتهم فقالوا: على شهادة أن لا إله إلا الله والاقرار بنبوتك والولاية لعلي ابن أبي طالب.

دل هذا الحديث على أن من لم يواله في جميع الأزمان كان عاريا عند الله تعالى من

____________

(1) على، خ ل.

(2) الزخرف: 45.

الصفحة 245 

الإيمان، وخارقا لعهده المأخوذ على أنبيائه، وهذا نص الكتاب المجيد، وقول النبي الرشيد. لا يحتمل الترديد ولا يقبل التفنيد، ولو اجتهد في رده المتعصب العنيد، إذ هو تنزيل من حكيم حميد.

وأسند ابن قرطة في كتابه مراصد العرفان إلى أنس قول النبي صلى الله عليه وآله: الجنة مشتاقة إلى أربعة من أمتي قال أنس: فهممت أن أسأله عنهم فجئت إلى أبي بكر ثم إلى عمر ثم إلى عثمان فأخبرتهم وطلبت منهم سؤاله فكل يقول: أخاف أن أسأله فلا أكون منهم فيعيرني قومي فأخبرت عليا عليه السلام فقال: والله لأسأله فإن كنت منهم حمدت الله إذ جعلني منهم، وإن لم أكن منهم سألت الله أن يجعلني منهم، فأتيت معه إلى النبي صلى الله عليه وآله فوجدت رأسه في حجر دحية الكلبي فقام وسلم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين خذ رأس ابن عمك فأنت أولى به مني فلما انتبه النبي صلى الله عليه وآله أعلمه أنه كان جبرائيل فقال: يا رسول الله أعلمني أنس أنك قلت: الجنة مشتاقة إلى أربعة من أمتي فمن هم؟ فأومى إليه بيده وقال: والله أنت أولهم - ثلاثا - قلت:

فمن الباقي؟ قال صلى الله عليه وآله: المقداد وسلمان وأبو ذر.

وفي هذا الحديث نص النبي صلى الله عليه وآله باشتياق الجنة إليه ونص جبرائيل أنه أولى بالنبي منه وبأنه أمير المؤمنين، ومتى كان أولى بالنبي من جبرائيل، كان أولى من الثلاثة وغيرهم بالتقدم للتفضيل.

وأسند إلى جابر من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وآله ناجى عليا بالطائف فأطال فرأى في وجوده بعض الصحابة تغيرا - وقيل: هما أبو بكر وعمر - فقال صلى الله عليه وآله:

ما أنا ناجيته ولكن الله انتجاه.

وأسند إلى أبي ذر قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي: أنت أول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر والفاروق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكفار.

وأسند إلى عمرو بن الحمق قول النبي صلى الله عليه وآله له: هل أريك آية الجنة؟

قلت: بلى، قال: هذا وقومه وأشار إلى علي ابن أبي طالب. هل أريك آية من

الصفحة 246 

النار؟ قلت: بلى، فأشار إلى رجل. فلما وقعت الفتنة ذكرت ذلك فبرزت من آية النار إلى آية الجنة.

وأسند إلى علي عليه السلام من طرق عديدة قول النبي صلى الله عليه وآله له: إذا اجتمع الناس في صعيد وقطع العطش أمعاءهم كان أول من يدعى إبراهيم فيكسى ويقام عن يمين العرش ثم ينفجر لي شعب من الجنة إلى حوض أعرض مما بين بصرى و صنعاء فأشرب أنا والوصي وأكسى وأقام عن يمين العرش، ثم تدعى وتشرب وتتوضأ وتكسى وتقوم معي، فلا أدعى لخير إلا وأنت معي تدعى له.

وأسند إلى الصادق عليه السلام إلى جابر قول النبي صلى الله عليه وآله: ما اعتصم أهل ملة من المشركين علي إلا رميتهم بسهم الله علي ابن أبي طالب وما بعثته إلى سرية إلا و رأيت جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت أمامه وسحابة تظله حتى يعطي الله حبيبي النصر.

وأسند إلى علي قول النبي صلى الله عليه وآله: يؤتى بك ويدفع إليك قضيبا من الدر ويقول لك: غرست هذا لك في جنة عدن فخذه بيدك، وقف عند الحوض، واسق من شئت بإذني ورد من شئت بعلمي.

وأسند النيسابوري إلى ابن عباس قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي بعد فتح مكة:

قم فانظر كرامتك على الله وكلم الشمس، فقام وسلم عليها فقالت: وعليك السلام يا أخا رسول الله ووصيه وحجة الله على خلقه.

(الفصل السادس والعشرون)

 

أسند الطبري إلى الخدري قول النبي المختار: أعطاني الله مفاتيح الجنة والنار، وقال تعالى: سلمها لعلي ابن أبي طالب ليدخل من شاء ويخرج من شاء.

وأسند جلاد بن هيثم إلى ابن عباس قول النبي صلى الله عليه وآله له: عليك بعلي ابن أبي طالب فإن الحق ينطق على لسانه وإن النفاق في مجانبته وإن هذا قفل الجنة ومفاتيحها وقفل النار ومفاتيحها، بيده، يدخل من شاء، ويعذب من شاء.

الصفحة 247 

وفي مسند ابن حنبل والجمع بين الصحيحين وبين الصحاح الستة من صحيح أبي داود وصحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وقيل لبعض العلماء: إن الرفضة يقولون علي قسيم الجنة و النار؟ قال: ألستم رويتم قول النبي صلى الله عليه وآله فيه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا كافر؟ قال: بلى. قال: فالمؤمن أين؟ قال: في الجنة قال: فالكافر؟ قال: في النار، قال فصار علي قسيم الجنة والنار.

وهذا خبر قسيم الجنة والنار ذكره الشافعي ابن المغازلي في كتابه وذكر فيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله لم يجز عن الصراط إلا من كان معه كتاب بولاية علي بن أبي طالب وفيه حدث الأعمش عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله تعالى يقول لي ولعلي يوم القيامة: أدخلا الجنة من أحبكما والنار من أبغضكما فيجلس علي على شفير جهنم فيقول: هذا لي وهذا لك.

قلت: فكيف يقاس به من لا يقطع بنجاة نفسه، ويدعو بالويل والثبور عند موته، وما ذلك إلا لما عاين من سوء عاقبته.

 

إن قلت إن عليا عند خالقه      خير غدا من أبي بكر ومن زفر

عجبت عصايب من قولي وساءهم       ولست منهم وإن عجبوا بمعتذر

 

وقال آخر:

 

تراءت لأحداق العيون شهوده   فأكرم بها من شاهد لا يكذب

فلو أن أفواه الرجال عواطل      من القول قال المجد هاأنا معرب

 

وأسند ابن حنبل عن زادان قول النبي صلى الله عليه وآله: كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام فلما خلقه قسم النور جزئين فجزء أنا و جزء علي وروى نحوه الديلمي في فردوسه، وابن المغازلي الشافعي في مناقبه من هذا الطريق، ومن طريق جابر الأنصاري وفي آخره: فلم نزل شيئا واحدا حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ففي النبوة، وفي علي الخلافة، وفي حديث آخر:

فأخرجني نبيا وعليا وصيا.

 

 

 

 

الصفحة 248 

وفي مناقب ابن المغازلي حديث زيدة عن أمها أن النبي صلى الله عليه وآله وأبا طالب أخذا فاطمة بنت أسد حين اشتد عليها الطلق إلى الكعبة فولدت عليا. قال علي ابن الحسين عليهما السلام ما سمعت بشئ قط إلا وهذا أحسن منه.

وأسند الجاحظ بن ثابت إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: رأيت على باب الجنة في الإسراء [ مكتوب ] لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي حبيب الله، الحسن والحسين صفوة الله، وفاطمة أمة الله، على باغضيهم لعنة الله. شعر لمؤلفه:

 

يفنى المديح ولا يحيط بوصفه  أيحيط ما يفنى بما لا ينفد

فجزاء من قاس الوصي بغيره   نار تؤجج حرها لا يبرد

إذ حط مرتفعا وأعلى خافضا    بفضيلة ورذيلة لا تجحد

روت الثقاة لهذه ولهذه من وامق أو مارق يتفند