الإستدلال بحديث المنزلة

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1) فاقتضى هذا الظاهر أن له كل منازل هارون من موسى، لأنه أطلق ولم يخص إلا ما دل عليه العقل، والاستثناء المذكور (2) ولولا أن الكلام يقتضي الشمول

____________

(1) حديث المنزلة أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالبخاري في صحيحه 4 / 208، كتاب بدء الخلق باب مناقب علي بن أبي طالب و ج 5 / 129، كتاب المغازي، باب غزوة تبوك، ومسلم في صحيحه 2 / 360، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عبد البر بترجمة علي عليه السلام من الاستيعاب 3 / 45 وعقب عليه بقوله: " وهو من أثبت الآثار وأصحها رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص " قال: " وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره " قال: " ورواه ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس، وجابر بن عبد الله وجماعة يطول ذكرهم " ورواه أحمد في المسند بطرق عديدة عن جماعة من الصحابة (انظر الجزء الأول ص 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 185 و 331، والجزء السادس 369 و 438، وفي صواعق ابن حجر ص 179 قال أخرج أحمد " إن رجلا سأل معاوية عن مسألة، فقال: سل عنها عليا فهو أعلم، قال: جوابك فيها أحب إلي من جواب علي، قال بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره بالعلم غرا، ولقد قال له: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وكان عمر إذا أشكل عليه شئ أخذ منه قال: " وأخرجه آخرون ولكن زاد بعضهم: قم عني لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان " ونقله كل علماء السيرة عند تعرضهم لغزوة تبوك، والكلام في ذكر كل ما هنالك يطول.

(2) غ " والاستدلال " وهو خطأ ".

الصفحة 6      

لما كان للاستثناء معنى وإنما نبه عليه السلام باستثناء النبوة على أن ما عداه قد دخل تحته إلا ما علم بالعقل أنه لا يدخل فيه نحو الأخوة في النسب أو الفضل الذي يقتضيه شركة النبوة إلى ما شاكله، وقد ثبت أن أحد منازله من موسى عليه السلام أن يكون خليفته (1) من بعده وفي حال غيبته، وفي حال موته، فيجب أن يكون هذه حال أمير المؤمنين عليه السلام، من بعد النبي صلى الله عليه وآله قالوا: ولا يطعن فيما بيناه (2) أن هارون عليه السلام مات قبل موسى عليه السلام لأن المتعالم أنه لو عاش بعده لخلفه فالمنزلة ثابتة، وإن لم يعش فيجب حصولها لأمير المؤمنين عليه السلام إذا عاش بعد الرسول صلى الله عليه وآله كما لو قال الرئيس لصاحب له: منزلتك عندي في الإكرام والعطاء منزلة فلان من فلان وفلان فأت فيه الإكرام والعطاء بموت أو غيبة (3) ولم يفت في الثاني فالواجب أن ينزل منزلته، ولا يجوز أن يقال: لا يزاد على الأول في ذلك، قال: وربما قالوا: قد ثبت أن موسى عليه السلام قد استخلف هارون على الإطلاق على ما دل عليه قوله تعالى: (اخلفني في قومي) (4) فيجب ثبوت هذه المنزلة لعلي عليه السلام من الرسول صلى الله عليه وآله على الإطلاق حتى تصير كأنه صلى الله عليه وآله قال: اخلفني في قومي، والمعلوم أنه لو قال ذلك لتناول حال الحياة وحال الممات فيجب لذلك أن يكون هو الخليفة [ من بعده ] (5) وربما قالوا: قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله قد استخلف أمير المؤمنين عليه السلام عند غيبته في غزوة تبوك، ولم يثبت عنه أنه

____________

(1) غ " خليفة ".

(2) غ " فيما قلناه ".

(3) غ " أو غيبة ".

(4) الأعراف 142.

(5) التكملة من " المغني ".

الصفحة 7      

صلى الله عليه وآله صرفه فيجب أن يكون خليفته بعد وفاته كما يجب في هارون أن يكون خليفته أبدا ما عاش، وربما ذكروا ذلك بأن قالوا: إنه صلى الله عليه وآله أثبت له منزلته ونفى الأشياء الأخرى فإذا كان ما نفاه بعده صلى الله عليه وآله ثابتا فالذي أثبته كمثله وهذا يوجب أنه الخليفة بعده لأنه صلى الله عليه وآله نبه بالاستثناء على هذه الحالة وإن كان مثلها لم يحصل لهارون عليه السلام إلا في حال حياة موسى عليه السلام،...) (1).

يقال له: نحن نبين كيفية الاستدلال بالخبر الذي أوردته على إيجاب النص ونورد من الأسئلة والمطالبات ما يليق بالموضع ثم نعود إلى نقض كلامك على عادتنا فيما سلف من الكتاب فنقول: إن الخبر دال على النص من وجهين ما فيهما إلا قوي معتمد أحدهما أن قوله صلى الله عليه وآله " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسى عليه السلام لأمير المؤمنين إلا ما خصه الاستثناء المتطرق (2) به في الخبر وما جرى مجرى الاستثناء من العرف، وقد علمنا أن منازل هارون من موسى هي الشركة في النبوة، وأخوة النسب والفضل والمحبة والاختصاص على جميع قومه والخلافة له في حال غيبته على أمته، وأنه لو بقي بعده لخلفه فيهم ولم يجز أن يخرج القيام بأمورهم عنه إلى غيره، وإذا خرج بالاستثناء منزلة النبوة، وخص العرف منزلة الأخوة في النسب لأن من المعلوم لكل أحد ممن عرفهما عليهما السلام أنه لم يكن بينهما أخوة نسب وجب القطع على ثبوت ما عدا هاتين المنزلتين، وإذا ثبت ما عداهما وفي جملته أنه لو بقي لخلفه ودبر أمر أمته وقام فيهم مقامه، وعلمنا بقاء أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 159.

(2) المستطرق به خ ل أيضا " المنطوق به " خ ل.

الصفحة 8      

الرسول صلى الله عليه وآله وجبت له الإمامة بعده بلا شبهة.

فإن قالوا: دلوا أولا على صحة الخبر فهو الأصل، ثم على أن من جملة منازل هارون من موسى أنه لو بقي بعد وفاته لخلفه وقام بأمر أمته، ثم على أن الخبر يصح فيه طريقة العموم، وأنه يقتضي ثبوت جميع المنازل بعد ما أخرجه الاستثناء وما جرى مجراه.

قيل: أما الذي يدل على صحة الخبر فهو جميع ما دل على صحة خبر الغدير مما استقصيناه فيما تقدم وأحكمناه، ولأن علماء الأمة مطبقون على قبوله وإن اختلفوا في تأويله والشيعة تتواتر به وأكثر رواة الحديث يرويه ومن صنف الحديث منهم أورده من جملة الصحيح، وهو ظاهر بين الأمة شائع كظهور سائر ما نقطع على صحته من الأخبار واحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أهل الشورى يصححه، ومن يحكي أنه رده أو أظهر الشك فيه لا شك إذا صحت الحكاية عنه في شذوذه وتقدم الإجماع لقوله ثم تأخره عنه، وكل هذا قد تقدم فلا حاجة بنا إلى بسطه.

وأما الدليل على أن هارون عليه السلام لو بقي بعد موسى لخلفه في أمته فهو أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بلا خلاف وفي قوله تعالى:

(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (1) أكبر شاهد بذلك. وإذا ثبت الخلافة له في حال الحياة وجب حصولها له بعد حال الوفاة لو بقي إليها لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حط له من رتبة كان عليها، وصرف عن ولاية فوضت إليه، وذلك يقتضي من التنفير أكثر مما يعترف به خصومنا من المعتزلة بأن الله تعالى يجنب أنبياءه عليهم السلام من القباحة في الخلق

____________

(1) الأعراف 142.

الصفحة 9      

والدمامة المفرطة، والصغائر المستخفة، وأن لا يجيبهم الله تعالى إلى ما يسألونه لأمتهم من حيث يظهر لهم.

فإن قال: ولم زعمتم أن فيما ذكرتموه تنفيرا قيل له: لأن خلافة هارون لموسى عليهما السلام كانت منزلة في الدين جليلة، ودرجة فيه رفيعة، واقتضت من التبجيل والتعظيم ما يجب لمثلها لم يجز أن يخرج عنها لأن في خروجه عنها زوال ما كان له في النفوس بها من المنزلة، وفي هذا نهاية التنفير والتأثير في السكون إليه ومن دفع أن يكون الخروج عن هذه المنزلة منفرا كمن دفع أن يكون سائر ما عددناه منفرا.

فإن قال: إذا ثبت فيما ذكرتموه أنه منفر وجب أن يجتنبه هارون عليه السلام من حيث كان نبيا ومؤديا عن الله عز وجل، لأنه لو لم يكن نبيا لما وجب أن يجتنب المنفرات، فكأن نبوته هي المقتضية لاستمرار خلافته إلى بعد الوفاة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد استثنى في الخبر النبوة وجب أن يخرج معها ما هي مقتضية له وكالسبب فيه، وإذا أخرجت هذه المنزلة مع النبوة لم يكن في الخبر دلالة على النص الذي تدعونه.

قيل له: إن أردت بقولك إن الخلافة من مقتضى النبوة أنه من حيث كان نبيا تجب له هذه المنزلة كما يجب له سائر شروط النبوة فليس الأمر كذلك، لأنه غير منكر أن يكون هارون قبل استخلاف موسى له شريكا في نبوته، وتبليغ شرعه وإن لم يكن خليفة له فيما سوى ذلك في حياته ولا بعد وفاته، وإن أردت أن هارون بعد استخلاف موسى له في حياته يجب أن يستمر حاله ولا يخرج عن هذه المنزلة، لأن خروجه عنها يقتضي التنفير الذي يمتنع نبوة هارون منه، وأشرت في ذلك أن النبوة تقتضي الخلافة بعد الوفاة إلى هذا الوجه فهو صحيح، غير أنه لا يجب ما ظننته من استثناء الخلافة باستثناء النبوة، لأن أكثر ما فيه أن يكون

الصفحة 10   

كالسبب في ثبوت الخلافة بعد الوفاة، وغير واجب أن ينفي ما هو كالسبب عن غيره عند نفي ذلك الغير ألا ترى أن أحدنا لو قال لوصيه: اعط فلانا من مالي كذا وكذا - وذكر مبلغا عينه - فإنه يستحق هذا المبلغ علي من ثمن سلعة ابتعتها منه، وأنزل فلانا منزلة فلان الذي أوصيتك به وأجره مجراه، فإن ذلك يجب له من أرش جناية أو قيمة متلفة، أو ميراث أو غير هذه الوجوه، بعد أن يذكر وجها يخالف الأول لوجب على الوصي أن يسوي بينهما في العطية، ولا يخالف بينهما فيها من حيث اختلفت جهة استحقاقهما، ولا يكون قول هذا القائل عند أحد من العقلاء يقتضي سلب المعطى الثاني العطية من حيث سلبه جهة استحقاقها في الأول، فوجب بما ذكرناه أن تكون منزلة هارون من موسى عليهما السلام في استحقاق خلافته له بعد وفاته ثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام لاقتضاء اللفظ لها، وإن كانت تجب لهارون من حيث كان في انتفائها تنفير يمنع نبوته منه وتجب لأمير المؤمنين عليه السلام من غير هذا الوجه.

وليس له أن يقول: إن ما ذكرتم حاله لم يختلفا في جهة العطية، وما هو كالسبب لها لأن القول من الموصي هو المقتضي لها، والمذكوران يتساويان فيه، وذلك أن سبب استحقاق العطية في الحقيقة ليس هو القول، بل هو ما تقدم ثمن البيع وقيمة التلف أو ما جرى مجراهما، وهو مختلف لا محالة، وإنما يجب بالقول على الموصى إليه العطية، فأما الاستحقاق على الموصي وسببه فيتقدمان بغير شك، ويزيد ما ذكرناه وضوحا أن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح به حتى يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في خلافته له في حياته واستحقاقها له لو بقي إلى بعد وفاته إلا أنك لست بنبي كان كلامه صلى الله عليه وآله صحيحا غير متناقض ولا خارج عن الحقيقة، ولم يجب عند أحد أن يكون باستثناء النبوة نافيا لما أثبته من منزلة الخلافة بعد الوفاة، وقد يمكن مع ثبوت هذه الجملة أن يرتب الدليل في

الصفحة 11   

الأصل على وجه يجب معه كون هارون مفترض الطاعة على أمة موسى لو بقي إلى بعد وفاته، وثبوت مثل هذه المنزلة لأمير المؤمنين عليه السلام وإن لم يرجع إلى كونه خليفة له في حال حياته ووجوب استمرار ذلك إلى بعد الوفاة فإن في المخالفين من يحمله نفسه على دفع خلافة هارون لموسى في حياته وإنكار كونها منزلة تنفصل عن نبوته وإن كان فيما حمل نفسه عليه ظاهره المكابرة ويقول: قد ثبت أن هارون كان مفترض الطاعة على أمة موسى عليه السلام لمكان شركته له في النبوة التي لا يتمكن من دفعها، وثبت أنه لو بقي بعده لكان ما يجب من طاعته على جميع أمة موسى عليه السلام يجب له لأنه لا يجوز خروجه عن النبوة وهو حي، وإذا وجب ما ذكرناه وكان النبي صلى الله عليه وآله قد أوجب بالخبر لأمير المؤمنين عليه السلام جميع منازل هارون من موسى ونفى أن يكون نبيا وكان من جملة منازله أنه لو بقي بعده لكانت طاعته مفترضة على أمته وإن كانت تجب لمكان نبوته وجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام المفترض الطاعة وعلى سائر الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وإن لم يكن نبيا لأن نفي النبوة لا يقتضي نفي ما يجب لمكانها على ما بيناه، وإنما كان يجب بنفي النبوة، نفي فرض الطاعة لو لم يصح حصول فرض الطاعة إلا للنبي، وإذا جاز أن يحصل لغير النبي كالإمام والأمير علم انفصاله من النبوة، وأنه ليس من شرائطها وحقائقها التي تثبت بثبوتها وتنتفي بانتفائها والمثال الذي تقدم يكشف عن صحة قولنا، وأن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح أيضا بما ذكرناه حتى يقول " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في فرض الطاعة على أمتي وإن لم تكن شريكي في النبوة وتبليغ الرسالة لكان كلامه مستقيما بعيدا من التنافي، فإن قال: فيجب على هذه الطريقة أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة على الأمة في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله

الصفحة 12   

كما كان هارون كذلك في حياة موسى عليه السلام.

قيل له: لو خلينا وظاهر الكلام لأوجبنا ما ذكرته، غير أن الإجماع مانع منه لأن الأمة لا تختلف في أنه عليه السلام لم يكن مشاركا للرسول صلى الله عليه وآله في فرض الطاعة على الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ومن قال منهم: إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول عن الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ومن قال منهم: إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول صلى الله عليه وآله على وجه الخلافة له لا في أحوال حضوره، وإذا خرجت أحوال الحياة بالدليل تثبت الأحوال بعد الوفاة بمقتضى اللفظ فإن قال ظاهر قوله عليه السلام: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لم يمنع مما ذكرتموه لأنه يقتضي من المنازل ما حصل لهارون من جهة موسى واستفادة به، وإلا فلا معنى لنسبة المنازل إلى أنها منه، وفرض الطاعة الحاصل عن النبوة غير متعلق بموسى عليه السلام ولا واجب من جهته.

قيل له: أما سؤالك فظاهر السقوط على كلامنا، لأن خلافة هارون لموسى في حياته لا شك في أنها منزلة منه، وواجبة بقوله الذي ورد به القرآن، فأما ما أوجبناه من استخلافه الخلافة بعده فلا مانع من إضافته أيضا إلى موسى عليه السلام، لأنه من حيث استخلفه في حياته وفوض إليه تدبير قومه ولم يجز أن يخرج عن ولاية جعلت له، وجب حصول هذه المنزلة له بعد الوفاة، فتعلقها بموسى عليه السلام تعلق قوي، فلم يبق إلا أن نبين الجواب على الطريقة التي استأنفناها، والذي يبينه أن قوله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لا يقتضي ما ظنه السائل من حصول المنازل بموسى عليه السلام ومن جهته، كما أن قول أحدنا: أنت مني بمنزلة أخي مني أو بمنزلة أبي مني لا يقتضي كون الأخوة

الصفحة 13   

والأبوة به ومن جهته، فليس يمكن أحدا أن يقول في هذا القول إنه مجاز أو خارج عن حكم الحقيقة، ولو كانت هذه الصيغة تقتضي ما ادعى لوجب أيضا أن لا يصح استعمالها في الجمادات، وكل ما لا يصح منه فعل، وقد علمنا صحة استعمالها فيما ذكرناه لأنهم لا يمنعون من القول بأن منزلة دار زيد من دار عمرو بمنزلة دار خالد من دار بكر، ومنزلة بعض أعضاء الإنسان منه بمنزلة بعض آخر منه، وإنما يفيدون تشابه الأحوال وتقاربها، ويجري لفظة " من " في هذه الوجوه مجرى " عند " و " مع " فكأن القائل أراد محلك عندي، وحالك معي في الاكرام والاعظام كحال أبي عندي ومحله فيهما، ومما يكشف عن صحة ما ذكرناه حسن استثناء الرسول صلى الله عليه وآله النبوة من جملة المنازل، ونحن نعلم أنه لم يستثن إلا ما يجوز دخوله تحت اللفظ عندنا، أو يجب دخوله عند مخالفينا، ونعلم أيضا أن النبوة المستثناة لم تكن بموسى عليه السلام وإذا ساغ استثناء النبوة من جملة ما اقتضى اللفظ مع أنها لم تكن بموسى عليه السلام بطل أن يكون اللفظ متناولا لما وجب من جهة موسى من المنازل، وأما الذي يدل على أن اللفظ يوجب حصول جميع المنازل إلا ما أخرجه الاستثناء، وما جرى مجراه وإن لم يكن من ألفاظ العموم الموجبة للاشتمال والاستغراق، ولا كان من مذهبنا أيضا أن في اللفظ المستغرق للجنس على سبيل الوجوب لفظا موضوعا له فهو أن دخول الاستثناء في اللفظ الذي يقتضي على سبيل الاحتمال أشياء كثيرة متى صدر من حكيم يريد البيان والافهام دليل على أن ما يقتضيه اللفظ يحتمله بعد ما خرج بالاستثناء مرادا بالخطاب وداخل تحته، ويصير دخول الاستثناء كالقرينة أو الدلالة التي توجب بها الاستغراق والشمول، يدل على صحة ما ذكروه أن الحكيم منا إذا قال:

من دخل داري أكرمته إلا زيدا فهمنا من كلامه بدخول الاستثناء إن من عدا زيدا مراد بالقول، لأنه لو لم يكن مرادا لوجب استثناؤه مع إرادة

الصفحة 14   

الإفهام والبيان، فهذا وجه.

ووجه آخر وهو إنا وجدنا الناس في هذا الخبر على فرقتين منهم من ذهب إلى أن المراد منزلة واحدة لأجل السبب الذي يعدون خروج الخبر عليه أو لأجل عهد أو عرف، والفرقة الأخرى تذهب إلى عموم القول بجميع ما هو منزلة لهارون من موسى عليهما السلام بعد ما أخرجه الدليل على اختلافهم في تفصيل المنازل وتعيينها، وهؤلاء هم الشيعة وأكثر مخالفيهم، لأن القول الأول لم يذهب إليه إلا الواحد والاثنان، وإنما يمتنع من خالف الشيعة من إيجاب كون أمير المؤمنين عليه السلام خليفة النبي صلى الله عليه وآله من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد موسى لخلفه، ولا أن ذلك مما يصح أن يعد في جملة منازله فكان كل من ذهب إلى أن اللفظ يصح تعديه المنزلة الواحدة ذهب إلى عمومه فإذا فسد قول من قصر القول على المنزلة الواحدة لما سنذكره، وبطل وجب عمومه لأن أحدا لم يقل بصحة تعديته مع الشك في عمومه، بل القول بأنه مما يصح أن يتعدى، وليس بعام خروج عن الإجماع.

فإن قال: وبأي شئ تفسدون أن يكون الخبر مقصورا على منزلة واحدة لأجل السبب أو ما يجري مجراه.

قيل له: أما ما تدعي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين (1)، ووجوب حمل الكلام عليه وألا يتعداه فيبطل من وجوه:

منها، أن ذلك غير معلوم على حد العلم بنفس الخبر (2) بل غير معلوم أصلا، وإنما وردت به أخبار آحاد وأكثر الأخبار واردة بخلافه، وأن أمير المؤمنين عليه السلام لما خلفه النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة في

____________

(1) الأرجاف: واحد أراجيف الأخبار، وأرجف القوم خاضوا في أخبار الفتن وغيرها، ومنه (المرجفون في المدينة).

(2) خ " على حد تيقن الخبر ".

الصفحة 15   

غزوة تبوك كره أن يتخلف عنه، وأن ينقطع عن العادة التي كان يجري عليها في مواساته له بنفسه، وذبه الأعداء عن وجهه، فلحق به وشكى إليه ما يجده من ألم الوحشة، فقال له هذا القول، وليس لنا أن نخصص خبرا معلوما بأمر غير معلوم، على أن كثيرا من الروايات قد أتت بأن النبي صلى الله عليه وآله قال له: " أنت مني بمنزله هارون من موسى " في أماكن مختلفة، وأحوال شتى (1)، فليس لنا أيضا أن نخصه بغزوة تبوك دون غيرها، بل الواجب القطع على الخبر الحق والرجوع إلى ما يقتضيه والشك فيما لم يثبت صحته من الأسباب والأحوال.

ومنها، إن الذي يقتضيه السبب مطابقة القول له، وليس يقتضي مع مطابقته ألا يتعداه وإذا كان السبب ما يدعونه من إرجاف المنافقين أو استثقاله عليه السلام أو كان الاستخلاف في حال الغيبة والسفر فالقول على مذهبنا وتأويلنا يطابقه ويتناوله، وإن تعداه إلى غيره من الاستخلاف بعد الوفاة الذي لا ينافي ما يقتضيه السبب، يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح بما ذهبنا إليه حتى يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في المحبة والفضل والاختصاص والخلافة في الحياة وبعد الوفاة لكان السبب الذي يدعي غير مانع من صحة الكلام واستقامته.

ومنها، إن القول لو اقتضى منزلة واحدة إما الخلافة في السفر أو ما ينافي من إرجاف المنافقين من المحبة والميل لقبح الاستثناء لأن ظاهره لا يقتضي تناول الكلام لأكثر من منزلة واحدة، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا لغيره منزلتك مني في الشركة في المتاع المخصوص دون غيرها منزلة فلان من فلان إلا أنك لست بجاري، وإن كان الجوار ثابتا بين من ذكره من حيث لم يصح تناول قوله الأول ما يصح دخول منزلة الجوار فيه، وكذلك لا يصح أن يقول: إن ضربت غلامي زيدا إلا غلامي عمرا، وإن صح أن يقول: ضربت غلماني إلا غلامي عمرا من حيث تناول

____________

(1) سيأتي ذكر هذه الأحوال ص 56 من هذا الجزء

الصفحة 16   

اللفظ الواحد دون الجمع، وبهذا الوجه يسقط قول من ادعى أن الخبر يقتضي منزلة واحدة لأن ظاهر اللفظ يتناول أكثر من المنزلة الواحدة، وأنه لو أراد منازل كثيرة لقال أنت مني بمنازل هارون من موسى وذلك أن اعتبار موضع الاستثناء يدل على أن الكلام يتناول أكثر من منزلة واحدة، والعادة في الاستعمال جارية بأن يستعمل مثل هذا الخطاب، وإن كان المراد المنازل الكثيرة، لأنهم يقولون منزلة فلان من الأمير كمنزلة فلان منه، وإن أشاروا إلى أحوال مختلفة وإلى منازل كثيرة، ولا يكادون يقولون بدلا مما ذكرناه منازل فلان كمنازل فلان، وإنما حسن منهم ذلك من حيث اعتقدوا أن ذوي المنازل الكثيرة، والرتب المختلفة قد حصل لهم بمجموعها منزلة واحدة كأنها جملة تتفرع على غيرها، فتقع الإشارة منهم إلى الجملة بلفظ الواحدة، وباعتبار ما اعتبرناه من الاستثناء يبطل قول من حمل الكلام على منزلة يقتضيها العهد والعرف، ولأنه ليس في العرف ألا تستعمل لفظ منزلة إلا في شئ مخصوص دون ما عداه، لأنه لا حال من الأحوال يحصل لأحد مع غيره من نسب وجوار وولاية ومحبة واختصاص إلى سائر الأحوال إلا ويصح أن يقال فيه: أنه منزلة، ومن ادعى عرفا في بعض المنازل كمن ادعاه في غيره وكذلك لا عهد يشار إليه في منزلة من منازل هارون من موسى عليه السلام دون غيرها فلا اختصاص بشئ من منازله بعهد ليس في غيره، بل سائر منازله كالمعهود من جهة أنها معلومة بالأدلة عليها، وكل ما ذكرناه واضح لمن أنصف من نفسه.

طريقة أخرى من الاستدلال بالخبر على النص وهي أنه إذا ثبت كون هارون خليفة لموسى على أمته في حياته ومفترض الطاعة عليهم، وأن هذه المنزلة من جملة منازله، ووجدنا النبي صلى الله عليه وآله استثنى ما لم يرده من المنازل بعده بقوله " إلا أنه لا نبي بعدي " دل هذا الاستثناء على أن ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليه السلام بعده وإذا كان من جملة المنازل الخلافة في الحياة وثبتت بعده فقد صح وجه النص بالإمامة.

الصفحة 17   

فإن قال: ولم قلتم إن الاستثناء في الخبر يدل على بقاء ما لم يستثن من المنازل وثبوته بعده.

قيل له: لأن الاستثناء كما من شأنه إذا كان مطلقا أن يوجب ما لم يستثن مطلقا كذلك من شأنه إذا قيد بحال أو وقت أن يوجب ثبوت ما لم يستثن في ذلك الوقت، لأنه لا فرق بين أن يستثنى من الجملة في حال مخصوصة ما لم يتضمنه الجملة في تلك الحال وبين أن يستثنى منها ما لم يتضمنه على وجه من الوجوه، ألا ترى أن قول القائل: ضربت غلماني إلا زيدا في الدار، وإلا زيدا فإني لم أضربه في الدار، يدل على أن ضربه غلمانه كان في الدار لموضع تعلق الاستثناء بها، وأن الضرب لو لم يكن في الدار لكان تضمن الاستثناء لذكر الدار كتضمنه ذكر ما لا تشتمل عليه الجملة الأولى من بهيمة وغيرها، وليس لأحد أن يقول ويتعلق بأن لفظة " بعدي " في الخبر لا تفيد حال الوفاة، وأن المراد بها بعد نبوتي لأن الجواب عن هذه الشبهة يأتي فيما بعد مستقصى بمشيئة الله، ولا له أن يقول: من أين لكم ثبوت ما لم يدخل تحت الاستثناء من المنازل؟ لأنا قد دللنا على ذلك في الطريقة الأولى.

ونحن نعود إلى كلام صاحب الكتاب في الفصل.

أما الطريقة الأولى وهي التي بدأ بذكرها فقد استوفينا نصرتها.

وأما ما ذكره ثانيا فليس بمعتمد جملة لأن قوله تعالى في حكاية خطاب موسى لهارون (اخلفني في قومي وأصلح) إن كانت هذه الصيغة بعينها هي الواقعة من موسى عليه السلام لم يكن دلالة على ثبوت الاستخلاف في جميع الأحوال، فكيف ونحن نعلم أن الحكاية تناولت معنى قوله دون صيغته، وإنما قلنا إن قوله: (أخلفني في قومي) لا يقتضي عموم سائر الأحوال لأنه محتمل، وليس يجب في اللفظ المحتمل أن يحمل على سائر ما يحتمله إلا بدليل كما لا يجب ذلك في البعض.

فأما ما ذكره ثالثا فهو طريقة إثبات النص، وقد اعتمدها أصحابنا

الصفحة 18   

أنه ليس بمتعلق بالخبر الذي شرع صاحب الكتاب في حكاية وجوه استدلالاتنا منه، ولا مفتقرة إليه، وما نعلم أحدا من أصحابنا قرن هذه الطريقة من الاستدلال بالكلام في الخبر وإيرادها في هذا الموضع طريف.

فأما ما ذكره رابعا فهي الطريقة التي أوردناها وقد بينا كيفية دلالتها.

قال صاحب الكتاب: " واعلم أن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) لا يتناول إلا منزلة ثابتة منه، ولا يدخل تحته منزلة مقدرة لأن المقدر ليس بحاصل ولا يجوز أن يكون منزلة لأن وصفه بأنه منزلة يقتضي حصوله على وجه مخصوص ولا فرق في المقدر بين (1) أن يكون من الباب الذي كان يجب لا محالة على الوجه الذي قدر أو لا يجب في أنه لا يدخل تحت الكلام، ويبين صحة ذلك أن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) يقتضي منزلة لهارون من موسى معروفة يشبه (2) بها منزلته، فكيف يصح أن تدخل في ذلك المقدر وهو كقول القائل: حقك (3) علي مثل حق فلان على فلان، ودينك عندي مثل دين فلان إلى ما شاكل ذلك في أنه لا يتناول إلا أمرا معروفا حاصلا وإذا ثبت ذلك، فيقال: ننظر فإن كانت منزلة هارون من موسى معروفة حملنا الكلام عليها، وإلا وجب التوقف كما يجب مثله فيما مثلناه من الحق والدين، ويجب أن ننظر إن كان الكلام يقتضي الشمول حملناه عليه وإلا وجب التوقف عليه ولا يجوز أن يدخل تحت الكلام ما لم يحصل لهارون من المنزلة البتة، وقد علمنا أنه لم تحصل له الخلافة بعده فيجب أن لا يدخل ذلك تحت الخبر ولا يمكنهم أن

____________

(1) غ " في العدد ".

(2) غ " ليست بها منزلته " والظاهر تحريف " ليست " عن " يشبه ".

(3) غ " حصل علي ".

الصفحة 19   

يقولوا بوجوب دخوله تحت الخبر على التقدير الذي ذكروه، لأنا قد بينا أن الخبر لا يتناول التقدير (1) الذي لم يكن، وإنما يتناول أول المنزلة الكائنة الحاصلة.

فإن قيل: إن المنزلة التي تقدرها لهارون هي كأنها ثابتة، لأنها واجبة بالاستخلاف في حال الغيبة، وإنما حصل فيها منع وهو موته قبل موت موسى عليه السلام، ولولا هذا المنع لكانت ثابتة فإذا لم يحصل مثل هذا المنع في أمير المؤمنين عليه السلام فيجب أن تكون ثابتة.

قيل له: إن الذي ذكرته إذا سلمناه لم يخرج هذه المنزلة من كونها غير ثابتة في الحقيقة وإن كانت في الحكم كأنها ثابتة وقد بينا (2) أن الخبر لم يتناول المقدر صح وجوبه أو لم يصح فنحن قبل أن نتكلم في صحة ما أوردته ووجوبه قد صح كلامنا (3) فلا حاجة بنا (4) إلى منازعتك في هذه المنزلة هل كانت تجب لو مات موسى قبله، أو كانت لا تجب؟ يبين ذلك أنه عليه السلام لو ألزمنا صلاة سادسة في المكتوبات أو صوم شوال لكان ذلك شرعا له ولوجب ذلك لمكان المعجز وليس بواجب أن يكون من شرعه الآن وإن كان لو أمر به للزم، وكذلك القول فيما ذكروه وليس كل مقدر حصل سبب وجوبه وكان يجب حصوله له ولولا المانع (5) يصح أن يقال:

إنه حاصل، وإذا تعذر ذلك فكيف يقال أنه منزلة وقد بينا أن كونه (6)

____________

(1) غ " المقدر ".

(2) غ " وقد ثبت أن الخبر ".

(3) غ " فيجب صحة كونه كلامنا ".

(4) غ " فلا حاجة بنا الآن ".

(5) غ " تحت حصوله لولا الصانع لصح " وهي محرفة قطعا ولو رجع محققوا " المغني " إلى " الشافي " لكانوا في غنى عن توجيه هذه التحريفات وهي كثيرة جدا!

(6) غ " وقد بينا أنه منزلة ".

الصفحة 20   

صفة زائدة على حصوله يبين ذلك أن الخلافة بعد الموت لها من الحكم ما ليس للخلافة في حالة الحياة فهما منزلتان مختلفتان تختص كل واحدة منهما بحكم يخالف حكم صاحبتها لأنه [ في حال الحياة تصح فيها الشركة والعزل والاختصاص، وبعد الوفاة ] (1) لا يصح فيها ذلك فلا يجب ثبوت إحداهما بثبوت الأخرى، ولا يصح أن يعد ذلك منزلة ولم يحصل فكيف يقال إن الخبر يتناوله... " (2).

يقال له: لم قلت: " إن ما يقدر لا يصح وصفه بأنه منزلة " فما نراك ذكرت إلا ما يجري مجرى الدعوى، وما أنكرت من أن يوصف المقدر بالمنزلة إذا كان سبب استحقاقه وجوبه حاصلا وليس يخرج بكونه مقدرا من أن يكون معروفا يصح أن يشار إليه ويشبه به غيره لأنه إذا صح وكان مع كونه مقدرا معلوما حصوله ووجوبه عند وجود شرطه فالإشارة إليه صحيحة، والتعريف فيه حاصل، وقد رضينا بما ذكرته في الدين لأنه لو كان لأحدنا على غيره دين مشروط يجب في وقت منتظر يصح قبل ثبوته وحصوله أن تقع الإشارة إليه، ويحمل غيره عليه، ولا يمتنع من جميع ذلك فيه كونه منتظرا متوقعا، ويوصف أيضا بأنه دين وحق وإن لم يكن في الحال ثابتا، ومما يكشف عن بطلان قولك: إن المقدر وإن كان مما يعلم حصوله لا يوصف بأنه منزلة أن أحدنا لو قال فلان مني بمنزلة زيد من عمرو في جميع أحواله وعلمنا أن ذلك قد بلغ من الاختصاص بعمرو، والتقرب منه، والزلفى عنده إلى حد لا يسأله معه شيئا من أمواله إلا أجابه إليه، وبذله ثم إن المشبه حاله بحاله سأل صاحبه درهما من ماله، أو ثوبا لوجب عليه إذا كان قد حكم بأن منزلته منه منزلة من ذكرناه أن

____________

(1) التكملة بين المعقوفين من " المغني ".

(2) المغني 20 ق 1 / 159.

 

 

 

 

الصفحة 21   

يبذله له وإن لم يكن وقع ممن شبهت حاله به مثل تلك المسألة بعينها، ولم يكن للقائل الذي حكينا قوله أن يمنعه من الدرهم والثوب بأن يقول: إنني جعلت لك منازل فلان من فلان، وليس في منازله إن سأله درهما أو ثوبا فأعطاه في كل واحدة منهما بل يوجب عليه جميع من سمع كلامه العطية من حيث كان المعلوم من حال من جعل له مثل منزلته أنه لو سأله في ذلك كما سأل هذا أجيب إليه، وليس يلزم على هذا أن تكون الصلاة السادسة وما أشبهها من العبادات التي لو أوجبها الرسول صلى الله عليه وآله علينا لوجب مما يجري عليها الوصف الآن بأنها من شرعه لأنها لم يحصل لها سبب وجوب استحقاق بل سبب وجوبها مقدر بما أنها مقدرة، وليس كذلك ما أوجبناه لأنا لا نصف بالمنزلة إلا ما حصل استحقاقه وسبب وجوبه ولو قال عليه السلام: صلوا بعد سنة صلاة مخصوصة خارجة عما نعرف من الصلوات لجاز أن يقال: بل وجب أن تكون تلك الصلاة من شرعه قبل حضور الوقت من حيث ثبت سبب وجوبها، ومثل ما ذكرناه يسقط قول من يقول: فيجب على كلامك أن يكون كل أحد نبيا إماما وعلى سائر الأحوال التي يجوز على طريق التقدير أن يحصل عليها مثل أن يكون وصيا لغيره، وشريكا له ونسيبا إلى غير ذلك، لأنه على طريق التقدير يصح أن يكون على جميع هذه الأحوال لوجود أسبابها وشروطها، وإنما لم يلزم جميع ما عددناه لما قدمنا ذكره من اعتبار ثبوت سبب المنزلة واستحقاقها وجميع ما ذكر لم يثبت له سبب استحقاق، ولا وجوب، ولا يصح أن يقال إنه منزلة.

ثم يقال له: ما نحتاج إلى مضايفتك في وصف المقدر بأنه منزلة وكلامنا يتم وينتظم من دونه لأن ما عليه هارون من استحقاق منزلة الخلافة بعد وفاة موسى إذا كان ثابتا في أحوال حياته صح أن يوصف بأنه منزلة وإن لم يصح وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة في حال الحياة لأن التصرف في الأمر المتعلق بحال مخصوصة عند استحقاقه وأحد الأمرين

الصفحة 22   

منفصل من الآخر وإذا ثبت أن استحقاقه للخلافة بعد الوفاة يجري عليه الوصف بالمنزلة، ووجب حصوله لأمير المؤمنين كما حصل لهارون لثبتت له الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله لتمام شرطها فيه، ألا ترى أن من أوصى إلى غيره وجعل إليه التصرف في أمواله بعد وفاته يجب له ذلك بشرط الوفاة وكذلك من استخلف غيره بشرط غيبته عن بلده ليكون نائبا عنه بعد الغيبة يجب له هذه المنزلة عند حصول شرطها، فحال استحقاق التصرف والقيام بالأمر المنصوص إليه غير حال استحقاقه، ولو أن غير الموصي والمستخلف قال: فلان مني بمنزلة فلان من فلان وأشار إلى الموصي والموصى إليه لوجب أن يثبت له من الاستحقاق في الحال والتصرف بعدها ما أوجبناه للأول، ولم يكن لأحد التطرق إلى منع هذا المتصرف من التصرف إذا بقي إلى حال وفاة صاحبه من حيث لا يوصف التصرف المستقبل (1) بأنه منزلة قبل حصول (2) وقته ولا من حيث كان من شبهت حاله به لم يبق بعد الوفاة لو قدرنا أنه لم يبق.

فإن قال صاحب الكتاب: إنما صح ما ذكرتموه لأن التصرف في مال الموصي والخلافة لمن استخلف في حال الغيبة وإن لم يكونا حاصلين في حال الخطاب ولم يوصفا بأنهما منزلتان فيما يقتضيهما من الوصية والاستخلاف الموجبتين لاستحقاقهما يثبت في الحال، ويوصف بأنه منزلة.

قلنا: وهكذا نقول لك فيما أوجبناه من منازل هارون من موسى لأمير المؤمنين عليه السلام حرفا بحرف وليس له أن يخالف في أن استحقاق هارون بخلافة موسى بعد الوفاة كان حاصلا في الحال لأن كلامه في هذا الفصل مبني على تسليمه وإن كان قد خالف في ذلك في فصل

____________

(1) خ " المستفيد " ولم يظهر وجهه.

(2) خ " حضور ".

الصفحة 23   

استأنفه يأتي مع الكلام عليه فيما بعد وقد صرح في مواضع من كلامه الذي حكيناه بتسليم هذا الموضع، لأنه بنى الفصل على أن الخلافة لو وجبت بعد الوفاة حسبما يذهب إليه لم يصح وصفها قبل حصولها بأنها منزلة، ولو كان مخالفا في أنها مما يجب أن يحصل لاستغنى بالمنازعة عن جميع ما تكلفه فقد بان من جملة ما أوردناه، أن الذي اقترحه من أن الخبر لم يتناول المقدر لم يغن عنه شيئا لأنا مع تسليمه قد بينا صحة مذهبنا في تأويله، وأن كلامه إذا صح لم يكن له من التأثير أكثر من منع الوصف بالمنزلة ما كان مقدرا، وليس يضر من ذهب في هذا الخبر إلى النص لامتناع من وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة قبل حصولها إذا ثبت له أنها واجبة مستحقة وأن ما يقتضيها يجب وصفه بأنه منزلة.

قال صاحب الكتاب: " فإن قال: إن الذي يدل على أن الخبر يتناول ذلك قوله: (إلا أنه لا نبي بعدي) وظاهر ذلك بعد موتي فيجب أن يكون ما أثبته بعد الموت أيضا قيل له: إن التشبيه الأول يقتضي حمل هذا الاستثناء على أن المراد به بعد كوني (1) نبيا ليصح أن يحصل ما استثناه (2) في هارون كما صح أن يحصل ما استثنى منه في هارون لأنه لا بد من صحة الأمرين في هارون (3) وقد علمنا أنه لم يكن من منازل النبوة بعد موسى وإنما يدخل في منازله النبوة بعد نبوة موسى فيجب أن يكون إنما استثنى ما لولاه لثبت من منازل (4) هارون، ولا يجوز أن يستثنى ما لولاه لم يثبت من منازل (5) هارون لأن ذلك لا يفيد، وهذا يبين صحة ما قدمناه وإذا ثبت أن المراد إلا أنه لا نبي بعد نبوتي فيجب أن يكون المنازل التي

____________

(1) غ " يتصل كونه نبيا ".

(2) خ " ما استثني منه ".

(3) غ " في منازل هارون ".

(4) غ " في منازل ".

(5) كذلك.

الصفحة 24   

دخلها (1) هذا الاستثناء بعد نبوته لا بعد موته وهذا يسقط ما عولوا عليه فصار التشبيه الأول هو الدال على أن المستثنى والمستثنى منه جميعا حاصلان لهارون، وإذا لم يحصل له كل المنازل إلا في حال الحياة من موسى وجب صحة ما ذكرناه، ومما يبين صحة ذلك أن من حق الاستثناء أن يطابق المستثنى منه في وقته لأن الرجل إذا قال لفلان على عشرة دراهم إلا درهما فالمراد بما أثبته الحال وبما نفاه الحال ولا يجوز في الكلام سوى ذلك إلا بقرينة ودلالة، وقد علمنا أنه عليه السلام لما قال لعلي عليه السلام: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) أثبت له المنزلة في الوقت، فيجب فيما استثنى أن يتناول الوقت فكيف يقال: إنه أراد بعد موته بل [ كيف ] (2) يجب حمله على الوقت فكأنه قال: أنت مني في حال نبوتي بمنزلة هارون من موسى في حال نبوته وبعد نبوته إلا أنه لا نبي بعد نبوتي حتى يكون الاستثناء متناولا للحال التي لولا الاستثناء لثبت، فإذا كان لو لم يستثن لوجب في حق الكلام أن يكون شريكه في النبوة في الحال كما ثبت لهارون فيجب إذا استثني أن يقتضي نفي هذا المعنى وهذا يمنع من حمله على بعد الموت، وليس لأحد أن يقول فيجب أن لا يعرف بقوله: (إلا أنه لا نبي بعدي) أنه خاتم الأنبياء وذلك لأنه إذا كان المراد إلا أنه لا نبي بعد كوني نبيا فقد دل على ذلك بأقوى ما يدل لو أراد إلا أنه لا نبي بعد وفاتي (3) فكيف لا يدل على ما ذكرتموه؟

ولسنا نعتمد في أنه خاتم النبيين عليه السلام إلا على ما نعلم من دينه ضرورة بالنقل المتواتر الذي نعرف به ذلك من غير اعتبارا لفظه.. " (4)

____________

(1) غ " المنازل التي حصل لأجلها ".

(2) " كيف " من " المغني ".

(3) غ " ولو أراد بقوله: ب (بعدي) بعد وفاتي ".

(4) المغني 20 ق 1 / 163.

الصفحة 25   

يقال له: قد أجاب أصحابنا من أن يكون قوله عليه السلام: (إلا أنه لا نبي بعدي) أراد به بعد نبوتي بجوابين:

أحدهما أن قوله عليه السلام: (لا نبي بعدي) يقتضي ظاهره بعد موتي لأن العادة جارية في فائدة مثل هذه اللفظة إذا وقعت على هذا الوجه بمثل ما ذكرناه، ألا ترى أن أحدنا إذا قال: فلان وصيي من بعدي وهذا المال يفرق على الفقراء من بعدي لم يفهم من كلامه إلا بعد وفاتي دون سائر أحواله، وإذا كان الظاهر يقتضي صحة قولنا وجب التمسك به، واطراح قول من سامه العدول عنه.

والجواب الثاني إنا لو سلمنا للخصوم ما اقترحوه من أن المراد بنفي النبوة لم يختص حال الوفاة، بل يتناول ما هو بعد حال نبوته من الأحوال لم يخل ذلك بصحة تأويلنا للخبر لأنا نعلم أن الذي أشاروا إليه من الأحوال يشتمل على أحوال الحياة، وأحوال الوفاة إلى قيام الساعة فيجب بظاهر الكلام، وبما حكمنا به من مطابقة الاستثناء في الحال التي وقع فيها المستثنى منه، أن يجب لأمير المؤمنين عليه السلام الإمامة في جميع الأحوال التي تعلق النفي بها، فإن أخرجت دلالة شيئا من هذه الأحوال أخرجناه لها وأبقينا ما عداه لاقتضاء ظاهر الكلام له، فكان ما طعن به مخالفونا إنما زاد قولنا صحة وتأكيدا، وهذا الجواب هو المعتمد دون الأول لأن لقائل أن يقول في الأول أن الظاهر من قول القائل بعدي لا يتناول أحوال الوفاة على ما ادعيتم، ولا يمتنع أن يكون هذه الكناية متعلقة بحال من أحوال القائل غير حال وفاته، لأنا نعلم أولا إنها ليست بكناية عن ذاته وإنما هي كناية عن حال من أحواله، فلا فرق بين بعض أحواله وبين بعض في صحة الكناية عنه بهذه اللفظة، ألا ترى إلى صحة قول القائل قدم فلانا بعدي، وتكلم بعدي وولي فلان كذا وكذا بعد فلان، وإن كانت لفظة بعدي جميعها كناية عن غير حال الوفاة، ومتعلقة بما يثبت في حال الحياة،

الصفحة 26   

وليس يمكن أن يدعي أن ظاهرها وحقيقتها يقتضيان حال الوفاة، وأنها إذا أريد بها ما عدا حال الوفاة من الأحوال كانت مجازا لأن ذلك تحكم من مدعيه، ولا فرق بينه وبين من ادعى عكسه عليه، فقال إنها إنما تكون مجازا إذا عني بها حال الوفاة، ومن رجع إلى ما يقع عليه هذه اللفظة في الاستعمال والتعارف لم يجد لوقوعها كناية عن بعض الأحوال مزية على بعض.

ثم يقال له: في قوله: " إن الكلام يقتضي حصول المستثنى والمستثنى منه معا لهارون عليه السلام وأن من حق الاستثناء أن يطابق المستثنى منه في وقته " أما مطابقة الاستثناء للمستثنى منه فهو الصحيح الواجب الذي فزعوا إليه، ومدار كلامهم في هذه الطريقة عليه، وأما حصول المستثنى والمستثنى منه معا لهارون في وقتهما وعلى سائر وجوههما فغير واجب لأن النبي صلى الله عليه وآله لم يقصد إلى جعل منازل هارون من موسى في زمانهما ووجه حصولهما لأمير المؤمنين عليه السلام وإنما قصد إلى إيجاب ما كان لهارون من موسى عليهما السلام من المنازل في حال مخصوصة لأمير المؤمنين عليه السلام في حال أخرى فدخل التشبيه والتمثيل بين المنازل لأنفسها لا بين أوقاتها وأزمان حصولها، والذي دلنا على صحة هذه الجملة:

ما قدمناه من اعتبار الاستثناء لأنه عليه السلام إذا استثنى ما أخرجه من المنازل بعده، وكان الاستثناء من شأنه أن يطابق المستثنى منه حتى يكون مخرجا من الكلام ما لولاه لثبت على الوجه الذي تعلق به الاستثناء، فلا بد أن يحكم بأنه عليه السلام أراد بصدر الكلام إيجاب المنازل بعده، فكأنه عليه السلام قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) بعدي واستغنى عن التصريح بلفظ بعدي في صدر الكلام من حيث كان الاستثناء دالا عليها، ومقتضيا لها، وهذا هو الواجب في

الصفحة 27   

الكلام الفصيح بمعنى أن يكتفى بيسيره عن كثيره، وبالتصريح في بعضه عن التصريح في كله، ولو لم يقتض الاستثناء ما ذكرناه لخرج عن مطابقة المستثنى منه وبعد عن الفائدة، لأن هارون لم يكن نبيا بعد وفاة موسى فيكون الاستثناء مخرجا ما لولاه لثبت، فلا فرق بين تعلق الاستثناء بالحال المخصوصة التي لم تثبت لهارون ولا قدرنا أضمارها في صدر الكلام وبين تعلقه بمنزلة غير مخصوصة لم تثبت لهارون من موسى على وجه من الوجوه، فوجب بما بيناه أن يكون ما أوجب في صدر الكلام من المنازل مقصودا به إلى الحال التي تعلق الاستثناء بها وسقط قول إن هارون إذا لم يكن نبيا بعد وفاة موسى لم يصح تعلق الاستثناء بحال الوفاة، فلا فرق في صحة هذه الطريقة بين أن تكون لفظة " بعدي " محمولة على نفي النبوة بعد الموت، أو محمولة على نفيها بعد أحوال كونه نبيا مما يعم الحياة والوفاة معا لأن اشتراط الحال التي تعلق بها الاستثناء وتقديرها في صدر الكلام من الواجب سواء كانت حالة الوفاة خاصة أو حالة الحياة والوفاة جميعا، وما نريده من إثبات الإمامة بالخبر بعد الوفاة مستمر على الوجهين، فلا معنى للمضايقة فيما يتم المراد دونه، ومما يزيد ما قد أوردناه وضوحا، ويسقط قوله التشبيه يقتضي حصول ما تعلق به الاستثناء في وقته لهارون أن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح بما قدرناه حتى يقول: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) بعد وفاتي أو في حال حياتي وبعد وفاتي إلا أنك لست بنبي في هذه الأحوال لكان الكلام مستقيما خارجا عن باب التجوز، ولم يمنع من صحته أن المنزلة المستثناة لم تحصل لهارون في الحال التي تعلق بها الاستثناء.

وأما قوله: " إن من حق الاستثناء أن يطابق المستثنى منه في وقته وإنا قد علمنا أن بقوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) أثبت له المنزلة في الوقت فيجب فيما استثني أن يتناول الوقت " فقد نقضه بجوابه لما

الصفحة 28   

ألزم نفسه (ألا يعلم بالقول أنه عليه السلام خاتم النبيين) (1) بأنا نعلم أنه إذا كان المراد لا نبي بعد كوني نبيا فقد دل على ذلك بأقوى ما يدل لو أراد إلا أنه لا نبي بعد وفاتي، وموضع المناقضة أنه حكم بوجوب مطابقة الاستثناء في الوقت المستثنى منه، ثم جعل نفي النبوة معلوما بأحوال لم تثبت للمستثنى منه في جميعها لأن ثبوته عنده يختص حال الحياة ونفي النبوة يعم جميع الأحوال التي تلي كونه نبيا وتدخل فيها أحوال الحياة والوفاة، وفي هذا نقض منه ظاهر، على أن ما قدمناه من دلالة الاستثناء يبطل ما ظنه من أن صدر الكلام أوجب ثبوت المنازل في الوقت.

وقوله: " إذا كان لو لم يستثن لوجب (2) أن يكون شريكا في النبوة في الحال فيجب إذا استثني أن ينتفي النبوة في هذه الحال " باطل لأنا لا نسلم له أولا أنه لو لم يستثن لوجب ثبوت ذلك في الحال بظاهر الكلام، ولو سلمناه لم يجب ما ظنه لأن الاستثناء إنما كان يجب أن ينفي النبوة في الحياة ولو وقع مطلقا لم يتعلق بحال مخصوصة، فأما وقد تعلق بحال معينة ودلنا تعلقه على ثبوت ما لم يستثن فيها لتحصيل المطابقة فالذي ذكره غير صحيح.

وأما قوله: (إنا لا نتعلق في أنه عليه السلام خاتم الأنبياء بلفظ بل بما نعلم من دينه) فلا يتوجه علينا لأن الأمر وإن كان على ما ذكره فليس يجوز أن يجعل أحد قوله عليه السلام: (لا نبي بعدي) مختصا بحال الحياة دون أحوال الوفاة لأنه لا أحد من الأمة ذهب إلى هذا، وإنما الخلاف في الاستثناء هل اختص بحال الوفاة دون أحوال الحياة على ما نصره أكثر أصحابنا أو تعلق ببعد حال النبوة مما يشتمل الحياة والوفاة، وخلاف هذين

____________

(1) لا يخفى أن المرتضى نقل كلام القاضي بمعناه دون حروفه.

(2) خ " يوجب ".

الصفحة 29   

القولين لا نعرفه قولا لأحد منهم، وقد كنا أملينا في الجواب عن هذه الشبهة التي اشتمل عليها الفصل من كلامه مسألة (1) مفردة استقصينا الكلام فيها وفيما أوردناه هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فلو ثبت أن قوله (إلا أنه لا نبي بعدي) المراد به بعد موتي لكان لا بد فيه من شرط، فكأنه يريد فلا تكون يا علي نبيا بعدي إن عشت لأن هذا الشرط واجب لا بد منه وإذا وجب ذلك فكأنه قال عليه السلام: أنت وإن بقيت لا تكون نبيا بعدي كما يكون هارون نبيا بعد أخيه موسى لو بقي، فلا بد من إثبات الشرط وتقديره في الأمرين، وإن كان الكلام لا يقتضيه لأنه لا يجب إذا دل الدليل على دخول شرط في الاستثناء أن يدخل (2) في المستثنى منه * مع إمكان حمله على ظاهره وقد علمنا أن قوله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) يقتضي الحال من غير شرط فكيف يجب بدخول الشرط في الاستثناء من حيث أدى إليه الدليل إثبات شرط في المستثنى منه * (3) وهذا يبين أن الذي ذكروه لو سلمناه لم يوجب ما قالوه (4)، وكان يجب على هذا القول أن لا يدخل تحت الخبر (5) منزلة يستحقها أمير المؤمنين عليه السلام في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله أصلا لأنهم أوجبوا في المستثنى منه أن يكون كالمستثنى (6) في أنه بعد الموت، وبطلان ذلك يبين فساد هذا

____________

(1) رسالة، خ ل.

(2) غ " أن يدل ".

(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغنى " في الموضعين.

(4) غ " لم يجب ما قالوه ".

(5) غ " تحت القول ".

(6) غ " أن يكون بمنزلة المستثنى ".

الصفحة 30   

القول " (1) ثم قال: " فإن قالوا: قد دخل تحت الاثبات حال الحياة وبعد الممات فصح الاستثناء منه وإن كان بعد الموت، قيل لهم: فإذا جاز في المستثنى منه أن يكون ثابتا في الحالين، وإن كان الاستثناء لا يحصل إلا في أحدهما فما المانع من أن يكون المستثنى منه يثبت (2) في حال الحياة فقط على ما يقتضيه لفظه؟ وإن كان المستثنى لا يحصل إلا بعد الوفاة على ما يقتضيه لفظه.

وبعد، فإنه يقال لهم: إذا كنا متى وفينا المستثنى منه الذي هو لإثبات حقه تناول الحال وإذا وفينا المستثنى حقه تناول بعد الموت ومثل ذلك لا يصح في الاستثناء فيجب أن يصرف الكلام عن الاستثناء ونقول وإذا كان لفظه لفظ الاستثناء فالمراد به ما يجري مجرى استئناف من كلام يكون القصد به إزالة الشبهة عن القلوب فكأنه عليه السلام ظن أنه لو أطلق الكلام إطلاقا لدخلت الشبهة على قوم في أن يكون نبيا بعده * فيجب أن يصرف الكلام عن الاستثناء بعده * (3) فأزال هذه الشبهة بما يجري مجرى المبتدأ من كلامه (4) فيصير كأنه قال: أنت يا علي مني في هذه الحال بمنزلة هارون من موسى لكنه لا نبي بعدي [ ليس بأن يتناول الحال أولى من المستقبل ] (5)... ".

يقال له: ليس يحتاج إلى الشرط الذي قدرته لأن الاستثناء إذا تعلق بحال الموت ووجب أن يكون ما أثبت بصدد الكلام من المنازل مقصودا به إلى هذه الحال ليحصل المطابقة على ما بيناه في كلامنا المتقدم فالشرط

____________

(1) غ " هذا الخبر ".

(2) غ " يحصل حال الحياة ".

(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(4) غ " الابتداء من القول ".

(5) المغني: 20 ق 1 / 163 وما بين المعقوفين ساقط من " الشافي ".

الصفحة 31   

مستغنى عنه وفيما استثني منه لأن ما أثبته من المنازل بعده لا بد فيه من القطع المنافي لتقدير الشرط، وما نفاه بالاستثناء من منزلة النبوة تناول منزلة لولاه لثبت قطعا أيضا بغير شرط.

فأما قوله: " وليس يجب بدخول الشرط في الاستثناء أن يدخل في المستثنى منه مع إمكان جملة على ظاهره " فهو وإن سقط بما ذكرناه يفسد أيضا بما اعترف به من وجوب مطابقة الاستثناء للمستثنى منه لأن الاستثناء إذا دخل فيه الشرط الذي قدره ولم يدخل المستثنى منه فقد تعلق بحال لا يقتضيها صدر الكلام، ولا ينطوي ما أثبته من المنازل عليها، فلا فرق بين أن يستثني النبوة بعد الوفاة مشروطة وإن كانت غير داخلة فيما تقدم ولا كان ما أثبته من المنازل متعلقا بحال الوفاة جملة وبين أن يستثني غيرها مما لا يدخل تحت ما أثبته، وهذا مفسد لحقيقة الاستثناء، ومخرج له عما وضع له، فوجب بهذه الجملة لو صرنا إلى ما ادعاه من إثبات الشرط دخوله في الأمرين ليتم المطابقة وتثبت حقيقة الاستثناء، وليس ما ذكره في آخر الفصل من ادعاء استئناف الكلام وإخراجه عن باب الاستثناء بشئ، لأنه لما رأى أن تأويله يبطل حقيقة الاستثناء وما يجب من مطابقته للمستثنى منه حمل نفسه على نفيه وظاهر الكلام يقتضي خلاف ما قاله لأن إيراد لفظ " إلا " بعد جملة متقدمة لا تكون إلا للاستثناء حقيقة، وإنما يحمل في بعض المواضع على الابتداء والاستيناف أيضا ضرورة على سبيل المجاز، وليس لنا أن نعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة وادعاؤه أن الذي يوجب إخراج الكلام عن الاستثناء تناوله لبعد الموت مع أن المستثنى منه من حقه أن يتناول الحال، غير صحيح، لأن ذلك إنما كان يجب لو لم يكن لنا عنه مندوحة، فأما مع إمكان ما ذكرناه من تناول المستثنى منه للحال التي تعلق الاستثناء بها وإعطاء الاستثناء ما يقتضيه حقيقة من المطابقة لما تقدم فلا وجه لما ذكره من العدول عن الظاهر من الكلام وجعل

الصفحة 32   

ما ظاهره يقتضي الاستثناء لغيره.

فأما قوله: " وكان يجب أن لا يدخل تحت الخبر منزلة يستحقها أمير المؤمنين عليه السلام في الحال " فإن ذلك واجب على قول من جعل الاستثناء متعلقا ببعد الموت لا ببعد النبوة لأن الغرض عندهم بهذا الخبر النص على الإمامة بعد الوفاة، فإذا بينوا أن الخبر يقتضيها فقد تم الغرض وإن كان من يجب له منزلة الإمامة لا بد أن يكون في الحال على أحوال من الفضل وغيره لا يقتضيها في الحال ظاهر اللفظ، ولم نجده عول في إبطال قول من ذكرناه على أكثر من ادعاء بطلانه وفساده من غير إيراد ما يجري مجرى الحجة أو الشبهة، وأما على قول من جعل النفي متعلقا ببعد النبوة وعم به أحوال الحياة والوفاة فإنه يجعل ظاهر الخبر مقتضيا لإثبات جميع المنازل بعد ما أخرجه الاستثناء في الأحوال التي تعلق نفي النبوة بها وهي أحوال الحياة والوفاة معا ولا يخص بذلك المستثنى منه دون المستثنى على ما سأل صاحب الكتاب نفسه عنه، ونقول: متى أخرجت منزلة الإمامة من الثبوت في جميع حال الحياة أو من الاستمرار في جميع أحوال الوفاة فالدليل اقتضى الانصراف عن الظاهر يجب العمل به والتمسك بما عداه من مقتضى الظاهر، وإذا قيل له: فاجعل الاثبات متعلقا بالحياة خاصة والنفي مختصا بالوفاة أو عاما للأمرين ولا يوجب المطابقة قياسا على ما استعملته من التخصيص قال: ليس يجب إذا اضطررت إلى تخصيص ما لا بد له وإن كان ظاهر الكلام يقتضي خلافه إن التزم تخصيصا لا دلالة تقتضيه فقد بطل بما أوردناه جميع كلامه في الفصل على جملة وتفصيل.

قال صاحب الكتاب: " فإن قال: إن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ليس بأن يتناول الحال بأولى من المستقبل فيجب أن يحمل الاستثناء على ظاهره، لأنه لا فرق بين أن يخرج من الكلام ما لولاه

الصفحة 33   

لثبت في الحال، أو ما لولاه لثبت في المستقبل، قيل له: إن ظاهر هذا الكلام لا يقتضي إلا الحال، وإنما يقتضي المستقبل من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، ومن حق الاستثناء أن يعود إلى اللفظ لا إلى المعنى فلا يصح ما ذكرته، يبين ما ذكرناه أنه لو تغيرت منزلته في المستقبل لم يبطل حكم اللفظ، ولو كانت منزلته غير حاصلة في الحال لبطل حكم اللفظ، فعلمنا أن الذي يقتضيه الظاهر هو الحال وإنما يحكم بدوامه من جهة المعنى، وذلك يبين صحة ما ذكرناه، على أنه لو جعل ذلك دلالة على ضد ما قالوه بأن يقال: لم يكن لهارون من موسى منزلة الإمامة بعده البتة، فيجب إذا كان حال علي عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله حال هارون من موسى أن يكون إماما بعده لكان أقرب مما تعلقوا به، لأنهم راموا إثبات منزلة مقدرة ليست حاصلة بهذا الخبر، فإن ساغ لهم ذلك ساغ لمن خالفهم أن يدعي أن الخبر يتناول نفي الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله من حيث لم يكن ذلك لهارون بعد موسى، ومتى قالوا: ليس ذلك مما يعد من المنازل فيتناوله الخبر، قلنا بمثله في المقدر الذي ذكروه.

وبعد، فإنه يقال لهم: قد ثبت من منزلة هارون من موسى الشركة في النبوة في حال حياته، والذي كان له منزلة الإمامة بعده يوشع بن نون فلو أراد عليه السلام بهذا الخبر الإمامة لكان يشبه منزلته منه بمنزلة يوشع ابن نون من موسى وهذا يبين أن مراده عليه السلام ما ينفيه من بعد مما يقتضي إثباته في الحال فقط،... " (1) يقال له: إنا لا نسألك عن هذا السؤال الذي أوردته على نفسك ومع إنا لا نسألك عنه فقد أجبت عنه بما ليس بصحيح، لأن مجرد اللفظ الذي يقتضي الاثبات من الخبر لا يقتضي بظاهره لا الحال ولا المستقبل،

____________

(1) المغني: 20 ق 1 / 16.

الصفحة 34   

وإنما يرجع في ذلك إلى غير ما يقتضيه لفظ الاثبات، ولهذا يرجع أصحابنا في تعلق الاثبات بالوفاة أو بحال الوفاة والحياة معا إلى الاستثناء، وكما إن المنزلة لو تغيرت في المستقبل على ما ذكرت لم يبطل حكم اللفظ فكذلك لو لم يحصل في الحال لما بطل أيضا حكم اللفظ لأن النبي صلى الله عليه وآله لو دلنا عند خطابه لنا بالخبر على أن مراده به إثبات المنازل في حال منتظرة لم يكن القول مجازا ولا بطل حكم لفظه، وإنما يصح ما ادعيته لو كان إطلاق القول يقتضي الحال وهذا غير مسلم ولم نرك دللت عليه بأكثر من دعواك بطلان حكم اللفظ، وهذه دعوى باطلة.

فأما ادعاؤه اقتضاء الخبر لنفي الإمامة من حيث لم يكن هارون بعد وفاة موسى إماما (1) وقوله: " إنه لم يكن بهذه الصفة منزلة " فبعيد من الصواب لأن هارون وإن لم يكن خليفة لموسى بعد وفاته، فقد دللنا على أنه لو بقي لخلفه في أمته، وإن هذه المنزلة وإن كانت مقدرة يصح أن تعد في منازله، وإن المقدر لو تسامحنا (2) بأنه لا توصف المنزلة لكان لا بد من أن يوصف ما هو عليه من استحقاق الخلافة بعده بأنه منزلة لأن التقدير وإن كان في نفس الخلافة بعده فليس هو في استحقاقها، وما يقتضي وجوبها، وإذا ثبت ذلك فالواجب فيمن شبهت حاله بحاله، وجعل له مثل منزلته إذا بقي إلى بعد الوفاة أن تجب له الخلافة ولا يقدح في ثبوتها له أنها لم تثبت لهارون بعد الوفاة، ولو كان ما ذكروه صحيحا لوجب فيمن قال لوكيله: اعط فلانا في كل شهر إذا حضرك دينارا ثم قال في الحال أو بعدها بمدة: وأنزل فلانا منزلته، ثم قدرنا أن المذكور الأول لم يحضر

____________

(1) خ " وجعله ".

(2) خ " تسمحنا ".

الصفحة 35   

المأمور لعطيته (1) ولم يقبض ما جعله له من الدينار أن يجعل الوكيل إن كان الأمر على ما ادعاه صاحب الكتاب تأخر المذكور الأول طريقا إلى حرمان الثاني العطية، وأن يقول له: إذا كنت إنما أنزلت منزلة فلان وفلان لم يحصل له عطية، فيجب أن لا يحصل لك أيضا، وفي علمنا بأنه ليس للوكيل ولا غيره منع من ذكرنا حاله، ولا أن يعتل في حرمانه بمثل علة صاحب الكتاب دليل على بطلان هذه الشبهة على أن النفي وما جرى مجراه لا يصح وصفه بأنه منزلة وإن صح وصف المقدر الجاري مجرى الاثبات بذلك إذا كان سبب استحقاقه ووقوعه ثابتا ألا ترى أنه لا يصح أن يقول أحدنا: فلان مني بمنزلة فلان من فلان في أنه ليس بأخيه ولا شريكه ولا وكيله ولا فيما جرى مجراه من النفي، وإن صح هذا القول فيما يجري مجرى المقدر من أنه إذا شفع إليه شفعه، وإذا سأله أعطاه، ولا يجعل أحد أنه لم يشفع إذا كان ممن لو شفع لشفع (2) منزلة يقتضي فيمن جعل له مثل منزلته بأن لا يجاب شفاعته.

فأما الاعتراض بيوشع بن نون، فقد أجاب أصحابنا عنه بأجوبة:

أحدها: أنا إذا دللنا على أن الخبر على صورته هذه دال على الإمامة، ومقتض لحصولها لأمير المؤمنين عليه السلام كدلالته لو تضمن ذكر يوشع بن نون فإلزامنا مع ما ذكرناه أن يرد على خلاف هذه الصورة اقتراح في الأدلة، وتحكم، لأنه لا فرق في معنى الدلالة على الإمامة بين وروده على الوجهين وإنما كان لشبهتهم وجه لو كان متى ورد غير متضمن لذكر يوشع لم يكن فيه دلالة على النص بالإمامة، فأما والأمر بخلاف ذلك فقولهم ظاهر البطلان لأنه يلزم مثله في سائر الأدلة.

____________

(1) لتعطيه خ ل.

(2) خ " لم يشفع ".

الصفحة 36   

وثانيها: أنه عليه السلام لما قصد إلى استخلافه في حياته وبعد وفاته لم يجز أن يعدل عن تشبيه حاله بحال هارون من موسى لأنه هو الذي خلفه في حياته، واستحق أن يخلفه بعد وفاته ويوشع بن نون لم يحصل له هاتان المنزلتان ففي ذكره، والعدول عن ذكر هارون إخلال بالغرض.

وثالثها: أن هارون كانت له مع منزلته الخلافة في الحياة والاستحقاق لها بعد الوفاة منزلة التقدم على سائر أصحاب موسى وكونه أفضلهم بعده وهذه منزلة أراد النبي صلى الله عليه وآله إيجابها لأمير المؤمنين عليه السلام ولو ذكر بدلا من هارون يوشع بن نون لم تكن دالا عليها.

ورابعها: إن خلافة هارون لموسى عليهما السلام نطق بها القرآن وظهر أمرها لجميع المسلمين، وليس خلافة يوشع بن نون لموسى عليه السلام بعده ثابتة بالقرآن، ولا ظاهرة لكل من ظهر له خلافة هارون فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يوجب له الإمامة بالأمر الواضح الجلي الذي يشهد به القرآن ولا يعترض فيه الشبهات، على أن يوشع بن نون لم يكن خليفة لموسى عليه السلام بعده فيما يقتضي الإمامة، وإنما كان نبيا بعده مؤديا لشرعه وخلافته فيما يتعلق بالإمامة كانت في ولد هارون، فليس للمخالف أن يقول: إن حصول الإمامة في ولد هارون غير معلوم من طريق يقطع عليه، لأن المرجع فيه إلى أخبار الآحاد، أو إلى قول اليهود الذي لا حجة فيه، وليس هكذا حكم نبوة يوشع بن نون لأنه لا خلاف بين المسلمين في أنه كان نبيا بعد موسى عليه السلام لأنا نقول له: اعمل على أن الأمر كما ذكرت أليس وإن علمنا بنبوة يوشع بعد موسى فإنا غير عالمين بأن الإمامة كانت إليه، وأنه كان المتولي لما يقوم به الأئمة فلا بد من

الصفحة 37   

نعم، فنقول له: فهذا القدر كاف في إبطال سؤالكم لأنا وإن لم نعلم أن الإمامة كانت في ولد هارون من بعد موسى فلم نعلم أيضا أنها كانت إلى يوشع بن نون مضافة إلى النبوة، فكيف يقال لنا: إن النبي صلى الله عليه وآله لو أراد الإمامة لقال أنت مني بمنزلة يوشع بن نون؟

قال صاحب الكتاب: " على أنه يقال لهم: ومن أين أن هارون لو عاش بعد موسى لكان خليفته؟ فإن قالوا: إذا كان خليفته في حال حياته وجب مثله بعد وفاته، قيل لهم: أتقولون: إن الخلافة في حال الحياة تقتضي الخلافة بعد الموت لا محالة، أو يحتاج في كونه خليفة له بعد وفاته إلى أمر آخر، فإن قالوا: يقتضي ذلك، قيل لهم: فيجب لو قيده بحال الحياة أن يكون خليفته بعد الموت، وأن لا يفترق الحال بين المقيد منه والمطلق ولا فرق بين من قال إن خلافته منه عليه السلام سنة تقتضي الخلافة فيما بعد وبين من قال مثله (1) في الوكالة والإمارة وغيرهما... " (2).

ثم ذكر بعد هذا كلاما لا نرتضيه ولا نتعلق به إلى أن قال:

" وبعد فمن أين أنه كان خليفته على وجه ثبت بقوله حتى لولا هذا القول لم يكن خليفة على قوله؟ بل ما أنكرتم أن يكون إنما قال ذلك فعن قوله:

(اخلفني في قومي) استظهارا كما قاله له: (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) استظهارا يبين ذلك أن المتعالم من حاله أنه كان شريكه في النبوة، ولا يجوز ذلك إلا ويلزمه عند غيبة موسى أن يقوم بأمر قومه، وإن لم يستخلفه كما يلزمه إذا استخلفه، وما هذه حاله لا يعد في التحقيق

____________

(1) في المغني " ولا فرق بين قال ذلك وبين من قال بمثله في الوكالة والإمارة وغيرها ".

(2) المغني 20 ق 1 / 165.

 

 

 

 

الصفحة 38   

خلافة لأن الوجه الذي له كان يقوم بهذه الأمور كونه نبيا معه لا خلافته له،.... " (1).

يقال له: قد مضى فيما سلف من كلامنا أنا لا نحتاج في إثبات النص بهذا الخبر على الطريقتين معا إلى إثبات أن هارون لو بقي بعد موسى لخلفه ولا إلى أنه كان خليفة له في حياته على وجه يثبت بقوله، وبينا أن طاعة هارون إذا كانت واجبة على قوم موسى بعد وفاته كما كانت واجبة في حياته، وإن كان جهة وجوبها له هي النبوة فهي منزلة يصح أن تجعل لغيره وإن لم يكن نبيا وأبطلنا قول من ظن أن في استثناء النبوة استثناء هذه المنزلة بما نحن أغنياء عن إعادته فلو أعرضنا عن نقل ما تضمنه الفصل الذي حكيناه لم يكن إعراضنا مخلا بصحة ما نصرناه من الطريقين جميعا في إثبات النص على أنا نقول له: قد دللنا أيضا على أن هارون لو بقي بعد موسى عليه السلام لكان خليفته والقائم بأمر أمته بما لا يطعن فيه كلامك هذا الذي حكيناه، لأنا قد بينا أن خلافته له لو وجبت في حال دون حال مع علمنا بأنها منزلة في الدين جليلة، ورتبة فيه عظيمة، لاقتضى نفيها بعد ثبوتها من التنفير أكثر مما يقتضيه جميع ما ينفيه خصومنا عن الأنبياء عليهم السلام لمكان التنفير فلا بد من القول بأن خلافته في حال حياته اقتضت الخلافة بعد الموت من الوجه الذي ذكرناه، والذي قدره من التقييد بحال الحياة دون غيرها باطل، لأن موسى عليه السلام أعلم منا بما قلناه من اقتضاء نفي الإمامة بعد ثبوتها للتنفير، فكيف يجوز أن يفيد الخلافة بحال دون حال؟ وكيف يسوغه الله تعالى ذلك وهو لا ينطق إلا عن وحيه؟ ولو جاز فيما يقتضي النبوة استمراره التقييد والاختصاص لجاز مثله في نفس النبوة، فكأنا نقول لصاحب

____________

(1) المغني نفس الصفحة.

الصفحة 39   

الكتاب: لو قيد موسى عليه السلام الخلافة بحال دون حال لوجبت على الوجه الذي تعلق كلامه به، غير أن ذلك لا يجوز أن يفعله عليه السلام لما ذكرناه، وليس ما عارض به من الوكالة والإمارة بشئ، لأنا إنما أوجبنا استمرار خلافة هارون وأبطلنا التخصيص فيها والتقييد لأمر لا يثبت في الأمير والوكيل ومن يجري مجراهما، لأن ولاية هؤلاء يصح فيها العزل والتقييد وضروب التخصيص، ولا يؤدي إلى التنفير الذي منعنا منه في هارون عليه السلام.

فأما الدلالة على أن هارون كان خليفة موسى عليه السلام على وجه يثبت بقوله، فهو القرآن والاجماع قال الله تعالى حكاية عن موسى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي) والظاهر من الاستخلاف حصول الولاية للمستخلف بالقول على طريق النيابة عن المستخلف، ولهذا لا يصح للانسان أن يقول لغيره: اخلفني في نفقة عيالك، والقيام بالواجب عليك من أمر منزلك، أو اخلفني في أداء فروضك وعباداتك، وقد يجوز أن يأمره بما يجب عليه على سبيل التأكيد فيقول له: اطع ربك وأقم صلاتك، وأخرج مما يجب من زكاتك، فقد بان الفرق بين قوله:

(وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) في وقوعه على سبيل التأكيد وبين قوله: (اخلفني في قومي) في أنه ظاهرة تقتضي ولاية تثبت بهذا القول على جهة النيابة وليس لأحد أن يمنع من التعلق بظاهر قوله: (اخلفني في قومي) بأن يقول: إنه حكاية لكلام موسى وليس هو نفس كلامه فكيف يصح التعلق بظاهره لأنه وإن لم يكن حكاية للفظ موسى بعينه فهو مفيد لمعنى كلامه ومراده، فلا بد من أن يكون موسى أراد بما هذا الكلام حكايته معنى الاستخلاف الذي نعقله، ونستفيد منه المعنى الذي تقدم ذكره، لأنه لو لم يكن المراد ما ذكرناه لم نفهم بحكايته تعالى عن موسى شيئا وساغ لقائل أن يقول في قوله تعالى حكايته عنه: (واجعل لي وزيرا

الصفحة 40   

من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) (1) أنه لم يرد بسؤاله ما نعقله من معنى الوزارة والشركة، بل أراد غيره من حيث لم يكن لفظ موسى نفسه محكيا.

فأما الإجماع فدلالته أيضا على ما ذكرناه ظاهرة لأنه لا خلاف بين الأمة في أن هارون كان خليفة لموسى ونائبا عنه وتابعا لأمره ونهيه، وظاهر إجماعهم على الاستخلاف والنيابة يقتضي ما تقدم ذكره فأما قوله: " إنه إذا كان شريكه في النبوة فلا بد من أن يلزمه عند غيبته أن يقوم بأمر قومه وإن لم يستخلفه " فغلط ظاهر لأنه لا ينكر وإن كان شريكا له في النبوة أن يختص موسى عليه السلام دونه بما تقوم به الأئمة من إقامة الحدود وما جرى مجراها، لأن مجرد النبوة لا يقتضي هذه الولاية المخصوصة، وإذا كان هذا جائزا لم يجب أن يقوم هارون عند غيبة أخيه بهذه الأمور لأجل نبوته، ولم يكن من الاستخلاف له ليقوم بذلك بد لأنه لو لم يستخلفه في الابتداء لو استخلف غيره كان جائزا.

فإن قيل: قد بنيتم كلامكم على أن الشركة في النبوة لا تقتضي الولاية على ما تقوم به الأئمة وأن من الجائز أن ينفرد موسى عليه السلام بهذه الولاية عن أخيه فاعملوا على أن ما ذكرتموه جائز من أين لكم القطع على هذه الحال وأن هارون إنما تصرف فيما يقوم به الأئمة لاستخلاف موسى له لا لمكان نبوته.

قلنا: الغرض بكلامنا في هذا الموضع أن نبين جواز ما ظن المخالفون أنه غير جائز والذي نقطع به على أحد الجائزين هو ما قدمنا ذكره من دلالة الآية والاجماع.

____________

(1) طه 29 - 32.

الصفحة 41   

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فغير واجب فيمن يكون شريكا لموسى في النبوة أن يكون هو القائم (1) بعد وفاته بما يقوم به الإمام، بل لا يمتنع في التعبد أن يكون النبي منفردا بأداء الشرع وتعليمه وبيانه فقط، والذي يقوم بالحدود والأحكام والسياسة الراجعة إلى مصالح الدنيا غيره، كما يروى في أخبار طالوت وداود، يبين ذلك أن القيام بما يقوم به الإمام تعبد وشرع، فإذا جاز من الله تعالى أن يبعث نبيا ببعض الشرائع دون بعض فما الذي يمنع من أن يحمله الشرع ولا يجعل إليه (2) هذه الأمور أصلا ". ثم قال بعد سؤال لا نسأله عنه " وبعد فإنه يقال لهم: إذا كان سبب الاستخلاف الغيبة فما أنكرتم أنها إذا زالت زال الاستخلاف بزوالها ويكون اللفظ وإن كان مطلقا في حكم المقيد لأن السبب والعلة فيما يقتضيانه أقوى من القول فيما حل هذا المحل وعلى هذا الوجه جرت العادة من الرسول أنه كان يستخلف بالمدينة عند الغيبة الواحد من أصحابه فإذا عاد زال حكم الاستخلاف كما روي في ابن أم مكتوم (3) وعثمان وغيرهما

____________

(1) في " المغني " والمخطوطة " القيم ".

(2) غ " ولا يجعل الله ".

(3) في " المغني " ابن أم كلثوم، ولا أدري كيف يكون مثل هذا الخطأ في كتاب حققه شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود، وأستاذ الفلسفة فيه الدكتور سليمان دنيا، وراجعه الدكتور إبراهيم مدكور، وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ولولا عشرات بل مئات الأخطاء وقعت في هذا الكتاب لما ذكرت هذا.

أما ابن أم مكتوم فهو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي العامري الأعمى المؤذن وأمه أم مكتوم اسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم وهو ابن خال خديجة بنت خويلد فإن أم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير وقيل بعد بدر، وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله على المدينة في بعض غزواته مرتين وقيل ثلاث عشرة مرة وسنشير إلى ذلك قريبا وشهد فتح القادسية وكان معه اللواء وقتل بالقادسية، وقيل رجع منها إلى المدينة فمات (انظر أسد الغابة 4 / 127).

الصفحة 42   

يبين ذلك أن استخلافه في حال الغيبة يقتضي أنه خليفته في موضع دون موضع (1) لأنه لا يجوز أن يكون خليفته في المكان الذي غاب إليه وإنما يكون خليفته في الموضع الذي غاب عنه، فلو قلنا: إن ذلك يقتضي كونه خليفة بعد موته لاقتضى أن يكون خليفة في الكل، واللفظ الأول لم يقتضه، وهذا يبين أن ذلك لا يقع إلا مقيدا.،... " (2).

يقال له: أول ما في كلامك أنه ناقض لما حكيناه عنك قبل هذا الفصل من قولك: " إن هارون لا يجوز أن يكون شريكا لموسى عليه السلام في النبوة إلا ويلزمه عند غيبته أن يقوم بأمر قومه لمكان نبوته وإن لم يستخلفه " لأنك جوزت هاهنا أن يكون موسى عليه السلام منفردا بما يقوم به الإمام مضافا إلى الأداء والتبليغ، ويكون هارون مشاركا في الأداء والتبليغ دون غيره، وهذا يقتضي حاجته إلى الاستخلاف فيما يقوم به الأئمة.

فإن قلت: إنني لم أطلق ما ذكرتموه وإنما قلت: غير واجب فيمن يكون شريكا لموسى عليه السلام في النبوة أن يكون هو القيم بعد وفاته بما يقوم به الإمام.

قلنا: لا فرق بين ما قلته وحكيناه لأن ما يقوم به الأئمة لو كان من مقتضى النبوة على ما دل كلامك عليه في الفصل الأول لم يجز فيمن كان شريكا لموسى في النبوة أن يبقى بعده ولا يقوم بذلك مع ثبوت المقتضي الذي هو النبوة وإذا أجزت في شريك موسى في النبوة أن يبقى بعده ولا يتولى ما يقوم به الأئمة، فلا بد أن يجوز مثله في حياته لأنه إذا لم يكن من مقتضى النبوة جاز في الحالين، وإذا جاز فيهما صح ما حكيناه من تجويزك

____________

(1) غ " في حال دون حال النبي عليه السلام ".

(2) المغني 20 ق 1 / 166 - 167.

الصفحة 43   

انفراد موسى بما يقوم به الأئمة، وإن كان هارون شريكه في النبوة، وليس لك أن تقول: إنني إنما عنيت بكلامي الأول أن هارون يلزمه عند غيبة موسى أن يقوم بأمر قومه على وجه التبليغ والأداء اللذين تقتضيهما النبوة، لأنك لو أردت ذلك لكنت متكلما على غير ما نحن فيه لأنا لم نقل ولا أحد من الناس: إن هارون لو بقي بعد موسى لكان خليفة له في الأداء والتبليغ اللذين هما من مقتضى النبوة فيكون كلامك مبطلا لذلك، وإنما أوجبنا أن يكون خليفته بعد وفاته على قومه فيما يقوم به الأئمة، فلا بد أن يكون مرادك بالكلام الأول ما ذكرناه، ثم نقول: إن الذي ذكرته من جواز انفراد موسى بما يقوم به الأئمة دون هارون، وإنه غير واجب فيما كان شريكه في النبوة أن يكون شريكه في القيام بهذه الأمور في حياته وبعد وفاته، صحيح سديد غير أنه وإن كان غير واجب في الابتداء لما ذكرته فليس يجوز بعد حصوله لهارون أن يخرج عنه ويصرف عن توليه لما ذكرناه من اقتضائه التنفير الذي يمنع النبوة منه.

فأما التعلق بالسبب وإنه كان الغيبة فغير مؤثر لأن أكثر ما يقتضيه السبب تعلق الكلام به، ومطابقته له، وليس بموجب أن لا يتعداه و يتجاوزه، فإذا سلم أن الغيبة كانت السبب في استخلاف هارون لم ينكر ثبوت الخلافة له بعدها لما بيناه، ألا ترى أن موسى عليه السلام لو قال لأخيه مع أن السبب كان الغيبة: اخلفني في قومي في الغيبة والحضور وفي حياتي، وبعد وفاتي وعلى كل حال لم يكن كلامه منافيا للسبب.

فأما ما روي من استخلاف النبي صلى الله عليه وآله ابن أم مكتوم وعثمان ومن جرى مجراهما فإنا لم نعلم زوال ولايتهم وانقطاعها باعتبار زوال السبب على ما ظنه، بل لأمر زائد لأنه لا خلاف بين الأمة في انقطاع ولاية هؤلاء وعدم استمرارها، على إنا لا نتعلق على هذه الطريقة

الصفحة 44   

باستخلاف أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة في وجوب الإمامة فيما بعد، بل بما بيناه من مقتضى الخبر ووجه دلالته، فإن أراد صاحب الكتاب بما ادعاه من سبب الاستخلاف استخلاف الرسول صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة فقد بينا ما فيه، وإن أراد استخلاف موسى أخاه فقد ذكرنا ما يخص هذا الوجه أيضا، وإن كان عاما للأول من أن السبب لا يقتضي قصر الكلام عليه.

فأما قوله: " إن الاستخلاف في الغيبة يقتضي أنه خليفة في موضع دون موضع " إلى آخر الفصل، فلو سلمنا اختصاص الاستخلاف في الغيبة على ما ادعاه مع أنه غير واجب لثبت أيضا ما نريده لأنه إذا ثبت لهارون بعد أخيه من الإمامة والخلافة وإن كانتا مخصوصتين ما كان ضائرا لما دللنا عليه من قبل، وأوجبه الخبر لأمير المؤمنين عليه السلام مثل هذه المنزلة، وصح ما نقصده لأن الأمة مجمعة على أن كل من وجب له بنص الرسول صلى الله عليه وآله بعد وفاته إمامة في بعض المواضع فهو الإمام في جميعها على سبيل العموم، فلو لم يكن اللفظ يقتضي ما ذكرناه لكان هذا الاعتبار يقتضيه.

وربما سئلنا عن نظير هذا السؤال بأن يقال: إن هارون إنما كان خليفة لموسى على بعض قومه دون بعض، لأنه كان خليفة له على ما خلفه ولم يستصحبه، فكيف توجبون بنظير هذه المنزلة الإمامة على جميع الناس.

والجواب عن ذلك، هو الجواب عن الأول بعينه، وكل هذا الكلام إنما نتكلفه إذا كان تعلقنا باستخلاف موسى لهارون عليه السلام، فأما إذا ما رجعنا إلى ما تقتضيه نبوته من فرض الطاعة وعمومها لجميع المواضع ولسائر أمة موسى على الطريقة التي بينا فيما سلف لم يلزمنا شئ من كلامه ولم نحتج إلى أكثر ما تكلفناه معه.

الصفحة 45   

قال صاحب الكتاب: " على أنه يقال لهم: إن هارون لو عاش بعد موسى لكان الذي يثبت له أن يكون كما كان من قبل، وقد كان من قبل أن يقوم بهذه الأمور لنبوته فيجب إذا لم تبطل نبوته بموت موسى أن يكون له أن يقوم بذلك، فإن كنتم توجبون لعلي عليه السلام مثل ذلك فيجب أن يكون بعد موته عليه السلام إماما له أن يقوم (1) بذلك كما كان (2) وقد علمنا أنه لم يكن إماما في حياة الرسول صلى الله عليه وآله ولا كان له أن يقوم بهذه الأمور على الوجه الذي يقوم به الإمام، فيجب أن يكون حاله بعد موته كما كان، لأن هذه المنزلة هي التي كانت لهارون من موسى عليه السلام يبين ذلك أنه في حياته (3) كان له أن يقوم بهذه الأمور والحال حال شركة فبأن يكون له أن يقوم بذلك بعد وفاته أولى، فلما ثبت ذلك له على الحد الذي كان لا على وجه مخالف له فيجب مثله لعلي عليه السلام وهذا بأن يقتضي نفي الإمامة أولى من أن يقتضي إثباتها،... " (4).

يقال له: لم زعمت أن هارون لو بقي بعد موسى لكان إنما يجب أن يقوم بما يقوم به الأئمة لموضع نبوته، أوليس قد بينا فيما سلف من كلامنا أن هذه المنزلة منفصلة من النبوة، وأنه لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله من حيث كان نبيا لا يتولاها ولا يجب له القيام بها، واعترفت في بعض ما حكيناه من كلامك بذلك، فقلت: " إنه غير واجب فيمن يكون شريكا لموسى في النبوة أن يكون هو القيم بعد وفاته بما يقوم به الإمام " غير أن الذي ذكرته وإن كان ليس بصحيح، يمكن أن يرتب

____________

(1) " إماما له أن يقوم " ساقطة من المغني.

(2) في المغني " حاله كما كان ".

(3) غ " في حال حياته ".

(4) المغني 20 ق 1 / 167.

الصفحة 46   

الكلام عليه على وجه يلزم معه الانفصال، فيقال: إذا كنتم قد صرحتم فيما مضى من كلامكم بأن استخلاف موسى لأخيه هارون لو لم يثبت لكان استدلالكم على النص مع فقده متوجها باعتبار ما يجب لهارون من فرض الطاعة على أمة موسى في حياته، ووجوب استمرار ذلك لو بقي إلى بعد وفاته، وإن كان من مقتضى النبوة، وقلتم: إنه غير واجب فيمن جعل له مثل منزلة هارون من موسى في باب فرض الطاعة أن يكون مشاركا له في سبب هذه المنزلة، فقد ثبت من هذا الوجه أن هارون كان يجب له فرض الطاعة بعد موسى لمكان نبوته على سبيل الاستمرار لا التجدد، ويلزمكم الجواب.

ويمكن أن يتوجه من وجه آخر وهو أن هارون إذا كان خليفة لموسى حال حياته وأوجبتم خلافته لو بقي بعده لما ذكرتموه من التنفير، فلا بد من ثبوت الخلافة في جميع أحوال الحياة على استقبال استخلاف أخيه له بالوجه الذي أوجبتم به حصولها بعد الوفاة، وإذا حصلت هذه المنزلة لهارون مستمرة غير متحدة ولم يمكن بأن تجعلوا حال أمير المؤمنين عليه السلام فيها كحاله لزمكم الكلام والجواب عن السؤال إذا رتب الترتيب الذي ذكرناه هو أنه لا معتبر في ثبوت منزلة الخلافة لهارون بعد وفاة أخيه لو بقي إليها باستمرار هذه المنزلة أو تجددها فلا فرق في الوجه الذي قصدناه بين الأمرين لأن منزلة الخلافة في الحياة كالمنفصلة من منزلة الخلافة بعد الوفاة، بل حصولها في كل حال كالمنفصل من الحال الأخرى لجواز أن يثبت في إحدى الحالتين ولا يثبت في الأخرى، وإذا كانت حال الخلافة في الحالين على ما ذكرناه من الانفصال لم يمتنع أن يقع التشبيه بإحداهما دون الأخرى ويجعل للمشبه بهارون عليه السلام منزلة الوفاة دون ما يجب في الحياة، وليس معنى أن هارون لو بقي لوجب أن يكون كما كان أكثر من أن منزلة الخلافة كانت تثبت له في الحالين، وينضاف إلى ثبوتها في الحياة ثبوتها بعد الوفاة،

الصفحة 47   

وغير واجب فيمن جعل بمثابة هارون أن لا يصح ذلك فيه إلا بعد ثبوت المنزلتين له في كلتا الحالتين.

ومما يكشف عن صحة قولنا وبطلان ما اعتبره صاحب الكتاب أن أحدنا لو قال لغيره: أنت مني اليوم بمنزلة فلان من فلان، وكان أحد اللذين أشار إليهما وكيلا لصاحبه وكالة متقدمة مستمرة إلى الوقت الذي وقع فيه القول الذي حكيناه، لكان قد أوجب بكلامه كون من جعل له منزلة الوكيل وكيلا له على استقبال الوقت الذي ذكره، ولم يكن لأحد أن ينفي وكالته بأن يقول: إن الذي جعل له مثل منزلته حاله اليوم كحاله فيما تقدم، فيجب إذا جعلنا حال الآخر كحاله أن لا يكون وكيلا، بل كان المعترض بمثل هذا القول عند جميع العقلاء مستنقص الفهم والفطنة، لا لشئ إلا لما ذكرناه من أنه لا اعتبار باستمرار الوكالة وتجددها، والمعتبر بأن يثبت لمن جعل لغيره مثل منزلته في الحال التي أشير إليها وثبوتها فيما تقدم هذه الحال كانتفائها في الوجه المقصود بالقول، وكما أنه لا معتبر باستمرار المنزلة وتجددها فكذلك لا معتبر باختلاف سببها لأنا قد بينا فيما مضى أن التسوية بين الاثنين في العطية لا توجب اتفاق جهة عطيتهما، بل لا يمتنع أن يختلفا في الجهة والسبب وإن اتفقا في العطية، وإنما أوجبنا لأمير المؤمنين عليه السلام من المنازل منزلة الخلافة بعد الوفاة ولم نوجب استمرار الخلافة في الحياة لأن ما يمنع من إثبات إحدى المنزلتين لا يمنع من الأخرى، فأوجبنا ما لا يمنع الدليل منه باللفظ وأخرجنا ما منع منه، على أن في أصحابنا من ذهب إلى استمرار خلافة أمير المؤمنين عليه السلام واستحقاقه التصرف فيما يتصرف فيه الأئمة في الحال، من ابتداء وقوع النص عليه إلى آخر مدة حياته، غير أنهم يمتنعون من أن يسموه إماما، لأن الإمام هو الذي لا يد فوق يده، ولا يتصرف فيما يتصرف فيه الأئمة على سبيل الخلافة لغيره، والنيابة عنه، وهو حي فيمتنعون من تسميته

الصفحة 48   

عليه السلام بالإمامة في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله لما ذكرناه، ويجرون الاسم بعد الوفاة لزوال المانع، ومن ذهب إلى هذا المذهب فقد أثبت لأمير المؤمنين عليه السلام مثل ما يثبت لهارون من استمرار الخلافة وسقط عنه تكلف ما ذكرناه.

قال صاحب الكتاب: " وبعد فلو ثبت لعلي عليه السلام بالاستخلاف ما يقتضي كونه إماما بعده لوجب أن يكون له أن يقيم الحدود، ويقوم بسائر ما يقوم به الأئمة في حياته صلى الله عليه وآله من غير إذن وأمر، ونحن نعلم أن ذلك لم يكن له عليه السلام في حياته وأن حاله في أنه كان يفعل ذلك بأمر حال غيره، وكيف يمكنهم أن يقولوا: إنه بحق الاستخلاف يكون إماما بعده، فإن قالوا: نقول في ذلك ما تقولون في الإمام إذا استخلف غيره، قيل لهم: إن سبب الاستخلاف معتبر عندنا فإذا كانت الغيبة (1) كان له أن يقوم بهذه الأمور بعد الغيبة، وإذا كان السبب خوف (2) الموت فإنما يكون له ذلك بعد الموت ويكون حال حياته خارجة من الاستخلاف، كما أن حال المقام خارجة من الاستخلاف، وليس كذلك قولكم: لأنكم قلتم كما استخلفه عليه السلام في حال الحياة مطلقا (3) وجب أن يكون مستمرا إلى بعد الموت وذلك يوجب أن يكون إماما فلزمكم ما أوردناه عليكم لأنه لا يمكنكم أن تقولوا: قد استفاد بالموت ما لم يحصل له من قبل إذا كان إنما ثبت له الولاية باستمرار الولاية المتقدمة وأما نحن فإنما أوجبنا الولاية بالموت كما أوجبناها بالغيبة فصح لنا ما ذكرناه دونكم، وعلى هذا الوجه ألزم شيخنا أبو علي من استدل بهذا الخبر إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام في

____________

(1) غ " فإذا كان السبب الغيبة ".

(2) غ " حدث الموت ".

(3) غ " استخلافا مطلقا ".

الصفحة 49   

الحال (1) لأنه عليه السلام أثبت المنزلة في الوقت، وإنما تثبت فيما بعد على جهة الدوام والاستمرار لا على وجه التجدد، فإذا لم يصح كونه إماما في الوقت لما قدمناه من قبل فكيف يكون إماما من بعد؟ ونحن نعلم أنه لما خلفه عليه السلام بالمدينة لم يجز أن يقيم الحدود في غيرها ولا بحيث حضره الرسول ولا على الذين كانوا معه عليه السلام فكيف يجوز أن يعد ذلك إمامة ولو أن قائلا قال: إن الذي ثبت لأمير المؤمنين عليه السلام بحكم هذا القول الإمارة المخصوصة (2) فيجب بعد وفاته عليه السلام، أن يكون أميرا لا إماما * لكان أقرب، وليس يجب إذا لم يثبت أميرا يجب أن يكون إماما * (3) لأن نفي أحدهما لا يوجب إثبات الآخر، لأن لكل واحد منهما سببا يقتضيه، يبين ذلك أن عندهم أن الإمام إذا أمر أميرا على بلد ثم حضرته الوفاة فلم ينص عليه فغير واجب أن يكون إماما، يبين ذلك أنه قد يجوز أن يستخلف جماعة، ولا يجوز عندهم أن ينص في الإمامة على جماعة، " ثم قال: " واعلم أن من تعلق باستخلافه عليه السلام في ثبوت الإمامة له بعد موته فهو غير مستدل بالخبر لأن الخبر لو لم يثبت لكان يمكنه التعلق بذلك [ بأن يقول: قد صح أنه عليه السلام قد استخلفه مطلقا فيجب أن يكون خليفة أبدا، ولا يجب أن يكون كذلك إلا وهو إمام بعد وفاته ] (4) وإنما يكون متعلقا بالخبر متى احتاج إليه على وجه لولاه لما تم استدلاله، وذلك لا يكون إلا بأن يبين أن من منازل هارون (5) من موسى الإمامة في المعنى أو اللفظ كائنا أو مقدرا،... " (6).

____________

(1) غ " إثبات أمير المؤمنين إماما في الحال ".

(2) غ " المخصوصة دون الإمامة ".

(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(4) التكملة من " المغني ".

(5) غ " إلا أن ينزل منازل هارون ".

(6) المغني 20 ق 1 / 169.

الصفحة 50   

يقال له: نراك قد خلطت في كلامك هذا بين الكلام على من تعلق بالاستخلاف على المدينة وأوجب استمراره وبين الكلام على الخبر الذي نحن في تأويله فقد بينا أنه لا تعلق لأحد الأمرين بالآخر فما الذي أردت بقولك: " لو اقتضى الاستخلاف كان إماما بعده لكان له أن يقيم الحدود وغيرها في حياته " فإن كنت تريد أن الاستخلاف على المدينة كان يقتضي ما ذكرته، فقد علمت أن كلامنا الآن معك على غيره، لأنا في تأويل قوله عليه السلام: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وبيان موضع النص فيه، وإن أردت أن الخبر لو اقتضى الإمامة بعد الوفاة لوجب ما ادعيته، فمن أين توهمت ذلك؟ وقد كان يجب أن تبين الوجه فيما ظننته، أوليس قد بينا أن منزلة الإمامة تثبت لأمير المؤمنين عليه السلام بالخبر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله على سبيل التجدد لا الاستمرار! وقلنا: إن هارون عليه السلام وإن كان مفترض الطاعة في حياة موسى لأجل نبوته ولاستخلاف أخيه له وتثبت له الخلافة من بعد لو بقي بعد ثبوتها فيما مضى وعلى سبيل الاستمرار فليس يجب مثل ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام، وأكثر ما في الباب أن تكون الخلافة في أحوال الحياة على سبيل الاستمرار منزلة من منازل هارون منع من إثباتها لأمير المؤمنين عليه السلام دليل كما منع من غيرها، وقد قلنا: أيضا أن من ذهب من أصحابنا إلى استمرار خلافة أمير المؤمنين عليه السلام في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله يسقط عنه هذا الكلام جملة، لأنه يذهب إلى أن إقامة الحدود وما جرى مجراها مما كان له عليه السلام أن يقوم به في تلك الحال على سبيل الخلافة للرسول، فليس قول صاحب الكتاب: " ونحن نعلم أن ذلك لم يكن إليه " بحجة على من قال به ممن ذكرناه، لأنه لم يبين من أين علم ما ادعاه فليس قوله: " لو كان عليه السلام في تلك الأحوال القائم بالحدود وتنفيذ الأحكام لوجب أن ينفذ توليته لها وفعله فيها وأن يظهر ظهورا يشترك سامعوا الأخبار

الصفحة 51   

في علمه لأنه غير ممتنع أن يكون عليه السلام إليه القيام بهذه الأمور ويمسك عن توليها في تلك الحال لبعض الأغراض والأسباب المانعة، وليس معنى قولنا: أن فلانا إليه كذا وكذا، أنه لا بد من أن يقوم بذلك الأمر ويتولى التصرف فيه، وإنما معناه أن التصرف متى وقع منه كان مستحقا حسنا، ولهذا نجد بعض الأئمة والأمراء يمتنعون من التصرف في بعض الأحوال لعارض، ويكون ما يستحقونه من الولاية بحاله والذي حكاه عن شيخه أبي علي من الالزام قد سقط بجملة كلامنا.

وقوله: " إذا لم يصح كونه إماما في الوقت فكيف يكون إماما بعده ".

فعجب في غير موضعه لأن ما ذكرناه من الفرق بين الحالين وإن ما منع من إثبات الإمامة في أحدهما لا يمنع من إثباتها في الأخرى يزيل التعجب.

فأما قوله: " إنه صلى الله عليه وآله لما خلفه بالمدينة لم يكن له إن يقيم الحدود في غيرها وإن مثل ذلك لا يعد إمامة " فهو كلام على من تعلق بالاستخلاف لا في تأويل الخبر وقد بينا ما هو جواب عنه فيما تقدم وقلنا:

أنه إذا ثبت له عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فرض الطاعة، واستحقاق التصرف بالأمر والنهي في بعض الأمة، وجب أن يكون إماما على الكل لأنه لا أحد من الأمة ذهب إلى اختصاص ما يجب له في هذه الحال، بل كل من أثبت له هذه المنزلة أثبتها عامة على وجه الإمامة لا الإمارة، فكان الإجماع مانعا من قوله: " فيجب أن يكون بعد وفاته صلى الله عليه وآله أميرا لا إماما " ولم يقل ما ذكرناه من جهة أن نفي الإمارة يقتضي إثبات الإمامة كما ظن، بل لما بيناه من أن وجوب فرض الطاعة إذا ثبت وبطل أن يكون أميرا مختص الولاية بالاجماع، فلا بد من أن يكون إماما لأن الإمارة أو ما جرى مجراها من الولايات المختصة إذا انتفت مع ثبوت وجوب الطاعة فلا بد من ثبوت الإمامة.

الصفحة 52   

فأما قوله: " إن التعلق بالاستخلاف على المدينة خارج عن الاستدلال بالخبر " فصحيح وقد ذكرنا فيما مضى أنه لا نسبة بين الأمرين، وعجبنا من إيراده ذلك في جملة ما حكاه عن أصحابنا من الطرق في الاستدلال بالخبر.

فإن قيل: فقد ذكرتم أن التعلق بالاستخلاف على المدينة طريقة معتمدة لأصحابكم فبينوا وجه الاستدلال بها.

قلنا: الوجه في دلالتها أنه قد ثبت استخلاف النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام لما توجه إلى غزوة تبوك ولم يثبت عزله عن هذه الولاية يقول من الرسول صلى الله عليه وآله، ولا دليل، فوجب أن يكون الإمام بعد وفاته لأن حاله لم يتغير.

فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون رجوع النبي إلى المدينة يقتضي عزله وإن لم يقع العزل بالقول.

قلنا: إن الرجوع ليس بعزل عن الولاية في عادة ولا عرف، وكيف يكون العود من الغيبة عزلا أو مقتضيا للعزل؟ وقد يجتمع الخليفة والمستخلف في البلد الواحد ولا ينفي حضوره الخلافة له، وإنما يثبت في بعض الأحوال العزل بعود المستخلف إذا كان قد علمنا أن الاستخلاف تعلق بحال الغيبة دون غيرها فيكون الغيبة كالشرط فيه ولم يعلم مثل ذلك في استخلاف أمير المؤمنين.

فإن عارض معارض بمن روى أن النبي صلى الله عليه وآله استخلفه كمعاذ (1) وابن أم مكتوم وغيرهما، فالجواب عنه قد تقدم، وهو أن

____________

(1) يريد معاذ بن جبل والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما انصرف من مكة سنة 8 استعمل على مكة عتاب بن أسيد وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس سيرة ابن هشام 4 / 143) ثم بعثه إلى اليمن (سيرة ابن هشام 4 / 237) وابن أم مكتوم استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله على المدينة في غزوة الفرع بضمتين - من نجران وهي قرية من ناحية المدينة (سيرة ابن هشام 1 / 50) واستعمله على الصلاة في غزوة أحد (سيرة ابن هشام 3 / 68) واستعمله على الصلاة لما خرج إلى بدر ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة (سيرة ابن هشام 3 / 293) وفي غزوة ذي قرد (سيرة ابن هشام 3 / 297) وقد تقدم ذكره.

الصفحة 53   

الإجماع على أنه لاحظ لهؤلاء بعد الرسول صلى الله عليه وآله في إمامة، ولا فرض طاعة يدل على ثبوت عزلهم فإن تعلق باختصاص هذه الولاية وأنها لا يجوز أن تقتضي الإمامة التي تعم، فقد مضى الكلام على الاختصاص في هذا الفصل مستقصى، وقد مضى أيضا فيه الكلام على من قال: لو كانت هذه الولاية مستمرة لوجب أن يقيم الحدود في حياة الرسول صلى الله عليه وآله ويتصرف في حقوق الخلافة بغير إذن، ولو فعل لنقل وعلمناه، فليس لأحد أن يتعلق بذلك.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإنه يقال لهم: لو لم يستخلف موسى هارون وعاش بعده أكان يجب له الإمامة والقيام بالأمور التي يقوم بها الأئمة أو لا يجب ذلك؟ فإن قالوا: كان لا يجب له ذلك قلنا لهم: إن جاز مع كونه شريكا له في النبوة التي هي من قبل الله سبحانه وتعالى أن يبقى بعده ولا يكون له ذلك ليجوزن أن لا يكون له ذلك وإن استخلفه، لأن استخلاف موسى له لا يكون أوكد من إرسال الله تعالى إياه معه رسولا،... " (1) وهذا مما قد مضى الكلام عليه وقد بينا أن الذي يقوم به الأئمة ولاية منفصلة من النبوة، وأنه غير ممتنع أن تثبت النبوة لمن لا تثبت له هذه الولاية ومع ذلك فهو تصريح أيضا منه بالمناقضة، لأنه قال فيما تقدم: " إنه غير واجب فيمن يكون شريكا لموسى في النبوة أن يكون هو

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 169.

الصفحة 54   

القيم بعد وفاته بما يقوم به الإمام (1) وقال هاهنا كما ترى: " أن الشركة في النبوة تقتضي القيام بذلك " (2) وتجاوز هذا إلى أن جعل اقتضاء النبوة لهذه المنزلة كاقتضاء الاستخلاف لها والفرق بين الاستخلاف في اقتضائه هذه الولاية وبين النبوة واضح، لأنه إذا بان بما قدمنا ذكره أن الذي يقوم به الأئمة ليس من مقتضى النبوة لم يجب بثبوتها ثبوته والاستخلاف لا شك في أنه سبب القيام بما يسنده المستخلف إلى خليفته من جملة ما يتولاه ويكون إليه التصرف فكيف يصح أن يدخل لفظه أوكد بين هذين وأحدهما لا تأثير له جملة، والآخر معلوم تأثيره وكونه سببا.

ثم ذكر صاحب الكتاب: بعد ما حكيناه كلاما تركنا حكايته لأن جملة ما تقدم من كلامنا قد أتت عليه فقد بينا أنه لا معتبر في تشبيه إحدى المنزلتين بالأخرى بأسبابهما وبما هو كالمقتضي لهما وقلنا: إن هارون عليه السلام لو ثبت أن ولايته على قوم أخيه صلى الله عليه وسلم كان بغير استخلاف بل لأجل نبوته لم يلزم فيمن جعل له مثل منزلته أن يكون مشاركا له في سبب المنزلة وكيفية حصولها ودللنا على أن هارون لو بقي بعد وفاة أخيه لوجب أن يكون حاله في الإمامة باقية غير متغيرة وفرقنا بين أن لا يكون إليه ذلك في الابتداء وبين أن يتولاه ثم يعزل عنه بأن الأول لا تنفير فيه، والثاني موجب للتنفير الذي لا بد أن يجتنبه عليه السلام وليس يخرج عما أشرنا إليه شئ من كلامه الذي تجاوزناه.

وقال صاحب الكتاب: " فإن قيل: فما المراد عندكم بهذا الخبر قيل له: إنه عليه السلام لما استخلفه على المدينة وتكلم المنافقون فيه، قال هذا القول دالا به على لطف محله منه، وقوة سكونه إليه، واستناد ظهره

____________

(1) لا يخفى أن المرتضى بعد أن ينقل كلام القاضي ينقله بلفظه فإذا استعرضه بالرد ينقله بتصرف - أحيانا - ولكن لم يخرجه عن معناه.

(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.

 

 

 

 

الصفحة 55   

به، ليزيل ما خامر القلوب من الشبهة في أمره وليعلم أنه صلى الله عليه وآله إنما استخلفه لهذه الأحوال التي تقتضي نهاية الاختصاص، والأغلب في العرف والعادة أن الإنسان إنما يستعمل ذكر المنزلة بمعنى المحل والموقع لأنه لا فرق بين قول القائل: فلان مني بمحل فلان من فلان، وبين قوله بمنزلة فلان من فلان، وقد علمنا أن الظاهر من ذلك الموقع من القلب في الاختصاص والسكون والاعتماد دون ما يرجع إلى الولايات، فيجب أن يكون الخبر محمولا عليه لشهادة التعارف أو لشهادة السبب له " ثم قال:

" فإن قال إن كان المراد ما ذكرتم فما الوجه في استثناء النبوة من هذا القول، وليس لها به تعلق قيل له: إن المتعالم من حال هارون أنه كان موقعه من قلب موسى لمكان النبوة أعظم وأن النبوة أوجبت مزية في هذا الباب (1) فقد كان يجوز لو لم يستثن صلى الله عليه وآله النبوة أن يفهم (2) إن منزلة أمير المؤمنين صلوات الله عليه تماثل هذه المنزلة، فأراد أن يبين باستثناء النبوة أنها مقصرة عن هذه المنزلة القدر الذي يقتضيه نفي نبوته (3) وهذا كما يقول أحدنا لرفيع المحل في قلبه: إن محلك ومنزلتك مني محل ولدي وإن لم تكن لي بولد وإنما يستعمل ما يجري مجرى الاستثناء في هذا الباب في الوجه الذي من حقه أن يؤكد تلك المنزلة ويعظم أمرها ويفخم شأنها،... " (4). ثم قال بعد كلام تركناه: " ولولا أن ذلك كذلك لم يكن في هذا القول إزالة عن القلوب ما تحدث به المنافقون من شكه صلى الله عليه وآله في أمره وأنه إنما خلفه تحرزا لأن كل ذلك لا يزول بالاستخلاف الذي هو الولاية في الحال ومن بعد وإنما يزول ذلك بما

____________

(1) في المغني " في هذا الباب في السكون وفي سائر الوجوه فقد، الخ ".

(2) غ " يوهم " وفي حاشية الأصل " يتوهم ".

(3) غ " في نبوته ".

(4) المغني 20 ق 1 / 172.

الصفحة 56   

وصفناه من الأخبار بنهاية السكون إليه والاستقامة منه،... " (1).

يقال له: قد بينا فيما سلف من كلامنا إن الذي يدعي من السبب في أنه كان إرجاف المنافقين، غير معلوم، وذكرنا ورود الروايات بأنه صلى الله عليه وآله قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) في مواطن مختلفة (2)، وذكرنا أيضا أن أكثر الأخبار واردة في السبب بخلاف ما ادعاه الخصوم، وأنه عليه السلام خرج إليه لما خلفه باكيا مخبرا بما هو عليه من الوحشة له، والكراهة لمفارقته، فقال له صلى الله عليه وآله هذا القول وليس بنكر وورد بعض الأخبار بما ذكروه، غير أن ورودها بخلافه أظهر وأشهر، وكيف لا يكون ما حكي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين مستبعدا، بل مقطوعا على بطلانه، ونحن نعلم أنه لا يصح أن تدخل شبهة على عاقل توهمه تهمة النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام وخوفه منه، وتحرزه من ضرره، هذا مع ما كان ظاهرا منه عليه السلام من الأقوال والأفعال الدالة على عظم محله وشدة اختصاصه، وأنه قد بلغ النهاية في النصيحة والمحبة، ولم يكن ما ظهر مما ذكرناه أمرا يشكل مثله فيحتاج فيه إلى الاستدلال والنظر، بل كان مما يضطر العقلاء وغير العقلاء إن كانوا ممن يجوز أن يضطر إلى ما لا يتطرق معه تهمة ولا تتوجه

____________

(1) المصدر ص 173.

(2) من المواطن التي قال فيها: " علي مني بمنزلة هارون من موسى " منها لما خلفه على المدينة يوم غزوة تبوك كما في صحيح البخاري وغيره، ومنها عند التخاصم في ابنة حمزة كما في الخصائص للنسائي ص 19، ومنها لما آخى بين أصحابه كما في كنز العمال ج 5 ص 40 وقال: أخرجه أحمد في المناقب وابن عساكر، في كلام للنبي صلى الله عليه وآله مع عقيل وجعفر وعلي عليهم السلام أخرجه المتقي في الكنز 6 / 188، ومنها في كلام له صلى الله عليه وآله مع علي عليه السلام وهو متكئ عليه، أخرجه المتقي أيضا في الكنز 6 / 395، ومنها في حديث له صلى الله عليه وآله مع علي عليه السلام يوم ولد الحسن سلام الله عليه كما في ذخائر العقبى ص 120، وغير ذلك.

الصفحة 57   

ظنه، فليس يخلو المنافقون الذين ادعى عليهم الإرجاف من أن يكونوا عقلاء مميزين أو نقصاء مجانين، فإن كانوا عقلاء فالعاقل لا يصح دخول الشبهة عليه في الضروريات، وإن كانوا من أهل الجنون والنقص فإرجافهم غير مؤثر، ولا معتد به، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله غير محتاج إلى الرد عليهم، والإبطال لقولهم، وهذه الجملة تكشف عن بطلان قول من ادعى أن السبب كان إرجاف المنافقين، ويقتضي القطع على كذب الرواية الواردة بذلك.

ثم يقال له: اعمل على أن السبب ما ذكرته واقترحته، وأن المراد ما وصفته من إفادة لطف المحل، وقوة السكون، وشدة الاختصاص، فما المانع مما قلناه وتأولنا الخبر عليه؟ وأي تناف بين تأويلك وتأويلنا؟ وإنما يكون كلامك مشتبها ولك فيه أدنى تعلق لو كان ما وصفته من المراد مانعا مما ذهبنا إلى أنه المراد حتى لا يصح أن يراد جميعا، فأما والأمر بخلاف ذلك فلا شبهة في كلامك.

فأما تعلقه بالعادة في استعمال لفظ المنزلة وإنها لا تكون إلا بمعنى المحل والموقع من القلب دون ما يرجع إلى الولايات، فباطل، وما وجدناه زاد في ادعاء ذلك على مجرد الدعوى، وقد كان يجب أن يذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة قوله، ولا فرق في عادة ولا عرف بين استعمال لفظة المنزلة في الموقع من القلب، وبين استعمالها في الولايات وما أشبهها، ألا ترى أنه كما لا يصح أن يقول أحدنا: فلان مني بمنزلة فلان ويريد في المحبة والاستقامة، والسكون إليه (1