باب الثالث عشر في المجادلة لنصرة دينه

الصفحة 53   

وفيه فصول ومناظرات فيما وقع من ذلك للمنحرفين عنه ولأصفيائه، و يلحق بذلك بحث في التقية وبحث في البراءة من أعداء العترة النقية.

فلا خفاء في العقل لشرف العلم، للقضاء الضروري حتى أنه نسب إلى الجاهل فرح به، وإن علم بكذبه:

 

كفى شرفا للعلم دعواه جاهل   ويفرح إذا يعزى إليه وينسب

 

وقد اشتهر فضله في الذكر الإلهي (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (1)) (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط (2)).

قال الزمخشري في كشافه: فيه دليل على أن من ذهب إلى تشبيه أو جواز رؤية أو جبر الذي هو محض الجور لم يكن على دين الله.

قال الإمام الطبرسي: وفي اقتران العلماء بالملائكة، دليل فضلهم وأنه لا عبرة بغيرهم، والعلم هنا التوحيد وعلوم الدين، لأن الشهادة وقعت فيه، واشتهر فضله أيضا في الحديث النبوي في قوله: ساعة من العالم متكئ على فراشه ينظر في علمه، خير من عبادة العباد سبعين عاما، تعلموا العلم فإنه لله حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وتذكيره قربة، لأنه منار سبيل الجنة والنار، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة والسلاح على الأعداء، والقرب عند الغربا، يرفع الله به قوما فيجعلهم في الخير قادة يقتص بآثارهم، وينتهي إلى آرائهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم. وفي صلاتها مع كل رطب ويابس تستغفر لهم، حتى حيتان البحار و

____________

(1) الزمر: 9.

(2) آل عمران: 18.

الصفحة 54   

هوامها، وسباع الأرض وأنعامها، وهو حياة القلوب، وقوة الأبدان، ونور الأبصار، يبلغ به العبد مجالس الملوك، ومنازل الأحرار، الذكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحرام، العلم إمام والعمل تابعه، يلهم السعداء ويحرم الأشقياء.

فصل

 

ذكر عند الصادق عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام نهوا عن الجدال فقال: المنهي عنه هو الجدال بغير التي هي أحسن، فإن الله أمر نبيه في قوله: (و جادلهم بالتي هي أحسن (1)) وغير الحسن أن يجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة نصبها الله، والتي هي أحسن مثل جدال النبي صلى الله عليه وآله لجاحدي البعث بقوله: (يحييها الذي أنشأها أول مرة (2)) نبه سبحانه على عظيم قدرته بقوله:

(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا (2)) على أن من كمن النار الحارة في الأخضر، هو على إعادة ما يفنى أقدر.

وقال: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (4)) وقد جادل النبي أهل خمسة أديان: اليهود، والنصارى والدهرية، والثنوية، ومشركي العرب، من أراد وقف عليه من تفسير الإمام العسكري واحتجاج الطبرسي.

وقد أورد المفيد في كتاب الكامل وكتاب الأركان وكتاب المحاسن حديثا مسندا إلى الصادق عليه السلام (خاصموهم وبينوا لهم الهدى الذي أنتم عليه، وضلالهم و باهلوهم في علي عليه السلام).

وقد جادل النبي صلى الله عليه وآله المشركين مرارا عند قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (5)) (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين

____________

(1) النحل: 125.

(2) يس: 79.

(3) يس: 80.

(4) يس: 81.

(5) الفرقان: 7.

الصفحة 55   

عظيم (1)) (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (2)) الآيات.

وفي كتاب مشكاة الأنوار مسندا إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا ومسندا إلى الإمام العسكري عليه السلام عن آبائه إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أشد من يتم يتيم انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه، لا يقدر على الوصول إليه، ألا ومن كان من شيعتنا عالما لعلمنا، فهداه وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى.

وإلى العسكري إلى علي عليه السلام من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلم جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضئ لأهل العرصات، وحلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي مناد هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجه من ظلمة جهله فليتشبث بنوره، ليخرجه من ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنات فيخرج كل من علمه خيرا أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا.

وإلى العسكري: فضل كافل يتيم آل محمد، المنقطع عن مواليه، الناشب في تيه الجهل يخرجه ويوضح له، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه، كفضل الشمس على السها.

وإلى العسكري إلى الحسين بن علي عليهم السلام: من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده قال الله عز وجل:

أيها العبد الكريم المواسي، أنا أولى بالكرم اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بكل حرف علمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم.

وإلى الصادق عليه السلام علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته وشيعته النواصب، يمنعونهم من الخروج والتسلط على ضعفاء شيعتنا، ألا ومن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه

____________

(1) الزخرف: 31.

(2) أسرى: 90.

الصفحة 56   

يدفع عن أديان محبينا، وذلك عن أبدانهم.

وإلى الكاظم عليه السلام فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف ألف عابد، وألف ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه ذات نفسه وذات عباد الله وإمائه ينقذهم من إبليس ومردته.

وعن الرضا عليه السلام: يقال للعابد يوم القيامة: نعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤنتك فادخل الجنة ويقال للفقيه: أيها الكافل لأيتام آل محمد، الهادي لضعفاء محبيهم: قف حتى تشفع في كل من تعلم منك أو تعلم ممن تعلم منك إلى يوم القيامة، فيدخل الجنة ومعه فئاما وفئاما حتى عد عشرا فانظركم حرف ما بين المنزلتين.

وعن الجواد عليه السلام من تكفل لأيتام آل محمد، المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسرى في أيدي النواصب وشياطينهم، فاستنقذهم من حيرتهم، وقهر شياطينهم برد وساوسهم، والناصبين بحجج ربهم دليل أئمتهم، ليفضلون عند الله العباد بأكثر من فضل السماء على الأرض، والعرش والكرسي والحجب على السماء فضلهم على هذا العابد، كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء.

وعن الهادي عليه السلام لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الدالين عليه، و الداعين إليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شياطين إبليس ومردته؟ ومن محاج لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل.

وعنه عليه السلام شيعتنا القائمون بضعفاء محبينا يوم القيامة، والأنوار تسطع من تيجانهم، قد انبثت في عرصات القيامة ودورها ثلاثمائة ألف سنة، فلا يبقى يتيم قد كفلوه، ومن ظلمة الجهل أخرجوه، إلا تعلق بشعبة من أنوارهم حتى ينزلون في جوار استاديهم وأئمتهم، ولا يصيب النور ناصبيا إلا عميت عيناه من ذلك النور

الصفحة 57   

وصمت أذناه، وخرس لسانه، ويتحول عليه أشد من لهب النار، حتى تدعهم الزبانية إلى سواء الجحيم.

وقال أبو محمد عليه السلام: إن من محبي محمد وآله مساكين مواساتهم أفضل مواساة الفقراء وهم الذين سكنت جوارحهم، وضعفت قواهم عن مقابلة أعداء الله، الذين يعيرونهم بدينهم، ويسفهون أحلامهم، ألا فمن قواهم بفقهه، ثم سلطهم على الأعدا الظاهرين النواصب، والباطنين إبليس ومردته، حتى هزموهم عن دين الله وأوليائه؟

حول الله تلك المسكنة إلى شياطينهم فأعجرهم عن إضلالهم قضاء الله بذلك.

وقال: اختصم إلى فاطمة عليها السلام في أمر الدين معاندة، ومؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحا شديدا فقالت فاطمة: فرح الملائكة أشد من فرحك، وحزن الشيطان ومردته لحزنها أشد من حزنها، وإن الله قال للملائكة: أحبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف ضعف ما كنت أعددته لها، واجعلوا ذلك سنة في كل من فتح على مسكين فغلب معاندا.

وقال: حمل رجل إلى الحسن بن علي هدية فقال أيما أحب إليك أن أرد لك بدلها عشرين ضعفا وعشرين ألف درهم أو أفتح لك بابا من العلم تقهر به فلانا الناصبي في قريتك، تنقذ به ضعفاءها وإن أحسنت الاختيار جمعت لك الأمرين فقال:

قهري له قدر عشرين ألف؟ قال: بل قدر الدنيا عشرين ألف مرة قال: فكيف أختار الأدون؟ فعلمه كلمة وأعطاه عشرين ألف درهم، فذهب فأفحم الرجل ثم حضر فقال له: ما ربح أحد مثل ربحك كسبت مودة الله أولا، ومودة محمد وعلي ثانيا والسبطين والأئمة ثالثا، وجبرائيل والملائكة رابعا، وإخوانك المؤمنين خامسا واكتسبت بعدد كل مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألف مرة، واكتسبت مالا.

وقال علي عليه السلام: من قوى مسكينا في دينه، ضعيفا في معرفته، على ناصب مخالف فأفحم لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن عدتي، والمؤمنون إخواني فيقول الله أدليت

الصفحة 58   

بالحجة، فوجبت لك عالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة.

وقال الصادق عليه السلام: من كان همه في كسر النواصب عن موالينا، وكشف مخازيهم، جعل الله همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره، يشغل بكل حرف من حروف حجته أكثر من عدد أهل الدنيا، قدرة كل واحد يفضل عن حمل السماوات والأرضين، فكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين.

وقال الرضا عليه السلام: أفضل ما يقدمه العالم من محبينا ليوم فقره ومسكنته أن يعين في الدنيا مسكينا من يد ناصب عدو الله ورسوله، يقوم من قبره والملائكة صفوف إلى محل من الجنان، فيحملونه على أجنحتهم، ويقولون: طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الأبرار، ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.

وقال بعض الموالي لأبي الحسن عليه السلام: إن لنا جارا ناصبيا يحتج علينا في تفضيل من تقدم على علي عليه السلام ولا ندري ما جوابه؟ فأمر بعض تلامذته بالمصير إليه فذهب فأفحمه، ففرحوا وحزن الرجل وقبيلته، فرجعوا فأخبر الإمام فقال: ما في السماء من الفرح أكثر من ذلك وما بإبليس وشياطينه أشد من حزن أولئك، ولقد صلى على هذا الكاسر ملائكة السماء والعرش والكرسي، وقابلها الله بالإجابة فأكرم إيابه، وعظم ثوابه، ولعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور، وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه.

تذنيب:

كان محمد بن الحنفية يحدث عن أبيه عليه السلام: ما خلق الله شيئا أشر من الكلب والناصب شر منه.

أبو بصير: مدمن الخمر كعابد وثن، والناصب شر منه، لأن الشارب تدركه الشفاعة يوما، والناصب لو شفع فيه أهل السماوات والأرض لم يشفعوا.

تذنيب آخر:

أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وآله: يؤتى بجاحد حق علي يوم القيامة أعمى أبكم يكبكب

 

 

 

الصفحة 59   

في الظلمات، ينادي (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله (1)) وفي عنقه طوق من نار، له ثلاثمائة شعبة، على كل شعبة شيطان يتفل في وجهه.

فصل

 

رفع أبو العتاهية يده بحضرة المأمون وقال لثمامة: من رفعها؟ قال: من أمه زانية، قال: شتمتني؟ قال ثمامة: تركت مذهبك فانقطع.

قيل لأبي الهذيل: من جمع بين الزانيين قال: القواد، فسكت السائل.

قال أبو الهذيل لحفص: هل شئ غير الله وغير خلقه؟ قال: لا قال: فعذب على أنه الله؟ أو على أنه خلقه؟ قال: لا على واحد منهما بل على أنه عصى، قال:

فكونه عصى قسم ثالث؟ قال: لا، فأعاد السؤال فانقطع.

قال النظام - وكان حاضرا: قد عذبه على الكسب، قال: فالكسب شئ غير الله وغير ما خلق؟ قال: فأعاد السؤال فانقطع.

قيل لأبي يعقوب المجبر: من خلق المعاصي؟ قال: الله، قال: فلم عذب عليها؟ قال: لا أدري.

قال عدلي لمجبر: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (2)) فلا بد أن يكون الذي أوقدها غير الذي أطفأها.

أتي إلى بعض الولاة بطرار أحول فقال لعدلي: ما تفعل فيه؟ قال: أضربه خمسة عشر سوطا لكونه طرارا، ومثلها لكونه أحول، فقال مجبر: لا صنع له في الحول، وكيف يضرب عليه؟ قال العدلي: إذا كان الكل من الله فالطرار والحول سواء، فانقطع.

قال عدلي لمجبر: هل تملك من أهلك ومالك شيئا؟ قال: لا، قال: كل ما تملك جعلته في يدي؟ قال: نعم، قال اشهدوا أن نساءه طوالق، وعبيده أحرار

____________

(1) الزمر: 56.

(2) المائدة: 64.

الصفحة 60   

وماله صدقة فتحولت زوجته عنه، وسألت الفقهاء فأفتوا بوقوع ذلك كله، فصارت قضية ضحكة.

وقال بعض الظرفاء: إذا سئلت يوم الحساب عما فعلت طلبت العفو من ربي وإن سئلت عما خلق في، قلت: يا معشر الخلائق العدل الذي كنا نسمع به في الدنيا ما هنا منه قليل ولا كثير.

قال عدلي لمجبر: ما تقول فيمن غرس في بستانه نوع فاكهة ثم قال لغلامه:

آتني منه بكل فاكهة، فذهب وجاء، وقال: ليس فيه سوى نوع واحد فقال: اذهب فأحرقه لم لم يكن فيه سوى نوع، أهذا فعل حكيم؟ فانقطع.

احتضر مجبر مديون فقال لأولاده: لا تقضوا لأحد شيئا لأني قد علمت أني من إحدى القبضتين فإن كنت من أهل الجنة، لم يضرني، وإن كنت من أهل النار لم ينفعني شئ.

فصل

* (وفيه أطراف) *

 

1 - روى كثير من المسلمين أن الصادق عليه السلام قال لمجبر: هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من الله؟ قال: لا، قال: فإذا كان الله علم من خلقه عدم القدرة على طاعته، وقالوا: أنت منعتنا منها، أما يكون عذرهم صحيحا؟ قال: بلى، قال:

فيجب قبوله، وأن لا يؤاخذهم بشئ أبدا، فتاب الرجل من القول بالجبر.

2 - استعظم قول المشركين في قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (1)) وإذا كان ذلك من فعل نفسه كيف يليق إنكاره به.

3 - قال عدلي لمجبر: ممن الحق؟ قال: من الله قال: فمن الحق؟ قال:

____________

(1) مريم 90.

الصفحة 61   

الله قال: فممن الباطل؟ قال: من الله قال: فمن المبطل؟ فانقطع وكان يلزمه أن يقول: هو الله.

4 - طلب الله التوبة من عباده، فمنهم من أقر وأناب، ومنهم من أصر و خاب، فمن التائب والخائب؟ إذا لم يكن له فعل، إنما هو الله.

5 - يلزم أن كل ما في الوجود من الكفر والمناقضات، والسب والمنازعات والرذايل والمجاحدات إنما وقعت من الله لنفسه، فهو الذي سبها وناقضها ونازعها.

6 - يقال للمجبر: المناظرة التي جرت لي معك إن كانت مني ومنك بطل مذهبك، وإن كانت من الله لنفسه، فهل تقبل العقول أنه يناظر نفسه ليغلب نفسه فيصير الله غالبا مغلوبا، عالما جاهلا، محقا مبطلا؟

7 - الإنسان ينقل من جهل إلى علم، ومن شك إلى يقين. فهذه الأفعال إن كانت من الله لزم الكفر والجهل به، وإن كانت من العبد فالمطلوب.

8 - في الوجود عبد ومعبود، فإن كان الكل من الله، فالعبد المتخشع المتذلل هو المعبود المتكبر المتجلل.

فصل

 

لعل أحدا يقول هذه لا يعتقدها علماؤهم، وإنما هو في عوامهم، قلنا: ذكر الرازي وهو من أعاظمهم في المسألة الثالثة والعشرين من كتاب الأربعين الذي صنفه لولده العزيز عليه أنه لا يخرج شئ إلى الوجود إلا بقدرة الله، وفي الرابعة والعشرين أنه مريد لجميع الكائنات، لأن كلما علم وقوعه فهو مراد الوقوع، و كلما علم عدمه فهو مراد العدم.

قال: فعلى هذا إيمان أبي جهل مأمور به وغير مراد، وكفره منهي عنه و هو مراد.

قلنا: لو كان كذا لزم أن يقطع أبو جهل وكل كافر حجة النبي بأن يقول:

اتباع إرادة الله أولى وأوجب من اتباع إرادتك لأن الذي أرسلك لا يريد إيماننا

الصفحة 62   

فعلام تحاربنا؟ وإن كان الرازي يزعم أن النبي صلى الله عليه وآله أيضا لا يريد إيمانهم قويت بذلك حجتهم حيث تبعوا الإرادتين.

ولقد كان الجاحدون أقل كفرا من اعتقاد المجبرة فإنهم لم يعرفوه فنسبوا إليه من الشر والقبايح والفساد ما لا نسبته المجبرة، ولما أعجب الرازي علمه تحدى به العلماء، فبلغ زاهد ذلك فقال: إنه لا يعرف الله، فجاء إليه وقال: من أين عرفت أني لا أعرف الله؟ فقال: لو عرفته حق معرفته شغلتك خدمته ومراقبته عن الدنيا الفانية التي تعبدها، فانقطع الرازي، ومن وقف على وصيته، عرف أن ما صنفه لم يكسب منه دينا، ولا حصل منه يقينا، بل كان في سيره ليلا ونهارا كالحمار يحمل أسفارا.

وذكر الغزالي في الإحياء وفي منهاج العابدين أنه لا يجري في الملك طرفة عين، ولا لفتة خاطر، ولا فلتة ناظر، إلا بقضاء الله وإرادته ومشيئته من الخير و الشر والنفع والضر، والطاعة والعصيان، والكفر والإيمان، ومن تصفح الكتابين، وجد الحث على استعمال الزهد [ وهو ] يوجب قدرة العبد كما هو مقتضى العقد وقد صرح في العارض الثاني من الباب الرابع في منهاج العابدين أن الصحيح عند علمائه أن كون العبد مختارا لا يقدح في تفويضه.

فصل

 

اشتهر في الحديث: القدرية مجوس هذه الأمة فقالوا: هم أنتم لأنكم جعلتم لكم قدرة على الفعل قلنا: ليس من أثبت القدرة للعبد، قدريا إنما هو (قدري) بضم القاف بل أنتم القدرية بدليل اللغة والمعنى والأثر:

أما اللغة فالاسم إنما يشتق لمن أثبت الشئ لا لمن نفاه، كما أن الموحد من أثبت الوحدة والمجسم من أثبت الجسم فالقدري من أثبت القدر، ولو اشتق اسم المعنى لمن نفاه صدق على المنزهين لله أنهم ثنوية ومجسمة إلى غير ذلك من

الصفحة 63   

السلوب ولو كان من أثبت لنفسه قدرة قدريا، لكان الله قدريا وقد رأيناهم يلهجون في كل واقعة بالقدر، ومن أكثر من شئ عرف به، كما جاء في الخبر.

وأما المعنى فلأن النبي صلى الله عليه وآله ذمهم ونهى عن مجالستهم وحكم بأنهم شهود الشيطان، وخصماء الرحمن، وجعل شبه المجوس فيهم، وهذه النعوت صادقة عليهم فالذم أحق بهم، لإضافتهم القبيح إلى ربهم.

وأما النهي عن مجالستهم فلما فيها من الاغراء بالمعاصي، حيث يقولون:

ما قدره الله كان، وما لم يقدره لم يكن، فلا وجه للتحفظ من المعصية، ويؤيسون جليسهم من رحمة الله، حيث يقررون له أن الله يعذب من غير ذنب وأنه خلق للنار خلقا لا تنفعهم الطاعات، وللجنة خلقا لا تضرهم المعصيات، فلا تسكن نفس بطاعة ولا تخاف بمعصية، وأساءوا الثناء على الله بنسبة كل ثناء إليه، وأحسنوا الثناء على العصاة بقولهم: لا حيلة لهم فيه.

وأما كونهم شهود الشيطان وخصماء الرحمن فإن الله إذ قال له: (ما منعك أن تسجد (1)) فيقول: قضاؤك، فيقول: هل من شاهد؟ فلا يجد غير أولئك.

وحكى الحاكم أنه كان بالبصرة نصراني فكتب أن الله فعل الكفر فيه، و منعه من الإيمان، وقضاه عليه، وأتى المجبر فأخذ خطوطهم ليشهدون له يوم القيامة والعدليون يسخرون منهم.

وأما شبه المجوس فإنهم يقولون: الإله القادر على الخير لا يقدر على الشر، وبالعكس، وهؤلاء يقولون: الكافر يقدر على الكفر لا الإيمان، و المؤمن بالعكس، والمجوس يمدحون ويذمون بما لا اختيار في فعله وتركه:

كما يحكون أنهم يرمون بالبقرة من شاهق، ويقولون: انزلي لا تنزلي!

فإذا وقعت قالوا: عصت وأكلوها وهؤلاء يقولون مثل ذلك، والكافر والمؤمن و المجوس علقوا المدح والذم بما لا يعقل، وهو الطبع، وهؤلاء علقوهما بما لا يعقل وهو الكسب، والمجوس ينكحون المحارم، ويقولون: أرادها الله منا، وهؤلاء

____________

(1) ص: 75.

الصفحة 64   

يفعلون المعاصي ويقولون: قضاها الله علينا.

وتشاجر عدلي ومجبر من المجوس؟ فقال المجوسي: ممن المجوسي؟ قال:

من الله، فقال العدلي: للمجبر أينا يوافقه؟

إن قالوا: بل أنتم المجوس لإضافتكم الشرور إلى الشيطان دون الله، وكذا المجوس قلنا: الشرور التي أضافوها إلى الشيطان هي الأمراض والمصائب، ونحن نضيف هذه إلى الله والشرور التي هي الاغواء ونحوه نضيفها إلى الشيطان ولما كان هذا ليس مختصا بالمجوس، بل قال به الكتابيون كافة لم يكن التشبيه لأجل هذا، لعدم اختصاص المجوس به، بل وقد أضافه الله ورسوله إليه، وهو ظاهر.

وقد قال أبو بكر في مسألة: هذا ما رأيته فإن يك صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، ومثله عن عمر وابن مسعود.

وأما الأثر فقد روى في الفائق قوله عليه السلام لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا قيل: ومن القدرية؟ قال قوم يزعمون أن الله قدر المعاصي عليهم وعذبهم عليها.

وقال في الفائق أيضا: وأما المجبرة فإن شيوخنا كفروهم، وحكى قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي أن المجبر كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي بإسناده أن فارسيا قدم إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:

أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت قوما ينكحون محارمهم، ثم يقولون: قضاه الله وقدره قال النبي: سيكون في أمتي صلهم؟ أولئك مجوس أمتي وذكر ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم في رواية الأصبغ أن شيخا سأل عليا بعد انصرافه من صفين أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال: نعم، قال:

عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأجر شيئا، قال لعلك ظننت قضاءا لازما وقدرا حاتما، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب، قدرية هذه الأمة ومجوسها، فنهض الشيخ مسرورا وقال:

 

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته   يوم الحساب من الرحمن غفرانا

 

الصفحة 65   

 

 

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا         جزاك ربك عنا فيه إحسانا

 

وعن الحسن البصري: بعث الله محمدا والعرب قدرية مجبرة لقوله تعالى فيهم:

(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا؟ عليها آباءنا والله أمرنا بها (1)) ولقوله (سيقول (الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا (2)).

وعنه أيضا أن من المخالفين قوما يقصرون في أمر دينهم، ويحملونه على القدر ولو أمرتهم في شئ قالوا: لا نستطيع قد جفت الأقلام، وقضي الأمر، ولا يرضون في أمر دنياهم إلا بالاجتهاد والحذر، ولو قلت لهم: لا تشقوا نفوسكم، ولا تخاطروا في الأسفار بها، ولا تسقوا زروعكم واتركوا أنعام من حراستها، فإنه لا يأتيكم إلا ما قدر لكم لأنكروا ذلك، ولم يرضوه لأنفسهم، وقد كان ذلك في الدين أولى بهم

فصل

 

قال عدلي لمجبر: قاتل معاوية عليا على شئ قضاه الله له أو لعلي؟ قال:

بل له، قال: فمعاوية أحسن حالا من علي، حيث رضي بالقضاء ولم يرض علي فانقطع المجبر.

قال عدلي لمجبر: كان قتل الأنبياء بقضاء الله؟ قال: نعم، قال: أفترضون به فسكت.

قال عدلي لمجبر: تقول بالقدر إذا ناظرت أحدا، وإذا رجعت إلى منزلك فوجدت جاريتك كسرت كوزا يساوي فلسا شتمتها وضربتها وتركت لأجل فلس واحد مذهبك.

وقال مجبر لعدلي: لي خمس بنات لا أخاف على فسادهن غير الله.

ورأى مجبر غلامه يفجر بجاريته، فضربه فقال: القضاء ساقنا فرضي وعتقه.

رأى شيخ رجلا يفجر بأهله فضربها، فقالت: القضاء ساقنا تركت السنة و

____________

(1) الأعراف: 28.

(2) الأنعام: 148.

الصفحة 66   

أخذت مذهب ابن عباد فتنبه، وألقى السوط واعتذر إليها وأكرمها.

قال عمرو بن عبيد لأبي عمر وابن العلى: ما معنى (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله (1)) فسكت أبو عمرو.

وقال سلام لتلميذه: قول موسى: (هذا من عمل الشيطان (2)) يوهم الجبر وقال التلميذ: وقول يوسف: (من بعد أن نزع الشيطان بيني (3)) يدل على القدر، فقال ثالث: قال موسى: (لا أملك إلا نفسي وأخي (4)) فقال عدلي: ما رضيتم بمذهب موسى ويوسف حتى تزروا عليهما فسكتوا.

وحكى الحاكم أن جبريا قال: زنية أحب إلي من عبادة الملائكة، لأن الله قضاها علي، ولا يقضي إلا ما هو خير لي.

وأدخل عدلي على محمد بن سليمان فأمر بضرب عنقه فضحك فقال: كيف تضحك في هذا الحال؟ قال: لو قال رجل: محمد بن سليمان يقضي بالجور، ويفعل الظلم، ويريد الفساد، فقال آخر: كذبت بل يفعل ضد ذلك، أيهما أحب إليك؟

قال: الذي دفع عني، وأحسن الثناء علي، قال: فلا أبالي أحسنت الثناء على ربي، فانقطع من القدرية من حوله وخلى سبيله.

تذنيب:

اعترف الشيطان في القيامة بأنه أضلهم في قوله: (ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (5)) وشهد الله عليه بذلك في قوله: (الشيطان سول لهم وأملى لهم (6)) فردوا اعترافه بإضلالهم وشهادة ربهم بتسويله، وسيعترفون كما حكاه القرآن عنهم في قوله: (أطعنا سادتنا وكبراءنا

____________

(1) الزمر: 56.

(2) القصص: 15.

(3) يوسف: 100.

(4) المائدة: 25.

(5) إبراهيم: 22.

(6) القتال: 25.

الصفحة 67   

فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم (1)) ولو عرفوا أن الله أضلهم فلمن كانوا يطلبون العذاب واللعن (وقالوا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الإنس والجن نجعلهما تحت أقدامنا (2)) فإن علموا يوم كشف الأسرار وعلم الأشياء بالاضطرار أن الله أضلهم، فلمن يجعلون تحت أقدامهم؟ ومن أكبر المكابرات أن منهم من ينكر الشرك في القيامة كما حكاه الله عنهم في قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين (3)) فلو علموا أن شركهم منه لكانت إضافته إليه أقطع وأولى، من كذبهم على أنفسهم، حتى يعجب الله منهم في قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم (4)) ولو كان هو أضلهم وألجأهم إلى إنكار الشرك لم يتعجب منهم.

قالوا: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قلنا: فيها إضافة فعلهم إليهم، وإلا ارتفع السؤال، إذ لا يسألون عما يفعل

فصل

 

يقال لهم: أراد الله كفر الكافر، فإن أردتموه كفرتم، وإن أردتم إيمانه فإن كان ما أراد الله خيرا له كفرتم، وإن قلتم: ما أردنا خير فأنتم أحق بالمدح منه.

وأيضا يلزم كون إبليس يوافق إرادة الله والنبي يخالفها، وإذا أراد كفره وأمره بالإيمان، فإن كان الأولى بالوقوع الكفر كان أولى من الإيمان، وإن كان الإيمان أولى كان الأمر بما فيه تعجيزه عندكم أولى بالوقوع.

قال الجاحظ لأبي عبد الله الجدي: هل أمر الله المشرك بالإيمان؟ قال:

إي والله، قال: فهل أراد منه؟ قال: لا والله، قال: فيعذبه عليه؟ قال: إي والله قال: فهل هذا حسن؟ قال: لا والله.

قال عدلي لمجبر: ما تقول فيمن قال: كلما كان في زمن النبي وصحابته من

____________

(1) الأحزاب 67.

(2) فصلت: 29.

(3) الأنعام: 23 (4) الأنعام: 24.

الصفحة 68   

الكفر والفتن، فمنهم وبإرادتهم، قال: كافر لطعنه فيهم، قال: فلو قال: ذلك من الله فسكت.

طب نصرني عين مسلم فصحت فقال: قد وجب علي حقك وأريد نصيحتك بأن تسلم، قال: فهل يريد الله إسلامي؟ قال: لا قال: فأيكما أحق أن أعبد.

قالوا: الإرادة مطابقة للعلم فما لا يعلم وقوعه لإيراد، قلنا: هذا مصادرة لأنه نفس الدعوى، ولم لا ينعكس بأن يكون العلم هو المطابق للإرادة.

قالوا: إرادة ما لا يكون تمن قلنا: التمني في قبيل الكلام لا الإرادات.

قالوا: خلاف المعلوم مستحيل فلا يراد، قلنا: لو كان خلاف المعلوم مستحيلا كان المعلوم واجبا فلا اختيار لله في وقوعه، ولو كان مستحيلا لم نصف الله بالقدرة على إقامة الساعة.

قالوا: لو وقع في ملكه ما لا يريد، كان عاجزا كالشاهد قلنا: باطل عند قياس الغالب على الشاهد، ويعارض بأنه لو وقع في ملكه خلاف ما أمر به، دل على عجزه بل المعصية منسوبة إلى الآمر عندكم كقوله: (أفعصيت أمري (1)).

قالوا: أخبر الله بالكفر، ولا يكون خبره صدقا إلا به، فيرده لئلا يكذب نفسه قلنا: أخبر النبي صلى الله عليه وآله بقتل الحسين عليه السلام وأمر بالاغتسال من الزنا، فيجب أن يريد قتل الحسين ليكون الصدق في خبره، والزنا لتحصل الفائدة في أمره.

تذنيب:

ذكر الغزالي في الإحياء قوة الله على خليقته، وشبهه بالأسد في سطوته وبطشته، روى أنه قبض من ظهر آدم قبضة وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وقبض أخرى وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي قلنا: كيف يليق بمن وصف نفسه مع تحتم صدقه، بأنه أرحم الراحمين، أن يقول في كتبكم ما ينافيه ففي الجمع بين الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله رأى امرأة من السبي ترضع ولدا لها فقال: أترونها طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: فالله أرحم لعباده منها بولدها.

____________

(1) طه: 93.

الصفحة 69   

وفي الجمع أيضا أن لله مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى خلقه يتراحمون بها وبها تعطف الوحوش على أولاده، وأخر لنفسه تسعة وتسعين، يرحم بها عباده يوم القيامة وفيه أيضا يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، وجعت فلم تطعمني، وعطشت فلم تسقني، فيقول: كيف ذلك وأنت رب العالمين؟ فيقول: مرض فلان فلم تعده، واستطعمك فلان شيئا فلم تطعمه، واستسقاك فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو فعلت ذلك لوجدته عندي، فانظر ما في شفقته عليهم أن جعل كالواصل إليه ما يصل إليهم.

وفيه لو نام رجل في أرض دوية (1) فانتبه فلم يجد راحلته ولا زاده، فطلبهما حتى اشتد جهده، فرجع فنام ليموت فانتبه فرأهما عنده، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده، فكيف يليق بالرحيم المتعالي أن يقول: هؤلاء إلى النار ولا أبالي.

فصل

* (فيما يلزمهم من القول في عدم الاستطاعة) *

 

يلزمهم أن لا يقدر الكافر المأمور بالإيمان عليه، وأن يذهب الفرق بين كفره وسواده، ويلزم أن يكون فقده لقدرة الإيمان، كفقده لآلة الفعل، فيكون معذورا كفاقد الآلة ويلزم أن يتساوى الزمن والصحيح في العذر، لترك المشي، ويتساوى الكائن على نهر بالعاجز عن الماء، فيعذر في التيمم، فإذا صلى وحلف بطلاق زوجته أنه لا يقدر على الماء أن تصح صلاته، ولا تطلق امرأته.

وألزم سلام الفارسي بذلك فالتزم بطلاق امرأته، ويلزم أن لو حملت ذرة خردلة عجز جبريل القادر على قلب المدن عن حملها، ويلزم أن الأنبياء لو قدروا على الكفر لكانوا أكفر خلق الله وأن إبليس والطغاة لو قدروا على الإيمان لكانوا أفضل عباد الله، وذلك من أسوء الثناء عليهم، وأحسن الثناء على العصاة.

____________

(1) أي غير موافقة وذات أدواء.

الصفحة 70   

ولو قيل لرجل منهم: إنك لا تترك المعاصي إلا عجزا ولو قدرت كنت أعصى خلق الله، لنفاه عن نفسه نفي مضطر إلى قبحه، ويقال لهم: هل عفى ملك عن جان وهو قادر على عقابه؟ فإن قالوا: عفى وهو يقدر، تركوا أصلهم، وإن قالوا: وهو لا يقدر لزم أن يكون ملك الروم قد عفى عن المسلمين وإن لم يقدر عليهم.

ولو قال الله للعاصي لم لا تطيع؟ فقال: لا أقدر، فقد صدق فينفعه صدقه لقوله تعالى: (يوم ينفع الصادقين صدقهم) (1) ويلزم سقوط الحج عن كل أحد لأن الله أو جبه بشرط الاستطاعة فإذا انتفت انتفى.

مناظرات

* (في ذلك) *

 

قال عدلي لمجبر: ما معنى قوله تعالى: (لو استطعنا لخرجنا معكم (2)) قال:

صدقوا، قال: فما معنى تكذيبهم؟ قال: لا أدري؟.

وقال الواثق ليحيى ابن كامل: ما التوبة؟ قال: الندم، قال: فتقدر عليها؟

قال: لا، قال: فما التوبة حينئذ؟ فانقطع.

وقال مجبر: (فاتقوا الله ما استطعتم (3)) تكسر قولنا في عدم الاستطاعة فقال عدلي: كسره الله.

وقيل لصفو المجبر: أكان فرعون يقدر على الإيمان؟ قال: لا، قيل: أفعلم موسى ذلك قال: نعم، قال: فلم بعثه الله؟ قال سخرية.

قال النجار للنظام: بم تدفع تكليف ما لا يطاق؟ فسكت، فقيل: لم سكت قال: كنت أريد ألزمه تكليف ما لم يطق، فإذا التزمه ولم يستحي فبم ألزمه.

ومر أبو الهذيل راكبا على النجار فقال: انزل حتى أسألك قال: هل أقدر

____________

(1) المائدة: 119.

(2) براءة: 42.

(3) التغابن: 16.

الصفحة 71   

أن أنزل أو تقدر أن تسألني؟ قال: لا.

وقال مجبر لعدلي: ما دليلك على تقدم الاستطاعة على الفعل؟ قال: الهرة والفارة لولا أن الهرة والفارة تعلم قدرتها على أخذها لم تهرب منها.

قالوا قوله تعالى: (فلا يستطيعون سبيلا (1)) قلنا: المراد لا يستطيعون تصحيح ما نسبوه إليه من الشعر والجنون والسحر، والمراد كأنهم لا يستطيعون مثل (صم بكم عمي فهم لا يرجعون (2)) ولأن الآية جاءت للتوبيخ، ولولا الاستطاعة انتفى المعنى.

واجتمع إلى بحر الخاقاني جماعة من اليهود، قالوا: كيف تأخذ منا الجزية وفي بلدك علماء مجبرة وأنت على قولهم، يقولون: إنا لا نقدر على الاسلام، فجمعهم فقالوا: نعم نقول بذلك، فطالبهم بالدليل فلم يقدروا عليه فنفاهم.

تذنيب:

بحث في التقية

قال الله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة (3) إن أكرمكم عند الله أتقاكم (4) وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه (5)) وقال الصادق عليه السلام:

التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، التقية ترس الله في الأرض، ليس منا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعية، خالطوا الناس بالبرانية وخالفوهم بالجوانية، ما دامت الإمرة صبيانية.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله أسر أبو جهل عمارا وألزمه بسب النبي وضربه عليه فسبه وهرب إلى النبي صلى الله عليه وآله باكيا فقال قوم: كفر عمار، فقال النبي صلى الله عليه وآله:

كلا؟ إنه ملئ إيمانا فقال: عمار أيفلح من سب النبي؟ فقال عليه السلام: إن عاد ذلك فعد لهم بما قلت (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (6).

____________

(1) الفرقان: 9.

(2) البقرة: 18.

(3) آل عمران: 28.

(4) الحجرات: 13.

(5) غافر: 28.

(6) النحل: 106.

الصفحة 72   

ابن مسعود في قوله تعالى: (نبذ فريق من الذين أتوا الكتاب (1)) قال:

حرفوا التوراة، وأعرضوها على ذي القرن أفضل أحبارهم، وقالوا: إن لم يقبل قتلناه فعلم فجاء بها في عنقه تحت ثوبه فلما أعرضوا عليه المحرف وضع يده على صدره، وقال، هذا كتاب الله فلما مات أفشى سره خلصاؤه فاختلفت بنوا إسرائيل فرقا وكانت الناجية أصحابه.

وسعي برجل إلى فرعون أنه يقول: بوحدانية الله فجئ به، فقال: أشهد أن ربهم ربي، وخالقهم خالقي، لا رب لي ولا خالق سوى خالقهم وربهم، فعذب السعاة وذلك قوله تعالى: (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (2).

تذنيب:

في التوراة ذكر الدينوري في محاسن الجوابات، وابن عبد ربه في العقد أن معاوية أعطى عقيلا جملة دراهم ليصعد المنبر ويلعن عليا، فصعد وقال: إن معاوية أمرني أن ألعن عليا فالعنوه، فقال: أخذت مالي ولعنتني؟ قال: فاستر لئلا ينكشف للناس.

وفي العقد إن معاوية أمر الأحنف يشتم عليا فأبى، فقال: اصعد وأنصف فقال: إن عليا ومعاوية كل منهما ادعى بغي الآخر عليه، اللهم العن الفئة الباغية.

وذكر الكشي أن معاوية أمر صعصعة بن صوحان أن يلعن عليا فصعد المنبر وقال: إن معاوية أرني أن ألعن عليا فالعنوه، فقال: والله ما عنيت غيري، ارجع حتى تذكره باسمه واسم أبيه، فرجع، وقال: العنوا من لعنه الله ولعن علي ابن أبي طالب فقال معاوية: والله ما عنى غيري أخرجوه عني لا يساكنني.

____________

(1) البقرة: 101.

(2) غافر: 45.

الصفحة 73   

ولقي الطاقي خارجي فقال: لا أفارقك أو تتبرأ من علي فقال: أنا من علي ومن عثمان برئ فسلم منه.

مسلم إلياس المعدل على قوم فلم يردوا، فقال: لعلكم تظنون في ما قيل من الرفض؟ إن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا من أبغض واحدا (1) منهم فهو كافر فسروا بذلك ودعوا له.

وكان بعضهم يلعن السلف فسعي به إلى الوالي فقال: قد خسرت في السلف كثيرا يريد السلم.

ودخل الصادق عليه السلام على أبي العباس في يوم شك وهو يتغدى فقال: ليس هذا من أيامك فقال الصادق عليه السلام: ما صومي إلا صومك ولا فطري إلا فطرك فقال:

ادن فدنوت وأكلت، وأنا والله أعلم أنه من رمضان.

وقيل للصادق عليه السلام: ما تقول في العمرين؟ فقال: إمامان عادلان قاسطان كانا على الحق فرحمة الله عليهما، فلما خف المجلس سئل عن التأويل فقال: (و جعلناكم أئمة يدعون إلى النار (2) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (3)) وعدلا عن الحق وهو علي، فالرحمة وهو النبي صلى الله عليه وآله عليهما (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (4)).

وفي تفسير العسكري قال رجل لشيعي بحضرة الصادق عليه السلام ما تقول: في العشرة فقال: أقول فيهم الخير الجميل الذي تحط به سيئاتي، وترفع به درجاتي فقال: كنت أظنك رافضيا تبغضهم، فقال: من أبغض واحدا منهم أو بعضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فقبل الرجل رأسه وقال: اجعلني في حل فقال:

أنت في حل أي غير حرم.

____________

(1) يعني بالواحد عليا عليه السلام.

(2) القصص: 41.

(3) الجن: 15.

(4) الأنبياء: 107.

 

 

 

 

الصفحة 74   

(2)

بحث

في الولاء والبراء

 

قال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فإنه منهم (1) لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء (2) لا تتولوا قوما غضب الله عليهم (3) لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية (4).

وقد سلف أن محمد بن يحيى أسند إلى الصادق عليه السلام قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم (5)) قال: آمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله ولم يلبسوه بظلم أي لم يخلطوه بولاية فلان وفلان.

وقد نبه النبي صلى الله عليه وآله على وجوب الولاء والبراء بقوله في علي بخم: اللهم وآل من والاه، وعاد من عاداه، وعن الصادق عليه السلام من أحب كافرا فهو كافر، و عنه عليه السلام من جالس لنا غائبا، أو مدح لنا قاليا، أو وصل لنا قاطعا، أو قطع لنا واصلا، أو والى لنا عدوا، أو عادى لنا وليا فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه يحب بهذا قوما وبالآخر عدوهم.

وقال له رجل: إني أتولاك وأتولى فلانا وفلانا، فقال: أنت اليوم أعور فانظر تعمي أو تبصر.

____________

(1) براءة: 23.

(2) الممتحنة: 1.

(3) الممتحنة: 13.

(4) المجادلة: 22.

(5) الأنعام: 82.

الصفحة 75   

فقال الحميري رحمه الله شعرا:

 

أتانا رجل جلف         وقد وافى على المنبر

فقال الرجل الداخل     قولا بعضه منكر

لقد حبب لي الكل      في سري وما أظهر

فقال الطهر أنت اليوم   فيما قد بدا أعور

فإما أن ترى تعمى      وإما أن ترى تبصر

وما للمرء من قلبين     ذا صافي وذا أكدر

 

وقال أبو البركات في أخيه:

 

رأيت أبي في النوم بعد وفاته   عفا خالقي عنه وعن كل مسلم

فقلت له ماذا لقيت؟ فقال لي    نجوت بحب الطالبيين فاعلم

فليس سوى الأطهار آل محمد  فسلم إليهم فرط حبك تسلم

فقلت له والله ما في شعرة       تخلص من حب الوصي المكرم

بلى قد توالى يا أبي غيرهم أخي         وقدم جهلا منه عير المقدم

فقال أبي أنت الحلال بعينه      وغيرك من غيري ومن غير آدم

 

وقال العوني:

 

فإن قلت أهواهم وأهوى عدوهم         فأنت المقر الجاحد المتوقف

تعيش كما قال الإله مذبذبا       تسخر تسخير الحمار وتعلف

يجودك النقاد طرا وتارة          تبهرج فيما بينهم وتزيف

صديق عدو القوم بعض عداهم فإن لم يقاتل فهو بالقوم مرجف

 

تذنيب:

* (في علة تسمية الرافضة) *

الرفض: الترك ولم يخل أحد من الرفض الذي هو الترك قال الشهرستاني في الملل والنحل: إن جماعة من شيعة الكوفة رفضوا زيدا فجرى الاسم وذكر نحوه نظام الدين شارح الطوالع، وصاحب منهاج التحقيق.

الصفحة 76   

قال ابن شهرآشوب: الصحيح أن أبا بصير قال للصادق عليه السلام: إن الناس يسمونا الرافضة، فقال: والله ما سموكم به ولكن الله سماكم، فإن سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل آمنوا بموسى وأخيه، فسموهم رافضة، فأوحى الله إلى موسى أثبت هذا الاسم لهم في التوراة، ثم ادخره الله لينحلكموه.

يا أبا بصير رفض الناس الخير، وأخذوا بالشر، ورفضتم الشر وأخذتم بالخير.

الكاظم عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله: لأبي الهيثم ابن التيهان والمقداد وعمار وأبي ذر وسلمان هؤلاء رفضوا الناس، ووالفوا عليا، فسماهم بنوا أمية الرافضة.

سماعة بن مهران قال الصادق عليه السلام: من شر الناس؟ قلت: نحن فإنهم سمونا كفارا ورافضة، فنظر إلي وقال: كيف إذا سيق بكم إلى الجنة، وسيق بهم إلى النار؟ فينظرون فيقولون: (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (1)).

شهد عمار الدهني عند ابن أبي ليلى، فقال: لا نقبلك لأنك رافضي فبكى وقال: [ تبكي ] تبرء من الرفض وأنت من إخواننا فقال: إنما أبكي لأنك نسبتي إلى رتبة شريفة لست من أهلها، وبكيت لعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي

 

وعيرتني بالشيب وهو وقار      وليتها عيرتني بما هو عار

 

قيل لعلوي: يا رافضي فقال: الناس ترفضت بنا، فنحن بمن نترفض.

لقي الصاحب رجلا حجازيا معه رقعة فيها: أنا من أولاد فلان الصديق فكتب في ظهرها.

 

أنا رجل مذ كنت أعرف بالرفض        فلا كان بكري لدي على الأرض

ذروني وآل المصطفى عترة الهدى      فإن لهم حبي كما لكم بغضي

 

وقال أيضا:

 

قالوا ترفضت قلت كلا  ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لكن توليت غير شك   خير إمام وخير هادي

إن كان حب الوصي رفضا       فإنني أرفض العباد

 

____________

(1) ص: 62.

الصفحة 77   

وقال منصور الفقيه:

 

إن كان حبي خمسة     زكت بهم فرائضي

وبغض من عاداهم      رفضا فإني رافضي

 

وقال السوسي:

 

يا سيدي يا أمير المؤمنين ومن عند الصلاة به أدعو وأبتهل

لولاك لم يقبل الرحمن لي عملا         ولا سعدت ولا أعطيت ما أسل

رفضي عدوك ثوب الرفض ألبسني     والاعتزال لأني عنه معتزل

 

وقال ابن حماد:

 

عقد الإمامة في الإيمان مندرج  والرفض دين قويم ما له عوج

ما في عداوة من عادى الوصي علي     من كان مولى له إثم ولا حرج

الله شرفني إذ كنت عبدهم      وحبهم بدمي واللحم ممتزج

دين الولي والبرا لا أبتغي بدلا   ولا إلى غيره ما عشت أنعرج

 

وقال الشافعي:

 

إذا في مجلس ذكروا عليا        وسبطيه وفاطمة الزكية

فقطب وجهه من نال منهم      فأيقن أنه لسلقلقية

إذا ذكروا عليا أو بنيه    تشاغل بالروايات الغبية

يقول لما يصح ذروا فهذا        سقيم من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن من أناس   يرون الرفض حب الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربي      ولعنته لتلك الجاهلية

 

وقال مؤلف الكتاب:

 

ما الرفض لي برذيلة     ولا أنا منه برئ

بل هو لي فضيلة         أنجوا به في محشري

وإنما يغضبني  قول عدو مفتري

من حيث كان عقده     أنا من الحق عري

 

الصفحة 78   

 

 

فلعنة الله على   كل مضل مجتري

يصلى به سعيره          مع زفر وحبتر

 

فصل

 

قال هشام بن الحكم لضرار بن عمر: على ما تجب الولاية والبراءة؟ على الظاهر أم الباطن؟ قال: على الظاهر، قال: أفكان علي أذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأقتل لأعداء الله، أم فلان؟ فقال: علي ولكن فلان أشد يقينا قال: هذا هو الباطن الذي نفيته.

قال: فإذا كان الباطن مع الظاهر قال: فضل لا يدفع قال: أفقال النبي صلى الله عليه وآله:

أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا وهو عنده مؤمن في الباطن قال: لا، قال:

فقد صح لعلي الظاهر والباطن ولم يصح لأبي بكر شئ منهما.

جاء ضرار إلى ابن ميثم مناظرا فقال: أدعوك إلى منصفة وهي أن تقبل قولي في صاحبي، وأقبل قولك في صاحبك قال: لا يمكن، قال: ولم؟ قال: لأني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت: إنه كان الإمام والأفضل بعد النبي صلى الله عليه وآله فلا ينفعني أن أقول في صاحبي: صهر النبي واختاره المسلمون.

قال: فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي قال: لا يمكن، قال:

ولم؟ قال: لأني إن قبلت قولك فيه نسبته إلى الضلال والنفاق، فلا ينفعني قبولك قولي إنه صاحب وأمين، قال: فإذا كنت لا تقبل قولي في صاحبي، ولا في صاحبك فما جئتني مناظرا بل متحكما.

محمد بن عبد الحميد وأبان ابن تغلب: قال الصادق عليه السلام: أتى الأول إلى علي معتذرا فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: اجتمع الناس وسمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول:

لا تجتمع أمتي على ضلال، قال: فأنا وأهلي والعصابة التي معي من الأمة أم لا؟

قال: من خيار الأمة ثم عدد عليه السلام مناقبه نحو أربعمائة وقال: وأنت خلو منها فما حالك فيمن يأتيك منابذا مجادلا؟ فبكى وقال: صدقت، أنظر في أمري.

الصفحة 79   

فبات فرأى النبي صلى الله عليه وآله في نومه، فأقبل يسلم عليه، فصرف وجهه عنه ثلاثا وقال: رد الحق إلى أهله علي بن أبي طالب، فانتبه فأتى عليا فبايعه، وخرج فلقيه الثاني فأخبره فلامه فرجع إلى حاله الأول.

وفي رواية أبان ابن عثمان عن ابن عباس أن ذلك كان سبب صعوده المنبر وقوله: أقيلوني، وبدأ يقص رؤياه، فقام الثاني وقال: ما دهاك والله لا أقلناك و رده عن عزمه.

قال المفيد لأبي عمرو السطوي: الشيخان كفرة بجحد النص المتواتر، و قد روى مسلم والبخاري وابن عباس وجابر الأنصاري والمسور وسهل وأبو وائل والقاضي والجبائي والإصفهاني، والقزويني والثعلبي والطبري والسمعاني و ابن إسحاق والواقدي والزهري والموصلي بل هو إجماع أن عمر شك في دينه فقال: ما شككت منذ أسلمت إلا يوم قاضي النبي أهل مكة، والاجماع أن الشك في الدين كفر.

ثم ادعوا أنه رجع وتيقن، قلنا: لا برهان عليه، ولا نقل لأحد فيه.

ومن شكه أنه قال لحذيفة لما سمع النبي يقول: إنه أعلم بالمنافقين:

أمنهم أنا؟ ولم يخرج حذيفة في جنازة صحابي فقال له عمر: هو من القوم؟ فقال:

نعم، فقال: أنا منهم، قال: لا وفي الإحياء للغزالي كان عمر لا يحضر جنازة لم يحضرها حذيفة وفي مسند النساء الصحابيات روى أبو وائل عن مسروق عن أم سلمة قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله من أصحابي من لا أراه ولا يراني، فناشدها عمر: هل أنا منهم؟ الخبر، وكيف يسأل الإمام رعيته عن أحوال إيمانه وقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وآله شهد له بالجنة و رأى له قصرا فيها، فلا يعتمد على قول نبيه، ويعتمد على غيره إن قيل: إنما سأل رعيته بعد موت نبيه قلنا: موته لا يبطل قوله.

إن قيل: فقد أجابه حذيفة بأنه ليس منهم، قلنا: جاز أن يكون هابه وخافه لما شاهد من جرأته على من هو أعظم منه.

الصفحة 80   

فصل

 

رووا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: وزنت بأمتي فرجحت، وزنت بالأول فرجح، وبالثاني فرجح، ورجح ورجح، فظلموا النبي وأبا بكر بترجيح عمر عليهما في الفضل، وعلى سائر الأنام ولا خفاء أن الموازنة ليست بالأجسام وإلا لم تقدر على حملهم الأنعام.

وفي الأغاني: سمع الحميري هذا من واعظ، فقال: إنما رجحا بسيئاتهما فإن من سن سنة قبيحة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة.

ورووا أنه نادى سارية وهو بنهاوند: الجبل الجبل، فسمعه فانحاز إلى الجبل قلنا: ولم لا تكون الكرامة لسماع سارية لا لعمر، وقد طعن جماعة منهم في رواة هذا الحديث.

وروى الحاتمي بإسناده أن الثاني والثالث تشاجرا في علي عليه السلام فقال الثاني أتذكر يوما قال فيه ابن أبي كبشه: لولا أني أخاف أن يقال فيك ما قالت النصارى في المسيح، لقلت فيك مقالا لا تمر بملأ إلا أخذوا التراب من تحت قدميك؟ قال نعم، سأريك كذبه آتني بتراب من تحت قدميه، فجاء به فمسح به عينيه فرأى سارية من بعيد فأراد الله تصديق رسوله وإظهار فضل وصيه.

ورووا أنه عليه السلام قال: ما احتبس الوحي عني إلا ظننته نزل على آل الخطاب ولو لم أبعث لبعث عمر بن الخطاب، وما رأيته إلا تخوفت أن ينزع خاتم النبوة من بين كتفي ويوضع بين كتفيه.

قلنا: في هذه الروايات ما لا يخفى من المحالات والشناعات إذ في الأول الشك في نبوته، وهو مناف لقوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح (1)) والثاني يوجب كون النبي صلى الله عليه وآله أثقل الناس على عمر، لأنه ولو لم يبعث لبعث وفي الثالث تجويز عزل النبي صلى الله عليه وآله عن نبوته، وهل يجوز نقل النبوة

____________

(1) الأحزاب: 7.

الصفحة 81   

عن المصطفى إلى من عبد الأوثان بغير خفا.

ورووا أن ملكا ينطق على لسانه ويسدده، وهذا بهت لأنه رجع إلى علي وغيره في قضاياه، وقال: كل أفقه من عمر، والأول عندكم أفضل منه، وله شيطان يعتريه، وقد قال عمر يوم حديبية: إن الشيطان ركب عنقي، فأين الملك حينئذ.

ورووا أن الشيطان يهرب من ظل عمر قلنا: كيف يهرب من ظله، ويلقي على لسان نبيه الكفر عندكم، حيث قلتم، إنه قرأ (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى).

ورووا أن الله أعز الاسلام بعمر فأين عزه للاسلام، وقد فر في مغازي النبي صلى الله عليه وآله وقد أنزل الله في بدر (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة (1)).

إن قالوا: أعزه بالفتح بعد النبي صلى الله عليه وآله قلنا: قد قال النبي صلى الله عليه وآله إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم، وبالرجل الفاجر. إن قيل: فهذا يعود عليكم في علي بن أبي طالب قلنا: أخرجه ثبوت عصمته، وقول النبي صلى الله عليه وآله في حقه، علي مع الحق والحق معه، ونحو ذلك كثير، ولم ينقل له أحد فجورا في عمره كما روينا ورواه المخالف في عمر، وفي تاريخ الطبري أول من سماه الفاروق أهل الكتاب فآثره المسلمون به، ولم يرد فيه رواية عن النبي نعم يشتق له ذلك من جهله وخطائه في قضائه.

فصل

* (في رد الأخبار المزورة في عثمان) *

 

رووا أن الله جعل لعثمان نورين قلنا: إن أريد جعلهما في الدنيا أو في الآخرة فكيف يخص دون غيره، وهو عندكم مفضول عن الشيخين، وإن أريد أنه خص بنور في الدنيا ونور في الآخرة قلنا: لا اختصاص فإن الله جعل؟ ذلك لكل مؤمن ففي الدنيا (جعلنا له نورا يمشي به في الناس (2)) وفي الآخرة (انظرونا نقتبس

____________

(1) آل عمران: 123.

(2) الأنعام: 132.

الصفحة 82   

من نوركم) (1) فيلزم كون النبي صلى الله عليه وآله عابثا بتخصيصه.

إن قلت: لا يلزم من الذكر التخصيص قلت: فذهب الفضل المدعى لعثمان حينئذ.

ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من يشتري بئر أرومة فله الجنة فاشتراها عثمان قلنا: إن صح ذلك لم يكن لوجه الله، ولو كان لنزل فيه قرآن بالاختصاص، كما نزل في أصحاب الأقراص (2) سلمنا لكن رويتم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينهما إلا قليل، فيسبق عليه القضاء فينقله إلى النار، ولا يخفى ما أحدث عثمان مما يوجب النار.

ورووا أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله بدنانير كثيرة فقلبها بيده وقال: لا يضر نعثل ما فعل بعدها قلنا: كيف يصح هذا، وفيه إغراء النبي صلى الله عليه وآله بالقبائح إذا لم يضره شئ.

قالوا: جلس النبي صلى الله عليه وآله يوما مكشوف الفخذين بين أصحابه، فدخل عثمان فغطاهما النبي صلى الله عليه وآله وقال: إني لأستحيي ممن تستحيي منه الملائكة قلنا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: الركبة من العورة، فكيف يكشفها وما فوقها، وفي ذلك تفضيل نعثل على الشيخين وهو يناقض قولكم.

وأما سبب حياء الملائكة منه، فبجناية جنتها عليه، أو نعمة أسداها إليهم على يده، حتى أوجبت على نفسها إجلاله.

قالوا: جهر جيش العسرة وهو خارج إلى تبوك قلنا: كان الجيش خمسمائة وعشرون ألفا فأعطى عثمان النبي صلى الله عليه وآله مائتي راحلة ففرقها، فكم يبلغ ذلك من تجهيز خمسمائة وعشرين ألفا وقد تخلف عن الجيش ضعفاء متأسفين على الجهاد ولم يجهزهم.

____________

(1) الحديد: 13.

(2) يريد نزول هل أتى في شأن أهل البيت في صدقتهم الأقراص المعدة للافطار علي المسكين واليتيم والأسير.

الصفحة 83   

قالوا: زوجه النبي بنتيه رقية وزينب (1) قلنا: ذكر صاحب كتاب الأنوار وأبو القاسم الكوفي أنهما إنما كانتا بنتي خديجة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وآله صارتا في حجره، والعرب تسمي الربيبة ابنة فنسبتهما إليه بذلك لا بالولادة، وقد قيل:

إنه كان للكافر أن ينكح المؤمنة حتى نسخ ذلك.

وفي كتاب الأنوار أن النبي صلى الله عليه وآله ضمن بيتا في الجنة لمن حفر بئر أرومة ويجهز جيش العسرة، ففعل ذلك عثمان، فخطب رقية فقال النبي صلى الله عليه وآله: أبت إلا أن أصدقتها البيت الذي في الجنة فأصدقها إياه وبرئ النبي صلى الله عليه وآله إليه من ضمانه، وأشهد على ذلك ثم توفت رقية قبل أن يراها عثمان.

قالوا: قال النبي صلى الله عليه وآله: لو كان عندنا ثالثة لما عدوناك قلنا: في هذا تفضيل له على الشيخين، إذ خطبا فاطمة فردهما، هذا إن دل التزويج على الأفضلية و إلا سقطت بالكلية.

____________

(1) المشهور أن زوجته الثانية أم كلثوم ولعله كان اسمها زينب وكان أكبر بناته صلى الله عليه وآله أيضا يسمى زينب زوجة أبي العاص.

الصفحة 84