فصل في اعتراض كلامه: في أن أبا بكر يصلح للإمامة

الصفحة 9      

فصل  في اعتراض كلامه:في أن أبا بكر يصلح للإمامة (1)

اعتمد في ذلك على أن الإجماع إذا ثبت في إمامته ثبت أنه يصلح لها لأنه لو لم يصلح لما أجمعوا على إمامته، وادعى أن الصفات المراعاة في الإمامة مجتمعة فيه من علم وفضل ورأي ونسب وغير ذلك، ثم أجاب عن سؤال من سأله عن سر الدلالة على إيمانه وخروجه عن الكفر المتيقن منه بأن قال كما نعلم أنه كان كافرا من قبل بالتواتر نعلم انتقاله إلى الإيمان، والتصديق بالرسول صلى الله عليه وآله ولا يجوز أن يكون باقيا على حالته، بل اليقين قد حصل بانتقاله.

قال: " على أنا نعلم ضرورة أنه كان على دين الرسول صلى الله عليه وآله بما نقل من الأخبار، وذلك يمنع من التجويز والشك، وقد بينا أنه لا يمتنع في الاعتقادات أن تعلم ضرورة، فلا يجوز أن يقال: إذا كان ذلك باطنا (2) فكيف يدعي الاضطرار فيه وعلى هذا الوجه يدعي في كثير من الأمور إنا نعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وآله، وبعد فإنا

____________

(1) أنظر المغني 20 ق 1 / 322.

(2) غ " باطلا ".

الصفحة 10   

نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه ويمدحه على الحد الذي يعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام وغيره وذلك يمنع من كونه كافرا، وما ثبت عنه صلى الله عليه وآله من تسميته صديقا يدل على ذلك، وما روي من الفضائل المشهورة في بابه يدل على بطلان هذا القول،... " (1) يقال له: آكد ما دل على أن أبا بكر لا يصلح للإمامة ما ثبت من وجوب عصمة الإمام وأن السهو والغلط لا يجوزان عليه في شئ من الأشياء، وعلمنا بأن أبا بكر لم يكن بهذه الصفة، وما ثبت أيضا من أن الإمام لا بد أن يكون عالما بجميع أحكام الدين، دقيقه وجليله، وأن يكون أكمل علما من جميع الأمة به، وقد علمنا بلا شبهة أن أبا بكر لم يكن كذلك، وما ثبت أيضا من وجوب كون الإمام أفضل عند الله من جميع الأمة يدل على أنه لا يصلح لها، لأنا قد علمنا بالأدلة الظاهرة أن غيره أفضل منه عند الله تعالى.

فأما ما اعتمده في ذلك من دعوى الإجماع على إمامته فقد سلف من الكلام على بطلان هذه الدعوى ما فيه كفاية وبينا إن الإجماع لم يثبت قط على إمامته.

فأما ادعاؤه أن الخلال المراعاة في الإمامة مجتمعة فيه فهذا منه أيضا بناء على أصله الفاسد الذي قد دللنا على بطلانه، لأنه لا يراعي في الإمام العصمة ولا كمال العلم، ولا كونه أفضل عند الله تعالى، وقد دللنا على أن ذلك معتبر وفقده مؤثر فيما تقدم من الكتاب فبطل قوله " إن الخلال المراعاة مجتمعة فيه ".

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 322.

الصفحة 11   

فأما ادعاؤه اليقين والضرورة بإيمانه وانتقاله عن الكفر فليس يخلو من أن يدعي الضرورة في انتقاله إلى إظهار الإيمان والتصديق وأن يدعي الضرورة في إبطانه لذلك واعتقاده له وانطوائه عليه والأول لا خلاف فيه ولا ينفعه فيما قصد له والثاني ادعاؤه يجري مجرى المكابرة فإن البواطن لا يعلمها إلا علام الغيوب تعالى، ولو كان ذلك معلوما ضرورة بالإخبار على ما ادعى لوجب أن نشركه نحن وسائر العقلاء في هذا العلم لمشاركتنا في الطريق إليه وقوله: " إن في الاعتقادات ما يعلم ضرورة فلا يمتنع أن يكون هذا منها " يبطله ما بيناه من أن ذلك يوجب أن نشاركه في العلم، على أنا لو سلمنا أن اعتقاده لدين الرسول صلى الله عليه وآله وتصديقه في جميع شريعته كان معلوما منه ضرورة. من أين أنه كان إيمانا وعلما؟ وليس يمكنه أن يدعي الاضطرار في العلم كما ادعاه في الاعتقاد لأنه معلوم أن أحدا لا يضطر إلى كون غيره عالما وإن جاز أن يضطر إلى كونه معتقدا.

فأما قوله: " إن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه ويمدحه على الحد الذي يعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام " فأول ما فيه. أن ذلك غير معلوم، ولا وارد من طريق يوجب اليقين، ويرفع الريب، وما نجد في ذلك إلا أخبار آحاد مظنونة (1) مقدوحا في ورودها بضروب القدح يرويها بعض الأئمة ويدفعها بعض آخر، ويقسم (2) على بطلانها، ثم هي مع ذلك متأوله مخرجة عن وجوه تمنع من الغرض المقصود بها.

ثم يقال له: ما في مدحه وتعظيمه لو ثبت مما يدل على صلاحه

____________

(1) مبعوثة خ ل.

(2) ض " ويقيم ".

الصفحة 12   

للإمامة إذ كل معظم ممدوح لا يصلح لها، وهذا مما لا تقوله أنت ولا أحد من أصحابك.

فإن قال: إنما نفيت بتعظيمه ومدحه من كونه كافرا ليثبت إيمانه ولم اقتصر في صلاحه للإمامة على تعظيمه ومدحه.

قيل له: إنما يمنع تعظيمه ومدحه من كونه يظهر الكفر ولا يمنع من كون مبطنا له إذا كان لا يعلم باطنه، فمن أين لك أن المدح والتعظيم يدلا على الإيمان الباطن.

فإن قال: يقنعني (1) في صلاحه للإمامة أن يكون مظهرا للإيمان ولست أحتاج إلى العلم بباطنه.

قيل له: وقد بينا أن ذلك غير مقنع، وإذا كان إظهار الإيمان يقنعك فمن الذي يخالف فيه حتى أحوجك إلى الاستدلال عليه، وإذا كنت تقنع بالظاهر فما الحاجة بك إلى ذكر الاعتقادات؟ وإنها قد تعلم ضرورة.

فإن قال: كيف تسلمون أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه على الظاهر وعندكم أنه عليه السلام كان يعلم أنه سيدفع النص وذلك عندكم كفر وردة، والكفر والردة الذي يوافى به صاحبه على مذاهبكم لا يجوز أن يتقدمه إيمان، فكيف يجوز على هذا أن يعظمه النبي صلى الله عليه وآله وهو يعلم من باطنه ما يقتضي خلاف التعظيم؟

قيل له: ليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله غير عالم بأنه سيدفع النص لأن هذا لا طريق إليه إلا بإعلام الله تعالى وفي الجائز أن لا يعلمه ذلك.

____________

(1) في آ وع " يقتضي " وفي نسخة أخرى " يقضي ".

الصفحة 13   

فإن قيل: هذا وإن كان جائزا فالظاهر من مذهب الشيعة خلافه لأنهم يذهبون إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم ذلك. وأن النبي صلى الله عليه وآله أشعره به.

قلنا: ليس يمتنع أن يكون عالما في الجملة دون التفصيل بأنه سيغدر به، ويدفع النص وأنذر بذلك على هذا الوجه من الاجمال، وما عدا هذا من التفضيل فليس (1) ينقطع العذر به على أنه لو سلم أنه عليه السلام كان عالما على التحديد والتعيين لجاز أن يكون تعظيمه للرجل متقدما لهذا العلم ولما علم منه هذه الحال لم يكن منه تعظيم ولا مدح، وليس معنا في العلم تاريخ ولا في المدح والتعظيم، والتجويز في هذا كاف.

وبعد، فليس يكفي في نفي تقدم الإيمان العلم بوقوع كفر في المستقبل دون أن يعلم أنه يوافى به، وليس يمنع أن يعلم النبي صلى الله عليه وآله بحال الدافعين للنص ولا يعلم بعاقبتهم، وما يموتون عليه، ومتى جوز أن يتوبوا، ولو قبل الوفاة بلحظة لم يكن قاطعا على نفي الإيمان منهم فيما تقدم بل لا بد مع التجويز لأن يتوبوا من التجويز لأن يكون الإيمان الظاهر منهم صحيحا في الباطن، وبعد، فليس جميع أصحابنا القائلين بالنص يذهبون إلى الموافاة وإلى أن من مات على كفره لا يجوز أن يتقدم منه الإيمان ومن لا يذهب إلى ذلك لا يحتاج أن يتكلف ما ذكرناه.

فأما ادعاؤه أنه كان عليه السلام كان يسميه صديقا فدون صحة ذلك خرط القتاد، وليس يقدر أحد على أن يروي عنه عليه السلام في ذلك خبرا معروفا. وإنما معولهم على المشهور والظاهر، وليس في ذلك دلالة على الصحة لأنه قد يتقرب إلى ولاة الأمور، وملاك الحمل والعقد من

____________

(1) المصدر السابق.

الصفحة 14   

الألقاب والسمات والصفات وغير ذلك ما يبلغ من الشهرة أقصاها، وينتهي إلى أن يغلب على الأسماء والكنى ولا يقع التعريف إلا به، ومع ذلك فلا يكون صادرا عن حجة ولا مبنيا على صحة.

ولو قيل لمدعي ذلك أشر إلى الحال التي لقبه النبي صلى الله عليه وآله فيها بالصديق، والمقام الذي قام بذلك فيه لعجز عن إيراد شئ مقنع.

قال صاحب الكتاب: " وقال الشيخ أبو حذيفة واصل بن عطاء:

الذي يدل على بطلان طريقهم في سوء الثناء على المهاجرين والأنصار ورميهم إياهم بشرك ونفاق ما خلا طائفة يسيرة قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) (1) وقد علم من بايع تحت الشجرة فكذلك قوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك وهم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (2) وقال تعالى:

(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوه في ساعة العسرة) (3) وقال: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم) (4) فلو كانوا كفارا

____________

(1) الفتح 18.

(2) الحشر 8 و 9.

(3) التوبة 117.

(4) آل عمران 115.

الصفحة 15   

ما صح ذلك، وقال تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) (1) وذكر جل جلاله أنه أذهب الرجس عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله فلا يصح مع ذلك كفرهن، * وكيف يصح أن يكن كافرات وبنات كفار وقد تزوج بهن النبي صلى الله عليه وآله * (2) ومن دينه أنه لا يجوز التزويج ببنات الكفار وإذا لم يكونوا أهل ذمة، ولو جاز أن يتزوج ببناتهم وهم كفار لجاز أن يزوج بناته الكفار، وذلك بخلاف الدين ".

قال: " وقد ثبت من مناقبه أنه سبق إلى الاسلام، وبايع الرسول صلى الله عليه وآله وواساه بنفسه وماله، ثم كان ثاني اثنين في الغار، وصاحبه في الهجرة وأنيسه في العريش يوم بدر، ووزيره والمستشار في أموره، وأميره على الموسم (3) في الحج وحين افتتحت مكة والمقدم في الصلاة أيام مرضه، والمخصوص بتسميته الصديق والمشبه من الملائكة بميكائيل، ومن الأنبياء بإبراهيم عليهم السلام ثم هو وعمر بشرا بأنهما سيدا كهول أهل الجنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: (هما مني بمنزلة يميني من شمالي) وكل ذلك يبطل نسبتهما إلى الكفر والنفاق والردة ".

قال: " وقد بينا ما ورد في الأخبار من تعظيم أمير المؤمنين عليه السلام له والجماعة (4) وأن النبي صلى الله عليه وآله بشره وغيره بالجنة بألفاظ مختلفة، ووصفه بأنه خليله وأخوه، إلى غير ذلك مما يمنع أن يكون

____________

(1) الحشر 10.

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(3) غ " على الصلاة ".

(4) غ " له وللجماعة ما يغني عن إعادة ذكره ".

الصفحة 16   

كافرا ويوجب (1) له الفضل العظيم، على أنه قد ثبت أن الناس بعد النبي اختلفوا في تقديمه وتقديم أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك لا يصح إلا مع ثبوت فضله.

قال: " بعد ولو عدلنا (2) عن كل ذلك وجدنا ما ظهر من أحوال أبي بكر دلالة على ظاهر الفضل العظيم، والعلم بالرأي وقد بينا أنه لا يجب في الإمام أن يكون معصوما فكيف يصح أن يدعي أنه كان لا يصح للإمامة، وقد بينا أن الوجوه التي قلنا لها في معاوية وغيره أنهم لا يصلحون للإمامة لا يتأتى فيه (3) وبينا ما روي مما يدل على أنه يصلح لذلك نحو قوله: (إن وليتم أبا بكر) ونحوه من الأخبار التي يتضمن بشارته بالخلافة نصا أو تنبيها وذلك يعني عن إعادته " وحكي عن أبي علي " أن قول من يقول كان كافرا فجوزوا بقاءه على ما كان عليه بمنزلة قول من يقول كان بمكة مقيما (4) فجوزوا بقاءه على ما كان عليه لأنا كما نعلم أنه انتقل إلى المدينة نعلم انتقاله إلى الاسلام [ والدين ] (5) وقد ثبت أن الله تعالى كان يحذر نبيه المنافقين، ويمنعه من صحبتهم والاختصاص بهم، وصح أنه كان يختص أبا بكر بأعظم المنازل في سفره وحضره واختاره صاحبا له ومعينا ومشيرا ولا فرق بين ما قالوا في أبي بكر وعمر وبين من ادعى من الخوارج عليهم اللعنة أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن مؤمنا

____________

(1) غ " بل يوجب ".

(2) " قال وبعد " ساقطة من ض.

(3) غ " وكشفنا الحال فيه ".

(4) " مقيما " كانت في المغني " مغنما " فجعل المصحح مكانها " مغنم " ظنا منه أنها اسم كان ولم يفطن للمعنى، وكم له من أمثالها.

(5) الزيادة من " المغني ".

الصفحة 17   

بيقين، فيجب أن يكون على ما كان عليه لأن فيهم طبقة مختلفة، وهم الحازمية، والعجردية (1) يقولون فيه عليه السلام أنه ما اعتقد الاسلام والإيمان قط فإذا قالوا لو كان كذلك لما زوجه بنته عليه السلام فللمخالف أن يقول لهم ولو كان حال أبي بكر وعمر ما ذكرتم لما خطب إليهما وكان لا يزوج عثمان بابنتيه جميعا،... " (2).

يقال له: قد جمعت في هذا الفصل بين أشياء كثيرة مختلفة واستقصاء كل فصل منها وإيراد جميع ما يجب أن يورد فيه يطول، لكنا نتكلم على ذلك بأخصر ما يمكن مع الاستيفاء لشرائط الحجة.

أما قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فأول ما فيه أنا لا نذهب أن الألف واللام للاستغراق لكل من يصلحان له، بل الظاهر عندنا مشترك متردد بين العموم والخصوص، وإنما يحمل على أحدهما بدلالة غير الظاهر.

وقد دللنا على ذلك في مواضع كثيرة، وخاصة في كلامنا المنفرد للوعيد من جملة جواب مسائل أهل الموصل (3) وإذا لم يكن الظاهر يستغرق جميع المبايعين تحت الشجرة فلا حجة لهم في الآية.

على أنا لو سلمنا ما يقترحونه من استغراق الألف واللام لم يكن في الآية أيضا دلالة على ما ادعوه لأن الله تعالى علق الرضى في الآية بالمؤمنين ثم قال: " إذ يبايعونك تحت الشجرة " فجعل البيعة حالا للمؤمنين أو تعليلا لوجه الرضى عنهم وأي الأمرين كان فلا بد فيمن وقع الرضى عنه عن أمرين:

____________

(1) الحازمية كانت في المغني " الحار " وقال المصحح: كذا بالأصل و " العجردية " " العمرون " ولم يكلف المحقق نفسه الفحص عن معناهما.

(2) ما نقله المرتضى من أول هذا الفصل إلى هنا يبدأ في المغني من 222 - 224.

(3) الحشر 8.

الصفحة 18   

أحدهما: أن يكون مؤمنا والآخر أن يكون مبايعا، ونحن نقطع على أن الرضا متعلق بمن جمع الأمرين فمن أين أن كل من بايع تحت الشجرة كان جامعا لهما فإن الظاهر لا يفيد ذلك على أنه تعالى قد وصف من رضي عنه ممن بايع تحت الشجرة بأوصاف قد علمنا أنها لم تحصل لجميع المبايعين فيجب أن يختص الرضا بمن اختص بتلك الأوصاف لأنه تعالى قال: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) ولا خلاف بين أهل النقل في أن الفتح الذي كان بعد بيعة الرضوان بلا فصل هو فتح خيبر، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث أبا بكر وعمر فرجع كل واحد منهما منهزما ناكصا على عقبيه فغضب النبي صلى الله عليه وآله وقال. (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله تعالى ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله عليه) فدعا أمير المؤمنين عليه السلام وكان أرمد فتفل في عينه فزال ما كان يتشكاه وأعطاه الراية فمضى متوجها وكان الفتح على يديه، فيجب أن يكون هو المخصوص بحكم الآية ومن كان معه في ذلك الفتح من أهل البيعة تحت الشجرة لتكامل الشرائط فيهم. ويجب أن يخرج عنها من لم يجتمع له الشرائط، وليس لأحد أن يقول: إن الفتح كان لجميع المسلمين، وإن تولاه بعضهم. وجرى على يديه فيجب أن يكون جميع أهل بيعة الرضوان ممن رزق الفتح وأثيب به، وهذا يقتضي شمول الرضا للجميع وذلك لأن هذا عدول عن الظاهر لأن من تولي الشئ نفسه هو الذي يضاف إليه على سبيل الحقيقة، ويقال إنه أثيب به، ورزق إياه، وإن جاز أن يوصف بذلك غيره ممن يلحقه حكمه على سبيل التجوز لجاز أن يوصف من كان بخراسان من المسلمين بأنه هازم جنود الروم. ووالج حصونهم وإن وصفنا بذلك من يتولاه، ويجري على يديه.

فأما قوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم

الصفحة 19   

وأموالهم) فأول ما فيه أن أبا بكر يجب أن يخرج عن هذه الآية على أصول مخالفينا لأنهم على أصولهم كان غنيا مؤسرا كثير المال، واسع الحال، وليس لهم أن يتأولوا الفقراء هاهنا على أن المراد به الفقر إلى الله دون ما يرجع إلى الأموال، لأن الظاهر من لفظ الغني والفقير ينبئ عن معنى الأموال دون غيرها. وإنما يحملان على ذلك بدليل يقتضي العدول عن الظاهر، وما قلناه في الآية الأولى من أن الألف واللام لا يقتضيان الاستغراق على كل حال يطعن أيضا على معتقدهم في هذه الآية، وبعد فإن سياق الآية يخرج ظاهرها عن أيديهم ويوجب الرجوع عليهم إلى غيرها لأن الله تعالى قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) (1) فوصف بالصدق من تكاملت له الشرائط ومنها ما هو مشاهد كالهجرة والإخراج من الديار والأموال ومنها ما هو باطن لا يعلمه إلا الله تعالى وهو ابتغاء الفضل والرضوان من الله ونصرة الرسول، والله تعالى لأن المعتبر في ذلك ليس بما يظهر بل بالبواطن والنيات فيجب على الخصوم أن يثبتوا اجتماع هذه الصفات في كل واحد من الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولا بد في ذلك من الرجوع إلى غير الآية.

فأما قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) فالكلام فيه يجري مجرى ما تقدم لأن الظاهر لا يقتضي العموم.

ثم الظاهر من الكلام يقتضي أنهم تابوا فتاب الله عليهم، وقبل

____________

(1) الحشر 8.

الصفحة 20   

توبتهم ولا بد أن تكون توبتهم مشترطة لأن الله تعالى لا يقبل توبة من لم يتب فيجب عليهم أن يدلوا على وقوع توبة من الجماعة حتى يدخلوا تحت الظاهر.

فأما قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم) (1) فلنا أن ننازع في اقتضاء ظاهر العموم على ما تقدم وإذا سلمنا ذلك جاز أن يحمل على العفو عن العقاب المعجل في الدنيا دون المستحق في الآخرة، فقد روى هذا المعنى بعينه وقد يجوز أن يعفو الله تعالى عن الجماعة عن عقاب هذا الذنب خاصة بأن يكون سبق من حكمه ووعده أن يعفو عنه، وإن كان منهم من يستحق عقابا على ذنوب أخر لم يعف عنها. فإن العقل لا يمنع من العفو عن بعض العقاب دون بعض كما لا يمنع من العفو عن الجميع والسمع أيضا لا يمنع من ذلك إلا في أقوام مخصوصين.

فأما قوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) (2) فلا حجة فيه لأنه علق المغفرة بالسبق إلى الإيمان وهذا شرط يحتاج إلى دليل في إثباته للجماعة، ومع هذا فهو سؤال وليس كل سؤال يقتضي الإجابة.

فأما ادعاؤه أنه أذهب الرجس عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله فلا أدري أي مدخل لذكر الأزواج في هذا الباب المخصوص بالكلام في أن أبا بكر هل يصلح للإمامة (3) على أنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب

____________

(1) آل عمران 155.

(2) الحشر 10.

(3) لا يصلح للإمامة، خ ل.

الصفحة 21   

أن الآية التي ظن أنها تتناول الأزواج لا تتناولهن، وأنها تختص أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام واستقصينا ذلك بما لا طائل في إعادته.

فأما قوله: " كيف تزوج بهن وهن كافرات ".

فالجواب عن ذلك قد تقدم معناه عند كلامنا في تعظيمه عليه السلام لهم مع علمه بأنهم سيدفعون النص وجملة الأمر في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله إذا كان قد اطلع على ما سيكون من حرب زوجته لأخيه وابن عمه فلا يمتنع أن يكون ما اطلع على عاقبتها وكان مجوزا لأن تموت على الاصرار أو التوبة ومع هذا التجويز لا نقطع على كفرها في الحال مع إظهار الاسلام، فإذا قيل: إنه عليه السلام كان يعلم العاقبة لم نمنع أن يكون نكاحه لهن لأجل ما يظهرن من الإيمان والاسلام جايزا وإن لم يجز نكاح كل كافرة ولا إنكاح الكفار، وما طريقه الشرع والعقل يجوز فيه الأمور المختلفة فلا دليل فيه أوضح من فعله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأما قوله: " إن من مناقبه أنه سبق إلى الاسلام " فباطل لأنه لا شبهة في أمير المؤمنين عليه السلام هو السابق إلى اتباع النبي صلى الله عليه وآله والإيمان به، والأمر في ذلك بين أهل النقل متعارف، وإنما ادعى قوم من أهل النصب والعناد أن إسلامه وإن كان سابقا فإنما كان على سبيل التلقين دون المعرفة واليقين لصغر سنة عليه السلام، وفضلوا لأجل ذلك إيمان أبي بكر وإن كان متأخرا.

وقد أجابت الشيعة عن هذه الشبهة وبينوا أن الأمر في سنه عليه السلام كان بخلاف ما ظنه الأعداء، وأنه كان في تلك الحال ممن يتناوله التكليف، ويصح منه المعارف، وبينوا ذلك بالرجوع إلى تاريخ وفاته

الصفحة 22   

ومبلغ سنه عندنا (1) وأن اعتبار ذلك يشهد بأن سنه لم تكن في ابتداء الدعوة صغيرة بحيث لا يصح معها المعرفة، وأوضحوا ذلك بتمدحه عليه السلام في مقام بعد مقام. ومقال بعد مقال، وافتخاره بأنه أسبق الناس إسلاما. وإيراده ذلك بألفاظ مختلفة كقوله عليه السلام: (اللهم إني لا أعرف عبدا عبدك من هذه الأمة قبلي غير نبيها صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله عليه السلام: (أنا أول من صلى) (2) وقوله لما شاجره عثمان وقال له أبو بكر وعمر خير منك فقال: (أنا خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما) (3) وقول النبي صلى الله عليه وآله فاطمة زوجتك: (أقدمهم سلما (4) وأوسعهم علما) (5) إلى غير هذا مما يدل على إيمانه، وأنه إيمان العارفين، ولولا ذلك لا تمدح به ولا افتخر ولا افتخر له.

فإن قال: فهبوا أن أبا بكر لم يسبق الناس كلهم إلى الاسلام أليس كان من السابقين إليه؟ وهذا يدل على صلاحه للإمامة وعلى أنه لم يكن كافرا منافقا.

قيل له: ليس كل من سبق إلى إظهار الاسلام أو كان أسبق الناس

____________

(1) عندها، خ ل.

(2) ورد ذلك عنه عليه السلام في غير واحد من الصحاح والمسانيد وبحسبك أن تنظر صحيح الترمذي 2 / 301 وخصائص النسائي ص 2 ومستدرك الحاكم 3 / 112 ومسند أحمد 1 / 99 الخ.

(3) انظر الحكمة 68 من الحكم المنثورة في آخر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

(4) ع " إسلاما ".

(5) أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالإمام أحمد في المسند 5 / 26 من طريق معقل بن يسار، وابن الأثير في أسد الغابة 5 / 520، والمتقي في كنز العمال 5 / 153 و 397 وقال: أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن بريدة، والمحب في الرياض النضرة 2 / 182 وغيرهم.

الصفحة 23   

إليه يصلح للإمامة لأنا قد بينا أن للإمامة شرائط تزيد على الاسلام والإيمان.

فأما نفي الكفر فإن أريد به نفي إظهاره وإعلانه في تلك الحال فلا شبهة في ذلك، وإن أريد به نفي إبطانه فليس في السبق إلى إظهار الاسلام نفي لذلك.

فأما ادعاؤه أنه واساه بماله ونفسه فالمواساة بالنفس إنما تكون بأن يبذل في نصرته والمدافعة عنه، ومكافحة الأعداء وذبهم عن وجهه، ومعلوم بلا شبهة حال أبي بكر.

فأما المواساة بالمال فما يحصل مع المخالفين فيها إلا على دعوى مجردة متى طالبناهم بتفصيلها وذكر الوجوه التي كان إنفاقه فيها ألطوا (1) وحاجزوا ولم يحصل منهم على شئ مقنع. ولو كان إنفاق أبي بكر صحيحا لوجب أن تكون وجوهه معروفة كما كانت نفقة عثمان في تجهيز جيش العسرة وغيره معروفة لا يقدر على إنكارها منكر، ولا يرتاب في جهاتها مرتاب، وكما كانت جهات نفقات أمير المؤمنين عليه السلام معروفة ينقلها الموافق والمخالف فمن ذلك أنه عليه السلام كان يقوم بما يحتاج النبي صلى الله عليه وآله مدة مقامه بالشعب إليه ويتمحله.

وقد روي أنه آجر نفسه من يهودي صرف أجره إلى بعض ما كان يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وآله، وإنفاق أمير المؤمنين عليه السلام مع الاقتار والإقلال أفضل وأرفع من إنفاق أبي بكر لو ثبت مع الغنى والسعة ومن ذلك تقديمه الصدقة بين يدي النجوى ونزول القرآن بذلك

____________

(1) ألطوا بها: مجدوها.

 

 

 

 

الصفحة 24   

بلا خلاف بين أهل العلم (1) وأنه عليه السلام كان يطعم المسكين واليتيم والأسير وحتى نزلت في ذلك سورة هل أتى على الإنسان (2) وفيه نزل وفي معنى نفقته ورد قوله: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (3) ولما تصدق بخاتمه وهو راكع نزل فيه قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (4) وهذه جهات لا تدفع ولا تجهل فأين نفقات أبي بكر والشاهد عليها إن كانت صحيحة. على أن الذي ادعى من إنفاق أبي بكر لا يخلو من أن يكون وقع بمكة قبل الهجرة لو كان صحيحا، أو بالمدينة، فإن كان بمكة فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يجهز هناك جيشا ولا بعث بعثا ولا حارب عدوا وإنما يحتاج مثله عليه السلام إلى النفقة الواسعة في تجهيز الجيوش وإعداد الكراع (5) لأنه كان ممن لا يتفكه ولا يتنعم بإنفاق الأموال على أنه عليه السلام كان بمكة في كفاية واسعة من مال خديجة رضي الله عنها وقد كانت باقية عنده إلى سنة الهجرة وسعة حالها معروفة. ولما كان فيه من الكفاية والاتساع ضم أمير المؤمنين عليه السلام إلى نفسه وكفله واقتطعه عن أبيه تخفيفا عنه، وهذا لا يفعله المحتاج إلى نفقة أبي بكر، وإن كانت النفقة بعد الهجرة فمعلوم أن أبا بكر ورد المدينة فقيرا بلا مال، ولهذا احتاج إلى مواساة الأنصار.

وقد روى الناس كلهم أن النبي صلى الله عليه وآله كان في ضيافة

____________

(1) انظر تفسير الرازي 29 / 271 و 272.

(2) انظر الكشاف 4 / 97 وأسد الغابة 5 / 530 في ترجمة فضة.

(3) تفسير الرازي 12 / 26.

(4) المائدة 55.

(5) الكراع: اسم لجمع الخيل.

الصفحة 25   

الأنصار يتداولون ضيافته، ولم يرو أحد أن أبا بكر أضافه، وقام بمؤنته بالمدينة وقد كان صلى الله عليه وآله يبقى اليومين والثلاثة لا يطعم شيئا وربما شد الحجر (1) ووجوه الانفاق في المدينة معروفة لأنها الجهاد وتجهيز الجيوش وليس يمكن أحد أن يبين له إنفاق في شئ من ذلك.

وقد بين أصحابنا في الكلام على نفقة أبي بكر وادعائها تارة أنه كان مملقا غير موسر ودلوا على ذلك من حاله بأشياء:

منها، أنه كان يعلم الناس ويأخذ الأجر على تعليمه، وليس هذا صنيع الموسرين.

ومنها، أنه كان يخيط الثياب ويبيعها.

ومنها، أن أباه كان معروفا بالمسكنة والفقر وأنه كان ينادي في كل يوم على مائدة عبد الله بن جدعان بأجر طفيف، فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه.

وبعد، فلو سلمنا لهم يساره وإنفاقه على ما يدعون لكان غير دال على الغرض الذي أجروا إليه، لأن المعتبر في الانفاق بالمقاصد والنيات.

فمن أين لهم أن غرض أبي بكر كان محمودا؟ وهذا مما لا بد لهم فيه من الرجوع إلى غير ظاهر الانفاق.

فأما قوله: " إنه كان صاحبه في الغار " فإنا متى اعتبرنا قصة الغار لم نجد فيها لأبي بكر فضلا بل وجدناه منهيا، والنهي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوجه إلا إلى قبيح ونحن نبين ما يقتضيه استقراء الآية.

____________

(1) أي شد الحجر على بطنه لدفع النفخ الحادث عن الجوع وخلو الجوف.

الصفحة 26   

أما قوله تعالى: (ثاني اثنين) فليس فيه أكثر من إخبار عن عدد وقد يكون ثانيا لغيره من لا يشركه في إيمان ولا فضل ثم قال: (يقول لصاحبه) (1) وليس في التسمية بالصحبة فضل لأنها قد تحصل من الولي والعدو والمؤمن والكافر قال الله تعالى مخبرا عن مؤمن وكافر اصطحبا (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) (2) ثم قال: (لا تحزن) فنهاه عن الاستمرار على حزن وقع منه بلا خلاف لأن الرواية وردت بأنه جزع ونشج بالبكاء، وإنما ذكرنا ذلك لئلا يقولوا: إنما نهاه عما لم يقع منه فظاهر نهيه عليه السلام يدل على قبح الفعل، وإنما يحمل النهي في بعض المواضع على التشجيع والتسكين بدلالة توجب العدول عن الظاهر، وهذا يدل على وقوع المعصية من الرجل في الحال فأما قوله تعالى: (إن الله معنا) فمعناه إنه عالم بحالنا كما قال تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) (3) فليس في ذلك أيضا فضل.

وقد قيل: إن لفظة (معنا) تختص النبي وحده صلى الله عليه وآله دون من كان معه وقد يستعمل الواحد العظيم هذه اللفظة في العبارة عن نفسه كما قال تعالى: (إنا أرسلنا نوحا) (4) و (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (5) ثم قال: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) وإنزال السكينة إنما كان على النبي صلى الله عليه وآله بدلالة قوله

____________

(1) التوبة 40.

(2) الكهف 37.

(3) المجادلة 7.

(4) نوح 1.

(5) الحجر 9.

الصفحة 27   

(وأيده بجنود لم تروها) وهم الملائكة وبدلالة أن الهاء من أول الآية إلى آخرها كناية عن النبي صلى الله عليه وآله ولم ينزل السكينة على النبي صلى الله عليه وآله في غير هذا المقام إلا عمت من كان معه من المؤمنين قال الله تعالى في يوم حنين (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (1) وقال تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (2) وفي اختصاص الرسول صلى الله عليه وآله في الغار بالسكينة دون من كان معه ما فيه.

فأما قوله: " وصاحبه في الهجرة " فإن أراد بذلك تفضيل هجرته على هجرة غيره في ظاهر الحال فليس الأمر على ما ظنه لأن هجرة أمير المؤمنين عليه السلام أفضل وأجل وأعظم من قبل أنه جمع بين الهجرة وبين ما خلفه النبي صلى الله عليه وآله لإنجازه من أموره المهمة وإخراج أهله ونسائه ولأنه صلوات الله عليه هاجر وحده خائفا على نفسه وعلى من معه من الأهل الذين كلف إخراجهم وحراستهم مستوحشا حتى روي أنه كان يكمن نهارا ويسير ليلا وأنه امتنع من ظهوره نهارا ومشى حتى انتفخ قدماه، وليس يكون خوف من هاجر وحده ومعه النساء والأهل ومن يخاف عليه كخوفه على نفسه كهجرة من كان مصاحبا للنبي صلى الله عليه وآله مستأنسا بقربه واثقا بأنه مرعى محروس لمكانه، ولا خلاف أن هجرة أبي بكر كهجرة عارم بن فهيرة (3) لأنهما صحباه عليه السلام ثم لا خلاف أن هجرة أمير المؤمنين عليه السلام كانت أفضل من هجرة عامر بن فهيرة

____________

(1) التوبة 26.

(2) الفتح 26.

(3) عامر بن فهيرة التيمي بالولاء أحد السابقين ممن يعذب في الله، كان مع النبي صلى الله عليه وآله عندما هاجر إلى المدينة استشهد ببئر معونة (انظر ترجمته في الإصابة ق 1 حرف العين).

الصفحة 28   

فكيف يفضل عليها هجرة أبي بكر وإن لم يرد بذكر الهجرة هذا وأراد إثبات الإيمان والاخلاص، فقد قلنا في أن ظواهر هذه الأمور لا تدل على ذلك بما كفي.

فأما أنه: " أنيسه في العريش يوم بدر " فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أفضل وأوثق بالله تعالى من أن يحتاج إلى مؤنس والوجه في احتباس أبي بكر في العريش معروف لأنه عليه السلام كان يعهد منه الجبن والهلع لما ظهر منه في مقام بعد مقام، فهو الفار في يوم خيبر، وأول المنهزمين يوم أحد وحنين، فلو تركه يختلط بالمحاربين لم يأمن أن يظهر من خوره ما يكون سببا للهزيمة. وطريقا إلى استظهار المشركين، فأجلسه معه لتكفي هذه المؤونة ويكفي في هذا الوجه أن يكون ما ذكرناه جائزا، ويبين صحته أنه لو أنس منه رشدا في القتال ووثق بكفايته واضطلاعه بالحرب لم يكن ليحرمه منزلة المحاربين، ودرجة المباشرين للحرب الذين قال الله تعالى فيهم: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) (1) والذين قال الله تعالى فيهم: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (2) فأما قوله: " إنه كان المستشار في أموره " فأول ما فيه أن النبي صلى الله عليه وآله لا يستشير أحدا لحاجة منه إلى رأيه، وفقر إلى تعليمه وتوقيفه لأنه عليه السلام الكامل الراجح المعصوم المؤيد بالملائكة، وإنما كانت

____________

(1) التوبة 111.

(2) النساء 95.

الصفحة 29   

مشاورته أصحابه ليعلمهم كيف يعملون في أمورهم، وقد قيل فعل ذلك ليستخرج دخائلهم (1) وضمائرهم فلا فضل في المشاورة.

فأما قوله: " إنه كان أميره على الموسم في الحج وحين افتتحت مكة " فغير مسلم له لأن أصحابنا يقولون: إنه لما عزل عن سورة براءة عزل عن إمارة الموسم وحج وهو غير أمير، وأظن أن فيهم من يقول إنه بعد عوده إلى النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يختلف فيه (2) لم يرجع إلى الموسم.

فأما تأميره على الصلاة حين فتح مكة فما نعرفه.

فأما أنه المقدم في الصلاة أيام مرضه، فقد تقدم من كلامنا في ذلك ما فيه كفاية وبينا أنه عليه السلام لم يأذن في تقديمه.

فأما قوله: " إنه شبه بميكائيل من الملائكة. وبإبراهيم من الأنبياء ".

فمما لا يحتج بمثله صاحب الكتاب لأنه طريقة أغتام القصاص (3) ومن لا يبالي ما يخرج من رأسه، وما يحتج بمثل هذا ويصدق به ويرويه إلا من يروي أنه تعالى بكى على عثمان حتى هاجت عينه (4) جل وتعالى علوا كبيرا، ومن يروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أسري به رأى في السماء ملائكة متلففين بالأكسية فسأل عنهم، فقيل له: إنهم تشبهوا بأبي بكر في تجلله بالعباءة، ولهذا نظائر لا ينشط صاحب الكتاب لقبولها ولا لسماعهما.

____________

(1) الدخائل جمع دخيلة.

(2) في الأصل " له يختلف " ولا يستقيم المعنى والتصحيح من " ض ".

(3) أغتام جمع أغتم وهو من لا يفصح في كلامه.

(4) هاجت عينه: أي ورمت.

الصفحة 30   

فأما الخبر بأنهما (سيدا كهول أهل الجنة) فقد تقدم الكلام عليه خاصة وعلى نظائره وقد تقدم أيضا الكلام فيما يروى من تعظيم أمير المؤمنين عليه السلام وتكلمنا أيضا على ما ادعى من وصفه بأنه خليله وأخوه واستقصينا كل ذلك استقصاء لا يحوج إلى زيادة.

وأما ما ادعاه من بشارته له ولغيره بالجنة فأول ما فيه أن راويه واحد ولا شبهة في أنه غير معلوم ولا مقطوع به فكيف يحتج في هذا الموضع به؟

ثم الذي رواه أحد العشرة وهو سعيد بن زيد بن نفيل (1) وهو مزك لنفسه مع تزكيته غيره، ودخوله في جملة من تضمنه الخبر شبهة، وطريق إلى التهمة.

وبعد، فقد علمنا أن الله تعالى لا يجوز أن يعلم مكلفا يجوز أن يقع منه القبيح والحسن، وليس بمعصوم من الذنوب بأن عاقبته الجنة، لأن ذلك يغريه بالقبيح ولا خلاف أن التسعة لم يكونوا معصومين من الذنوب وقد أوقع بعضهم على مذهب خصومنا كبائر وواقع خطايا وإن ادعوا أنهم تابوا منها.

ومما يبين بطلان هذا الخبر أن أبا بكر لم يحتج به لنفسه ولا احتج له به في مواطن دفع فيها إلى الاحتجاج كالسقيفة وغيرها، وكذلك عمر وعثمان أيضا لما حصر وطولب بخلع نفسه وهموا بقتله وقد رأيناه احتج بأشياء تجري مجري الفضائل والمناقب، وذكر القطع له بالجنة أولى منها وأحرى أن يعتمد عليه في الاحتجاج، وفي عدول الجماعة عن ذكره دلالة

____________

(1) سعيد بن زيد بن نفيل العدوي، هو ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته فاطمة أسلم قبل عمر، وهو أحد العشرة المبشرة مات بالعقيق أو المدينة واختلفوا في سنة وفاته بين سنة 50 - 58 (انظر أسد الغابة 2 / 307).

الصفحة 31   

واضحة على بطلانه.

فأما قوله: " إنهم شكوا (1) في الفضل بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام وإن ذلك يدل على التقارب وظهور الفضل وأكثر ما فيه الدلالة على الفضل الظاهر الذي لا يختلف فيه، ولأجله وقع التمثيل، فمن أين الفضل الباطن؟ على أنه يلزم صاحب الكتاب على هذا الاعتلال أن يكون معاوية مستحقا للإمامة ومستوفيا لشرائطها لأن الناس قد ميلوا (2) في الإمامة بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام.

وقد بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما فسقط قوله: " إن عصمته غير واجبة ".

وبينا أيضا الكلام على الأخبار التي ادعاها من قوله: " إن وليتم أبا بكر " وبشارته بالخلافة واستقصيناه.

فأما قوله عن أبي علي " إن من جوز مقامه على الكفر كمن جوز مقامه بمكة ونفى انتقاله إلى المدينة " فإنما يكون ذلك مثالا لمن نفى انتقاله إلى إظهار الاسلام، وقد بينا أن ذلك لا ينفيه عاقل.

فأما قوله: " إنه عليه السلام كان يحذر نبيه صحبة المنافقين ويمنعه من ذلك " فهذا وإن كان على ما ذكره فقد كان في جملة أصحابه والمختلطين به منافقون، معروفون لا شبهة على أحد في أمرهم الآن، فأي شئ قاله فيمن ذكرناه أمكن أن يقال له في غيره.

فأما ما عارض به من قول الخوارج في أمير المؤمنين عليه السلام فما

____________

(1) ميلوا، خ ل، والمعنى واحد.

(2) في ض " مثلوا " تصحيف.

الصفحة 32   

نعرف ما ادعاه من قول الخوارج والمعروف من مذهبهم تعظيم أمير المؤمنين عليه السلام وتفضيله والقول فيه بأحسن الأقوال قبل التحكيم، ولو كان هذا الذي حكاه على بطلانه قولا لبعضهم لكان الفرق بين الأمرين واضحا لأنهم إنما بنوا هذا الاعتقاد الفاسد عليه أن التحكيم كفر، وقد دلت الأدلة على أنه صواب وحق فسقط ما فرعوه عليه.

والقول الذي عارضه بهذا، إنما بني على دفع النص وأنه ضلال وذلك مما قد دلت الأدلة على صحته، والرجوع إلى الأدلة يفرق بين الأمرين ويقتضي سلامة باطن أمير المؤمنين عليه السلام على وجه لا يقتضي سلامة باطن غيره.

فأما ما حكاه من الاحتجاج بالتزويج فليس ذلك مما يحتج به ولا يعول عليه، وهذا واضح.

قال صاحب الكتاب: " وقد ذكر شيخنا أبو علي من القرآن ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) (1) وقال (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (2) وقال: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) (3) يعني قوله: (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي

____________

(1) الفتح 11.

(2) التوبة 83.

(3) الفتح 15.

الصفحة 33   

عدوا) (1) ثم قال: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) (2) فتبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه، ولا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة، ولم يدعهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتال الكفار إلا أبو بكر وعمر وعثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل، فقال بعضهم: عني بقوله (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) بني حنيفة، وقال بعضهم: عني بذلك فارس والروم، وأبو بكر هو الذي دعى إلى قتال بني حنيفة، وقتال فارس والروم. ودعاهم بعده إلى قتال فارس والروم عمر، فإذا كان الله تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما يؤتيهم الله أجرا حسنا، وإن تولوا عن طاعتهما يعذبهم الله عذابا أليما صح أنهما على حق وأن طاعتهما طاعة الله، وهذا يوجب صحة إمامتهما وصلاحهما لذلك.

ثم قال: فإن قيل: إنما أراد تعالى بذلك أهل الجمل وصفين فذلك فاسد من وجهين:

أحدهما: قوله تعالى (يقاتلونهم أو يسلمون) والذين حاربوا أمير المؤمنين عليه السلام كانوا على الاسلام، ولم يكونوا يقاتلون على الكفر [ ولا كان هو يقاتلهم ليسلموا، بل كان يقاتلهم ليردهم إلى طاعته والدخول في بيعته ويردهم عن البغي ] (3).

____________

(1) التوبة 83.

(2) الفتح 16.

(3) جميع الزيادات تحت هذا الرقم من " المغني ".

الصفحة 34   

والوجه الثاني: أنا لا نعرف من الذين عناهم بذلك من بقي إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام كما علمنا أنهم كانوا باقين إلى أيام أبي بكر [ فوجب بهذا أن الذي دعوا هؤلاء المخالفين إلى قتال قوم أولي بأس شديد هم أبو بكر وعمر ] (1) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (2) " ثم قال: " وهذا خبر من الله تعالى ولا بد من أن يكون كائنا على ما أخبر به، والذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر وأصحابه فوجب أنهم الذين عناهم بقوله: (يحبهم ويحبونه) [ وأنهم (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) ] (3) وذلك يوجب أن يكون على صواب [ وأن يكون ممن وفى ويمنع من قول من يدعي النص وأنه كان على باطل ] (3).

قال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا) (4) فلم نجد هذا التمكين والاستخلاف في الأرض الذي وعده الله من آمن وعمل صالحا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله إلا في أيام أبي بكر وعمر لأن الفتوح كانت في أيامهم وأبو بكر فتح بلاد العرب، وصدرا من بلاد

____________

(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".

(2) المائدة 54.

(3) الزيادة من المغني.

(4) النور 55.

الصفحة 35   

العجم. وعمر فتح مدائن كسرى وإلى حد (1) خراسان والشام ومصر * ثم كان من عثمان فتح ناحية المغرب * (2) وخراسان وسجستان وغيرها، وإذا كان التمكين والاستخلاف الذي تضمنته الآية لهؤلاء الأئمة وأصحابهم علمنا أنهم محقون، فلو لم يكن لهؤلاء لم يصح لأنه لم يكن لغيرهم الفتوح، ولو كان لغيرهم أيضا لوجب كون الآية متناولة للجميع (3) وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...) (4) ولو كان الأمر على ما يقوله كثير من الإمامية أنهم ارتدوا بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وخالفوا النص الجلي لما كانوا خير أمة، لأن أمة موسى لم يرتدوا بعد موسى بل كانوا متمسكين به مع يوشع ".

وقال حاكيا عن أبي علي: " وكيف يتصور عاقل مع عظم حال الاسلام عند موت الرسول صلى الله عليه وآله أن يكون الجميع ينقادون لأبي بكر ولا ينكرون إمامته، وقد نص رسول الله نصا ظاهرا على واحد بعينه فلا يتخذه أحد إماما ولا يذكرون ذلك. ولو جاز ذلك لجاز أن يكون للرسول صلى الله عليه وآله ولد ولا نص عليه (5) ولم يذكر ذلك وكيف يكونون مرتدين مع أنه تعالى أخبر أنه جعلهم (أمة وسطا) (6) وكيف يصح مع قوله عز وجل: (السابقون الأولون من المهاجرين

____________

(1) غ " إلى جهة ".

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(3) العبارة في " المغني " ناقصة ومشوشة.

(4) آل عمران 110.

(5) في المغني " ولذا نص عليه " وهو تصحيف ظاهر وفي ض " ولد نص عليه ".

(6) البقرة من الآية 143.

الصفحة 36   

والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (1) وكيف يقول تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) (2) وكيف يصح ذلك مع قوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه) (3) الآية فشهد بمدحهم وبأنهم غيظ الكفار، ونحن نعلم أنه لا يغيظ الكفار بستة نفر على ما يقوله الإمامية، وكيف يصح ما قالوه مع قوله صلى الله عليه وآله (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)، وكل ذلك يبين بطلان قولهم: إنه لم يصلح للإمامة، وإنه مشكوك في فضله وإيمانه،... " (4) يقال له: أما ما بدأت به من الآية التي زعمت أن أبا علي اعتمدها، واستدل بها، فالغلط في تأويلها ظاهر، وقد ضم إلى الغلط في التأويل أيضا الغلط في التاريخ. ونحن نبين ما في ذلك.

ولنا في الكلام على هذه الآية وجهان.

أحدهما: أن ننازع في اقتضائها داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله ونبين أن الداعي لهم فيما بعد كان الرسول صلى الله عليه وآله والوجه الآخر أن نسلم أن الداعي غيره عليه السلام ونبين أنه لم يكن أبو بكر وعمر على ما ظن أبو علي وأصحابه، بل كان أمير المؤمنين.

____________

(1) التوبة 100.

(2) الحديد 10.

(3) الفتح 29.

(4) كل ما نقله المرتضى هنا تجده في المغني 20 ق 1 / 321 - 327.

الصفحة 37   

فأما الوجه الأول، فواضح لأن قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) (1) إنما أراد به الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل وإطباق المفسرين (2) ثم قال تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) (3) وإنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك وأمر نبيه صلى الله عليه وآله بأن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزوة لأن الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وأنه لاحظ فيها لمن لم يشهدها وهذا هو معنى قوله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) وقوله: (كذلكم قال الله من قبل) ثم قال تعالى (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) (4) وإنما أراد أن الرسول صلى الله عليه وآله سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وآله بعد

____________

(1) الفتح 11، 12.

(2) انظر تفسير الطبري ج 26 / 48 و 49 وتفسير الرازي ج 28 / 88 والكشاف 3 / 543 والتبيان 9 / 319.

(3) الفتح 15.

(4) الفتح 16.

الصفحة 38   

ذلك إلى غزوات كثيرة، وقتال قوم أولي بأس شديد كمؤتة (1) وحنين (2) وتبوك (3) وغيرها فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي صلى الله عليه وآله مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر؟ وقوله: " إن معنى قوله تعالى: (كذلكم قال الله من قبل) إنما أراد به ما بينه في قوله:

(فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) (4) وهو الغلط الفاحش من طريق التاريخ والرواية التي وعدنا بالتنبيه عليها لأن هذه الآية في سورة التوبة، وإنما نزلت بتبوك سنة تسع وآية الفتح نزلت سنة ست، فكيف يكون قبلها؟

وليس يجب أن يقال في القرآن بالآراء أو بما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآية والأسباب التي وردت عليها وتعلقت بها.

____________

(1) مؤتة تقدم ذكرها.

(2) حنين: قال ياقوت في معجم البلدان 2 / 312: يجوز أن يكون تصغير الحنان وهو الرحمة - تصغير ترخيم - ويجوز أن يكون تصغير الحن وهو حي من الجن وهو الموضع المعروف بين مكة والطائف، ويوم حنين من أيام الاسلام المشهورة، وحنين يذكر ويؤنث فإن قصدت به البلد والموضع ذكرته، وصرفته، وإن قصدت به البلدة والبقعة أنثته ولم تصرفه قال الشاعر:

 

نصروا نبيهم وشدوا أزره        بحنين يوم تواكل الأبطال

 

(3) تبوك - بالفتح ثم الضم وواو ساكنة: موضع معروف بين وادي القرى والشام، توجه إليه النبي صلى الله عليه وآله في سنة تسع للهجرة وهي آخر غزواته حين انتهى إليه تجمع الروم وعاملة ولخم وجذام فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق كيدا ونزلوا على عين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا أحد يمس من مائها فسبق إليها رجلان وهي تبض بشئ من ماء فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما صلى الله عليه وآله (ما زلتما تبوكان منذ اليوم فسميت بذلك تبوك) والبوك إدخال اليد في شئ وتحريكه، وركز صلى الله عليه وآله عنزته فيها ثلاث ركزات فجاشت ثلاث أعين فهي تهمي بالماء إلى الآن (انظر معجم البلدان 2 / 14 مادة " تبوك ").

(4) التوبة 83.

الصفحة 39   

ومما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم يرجع في ذلك إلى نقل وتاريخ قوله في هؤلاء: (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) (1) فلم يقطع فيهم على طاعة ولا معصية، بل ذكر الوعد والوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية، وحكم المذكورين في آية التوبة بخلاف هذا لأنه تعالى قال بعد قوله:

(إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (2) واختلاف أحكامهم وصفاتهم يدل على اختلافهم لو أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية التوبة.

فأما قوله: " لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل " ذكرهما فباطل لأن أهل التأويل قد ذكروا أشياء أخر لم يذكرها لأن ابن المسيب (3) روى عن الضحاك في قوله تعالى: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) (4) الآية قال: هم ثقيف. وروى هيثم عن أبي بشير عن سعيد بن جبير قال: هم هوازن يوم حنين. وروى الواقدي عن معمر عن قتادة قال: هم هوازن وثقيف (5) فكيف ذكر

____________

(1) الفتح 16.

(2) التوبة 83 و 84.

(3) هو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني من المفسرين في القرن الثاني.

(4) الفتح 16.

(5) انظر تفسير الطبري ج 16 / 51 / 52،

الصفحة 40   

من قول أهل التأويل ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم. على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين، فإنهم ربما تركوا ما يحتمله القول وجها صحيحا وكم استخرج جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه، ولها أشد احتمالا ما لم يسبق إليه المفسرون ولا دخل في جملة تفسيرهم وتأويلهم.

فأما الوجه الآخر: الذي نسلم فيه أن الداعي لهؤلاء المخلفين هو غير النبي صلى الله عليه وآله فنبين أيضا لأنه لا يمتنع أن يعني بهذا الداعي أمير المؤمنين عليه السلام لأنه قد قاتل بعده أهل الجمل وصفين وأهل النهروان، وبشره النبي صلى الله عليه وآله بأنه يقاتلهم، وقد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة.

فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله: (أو يسلمون) وإن الذين حاربهم أمير المؤمنين عليه السلام كانوا مسلمين، فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده وعند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الاسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان، إذ كان الإيمان هو الاسلام على مذاهبهم (1)، ثم مذهبنا نحن في محاربي أمير المؤمنين معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بحربه بوجوه ونحن نذكر منها هاهنا طرفا ولاستقصائها موضع غيره.

منها: إن من حاربه كان مستحلا لقتله مظهرا لأنه في ارتكابه على حق، ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر فهو كافر بالاجماع، واستحلال دم المؤمن فضلا عن أكابرهم وأفاضلهم أعظم من شرب الخمر واستحلاله، فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا.

____________

(1) الضمير للمعتزلة والقاضي أحد أقطابهم وهم مجمعون على أن صاحب الكبيرة مخلد في النار إن لم يتداركها بالتوبة.

الصفحة 41   

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله قال له عليه السلام بلا خلاف بين أهل النقل: (حربك يا علي حربي وسلمك سلمي) (1) ونحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام. ومن أحكام محاربي النبي صلى الله عليه وآله الكفر بلا خلاف.

ومنها: أنه عليه السلام قال بلا خلاف أيضا: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) وقد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة.

فأما قوله: " إنا لا نعلم بقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام كما علمنا بقاءهم إلى أيام أبي بكر " فليس بشئ لأنه إذا لم يكن معلوما ومقطوعا عليه، فهو مجوز غير معلوم خلافه والجواز كاف لنا في هذا الموضع، ولو قيل له: من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة، وهذا بعينه يمكن أن يقال له، ويعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يوجبه حكم الآية.

فإن قيل: كيف يكون أهل الجمل وصفين كفارا ولم يسر فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بسيرة الكفار لأنه ما سباهم ولا غنم أموالهم ولا اتبع موليهم.

قلنا: أحكام الكفر تختلف وإن شملهم اسم الكفر، لأن فيهم من يقتل

____________

(1) تقدم تخريجه.

 

 

 

 

الصفحة 42   

ولا يستبقى، وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله إلا بسبب طار غير الكفر، ومنهم من لا يجوز نكاحه بإجماع، ومنهم من يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يكون هؤلاء القوم كفارا وإن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا أحكام الكفار ونرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله عليه السلام وسيرته فيهم على إنا لا نجد من الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا ولا يقتل موليا ولا يجهز على جريحه إلى غير ذلك من الأحكام التي سير بها في أهل البصرة وصفين.

فإذا قيل - في جواب ذلك -: أحكام الفسق مختلفة، وفعل أمير المؤمنين عليه السلام هو الحجة في أن حكم أهل البصرة وصفين ما فعله.

قلنا: مثل ذلك حرفا بحرف، ويمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي ولا على إمامته لأنه يجوز أن يدعو إلى الحق والصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا بدعاء الداعي إليه وأبو بكر إنما دعى إلى دفع أهل الردة إلى الاسلام (1) وهذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع والطاعة فيه طاعة الله، فمن أين أن الداعي كان على حق وصواب وليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك؟ ويمكن أيضا أن يكون قوله تعالى: (ستدعون) إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين ودفعهم عن بيضة الاسلام فقد دعاهم إلى القتال ووجبت عليهم الطاعة ووجب لهم الثواب إن أطاعوا، وهذا أيضا وجه تحتمله الآية.

فأما قوله: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) الآية

____________

(1) عن أهل الاسلام، خ ل.

الصفحة 43   

وادعاء صاحب الكتاب أنها في أبي بكر وأصحابه فما زاد في هذا الوضع على الدعوى والاقتراح، فيقال له من أين قلت: إن الآية في أبي بكر وأصحابه نزلت؟

فإن قال: لأنهم هم الذين قاتلوا المرتدين بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحد قاتلهم سواهم.

قيل له: ومن الذي سلم لك ذلك، أوليس أمير المؤمنين عليه السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء عندنا مرتدون عن الدين ويشهد بصحة هذا التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين من قوله عليه السلام يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم وتلا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) وروي عن عمار وحذيفة وغيرهما مثل ذلك (1).

فإن قال: دليل على أنها في أبي بكر وأصحابه قول أهل التفسير.

قيل له: أوكل أهل التفسير قال ذلك؟

فإن قال: نعم، كابر لأنه قد روي عن جماعة، التأويل الذي ذكرناه ولو لم يكن ذلك إلا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ووجوه الصحابة لكفى.

فإن قال: حجتي قول بعض المفسرين.

قلنا: وأي حجة في قول البعض ولم صار البعض الذي قال ما

____________

(1) نقل هذا عن عمار وحذيفة الطبرسي في مجمع البيان 3 / 208 والمراد بغيرهما ابن عباس والباقر والصادق عليهما السلام.

الصفحة 44   

ذكرته بالحق أولى من البعض الذي قال ما ذكرناه.

ثم يقال له: قد وجدنا الله تعالى نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن نراعيها لنعلم أفي صاحبنا هي أم في صاحبك؟ لأنه وصفهم بأن الله يحبهم ويحبونه، وهذا وصف مجمع عليه في صاحبنا مختلف فيه في صاحبك، وقد جعله الرسول صلى الله عليه وآله علما له في خيبر حين فر من القوم عن العدو فقال: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار) (1) فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ثم قال (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ومعلوم بلا خلاف حالة أمير المؤمنين عليه السلام في التخاشع والتواضع وذم نفسه وقمع غضبه وأنه ما رؤي طائشا ولا مستطيرا (2) في حال من أحوال الدنيا ومعلوم حال صاحبيكم في هذا الباب.

أما أحدهم فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه، وأما الآخر فكان معروفا بالحدة والعجلة، مشهورا بالفظاظة والغلظة.

وأما العزة على الكافرين فإنما يكون بقتالهم وجهادهم والانتصاف منهم، وهذه حال لم يسبق أمير المؤمنين عليه السلام إليها سابق في الحقيقة ولا لحقه فيها لاحق ثم قال: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) وهذا وصف أمير المؤمنين عليه السلام مستحق له بالاجماع، وهو منتف عن أبي بكر وعمر بالاجماع لأنه لا قتيل لهما في الاسلام ولا جهاد بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وإذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين عليه السلام وغير حاصلة لمن أدعيتهم لأنها فيهم على ضربين: ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد، وضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد، وعلى من أثبتها لهم الدلالة على حصولها، ولا بد

____________

(1) تقدم تخريجه.

(2) الطيش: القحة والنزق، والمستطير - هنا - الشرير.

الصفحة 45   

من أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية، فلا يبقى في يده من الآية دليل.

فأما ما تعلق به من قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) (1) فأول ما في ذلك أن الآية مشروطة بالإيمان، فيجب على من ادعى تناولها القوم أن يبين إيمانهم بغير الآية وما يقتضيه ظاهرها، ثم المراد بالاستخلاف هاهنا ليس هو الإمامة والخلافة على ما ظنوه، بل المعنى فيه بقاؤهم في أثر من مضى من الفرق وجعلهم عوضا منهم وخلفا.

ومن ذلك قوله: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (2) وقوله: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (3) وقوله تعالى: (وربكم الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) (4) وقد ذكر أهل التأويل في قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) (5) أن المراد به كون كل واحد منهما خلف صاحبه. وأنشدوا في ذلك قول زهير بن أبي سلمى:

 

بها العين والآرام يمشين خلفة  وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم (6)

 

____________

(1) النور 55.

(2) الأنعام 165.

(3) الأعراف 129.

(4) الأنعام 133.

(5) الفرقان 62.

(6) البيت من المعلقة والعين - بالكسر - بقر الوحش، والآرام: الظباء واحدها ريم بالفتح، وخلفة واحدة بعد واحدة، والاطلاء جمع طلا وهو ولد الظبي الصغير، والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه الطائر، أو بمعنى الجثوم - مصدر - أراد إن الدار اقفرت حتى صارت مجثما لضروب الوحش.

الصفحة 46   

وهذا الاستخلاف والتمكين في الدين لم يتأخر إلى أيام أبي بكر وعمر على ما ظنه القوم بل كان في أيام النبي صلى الله عليه وآله حين قمع الله أعداءه، وأعلى كلمته، ونشر رايته، وأظهر دعوته، وأكمل دينه، ونعوذ بالله أن نقول: إن الله لم يكن أكمل دينه لنبيه في حياته حتى تلافى ذلك متلاف بعد وفاته، وليس كل التمكين هو كثرة الفتوح والغلبة على البلدان، لأن ذلك يوجب أن دين الله تعالى لم يتمكن إلى اليوم لعلمنا ببقاء ممالك الكفرة كثيرة لم يفتحها المسلمون، ولأنه أيضا يوجب أن الدين تمكن في أيام معاوية ومن بعده من بني أمية أكثر من تمكنه في أيام النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر لأن بني أمية افتتحوا بلادا لم تفتتح قبلهم.

ثم يقال له: من أي وجه أوجبت كون التمكين فيمن ادعيت؟ فإن قال: لأني لم أجد هذا التمكين والاستخلاف إلا في أيامهم وقد بينا ما في ذلك وذكرنا أن التمكين كان متقدما وكذلك الاستخلاف على المعنى الذي ذكرناه، وإن قال: لأنا لم نجد من خلف الرسول صلى الله عليه وآله وقام مقامه إلا من ذكرته.

قيل له: أليس قد بينا أن الاستخلاف هاهنا يحتمل غير معنى الإمامة فلم حملته على الإمامة؟ وبعد فإن حمله على المعنى الذي ذكرناه أقرب إلى مذهبك وأجرى على أصولك لأنه إذا حملته على الإمامة لم يعم جميع المؤمنين وإذا حمل على المعنى الذي ذكرناه عم جميع المؤمنين.

وبعد، فإذا سلم لك أن المراد به الإمامة لم يتم ما ادعيته إلا بأن تدل من غير جهة الآية على أن أصحابك كانوا أئمة على الحقيقة، وخلفاء للرسول صلى الله عليه وآله حتى تتناولهم الآية.

فإن قال: دليلي على تناولها لهم قول أهل التفسير. (*)

الصفحة 47   

قيل له، ليس كل أهل التفسير قال ما ادعيت لأن ابن جريح (1) روى عن مجاهد في قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) (2) قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره قريب من ذلك وقد تأول هذه الآية علماء أهل البيت صلوات الله عليهم وحملوها على وجه معروف، فقالوا: هذا التمكين والاستخلاف وإبدال الخوف بالأمن إنما يكون عند قيام المهدي عليه السلام (3) فليس على تأويلك إجماع من المفسرين، وقول بعضهم ليس بحجة.

فأما تعلقه بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (4) وإنهم لو كانوا خالفوا النص الجلي لم يكونوا خير أمة أخرجت للناس، فقد تقدم من كلامنا على هذه الآية وكلامه أيضا على من استدل بها على صحة الإجماع، فإنه ضعف الاستدلال بها، بما فيه كفاية لكنا نقول له هاهنا:

 

ألست تعلم أن هذه الآية لا تتناول جميع الأمة، لأن ما اشتملت عليه من الأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما ليس موجودا في جميع الأمة.

فإن قال: هي متوجهة إلى الجميع كان علمنا بأن أكثرهم لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر دافعا لقوله، وإن اعترف بتوجهها إلى البعض.

____________

(1) هو عبد الملك بن جريح المكي الأموي بالولاء من المفسرين في أوائل القرن الثاني.

(2) النور 55.

(3) انظر مجمع البيان 7 / 152.

(4) آل عمران 110.

الصفحة 48   

قيل له: فما المانع على هذا أن يكون الدافع للنص بعض الأمة ممن لم تتوجه إليه الآية.

فإن قال: إنما بنيت كلامي على أن الأمة كلها لم تصل بدفع النص فلهذا استشهدت بالآية؟

قيل له: ومن هذا الذي يقول: إن الأمة كلها ضلت بدفع النص حتى يحتاج إلى الاستدلال عليه، وقد مضى في هذا المعنى عند الكلام في النص ما فيه كفاية.

فإن قال: فأي فضل يكون لهذه الأمة على الأمم قبلها إذا كان أكثرها قد ضل وخالف النبي صلى الله عليه وآله ويجب أن يكون أمة موسى أفضل منهم وخيرا لأنهم لم يرتدوا بعد موسى عليه السلام.

قيل له: أما لفظة " خير " وهي عندنا وعندك تبنى على الثواب والفضل، وليس يمتنع أن يكون من لم يخالف النص من الأمة أكثر ثوابا وأفضل عملا من الأمم المتقدمة، وإن كان في جملة المسلمين من عدل عن النص، وليس بمنكر أن يكون من قل عدده أكثر ثوابا ممن كثر عدده، ألا ترى أن أمتنا بلا خلاف أقل عددا من أمم الكفر، ولم يمنع هذا عندك من أن يكونوا خير أمة ولم يعتبر بقلتهم وكثرة غيرهم فكذلك لا يمنع ما ذكرناه من كون أهل الحق خيرا من سائر الأمم المتقدمين وإن كانوا بعض الأمة أقل عددا ممن خالفهم، على أنك تذهب إلى أن قوما من الأمة ارتدوا بعد الرسول صلى الله عليه وآله وطوائف من العرب رجعوا عن أديانهم حتى قوتلوا على الردة، ولم يكن هذا في أمة موسى وعيسى عليهما السلام ولم يوجب ذلك أن تكون أمة موسى وعيسى عليهما السلام خيرا من أمتنا ولا مانع من أن تكون أمتنا خيرا منهم. وإن كان من تقدم قد سلم من الردة بعد نبيه ولم تسلم أمتنا من ذلك. فظهر أنه لا معتبر في الردة، بل المعتبر

الصفحة 49   

بالفضل وزيادة الجزاء على الأعمال.

فأما قوله: (كيف ينقادون لمن نص عليه السلام على غيره) فقد مضى في هذا من الكلام ما لا طائل في إعادته.

وقوله: (لو جاز ذلك لجاز أن يكون للرسول صلى الله عليه وآله ولد نص عليه ولم يذكر ذلك) فقد مضى في هذا الجنس من الكلام الكثير، على أنا نقول له: إنما تكون المعارضة بولد لم يذكر ولم ينقل النص عليه، في مقابلة من قال بنص لم يذكره ذاكر، ولم ينقله ناقل، وهذا ما لم نقل به نحن ولا أحد (1) وإنما يكون عروضا لنص مذكور معروف تذهب إليه طائفة من الأمة منتشرة في البلاد، والقول بنص على ولد له بهذه الصورة يجري مجراها (2) ومعلوم فقد ذلك.

ثم يقال له: إذا جرى عندك القول بالنص الذي تذهب إليه مجرى النص على الولد فلم كان أحد الأمرين معلوما نفيه (3) لكل عاقل ضرورة والآخر تختلف فيه العقلاء وتصنف فيه الكتب، وتنتحل له الأدلة، وهذا يدل على افتراق الأمرين وبعد ما بينهما.

فأما قوله: (فكيف يكونون مرتدين مع أنه تعالى أخبر أنه جعلهم (أمة وسطا) (4) فقد مضى أيضا من الكلام في هذه الآية عند استدلاله بها في صحة (5) الإجماع ما فيه كفاية. والكلام فيها يقرب من الكلام على

____________

(1) يريد الذاهبين إلى النص.

(2) يعني إذا كان النص على ولد له بالصورة التي يذهب إليها القائلون بالنص فإنه يجري هذا المجرى ولكن ذلك مفقود.

(3) أي النص على الولد.

(4) البقرة 143.

(5) على صحة، خ ل.

الصفحة 50   

قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وجملة الأمر أنه تعالى نعتهم بأنهم خيار. وهذا نعت لا يجوز أن يكون لجميعهم، بل يتناول بعضهم ووصف بعضهم بأنه خيار لا يمنع من ردة بعض آخر.

فأما قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) (1) فلنا في الكلام عليه وجهان: أحدهما أن ننازع في أن السبق ها هنا السبق إلى الاسلام، والوجه الآخر أن نسلم ذلك فنبين أنه لا حجة في الآية على ما ادعوه، والوجه الأول بين لأن لفظة " السابقين " في الآية مطلق غير مضاف، ويحتمل أن يكون مضافا إلى إظهار الاسلام، واتباع النبي صلى الله عليه وآله بل المراد به السبق إلى الخيرات والتقدم في فعل الطاعات، ويكون قوله " الأولون " تأكيدا لمعنى السبق كما يقولون: فلان سابق في الفضل إلى الخيرات سابق فيؤكدون باللفظين المختلفين، وقد قال الله تعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (2) وقال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (3) فإن قيل: إذا كان المراد ما ذكرتم فأي معنى لتخصيص المهاجرين والأنصار ولولا أنه أراد السبق إلى الاسلام.

قلنا: لم نخص المهاجرين والأنصار دون غيرهم لأنه تعالى قال:

(والذين اتبعوهم بإحسان) (4).

وهو عام في الجميع على أنه لا يمتنع أن يخص المهاجرين والأنصار بحكم

____________

(1) التوبة 100.

(2) الواقعة 10.

(3) فاطر 32.

(4) التوبة 100.

الصفحة 51   

هو لغيرهم، إما لفضلهم وعلو قدرهم أو لغير ذلك من الوجوه.

فأما الوجه الثاني فالكلام فيه أيضا بين لأنه إذا سلم أن المراد بالسبق هو السبق إلى إظهار الاسلام فلا بد من أن يكون مشروطا بالاخلاص في الباطن لأن الله تعالى لا يعد بالرضا من أظهر الاسلام ولم يبطنه فيجب أن يكون الباطن معتبرا ومدلولا عليه فيمن يدعي دخوله تحت الآية حتى يتناوله الوعد بالرضا ومما يشهد بأن الاخلاص مشروط مع السبق إلى إظهار الاسلام قوله تعالى: (والذين اتبعوهم بإحسان) فشرط الاحسان الذي لا بد أن يكون مشروطا في الجميع على أن الله تعالى قد وعد الصابرين والصادقين بالجنان، فقال: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) (1) وقوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) (2) ولم يوجب ذلك أن يكون كل صابر وصادق مقطوعا له بالجنة، بل لا بد من شروط مراعاة فكذلك القول في السابقين على أنه لا يخلو المراد بالسابقين من أن يكون هو الأول الذي لا أول قبله أو يكون من سبق غيره، وإن كان مسبوقا والوجه الأول هو المقصود لأن الوجه الثاني يؤدي إلى أن يكون جميع المسلمين سابقين إلا الواحد الذي لم يكن بعده إسلام أحد، ومعلوم خلاف هذا فلم يبق إلا الوجه الأول ولهذا أكده تعالى بقوله: (الأولون) لأن من كان قبله غيره لا يكون أولا بالإطلاق، ومن هذه صفته بلا خلاف أمير المؤمنين عليه

____________

(1) المائدة 119.

(2) البقرة 155 - 157.

الصفحة 52   

السلام وحمزة وجعفر (1) وخباب بن الأرت (2) وزيد بن ثابت (3) وعمار ومن الأنصار سعد بن معاد (4) وأبو الهيثم بن التيهان (5) وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين (6) فأما أبو بكر ففي تقدم إسلامه خلاف معروف (7) فعلى من ادعى تناول الآية أن يدل أنه من السابقين.

فأما قوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح

____________

(1) حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وجعفر ابن عمه.

(2) خباب بن الإرث صحابي من السابقين الأولين كان سادس ستة في الاسلام وعذب في الله وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله المشاهد كلها ومات بالكوفة بعد أن شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام صفين والنهروان وهو أول من دفن بظهر الكوفة.

(3) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري كان عثمانيا ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه وهو الذي كتب القرآن على عهد عثمان واختلفوا في سنة وفاته على أقوال ذكرها ابن الأثير في أسد الغابة بترجمته 2 / 221.

(4) سعد بن معاذ الأنصاري أسلم على يد مصعب بن عمير لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة فقال لبني عبد الأشهل كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا، فأسلموا فكان من أعظم الناس بركة في الاسلام شهد بدرا واحدا والخندق فأصابه سهم فدعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه في بني قريضة، واستجاب الله سبحانه دعاءه، وحكمه رسول الله فيهم في قصة معروفة (وانظر أسد الغابة 2 / 296).

(5) أبو الهيثم مالك بن التيهان بالياء المنقوطة باثنتين تحتها المشددة المكسورة وقبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها الأنصاري شهد العقبة وهو أحد النقباء وشهد مع رسول الله مشاهده كلها، وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين واستشهد فيها.

(6) خزيمة (مصغرا) بن ثابت الأنصاري يكني أبا عمارة. شهد بدرا وما بعدها من المشاهد ويقال له ذو الشهادتين لأن رسول الله صلى الله عليه وآله جعله شهادته كشهادة رجلين لقصة مشهورة، وشهد مع علي عليه السلام صفين وقتل، وتأوه عليه أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المذكورة في نهج البلاغة برواية نوف البكالي (انظر الاستيعاب 12 / 179 باب الكنى حرف الهاء وشرح نهج البلاغة 9 / 108).

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 9 / 109: " ومن غريب ما وقعت عليه من العصبية أن أبا حيان التوحيدي قال في كتاب " البصائر " إن خزيمة بن ثابت المقتول مع علي عليه السلام بصفين ليس خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين بل آخر من الأنصار صحابي اسمه زيد بن ثابت " قال: " وهذا خطأ لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأن لم يكن في الصحابة من الأنصار خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين وإنما الهوى لا دواء له، على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول، ومن كتابه نقل أبو حيان، والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه " قال: " ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين بخزيمة وأبي الهيثم وعمار وغيرهم! ولو أنصف الناس هذا الرجل ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنه لو كان وحده وحاربه الناس كلهم أجمعون لكان على الحق وكان كل الناس على الباطل ".

(7) انظر تفصيل هذه المسألة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 215.

الصفحة 53   

وقاتل) (1) الآية فالاعتبار وهو بمجموع الأمرين يعني القتال والانفاق، ومعلوم أن أبا بكر لم يقاتل قبل الفتح ولا بعده، وهذا القدر يخرجه من تناول الآية، ثم في إنفاقه خلاف قد بينا من قبل الكلام فيه وأشبعناه، على أنه لو سلم لأبي بكر إنفاق وقتال على بعدهما لكان لا يكفي في تناول الآية له لأنه معلوم أن الله تعالى لا يمدح ولا يعد بالجنة على ظاهر الانفاق والقتال، وإن كان الباطن بخلافه، ولا بد من اعتبار الباطن والنية والقصد إلى الله تعالى بالفعل فعلى من ادعى تناول الآية لمن ظهر منه إنفاق وقتال أن يدل على حسن باطنه وسلامة غرضه، وهذا لا يكون مفهوما من الآية ولا بد من الرجوع فيها إلى غيرها.

فأما قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه) (2) الآية فأول ما يقال فيها أن الألف واللام إذا لم تفد الاستغراق بظاهرها من غير دليل، لم يكن للمخالف متعلق بهذه الآية لأنها حينئذ محتملة للعموم وغيره على سواء وقد بينا أن الصحيح غير ذلك، وأن هذه الألفاظ مشترك الظاهر، ودللنا عليه في غير موضع، ولو سلمنا مذهبهم في العموم أيضا لم نسلم أما قصدوه لأن قوله تعالى: (والذين معه) لا يعدو أحد أمرين أحدهما من

____________

(1) الحديد 10.

(2) الفتح 29.

الصفحة 54   

كان في عصره وزمانه وصحبته، والآخر من كان على دينه وملته، والأول يقتضي عموم أوصاف الآية وما تضمنته من المدح لجميع من عاصره وصحبه عليه السلام ومعلوم أن كثيرا من هؤلاء كان منافقا خبيث الباطن لا يستحق شيئا من المدح ولا يليق به هذه الأوصاف، فثبت أن المراد بالذين معه من كان على دينه ومتمسكا بملته، وهذا يخرج الظاهر من يد المخالف وينقض غرضه في الاحتجاج به، لأنا لا نسلم له أن كل من كان بهذه الصفة فهو ممدوح مستحق لجميع صفات الآية، وعليه أن يبين أن من خالفناه فيه له هذه الصفة حتى يحصل له التزاحم، وليس لهم أن يقولوا: نحن نحمل اللفظ (1) على الصحبة والمعاصرة، ونقول إن الظاهر والعموم يقتضيان حصول جميع الصفات لكل معاصر مصاحب إلا من أخرجه الدليل، فالذي ذكرتم ممن يظهر نفاقه وشكه نخرجه بدليل، وذلك أنها إذا حملت على الصحبة والمعاصرة وأخرج بالدليل بعض من كان بهذه الصفة كانت الآية مجازا لأنا إنما نتكلم الآن على أن العموم هو الحقيقة والظاهر، ومتى حملناها على أن المراد بها من كان على دينه عمت كل من كان بهذه الصفة فكانت الآية حقيقة على هذا الوجه، وصار ذلك أولى مما ذكروه، وليس لهم أن يقولوا: إن الظاهر من لفظة " معه " يقتضي الزمان والمكان دون المذهب والاعتقاد لأنا لا نسلم ذلك، بل هذه اللفظة مستعملة في الجميع على سواء، ولهذا يحسن استفهام من قال:

فلان مع فلان عن مراده، وقد يجوز أن يكون في أصل اللغة للمكان أو الزمان، ويكون العرف وكثرة الاستعمال قد أثر في احتمالها لما ذكرناه، على إنا لو سلمنا ذلك أيضا لكان التأويلان جميعا قد تعادلا في حصول وجه من المجاز في كل واحد منهما، وليس المخالف بأن يعدل إلى تأويله هربا

____________

(1) أي " والذين معه ".

الصفحة 55   

من المجاز الذي في تأويلنا بأولى ممن عكس ذلك وعدل عن تأويله للمجاز الذي فيه، وإذا تجاذب التأويلان وتعادلا بطل التعلق بالظاهر، ولم يكن في الآية دليل للمخالف على الغرض الذي قصده، على إنا قد بينا فيما تقدم ما يقتضي خروج القوم عن مثل هذه الآية لأن الشدة على الكفار إنما تكون ببذل النفس في جهادهم والصبر على ذلك وأنه لاحظ لمن يعنون فيه.

فأما قوله: (فكيف يغتاظ الكفار من ستة نفر) فأول ما فيه أنه بني من حكاية مذهبنا على فساد فمن الذي قال له منا: إن المتمسكين بالحق بعد النبي صلى الله عليه وآله كانوا ستة أو ستين أو ستمائة؟ ومن الذي حصر له عددهم؟ وليس يجب إذا كنا نذهب إلى أنهم قليل بالإضافة إلى مخالفيهم أن يكونوا ستة لأنا نقول جميعا إن المسلمين بالإضافة إلى أمم الكفر قليل، وليس هم ستة ولا ستة آلاف على أنه قد فهم من قوله (والذين معه) ما ليس مفهوما من القول لأنه حمله على من عاصره وكان في حياته وليس الأمر على ما توهم لأن المراد بذلك من كان على دينه وملته وسنته إلى أن تقوم الساعة، وهؤلاء ممن يغيظ الكفار بلا شبهة، على إنا لو سلمنا أن المراد به من كان في حياته في عصره لم يلزم أيضا ما ظنه لأنه قد قتل ومات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله قبل الهجرة وبعدها ممن كان على الحق عدد كثير وجم غفير يغيظ بعضهم الكفار فضلا عن كلهم.

فأما تعلقه بما روي عنه صلى الله عليه وآله من قوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم) (1) فأول ما فيه أنه خبر واحد لا يوجب علما ولا

____________

(1) ع " خير القرون ".

الصفحة 56   

يجوز أن يحتج به في أماكن العلم، ثم هو معارض بأخبار كثيرة قد ذكرنا منها طرفا فيما تقدم من هذا الكتاب مثل قوله: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخل أحدهم في حجر ضب لدخلتموه) فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال (فمن إذا) (1) وقال في حجة الوداع بعد كلام طويل: " ألا لا أعرفنكم ترتدون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إني قد شهدت وغبتم " (2) وهذا خطاب لأصحابه ومن كان في أيامه وقرنه، على أنه لا يخلو هذا الخبر (3) من أن يكون متوجها إلى جميع من كان في أيامه وعصره أو إلى بعض من كان فيه، فإن كان متوجها إلى جميعهم فهذا ما لا نقول به جميعا لأن في أيامه وعلى قرنه معاوية وعمرو بن العاص وأبا سفيان وفلانا وفلانا ممن نقطع جميع على أنه لا خير عنده، وإن كان متوجها إلى البعض فقد سقط الغرض بالاحتجاج به، وهذه جملة كافية في هذا الفضل.

____________

(1) تقدم تخريجه.

(2) تقدم تخريجه.

(3) في ع " هذا الجنس " فيكون المعنى هذا الجنس من الكلام وهو " خير الناس قرني ".