فصل في اعتراض كلامه في إمامة أبي بكر

الصفحة 217 

اعتمد صاحب الكتاب في هذا الباب على طريقتين، زعم أن الأولى منهما تدل على إمامة أبي بكر على سبيل الجملة، والثانية تدل على صحة الاختيار في الجملة، وعلى إمامة أبي بكر على سبيل التفصيل، وعول في الأولى على ما تقدم من كلامه في النص والرد على القائلين به، وأشار إلى حمل ما تقدم من كلامه في ذلك، ثم تكلم على من ذهب في الإمامة إلى أنها تثبت بالخروج بالسيف من الزيدية بكلام لا طائل في ذكره وتتبعه، لأنه واقع موقعه ثم شرع في الكلام على الطريقة الثانية، فقال: " إن الإجماع قد صح على الرضا بإمامة أبي بكر وكشف لنا الإجماع من أن البيعة وقعت صحيحة، لأنهم حين أجمعوا على ذلك لم يتجدد ما يوجب كونه إماما ولا تعلق إجماعهم بإمامته في وقت دون وقت ولذلك أجروا كل أيامه (1) وأحكامه مجرى واحدا فصار من هذا الوجه الإجماع كاشفا عن صحة إمامته من أول الأمر لا أن به صحت إمامته وإذا ثبت (2) ذلك فيجب أن يجعل الوجه الذي انعقدت به إمامته أصلا في تثبيت الإمامة على ما قدمنا القول فيه " (3).

____________

(1) غ " كل أيامه مجرى واحدا ".

(2) غ " وإذا صح ذلك ".

(3) المغني 20 ق 1 / 262.

الصفحة 218 

ثم بين أن الإجماع لا بد أن يكون مستندا إلى دلالة وشرع وذكر ما يمكن أن يكون الإجماع مستندا إليه مما لا حاجة بنا إلى ذكره، لأنا ندفعه عن الإجماع، ولو صح الإجماع لكان لا بد من استناده إلى دلالة على ما ذكر إلى أن قال: " واعلم أن من يخالفنا في هذا الباب ممن يطعن (1) في الإجماع لا نكلمهم في ذلك لأنه فرع وإنما نبين صحة الإجماع ثم نكلمهم في ذلك، وكذلك من يدعي في الإمامة أن طريقها العقل والنص الذي لا يحتمل أو ظهور الاعجاز وقد تكلمنا عليهم بما حضر، وإنما نتكلم بذلك بعد ثبوت الإجماع، وبطلان هذه الوجوه، ثم لا يخلو حالهم من وجهين إما أن يخالفوا في ثبوت الإجماع على ما نرتبه أو يسلموا ذلك في الظاهر ويتعلقوا بالتقية، وبادعاء باطن خلاف الظاهر على ما يحكى عن قوم ولا يمكن في ذلك إلا هذه الوجوه، ونحن نذكرها فأما الوجوه التي ترتب الإجماع عليها فأحدها أن يقال انتهى الأمر (2) في إمامته إلى أن لم يكن في الزمان إلا راض بإمامته أو كاف عن النكير، ولو لم يكن حقا لم يصح ذلك، ولا فرق بين أن نبين ذلك في أول الأمر أو في بعض الأوقات، وإنما نذكر ذلك لأن في ابتداء ما عقد له جرى كلام من العباس والزبير وأبي سفيان ووقع تأخر عن بيعة أمير المؤمنين أياما ومن غيره (3) ثم زال كل ذلك فإذا كان ثبوت الإجماع من الوجه الذي ذكرناه في آخر أمره ووسطه كهو في أوله في صحة الدلالة لم يمتنع أن يجعل العمدة في ذلك ثبوته في بعض الأحوال، وقد ترتب الإجماع ترتيبا آخر بأن نبين أن كل من

____________

(1) غ " من خالفنا في هذا الباب ويطعن ".

(2) غ " اشتهر الأمر ".

(3) أمثال سعد بن عبادة، ومن انضم إلى أمير المؤمنين كسلمان والمقداد وأبو ذر وعمار والزبير وغيرهم.

الصفحة 219 

يدعي عليه الخلاف قد ثبت عنه فعلا وقولا الرضا والبيعة ممن يعتمد عليه، لأن العامة في ذلك تبع للخاصة، ونبين أن سعد بن عبادة لم يبق على الخلاف ولا يعتد بخلافه، وقد نرتب على وجه آخر بأن يقال إجماعهم على فرع لأصل يتضمن تثبيت الأصل، وقد استقر الإجماع في أيام عمر على إمامته وهي فرع لإمامة أبي بكر، فيجب بصحتها صحة ذلك، أو نبين أن أحدا لم يقل بصحة أحدهما دون الآخر فثبوت أحدهما يوجب كثبوت الآخر من جهة هذا الإجماع الثاني ويكون الكلام في هذا الوجه أوضح، لأن أيام عمر امتدت وظهر من الناس الطاعة له، والتولي من قبله وحضور مجلسه والمعاضدة له في الأمور لأن سعد بن عبادة [ الذي ندعي أنه نفى الخلاف لا شك أنه ] (1) مات في أوائل أيام عمر فاستقر الإجماع بعده من غير شبهة، وكلام شيخنا أبي علي يدل على أن سعد بن عبادة مات في أيام أبي بكر، وأن الأمة أجمعت بعد موته على تسويغ (2) إمامته وقد خطأه الناس في ذلك، وزعموا أن الأمر ظاهر في أنه مات في أيام عمر، قال: وأظن أن الذي ذكره يعني أبا علي موجود في مغازي ابن إسحاق ، وعلى أي الوجوه (3) كان فقد ثبت ما أردناه ".

قال: " وقد قال شيخنا أبو علي ما يدل على أن خلاف سعد بن عبادة لا يؤثر لأنه إنما خالف على سبيل طلب الإمامة لنفسه، وقد صح إنه كان مبطلا في ذلك حيث استمر على المخالفة، وإنما كان استمر على هذه الطريقة فيجب أن لا يعد خلاف في أمر قد علم أنه فيه على باطل، ولأنه لا يمكن أن يقال: إن خروج سعد مما عليه الأمة يؤثر في الإجماع

____________

(1) التكملة من " المغني ".

(2) في المغني " سويع " وقال المحشي: " لعلها شيوخ " وأي معنى للتعليل.

(3) غ " وعلى الوجوه كلها ".

الصفحة 220 

لأنا نعلم أن سعد بن عبادة وحده لا يكون محقا ولا بد أن يكون الحق في أحد ما قالته الأمة (1) فيجب أن يكون فيما عليه سائر الصحابة ".

قال: " وقد بينا في كتاب " الإجماع " من هذا الكتاب (2) أن المذهب إذا لم يكن من باب الاجتهاد، وقد كان الحق في واحد منهم، فما تذهب إليه الجماعة هو الحق دون ما يتفرد به الواحد والاثنان، لأن ذلك يصح أن يكون سبيلا للمؤمنين، وما صح ذلك فيه فهو سبيل الحق دون ما عداه، وإنما يعد قول (3) الواحد خلافا فيما طريقه الاجتهاد، وهذا يبطل التعلق بخلاف سعد وحده، على أنه لا خلاف يمكن أن يذكر بعد بيعة أبي بكر إلا أنه الإمام أو أمير المؤمنين، وسعد خارج عن هذين القولين، فجيب أن يكون قوله مطرحا لأنه امتنع من مبايعة غير أبي بكر على حد امتناعه عن مبايعة أبي بكر، وهذا إن صح أنه بقي على الخلاف، لأنه لا يمتنع أن لا يبايع وهو راض لأنه لا معتبر بالبيعة ولا بالحضور لأنه قد يجوز أن يكون نافرا عن الحضور لما جرى من صده عما كاد يثبت له من الإمارة (4) وإن صح وتيقن خلافه، فالأمر على ما قدمناه من أنه إما أن لا يعتد بخلافه أو يعول على صحة الإجماع بعد موته،... " (5).

يقال له: أما الطريقة الأولى فإنك عولت فيها على ما تقدم من كلامك الذي ظننت أنك أفسدت به مذهبنا في النص فلم تحل في ذلك إلا

____________

(1) وهو محصور يومئذ في قولين النص أو الاختيار.

(2) أي من " المغني " وهو في الجزء السابع عشر منه.

(3) غ " كون ".

(4) غ " عما كان له من الإمارة ".

(5) المغني 20 ق 1 / 282.

الصفحة 221 

على ما قد أبطلناه، وبينا فساده وكل جملة أشرت إليها في كلامك هذا قد تقدم كلامنا عليه على سبيل التفصيل، ولا طائل في إعادة ما مضى فقد بطلت هذه الطريقة لبطلان أصلها الذي أسندتها إليه، وصار ما تقدم من أدلتنا على صحة النص وثبوته وإبطال المطاعن فيه من أوضح الدلالة على فساد إمامة الأول حتى لو اقتصر مقتصر في إبطاها على الجملة المتقدمة في صحة النص وثبوته لأغناه من تكلف كلام مستأنف يخصها لأن النص إذا كان صحيحا فقد بطل الاختيار، ووجب أن يتأول ما التبس من الإجماع فيه على وجه يطابق الأدلة التي لا احتمال فيها.

فأما الطريقة الثانية فهي أخص بهذا الموضع ولنا في الكلام عليها وجهان:

أحدهما، أن تبين أن ترك المنازعة والامساك عن النكير اللذين توصلت بهما إلى الرضا والإجماع لم يكونا في وقت من الأوقات.

والوجه الثاني أن نسلم إن الخلاف في إمامته بعد ظهوره انقطع غير أنه لم ينقطع على وجه يوجب الرضا وأن السخط ممن كان مظهر للنكير ثم كف عنه بأن في المستقبل وإن كف عن النكير لمعاذير نذكرها.

فأما الكلام في الوجه الأول فبين لأن الخلاف ظهر في أول الأمر ظهورا لا يمكن دفعه من أمير المؤمنين عليه السلام والعباس رضي الله عنه وجماعة بني هاشم ثم من الزبير حتى روي أنه خرج شاهرا سيفه واستلب من يده فضرب به الصفا (1) ثم من سلمان وخالد بن سعيد بن العاص وأبي سفيان فكل هؤلاء قد ظهر من خلافهم وكلامهم ما شهرته تغني عن ذكره وخلاف سعد وولده وأهله أيضا معروف وكل هذا كان ظاهرا في

____________

(1) انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 11.

الصفحة 222 

ابتداء الأمر، ثم إن الخلاف من بعض ما ذكرناه بقي واستمر وإن لم يكن ظاهرا منه في المستقبل على حد ظهوره في الماضي، إلا أنه منقول معروف، فمن أين لصاحب الكتاب أن الخلاف انقطع؟ وأن الإجماع وقع في حال من الأحوال؟ فما نراه عول في ذلك إلا على الدعوى.

فإن قال: أما الخلاف في الابتداء فقد عرفته، وأقررت به، وما تدعونه من استمراره باطل لأنه غير منقول ولا معروف، فعلى من يدعي استمرار الخلاف أن يبين ذلك، فأنى أنكره.

قيل له: لا معتبر بإنكارك ما تذكره في هذا الباب لأنك بين أمرين إما أن تكون منكرا لكونه مرويا في الجملة وتدعي أن أحدا لم يرو استمرار الخلاف على وجه من الوجوه، أو تعترف بأن قوما رووه غير ثقات عندك، وأنه لم يظهر ظهور الخلاف الأول، ولم ينقله كل من نقل ذلك، فإن أردت ما ذكرناه ثانيا فقد سبقناك إلى الاعتراف به، لأنا لم ندع في الاستمرار ما حصل في الابتداء من الظهور، ولا ندفع أنك لا توثق أيضا كل من روى ذلك إلا أن أقل ما في هذا الباب أن يمنعك هذا من القطع على أن النكير زال وارتفع، والرضا حصل وثبت، وإن أردت ما ذكرناه أولا فهو يجري مجرى دفع المشاهدة لأن وجود هذا في الرواية أظهر من أن يدفع، ولم يزل أمير المؤمنين عليه السلام متظلما متألما منذ قبض الرسول صلى الله عليه وآله إلى أن توفاه الله إلى جنته، ولم يزل أهله وشيعته يتظلمون من دفعه عن حقه، وكان ذلك منه عليه السلام ومنهم يخفى ويظهر ويترتب في الخفاء والظهور ترتب الأوقات في شدتها وسهولتها، فكان عليه السلام يظهر من كلامه في هذا الباب في أيام أبي بكر ما لم يكن ظاهرا في أيام عمر، ثم قوي كلامه عليه السلام وصرح بكثير مما في نفسه في أيام عثمان، ثم ازداد قوة في أيام تسليم الأمر إليه، ومن عني بقراءة الآثار علم أن الأمر جرى على ما ذكرناه.

الصفحة 223 

وقد روى أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي (1) قال أخبرنا عثمان بن أبي شيبة العبسي قال: حدثنا خالد المدايني قال: حدثنا أبو عوانة عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: سمعت عليا عليه السلام على المنبر يقول: قبض رسول الله وما في الناس أحد بهذا الأمر أولى مني. وروى إبراهيم بن سعيد الثقفي قال: أخبرنا عثمان ابن أبي شيبة. وأبو نعيم الفضل بن دكين قالا أخبرنا قطر بن خليفة عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال سمعت عليا عليه السلام يقول (ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله إلى يوم الناس هذا).

وروى إبراهيم قال أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني وعباد بن يعقوب الأسدي قالا حدثنا عمر بن ثابت عن سلمة بن كهيل عن المسبب بن نجبة قال بينما علي عليه السلام يخطب وأعرابي يقول: وا مظلمتاه فقال عليه السلام (ادن) فدنا فقال: (لقد ظلمت عدد المدر والوبر) وفي حديث قال جاء أعرابي يتخطى فنادى يا أمير المؤمنين مظلوم، فقال علي عليه السلام: (ويحك وأنا مظلوم ظلمت عدد المدد والوبر).

وروى أبو نعيم الفضل بن دكين عن عمر بن أبي مسلم قال كنا

____________

(1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي الرقي من علماء القرن الثالث، المتوفى بأصبهان سنة 283 المعروف بابن هلال الثقفي صاحب كتاب الغارات المشهور، له ما يقرب من خمسين كتابا في التفسير وأسباب النزول، والفقه والأحكام، والدلائل والفضائل، والسير والأخبار، والمظنون أن ما نقله المرتضى هنا من كتاب " المعرفة " وهو من أهم كتب إبراهيم، وقد وصفه السيد ابن طاووس بأنه أربعة أجزاء، ونقل عنه في كتاب " اليقين " ص 38 ثلاثة عشر حديثا في تسمية علي عليه السلام أمير المؤمنين في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه هو الذي سماه بذلك، كما أشار إليه في كتاب " كشف المحجة لثمرة المهجة " ص 48 وأوصى ولده محمدا بالوقوف عليه، وانظر سفينة البحار ج 2 مادة " ظلم " فإنه أشار إلى كلام علي عليه السلام في هذا المورد.

 

 

 

 

الصفحة 224 

جلوسا عند جعفر بن عمرو بن حريث فقال حدثني والدي أن عليا عليه السلام لم يقم مرة على المنبر إلا وقال في آخر كلامه قبل أن ينزل (ما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ".

وروى إبراهيم قال أخبرنا عباد (1) قال حدثنا علي بن هاشم قال حدثنا أبو الجحاف عن معاوية بن ثعلبة قال جاء رجل إلى أبي ذر رحمة الله عليه وهو جالس في المسجد الأعظم وعلي عليه السلام يصلي أمامه فقال: يا أبا ذر ألا تحدثني بأحب الناس إليك فوالله لقد علمت أن أحبهم إليك أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أجل والذي نفسي بيده إن أحبهم إلي لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه.

وقد روي من طرق كثيرة أنه عليه السلام كان يقول: (أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة) وقوله عليه السلام (يا عجبا بينما هو يستقبلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته) مشهور.

وروى إبراهيم قال حدثني عثمان بن سعيد قال حدثنا علي بن عابس عن أبي الجحاف عن معاوية بن ثعلبة أنه قال ألا أحدثك حديثا لو يختلط؟ قلت: بلى، قال: مرض أبو ذر مرضا شديدا فأوصى إلى علي عليه السلام فقال له بعض من يدخل عليه لو أوصيت إلى أمير المؤمنين كان أحمل من وصيتك إلى علي عليه السلام فقال: قد والله أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا، أمير المؤمنين.

وروى عبد الله بن جبلة الكناني عن ذريح المحاربي عن أبي حمزة الثمالي عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام أن بريدة كان غائبا بالشام فقدم وقد بايع الناس أبا بكر فأتاه في مجلسه فقال يا أبا بكر هل

____________

(1) أي عباد بن يعقوب الأسدي أحد من يروي عنهم الثقفي، وفي الأصلين " العباد ".

الصفحة 225 

نسيت تسليمنا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين واجبة من الله ورسوله قال: يا بريدة إنك غبت وشهدنا، وإن الله يحدث الأمر بعد الأمر، ولم يكن الله ليجمع لأهل هذا البيت النبوة والخلافة والملك، وقد روى خطاب بريدة لأبي بكر بهذا المعنى في ألفاظ مختلفة من طرق كثيرة.

وقد روي أيضا من طرق مختلفة وبألفاظ متقاربة المعاني خطاب سلمان الفارسي رضي الله عنه للقوم وإنكاره ما فعلوه، وقوله: " أصبتم وأخطأتم أصبتم سنة الأولين وأخطأتم أهل بيت نبيكم " وقوله: " ما أدري أنسيتم أم تناسيتم أم جهلتم أم تجاهلتم " وقوله: " والله لو أعلم أني أعز لله دينا وأمنع لله ضيما، لضربت بسيفي قدما قدما " (1) ولم نذكر أسانيد هذه الأخبار وطرقها وألفاظها لطول ذلك ومن أراده أخذه من مظانه وهذا الخلاف من سلمان وبريدة لا ينفع فيه أن يقال رضي سلمان بعده، وتولى الولايات وأمسك بريدة وسلم وبايع لأن تصريحهما بسبب الخلاف يقتضي أن الرضا لا يقع منهما أبدا وأنهما وإن كانا كافين في المستقبل عن الانكار لفقد النصار والخوف على النفس فإن قلوبهم منكرة ولكن ليس لمضطر اختيار.

وروى إبراهيم الثقفي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عمرو ابن حريث عن حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة بن يزيد الحماني عن علي عليه السلام قال سمعته يقول: (كان فيما عهد إلي النبي صلى الله عليه وآله الأمي أن الأمة ستغدر بك من بعدي).

وروى إبراهيم عن إسماعيل بن عمرو البجلي قال حدثنا هشام بن بشير الواسطي عن إسماعيل بن سالم الأسدي عن أبي إدريس الأزدي عن

____________

(1) انظر رجال البرقي ص 63 واحتجاج الطبرسي 1 / 110.

الصفحة 226 

علي عليه السلام قال (لئن أخر من السماء إلى الأرض فتخطفني الطير أحب إلي من أن أقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أسمعه قال لي يا علي ستغدر بك الأمة بعدي) (1) وروى زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام قال كان علي عليه السلام يقول: (بايع الناس والله أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي (2) وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض (3) ثم إن أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم أني أولى بالناس مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت أمري ثم إن عمر هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدة (4) فقال اقتلوا الأقل فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله) وقوله عليه السلام: (حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله) (5) منبها بذلك على سبب قتاله لطلحة والزبير ومعاوية وكفه عن من تقدم لأنه لما وجد الأعوان والأنصار لزمه الأمر وتعين عليه فرض القتال، والدفاع حتى لا يجد إلا القتال والخلاف لله وفي الحال الأولى كان معذورا لفقد الأعوان والنصارى.

____________

(1) إخبار النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام (أن الأمة تغدر به) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 11 / 216 والحاكم في المستدرك 3 / 140 و 142 وابن عساكر في تاريخ دمشق 3 / 115 ط المحمودي بترجمة علي عليه السلام من عدة طرق.

(2) كظم غيظه: اجترعه، والغيظ: الغضب الكامن.

(3) الكلكل: الصدر.

(4) يعني سهمها في الميراث، ويرى بعضهم أنه تعريض بأبي بكر (رض) لتوقفه في معرفة ميراث الجدة حتى روي له: أن لها السدس، قال: ولماذا خص الجدة مع السدس يكون لكل واحد من الأبوين مع الولد، وللأم مع الإخوة، وللأب مع الأبناء وللأخ من الأم والأخت الواحدة منها الخ...

 

(5) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق 3 / 101 و 174 بترجمة أمير المؤمنين عليه السلام وانظر المجلد الثامن من البحار ص 73.

الصفحة 227 

وقد روى جميع أهل السير أن أمير المؤمنين والعباس لما تنازعا في الميراث، وتخاصما إلى عمر قال عمر من يعذرني من هذين ولي أبو بكر فقالا: عق وظلم، والله يعلم إنه كان برا تقيا ثم وليت فقالا: عق وظلم (1) وهذا الكلام من أوضح دليل على أن تظلمه عليه السلام من القوم كان ظاهرا لهم، وغير خاف عليهم، وإنما كانوا يجاملونه ويجاملهم.

وروى الواقدي في كتاب الجمل بإسناده أن أمير المؤمنين عليه السلام حين بويع خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (حق وباطل ولكل أهل لئن أمر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق لربما ولعل، ولقل ما أدبر شئ فأقبل وإني لأخشى أن تكونوا في فترة وما علينا إلا الاجتهاد وقد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كانت عليكم، ما كنتم عندي فيها بمحمودين، أما والله إني لو أشاء لقلت، عفا الله عما سلف، سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب همته بطنه، يا ويله لو قص جناحه، وقطع رأسه لكان خيرا له) في كلام طويل بعد هذا وقد روى هذه الخطبة غير الواقدي من طرق مختلفة (2).

____________

(1) في تلخيص الشافي 3 / 52 " فقال: لا عق وظلم " ولا ريب أنه تحريف وما في المتن أوجه.

(2) هذه الخطبة نقل مختارها الشريف الرضي في نهج البلاغة 1 / 46 وقال ابن أبي الحديد في ج 1 / 257 معلقا عليها: " هذه الخطبة من جلائل خطبه عليه السلم ومن مشهوراتها رواها الناس كلهم وفيها زيادات حذفها الرضي إما اختصارا وإما خوفا من إيحاش السامعين " قال: " وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان على وجهها " وقال إنها: أول خطبة خطبها في خلافته " أما كتاب الجمل فلم يعلم مستقره الآن، ولكن ابن أبي الحديد ينقل عنه كثيرا في ثنايا شرحه على النهج وكذلك الشيخ المفيد في كتاب " الجمل " المسمى ب " النصرة لحرب البصرة ".

الصفحة 228 

وقوله عليه السلام: (لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى) معروف والذي ذكرناه قليل من كثير ولو تقصينا جميع ما روي في هذا الباب عنه عليه السلام وعن أهله وولده وشيعته لم يتسع له حجم جميع كتابنا، وفي بعض ما ذكرناه أوضح دلالة على أن الخلاف لم يزل وأنه كان مستمرا، وأن الرضا لم يقع (1) في حال من الأحوال.

فإن قيل: هذه أخبار آحاد لا توجب علما ولا يرجع بمثلها عن المعلوم، والمعلوم أن الخلاف لم يظهر على حد ظهوره في الأول، ولم يروها أيضا إلا متعصب غير موثوق بأمانته.

قلنا: أما هذه الأخبار وإن كانت على التفصيل أخبار آحاد فمعناها قد رواه عدد كثير، وجم غفير فصار المعنى متواترا به، وإن كان اللفظ والتفصيل يرجع إلى الآحاد ولا نعمل إلا على اقتراحكم في أنها آحاد أليس يجب أن تكون مانعة من القطع على ارتفاع النكير، وادعاء العلم بأن الخلاف قد زال وارتفع، لأنه لا يمكن مع هذه الأخبار وهي توجب الظن إن لم توجب العلم أن يدعى العلم بزوال الخلاف.

فأما قول السائل: إنا لا نرجع بها عن المعلوم فأي معلوم هاهنا رجعنا بهذه الأخبار عنه؟ فإن ذكر الإجماع أو زوال الخلاف فكل ذلك لا يثبت إلا مع فقد ما هو أضعف من هذه الأخبار، وزوال الخلاف لا يكون معلوما مع وجودنا رواية واردة، وإنما يتوصل إلى الرضا والاجماع بالكف عن النكير وزوال الخلاف، وإذا كان الخلاف والنكير مرويين من جهة ضعيفة أو قوية كيف يقطع على ارتفاعها وزوالهما.

____________

(1) لم يحصل، خ ل.

الصفحة 229 

فأما القدح في رواية ما ذكرناه من الأخبار، فأول ما فيه إن أكثر ما رويناه هاهنا وارد من طرق العامة ومسند إلى من لا يتهمونه ولا يجرحونه، ومن تأمل ذلك علمه، ثم ليس يقنع في جرح الرواة بمحض الدعوى دون أن يشار إلى أمور معروفة، وأسباب ظاهرة، وإذا روى الخبر من ظاهره العدالة والتدين لم يقدح فيه ما جرى هذا المجرى من القدح.

فإن قيل: هذا يؤدي إلى الشك في ارتفاع كل خلاف.

قلنا: إن كان الطريق فيما تشيرون إليه يجري مجرى ما يتكلم عليه في هذا الباب فلا سبيل إلى القطع على انتفائه وكيف يقطع على انتفاء أمر وهو مروي منقول، وإنما يقطع على ذلك في الموضع الذي لا يوجد فيه نقل الخلاف ولا رواية النكير.

فإن قيل: الشئ إذا كان مما يجب ظهوره إذا كان فإنا نستدل بانتفاء ظهوره على انتفائه ولا نحتاج إلى أكثر من ذلك، ولهذا نقول: لو كان القرآن عورض لوجب أن تظهر معارضته على حد ظهور القرآن، فإذا لم نجدها ظاهرة قطعنا على انتفائها، ولو روى لنا راو من طرق الآحاد أن معارضته وقعت لم يلتفت إلى روايته، وهذه سبيل ما يدعونه من النكير الذي لم يثبت، ولم يظهر.

قلنا: قد شرطت شرطا كان ينبغي أن تراعيه، وتوجدناه فيما اختلفنا فيه، لأنك قلت: إن كل أمر لو كان لوجب ظهوره متى لم يظهر يجب القطع على انتفائه، وهذا صحيح وبه تبطل معارضة القرآن على ما ذكرت، لأن الأمر في أنها لو كانت لوجب ظهورها واضح، وعليه يبتني الكلام، وليس هذا موجودا في النكير على أصحاب الاختيار لأنك لا تقدر على أن تدل أن نكيرهم يجب ظهوره لو كان، وأن الداعي إليه داع إلى إظهاره، بل الأمر بخلاف ذلك، لأن الانكار على مالك الحل والعقد،

الصفحة 230 

والأمر والنهي والنفع والضرر الذي قد مال إليه أكثر المسلمين ورضي بإمامته أكثر الأنصار والمهاجرين يجب طيه وستره ولا يجب إذاعته ونشره، والدواعي كلها متوفرة إلى إخفائه وترك إعلانه فأين هذا من المعارضة؟ ولو جوزنا في المعارضة أو غيرها من الأمور أن يكون ولا تدعو الدواعي إلى إظهاره، بل إلى طيه وستره لم نقطع على انتفائه من حيث لم يظهر للكل، وينقله الجميع، ولكنا متى وجدنا أيسر رواية في ذلك نمنع لأجلها من القطع على انتفاء ذلك الأمر وعلى أنه لم يكن، وسنشبع الكلام في السبب المانع من إظهار الخلاف، وإعلان النكير ونتقصاه فيما يأتي من هذا الباب بمشيئة الله تعالى.

فأما الوجه الثاني الذي وعدنا بذكره وشرحه، وهو المتضمن لتسليم ما يدعونه من أن الخلاف ارتفع وانقطع، غير أنه لم يكن ارتفاعه عن رضا وإجماع فنحن نذكره في الفصل الذي يلي هذا الكلام، لأن الذي نحكيه من كلام صاحب الكتاب يقتضي ذلك ومن تأمل جملة ما أوردناه علم دخول الكلام على ما أورده صاحب الكتاب في الفصل الذي حكيناه فيها، فإنها مزيلة لما تضمنه من شبهة.

فأما دعواه أن الأمر انتهى إلى أنه لم يكن في الزمان إلا راض بإمامته أو كاف عن النكير، فقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك، وأن الخلاف وقع في الأصل ظاهرا ثم استمر ولم ينقطع، وإن لم يكن استمراره في الظهور بحسب ابتدائه.

فأما قوله: (إن كل من يدعى عليه الخلاف فإنه ثبت عنه قولا وفعلا الرضا والبيعة) فقد بينا وسنبين أن الأمر بخلافه، وأن الذي عمدته عليه من الكف عن النزاع والامساك عن النكير ليس بدلالة على الرضا لأنه وقع عن أسباب ملجئة وكذلك سائر ما يدعي من ولاية من تولى من

الصفحة 231 

قبل القوم ممن يدعي أنه كان مقيما على خلافهم ومنكرا لأمرهم.

فأما بناؤه العقد الأول على الثاني، وأنه لما ظهر في الثاني من الرضى والانقياد لطول الأيام وتماديها ما لم يظهر في الأول جاز أن يجعل أصلا له فالكلام على العقد الأول الذي ذكرناه مستمر في الثاني بعينه، لأن خلاف من حكينا خلافه وروينا عنه ما روينا هو خلاف في العقدين جميعا، ثم لو سلمنا ارتفاع الخلاف على ما اقترح لكان ذلك لا يدل على الرضا إذا بينا ما أحوج إليه وألجأ إلى استعماله.

فأما كلامه في سعد بن عبادة وتشككه في موته، وهل كان متقدما أو متأخرا فمما لا يحتاج إليه، لأن الخلاف لم يكن من سعد وحده فينعقد الإجماع بعد موته، وخلاف غير سعد في هذا الباب هو المعول عليه ممن بقي واستمر خلافه، على أن سعدا لما مات لم يمت ولده ولا أقاربه، ومعلوم أن هؤلاء امتنعوا من البيعة كامتناع سعد.

وأما قوله: (إن سعدا لا يعتد به من حيث طلب الإمامة لنفسه، وكان مبطلا في ذلك واستمر على هذه الطريقة فلا اعتبار بخلافه) فليس بشئ يعول على مثله، لأنا قد بينا فيما تقدم، أن الذي عول عليه صاحب الكتاب وأصحابه في دفع الأنصار عن الأمر لم يثبت ثبوتا يقتضي أن يقطعوا معه على أن مذهب سعد في طلب الإمامة لنفسه باطل، وأنهم إنما عولوا في صحة الخبر المروي في هذا الباب على الإجماع، وتسليم الأمة، ولا إجماع مع خلاف سعد وذويه (1) ولا نعمل إلا على أن سعدا كان مبطلا في طلب الإمامة لنفسه على غاية ما يقترح، فلم لا يعتد بخلافه وهو خالف في أمرين أحدهما أنه اعتقد أن الإمامة تجوز للأنصار،

____________

(1) في المخطوطة " ودونه " ولعله " وما دونه " أو تصحيف " ذويه ".

الصفحة 232 

والأمر الآخر أنه لم يرض بإمامة أبي بكر ولا بايعه، وهذان خلافان ليس كونه مبطلا في أحدهما يقتضي أن يكون مبطلا في الآخر، وليس أحدهما مبنيا على صاحبه فيكون في إبطال الأصل إبطال الفرع، لأن من ذهب إلى أن الإمامة تجوز في غير قريش، لا يمنع من جوازها لقريش فكيف تجعل امتناعه من بيعة قريش مبنيا على أصله في أن الإمامة تجوز في غير قريش.

فأما قوله: (إن سعدا وحده لا يكون محقا ولا يمكن أن يقال: إن خروجه مما عليه الأمة يؤثر في الإجماع) فعجيب لأنا لا نعلم من أي وجه استبعد أن يكون سعد وحده محقا من بين سائر الأمة، وهل سعد في ذلك إلا كغيره ممن يجوز أن يخالف جمهور الأمة فلا يعد القول إجماعا لموضع خلافه.

فأما قوله: (إن الخلاف الواحد والاثنين لا يعتبر به من حيث لا يجوز أن يكون سبيلا للمؤمنين، وقول الجماعة يصح ذلك فيه) فأول ما فيه أنه قد كان لسعد من ولده من يجوز أن يتناوله الكنايات عن الجماعات، لأن أقل من يتناوله الكناية ثلاثة فصاعدا.

وبعد، فإن أمير المؤمنين (1) إذا كان اسما مستغرقا لجميع من يستحق هذا الاسم فمعلوم أنه يكون مجازا متى عبر به عن بعضهم، والواحد والاثنان إذا خرجا من جملة المؤمنين لم يكن هذا الاسم متناولا للباقين على الحقيقة، وكان مجازا فيهم وإذا جاز لصاحب الكتاب أن يجريه مجازا على بعض المؤمنين جاز لغيره أن يجريه مجازا على الواحد والاثنين.

فأما قوله في سعد: (هذا إن صح أنه بقي على الخلاف لأنه لا يمتنع

____________

(1) يعني المأمور باتباع سبيلهم.

الصفحة 233 

أن لا يبايع وهو راض) فشك منه في الضرورات لأن خلاف سعد وسخطه ومقامه على ذلك معلنا له مظهرا معلوم ضرورة فأي وجه للتشكك والتلوم فيه حتى يقال: إن صح فكذا وكذا؟ وهذه جملة كافية تأتي على ما حكيناه من كلامه.

قال صاحب الكتاب: (فإن قيل كيف ادعيتم الإجماع [ على بيعة أبي بكر ] (1) وقد تأخر عن ذلك أمير المؤمنين (ع) وخالد بن سعيد بن العاص وظهر الخلاف عن سلمان [ وعن الزبير وظهر عن أبي ذر وحذيفة والمقداد وعمار الانحراف عن ذلك ] (1).

ثم قال: (قيل له: لا أحد ممن ذكرته إلا وقد بايع ورضي وظهر ذلك عنه فقد حصل الإجماع مستقرا لأنا لا ننكر في الابتداء وقع التأخر، والتباطؤ من بعضهم عن بيعته، وقال شيخنا أبو هاشم: روي أنه عليه السلام تأخر عن بيعة أبي بكر أربعين صباحا، وقال قوم ستة أشهر والأقرب أنه تأخر لاستيحاشه منهم من حيث استبدؤا بالأمر ولم يتربصوا بإبرام العقد حضوره، وإنما تأخر أياما يسيرة ولعله كان أربعين يوما ولم يكن أبو بكر يلتمس منه المبادرة فيكون مخالفا عليه، وكيف يكون مخالفا وهو الذي أشار عليه بقتال أهل الردة وكان ذلك في أول أيامه وأنكر على أبي سفيان قوله: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيم امدد يدك أبايعك فلأملأنها على فلان خيلا ورجلا، بأن قال: (أمسك عليك فطالما غششت الاسلام) ولو كان ينكر إمامة أبي بكر لم يخف أن يظهر ذلك كما أظهره أبو سفيان، وكان ذلك من أبي سفيان حدثان وقوع البيعة وقال له العباس لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله: امدد يدك أبايعك وآتيك

____________

(1) الزيادة في الموضعين من المغني.

الصفحة 234 

بهذا الشيخ من قريش يعني أبا سفيان - فيقال: إن عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك من قريش أحد (1) والناس تبع لقريش فامتناعه مع تصلبه (2) في دينه يدل على أنه لم يدع الحق لنفسه وإلا فقد كان يجد أنصارا كالعباس، والزبير، وأبي سفيان، وخالد بن سعيد، وسائر من ذكرهم الإمامية، ولا يجب أن يكون تأخره دلالة على فقد الرضا بل كان راضيا ببيعته من حيث كان منفذا للأمور فلا ينكر ولا يجب بعد وقوع العقد الصحيح إلا الرضا بإمامته والمعاضدة له عند الحاجة، وقد كان ذلك حاصلا من أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان تأخرا لاشتغاله برسول الله صلى الله عليه وآله وقد كان بينه وبين العباس شبيه بالوحشة، وإن لم يكن كل واحد منهما إلا مواليا لصاحبه فكذلك القول في تأخره واستيحاشه من حيث استبدوا بالأمر دونه، ولا يدل على أنه لم يكن راضيا، ولذلك لما طلب منه الحضور والمعاضدة حضر لا محالة، وعلى هذا الوجه يحمل تأخر غيره عن بيعة أبي بكر، وإنما يطعن ذلك في إمامته لو ظهر منهم النكير، وخلاف الرضا والتشدد (3) عليهم في الحضور للبيعة فامتنعوا من غير عذر) ثم حكى عن أبي علي أن مبايعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد ذلك ظهرت وانتشرت وأجمع أهل النقل عليها وإنما اختلفوا في مدة تأخره عن البيعة.

ثم قال: (فإن قيل: إنه قد روي أنه بايع مكرها أو كارها أو خوف أو هدد حتى بايع فلا يصح (4) ما ذكرتموه.

____________

(1) غ " اثنان ".

(2) غ " مع فضله " وكذلك في المخطوطة.

(3) غ " واشتد ".

(4) غ " فلا يتم ".

الصفحة 235 

قيل له: كما ثبت أنه حضر وبايع فقد صح أنه لم يجر هناك (1) إكراه، والأحوال التي كان عليها مع أبي بكر من المعاونة والمعاضدة وما ثبت عنه من الأخبار في مدحه وتقديمه يمنع من ذلك، وإنما يتعلق بهذه الرواية بعض الإمامية من غير أن يمكنه إسنادها إلى حجة صحيحة، أو طريق معروف، ومثل ذلك أن قبل أدى إلى فساد الكلام في الأخبار، وبين صحة ما ذكرناه أن الخلاف في إمامة أبي بكر وعمر لو كان ثابتا لظهر كما ظهر الخلاف في آخر أيام عثمان، وفي أيام أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا يبين أن تصويب إمامة أبي بكر وعمر لا خلاف فيها على الحد الذي ذكرناه، على أنا قد بينا إنا لا نجعل ذلك إجماعا من حيث البيعة، لأن أمير المؤمنين عليه السلام لو لم يبايع لكان تركه للنكير يدل على صحة الإجماع، لأنه لو كان مبطلا في الإمامة لكان غاصبا لذلك الموضع ومقدما على الباطل في كل ما يحكم به، فإن كان الحق في ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام صار الذي يلزمه في إنكار ذلك قولا وفعلا أكد مما يلزم غيره، من حيث أزيل عن حقه وعن المقام (2) الذي جعل له، فكان يجب أن يكون نكيره فعلا وقولا بحيث تزول فيه الشبهة، ويظهر كظهور البيعة لأبي بكر، وقد عرفنا خلاف ذلك، بل كان يجب أن يتكرر منه النكير حالا بعد حال، وأن لا يقتصر على نكير مقدم، وكان يجب أن لا يظهر له معاضدة ولا معاونة لما فيه من إيهام كونه محقا، وذلك لا يحل في الدين وكان يجب إن لم يزد نكيره وإظهاره الخلاف على ما ظهر من الحسين عليه السلام (3) وغيره في أيام بني أمية لا ينقص من ذلك، فقد علم أنهم لما

____________

(1) غ " لم يكن ".

(2) غ " المقام العظيم ".

(3) غ " من الحسن عليه السلام ".

الصفحة 236 

طلبوا بالبيعة له كيف امتنعوا منها، وتهاربوا وأظهروا الخلاف والنكير ولم يكن فزعه من أبي بكر إلا دون فزعهم من يزيد اللعين) (1) وكرر بعد ذلك إن سبب استيحاشه الاستبداد بالرأي عليه وضرب لذلك مثلا بالمرأة التي لها إخوة وفيهم كبير مقدم في الرأي فإن الصغير متى زوجها لا بد من أن يستوحش الكبير، وإن كان العقد صحيحا، وذكر في تأخره اشتغاله بالرسول صلى الله عليه وآله وتجهيزه ثم بأمر فاطمة عليها السلام ثم ذكر أن من حضر السقيفة لعقد الإمامة وترك الرسول صلى الله عليه وآله قبل أن يفرغ من أمره إنما ساغ له ذلك خوفا من الفتنة فبادر إلى ما يخاف فوته وعول في أمر الرسول صلى الله عليه وآله على من اشتغل به، ثم ذكر عرض العباس وأبي سفيان على أمير المؤمنين عليه السلام البيعة، وأن ذلك دليل على أن النص لا أصل له، وأن المطلوب في تلك الحال هو عقد الإمامة بالاختيار، ثم حكي عن أبي علي أنه قال: (إن جاز للمخالف أن يعول على أخبار الآحاد في أنه عليه السلام بايع كارها تحت السيف [ والخوف إلى سائر ما يروى في هذا الباب ] (2) ليجوزن لنا أن نحتج بأخبار ظاهرة تدل على أنه عليه السلام كان يقول بإمامة أبي بكر وتقديمه ومدحه) ثم ذكر أخبارا كثيرة قد تقدم ذكر لها في هذا الكتاب، وكلامنا عليها مشروحا نحو ما روي من قوله عليه السلام (ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها فلان وفلان) و (وددت أن ألقى الله عز وجل بصحيفة هذا المسجى) وما جرى مجرى ذلك من أخبار قد تقدم ذكرها والكلام عليها.

ثم ذكر بعد ذلك من شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام وقوته ما

____________

(1) في المغني " يزيد الملعون " وكل ما مر من نقل المرتضى عن " المغني " هو في ص 284 و 285 من الجزء المذكور.

(2) الزيادة من " المغني ".

الصفحة 237 

ادعى أنه لا يجوز من مثله التقية، وأنه عليه السلام كان بعيدا عن التقية لما انتهت الإمامة إليه.

ثم قال: (واعلم أن التقية متى لم يكن لها سبب لم يصح ادعاؤها وسببها معلوم وهو الخوف الشديد، وظهور إمارات ذلك وقد بينا من قبل في باب الاكراه الحال في ذلك وبينا أن في كثير من الأوقات إظهار الحق هو أولى يبين ما ذكرناه (1) أنه مع فقد السبب لو جاز ادعاء التقية لم يأمن في أكثر ما ظهر من الرسول صلى الله عليه وآله قولا وفعلا أنه كان على طريق التقية، وفي ذلك إبطال معرفة كثير من الشرائع، ولم صار بأن يقال: إنه كان يتقي فيعظم أبا بكر وعمر بأولى من أن يحمل تقديمه لأمير المؤمنين عليه السلام على مثل ذلك، وهذا يخرج كون مدحه وذمه من أن يكون دلالة وما أوجب ذلك يوجب خروج أفعاله وأقواله من أن تكون دلالة فكيف يصح أن يقال: إن أمير المؤمنين إنما ظهر منه مدح أبي بكر وعمر ومعاضدتهما على طريق التقية ولا سبب هنا يوجب ذلك ولو أمكن أن يدعي في ابتداء البيعة التقية ما كان يمكن في سائر الأحوال وهلا ظهرت التقية منه يوم الجمل وصفين مع عظيم ما رفع إليه؟ والمتعالم من حاله عليه السلام أنه كان يتشدد في مواضع رخص على أن المتعالم من حال أبي بكر أنه لم يكن من القوة في نفسه وأعوانه بحيث يخاف منه فقد كان يجب أن يظهر منه عليه السلام الانكار فعلا وقولا بحيث يشتهر لا سيما على قولهم إنه حجة [ فيما يأتي ويذر (2)...) (3).

يقال له: من أين قلت: إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع

____________

(1) غ " على ما قلناه ".

(2) ما بين الحاصرتين من " المغني ".

(3) المغني 20 ق 1 / 290.

الصفحة 238 

ويكف عن النكير إلا عن رضا فما نراك عولت إلا على دعوى وتشبثت بأشياء لا شبهة في مثلها؟ ونحن نبين ما فيها على التفصيل.

فإن قال: لو لم يرض لم يكف عن النكير ولا قام على الخلاف.

قيل له: ولم زعمت ذلك؟ وهل هذا إلا مجرد الدعوى، وإنما كان يصح هذا الكلام لو كان لا وجه لترك النكير الكف عنه إلا الرضا دون غيره، فأما إذا كان ترك النكير قد يقع ويكون الداعي إليه غير الرضا كما قد يدعو إليه الرضا فليس لأحد أن يجعل فقده دليل الرضا لأن النكير قد يرتفع لأمور منها التقية والخوف على النفس وما جرى مجراها، ومنها العلم أو الظن بأنه يعقب من المنكر ما هو أعظم من المنكر الذي يراد إنكاره، ومنها، الاستغناء عنه بنكير قد تقدم، وأمور ظهرت ترفع اللبس والايهام في الرضا بمثله، ومنها أن يكون للرضا (1) فإذا كان ترك النكير منقسما لم يكن لأحد أن يخصه بوجه واحد، وإنما يكون ترك النكير دالا على الرضا في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا فمن أين لصاحب الكتاب وأهل مقالته أنه لا وجه لترك النكير هاهنا إلا الرضا؟ فإن قال: ليس الرضا أكثر من ترك النكير فمتى علمنا ارتفاع النكير علمنا الرضا.

قلنا: هذا مما قد بينا فساده وبينا أن ترك النكير منقسم إلى الرضا وغيره.

وبعد، فما الفرق بينك وبين من قال: وليس السخط أكثر من ارتفاع الرضا فمتى لم أعلم الرضا أو أتحققه قطعت على السخط، فيجب على من ادعى أن أمير المؤمنين عليه السلام كان راضيا أن ينقل ما يوجب كونه كذلك ولا يعتمد في أنه كان راضيا على أن يكسره ارتفاع فإن لقائل أن يقول مقابلا لذلك ما ذكرناه، ونجعل دليل كونه ساخطا ارتفاع رضاه.

____________

(1) خ " الرضا ".

الصفحة 239 

فإن قال: ليس يجب علينا أن ننقل فيما يدل على رضاه أكثر من بيعته، وترك نكيره لأن الظاهر من ذلك يقتضي ما ذكرناه، وعلى من ادعى أنه كان مبطنا بخلاف الرضا أن يدل على ذلك فإنه خلاف الظاهر.

قيل له: ليس الأمر على ما قدرته لأن سخط أمير المؤمنين عليه السلام هو الأصل لأنه لا خلاف بين الأمة في أنه عليه السلام سخط الأمر وأباه ونازع فيه، وتأخر عن البيعة، ثم إنه لا خلاف في أنه في المستقبل بايع وترك النكير (1) فنقلناه عن أحد الأصلين اللذين كان عليهما من الامتناع عن البيعة وإظهار الخلاف أمر معلوم، ولم ينقلنا عن الأصل الآخر الذي هو السخط والكراهة شئ فيجب على من ادعى تغير الحال أن يدل على تغيرها، ويذكر أمرا معلوما يقتضي ذلك، ولا يرجع ذلك علينا فيلزمنا أن ندل نحن على ما ذكرناه، لأنا على ما بيناه آنفا متمسكون بالأصل المعلوم، وإنما تجب الدلالة على من ادعى تغير الحال، وليس له أن يجعل البيعة وترك النكير دلالة الرضا لأنا قد بينا أن ذلك (2) ينقسم ولا ينتقل من المعلوم المتحقق بأمر محتمل.

فإن قال: هذه الطريقة التي سلكتموها توجب الشك في كل إجماع، وتمنع من أن يقطع على رضا أحد بشئ من الأشياء لأنا إنما نعلم الرضا في كل موضع نثبته فيه بمثل هذه الطريقة، وما هو أضعف منها.

قيل له: إن كان لا طريق إلى معرفة الإجماع ورضا الناس بالأمور إلا ما ادعيته فلا طريق إليه، لكن الطريق إلى ذلك واضحة، وهو أن

____________

(1) أظهر البيعة ولم يفهم على ما كان عليه من إظهار الخلافة والنكير، خ ل.

(2) " ذلك " أشار إلى ترك النكير كما تقدمت أقسامه قبل قليل.

الصفحة 240 

يعلم أن النكير لم يرتفع إلا للرضا وأنه لا وجه هناك سواه، وهذا قد يعلم ضرورة من شاهد الحال، وقد يعلم من غاب عنها بالنقل وغيره حتى لا يرتاب بأن الرضا هو الداعي إلى ترك النكير ألا ترى إنا نعلم كلنا علما لا يعترضه شك أن بيعة عمر وأبي عبيدة وسالم لأبي بكر كانت عن رضا وموافقة ومتابعة في الظاهر والباطن، وأنه لا وجه لما أظهروه من البيعة والموافقة إلا الرضا، ولا نعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام ومن يجري مجراه، فلو كان الطريق واحدا لعلمنا الأمرين على سواء وهذا أحد ما يمكن أن يعتمد في هذا الموضع، فيقال: لو كان أمير المؤمنين عليه السلام راضيا وظاهره كباطنه في الكف عن النكير لوجب أن يعلم ذلك من حاله كما علمناه من حال عمر وأبي عبيدة، فلما لم يكن ذلك معلوما دل على اختلاف الحال فيه، وكيف يشكل على منصف أن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام لم تكن عن رضا والأخبار متظاهرة بين كل من روى السير بما يقتضي ذلك، حتى أن من تأمل ما روي في هذا الباب لم يبق عليه شئ (1) في أنه عليه السلام ألجئ على البيعة وصار إليهما بعد المدافعة والمحاجزة لأمور اقتضت ذلك، ليس من جملتهما الرضا.

وقد روى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري - وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروف - قال: حدثني بكر بن الهيثم (2) قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي عليه السلام حين قعد عن بيعته وقال إئتني به بأعنف العنف، فلما أتاه جرى بينهما كلام فقال له علي عليه السلام: احلب حلبا لك شطره

____________

(1) شك خ ل.

(2) ابن هشام خ ل.

 

 

 

 

الصفحة 241 

والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غدا، وما تنفس على أبي بكر هذا الأمر لكنا أنكرنا ترككم مشاورتنا، وقلنا: إن لنا حقا لا تجهلونه، ثم أتى فبايعه (1) وهذا الخبر يتضمن ما جرت عليه الحال وما يقوله الشيعة بعينه وقد أنطق الله تعالى به رواتهم.

وقد روى البلاذري عن المدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان التيمي عن أبي عون أن أبا بكر أرسل إلى علي عليه السلام يريده على البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه قيس فلقيته فاطمة عليها السلام على الباب فقالت: يا ابن الخطاب أتراك محرقا علي بابي (2) قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك وجاء علي عليه السلام فبايع، وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة، وإنما الطريف أن نرويه برواية لشيوخ محدثي العامة ولكنهم كانوا يروون ما سمعوا بالسلامة، وربما تنبهوا على ما في بعض ما يروونه عليهم فكفوا عنه، وأي اختيار لمن يحرق عليه بابه حتى يبايع؟

وقد روى إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال: حدثنا أحمد بن عمرو البجلي، قال: حدثنا أحمد بن حبيب العامري، عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: (والله ما بايع علي عليه السلام حتى رأى الدخان قد دخل عليه بيته).

وروى المدائني عن عبد الله بن جعفر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما ارتدت العرب مشي عثمان إلى علي عليه السلام فقال: يا ابن عم

____________

(1) ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6 / 11 عن كتاب السقيفة لأحمد ابن عبد العزيز الجوهري.

(2) انظر الإمامة والسياسة 1 / 12، والعقد الفريد 4 / 259.

الصفحة 242 

إنه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم تبايع، ولم يزل به حتى مشي إلى أبي بكر فسر المسلمون بذلك، وجد الناس في قتالهم.

وروى البلاذري عن المدائني عن أبي جري (1) عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة بعد ستة أشهر فلما ماتت ضرع (2) إلى صلح أبي بكر، فأرسل إليه أن يأتيه، فقال عمر: لا تأته وحدك قال: وماذا يصنعون بي؟ فأتاه أبو بكر فقال له عليه السلام: (والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير ولكنا كنا نظن أن لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا) فقال أبو بكر: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله أحب إلي من قرابتي فلم يزل عليه السلام يذكر حقه وقرابته حتى بكى أبو بكر فقال: ميعادك العشية، فلما صلى أبو بكر الظهر خطب وذكر عليا عليه السلام وبيعته فقال علي: (إني لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألا أكون عارفا بحقه ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا) ثم بايع أبا بكر فقال المسلمون: أصبت وأحسنت، ومن تأمل هذا الخبر وما جرى مجراه علم كيف وقعت الحال في البيعة، وما الداعي إليها، ولو كانت الحال سليمة والنيات صافية، والتهمة مرتفعة، لما منع عمر أبا بكر أن يصير إلى أمير المؤمنين عليه السلام وحده.

وروى إبراهيم الثقفي عن محمد بن أبي عمير عن أبيه عن صالح بن أبي الأسود عن عقبه بن سنان عن الزهري قال: ما بايع علي عليه السلام إلا بعد ستة أشهر، وما اجترى عليه إلا بعد موت فاطمة عليه السلام.

وروى الثقفي قال: حدثني محمد بن علي عن عاصم بن عامر

____________

(1) حربي خ ل.

(2) ضرع: خضع.

الصفحة 243 

البجلي عن نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق عن سفيان بن فروة عن أبيه قال جاء بريدة (1) حتى ركز رايته في وسط أسلم ثم قال: لا أبايع حتى يبايع علي فقال علي عليه السلام: (يا بريدة ادخل فيما دخل فيه الناس فإن اجتماعهم أحب إلي من اختلافهم اليوم).

وروى إبراهيم قال: حدثني محمد بن أبي عمير قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن موسى بن عبد الله بن الحسن أن عليا عليه السلام قال لهم (بايعوا فإن هؤلاء خيروني أن يأخذوا ما ليس لهم أو أقاتلهم وأفرق أمر المسلمين).

وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن ابن الفرات عن ميسر بن حماد عن موسى بن عبد الله بن الحسن قال: أبت أسلم أن تبايع وقالوا: ما كنا نبايع حتى يبايع بريدة لقول النبي صلى الله عليه وآله لبريدة: (علي وليكم من بعدي) (2) فقال علي عليه السلام: (يا هؤلاء إن هؤلاء

____________

(1) بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي صحابي أسلم هو وقومه وكانوا ثمانين بيتا عند مرور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم في طريقة إلى المدينة، وبقي في أرض قومه ثم قدم المدينة بعد أحد فشهد بقية المشاهد وسكن البصرة أخيرا ثم خرج غازيا إلى خراسان فأقام بمرو وأقام بها حتى مات ودفن بها (أسد الغابة 1 / 175).

(2) حديث بريدة رواه جماعة من أرباب السنن فيهم أحمد في مسنده 5 / 356 بسنده عن بريدة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثتين إلى اليمن على أحدهما علي بن أبي طالب وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال: (إذا التقيتم فعلي على الناس وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده)، قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية فاصطفى علي امرأة من السبي لنفسه، قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فلما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم دفعت الكتاب فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله هذا مقام العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به، ورواه النسائي في خصائصه بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي)، ورواه النسائي في خصائصه ص 24 والهيثمي في المجمع 9 / 127 و 128، والمتقي في الكنز 6 / 154 و 155 وقال أخرجه ابن أبي شيبة.

الصفحة 244 

خيروني أن يظلموني حقي وأبايعهم أو ارتدت الناس حتى بلغت الردة أحدا (1) فاخترت أن أظلم حقي وإن فعلوا ما فعلوا) وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن، عن عاصم عامر، عن نوح بن دراج، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه عن عدي بن حاتم (2) قال: ما رحمت أحدا رحمتي عليا حين أتى به ملبيا (3) فقيل له:

بايع قال: (فإن لم أفعل) قالوا: إذا نقتلك، قال: (إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله) ثم بايع كذا وضم يده اليمنى.

وروى إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد البجلي عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن عدي بن حاتم قال إني لجالس عند أبي بكر إذ جئ بعلي عليه السلام فقال له أبو بكر: بايع فقال له علي عليه السلام: (فإن لم أفعل) فقال: أضرب الذي فيه عيناك، فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: (اللهم اشهد) ثم مد يده.

وقد روى هذا المعنى من طرق مختلفة، وبألفاظ متقاربة المعنى وإن

____________

(1) أحد - بضم أوله وثانيه - اسم الجبل المعروف في المدينة.

(2) عدي بن حاتم الطائي، صحابي كان على شاكلة أبيه في الكرم أرسل إليه الأشعث بن قبس يستعير منه قدور حاتم فملأها وأرسلها تحملها الرجال فقال الأشعث إنما أردناها فارغة فقال: إنا لا نعيرها فارغة، وكان يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات، شهد مع علي عليه السلام الجمل وذهبت إحدى عينيه في تلك الوقعة وقتل فيها أبناؤه الثلاثة طرفة وطرافة وطريف، كما شهد معه صفين، وله ذكر كثير في تلك الوقعة، توفي بالكوفة أيام المختار سنة 67.

(3) قال ابن السكيت في إصلاح المنطق ص 253: " الببته فهو ملبب " وفي لسان العرب: " لببه أخذ بتلبيبه وتلابيبه إذا جمعت ثيابه عند نحره وصدره ثم جررته ".

الصفحة 245 

اختلفت ألفاظها، وإنه عليه السلام كان يقول في ذلك اليوم لما أكره على البيعة وحذر من التقاعد عنها: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " (1) ويردد ذلك ويكرره وذكر أكثر ما روي في هذا المعنى يطول فضلا عن ذكر جميعه، وفيما أشرنا إليه كفاية ودلالة على أن البيعة لم تكن عن رضى واختيار.

فإن قيل: كلما رويتموه في هذا المعنى أخبار آحاد لا يوجب علما قلنا كل خبر مما ذكرناه وإن كان من طريق الآحاد فإن معناه الذي تضمنه متواتر، والمعول على المعنى دون اللفظ، ومن استقرى الأخبار وجد معنى إكراهه على البيعة، فإنه دخل فيها مستدفعا للشر وخوفا من نفور الناس، وتفرق الكلمة، وقد وردت به أخبار كثيرة من طرق مختلفة تخرج عن حد الآحاد إلى التواتر.

وبعد، فأدون منزلة هذه الأخبار إذا كانت آحاد أن تقتضي الظن وتمنع من القطع، على إنه لم يكن هناك خوف ولا إكراه، وإذا كنا لا نعلم أن البيعة وقعت عن رضا واختيار مع التجويز لأن يكون هناك أسباب إكراه فأولى أن لا نقطع على الرضا والاختيار مع الظن لأسباب الاكراه والخوف.

فإن قيل: التقية لا تكون إلا عن خوف شديد فلا بد له من أسباب إكراه فأولى أن لا نقطع على الرضا والاختيار مع الظن لأسباب الإكراه والخوف.

فإن قيل: التقية لا تكون إلا عن خوف شديد فلا بد له من أسباب وإمارات تظهر فمتى تظهر أسبابه لم يسغ تجويزه فإذا كان غير جائز فلا تقية

____________

(1) الأعراف 150.

الصفحة 246 

قلنا: فأي أسباب وإمارات هي أظهر مما ذكرنا وروينا، هذا إن أردتم بالظهور أن ينقله جميع الناس ويعلموه ولا يرتابوا به فذلك اقتراح منكم لا ترجعون فيه إلى حجة، ولنا أن نقول لكم: من أين أوجبتم ذلك، وما المانع من أن ينقل أسباب التقية قوم ويعرض عن نقلها آخرون لأغراض لهم، وصوارف تصرفهم عن النقل؟ ولا خفاء بما هو في هذه الدعوى وأمثالها على أن الأمر في ظهور أسباب التقية أوضح من أن يحتاج إلى رواية خبر، ونقل لفظ مخصوص، لأنكم تعلمون أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن البيعة تأخرا علم وارتفع الخلاف فيه، ثم بايع بعد زمان متراخ عن البيعة، وإن اختلف في مدته، ولم يكن بيعته وإمساكه عن النكير الذي كان وقع منه إلا بعد أن استقر الأمر لمن عقد له، وبايعه الأنصار والمهاجرون، وأجمع عليه في الظاهر المسلمون، وشاع بينهم أن بيعته قد انعقدت بالاجماع والاتفاق، وأن من خالف عليه كان شاقا لعصا المسلمين، مبدعا في الدين، رادا على الله وعلى رسوله، وبهذا بعينه احتجوا على من قعد عن البيعة وتأخر عنها، فأي سبب للخوف أظهر مما ذكرناه؟ وكيف يراد سبب له ولا شئ يذكر في هذا الباب إلا وهو أضعف مما أشرنا إليه؟ وكيف يمكن أمير المؤمنين عليه السلام الخلاف على من بايعه جميع المسلمين، وأظهروا الرضا به، والسكون إليه؟ وإن مخالفه مبدع خارج عن الملة، وإنما يصح أن يقال: إن الخوف لا بد له من أسباب تظهر، وإن نفيه واجب عند ارتفاع أسبابه، لو كان أمير المؤمنين عليه السلام بايع في ابتداء الأمر مبتدئا بالبيعة طالبا لها، راغبا فيها من غير تقاعد، ومن غير أن تأخذه الألسن باللوم والعذل، فيقول واحد:

حسدت الرجل، ويقول الآخر: أردت الفرقة ووقوع الاختلاف بين المسلمين ويقول آخر: متى أقمت على هذا لم يقاتل أحد من أهل الردة، وطمع المرتدون في المسلمين، ومن غير أن يتلوم أو يتربص حتى يجتمع

الصفحة 247 

المفترقون ويدخل الخارجون ولا يبقى إلا راض أو متظاهر بالرضا فأما والأمر جرى على خلاف ذلك فالظاهر الذي لا إشكال فيه أنه عليه السلام بايع مستدفعا للشر وفارا من الفتنة، وبعد أن لم يبق عنده بقية ولا عذر في المحاجزة والمدافعة، وهذا إذا عولنا في إمساكه عن النكير على الخوف المقتضي للتقية، وقد يجوز أن يكون سبب إمساكه عن النكير غير الخوف، إما منفردا وإما مضموما إليه، وذلك أنه لا خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة أن المنكر إنما يجب إنكاره بشروط، منها أن لا يغلب على ظنه أنه يؤدي إلى منكر أعظم منه، وإنه متى غلب في الظن ما ذكرناه لم يجز إنكاره، ولعل هذه كانت حال أمير المؤمنين عليه السلام في ترك النكير، والشيعة لا تقتصر في هذا الباب على التجويز، بل تروي روايات كثيرة أن النبي صلى الله عليه وآله عهد إلى أمير المؤمنين عليه السلام بذلك وأخبره أن القوم يدفعونه عن الأمر، ويغلبونه عليه، وإنه متى نازعهم فيه أدى ذلك إلى الردة ورجوع الحرب جذعة (1) وأمره بالإغضاء والإمساك إلى أن يتمكن من القيام بالأمور والتجويز في هذا الباب لما ذكرناه كاف.

وإن قيل: هذا يؤدي إلى أن يجوز في كل من ترك إنكار منكر هذا الوجه بعينه فلا نذمه على ترك نكيره، ولا نقطع على رضاه به.

قلنا: لا شك في أن من رأيناه كافا عن نكير منكر، ونحن نجوز أن يكون إنما كف عن نكيره لظنه أن يعقب ما هو أعظم منه، فإنا لا نذمه ولا نرميه أيضا بالرضا به، وإنما نفعل ذلك عند علمنا بارتفاع سائر الأعذار، وحصول شرائط جميع إنكار المنكر، وما نعلم بيننا وبينهم خلافا في هذا الذي ذكرناه على الجملة، وإنما يقع التناسي للأصول إذا بلغ الكلام إلى الإمامة، وليس لأحد أن يقول: إن غلبة الظن بأن إنكاره

____________

(1) جذعة: فتية.

الصفحة 248 

بعض المنكر يؤدي إلى ما هو أعظم منه لا بد فيه من إمارات تظهر، وتنقل، وفي فقد علمنا بذلك دلالة على أنه لم يكن، وذلك أن الإمارات إنما يجب أن تكون ظاهرة لمن شاهد الحال، وغلب في ظنه ما ذكرناه دون من لم يكن هذه حاله، ونحن خارجون عن ذلك، والإمارات الظاهرة في تلك الحال لمن غلب في ظنه ما يقتضيه ليست مما ينقل ويروى وإنما يعرف بشاهد الحال، وربما ظهرت أيضا لبعض الحاضرين دون بعض على أن هذا الكلام إنما نتكلفه متى لم نبن كلامنا على صحة النص على أمير المؤمنين. ومتى بنينا الكلام في أسباب ترك النكير على ما قدمناه من صحة النص ظهر الأمر ظهورا يدفع الشبهة، لأنه إذا كان هو عليه السلام المنصوص عليه بالإمامة، والمشار إليه بينهم بالخلافة، ثم رآهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله تنازعوا الأمر بينهم تنازع من لم يسمعوا فيه نصا، ولا أعطوا فيه عهدا، ثم صاروا إلى إحدى الجهتين بطريقة الاختيار وصمموا على أن ذلك هو الواجب الذي لا معدل عنه، ولا حق سواه علم عليه السلام أن ذلك مؤيس من نزوعهم ورجوعهم، ومخيف من ناحيتهم، وأنهم إذا استجازوا اطراح عهد الرسول صلى الله عليه وآله وإيقاع الشبهة فيه، فهم بأن يطرحوا إنكار غيره، ويعرضوا عن وعظه وتذكيره أولى وأحرى، ولا شبهة على عاقل في أن النص إن كان حقا على ما نقوله ودفع ذلك الدفع فإن النكير هناك لا ينجع ولا ينفع، وإنه مؤد إلى غاية مكروه فاعليه ومما يعارضون به فيما يدعي من الإجماع على إمامة أبي بكر الإجماع على إمامة معاوية فإن الحسن بعد تسليم الأمر إليه كان والناس بأسرهم مظهرين للرضا بإمامته، وتنفيذ أحكامه، وكافين من النكير عليه، حتى سمى ذلك العام عام الجماعة وكلما يدعى هاهنا من إنكار باطن، وخوف وتقية يمكن أن يدعى بعينه فيما تقدم، ومما يعارضون به أيضا الإجماع على قتل عثمان وخلعه، فإن الناس كانوا بين قاتل أو

الصفحة 249 

خاذل أو كاف عن النكير، وهذه إمارات للرضا عندهم ونحن نستقصي الجواب عما يرد على هاتين المعارضتين عندما نحكيه من كلام صاحب الكتاب مستقبلا، وهذه الجملة التي أوردناها تأتي على ما حكيناه من كلامه في هذا الفصل متى تؤملت لكنا لا ندع الإشارة إلى ما ذكره على طريق التفصيل والتنبيه عليه.

أما قوله: (إنا لا ننكر أنه عليه السلام تأخر وتباطأ عن البيعة وأن قوما قالوا: أربعين يوما وآخرين قالوا: ستة أشهر) وقوله: (إنه تأخر لاستيحاشه من استبدادهم بالأمر دون مشاورته ومطالعته أو اشتغاله بتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله أو بأمر فاطمة عليها السلام) فتعليل منه باطل لأن مشاورته عليه السلام عند مخالفينا لا تجب عليهم، وعقد الإمامة يتم بمن عقدها، ولا يفتقر في صحته وتمامه إلى حضوره، وما يدعونه من خوف الفتنة فهو عليه السلام كان أعلم به، وأخوف له فكيف يتأخر عما يجب عليه من أجل أنهم لم يفعلوا ما لا يحب عليهم؟ وكيف يستوحش ممن عدل عن مشاورته وهي عندهم غير واجبة في حال السلم والأمن، وإنما عدل تحرزا من الفتنة والفرقة، وهل هذا منهم إلا سوء ثناء على أمير المؤمنين عليه السلام ونسبته إلى ما يتنزه قدره ودينه عنه.

فأما الاشتغال بالنبي صلى الله عليه وآله فإنه كان ساعة من نهار والتأخر كان شهورا والمقلل قال أياما، وتلك الساعة كان يمكن أيضا فيها إظهار الرضا والمراسلة به بدلا من إظهار السخط والخلاف.

وأما فاطمة عليها السلام فإنها توفيت بعد أشهر فكيف يشتغل بوفاتها عن البيعة في المدة المتقدمة مع تراخيها، وعندهم أيضا أنه تأخر عن البيعة أياما يسيرة وأكثرهم يقول: أربعين يوما فكيف يشغل ما يكون

الصفحة 250 

بعد أشهر عما كان قبلها.

فأما ضربه المثل بالمرأة التي لها أخوة واستيحاش كبيرهم من أن يعقد عليها صغيرهم فأول ما فيه أن الكبير متى كان دينا خائفا من الله كان استيحاشه، وثقل ما جرى على طبعه لا يجوز أن يبلغ به إلى إظهار الكراهة للعقد والخلاف فيه، وإيهام أنه غير ممضي ولا صواب وكل هذا جرى من أمير المؤمنين عليه السلام فكيف يضاف إليه مع المعلوم من خشونة أمير المؤمنين في الدين، وغضبه له كراهية للواجب والاستيحاش من الحق، والغضب مما يورد إليه تحرزا من الفتنة وتلافيا للفرقة، ومن أدل دليل على أن كفه عليه السلام عن النكير وإظهار الرضا لم يكن اختيارا وإيثارا، بل كان لبعض ما ذكرناه أنه لا وجه لمبايعته بعد الإباء إلا ما ذكرناه بعينه فإن إباءه المتقدم لا يخلو من وجوه، إما أن يكون لما ادعاه صاحب الكتاب من اشتغاله بالنبي صلى الله عليه وآله وابنته، واستيحاشه من ترك مشاورته، وقد أبطلنا ذلك بما لا زيادة عليه، أو لأنه كان ناظرا في الأمر ومريبا في صحة العقد إما بأن يكون ناظرا في صلاح المعقود له الإمامة، أو في تكامل شروط عقد إمامته، ووقوعه على وجه الصحة، وكل ذلك لا يجوز أن يكون خافيا على أمير المؤمنين عليه السلام ولا ملتبسا، بل كان به أعلم وإليه أسبق، ولو جاز أن يخفى على مثله وقتا ووقتين لما جاز أن يستمر الأوقات، وتتراخى المدد في خفائه وكيف يشكل عليه صلاح أبي بكر للإمامة وعندهم أن ذلك كان معلوما ضرورة لكل أحد، وكذلك عندهم صفات العاقدين وعددهم، وشروط العقد الصحيح مما نص النبي صلى الله عليه وآله وأعلم الجماعة به على سبيل التفصيل، فلم يبق شئ يرتئي فيه أمير المؤمنين عليه السلام وينظر في إصابته النظر الطويل فلم يبق وجه يحمل عليه إباؤه وامتناعه من البيعة في الأول إلا ما نذكره من أنها

الصفحة 251 

وقعت في غير حقها ولغير مستحقها، وذلك يقتضي أن رجوعه إليها لم يكن إلا لضرب من التدبير.

فأما استدلاله على رضاه بما ادعاه من إظهار المعاونة والمعاضدة، وأنه أشار عليه بقتال أهل الردة فإنه ادعاء معاونة ومعاضدة على سبيل الجملة لا نعرفها، ولو ذكر تفصيله لتكلمنا عليه، فإن أشار بذلك إلى ما كان يمدهم به من الفتيا في الأحكام، فذلك واجب عليه في كل حال، ولكل مستفت فلا يدل إظهار الحق والتنبيه على الصواب في الأحكام لا على معاونة ولا معاضدة، وإن أشار إلى ما كان منه عليه السلام في وقت من الأوقات من الدفع عن المدينة (1) فذلك أيضا واجب على كل مسلم وكيف لا يدفع عن حريمه وحريم المسلمين، فأي دلالة في ذلك على ما يرجع إلى الإمامة.

فأما المشورة عليه بقتال أهل الردة فما علمنا أنها كانت منه، وقد كان يجب عليه أن يصحح ذلك، ثم لو كانت لم تدل على ما ظنه لأن قتالهم واجب على المسلمين كافة والمشورة به صحيحة.

فأما تعلقه بإنكار أمير المؤمنين على أبي سفيان فقد تقدم في كلامنا أن

____________

(1) أشار علي عليه السلام إلى سبب دفاعه عن المدينة في كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر حيث قال عليه السلام: (فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم انصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما تكون المصيبة علي أعظم)، والكتاب مذكور في باب الكتب من " نهج البلاغة " وذلك أن جماعة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله أرسلوا إلى أبي بكر أن يقارهم على إقامة الصلاة ومنع الزكاة فامتنع من إجابتهم إلى ذلك فأغاروا على المدينة فخرج علي عليه السلام بنفسه للدفاع عن المدينة حتى رد الله كيدهم وانظر تفصيل القضية في تاريخ الطبري 3 / 244 حوادث سنة 11 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 153.

الصفحة 252 

ذلك إنما يدل على تهمته لأبي سفيان، وعلمه بأن غرضه بذلك الكلام لم يكن النصح له، فأي تعلق له بذلك؟

وأما امتناعه عما بذله له العباس من البيعة، فلأنه كان يعرف الباطن، وكلام العباس كان على الظاهر، وليس يمتنع أن يغلب في ظنه ما لا يغلب في ظن العباس فلا يكون في امتناعه دلالة على صواب ما جرى من العقد، وإنما يكون دلالة على أن ما بذله العباس لم يكن عنده صوابا.

فأما قوله: (ولو كان منكرا لإمامة أبي بكر لم يخف أن يظهر ذلك كما أظهره أبو سفيان) فطريف لأن الوقت الذي أظهر أبو سفيان الخلاف فيه لم يكن أحد فيه يخاف من الخلاف، لأنه كان في ابتداء الأمر وقبل استمرار العقد، وقد كان في تلك الحال جماعة مظهرين للخلاف.

وإنما قلنا إنه عليه السلام خاف من الخلاف في المستقبل وبعد إطباق الكل ولم يكن في تلك الحال أبو سفيان ولا غيره مظهرا للخلاف.

فأما قوله: (إنه لو ادعى الحق لنفسه لوجد أنصارا كالعباس والزبير وأبي سفيان وخالد بن سعيد) فظاهر البطلان لأنه لا نصرة فيمن ذكر ولا في إضعافهم على من عقد العقد لأبي بكر وانقاد له، ورضي بإمامته، والأمر في هذا أظهر من أن يخفى.

فأما قوله: (إنه وإن تأخر من البيعة فقد كان راضيا من حيث ترك النكير وإنه إنما تأخر عن البيعة لأنه لم يطالب بها ولم يشدد فيها عليه) فكلام في غير موضعه لأن المعتبر في باب الإمامة إنما هو بالرضا والتسليم دون الصفقة باليد، ألا ترى أن من نأى عن محل الإمام وبلده يعد مبايعا له من حيث رضي وسلم وانقاد وإن لم يصفق بيده، وإنما يراد الصفقة لتكون إمارة على الرضا فإذا ظهر ما هو أدل منها لم يعتبر بها ولم يحتج إليها

الصفحة 253 

فما وقع من الاتفاق على تأخر أمير المؤمنين عليه السلام عن البيعة يجب أن يكون محمولا على التأخر عن إظهار الرضا والتسليم دون الصفقة باليد، ولو كان راضيا بالأمر، ومسلما للعقد لم يعتبر بصفقته ولا عوتب على تأخره، ولا قيل في ذلك ما قيل ولا جرى ما جرى، على أنا قد بينا أن ترك النكير لا يدل على الرضا والاجماع إلا بعد شرائط لم تحصل في تركه عليه السلام النكير.

فأما قوله: (وكان يجب إن لم يزد نكيره وإظهار الخلاف على ما ظهر من الحسين عليه السلام وغيره في أيام بني أمية ألا ينقص من ذلك فقد علم أنهم لما طولبوا بالبيعة كيف امتنعوا وتهاربوا وأظهروا الخلاف والنكير، ولم يكن فزعه من أبي بكر إلا دون فزعهم من يزيد) وتقويته ذلك بأن نكيره كان يجب أن يكون أقوى من نكير غيره من حيث أزيل عن حقه فبعيد من الصواب لأنا قد بينا الأسباب المانعة من النكير، وأوضحنا ذلك وشرحناه، وليس الخوف في تلك الحال كالخوف من يزيد وبني أمية، وكيف يكون الخوف من مظهر للفسق والخلاعة والمجانة متهتك لا مسكة معه (1) ولا شبهة في أن إمامته ملك وغلبة، وأنه لا شرط من شرائط الإمامة فيه كالخوف من مقدم معظم جميل الظاهر، يرى أكثر الأمة أن الإمامة دونه وأنها أدنى منازله، وما الجامع بين الأمرين كالجمع بين الضدين على أن القوم الذين امتنعوا من بيعة يزيد قد عرف ما جرى عليهم من القتل والمكروه فأما الحسين عليه السلام فإنه أظهر الخلاف لما وجد بعض الأعوان عليه وطمع في معاونة من خذله، وقعد عنه ثم حاله آلت مع اجتهاده واجتهاد من اجتهد في نصرته إلى ما آلت إليه.

____________

(1) يقال: فلان فيه مسكة - بضم الميم - من خير أي بقية.

الصفحة 254 

فأما تعلقه بعرض العباس وأبي سفيان عليه البيعة وأن ذلك دليل على أن النص لا أصل له، وأن طريق الإمامة الاختيار، فقد قدمنا الكلام فيما مضى من هذا الكتاب عليه، وبينا أن ذلك لا ينافي النص من وجهين، أحدهما، أن البيعة لا تدل على أن النص لم يتقدم وتثبت به الإمامة، بل يكون الغرض منها القيام بالنص التكفل بالذب ولهذا المعنى بايع النبي صلى الله عليه وآله الأنصار ليلة العقبة وبايع المهاجرون والأنصار تحت الشجرة وعلى هذا الوجه بايع الناس عمر بن الخطاب بالخلافة بعد أبي بكر وإن كان نصه قد تقدم عليه، والوجه الآخر أن القوم لما أن شرعوا في الإمامة من جهة الاختيار وأوهموا أنه الطريق إلى الإمامة أراد العباس أن يحتج عليهم بمثل حجتهم، ويسلك في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام مسلكهم على سبيل الاستظهار عليهم، والإزالة لشبههم، وكذلك أبو سفيان، وليس في بذل البيعة دلالة على انتفاء النص.

 

فأما ما طول بذكره من الأخبار التي ذكرها في هذا الموضع، المتضمنة للتفضيل والتعظيم والمدح، فقد تقدم فيما مضى كلامنا عليها عند احتجاجه بها في مقابلة ما اعتمدناه من الرواية المتضمنة أمره عليه السلام للناس بالتسليم على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين وقوله: (هذا ولي كل مؤمن بعدي) وتكلمنا في هذه الأخبار بوجوه من الكلام، وبينا ما فيها مشروحا بما لا طائل في إعادته (1)، وإيراده مثل هذه الأخبار التي يعلم أنها واردة من جهة ومدفوعة من أخرى يقتضينا أن نورد في مقابلتها ما يجري هذا المجرى مما يروونه ويدفعونه من الأخبار المتضمنة للطعن واللوم، والتصريح والتلويح، لكنا لا نفعل ذلك تنزها عنه، وتعويلا في الحجة على غيره، ومن أراد أن يعارض أخبارهم هذه بما ذكرناه من الأخبار كان له في ذلك متسع على أن جميع ما ذكره من الأخبار لو صح

الصفحة 255 

لم يكن فيه حجة، لأنه يجوز أن يكون خرجت مخرج التقية ويحمل الأحوال عليها، لأن التقية جائزة عندنا فيما جرى هذا المجرى.

فأما وصفه لأمير المؤمنين عليه السلام بالشجاعة والقوة وأن التقية لا تجوز على مثله فهو على ما ذكر من الشجاعة وأفضل، إلا أن شجاعته لا تبلغ أن يغلب جميع الخلائق، ويحارب سائر الناس، وهو مع الشجاعة والقوة بشر يقوى ويضعف، ويخاف ويأمن، والتقية جائزة على البشر الذين يضعفون عن دفع المكروه عنهم.

فأما قوله: (إنه كان بعيدا عن التقية لما انتهت الخلافة إليه) فلعمري أن كثيرا من التقية زال عنه في أيام إمامته بزوال أسبابها، وبقي كثير من التقية لبقاء أسبابها، وبهذا لم ينقض جميع أحكام من تقدم ولا فسخ عقدهم، وأين أنصاره وأعوانه في الكثرة والتظاهر، والتوازر في أيام إمامته من أنصاره فيما تقدم، ولا إشكال على منصف في الفرق بين الأمرين.

فأما قوله: (إن التقية لا بد فيها من سبب ظاهر) فقد قلنا في ذلك ما فيه كفاية فأما قوله: (إن في كثير من الأوقات إظهار الحق أولى) فهب إن الأمر على ذلك لعل الوقت الذي تكلم عليه من الأوقات التي لا يكون الاظهار فيها أولى.

فأما قوله: (لو جاز مع فقد السبب ادعاء التقية لم تأمن في أكثر ما ظهر من الرسول صلى الله عليه وآله أن يكون على سبيل التقية) فباطل لأنا قد بينا أن السبب في الموضع الذي ادعى فقده فيه لم يكن مفقودا ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله إنما لم تجز التقية عليه لأن الشريعة لا تعرف إلا من قبله، ولا يوصل إليها إلا من جهته فمتى جازت

الصفحة 256 

التقية عليه لم يكن لنا إلى العلم بالشرع طريق، وليس العلم بأن الإمام منصوص عليه موقوفا على قوله ولا يعلم إلا من جهته حتى تكون تقيته في ذلك رافعة لطريق العلم فبان الفرق بين الأمرين، على إن صاحب الكتاب يجزى على كل من عدا الرسول صلى الله عليه وآله من المؤمنين التقية ولا يلزمه على ذلك أن يجيز التقية على الرسول صلى الله عليه وآله فكيف يلزم خصومه الجمع بين الأمرين.

فأما قوله: (ولم صار بأن يقال إنه كان يتقي فيعظم أبا بكر وعمر بأولى من أن يحمل تقديمه لأمير المؤمنين على مثل ذلك) فكلام كأنه لا يليق بما نحن فيه لأنا إنما نتكلم في تقية أمير المؤمنين عليه السلام وكفه عن منازعة من غالبه على الأمر، ولم نكن في تقية النبي صلى الله عليه وآله ومن قال له في هذا الموضع أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتقي فيعظم أبا بكر وعمر، وأي مدخل لذلك هاهنا على أن الكثير من أصحابنا لا يقولون إن تعظيمه لأبي بكر وعمر كان على وجه التقية، بل كان على ما يقتضيه الحال من ظاهرهما، ومن قال بذلك يمكن أن يفصل بين الأمرين بالدليل، فيقول: لو تركت والظاهر من تعظيم الجماعة لسويت بين الكل لكنه لما دل الدليل في بعضهم على ما يقتضي خلاف ذلك التعظيم نسبته إلى غير ظاهرة، وما لم يصرف عنه الدليل كان باقيا على حاله.

فأما قوله: (ولو أمكن أن يدعى في ابتداء البيعة التقية ما كان يمكن في سائر الأحوال، وهلا ظهرت التقية منه يوم الجمل وصفين) فظاهر الفساد، لأن الأمر بالعكس مما قاله إن ابتداء الأمر في البيعة كان أحق منه في استقراء الأحوال، ومعلوم أن الحال بعد الابتداء اشتدت وتفرعت، وقويت وتشعبت فكيف يدعي أن الابتداء كان أحق من الاستمرار، اللهم إلا أن يعني بذلك الأيام التي سلم فيها الأمر إليه عليه

الصفحة 257 

السلام فهذه الأيام أيضا تجري مجرى الأول في حصول أسباب التقية لأن أكثر من بايعه بالإمامة كانوا شيعة المتقدمين عليه، ومن يعتقد إمامتهم، والأحوال متقاربة، وإن كان عليه السلام في هذه الأيام كثيرا ما كان ينفث ببعض ما في صدره، ويبوح ببعض ما كان يكتمه.

فأما ذكر الجمل وصفين في هذا الموضع فمن بعيد الكلام، وإنما لم يسغ له التقية في صفين والجمل لوجود الألوف الكثيرة من الأنصار والأعوان المستبصرين الذين يثق بمناصحتهم ونصرتهم، وليس شئ من هذا فيما تقدم.

فأما قوله: (إن المتعالم من حال أبي بكر أنه لم يكن من القوة في نفسه وأعوانه بحيث يخاف منه) فقول من لا يتصفح كلامه، وأي قوة تزيد على من اجتمع عليه أكثر المسلمين، وانقادوا له من الأولين والآخرين، وسموه خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وأنزلوه منزلته، وأطاعوه طاعته، وهذا القول مما نربأ (1) بصاحب الكتاب عنه، وهذه جملة كافية.

ثم قال صاحب الكتاب: (فأما خالد بن سعيد فإنه بايع بعد ذلك من غير شبهة عند أهل النقل، وأما سلمان فإنما روي عنه أنه قال: كرديد ونكرديد (2)، وحكي عن أبي علي أن ذلك غير مقطوع به وأنه لا يجوز أن يخاطبهم بالفارسية وهم عرب (3) وكيف فهموا ذلك منه، ورووه، وأن

____________

(1) يقال: أربأ به عن كذا أي لا أرضاه له.

(2) " كرديد ونكرديد " معناه - كما أخبرني أحد المتضلعين في اللغة الفارسية - فعلتم وما فعلتم.

(3) وفيه " فكيف يصح أن يخاطبهم بهذا القول وهم عرب، وهو يعرف العربية ".

 

 

 

 

الصفحة 258 

هذا يقتضي أن الراوي الذي رواه كان يفهم بالفارسية، وأنه من باب الآحاد،...) (1) وذكر توليته لعمر المدائن، وأن الفعل آكد من القول في دلالته، وحكي عن أبي هاشم أن قوله كرديد يدل على صحة الإمامة وثبوتها، وإنما أراد بقوله: ونكرديد إنكم إن أصبتم الحق فقد أخطأتم المعدن، لأن عادة الفرس في الملك أن لا يزيلونه عن البيت والأقرب فالأقرب، وحكي عن أبي وعن أبي ذر أخبارا تدل على مدحه وتقريظه له، وأن ذلك يدل على أنه مصوب له، وذكر تولي عمار من قبل عمر الكوفة، وأن له شعرا في مدح أبي بكر، وأن المقداد ما تخلف عن بعوث أبي بكر وعمر والانقياد لهما، وإظهار تصويبهما، وأن سبيله في ذلك سبيل صهيب وسالم مولى أبي حذيفة وكل ذلك يحكيه عن أبي علي، وحكي عنه أنه قال: (إذا قبل المخالف الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله في أبي ذر وهو قوله: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) (2) فهلا قبلوا ما روي عنه من قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) و (إنهما سيدا كهول أهل الجنة) وما روي من تبشيره إياهما بالجنة، وبالخلافة بعده إلى غير ذلك).

ثم قال: (واعلم أن هذه الأخبار لم نذكرها وإن كان أكثرها أخبار آحاد اعتمادا عليها بل المعتمد على ما قدمناه من الإجماع الظاهر وإنما دفعنا بذلك ما ادعوه من الأخبار التي لا أصل لها ومنعناهم أن يتوصلوا بها إلى إثبات الخلافة، وأريناهم أن هذه الأخبار أشهر وأثبت) ثم عارض نفسه بالاجماع على معاوية وأجاب عن ذلك بأن حكي عن أبي علي (على أن معاوية لم يصلح للإمامة لأمور تقدمت نوجب فيها (3) البراءة والفسق، نحو استلحاق زياد، وقتل حجر وغيره، وشقه العصا

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 291.

(2) غ " الخلاف ".

(3) خ " فيه ".

الصفحة 259 

في أيام أمير المؤمنين عليه السلام ومقاتلته له إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ولا يصلح وحاله هذه أن يدعى الإجماع على إمامته لأن الإجماع في ذلك إنما يدل على ثبوت ما يصح وقد بينا أن الإمامة لا تصح فيه فيجب أن يعلم أن الإجماع لم يقع في الحقيقة، ولو ثبت - والحال ما ذكرناه - الإجماع لوجب حمله على أنه كان على سبيل القهر كما كان يقع من الملوك ذلك في ممالكهم، فكيف وقد صح واشتهر الخلاف في ذلك، بل ربما أظهروا هذا الجنس بحضرته فلا ينكره، وقد كان الحسن والحسين عليهما السلام ومحمد بن علي (1) وابن عباس وإخوته وغيرهم من قريش يظهرون ذمه والوقيعة فيه فكيف يدعي الإجماع في ذلك مع علمنا ضرورة من حال من ذكرناه أنه كان لا يقول بإمامته، ولا يدين بها، بلى لو قيل إنه يعلم بالأمور الظاهرة أنه كان لا يدين بإمامة نفسه، وكذلك خلص أصحابه لكان يقرب وإن لم يعلم ذلك بالاضطرار فالإمارات الدالة على ذلك ظاهرة؟ فكيف يدعي مثل ذلك في أبي بكر والحال ما قدمناه،...) (2) وعارض نفسه بالاجماع على قتل عثمان وأجاب بأن قال: (كيف يجوز أن يدعى الإجماع في ذلك وقد حصل هناك أمران يمنعان فيمن لم ينكر القول بأنه ينكر ذلك لاعتقاده أنه حق أحدهما أنه كان هناك غلبة والثاني ما كان من منع عثمان من القتال وكيف يقال ذلك وقد ثبت بالنقل ما كان من أمير المؤمنين عليه السلام من الانكار حتى بعث بالحسن والحسين عليهما السلام وقنبر على ما روي في ذلك، وكيف يدعي في ذلك الإجماع وعثمان نفسه مع شيعته وأقاربه خارجون،...) (3) وحكي عن أبي علي أنه قال: إن

____________

(1) يعني ابن الحنفية.

(2) المغني 20 ق 1 / 294.

(3) المصدر نفس الصفحة المتقدمة.

الصفحة 260 

قدح في الإجماع على خلافه هذه الأمور فالإجماع لا يصح إثباته (1) لأنه إجماع أظهر مما ذكرناه وهذا يبطل كون الإجماع دلالة وتأول ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله عليه السلام: (لقد تقمصها ابن أبي قحافة وقد علم أني منها مكان القطب من الرحى) (2) بأن قال: إن ثبت ذلك فالمراد أنه أهل لها وأنه أصلح منه، يبين ذلك أن القطب من الرحى لا يستقل بنفسه، ولا بد في تمامه من الرحى فنبه بذلك على أنه أحق وإن كان قد تقمصها قال: (وقد كانت العادة في ذلك الزمان أن يسمي أحدهم صاحبه ويكنيه ويضيفه إلى أبيه حتى كانوا ربما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا محمد، فليس في ذلك استخفاف، ولا دلالة على الوضع، وبإزاء هذه الأخبار المروية ما رويناه من الأخبار [ التي هي أشهر ] (3) في تعظيمه لهما ويعضدها الأخبار المروية عن الرسول في فضلهما) (4).

ثم قال: (واحد ما قوى به شيوخنا ما ذكرناه [ من الإجماع ] (3) لو كان أمير المؤمنين عليه السلام مخالفا [ لأنه أحق بالأمر ] (3) على ما يقولون لوجب لما انتهى الأمر إليه أن ينفي (5) أحكام القوم وينقض ما يجب أن

____________

(1) في المغني " إن كان يصح القدح فيما ذكرناه من الإجماع فلا إجماع يصح إثباته ".

(2) وفيه: " وهل لم يبطل كون الإجماع دلالة فقد ثبت صحة ذلك بالكتاب وغيره مما له تأويل نحو ما يحكون عنه أنه قال: (والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى) ورواية " المغني " موافقة في حروفها لما في " نهج البلاغة " وقد استعرضت رواة الخطبة الشقشقية من السنة والشيعة والمعتزلة قبل الرضي وبعده في " مصادر نهج البلاغة وأسانيده " فراجع.

(3) جميع الزيادات تحت هذا الرقم من " المغني ".

(4) غ " ويعضده " فيكون الضمير للتعظيم.

(5) غ " أن يتتبع ".

الصفحة 261 

ينقض منها لأنهم على هذا القول كانوا خوارج يتصرفون في الحدود والأحكام على وجه محرم عليهم (1) وبطلان ذلك يبين أنه كان راضيا بإماتهم،...) (2).

يقال له: أما بيعة خالد بن سعيد وغيره ممن كان أظهر الخلاف في الأصل فلا شبهة فيها، إلا أنه بقي عليك أن تبين أن ذلك كان عن رضى واختيار، فقد بينا في ذلك ما فيه كفاية ومقنع وإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام مع عظم قدره، وعلو منزلته، قد ألجأته الحال إلى البيعة فأولى أن يلجئ غيره ممن لا يدانيه في أحواله.

فأما قول أبي علي: (إن الذي روي عن سلمان من قوله (كرديد ونكرديد " ليس بمقطوع به) فإن كان خبر السقيفة وشرح ما جرى فيها من الأقوال والأفعال مقطوعا به فقول سلمان مقطوع به، بل لأن كل من روى السقيفة رواه، وليس هذا مما يختص الشيعة بنقله فيتهمهم فيه.

فأما قوله: (فكيف يخاطبهم وهم عرب بالفارسية) فقد بينا فيما تقدم أنه صرح بمعنى ذلك بالعربية، وقال: أصبتم وأخطأتم، وفسر أيضا هذا الكلام وصرح بمعناه، وقد يجوز أن يجمع في إنكاره بين الفارسية والعربية ليفهم إنكاره أهل اللغتين معا فلم يخاطب على هذا العرب بالفارسية (3).

فأما قوله: (كيف رووه واستدلاله على أن راويه واحد من حيث لا

____________

(1) غ " يحرم عليهم ".

(2) المغني 20 ق 1 / 295.

(3) ويجوز أن سلمان استولى عليه الغضب والانفعال والانسان في مثل هذه الحال ينسى العادة ويرجع إلى الطبيعة.

الصفحة 262 

يجوز يرويه إلا من فهم الفارسية) فطريف لأن الشئ قد يرويه من لا من لا يعرف معناه.

فأما استدلاله بقوله: " كرديد " على أن الإمامة قد ثبتت وصحت، فباطل لأنه أراد بقوله: " كرديد " فعلتم، وبقوله: " نكرديد " لم تفعلوا، والمعنى إنكم عقدتم لمن لا يصلح للأمر ولا يستحقه، وعدلتم عن المستحق، وهذه عادة الناس في إنكار ما يجري على غير وجهه، لأنهم يقولون: فعل فلان ولم يفعل، والمراد ما ذكرناه، وقد صرح سلمان على ما روي بمعنى قوله " أصبتم الحق وأخطأتم أهل بيت نبيكم " فقد فسر بالعربية معنى كلامه بالفارسية.

فأما حمله لكلامه على أن المراد به (أصبتم الحق وأخطأتم المعدن، لأن عادة الفرس أن لا تزيل عن أهل البيت الملك) فالذي يبطله تفسير سلمان لكلام نفسه فهو أعرف بمعناه، على أن سلمان كان أتقى لله وأعرف به من أن يريد من المسلمين أن يسلكوا سنن الأكاسرة والجبابرة، ويعدلوا عما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وآله.

وأما توليه لعمر المدائن فمحمول على التقية وما اقتضاه إظهار البيعة والرضا يقتضيه، وليس لأحد أن يقول: وأي تقية في الولايات لأنه غير ممتنع أن يعرض عليه ليمتحنه بها ويغلب في ظنه أن من عدل عنها وأباها نسب إلى الخلاف، واعتقدت فيه العداوة، ولم يأمن المكروه، وهذه حال توجب عليه أن يتولى ما عرض عليه فالتقية تبيح مثل ذلك وأكثر منه، وكذلك الكلام في تولي عمار الكوفة، ونفوذ المقداد في بعوث القوة.

فأما ما رواه عن أبي ذر التعظيم والتقريظ للقوم، وظنه أن ذلك يعارض ما نقله عنه وعن أمثاله من الخلاف، فظاهر البطلان لأنه لا يمنع إذا صح ما رواه عنه أن يكون محمولا على التقية لأن الحال التي منوا بها

الصفحة 263 

ودفعوا إليها كانت تقتضي أمثال ما قلناه وما رويناه عنهم من الأخبار التي تتضمن الخلاف والنكير لا يصدر إلا عن نية واعتقاد فلا يعارض شيئا مما رووه لما ذكرناه.

فأما الفرق بين الخبر المروي عن الرسول صلى الله عليه وآله في أبي ذر وبين ما روي من قوله (اقتدوا باللذين من بعدي) وغيره فظاهر لأن خبر أبي ذر يرويه الخاصة والعامة، وينقله الشيعي والناصبي، ولم يرده أحد من الأمة ولا طعن فيه، ولا قدح في تأويله ولا ناقليه، وليس شئ من هذا موجودا في الأخبار التي عارض بها.

فأما الجواب عن المعارضة بإمامة معاوية والاتفاق عليها بأنه لا يصلح للإمامة لكذا وكذا مما عددناه، فإنما ذلك تعليل منه للنقض لأنه إذا كان لا يصلح للإمامة، وقد وجدنا في الاتفاق عليه، والكف عن منازعته ومخالفته ما وجدناه فيمن تقدم فيجب إما أن يكون إماما أو أن تكون هذه الطريقة ليست مرضية في تصحيح الإجماع وكل شئ يبين أنه لأجله لا يصلح للإمامة يؤكد الالزام ويؤيده.

وقوله: (إن الإجماع إنما يدل على ثبوت ما يصح) صحيح إلا أنه كان يجب أن يبين أن الإجماع لم يقع هاهنا باعتبار يقتضي أن شروطه لم تتكامل ولا يرجع في أنه لم يقع مع تكامل شروطه وأسبابه إلى أن المجمع عليه لا يصلح للإمامة، لأن ذلك كالمناقضة.

فأما ادعاؤه الغلبة والقهر فما يقوله المخالف له في الإمامة في إمامة معاوية ما قاله هو لنا فيما تقدم من أن القهر والغلبة لا بد لهما من أسباب تظهر وتنقل وتعلم فلو كان هناك غلبة لعلمها الناس كلهم على سواء فإن ادعى شيئا مما نقل في هذا المعنى لم يلتفت إليه مخالفه وقال له: لو كان ذلك صحيحا لنقل إلي وعلمته كما علمته وقابله في هذا الموضع بمثل ما قابلنا

الصفحة 264 

صاحب الكتاب في إمامة من تقدم حذو النعل بالنعل، ولهذا يقول من ينسب إلى السنة منهم أن إبطال إمامة معاوية والوقيعة فيه طريق مهيع (1) لأهل الرفض إلى القدح في إمامة من تقدمه، وقولهم إن معاوية كالحلقة للباب يريدون بذلك أن قرع الحلقة طريق إلى الولوج وسبيل للدخول.

فأما ادعاؤه من اشتهار الخلاف من الحسن والحسين عليهما السلام وفلان وفلان وأنهم كانوا يظهرون ذمه والوقيعة فيه، فيقال له: من أين علمت هذا الذي ادعيته بالضرورة على ما لوحت أو بالاستدلال.

فإن قال: بالضرورة قلنا: وما بال علم الضرورة لا يحصل لمخالفك، ويحصل لك دونهم وهم أكثر عددا منك، وآنس بالأخبار، ونقل الآثار، ولئن جاز لك أن تدعي على مخالفك في هذا الباب دفع الضرورة مع علمك بكثرة عددهم وتدين أكثرهم ليجوزن للشيعة التي تخالفك في إمامة من تقدم أن تدعي الضرورة عليك في العلم بإنكار أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وشيعته ظاهرا وباطنا على المتقدمين عليه، وأنه كان يتظلم ويتألم من سلب حقه والدفع له عن مقامه، وهيهات أن يقع بين الأمرين فصل.

فإن قال: أعلم ذلك بالاستدلال، قلنا، أذكر أي طريق شئت في تصحيح ما ادعيته من إنكار من سميته ووصفته حتى نبين بمثله صحة ما رويناه في الانكار على من تقدم فإنك لا تروي في ذلك إلا أخبارا نقلتها أنت ومن وافقك ويدفعها مخالفك، ويدعي أنها من رواية أهل الرفض ودسيس من قصده الطعن في السلف، ويقول فيمن يروي هذه الأخبار ويقبلها أكثر مما تقول أنت وأصحابك فيمن يروي ما ذكرناه من الأخبار،

____________

(1) طريق مهيع: أي واسع وجمعه مهايع.

الصفحة 265 

على أن الظاهر الذي لا يمكن أن يدفع أن القوم الذين سماهم وزعم أنهم كانوا يواجهونه بالخلاف والإنكار إنما كانوا يفتخرون عليه في النسب وما جرى مجراه، وكانت تجري بين القوم مفاضلة ومفاخرة لا ذكر للإمامة فيها وما كان ذلك إلا بتعرض من معاوية له وأنه كان رجلا عريضا (1) يريد أن يتحدث عنه بالحلم، وكان دائبا يتحكك (2) بمن يعلم أنه لا يتحمله حتى يرد منه من الكلام ما يغضي عليه ويعرض عنه فيكون ذلك داعيا إلى وصفه بالحلم، وما كان في جميع من ذكره ممن كان قابله بغليظ الكلام وشديده إلا من يخاطبه بإمرة المؤمنين في الحال، ويأخذ عطاءه ويتعرض لجوائزه ونوافله، فأي إنكار كان مع ما ذكرناه؟

فأما ما اعتمده في جواب معارضة من عارضه بالاجماع على قتل عثمان من ذكر فليس الغلبة بأكثر من استيلاء الجمع الكثير تخشى سطوتهم، وتخاف بادرتهم وهذه كانت حال من عقد الإمامة لأبي بكر لأن أكثر الأمة تولاها ومال إليها، واعتقد أنه السنة وما يخالفها البدعة، فأي غلبة هي أوضح مما ذكرناه؟ وكيف يدعي الغلبة في قتل عثمان وعندهم إن الذين تولوا قتله وباشروا حربه نفر من أهل مصر، التف بهم قوم أوباش من أهل المدينة ممن يريد الفتنة، ويكره الجماعة وأن أكابر المسلمين ووجوه الأنصار والمهاجرين، - وهم أكثر أهل المدينة وعليهم مدار أمرها، وبهم يتم الحل والعقد فيها -، كانوا لذلك كارهين، وعلى من أتاه منكرين، فأي غلبة تكون من القليل على الكثير، والصغير على الكبير لولا أن أصحابنا (3) يدفعون الكلام في الإمامة بما سنح وعرض من غير فكر

____________

(1) العريض - بالكسر والتشديد -: الذي يتعرض للناس بالشر.

(2) تحكك به: تعرض له، وتحرش به.

(3) الظاهر " لولا أن أصحابه ".

الصفحة 266 

في عواقبه ونتائجه.

فأما تعلقه بمنع عثمان من القتال فعجيب وأي علة في منع عثمان لمن قعد عن نصرته، وخلى بينه وبين الباغين عليه، والنهي عن المنكر واجب؟ وإن منع منه من يجري ذلك المنكر عليه وكيف يمتنع من القتال لأجل منع عثمان منه من كان معه في الدار من أقاربه وعبيده وهم له أطوع، وإن ينتهوا إلى أمره أولى؟

وكيف لم يطعه في النهي عن المنكر والصبر على إيقاع الفتنة إلا ما المهاجرون والأنصار دون أهله وعبيده.

فأما ذكره إنكار أمير المؤمنين عليه السلام لذلك وبعثه الحسن والحسين عليهما السلام للنصرة والمعاونة فالذي هو معروف أن أمير المؤمنين عليه السلام كان ينكر قتله ويبرأ من ذلك في أقوال محفوظة معروفة لأن قتله منكر لا شك فيه، ولم يكن ممن تولاه أن يقدم عليه.

فأما حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم من كان سبب الفتنة ممن كان في جهته فما يحفظ عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك إنكار، بل الظاهر أنه كان بذلك راضيا ولخلافه ساخطا، وكيف لا يكون كذلك وهو الذي قام بأمره في الدفعة الأولى وتوسطه حتى جرى الأمر على إرادته بعد أن كاد أن يخرج الأمر إلى ما خرج إليه في المرة الثانية، وضمن لخصومه عنه الأعتاب والجميل فكان ذلك سببا لتهمته عليه السلام ومشافهته أن لا يتهم سواه فمضى عليه السلام من فوره وجلس في بيته، وأغلق بابه.

فأما بعث الحسن والحسين عليهما السلام ففي ذلك نظر، ولو كان مسلما لا خلاف فيه لكان إنما بعثهما للمنع من الانتهاء بالرجل إلى القتل، ولأنهم كانوا حصروه، ومنعوه الطعام والشراب وفي داره حرم وأطفال، ومن لا تعلق له بهذا الأمر، وهذا منكر يجب على مثل أمير المؤمنين عليه

الصفحة 267 

السلام رفعه فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام وطلحة والزبير وفلان وفلان كارهين لما جرى لما وقع شئ منه، ولكانوا يمنعون من جميعه باليد واللسان والسيف.

فأما قوله: (وكيف يدعى الإجماع وعثمان نفسه مع شيعته وأقاربه خارجون منه) فطريف لأنه إن لم يكن في هذا الإجماع إلا خروجه عنه فبإزائه خروج سعد بن عبادة وأهله وولده من الإجماع على إمامة أبي بكر ممن قال صاحب الكتاب إني لا اعتقد بخروجه إذا كان في مقابلته جميع الأمة.

فأما الذين كانوا مع عثمان في الدار فلم يكن معه من أهله إلا ظاهر الفسق، عدوا لله تعالى كمروان وذويه ممن لا يعتبر خروجه عن الإجماع لارتفاع الشبهة في أمره أو عبيد أدناس طغام لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يكون خلاف مثلهم قادحا في الإجماع، وإذا بلغنا في هذا الباب إلى أن لا نجد منكرا من جميع الأمة إلا عبيد عثمان والنفر من أقاربه الذين حضروا في الدار فقد سهلت القصة ولم يبق فيها شبهة.

فأما قوله: عن أبي علي: (إن هذا طريق إلى إبطال الإجماع في كل موضع) فقد بينا أن الأمر على خلاف ما ظنه وأن الإجماع يثبت ويصح بطرق صحيحة ليست موجودة فيما ادعوه ولا طائل في إعادة ما مضى.

فأما تأويله ما روي عنه عليه السلام في قوله: (والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة) على أن المراد بذلك أنه أهل لها واضح منه للقيام بها فأول ما فيه أن هذا التأويل على بعده لا يمكنه في غير هذا اللفظ من الألفاظ المروية عنه عليه السلام وهي كثيرة وقد ذكرنا منها طرفا ثم هو مع ذلك فاسد لأن من كان أهلا للأمر وموضعا له لا يطلق من الألفاظ ما هو موضع للاستحقاق المخصوص أو التفرد بالأمر والتميز لأن قول القائل:

الصفحة 268 

أنا مكان القطب من الرحى يقتضي ما فيه أن غيره لا يقوم فيه مقامه كما أن غير القطب لا يقوم مقام القطب ولا يفهم من هذا الكلام أنه أهل له وموضع، ولا هو مثال من يريد الإخبار عن المعنى الذي ذكرناه.

فأما قوله: (إن القطب لا يستقل بنفسه ولا بد في تمامه من الرحى) فأول ما فيه أنه تأول في اللغة، وتحمل الألفاظ ما لم توضع له، لأن عرف أهل اللغة جاء باستعمال لفظ القطب في الموضع الذي ذكرناه، وعند إرادة أحدهم أن يخبر عن نهاية الاستحقاق والتفرد بالأمر الذي لا يقع فيه مشاركة فتأوله مع المعرفة بمرادهم في هذه اللفظة لا معنى له، على أن القطب أشد استقلالا بنفسه من باقي الرحى لأنه يمكن أن يتحرك ويدور من غير أن يتصل به شئ وباقي الرحى لا يمكن ذلك فيه على سبيل الدور إلا بقطب.

فأما الإضافة إلى كنية أبيه فمما لا نعتبره في الخبر، وعلى كل حال، فليس ذلك صنع من يريد التعظيم والتبجيل، وقد كانت لأبي بكر عندهم من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه، وقوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله ينادى باسمه فمعاذ الله ما كان ينادى باسمه إلا شاك فيه أو جاهل من طغام الأعراب الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الباب، وقوله: (من عادة العرب أن يسمي أحدهم صاحبه ويضيفه إلى أبيه من غير إرادة سوء) فلا شك في أن هذه عادة القوم فيمن لا يكون له من الألقاب أفخمها وأعظمها كالصديق وخليفة رسول الله، وما نجدهم يعدلون عن ذكر الإنسان بلقبه العظيم الذي يدل على محله ومرتبته إلى إضافته إلى اسم أبيه إلا ومقصدهم بذلك خلاف التعظيم والمدح.

فأما قوله: (إنه كان يجب لما انتهى إليه الأمر أن يتتبع أحكام القوم

الصفحة 269 

فينقض ما يجب أن ينقض منها) فهو من عمدهم التي يعتمدونها، وربما أضافوا إليها أنه نكح سبيهم، فإن الحنفية كانت سبية، وأنه أقام الحد بين أيديهم، وزوج ابنته من فاطمة بعضهم، ويقولون كل ذلك دال على الولاية، وخلاف العداوة فكيف يستبيح من الحنفية ما استباحه بسبي من لا تجوز طاعته وكيف يزوج مرتدا ابنته؟

ونحن نذكر الوجه في ذلك شيئا فشيئا فنقول: إنا قد بينا فيما مضى من كلامنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان منذ قبض الله نبيه في حال تقية ومداراة ومدافعة لاستيلاء من استبد بالأمر عليه، ولما اتفق من الأمور التي بيناها مجملة ومفصلة، فلما قتل عثمان وأفضى الأمر إليه لم يفض إليه من الوجه الذي استحقه، لأنهم إنما عقدوا له الإمامة بالاختيار الذي ليس بطريق إلى الإمامة وبنى أكثرهم هذا الاختيار في صحته والتوصل إلى الإمامة به على اختيار من تقدم فكره أمير المؤمنين عليه السلام أن يبرأ من الأمر ويقيم على ترك الدخول فيه فيخرج لأنه إذا تمكن من التصرف فيما جعل إليه بطريق من الطرق، وعلى وجه من الوجوه، فعليه أن يتصرف ويقيم بما أوجب الله أن يقيمه، وكره أن يعرفهم أن إمامته لم تثبت باختيارهم، وأنه المنصوص عليه من ابتداء الأمر فيقولون له: صرحت بذم السلف وطعنت في الأئمة الثلاثة وكل سبب ذكرنا أنه كان يمنعه من الموافقة على ما ذكرناه سالفا فهو يمنعه على أوكد الأحوال آنفا ولو لم يكن في تصريحه عليه السلام بذلك عند دعائهم له إلى الأمر، إلا أنه كان سببا لخلافهم عليه، وترك تسليم الأمر إليه، فلا يتمكن مما لاح له التمكن منه فالتقية لم تفارقه ولم يجد منها في حال من الأحوال بد وكيف تتبع أحكام القوم، والعاقدون له الإمامة والمسلمون إليه الأمر كانوا أولياءهم وشيعتهم، وممن يرى إمامتهم وإن إمامته عليه السلام فرع على إمامتهم،

الصفحة 270 

وإن الطريق إليها من جهتهم عرفوه، وبهدايتهم سلكوه، ومما يبين صحة ما ذكرناه ما روي عنه عليه السلام من قوله في أيام ولايته: (والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى يزهر (1) كل كتاب ويقول: يا رب إن عليا قضى بقضائك) وقوله عليه السلام لقضاته وقد سألوه بماذا نحكم فقال عليه السلام: (أحكموا بما كنتم تحكمون حتى يكون الناس على جماعة أو أموت كما مات أصحابي) يعني عليه السلام بذلك من تقدمت وفاته من شيعته كأبي ذر وغيره، وقد بين أمير المؤمنين عليه السلام جملة ما ذكرناه في كلامه المشهور حيث يقول:

(والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أولياء العهد ألا يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولوجدتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز) (2) وإنما أراد أني كنت استعمل في آخر الأمر من التخلي منه والاعتزال ما استعملته في أوله فإن قيل: فإذا كان عليه السلام لم يغير أحكامهم للتقية فيجب أن تكون ممضاة جارية مجرى الصحيح في وقوع التملك بها وغيره من الأحكام.

قلنا: لا شك في إنما إذا لم يغير بسبب موجب للامضاء فإن أحكامها

____________

(1) يزهو خ ل.

(2) هذه الفقرة هي الأخيرة من خطبته عليه السلام المعروفة بالشقشقية وهي في " نهج البلاغة " هكذا: " أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز) ويعني عليه السلام بالحاضر: من حضر لبيعته، وبالناصر:

الجيش الذي يستعين به، والكظة امتلاء البطن من الطعام، والسغب: شدة الجوع، ويريد أنهم لا يقاروا الظالم على استثاره بالفئ وأكله الحرام والغارب: الكاهل، والكلام تمثيل للترك والارسال.

الصفحة 271 

جارية على من حكم بها عليه وواقعة موقع الصحيح، وقد يجوز أن يؤثر الضرورة في استباحة ما لا يجوز استباحته لولاها كما قد يؤثر في استباحة الميتة وغيرها فأما الحنفية فلم تكن سبية على الحقيقة، ولم يستبحها عليه السلام بالسبا لأنها بالاسلام قد صارت حرة مالكة أمرها فأخرجها من يد من استرقها ثم عقد عليها عقد النكاح، فمن أين أنه استباحها بالسبا دون عقد النكاح، وفي أصحابنا من يذهب إلى أن الظالمين متى غلبوا على الدار وقهروا ولم يتمكن المؤمن من الخروج من أحكامهم جاز له أن يطأ سبيهم ويجري أحكامهم مع الغلبة والقهر مجرى أحكام المحقين فيما يرجع إلى المحكوم عليه، وإن كان فيما يرجع إلى الحاكم معاقبا آثما.

فأما إقامة الحدود، فما نعرف في ذلك إلا أن عثمان أراد أن يدرأ الحد عن أخيه (1) وكان أمير المؤمنين عليه السلام حاضرا، وغلب في ظنه التمكن من إقامة الحد، فأمر به، وهذا مما يجب مع التمكن وهو في باب الانكار عليهم أدخل.

____________

(1) أي الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لأمه ولاه الكوفة بعد أن عزل عنها سعد بن أبي وقاص وكان الوليد ماجنا معروفا بالفسق، وهو الذي سماه الله فاسقا في موضعين من القرآن الكريم الأول في قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)، السجدة 18 انظر الكشاف 3 / 243، والثاني في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات 6، لما كذب على بني المصطلق على رسول الله صلى الله عليه وآله وادعى أنهم منعوه الصدقة (انظر تفصيل القضية في سيرة ابن هشام 3 / 308) فعظم ذلك على أهل الكوفة حيث يستبدل سعد بمثل الوليد فشرب الخمر ذات يوم وصلى بالناس وهو سكران فتكلم بالصلاة وزاد فيها، وقاء في المحراب وأخذوا خاتمه من إصبعه وهو لا يعلم وشهدوا بذلك عند عثمان فرد شهادتهم فشكوا ذلك إلى علي عليه السلام فأقبل إلى عثمان وعاتبه في ذلك ثم أخذ عليه السلام الوليد فجلده بين يدي أخيه وتفصيل القضية في الأغاني 5 / 120 - 133 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 227.

الصفحة 272 

فأما تزويجه بنته، فلم يكن ذلك عن اختيار، والخلاف فيه مشهور، فإن الرواية وردت بأن عمر خطبها إلى أمير المؤمنين عليه السلام فدافعه وماطله، فاستدعى عمر العباس فقال: ما لي، أبي بأس؟، فقال: ما حملك على هذا الكلام؟ فقال: خطبت إلى ابن أخيك فمنعني لعداوته لي، والله لأغورن زمزم، ولأهدمن السقاية، ولا تركت لكم - بني هاشم - مأثرة إلا هدمتها، ولأقيمن عليه شهودا بالسرقة، ولأقطعنه، فمضى العباس إلى أمير المؤمنين عليه السلام فخبره بما سمع من الرجل، فقال قد أقسمت ألا أزوجها إياه، فقال رد أمرها إلي، ففعل فزوجه العباس إياها، ويبين أن الأمر جرى على إكراه ما روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام من قوله (ذلك فرج غصبنا عليه) (1) على

____________

(1) في النفس من هذه الرواية شئ فاللازم أن ترد على راويها، لا لمنع أصل الوقوع ولكن حاشى لله أن يبلغ الأمر من اضطهاد أهل البيت إلى اغتصاب بناتهم " يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون " فالأمر بهذه الصورة ممنوع، كما أنه ممنوع أيضا بالصورة التي يرويها بعضهم من أن أمير المؤمنين أرسلها إليه وبيدها رداء لتقول له: " يقول أبي أيعجبك هذا الرداء " معرضا بها فيأخذ الرجل بساقها فتغضب، فيقول: رفئوني رفئوني، فلو أن أبرد الناس حمية، وأضعفهم نفسا قيل له: ابعث إلي بتصوير ابنتك لأراها فأتزوجها لعد ذلك خدشا لكرامته، وطعنا في شرفه فكيف بفتى الفتيان، ثم كيف يمد الشيخ إليها يده والعقد لم يجر بعد، والرواية لم تشر إليه من قريب أو بعيد!

وللشيخ المفيد في جواب المسائل السروية كلام حول الموضوع ننقل لك منه ما يتعلق بالغرض قال: " إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر لم يثبت، وطريقه من الزبير بن بكار ولم يكن موثوقا به في النقل، وكان متهما فيما ذكره من بغضه لأمير المؤمنين عليه السلام وغير مأمون، والحديث نفسه مختلف فتارة يروى أن أمير المؤمنين تولى العقد له على ابنته، وتارة يروى عن العباس أنه تولى ذلك عنه، وتارة يروى أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم، وتارة يروى أنه عن اختيار وإيثار، ثم بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا سماه زيدا، وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عقبا، ومنهم من يقول: قتل ولا عقب له، ومنهم من يقول: إنه وأمه قتلا ومنهم من يقول إن أمه بقيت بعده، ومنهم من يقول: إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم، ومنهم من يقول: أمهرها أربعة آلاف درهم ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم وهذا الاختلاف مما يبطل الحديث (انظر رسائل المفيد ص 61 و ج 42 / 107 من بحار الأنوار).

الصفحة 273 

أنه لو لم يجر ما ذكرناه لم يمتنع أن يزوجه عليه السلام، لأنه كان على ظاهر الاسلام، والتمسك بشرائعه، وإظهار الاسلام يرجع إلى الشرع فيه، وليس مما يحظره العقول.

وقد كان يجوز في العقول أن يبيحنا الله مناكحة المرتدين على اختلاف ضروب ردتهم، وكان أيضا يجوز أن يبيحنا أن ننكح اليهود والنصارى، كما أباحنا عند أكثر المسلمين أن ينكح فيهم، وهذا إذا كان في العقول سابقا فالمرجع في تحليله أو تحريمه إلى الشريعة، وفعل أمير المؤمنين عليه السلام حجة عندنا في الشرع، فلنا أن نجعل ما فعله أصلا في جواز مناكحة من ذكروه، وليس لهم أن يلزموا به على ذلك مناكحة اليهود والنصارى، وعباد الأوثان، لأنهم إن سألوا عن جوازه في العقل فهو جائز، وإن سألوا عنه في الشرع فالاجماع يحظره، ويمنع منه.

فإذا قالوا: فما الفرق بين الوثني والكافر بدفع الإمامة؟

قلنا لهم: وما الفرق بين النصرانية والوثنية في جواز النكاح، وما الفرق بين النصراني والوثني في أخذ الجزية وغيرها من الأحكام؟ فلا يرجعون في ذلك إلا إلى الشرع الذي رجعنا معهم إليه.

وهذه جملة كافية في الكلام على ما أورده.