الكلام في أصحاب بيعة الشجرة ورضاه الله عنهم

الصفحة 85   

 

فصل

 

فإن قال: فإذا كنتم قد أخرجتم المتقدمين على أمير المؤمنين والمحاربين له والقاعدين عنه من رضا الله تعالى، وما ضمنته آية السابقين بالشرط على ما ذكرتم، والتخصيص الذي وصفتم، ولما اعتمدتموه من تعريهم من العصمة، وما واقعه - من سميتموه منهم على الاجماع - من الذنوب، فخبروني عن قوله تعالى: { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }(1).

فكيف يصح لكم تأويله بما يخرج القوم من الرضا والغفران، والاجماع منعقد على أن أبا بكر وعمر(2) وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا قد بايعوا تحت الشجرة، وعاهدوا النبي صلى الله عليه وآله، أوليس هذا الاجماع يوجب الرضا على البيان؟

قيل له: القول في الآيتين جميعا سواء، وهو في هذه الآية أبين

____________

(1) سورة الفتح 48: 18.

(2) زاد في م: وعثمان، والثابت أنه لم يبايع تحت الشجرة. أنظر الدر المنثور 7 / 521.

 

الصفحة 86   

وأوضح وأقرب طريقا، وذلك أن الله تعالى ذكر المبايعين(1)، وخصص من توجه إليه الرضا من جملتهم بعلامات نطق بها التنزيل، ودل بذلك على أن أصحابك - أيها الخصم - خارجون عن الرضا على التحقيق، فقال جل اسمه: { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }(2).

فخص سبحانه بالرضا منهم من علم الله منهم الوفاء، وجعل علامته من بينهم ثباته في الحروب بنزول السكينة عليه، وكون الفتح القريب به وعلى يديه، ولا خلاف بين الأمة أن أول حرب لقيها رسول الله صلى الله عليه وآله بعد بيعة الرضوان حرب خيبر، وأنه قدم أبا بكر فيها فرجع منهزما فارا من مرحب، وثنى بعمر فرجع منهزما فارا، يجبن أصحابه ويجبنونه.

فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرارا، لا يرجع حتى يفتح الله تعالى على يديه "(3) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام فلقي مرحبا فقتله، وكان الفتح على يديه واختص الرضا به(4)، ومن كان معه من أصحابه وأتباعه، وخرج صاحباك من الرضا بخروجهما عن الوفاء،

____________

(1) في ب، م: السابقين.

(2) سورة الفتح 48: 18 (3) تقدم مع تخريجاته في ص 34.

(4) (واختص الرضى به) ليس في ب، م.

 

الصفحة 87   

وتعريهما من السكينة، لانهزامهما وفرارهما وخيبتهما من الفتح القريب، لكونه على يد غيرهما، وخرج من سميت من أتبعاهما(1) منه، إذ لا فتح لهم ولا بهم على ما ذكرناه(2) وانكشف عن الرجلين خاصة، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " ويحبه الله ورسوله " ما كان مستورا، لاستحقاقهما في الظاهر ضد ذلك من الوصف، كما استحقا اسم الفرار دون الكرار، ولولا أن الأمر كما وصفناه لبطل معنى كلام النبي صلى الله عليه وآله، ولم يكن له فائدة، وفسد تخصيصه عليا عليه السلام بما ضمنه من الثناء على ما شرحناه.

ومما يؤيد ذلك ويزيده بيانا قول الله عز وجل: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }(3).

فدل على أنه تعالى يسأل المولين(4) يوم القيامة عن العهد، ويعاقبهم بنقض العهد، وليس يصح اجتماع الرضا والمسألة والعقاب لشخص واحد، فدل ذلك على خصوص الرضا، ووجب إلحاقه في الحكم بما لا يتوجه إليه السؤال، وإذا وجب ذلك بطل تعلق الخصم في الآية بالعموم، وسقط اعتماده على البيعة في الجملة.

وعلى كل حال، هذا إن لم يكن في الآية نفسها وفيما تلوناه بعدها دليل على خروج القوم من الرضا، وكان الأمر ملتبسا، فكيف وفيها

____________

(1) في أ: أتباعا.

(2) (على ما ذكرناه) ليس في ب، ح، م.

(3) سورة الأحزاب 33: 15.

(4) في أ: المؤمنين.

 

الصفحة 88   

أوضح برهان بما رتبناه؟!

ومما يدل على خصوص الآية أيضا قوله تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }(1).

فتوعد على الفرار بالغضب والنار، كما وعد على الوفاء بالرضا والنعيم، فلو كانت آية الرضا في المبايعين على العموم وعدم الشرط لبطل الوعيد، وخرجت الآية النازلة عن الحكمة(2)، ولم يحصل لها فائدة ولا مفهوم، وذلك فاسد بلا ارتياب.

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }(3).

وهذا صريح باختصاص الرضا بطائفة من المبايعين دون الجميع، وبثبوت الخصوص في الموفين بظاهر التنزيل الذي لا يمكن لأحد دفعه، إلا بالخروج عن الدين.

على أن بعض أصحابنا قد سلم لهم ما ظنوه من توجه الرضا إلى جميع المبايعين(4)، وأراهم أنه غير نافع لهم فيما اعتقدوه، لأن الرضا

____________

(1) سورة الأنفال 8: 16.

(2) في ب، ح، م: النازلة منافية للحكمة.

(3) سورة الأحزاب 33: 23.

(4) في م: المتابعين.

 

الصفحة 89   

للماضي من الأفعال، وما هو في الحال لا يعصم من وقوع ضده الموجب للسخط في المستقبل، وما يتوقع من الأحوال، وهذا ما لا يمكن لأحد من خصومنا دفعه، إلا من قال منهم بالموافاة فإنه يتعلق بها، وكلامي المتقدم يكفي في الكثير على الجميع، والحمد لله.