فصل في الكلام على اعتراضه على ما حكاه من أدلتنا في وجوب الإمامة والعصمة 1

الصفحة 137 

فصل   في الكلام على اعتراضهعلى ما حكاه من أدلتنا في وجوب الإمامة والعصمة (1)

قال صاحب الكتاب حكاية عنا:

" شبهة لهم، قالوا: وجدنا النقص قد عم الناس وقد كلفوا مع ذلك الصواب في العلم والعمل فلا بد في المكلف الحكيم أن يرسل رسولا وينصب حجة ليزيل نقصهم، وربما فسروا هذا النقص بذكر السهو والغفلة وجوازهما على جميعهم فلا بد من منبه مزيل لهذا الأمر عنهم، وربما فسروا ذلك باتباع الشهوات، وجواز الشبهة، ويقولون: فلا بد من معصوم يعدل بهم فيما كلفوه عن هذه الطريقة،... (2) ".

فيقال له: لسنا نرضى فيما حكيته عنا من الاستدلال لفظك ولا ترتيبك ولا تفسيرك، ودليلنا على وجوب الإمامة ووجه وجوبها من طريق العقل وبعد التعبد بالشرع قد بيناه ودللنا على كون الإمامة لطفا في فعل الواجبات والطاعات، وتجنت المقبحات، وارتفاع الفساد، وانتظام أمر الخلق، وأشرنا - أيضا - إلى ما يوجب الحاجة إليه من الشرائع، بأن

____________

(1) العصمة: لطف يمتنع من يختص بها عن فعل المعصية مع قدرته عليها.

(2) المغني 20 ق 1 / 56.

الصفحة 138 

قلنا: إنه يفسر مجملها، ويبين محتملها (1)، ويوضح عن الأغراض الملتبسة فيها، ويكون المفزع في الخلاف الواقع فيما الأدلة الشرعية عليه كالمتكافئة إليه، وليكون من وراء الناقلين فمتى وقع منهم ما هو جائز عليهم من الإعراض عن النقل يبين ذلك وكان قوله الحجة فيه.

فأما ما حكاه من التعلق بلفظ النقص وعمومه للخلق، فالمراد من تعلق أصحابنا به ارتفاع العصمة عنهم، وجواز مقارفة القبيح عليهم، ويقولون: إذا كانوا بهذه الصفة افتقروا إلى رئيس يجمع شملهم، وينظم أمرهم ليرتفع بوجوده من الفساد ما يكون واقعا عند فقده، فهذا مراد من استعمل اللفظة التي حكاها.

فأما جواز السهو فليس مما يوجب من أجله الحاجة إلى الإمام، لأن السهو أولا غير جائز عندنا عليهم في كل شئ، والأشياء التي يجوز فيها السهو لا يجوز في جميعهم أن يسهوا عنها، ولا في الجماعات الكثيرة، وإن تعلق متعلق بالسهو فليس يجوز أن نوجب من أجل جوازه الحاجة إلى الإمام فيما لا يبطل السهو عنه قيام الحجة به وثبوتها وإنما يوجب جواز السهو الحاجة إلى الإمام في الموضع الذي يكون السهو موجبا لبطلان الحجة، وانسداد طريق الاستدلال على المكلف.

فمثال الأول في العقليات وأدلتها، لأن السهو عنها لا يبطل دلالتها، ولا يخرج المكلفين عن التمكن من إصابة الحق إذا قصدوه، واستدلوا عليه.

ومثال الثاني الشرعيات التي طريق العمل بها الأخبار لأن الناقلين.

____________

(1) المحتمل: الأمر الذي يفسر بعدة وجوه، قال علي عليه السلام لابن عباس لما وجهه لمحاجة الخوارج " لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه ".

الصفحة 139 

متى سهوا عن النقل وأعرضوا بطلت الحجة به، ولم يكن للمكلف طريق العمل بالشئ الذي عدلوا عن نقله.

وهب أن الجماعة المتواترين لا يجوز أن يلحق جميعهم السهو عما نقلوه، إذا جاز ذلك على الآحاد منهم ثم يلحقهم السهو عن المنقول فيتركوا نقله، وهم إذا نقلوه مع غيرهم كان الخبر متواترا ووجبت الحجة به، وإذا أخلوا بنقله خرج عن حد التواتر وعن كونه حجة فقد عاد الأمر إلى جواز السهو على الترتيب الذي ذكرناه يحوج إلى الحجة.

فأما اتباع الشهوات فإن أريد به ما قدمناه من مواقعة الخطأ وفعل القبيح لحق بطريقتنا، وإن لم يرد ذلك فلا معنى له.

فأما جواز الشبهة فلم نعرف أحدا من أصحابنا تعلق به لا سيما على هذا الإطلاق ومن هذا الوجه، لأن ما دلالته ثابتة من العقليات والشرعيات لا يخل دخول الشبهة على من تدخل عليه بإمكان التوصل إليه، ومعرفة الحق منه، وإنما تخل الشبهة بالحجة ويفتقر إلى الإمام إذا دخلت على باقي الأخبار، وأوجبت عدولهم عن النقل وسقوط الحجة به، فمن هذا الوجه يستقيم التعلق بدخول الشبهة لا من الوجه الذي توهمه صاحب الكتاب وعناه.

قال صاحب الكتاب بعد فصل لا يقتضي نقضا: " يقال لهم فيما ادعوه من النقض: أيمكنكم مع ثباته القيام بما كلفتموه؟ فإن قالوا:

نعم، فلا حاجة لهم إلى الإمام وإن كان النقص قائما لأن النقص في هذا الوجه بمنزلة وصفهم بأنهم أجسام ومحدثون إلى غير ذلك مما لا يؤثر في هذا الباب... (1) ".

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 56.

الصفحة 140 

فيقال له: قد بينا المراد بلفظ النقص، فإن أردت بسؤالك عن تمكنهم من القيام بما كلفوه مع بيانه أن ذلك مقدور لهم وأنه حائل بينهم وبينه فهم كذلك، وإن أردت أن حالهم مع ثبوت هذا النقص وفقد الإمام كحالهم مع وجود الإمام في القرب من الصلاح، والبعد من الفساد وفي كل ما يرجع إلى إزالة العلة، فليس هم كذلك، لأنا قد دللنا على أن وجود الإمام لطف فيما عددناه فليس يجوز أن يكون حال المكلفين مع فقده مساوية لحالهم مع وجوده، وإن كانوا في الحالين قادرين على فعل ما كلفوا به، ومجانبة ما نهوا عنه، وهذا بخلاف ظنك أن وصفهم بالنقص بمنزلة وصفهم بأنهم أجسام ومحدثون لكن وصفهم بما ذكرته لا تأثير له فيما قصدناه ووصفهم بالنقص مؤثر على الوجه الذي فصلنا الكلام فيه.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: يصح منه تعالى رفع هذا النقص بغير إمام ورسول [ أم لا ] فإن قالوا: لا، فقد جعلوا للإمام من القدرة ما لم يجعلوه لله تعالى،... (1) " يقال له: ما أبين فساد هذا الكلام وأقبح صور المتعلق به لأنك ظننت أن النقص إذا لم يرتفع إلا بالإمام ولم يقم فيه مقامه غيره أن ذلك وصف له بالقدرة على ما لا يقدر الله تعالى عليه، وكيف تظن ذلك مع مذهبك المعروف في اللطف، وأنه غير ممتنع عندك أن يعلم الله تعالى أن شيئا يصلح المكلف عنه لا يقوم غيره من جميع الأشياء في مصلحة مقامه، فلو قال لك قائل في معرفة الله تعالى - وهي أحد الألطاف عندك - إذا قلت: أن غير المعرفة من جميع الأشياء لا يقوم في مصلحة المكلف مقام المعرفة من الحظ والقدر في صلاح المكلف، فقد جعلت للمعرفة ما لم تجعله لله تعالى، ما كان يكون جوابك؟ وما

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 57.

الصفحة 141 

تظن إن قال قائل هذا لك يستحق عليك جوابا، بل يكون مكان جوابه التعجب من غفلته، وحمد الله على التنزيه عن منزلته؟ على أن من تعلق بلفظ النقص وأراد به ما فسرناه من ارتفاع العصمة وجواز فعل القبيح لا يجوز له أن يوجب الإمام ليرفع النقص لأنه معلوم أن وجوده ليس يدخلهم في العصمة، اللهم إلا أن يجعل وجوده رافعا لمقتضى النقص وهو فعل القبائح، ويكون قوله: " إنه يرتفع النقص " إشارة إلى مقتضاه فيصح الكلام والغرض، أو يريد بالنقص - في الأصل - فعل القبيح الذي هو غير مأمون مع فقد الرؤساء، ومعلوم أن وجودهم يرفعه أو يقلله فيصح على هذا الوجه القول: بأن وجوده يرفع النقص، وإن كان المعنى الأول أشبهه وأقرب.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: أتعلمون كون الإمام حجة باضطرار (1) أو باستدلال؟، فإن قالوا: باضطرار ونقصهم لا يؤثر في ذلك، قيل لهم: فجوزوا في سائر أمور الدين أن تعلموه باضطرار ولا يقدح النقص فيه، وإن قالوا باستدلال قيل لهم: فنقصهم يمنع من قيامهم بما كلفوه من الاستدلال على كونه حجة، فإن قالوا: نعم، لزمت الحاجة إلى إمام آخر، ثم الكلام فيه كالكلام في هذا الإمام، ويوجب ذلك إثبات أئمة لا أول لهم، مع أنهم لا يؤثرون كما لا يؤثر الواحد، فلا بد من القول أنه يمكنهم معرفة الحجة، والقيام بنصرته من غير حجة،.

قيل لهم: فجوزوا مثل ذلك في سائر ما كلفتموه وإن كان النقص قائما،... (2) ".

____________

(1) العلم الضروري الذي يحصل للنفس بأدنى توجه بحيث لا يمكن دفعه.

(2) المغني 20 ق 1 / 57.

الصفحة 142 

فيقال له: كلامك هذا مبني على موضعين:

أحدهما: توهمك علينا إيجاب الحاجة إلى الإمام لنعلم عند وجوده ما لا نعلمه عند فقده، فقد بينا كيف قولنا في هذا وفصلناه، وكشفنا عن غرض من أطلقه وإن التقييد واجب فيه، والذي يدل أنك أردت ما حكيناه قولك: " فجوزوا في سائر أمور الدين أن تعلموه باضطرار ولا يقدح النقص فيه " ولو علمنا سائر أمور الدين باضطرار - كما ألزمت - لكانت الحاجة إلى الإمام ثابتة في وجه كونه لطفا في مجانبة القبيح وفعل الواجب، وليس يصح الاستغناء عنه وإن علمنا سائر الدين (1) باضطرار، لأن الاخلال بما علمنا اضطرار متوقع منا عند فقد الإمام، ولا نمنع كوننا مضطرين إلى العلم بوجوب الفعل من الاخلال به وكوننا مضطرين إلى علم قبحه من الإقدام عليه، لأن أكثر من يقدم على الظلم وما جانسه من القبائح يقدم عليه مع العلم بقبحه.

والموضع الآخر: ظنك أن ما كان لطفا في بعض التكاليف يجب أن يكون لطفا في جميعها، وهذا مما قد كشفنا عنه وعن فساده فيما تقدم، ودللنا على أنه لا يمتنع في الألطاف الخصوص والعموم، والخصوص من وجه والعموم من وجه آخر، فليس يجب إذا كان الإمام لطفا في ارتفاع الظلم والبغي ولزوم الإنصاف والعدل أن يكون لطفا في كل تكليف حتى يكون لطفا في معرفة نفسه.

هم يقال له: أليس معرفة الثواب والعقاب على الوجه الذي وجبا عليه لطفا في جميع فعل الواجبات والامتناع من سائر المقبحات فلذلك

____________

(1) سائر الدين: أي جميعه.

الصفحة 143 

أوجبتم المعرفة بالله من حيث لا يتم معرفة الثواب والعقاب إلا بها؟ فإذا قال: نعم، قيل له: أفتقول إن هذه المعرفة التي أشرنا إليها لطف في نفسها حتى يكون المكلف لا يصح إيجابها عليه إلا بعد أن تتقدم معرفته بالثواب والعقاب؟ فإن قال: نعم، ففساد ذلك ظاهر، وإن قال: لا، قيل له: إذا جاز أن يستغني بعض التكليف عن هذه المعرفة وكونها لطفا فيه، فألا جاز الاستغناء عنها في سائر التكاليف؟ فإن قال: المعرفة بالثواب والعقاب وإن لم تكن لطفا في نفسها - من حيث لم يصح ذلك فيها - فهناك ما يقوم مقامها وهو الظن بهما فلم يعر (1) المكلف من لطف في تكليفه المعرفة وإن لم يكن مماثلا للطفه في سائر التكاليف، قيل له: فاقنع عنا بمثل ما اقتنعنا به، فإنا نقول لك إن معرفة كل الأئمة يستحيل أن يكون اللطف فيها معرفة الإمام، لأنه لا بد في أول الأئمة من أن تكون معرفته واجبة وإن لم يتقدم للمكلف معرفته بإمام غيره، وإذا استحال ذلك جاز أن يقوم مقام المعرفة بالإمام في هذا التكليف غيرها، ولا يجب أن يعم هذا الوجه سائر المكلفين والتكاليف كما لا يجب أن يعم اللطف الحاصل للمكلف في استدلاله على معرفة الله تعالى ومعرفة ثوابه وعقابه بسائر التكاليف.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: قد علمنا أن الإمام لا يصح أن يغير حالهم في القدرة والآلة والعقل وسائر وجوه التمكين فلا بد من كونها خاصة (2)، وكذلك فالأدلة على ما كلفوه منصوبة مع فقد الحجة، فإذا صح ذلك فما الذي يمنع من أن يستدلوا بها فيعلموا ما كلفوه

____________

(1) من العري، والمراد أنه لا يخلو من اللطف.

(2) غ " حاصله ".

الصفحة 144 

ويقوموا به مع فقد الإمام،؟ وهلا كان حالهم مع فقده كحالهم مع وجوده، إنما يستفيدون بالنظر في الأدلة وذلك ممكن مع عدمه،؟... (1) " فيقال له هذا توهم منك علينا إيجاب الإمامة ووجود الإمام في كل زمان ليعلم عند وجوده ما لا يصح أن يعلم عند فقده، وإن كانت الأدلة على المعلوم موجودة في الحالين، وقد تقدم أنا لا نذهب إلى ذلك ولا نعتمده، وبينا كيف القول فيه.

فأما قولك: " فما الذي يمنع من أن يستدلوا ويعلموا ويقوموا بما كلفوه؟ " فقد ذكرنا ما في العلم، فأما القيام بجميع ما كلفوه - فهو وإن كان مقدورا على ما ذكرت - فالإمام لطف في وقوعه على ما دللنا عليه، ومحال إذا كان لطفا يكون حالهم مع وجوده كحالهم مع فقده في القيام بما كلفوه من العبادات التي بينا أن وجود الإمام لطف في وقوعها وفقده داع إلى ارتفاعها.

ثم يقال له: هكذا يقول لك نافي اللطف قد عرفنا أن جميع الألطاف لا تغير حال المكلف في قدرة وآلة إلى سائر وجوه التمكين، لأن المكلف متمكن من الفعل مع عدم اللطف، كما أنه متمكن منه مع وجوده فالا جاز الاستغناء عن الألطاف والاقتصار بالمكلفين على قدرهم (2) وتمكنهم؟ وجميع ما يبطل به هذا القول يوجب مع القدرة والتمكن الحاجة إلى الإلطاف بمثله يبطل قولك.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: فيجب على زعمكم إذا لم يظهر

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 57.

(2) جمع قدرة.

الصفحة 145 

الإمام حتى يزول النقص به، أن يكون الحال فيه كالحال ولا حجة في الزمان، لأن النقص لا يزول بوجود الإمام، وإنما يزول بما يظهر منه، ويعلم من قبله، وهذا يوجب عليهم في هذا الزمان وفي كثير من الأزمنة أن يكون المكلف معذورا، التكليف ساقطا... (1) " فيقال له: ليس يجب إذا لم يظهر الإمام ففات النفع به أن يكون الحال عند عدم ظهوره كالحال عند عدم عينه (2)، لأنه إذا لم يظهر لإخافة الظالمين لا ولأنهم أحوجوه إلى الغيبة والاستتار كانت الحجة في فوت المصلحة به عليهم، فكانوا هم المانعين أنفسهم من الانتفاع به، وإذا عدمت عين الإمام ففات المكلفين الانتفاع به كانت الحجة في ذلك على من فوتهم النفع به وهو القديم تعالى، وإذا وجب إزاحة علل المكلفين عليه تعالى علمنا أنه لا بد من أن يوجد إمام، ويأمر بطاعته، والانقياد له، سواء علم وقوع الطاعة من المكلفين أو علم أنهم يخيفونه ويلجئونه إلى الغيبة، وهذا بخلاف ما ظنه من كون المكلفين معذورين، أو سقوط التكليف عنهم.

فإن قال: إن كان المكلفون غير معذورين وقد أخافوا الإمام على دعواكم، وأحوجوه إلى السكوت بحيث لا ينتفعون به، ولا يصلون إلى مصالحهم من جهته فيجب أن يسقط عنهم التكليف الذي أمر الإمام به، ونهيه وتصرفه لطف فيه، لأنهم ما فعلوه، وقد منعوا من هذا اللطف، وجروا في هذا الوجه مجرى من قطع رجل نفسه في أن تكليفه بالصلاة قائما لا يلزمه ويجب سقوطه عنه، ولا يفرق في سقوط التكليف حال قطعه لرجل نفسه وقطع الله تعالى لها.

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 58.

(2) عين الشئ: نفسه والمراد عند عدم وجوده.

 

 

الصفحة 146 

قيل له: ليس يشبه حال المكلفين المانعين للإمام من الظهور والقيام بأمر الإمامة بحال القاطع لرجل نفسه في سقوط تكليف الصلاة مع القيام عنه بأن من قطع رجل نفسه قد أخرج نفسه عن التمكن من الصلاة قائما لأنه لا وصول إلى هذه الصلاة بشئ من أفعاله ومقدوراته، وليس كذلك حال الظالمين والمخيفين للإمام لأنهم قادرون ومتمكنون من إزالة إخافته، وما أحوجه إلى الغيبة، ويجرون في هذا الوجه مجرى من شد رجل نفسه في أن تكليفه للصلاة قائما لا يسقط عنه وإن كان في حال شدها غير متمكن من الصلاة لأنه قادر على إزالة الشد فيصح منه فعل الصلاة.

فإن قالوا: ما هذا الأمر الذي فعله الظالمون فمنعوا منه الإمام من الظهور، بينوه لنعلم صحة ما ادعيتموه من تمكنهم من إزالته، والانصراف عنه؟.

قيل له: المانع - في الحقيقة - عندنا من ظهوره هو إعلام الله تعالى أن الظالمين متى ظهر أقدموا على قتله وسفك دمه، فبطل الحجة بمكانه، وليس يجوز أن يكون المانع من الظهور إلا ما ذكرناه، لأن مجرد الخوف من الضرر وما يجري مجرى الضرر مما لا يبلغ إلى تلف النفس ليس يجوز أن يكون قانعا، لأنا قد رأينا من الأئمة عليهم السلام [ م ] من تقدم (1) ظهر مع جميع ذلك وليس يجوز أن يجعل المانع من الظهور علم الله تعالى من حال بعض المكلفين أو أكثرهم أنهم يفسدون عند ظهوره في بعض الأحوال لأنه إن قيل أنه يعلم ذلك على وجه يكون ظهوره مؤثرا فيه وجب سقوط ما عولنا عليه في أصل الإمامة من كونها لطفا في الواجبات، وارتفاع المقبحات ولزم فيها ما نأباه من كونها استفسادا في حال من الأحوال وإن لم يكن ظهوره مؤثرا فيما يتبع من الفساد لأجله كما لم يلزم استتار من تقدمه

____________

(1) أي ممن تقدم على الإمام الغائب،.

الصفحة 147 

من الأئمة عليهم السلام، ولا ترك بعثة كثير من الرسل لأجل ما وقع من بعض المكلفين من الفساد في حال الإمامة لهؤلاء والنبوة لأولئك، وهذا يبين أن الوجه الصحيح الذي ذكرناه دون غيره.

فإن قال: إذا كان المانع هو ما ذكرتموه فيجب في كل من كان في المعلوم أن رعيته تقتله من إمام أو نبي أن يوجب الله تعالى عليه الاستتار والغيبة، ويحظر (1) عليه الظهور وإلا فإن جاز أن يبيح الله تعالى لبعض [ من ] يعلم أنه يقتل من حججه الظهور جاز مثل ذلك في كل إمام، فبطل أن يكون المانع ما ذكرتموه.

قيل له: إنما أوجبنا أن يكون ما بيناه مانعا بشرط أن يكون مصلحة المكلفين مقصورة على ذلك الإمام بعينه، ويكون في معلوم الله تعالى أن أحدا من البشر لا يقوم في مصلحة الخلق بإمامته مقامه، ومن إباحة الله تعالى التصبر على القتل من حججه وأنبيائه لم يتجه ذلك إلا مع العلم بأنه إذا قتل [ قام ] مقامه غيره من الحجج فهذا واضح لمن تأمله.

فإن قال: إذا كان المانع للإمام من الظهور ما بينتموه فما هو معلوم أن الظالمين هم المخصوصون به فما قولكم في أوليائه ومعتقدي إمامته وهم متميزون من أعدائه في المنع الذي ذكرتموه، فيجب عليكم أجد أمور أن تقولوا أن التكليف الذي الإمام لطف فيه ساقط عنهم وهذا خروج عن الدين، أو ترتكبوا القول بظهور الإمام لهم، وتدعون ما تعلمون أنتم وكل أحد خلافه، أو تشركوا بينهم وبين الأعداء في المنع الذي ادعيتموه، فيلزمكم مساواتهم بحالهم وخروجهم من جملة الولاية إلى العداوة وقد علمنا وعلمتم أن جميع الناس ليس بأعداء الإمام الذي تدعونه، بل فيهم من يعتقد إمامته وينتظر ظهوره؟،.

____________

(1) الحظر: الحجر وهو ضد الإباحة.

الصفحة 148 

قيل له: قد أجاب أصحابنا عن هذا السؤال، بأن قالوا: إن العلة في استتار الإمام في غيبته عن أوليائه غير العلة في استتاره عن أعدائه،. وهو خوفه من الظهور لهم لئلا ينشروا خبره، ويجروا ذكره فيسمع به الأعداء، ويظهروا عليه فيؤول الأمر إلى الغاية الموجبة للاستتار من الأعداء، وهذا قريب.

ومما يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال، أن يقال: قد علمنا أن الإمام إذا ظهر لجميع رعيته أو لبعضهم وليس يعلم صدقه في ادعائه أنه الإمام بنفس دعواه، بل لا بد من آية يظهرها تدل على صدقه، وما يظهره من الآيات ليس يعلم ضرورة كونه آية ودلالة (1)، بل يعلم ذلك بضروب الاستدلال التي يدخل في طرقها الشكوك والشبهات، وإذا صح هذا فمن لم يظهر له الإمام من أوليائه لا يمتنع أن يكون المعلوم من حاله أن ما يظهره الإمام من المعجزات دخل عليه في طريقه الشبهات فلا يصل إلى العلم بكونه آية معجزة، وإذا لم يصل إلى ما ذكرناه واعتقد في المظهر له ما يعتقد في المحتالين المخرفين (2) لم يمنع أن يكون في المعلوم منه أن يقدم مع هذا الاعتقاد على سفك معه، أو فعل ما يؤدي إلى ذلك من تنبيه بعضهم على - أعني بعض الأعداء - فيؤول الحال إلى العلة التي منعنا لها من ظهوره لأعدائه، وإن كان بين الأعداء والأولياء فرق من وجه آخر، لأن الأعداء قبل ظهوره معتقدون أنه لا إمام في العالم، وأن من ادعى الإمامة مبطل كاذب، فهم عند ظهور من يدعي الإمامة على الوجه الذي نذهب إليه لا ينظرون فيما يظهره مما يدعي أنه آية لتقدم اعتقادهم أن كل ما يدعيه من نسب الإمامة المخصوصة إلى نفسه من الآيات باطل

____________

(1) يعني من جميع من شاهدها أو سمع بها.

(2) المخرف: الذي يأتي بما يستملح ولا يصدق عليه، وفي نسخة " المنخرفين ".

الصفحة 149 

لا دلالة فيه، فيقدمون لهذا الاعتقاد على المكروه فيه، وليس كذلك حال الأولياء لأنهم ينتظرون ظهور الإمام الذي يدعي هذا النسب المخصوص، فهم فيما يظهروهم من آية إنما يستحل بعضهم فيه المحرم لدخول الشبهة عليه فيما يظهره حتى يعتقد أنه ليس بآية ولا معجزة.

وعلى الجوابين جميعا لسنا نقطع على أن الإمام لا يظهر لبعض أوليائه وشيعته، بل يجوز ذلك، ويجوز أيضا أن لا يكون ظاهرا لأحد منهم، وليس يعرف كل واحد منا إلا حال نفسه، فأما حال غيره فغير معلومة له، ولأجل تجويزنا أن لا يظهر لبعضهم أو لجميعهم ما ذكرنا العلة المانعة من الظهور.

وقال صاحب الكتاب: " وقد بينا من قبل أنه يلزمهم كون الإمام والحجة في كل وقت وفي كل بلد وعند كل جمع ليصح منه تعالى تكليف المكلفين مع النقص، ومتى جوزوا خلاف ذلك فقد نقضوا قولهم،... (1) ".

فيقال له: أما كون الإمام في كل وقت فهو واجب مع قيام التكليف، وأما في كل بلد وكل جمع فغير لازم لأنا بينا - فيما تقدم - القول في هذا.

وجملته: أنه متى تعلقت المصلحة بوجود أئمة في البلدان وسائر الأقطار فعل الله تعالى ما يعلم أن فيه المصلحة، وقد يجوز أن لا يعلم ذلك (2) فيكون الأمراء والحكام والخلفاء من قبل الإمام في البلدان

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 58.

(2) يعني ويجوز أن يعلم تعالى بعدم وجود المصلحة، والتعبير في المتن مثل قول أمير المؤمنين عليه السلام في " نهج البلاغة " من جملته كتابة لأخيه عقيل: " إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ولا أظن الله يعرفه " يعني أنه لا يعرف لأنه غير موجود.

الصفحة 150 

والأمصار يقومون مقامه، وليس لأحد أن يقول: فيجب أن يكون الرؤساء للناس والأئمة بجميعهم على صفة الأمراء (1) من حيث قلنا: أن وجود الأمراء في البلدان يقوم مقام وجود الأئمة، لأن هذا الكلام في صفات الرئيس لا في وجوب وجوده.

ومن حيث وجبت الرئاسة في الجملة لا يعلم صفة الرئيس، وإنما يعلم صفته وأحواله، وما يجب أن يكون عليه باستئناف نظر واستدلال.

على أن رئاسة الأمراء والحكام في البلدان إنما قامت في اللطف والمصلحة مقام كون الإمام في تلك المواضع لأن الإمام من ورائهم، ولأنهم مسوسون بسياسته، ومتدبرون بتدبيره، ومنهون إليه أمورهم، وكل ذلك مفقود إذا لم يكن في العالم إمام.

وإذا كانت المصلحة في رئاسة هؤلاء إنما تتم بالإمام وكونه من وراء مراعاتهم فكيف يظن الاستغناء بهم عن الإمام؟

قال صاحب الكتاب: " ثم نعود إلى ما ذكروه من التفصيل (2)، وهو قولهم: إن السهو يعم الجميع فلا بد من حجة، فنقول لهم: جواز السهو عليهم لا يمنع من صحة قيامهم بما كلفوه " - إلى قوله - " ويمنع من التكليف في وقت لا يمكن الوصول إلى الحجة، ويوجب في نفس الحجة أنه لا يمكنه القيام بما كلف إلا بحجة،... (3) ".

____________

(1) يعني تتعدد الأئمة في آن واحد كما تعددت الأمراء من قبل الإمام الواحد.

(2) في المغني " من الفضل " ولا وجه له.

(3) المغني 20 ق 1 / 59.

الصفحة 151 

فنقول له (1): كلامك في هذا الفصل مبني على توهمك علينا إيجاب الحجة لأجل جواز السهو على الخلق في طريق النظر والاستدلال، والتوصل إلى المعارف، وقد بينا أن الأمر بخلاف ما ظننته، ورتبنا التعلق بالسهو في وجوب الحاجة إلى الإمام فأما تكليف المكلفين في وقت لا يتمكنون فيه من الوصول إلى الحجة فإنما كان يقبح لو امتنع وصولهم إليه لشئ يرجع إلى المكلف - جلت عظمته - أو كانوا في الأحوال التي لا يصلون إليه فيها غير متمكنين من أفعال إذا وقعت منهم وصلوا إليها لا محالة، وقد بينا أنهم متمكنون مما إذا فعلوه زالت تقية الإمام وخوفه، ووجب عليه الظهور.

فأما قولك: " ويجب في نفس الحجة أن لا يمكن القيام بما كلف إلا بحجة " فطريف لأن الحجة عند خصومك لا يجوز عليه السهو، ولا شئ مما احتاجت الأمة من أجله إليه، فكيف تظن أنه يلزم خصومك إذا أوجبوا حاجة الخلق إلى الإمام لأجل جواز السهو عليهم لزمهم حاجة الإمام نفسه إلى إمام وهو عندهم لا يجوز عليه (2) السهو؟.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن كان الحجة يبين لنا ما لولاه لم يتبينه المكلف، فمن أين أنه لا بد منه في كل زمان؟ وهلا جاز أن يستغني المكلفون في كثير من الأعصار بما يتواتر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحجة والإمام؟ فإن امتنعوا (3) من ارتفاع النقص [ والسهو ] (4)

____________

(1) فيقال له، خ ل.

(2) أي ولا يجوز عليه أن يحتاج إلى غيره كاحتياج الأمة إليه.

(2) غ " ومتى امتنعوا ".

(3) التكملة من المغني.

الصفحة 152 

بالتواتر مع أنه يوجب العلم الضروري لزمهم أن لا يرتفعا بالحجة الذي غاية ما يأتيه هو البيان الذي لا يستقل بنفسه، ويحتاج معه إلى النظر والاستدلال،... (1) ".

فيقال له: هب أن التواتر يوجب العلم الضروري على ما اقترحت؟ أليس إنما يجب العلم الضروري عندنا [ بما ] ينقل ويتواتر به من الأخبار؟

فإذا قال: بلى، قيل له: فإذا جاز على الناقل العدول عن النقل لسهو أو غيره - على ما بيناه فيما تقدم - لم ينفعنا حصول العلم الضروري لنا بما نقل، ووجب أن لا نكون واثقين بأن جميع الشرع قد تضمنه النقل ولزمت الحاجة إلى الإمام.

ثم يقال له: لو سلمنا لك أيضا أن الناقلين لا يجوز أن يعدلوا عن النقل، ولا يخلوا به مضافا إلى أن تسليمنا أن نقلهم يوجب العلم الضروري لم يجب ما توهمته من الاستغناء عن الإمام، لأنا قد بينا - فيما تقدم - أن وجود الإمام لطف في كثير من الواجبات، وارتفاع كثير من المقبحات، وما هذه حاله يلزم الحاجة إليه وإن كان الأمر في النقل على ما تدعيه وتقترحه فكيف يصح إطلاقك أن التواتر إذا أوجب العلم الضروري ارتفعت الحاجة إلى الحجة في كل زمان؟

ثم أورد صاحب الكتاب كلاما في السهو يجري مجرى ما تقدم في

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 60.

الصفحة 153 

بيانه على التوهم علينا إيجاب وجود الإمام بجواز السهو في طرق المعارف إلى أن قال:

" وبعد، فإنا نقول إن السهو إذا لحق المكلف فيما كلف فلا بد إن لم يتذكر من ذي قبل ولا حصل هناك منبه أن يخطر الله تعالى بباله ما يزول معه السهو وإلا قبح تكليفه، فكيف يحتاج إلى وجود الحجة مع ذلك (1)؟... ".

فيقال له: اعمل على (2) أن تكليف من سها ولم يخطر الله تعالى بباله (3) ما يزول معه السهو وإلا قبح تكليفه فكيف يكون ما ذكرته قادحا في كلامنا، ومعترضا علينا؟ ونحن نعلم أن تكليف النقل عمن (4) سها عنه لو سقط حسب ما ادعيت لم يسقط وجوب معرفة الشئ المنقول عن غيره من المكلفين الذين لم يلحقهم سهو، ولا طريق لهم مع وقوع السهو عن النقل إلى معرفة ما تضمنه النقل إلا قول الإمام وبيانه، وهذا يبين أن ما تكلفته من ادعاء وجوب أن يخطر الله تعالى على باب المكلف ما سها عنه أو سقوط تكليفه لا يغني عنك شيئا في لزوم الحاجة إلى الإمام.

اللهم إلا أن يدعي أيضا أن السهو إذا لحق الناقلين فأعرضوا عن النقل وسقط عنهم تكليفه فقد سقط أيضا تكليف معرفة الشئ المنقول عن غيرهم.

وهذا قول ظاهر الفساد، وفي إجماع الأمة على ما فرضه الله تعالى

____________

(1) المغني 20 / 60.

(2) أعمل على: ابن علي كذا.

(3) يخطر بباله: يدخل بباله.

(4) من خ ل.

الصفحة 154 

على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وتعبد به وبينه لمن كان في زمانه لازم لنا وواجب علينا التوصل إلى معرفته والعمل به دلالة على بطلان دعوى من ادعى سقوط التكليف الشرعي عن بعض الأمة من حيث سها بعضها عن النقل، ولم يقم بما وجب عليه فيه.

قال صاحب الكتاب: " فأما تعلقهم بجواز الشبه (1) فهو أبعد مما قلناه، لأنه قد يصح أن لا تعتريهم، كما يصح تطرقها (2) عليهم أو على بعضهم، فكيف يقال: أنه لا بد من حجة لأجل أمر قد يصح زواله والتكليف ثابت؟ (3)... ".

فيقال له: قد بينا - فيما سلف - وجه التعلق بجواز الشبه في الحاجة إلى الإمام وهو على خلاف ما تظنه علينا، لأنا لم نوجب الإمامة لجواز الشبه في طرق الأدلة الثابتة التي لا يمنع دخول الشبه فيها من استدراك الحق فيها، لأن الشبه وإن دخلت فيما هذا حكمه فالمكلف متمكن من إصابة الحق، وإنما يعدل عن إصابته بتقصير من جهته، وإنما أوجبنا الحاجة إلى الإمام في هذا الوجه لأجل جواز دخول الشبه على الناقلين حتى يعدلوا عن النقل فلا يمكن الوصول مع عدولهم إلى معرفة الشئ المنقول.

فأما قولك: " إن الشبه يصح أن تعتريهم " فهو كذلك غير أن الوضع الذي حصلناه وأوجبنا فيه الحاجة إلى الإمام لا يفتقر إلى القطع على وجوب دخول الشبه، بل التجويز لدخولها كاف من حيث لم يحصل الثقة بأن جميع ما يحتاج إليه وقد كلفنا معرفته قد نقل إلينا مع الجواز كما لا

____________

(1) غ " التنبيه " وهو تصحيف.

(2) غ " طروها ".

(3) المغني 20 ق 1 / 61.

الصفحة 155 

يحصل مع الوجوب، فما ظنه من الفرق بين الأمرين غير صحيح.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن الشبه من قبلهم قد يصح منهم حلها بالنظر (1) إلى آخر كلامه... " (2).

فيقال له: هذا توهم منك علينا إيجاب الإمام ووجوده لدفع الشبه، والمنع من وقوعها، وهو شبيه بما تقدم من ظنك علينا في السهو وجواز دخوله على الخلق، وقد مضى كيف قولنا في الأمرين، والوجه الصحيح في ترتيب الاستدلال بهما.

قال صاحب الكتاب: " على أن الشبه قد تجوز في العلم بنفس الحجة فتجب الحاجة إلى آخر، ويلزم من ذلك ما قدمناه... " (3).

فيقال له: الشبه وإن جازت في العلم بنفس الحجة فهي غير مانعة من إمكان الوصول إلى الحق ولا دافعة للدلالة على الحجة، وليس كذلك حكم الشبه إذا دخلت على الناقلين المتواترين، أو على بعضهم، فخرج الخبر من أن يكون متواترا، لأنها إذا دخلت في هذا الموضع ارتفع الطريق إلى المعرفة بما تضمنه النقل وإذا دخلت هناك لم تخل بإمكان المعرفة ولا رفعت الطريق إلى إدراك الحق وإصابته.

قال صاحب الكتاب. " على أن الشبه (4) تجوز على الحجة وإنما

____________

(1) أي من قبل المكلفين.

(2) المغني 20 ق 1 / 61.

(3) المغني 20 ق 1 / 61.

(4) غ " الشبهة ".

الصفحة 156 

يختار خلافها أو يزيلها بما آتاه الله من الدلالة، (1) وحال غيره كحاله، وإن كان قد يقصر فما الحاجة إلى الحجة؟ ولا يمكنهم أن يجعلوا الحجة معصوما، بمعنى المنع من الإقدام على هذه الأمور لأن ذلك يوجب زوال التكليف، فإن ثبت فيه العصمة فمعناها أن المعلوم أنه لا يختار ذلك وذلك ممكن في غيره - على ما قدمناه (2)... " فيقال له: إن أردت بقولك أن الشبهة تجوز على نفس الحجة، بمعنى القدرة، فنعم، الحجة قادر على الشبهة، كما أنه قادر على ضروب الأفعال (3)، وإن أردت بالجواز معنى الشك فلا، لأنا قد قطعنا على أنه لا يختار ذلك بالدلالة الدالة على عصمته، فكيف يكون حال غيره ممن لا يؤمن منه ذلك كحاله؟.

فأما قولك: " ذلك ممكن في غيره ".

إن أردت أنه ممكن أن يكون معصوما، بمعنى أنه لا يختار على هذا الوجه، فذلك يجوز أن يكون ممكنا، وإذا لم يحتج هذا المعصوم إلى إمام من هذا الوجه، وإن أردت بقولك أنه ممكن في غيره أنه يجوز أن يختار وأن لا يختار، فلأجل هذا الجواز وعدم الأمان والثقة احتيج حينئذ إلى الإمام.

قال صاحب الكتاب: " ولا يجب إذا قصر (4) أن ينصب الله تعالى حجة، لأن الحجة لأن يزيل التقصير إذ المعلوم أن مع وجوده قد يقصر المكلف لأنه لا يضطر إلى فعل ما كلفه، وإنما يدل وينبه، (5)... ".

____________

(1) غ " الآلة ".

(2) المغني 20 ق 1 / 61.

(3) ضروب: أنواع، والمراد بالأفعال: الأفعال المستطاعة للبشر.

(4) أي المكلف.

(5) المغني 20 ق 1 / 61.

الصفحة 157 

فيقال له: وهذا أيضا مبني على توهمك الأول، وقد مضى ما فيه كفاية.

وجملة ما نقول: أنه ليس لأجل تقصير المكلف الذي دخلت عليه الشبهة أوجبنا الحاجة إلى الإمام لينبهه على تقصيره، ولكن تقصيره إذا وقع وتعدى إلى غيره من حيث سد عليه باب العلم من جهة النقل احتيج إلى إمام ليبين ما لا يعلمه المكلف لولا بيانه.

قال صاحب الكتاب: " فأما الشهوة والهوى والتعلق بهما فبعيد، لأن مع وجود الحجة لا بد من ثباتهما حتى يصح التكليف، وإنما يكون في التعلق بذلك فائدة لو كان عند وجود الإمام يزول ذلك ويتغير، ومتى قالوا: إنها وإن كانت حاصلة مع وجود الإمام فإنه ببيانه وتحذيره يصدف (1) المكلف عن اتباع شهوته.

قيل لهم: إنما يصدف بالتنبيه والتحذير دون الاضطرار، وذلك ممكن من غيره ومنه، وإن لم يكن حجة، ويمكن المكلف من ذي قبل فيجب الغنى عن الإمام... " (2) فيقال له: قد بينا فيما مضى وجه التعلق في الحاجة إلى الإمام بالشهوة والهوى وهو بخلاف ما ظننته من أن وجوده يزيل الشهوات أو يغيرها، وكشفنا عن أن وجود الإمام إنما يؤثر في مقتضى الشهوات فيقلل وقوع ما لولا وجوده لوقع من الخلف لمكان شهواتهم.

فأما قولك: " إن ذلك ممكن من غيرهم " فهو ممكن - كما قلت - غير أنه لا يؤثر تأثير فعل الأئمة المطاعين الذين قامت هيبتهم في النفوس،

____________

(1) يصرف، خ ل، والمعنى واحد.

(2) المغني 20 ق 1 / 62، وفيه " فيجب الغنى عن الإقدام ".

الصفحة 158 

لأنا نعلم ضرورة إن زجر الأئمة المهيبين المتسلطين وأمرهم ونهيهم له من التأثير في ارتفاع كثير مما تميل إليه شهوات رعاياهم ما ليس لزجر غيرهم ممن لا طاعة له ولا سلطان ولا نفوذ أمر، ومن دفع هذا كان مكابرا.

وأما قولك: " ويمكن المكلف من ذي قبل " فهو يمكنه غير أنه معلوم أنه عند وجود الرؤساء والأئمة وذي السلطان والبسط (1) يكون أقرب إلى تجنبه، وعند عدمهم أقرب إلى مواقعته، وما تقدم من الدلالة من أن وجود الرؤساء لطف - فيما ذكرناه - يبطل كل هذا الذي ذكره.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن ذلك قائم في النظر في كونه حجة لأن مقتضى الشهوة العدول عن ذلك لما فيه من الراحة، ولما قد يعتري المكلف من الشبه (2) فتجب الحاجة إلى حجة قبل الإمام... " (3).

فيقال له: إنما يلزم ما ذكرته من يوجب كون الإمام لطفا في ارتفاع كل ما تدعو إليه الشهوات، وتميل إليه النفوس، حتى يجعله لطفا في جميع ما يلزم من النظر والاستدلال وغيرهما، وقد بينا أن الصحيح خلاف ذلك، وليس إذا قضت العادات يكون الأئمة والرؤساء لطفا في وقوع كثير من الواجبات، والامتناع من ضروب المقبحات وجب أن يقطع على كونهم لطفا في كل واجب.

قال صاحب الكتاب: " ولو كان الحجة يؤثر في الشهوة لكان يجب

____________

(1) من قولهم: يد بسط - بوزن قسط - إذا كانت مطلقة.

(2) في المغني " قد يعدي المكلف من التنبيه " وعلق المحقق على العبارة بقوله " ولم يظهر لي معناه " ولو أنه عارض نسخته من المغني بما نقله المرتضى منه في الشافي لظهرت له معاني كثرة قد التبست عليه.

(3) المغني 20 ق 1 / 62.

الصفحة 159 

الغني عنه بأن لا يفعل الله تعالى الشهوة أو يزيلها عن المكلف والتكليف قائم لأنه تعالى على ذلك أقدر... (1) ".

فيقال له: لو أن الله تعالى أزال الشهوة ولم يفعلها بالابتداء لقبح التكليف لأن فقدها مخل بشرطه، ولو سقط التكليف لم يحتج إلى الإمام لأن الحاجة إليه مقرونة به (2) وباستمراره على أن في قولك (يزيلها) وأنت تعني الشهوة والتكليف قائم مناقضة ظاهرة لأنك قبل هذا الفصل قلت:

" إن الشهوة والهوى لا بد من إثباتها حتى يصح التكليف " فكيف نسيت هذا هاهنا، وألزمت أن لا يفعلها الله تعالى مع ثبوت التكليف؟.

فإن قلت: إنما أردت أن يزيلها كما يزيلها الإمام، قلنا لك:

الإمام ليس يزيلها وإنما هو لطف في ارتفاع مقتضاها.

فإن قلت: فألا رفع مقتضاها بغير إمام.

قلنا لك: هذا مما قد بينا فساده بالدلالة على أن الإمام لطف، وأن غيره لا يقوم مقامه في من كان لطفا لهم.

قال صاحب الكتاب: " وتعلقهم بكل ذلك يبطل، لأنه يوجب أن لا يقتصروا على حجة واحدة يلزمهم أن يكون كل مكلف متمكنا منه في كل وقت،... " (3) فيقال له: أما إلزامك أن لا يقتصر على حجة واحدة، فقد مضى ما فيه مكررا.

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 62.

(2) أي بالتكليف.

(3) المغني 20 ق 1 / 62.

الصفحة 160 

فأما الغيبة فإنا لم نجوزها مع الاختيار، بل مع الالجاء والاضطرار، والحجة على الظالمين الذين أخافوا الإمام وأحوجوه إلى الاستتار والغيبة، ولا حجة فيه على الله تعالى ولا على الإمام عليه السلام.

فأما تمكن كل واحد من الوصول إليه فقد تقدم أنه ممكن من حيث تمكنوا من مفارقة ما أحوج الإمام إلى الاستتار.

قال صاحب الكتاب: " شبهة لهم أخرى: وربما سلكوا ما يقارب (1) هذه الطريقة على وجه آخر بأن يقولوا: إذا كان السهو والغفلة والغلط لاتباع الشهوة والشبهة جائزة على المكلفين وكذلك النقص والتقصير وكان الأقرب في زوال ذلك أو زوال تأثير وجود حجة في الزمان لأن عنده - لا شك - يكونون أقرب إلى العدول عن ذلك إلى القيام بما كلفوه فلا بد في المكلف إذا كان أحسن النظر للمكلفين أن يقيم لهم في الزمان (2) حجة من رسول أو إمام كما لا بد من أن يلطف لهم ".

قال: " وهذا يسقط بوجوه: منها ما قدمناه من أنه لا وجه نقطع به على أن ذلك أقرب إلى قيامهم بما كلفوه، لأنا قد بينا مفارقته لكون المعرفة لطفا لهم على كل حال، وبينا أن لطف المكلف قد يكون بأن يخلى سربه (3) ويوكل إلى نفسه فقد يكون عند ذلك أقرب إلى الطاعة من أن يلزم اتباع غيره... " (4).

فيقال له: قد تقدم ذكرناه في الوجه الذي يقطع به على أن وجود

____________

(1) في المغني " ما يعاون " وعلق عليها المحقق بقوله: يمكن أن تكون " يقارن " ولو أنه رجع إلى الشافي لكفى مؤونة التوجيه.

(2) غ " في كل زمان ".

(3) السرب - بالكسر -: النفس، يقال: فلان آمن في سربه: أي في نفسه.

(4) المغني 20 ق 1 / 63.

الصفحة 161 

الأئمة والرؤساء لطف للمكلفين، ودللنا على أنه لا بد أن يكونوا عند وجودهم أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد، وما ظننت أنه يفسد هذه الطريقة وأحلت في كلامك هذا عليه فقد أفسدناه ودللنا على بطلانه، وبعده من الصواب.

فأما مفارقة الإمامة للمعرفة في عموم اللطف بها فقد قلنا: أنها عامة في الأحوال ومساوية للمعرفة في ذلك، وإن لم يجب القطع على أنها لطف في كل تكليف كالمعرفة، ولا في كل مكلف حتى يتعدى إلى المعصومين. وقد تقدم ذكر الخصوص والعموم في الألطاف، وأنها قد تتفق في ذلك وتختلف ما لا يحتاج إلى إعادته.

ومن عجيب الأمور تصريحه بأن الصلاح قد يكون في الاهمال بقوله: " إن لطف المكلف في أن يكون بأن يخلى سربه ويوكل إلى نفسه " وهذه حالة يعلم كل العقلاء بما تثمره من الفساد وييأسون من وقوع شئ من الصلاح، حتى أنهم إذا بلغوا الغاية في التعوذ من المكاره رغبوا إلى الله تعالى في أن لا يكلهم إلى نفوسهم.

والمناظرة في الضروريات لا معنى لها وأكثر ما يستعمل فيها التنبيه الذي استقصيناه، وتناهينا في استعماله.

قال صاحب الكتاب: " ومنها أنه لا يخلو من أن يكون ذلك لطفا في كل أمر كلفوه، أو بعض دون بعض، فإن جعلوه [ لطفا ] في كله لزم الحاجة إلى حجة في النظر المؤدي إلى العلم بأن الحجة حجة، ويؤدي إلى ما ذكرناه من الفساد، ويلزم حضور الحجة في كل وقت عند كل مكلف، أو يلزم إثبات حجج ليصح ذلك فيهم إلى سائر ما قدمناه.

وإن قالوا هو لطف في بعض ذلك

الصفحة 162 

قيل لهم: إذا كان حال الكل سواء فمن أين أنه لطف في البعض (1) دون بعض؟... " (2) فيقال له: قد بينا ما يقتضي العادات أن يكون الإمام لطفا فيه، وفصلنا بينه وبين غيره بما لا يجب القطع على مثل ذلك فيه، وقلنا: في الاعتقادات وما يرجع إلى أفعال القلوب كالنظر وغيره أنه ليس بواجب أن يكون الإمام لطفا في وقوعه لأنه غير ممتنع أن يعلم الله تعالى من حال المكلفين أنهم يؤدون الواجب عليهم فيما عددناه مع فقد الإمام ويقوم مقام تنبيهه لهم تنبيه غيره من خاطر أو غير خاطر (3).

فأما قولك: " إن حال الكل سواء " فليس كذلك لأن كل عاقل يعلم ضرورة ما بين (4) حال الرؤساء والأئمة في (5) لزوم السداد، وطريقة العدل والإنصاف، ومفارقة الظلم والبغي، وكثير من ضروب الفساد، وليس بمعلوم مثل ذلك في كل الواجبات.

فأما حضور الحجة في كل وقت وإثبات حجج فقد مضى ما فيه مكررا.

فإن قال: إذا كنتم لا تقطعون على أن الإمام ليس بلطف في كل الواجبات، بل تجوزون كونه لطفا في جميعها، وإنما امتنعتم من القطع على

____________

(1) يرى بعض النحاة أن بعض لا تدخلها اللام خلافا لابن درستويه، وقال أبو حاتم: استعملها سيبويه والأخفش في كتابيهما لقلة علمهما بهذا النحو وانظر المادة من القاموس المحيط للفيروز آبادي.

(2) المغني 20 ق 1 / 63.

(3) الخاطر: الهاجس،.

(4) ضرورة تأثير، خ ل.

(5) من، خ ل.

الصفحة 163 

وجوب كونه لطفا في الجميع فقد جاز على ما صرحتم به أن يكون لطفا في الكل، فكيف الجواب مع هذا التجويز عما ألزمناكموه؟.

قيل له: حكم الجواز يخالف حكم الوجوب في هذا الموضع لأن الوجوب يقتضي إثبات ما لا نهاية له من الحجج، والجواز ليس كذلك.

فإن قال: لا شك أن بين الجواز والوجوب الفرق الذي ذكرتموه، غير أنه إذا كان جائزا أن كون الإمامة لطفا في كل واجب، ومعرفة بإمام وغيره، وعلى كل وجه فلو علم الله تعالى هذا الجائز ما الذي كان يجب على قولكم؟.

قيل له: إن علم ما ذكرته لم يحسن تكليفنا لتعلقه بوجود ما لا نهاية له.

وبيان هذه الجملة: أنه تعالى إذا كلفنا بفعل الواجبات، والامتناع عن المقبحات فكنا عالمين بأن الإمامة لطف في فعل كثير مما يوجب علينا، والامتناع من كثير مما كره منا، فلو علم تعالى أن معرفتنا بالإمام الذي في إمامته لطف لنا يحتاج في معنى اللطف إلى مثل ما احتاجت إليه الأفعال التي ذكرناها حتى يكون وجود إمام آخر لطفا فيها كما كانت هي لطفا في غيرها، وكان القول في ذلك الإمام كالقول في هذا لا تصل لطفا بما لا نهاية له، ولو كان ما قدرناه في المعلوم لقبح تكليفنا ما وجود الإمام لطف فيه، وفي علمنا بأننا مكلفون بذلك دلالة على أن التقدير الذي قدرناه ليس في المعلوم، والعمدة هي الفصل بين الوجوب، والجواز، لأن الوجوب مع ثبوت التكليف يقتضي وجود ما لا نهاية له، والجواز لا يقتضي ذلك، بل يكون ثبوت التكليف مؤمنا من أن يكون في المعلوم ما يقتضي فعل ما لا يتناهى وما كان منه ينتهي إلى حد فهو مجوز لأن ثبوت التكليف لا ينافيه، وإنما ينافي ما لا يتناهى.

الصفحة 164 

فإن قال: جملة ما ذكرتموه يوجب أن الإمام لطف فيما يخاف فيه من أدبه وعقابه، وهذا يوجب أن الناس عند وجود الإمام كالملجئين إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح فلا يستحقون ثوابا.

قيل له: ليس يبلغ خوف الناس من أدب الإمام ورهبتهم له إلى حد الالجاء، لأنا نرى بعضهم قد يواقع القبيح مع وجود الأئمة وانبساط أيديهم، وقوة سلطانهم، ولأنا نجد من يمتنع منه في حال وجود الأئمة يستحق المدح، وليس يجوز أن يستحق المدح فيها الانسان ملجأ إليه، ولو لزمنا في هذا الموضع أن يكون المكلفون ملجئين إلى فعل الواجب لأجل الخوف من الإمام للزمك إذا قلت: أن المعرفة باستحقاق العقاب لطف في التكليف، وأن المكلفين لا بد أن يكونوا عند هذه المعرفة أقرب إلى اجتناب القبيح أن يكونوا ملجئين وغير مستحقين للثواب.

فإن قلت: ليس يمتنع أن يترك المكلفون - عند المعرفة باستحقاق العقاب - الفعل لقبحه وتكون هذه المعرفة داعية لهم إلى ذلك.

قيل لك: وكذلك ليس يمتنع أن يترك الناس القبائح عند وجود الأئمة وانبساط أيديهم الوجه الذي وجب عليهم تركها منه، ويكون وجود الأئمة داعيا ومسهلا.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن ذلك يوجب جواز أن لا يكون (1) لطفا في البعض الذي ذكروه، وفي ذلك الاستغناء عن الحجة في بعض المكلفين وفي بعض الأعصار، [ وما أوجب ذلك أوجب جواز الاستغناء عنه في كل زمان ] (2)... " (3).

____________

(1) أي الإمام.

(2) الزيادة بين المعقوفين من المغني.

(3) المغني 20 ق 1 / 63.

 

 

الصفحة 165 

فيقال له: الذي يبطل قولك ما قدمناه من الدلالة على كون الإمام لطفا في واحد الأمرين وأنه لا وجه يقطع منه كونه لطفا في الآخر، وليس يجب إذا لم يكن لطفا في شئ أن لا يكون لطفا في غيره، لأن هذا لو وجب للزمك إخراج كثير من الألطاف عن كونها لطفا، لأنه لو قيل لك أتقطع على أن الصلاة لطف في كل تكليف لم يمكنك ادعاء ذلك فيها، لأنك إن ادعيته طولبت بالبرهان ولا برهان يقطع به على عموم كونها لطفا في جميع التكاليف، وإذا جوزت اختصاصها قيل لك: ما تنكر أن يكون جواز أن يكون لطفا في بعض التكاليف كجواز ذلك في الكل فوجب أن تخرجها من أن تكون لطفا جملة، وهذا إن لزمته لم يكن جوابك عنه إلا مثل جوابنا لك، فتأمله!.

قال صاحب الكتاب: " ومنها: أن اللطف في ذلك لا يجوز أن يكون وجود عين (1) الإمام، وإنما هو بيانه وما يكون من قبله فيجب أن يقوم بيان غيره مقام بيانه، وتنبيه العلماء يقوم مقام تنبيه،... " (2) فيقال له: إن أردت أن بيان غيره من العلماء وتنبيهه يقوم مقام بيان الإمام وتنبيه فيما دللنا على أن وجود الإمام لطف فيه من الأفعال فلا، لأن العقلاء يعلمون أن غير الرؤساء والأئمة لا يقومون في هذا الوجه مقامهم، وإن أردت به غير ذلك من الاعتقادات والتنبيه على النظر والاستدلال فيما ذكرته جائز، إلا أنه ليس بقادح في طريقتنا.

قال صاحب الكتاب: " ومنها: أن نفس الحجة إذا استغنى في قيامة بما كلف عن (3) حجة أخرى فما الذي يمنع من مثله في

____________

(1) غ " غير الإمام " وهو تحريف واضح.

(2) المغني 20 ق 1 / 64.

(3) غ " من ".

الصفحة 166 

المكلفين،... " (1).

فيقال له: إنما وجب في الحجة الاستغناء عن الحجة الأخرى يكون لطفا له في الامتناع من القبيح، وأداء الواجب (2) لعصمته وكماله، وما وجدنا في غيره ذلك لأنه لو كانت حال غيره من المكلفين كحاله لاستغنى عن إمام كما استغنى هو.

فإن قال: إذا جاز أن يقوم في الحجج والأئمة في باب اللطف والامتناع من القبائح غير الإمام مقام الإمام فلم لا يجوز مثل ذلك في غير الحجج والأئمة؟ وألا جاز أن يعلم الله تعالى ذلك في سائر المكلفين أو أكثرهم فيستغنوا عن الأئمة كما استغنت الأئمة؟.

قيل له: ليس يمتنع أن يعلم الله تعالى من حال بعض المكلفين ممن ليس بإمام أنه لا يختار شيئا من القبيح عند بعض الألطاف التي ليست بإمامة فيفعل ذلك ويكون معصوما لا يحتاج إلى إمام من هذا الوجه، غير أن الذي لا نجوزه هو أن يكون في المعلوم أن غير وجود الأئمة والرؤساء يقوم في لطف من جاز عليه من المكلفين فعل القبيح، ولم يؤمن منه الفساد والافتتان (3) مقام وجودهم حتى يكونوا عنده أقرب إلى فعل الواجب، وأبعد من فعل القبيح، كما يكونوا كذلك عند وجود الأئمة، والذي يمنع من هذا علمنا بأن الناس على طريقة واحدة يفسدون ويفتنون عند فقد الأئمة، ويصلحون ويستقيمون عند وجودهم، ولو كان ما ألزمناه جائزا لم يكن العلم الذي ذكرناه حاصلا على الحد الذي هو عليه،

____________

(1) المصدر السابق.

(3) لا يخفى أن " أداء " معطوفة على " الامتناع ".

(3) الافتتان: الوقوع في الفتنة، والفتنة - بكسر الفاء - تطلق على الضلال والإثم والكفر وغيرها ولعل هذه المعاني هي المرادة هنا.

الصفحة 167 

بل كان يجب تجوز كون الناس مع فقد الأئمة على حال السداد والصلاح، ومع وجودهم على حال الفساد والاضطراب، وفي القطع على بطلان هذا دلالة على أنه ليس في الجائز أن يقوم مقام الأئمة فيما ذكرناه غيرهم.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، قالوا: قد علمنا من حال المكلفين أنهم يجوز عليهم الاختلاف فيما كلفوا علمه من المذاهب، فكما يجوز عليهم ذلك فجائز عليهم الاختلاف في الأدلة، والاختلاف في كيفية الاستدلال بها، والنظر فيها، [ وإذا كان كل ذلك جائزا ] (1) فلا بد من قاطع للخلاف.. " (2) ثم تكلم في رد ذلك بكلام طويل بعضه صحيح مثمر (3) وبعضه غير صحيح، وهذه الطريقة التي حكاها (4) غير معتمدة عندنا ولا اعتمدها أحد من أصحابنا المتقدمين ولا المتأخرين، والذي يتعلقون به في باب الاختلاف في المذاهب هو على خلاف هذا الوجه، لأنهم يذكرون ذلك في بعض السمعيات (5) والشرعيات (6) مما يكون فيه الحجج كالمتكافئة،

____________

(1) الزيادة بين المعقوفين من المغني.

(2) المغني ق 1 / 64.

(3) في الأصل " متمر ".

(4) يعني تحت عنوان " شبهة أخرى لهم ".

(5) السمعيات ما يتلقى سمعا كنصوص الكتاب والسنة المطهرة، وتنقسم باعتبار الظن والقطع إلى أقسام، قطعي السند والدلالة كنصوص القرآن والسنة المتواترة إذا كان النص واضحا لا يقبل التأويل واحتمال الضد مثل (أحل الله البيع وحرم الربا) وقطعي السند ظني الدلالة مثل قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء،) البقرة 1 / 22) قروء جمع قرء واختلفوا في المراد في القرء هل هي أيام الحيض أو أيام الطهر، وظني السند والدلالة كأخبار الآحاد مثل (الأئمة من قريش) فهل أن هذا الخبر من حيث السند صحيح وإذا صحل هل المراد الأئمة المنصوص عليهم كما يقول الإمامية، أو المراد الأئمة الذين تختارهم الأمة كما يقول خصومهم وظني السند قطعي الدلالة كأخبار الآحاد في وجوب بر الوالدين وصلة الأرحام.

(6) هي ما بين الشارع حكمها وحدد موضوعها.

الصفحة 168 

والأدلة القاطعة مفقودة، وسنتكلم في تصحيح هذه الطريقة، فقد ذكرها صاحب الكتاب تالية لهذا الفصل، وقد كان يجب عليه أن لا يورد في الحكاية عنا هذه الشبهة الضعيفة التي لا يخفى بطلانها على متكلم اللهم إلا أن يكون أصابها في كتاب لنا مشهور أو سمعها من متكلم من أصحابنا حاذق فيضيفها إلى الكتاب أو المتكلم، وإلا فقد أقام نفسه مقام المتهم بإيراد ما سهل عليه نقضه، ويمكنه دفعه.

قال صاحب الكتاب: " شبهة لهم أخرى، وربما تعلقوا باختلاف الأئمة في الفقه والاجتهاد (1)، وقالوا: لا بد من حجة ليقطع هذا الخلاف، لأنه لا يمكن إثبات حجة قاطعة في الكتاب والسنة، ولا بد من أن يكون علم ذلك مستودعا في الإمام،... (2) ".

قال: " وهذا يبطل بما دللنا عليه من إثبات الاجتهاد... " (3).

فيقال له: قد تعلق أكثر أصحابنا بهذه الطريقة، واعتمدوها في الحاجة إلى إمام بعد النبي، وما حكيته من نفي حجة قاطعة في الكتاب والسنة باطل لا يطلقه القوم المستدلون بهذه الطريقة. ووجه ترتيب الاستدلال بها أن يقال: قد علمنا أنه ليس كل ما تمس الحاجة إليه من الشريعة عليه حجة قاطعة من كتاب أو تواتر أو إجماع أو ما يجري مجراهما، بل الأدلة في كثير من ذلك كالمتكافئة، أو هي متكافئة، ولولا ما

____________

(1) في الأصل " والاجتهادات ".

(2) المغني 20 ق 1 / 67.

(3) المصدر السابق نفس الصفحة.

الصفحة 169 

ذكرناه ما فزع خصومنا إلى غلبة الظن والاستحسان (1) وغيرهما مما يسمونه اجتهادا، وإذا ثبت ذلك وكنا مكلفين للعلم بالشريعة والعمل بها وجب أن يكون لنا مفزع نصل من جهته إلى ما اختلفت أقوال الأمة فيه.

فأما قولك: " وهذا يبطل بما دللنا عليه من صحة الاجتهاد " فقد دلت الأدلة الواضحة عندنا على إبطال ما تسميه اجتهادا، وأحد ما يدل على ذلك، أن الاجتهاد في الشريعة عندكم هو طلب غلبة الظن فيما لا دليل عليه، والظن لا مجال له في الشريعة، ولا يصح أن يغلب في الظن تحريم شئ منها أو تحليله، لأن الشريعة مبنية على ما يعلمه الله تعالى من مصالحنا التي لا عهد لنا فيها ولا عادة ولا تجربة.

ألا ترى أنه تعالى قد حرم شيئا وأباح مثله، وما هو من جنسه وأباح شيئا وحظر مثله، وما صفاته كصفاته (2)، فكيف يمكن أن يستدرك بالظن الحلال والحرام من هذه الشريعة، وما يوجب الظن ويقتضيه مفقود فيها؟.

وما يذكره خصومنا عند ورود هذا الكلام عليهم من قولهم: " إن الظن يغلب في الشريعة وإن لم يكن له طريق معلوم مقطوع عليه كما يغلب ظن أحدنا أنه إذا أراد التجارة خسر أو ربح، وإذا سلك بعض الطريق عطب (3) أو سلم إلى غير ما ذكرناه مما يغلب ظن العقلاء فيه، وإن لم يمكن الإشارة إلى ما اقتضى الظن بعينه فكذلك لا ينكر أن يغلب ظن العلماء في الشريعة بما يوجب الحاق المحرم بالمحرم والمحلل بالمحلل "، لا يغني عنهم في دفع كلامنا شيئا، لأن سائر ما يذكرونه إنما يغلب ظن

____________

(1) يراجع في قاعدة الاستحسان الموافقات للشاطبي ج 4 ص 205 - 210.

(2) حرم الربا وحلل المضاربة، وأباح النكاح وحظر السفاح وهكذا.

(3) عطب: هلك.

الصفحة 170 

العقلاء فيه لتقدم عادة لهم في أمثالهم، أو تجربة، أو سماع خبر من له فيه عادة وتجربة، ولو عروا من جميع ذلك لم يجز أن يغلب ظنونهم في شئ منه، يتبين هذا أن من لم يسافر قط، ولم يسلك طريقا من الطرق ولا سمع بأخبار المسافرين وأحوال الطرق المسلوكة، فلا يجوز أن يظن العطب أو النجاة في بعض الأسفار، وفي سلوك بعض الطرق، وكذلك من لم يتجر قط ولا اتصل به خبر التجارات وأحوال التجارة لا يجوز أن يظن في شئ منها ربحا ولا خسرانا.

وإذا صح ما ذكرناه، وكانت الظنون التي تعلق بها مخالفونا إنما غلبت لاستنادها إلى طرق معلومة ولو قدرنا زوالها لم تحصل تلك الظنون، وكانت جميع الطرق التي تغلب فيها الظنون مفقودة في الشريعة بطل دخول الظن فيها.

فإن قال: هذا يؤدي إلى أن جميع المصححين للاجتهاد من الفقهاء وغيرهم كاذبون فيما يخبرون به من غلبة ظنونهم في الشريعة، ومثل ذلك لا يجوز عليهم مع كثرتهم وتدينهم بمذاهبهم.

قيل له: ليس القوم الذين ذكرتهم كاذبين في وجدانهم أنفسهم (1) على اعتقاد ما، وإنما هم مبطلون في أخبارهم بأنه غلبة ظن والعلم بالفرق بين الاعتقاد والمبتدأ والظن والعلم ليس بضروري، ولا مما يجب أن يعرفه كل أحد من نفسه.

ثم يقال له: ليس ما نقوله من أن الفقهاء وغيرهم من أصحاب الاجتهاد غير ظانين في الشريعة على الوجه الذي تدعونه بأعجب من قولك: إن جميع من خالفك ممن يرى أن الحق في واحد من أهل الاجتهاد

____________

(1) أنفسهم مفعول لوجدان، أي أنهم لم يجدوا أنفسهم كاذبين في ما اعتقدوه.

الصفحة 171 

غير عالم في الحقيقة بما يدعي أنه عالم به، وأنهم جميعا كاذبون في قولهم بأنهم عالمون.

وقولهم أيضا أن جميع مخالفيك في أصول الديانات التي طريقها الأدلة والعلم كاذبون فيما يدعونه من العلم بمذاهبهم التي يخالفونك فيها.

فإن قلت: إن هؤلاء لم يكذبوا فيما يجدون أنفسهم عليه من الاعتقاد، وإنما غلطوا في ادعاء كونه علما، وليس كون العلم علما بما يجده الانسان من نفسه ضرورة.

قيل لك: والفقهاء أيضا لم يكذبوا في أنهم يجدون أنفسهم في أمر ما، وإنما غلطوا في تسميته بأنه غلبة ظن، وهو في الحقيقة اعتقاد مبتدأ لا تأثير له.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فلو كان الحق في واحد لكان لا بد من أن يكون عليه دليل كالمذاهب في التوحيد والعدل، فكما يستغنى عن الإمام فيهما لما قدمناه من قبل فكذلك كان يجب الاستغناء عنه في هذه المسائل (1) وأن يقال: إن من خالف الحق إنما أتي (2) من قبل نفسه بأن قصر في النظر والاستدلال الذي يمكنه أن يفعله على الوجه الذي لزما ووجبا (3) وفي ذلك أيضا (4) يمكن الاستغناء عن الإمام،... " (5).

فيقال له: إنما كان ما ذكرته سائغا لو كان كل حق من الشريعة

____________

(1) غ " المسألة ".

(2) غ " أبي ".

(3) أي النظر والاستدلال، وقد حذف محقق المغني ألف التثنية من الكلمتين لأنه لم يجد لهما تخريجا وترك الأمر بين يدي القارئ.

(4) غ " إبطال " ولا شك أنه تحريف ل " أيضا ".

(5) المغني 20 ق 1 / 67.

الصفحة 172 

عليه دليل قائم كأدلة التوحيد والعدل، وقد علمنا خلاف ذلك ضرورة، لأنه لو كانت الشريعة بهذه الصفة لما تكلف الناس في التوسل إليها طرق الاجتهاد والاستحسان كما لم يتكلفوا مثل هذا في التوحيد والعدل، والأمر فيما ذكرنا أوضح من أن يخفى على أحد، ومن اعترض (1) مذاهب مخالفينا في الفرع لم يصب على عشرها أدلة قاطعة كأدلة التوحيد والعدل، بل وجد المعول في جميعها أو أكثرها على الاجتهاد والظن وما أشبههما مما هو خارج عن طريقة العلم.

فإن قال: ما ذكرتموه يؤدي إلى الحيرة، وإلى أن الناس قد كلفوا إصابة الحق من غير دليل يصلون إليه من جهته.

قيل له: ما كلف الله تعالى إلا ما مكن من الوصول إليه من شريعة وغيرها، فما نقل من الشريعة عن الرسول صلى الله عليه وآله نقلا يقطع العذر كلفنا فيه الرجوع إلى النقل، وما لم يكن فيه نقل ولا ما يقوم مقامه من الحجج السمعية أما لأن الناس عدلوا عن نقله، أو لأنهم لم يخاطبوا به وعول بهم على قول الإمام القائم مقام الرسول عليه السلام كلفنا فيه الرجوع إلى أقوال الأئمة المستخلفين بعد الرسول، ولهذا؟ جد الحكم في جميع ما يحتاج إليه في الحوادث موجودا فيما ينقله الشيعة عن أئمتهم عليهم السلام، وكل ما تكلف فيه خصومنا القياس والاجتهاد وطرق الظن عند الشيعة فيه نص إما مجمل أو مفصل.

قال صاحب الكتاب: " ويلزمهم على هذه العلة (2) وجود الإمام وظهوره والتمكن من ملاقاته لإزالة هذا الاختلاف، ويلزمهم وجود

____________

(1) اعترض: أي عرضها واحدا واحدا والمراد الوقوف عليها.

(2) وهي وجود الحجة ليقطع الخلاف.

الصفحة 173 

الحجة في كل بلد، وعند كل فريق، ويلزمهم إبطال الفتاوى من العلماء لجواز الغلط عليهم، أو على كثير منهم، وأن يوجبوا أن لا يفتي إلا الإمام، ولا يحكم إلا هو، وفي ذلك خروج عن دين المسلمين،... " فيقال له: أما وجود الإمام وظهوره في كل بلد فقد مضى الكلام فيه دفعة بعد أخرى.

فأما الفتاوى فلا تبطل - كما ادعيت - بل يتولاها من استودع حكم الحوادث - وهم الشيعة - بما نقلوه عن أئمتهم عليهم السلام، ومن عدل عن هذا المعدن الذي بيناه لم يكن له أن يفتي، لأنه لا يفتي في الأكثر إلا بما هو عامل فيه بالظن والترجيم (1) فإن قال: هذا تصريح منكم باستغناء الشيعة بما علمته عن إمام الزمان لأنها إذا كانت قد استفادت علم الحوادث عمن تقدم ظهوره من الأئمة عليهم السلام فأي حاجة بها إلى هذا الإمام؟

قيل له: إنما يجب ما ظننته لو كان ما استفدته من هذه العلوم ووثقت به لا يفتقر إلى كون الإمام من ورائهم، وقد علمنا خلاف ذلك، لأنه لولا وجود الإمام مع جواز ترك النقل على الشيعة والعدول عنه لم نأمن أن يكون ما أدوه إلينا بعض ما سمعوه، وليس نأمن وقوع ما هو جائز عليهم مما أشرنا إليه إلا بالقطع على وجود معصوم من ورائهم.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فقد علمنا أن من يعترف (2) بالإمام والحجة قد اختلفوا في مذاهب (3) فيلزمهم الحاجة إلى إمام آخر

____________

(1) الترجيم: تفعيل من الرجم وهو في هذا الموضع مرادف للظن.

(2) غ " يعرف ".

(3) أي في الأحكام.

الصفحة 174 

يقطع اختلافهم، وما يوجب الغنى عن ذلك في اختلافهم ينقض ما ذكروه من علتهم،.. " (1) يقال له: ليس ينكر اختلاف من اعترف بالحجة في مذاهب إلا أنهم لم يختلفوا إلا فيما عليه دليل ذهب عن طريقه بعض ووصل إليه بعض، وليس كذلك اختلاف مخالفيهم فيما لا دليل عليه من الشرعيات، ومن شك فيما ذكرناه كانت المحنة (2) بيننا وبينه.

قال صاحب الكتاب: " على أن ما نعرفه من حال من تقدم من الأئمة يمنع من هذا القول لأنهم كانوا لا يمنعون من الاختلاف والاجتهاد، والثابت عن أمير المؤمنين [ عليه السلام ] أنه كان لا يمنع من ذلك، بل كان يجيز لمن يخالفه في المذاهب أن يحكم ويفتي ويوليه الأمور، وكان ينتقل (3) من اجتهاد إلى اجتهاد، وتختلف مذاهبه على ما ظهرت الرواية به، وكل ذلك يبين فساد هذا الجنس من التعليل... " (4).

فيقال له: هذا الكلام في نصرة الاجتهاد فللاستقصاء به موضع غير هذا، غير أنا لا نخلي هذا الموضع من كلام فيه ورد لما اعتمدته.

أما قولك عن أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من الأئمة عندك كانوا لا يمنعون من الاجتهاد والاختلاف، فالمعلوم من حالهم خلاف ما ادعيته لأن الثابت عنهم وعن أمير المؤمنين عليه السلام خاصة مناظرة المخالفين ومطالبتهم بالرجوع إلى الحق، وليس يجب أن يستعمل من المنع أكثر مما

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 67.

(2) المحنة: اسم من امتحن، والمراد هنا إما الاختبار أو النظر في القول.

(3) خ " يرجع ".

(4) المغني 20 / 67.

الصفحة 175 

ذكرناه، لأن المنع بالقهر أو الضرب والسب إذا كان مما لا يحسن استعماله مع المخالفين في كثير من الأصول فأولى أن لا يستعمل مع المخالف في الفروع، فمن ادعى أنهم سوغوا الاجتهاد من حيث لم يظهر منهم في المنع عنه أكثر من المناظرة والمحاجة والدعاء والترغيب كمن أدعى أنهم سوغوا الخلاف في الأصول لأنهم لم يتعدوا في كثير منها هذه الطريقة، ومما يؤيد ما ذكرناه من إنكار القوم على من خالفهم ما تظاهرت به الرواية عن ابن عباس من قوله: " من شاء باهلته (1) في باب العول " (2) وقوله: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأدب أبا " (3).

ولهذه الأخبار أمثال كثيرة معروفة:

فأما تولية أمير المؤمنين عليه السلام المخالفين له في المذهب فما نعرف من ولاته من يقطع على خلافه له، ولو ثبت ذلك لم يمتنع أن يفعله عليه السلام على وجه الاستصلاح والتآلف، فالظاهر من أحواله عليه السلام أنه في حال ولايته الأمر لم يكن متمكنا من جميع مراداته وقد صرح بذلك بقوله عليه السلام: " أما والله لو ثني [ ت ] الوسادة لي لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى يزهر (4) كل كتاب من هذه

____________

(1) المباهلة: الملاعنة والاخلاص في الدعاء والمراد أن تنزل لعنة الله على المبطل.

(2) العول: نقصان الفريضة في الميراث، ولا يقول به الإمامية.

(3) يعني يجعل ابن الابن الذي توفي أبوه في حياة جده مشاركا إخوة أبيه في ميراثهم من أبيهم، ولا يجعل جده مشاركا له في ميراث أبيه.

(4) تزهر: تضئ وتتلألأ. وفي نسخة: " تظهر " وهذه الكلمة من كلماته المشهورة، وهي من خطبة خطبها بعد بيعته عليه السلام، وفي رواية ابن أبي الحديد في الحكم المنثورة " لو كسرت لي الوسادة " وفيها " حتى تزهر تلك القضايا إلى الله عز وجل وتقول: " يا رب إن عليا قضى بين خلقك بقضائك ".

الصفحة 176 

الكتب فيقول: يا رب إن عليا قد قضى بقضائك "، وقوله عليه السلام وقد سأله قضاته عما يقضون به: " اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي " يعني من تقدم موته لحال ولايته من أوليائه وشيعته الذين قبضهم الله تعالى فهم على حالة التمسك بالثقة.

فأما الرجوع من اجتهاد إلى غيره فغير معلوم منه عليه السلام، وأكثر ما يدعيه المخالفون من ذلك ما روي من قول عبيدة السلماني (1) وقد سأله عن بيع أمهات الأولاد فقال: " كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن، ورأيي الآن أن يبعن، إلى آخر الخبر (2) ". وهذا خبر واحد وقد رده أكثر الناس، وطعنوا في طريقه، ولو صح لم يكن مصححا للاجتهاد الذي يدعيه المخالفون، لأنه يمكن - على مذهبنا في حسن التقية بل على وجوبها في بعض الأحوال - أن يكون عليه السلام أظهر موافقة عمر لما علمه في ذلك من الاستصلاح، ولما زال ما أوجب إظهار الموافقة أظهر المخالفة.

وليس لأحد أن يقول: فقد كان يجب أن لا يخالف عمر في شئ من مذاهبه، وقد رأينا [ أنه ] خالفه في كثير منها، لأنه لا يمتنع أن يكون الخلاف في بعض المذاهب يثمر من العداوة والفساد ما لا يثمره غيره وإن

____________

(1) عبيدة - بفتح أوله وزيادة هاء - بن قيس بن عمرو السلماني أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله بسنتين ولم يلقه هاجر من اليمن إلى الكوفة زمن عمر مات بعد سنة 70 (أنظر الإصابة 3 / 102 ق).

(2) في حاشية الأصل بتوقيع مصححه السيد فرج الله الحسيني رحمه الله ما هذه حروفه " قوله إلى آخر الخبر يحكي عن قول عبيدة: قال لي أمير المؤمنين عليه السلام بعد هذه الفتيا رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، وهو - إن صح - كان كقوله لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون إلى آخره وهو إلى التقية أقرب " انتهى.

الصفحة 177 

كان في الظاهر كحاله حاله، وهذه أمور تدل عليها الأحوال فيكون.

لبعضها مزية على بعض عند من شاهد الحال، وإن كانت عند غيره ممن لم يشهدها متساوية.

على أنا لو عدلنا عن هذا الجواب - وإن كان ظاهر الصحة، وبين الاستمرار - لم يكن فيما يدعي من الخبر دلالة على صحة الاجتهاد لأنه لا ينكر أن يرجع من قول إلى قول بدليل قاطع، وإنما كان (1) في الخبر متعلق لو ثبت أنه لا يمكن أن يرجع من قول إلى قول إلا بالاجتهاد، فأما إذا كان ممكنا فلا فائدة في التعلق به.

وهذا الجواب وإن كان غير صحيح عندنا لأن أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يخفى عليه الحق المعلوم بالدليل في وقت حتى يرجع إليه في وقت آخر، فإنما ذكرناه لأن أصول من تعلق بهذا الخبر في صحة الاجتهاد لا تنافيه، وإذا كانت أصولهم تقتضي جواز ما ذكرناه بطل تعلقهم به، ولم يكن لهم أن يستدلوا بما أصولهم تقتضي أن لا دلالة فيه.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، وربما قالوا لا بد في صحة ثبات التكليف على المكلفين في كل زمان [ إلى ] أن يعرفوا ما لا يصح لهم غنى عن الأئمة فيه، مما يتصل (2) بمصالح أبدانهم ومعائشهم ومكاسبهم والأمور كلها على الحظر (3)، إلى آخر كلامه... " (4).

فيقال له: قد بينا فيما تقدم من كلامنا أن هذه الطريقة غير

____________

(1) يكون، خ ل.

(2) في الأصل " ومما يصح " وما أثبتناه عن المغني، علما بأن العبارة فيها زيادة ونقصان في الكتابين فأصلحناها من المصدرين على الوجه المذكور.

(3) الحظر: المنع، والمحظور: المحرم.

(4) المغني ق 1 / 69.

الصفحة 178 

معتمدة، ولا دلالة على وجوب الإمامة في كل زمان، وإن كان بعض أصحابنا قد تعلق بها، وقلنا: إنه لو قد صح الافتقار في هذه الطريقة المذكورة إلى السمع لما وجبت الحاجة إلى إمام في كل زمان، بل كان التواتر بما بينه الإمام المتقدم يغني عن إمام في كل عصر، وفصلنا بين ما يحتاجون إليه من الأغذية وما لا تقوم أبدانهم إلا به وبين العبادات في أن الأول لا يجوز أن يعدل الناس عن نقله والثاني جائز عليهم ترك نقله لعناد أو شبهة، وأن دواعي العدول عن النقل يصح دخولها في الثاني دون الأول ولا حاجة بنا إلى إعادة ما مضى.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، وربما سألوا فقالوا (1):

ما يوجب الحاجة إلى الرسول والنبي من بيان الشرائع والدعاء إلى الطاعة، إلى غير ذلك، يوجب الحاجة إلى من يقوم مقامه في حفظ شريعته، ويسد مسده، لأنا قد علمنا أنه لا أحد من أمته إلا وقد يجوز عليه أن لا يحفظ البعض أو الكل، وحال جميعهم كحال كل واحد منهم، فلا بد ممن يقوم بحفظ ذلك، وأن يكون معصوما يؤمن منه الغلط والسهو والكتمان، لأن تجويز ذلك عليه ينقض القول بأن الشريعة لا بد من أن تكون محفوظة، وفي ذلك إثبات الحاجة إلى إمام في كل زمان، إذ لا فرق ما بين وجوب الشريعة حتى لا تندرس وبين وجوب مؤديها (2) أولا، فإذا لم يتم حفظ ذلك إلا بوجود إمام معصوم، فلا بد من القول به،... " (3).

قال: " واعلم أن التعلق بذلك في أنه لا بد من حجة في كل زمان لا يصح، لأنه قد يجوز عندنا أن يخلو التكليف العقلي من الشرعي - على

____________

(1) وقالوا، خ ل.

(2) موردها، خ ل وكذلك هي في المغني.

(3) المغني 20 ق 1 / 68.

الصفحة 179 

ما بيناه من قبل - فإذا لم يكن شرع لم تجب الحاجة إلى حجة في الزمان، وإنما يمكن التعلق بذلك في أنه لا بد من حجة بعد وجود الرسل، وهذا أيضا لا يصح لأن في الرسل من يجوز أن يكلف أداء الشريعة إلى من يشاهده ولا تكون شريعته مؤبدة، بل تكون مخصوصة بزمانه وقومه،... إلى آخر كلامه " (1).

يقال له: ما نراك تخرج فيما تحكيه من طرقنا وأدلتنا عن إيراد ما لا نعتمده جملة، ولا نرتضيه دلالة وطريقة، وإيراد ما يتعلق به بعضنا فلا يرتضيه أكثرنا، والمحققون منا، أو تحريف المعتمد (2)، وتنحيته وإزالته عن نظمه وترتيبه، أو حكاية لفظ ربما عبر به بعض أصحابنا، وتفسيره على خلاف المراد وضد الغرض.

فأما هذه الطريقة التي حكيتها آنفا فترتيب الاستدلال بها على خلاف ما رتبته وهو أن يقال: قد علمنا أن شريعته نبينا عليه السلام مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإن التعبد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة، ولا بد لها من حافظ، لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصوما أو غير معصوم، فإن لم يكن معصوما لم يؤمن من تغييره وتبديله (3)، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظ لها - رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة:، لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أن الحافظ لا بد

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 69.

(2) يعني أو إيراد تحريف المعتمد التحريف.

(3) أي تغيير الشريعة وتبديل الأحكام.

الصفحة 180 

أن يكون معصوما استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها.

وهذا على خلاف ما ظنه صاحب الكتاب لأن من أحسن الظن بأصحابنا لا يجوز أن يتوهم عليهم الاستدلال بهذه الطريقة مع تصريحهم في إثباتها بما يوجب الاختصاص بشريعتنا هذه على وجوب الإمامة في كل عصر وأوان، وقبل ورود الشرع.

فإن قال: وأي فائدة في الاستدلال على وجوب الإمامة بعد نبينا صلى الله عليه وآله ونحن متفقون على وجوبها بعده؟

قيل له: ليس الاتفاق بيننا وبينك يوجب دفع الخلاف من جميع فرق الأمة، وقد علمنا أن في الأمة من يخالف في وجوب الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله (1) فليس يمتنع أن نحاجه (2) بما ذكرناه.

وبعد، فلو كان الوفاق مع جميع الأمة ثابتا في وجوب الإمامة لم يكن وفاقنا على طريقتنا التي ذكرناها، لأنا نوجب الإمامة بهذه الطريقة من جهة حفظ الشريعة، وهذا يخالفنا فيه الكل.

قال صاحب الكتاب: " فعند ذلك يقال لهم: إن شريعة النبي صلى الله عليه وآله وإن كان لا بد من أن تكون محفوظة فمن أين

____________

(1) كأبي بكر الأصم من المعتزلة، والخوارج فقد كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ويذهبون أنه لا حاجة إلى الإمام، وجعلوا شعارهم " لا حكم إلا الله " ومرادهم لا إمرة إلا الله فقال علي عليه السلام " كلمة حق أريد بها باطل، نعم لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة " الخ كلامه عليه السلام ولكنهم رجعوا عن هذا القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي.

(2) نحاجه: تغلبه بالحجة عندما ترد عليه.

الصفحة 181 

أنها لا تحصل محفوظة إلا بالإمام المعصوم؟ وهل عولتم في ذلك إلا على دعوى فيها تخالفون؟.

ويقال لهم: هلا (1) جوزتم أن تصير محفوظة بالتواتر كما صارت واصلة إلى من غاب عن الرسول في زمنه بطريق التواتر فإن منعوا من ذلك لزمهم إثبات حجة وهو عليه السلام حي كما يقولون بإثباته بعد وفاته، إذ العلة واحدة، ومتى قالوا في حال حياته أنه يصل إلى من غاب [ عنه ] بالتواتر فكذلك من بعده،... " (2) يقال له: " أما قولك: " وهل عولتم إلا على دعوى فيها تخالفون ".

فقد بينا أن الحافظ ليس يخلو من أن يكون الأمة أو الإمام، وأبطلنا أن تكون الأمة هي الحافظة فلا بد من ثبوت الحفظ للإمام وإلا وجب أن تكون الشريعة مهملة.

فأما إلزامك تجويز حفظها بالتواتر على حد ما كانت تصل الأخبار في حياة الرسول صلى الله عليه وآله إلى من غاب عنه فقد رضينا بذلك، وقنعنا بأن نوجب في وصول الشريعة إلينا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ما نوجبه في وصوله إلى من غاب عنه حال حياته، لأنا نعلم أنها كانت تصل إلى من بعد عنه صلوات الله عليه وآله بنقل وهو عليه السلام من ورائه، وقائم بمراعاته، وتلافي ما ثلم (3) فيه من غلط وزلل، وترك الواجب، فيجب أن يكون من وراء ما ينقل إلينا بعد وفاته من شريعته معصوم يتلافى ما يجري في الشريعة من زلل وترك الواجب كما كان ذلك في

____________

(1) " هلا " ساقطة من المغني.

(2) المغني 20 ق 1 / 70.

(3) كذا بالأصل والمظنون " ما يلم " أي ينزل به وفي خ " ما يتم ".

الصفحة 182 

حياته وإلا فقد اختلف الحال، وبطل حملك أحدهما على الأخرى.

فأما قولك: " لزمهم إثبات حجة وهو عليه السلام حي " فعجيب، وأي حجة هو أكبر من النبي المعصوم المؤيد بالملائكة والوحي صلوات الله عليه [ وآله ]؟!.

وكيف تظن أنا إذا أوجبنا أن يكون وراء المتواترين حجة أن لا نكتفي بالنبي صلى الله عليه وآله وهو سيد الحجج في ذلك.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: " خبرونا عن الحجة والإمام الذي يحفظ الشرع، أيؤديه إلى الكل أو إلى البعض؟ ولا يمكن أن يلقاه الكل فلا بد من أن يؤدي إلى البعض قيل لهم: أفليس الشرع يصل إلى الباقين (1) بالتواتر، فهلا جوزتم وصول شرعه عليه السلام إلينا بمثل هذه الطريقة ويستغنى عن الحجة كما يستغنى عن حجج ينقلون الشرع عن الحجة... " (2).

يقال له: الإمام عندنا مؤد للشرع إلى الكل فبعضه مشافهة، وبعضه بالنقل الذي هو من ورائه، فمتى لم يؤد ووقع تفريط فيه من الناقلين تلافاه بنفسه أو بناقل سواهم، فإن الزمت في نقل الشريعة مثل هذا فما نأباه، بل هو الذي ندعو إليه ونحدو (3) على اعتقاده، وهو أن تكون الشريعة منقولة، وفي الناقلين حافظ لها، ومراع لما يعرض فيها، ومتلاف لما يفرط فيه الناقلون ويعدلون عن الواجب عليهم في أدائه.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: يلزمكم على هذه العلة

____________

(1) غ " إلى الناس ".

(2) المغني 20 ق 1 / 70.

(3) نحدو: نحث، كأنه مأخوذ من حدو الإبل: أي سوقها والغناء لها.

 

 

الصفحة 183 

فيمن لا يعرف الإمام أن لا يعلم شيئا من الشرع، فإذا صح أن يعرف بالتواتر أركان (1) الشرع كالصلاة وغيرها، ويستغنى في ذلك عن الإمام فهلا جاز مثله في سائرها،؟... " (2).

يقال له: أما من لا يعرف الإمام في الحقيقة بعد الرسول صلى الله عليه وآله ومن كان بعده من أبنائه الأئمة الراشدين عليهم السلام ولم يرجع في الشرع إلى ما نقل عنهم، وأخذ من جهتهم فإنه لا يعرف كثيرا من الشرائع، ولم يدل على ذلك إلا فزع خصومنا إلى الظن والاستحسان في أكثر الشرائع والحوادث، وقد بينا أن ما فزعوا إليه لا يوجب معرفة، ولا يثمر علما.

فأما أركان الشرع كالصلاة وغيرها فليس يمتنع أن يعرف [ ها ] الخصوم بالتواتر، ولم نقل: إن الإمام يحتاج إليه لتعرف صحة دلالة التواتر، بل لنتيقن بأنه لم ينكتم عنا شئ من أمور الدين.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: من جملة الشريعة الإيمان بالإمام، والمعرفة به وبأحواله فلا بد من نعم (3)، ولأنه من أعظم أمر الدين عندهم.، قيل لهم: أيعلم ذلك بالتواتر أم من جهة الإمام؟.

فإن قالوا: من جهة الإمام.

قيل لهم: فكيف يعلم من جهته كونه إماما؟ وإنما يعلم صدقه بعد العلم بأنه إمام، فلا بد من الرجوع إلى أن ذلك يعلم بالتواتر.

____________

(1) في المغني " أو كان " وهو تحريف واضح لا يستقيم منه المعنى.

(2) المغني 20 / 71.

(3) أي لا بد من الجواب ب " نعم ".

الصفحة 184 

فيقال لهم: فإذا استغني به (1) عن الإمام في هذا عن الشريعة فهلا جاز أن يستغني به في سائرها؟... " (2).

يقال له: أما المعرفة بوجود الإمام في الجملة، وصفاته المخصوصة فطريقه العقل، وليس يفتقر فيه إلى التواتر، ولا إلى القول بالإمام، وقد مضى طرف من الدلالة على هذا.

وأما العلم بأن الإمام فلان دون غيره فيحصل بالتواتر، وبقول الإمام أيضا، مع المعجز، لأن المعجز إذا دل على صدقة، وأمن من كذبه وادعائه أنه الإمام الذي احتج الله تعالى به على الخلق وجب تصديقه والتسليم لقوله، كما أن المعجز إذا دل على صدقة النبي وجب التسليم لكل ما يدعيه ويؤديه، والقطع على صدقه فيه، وهذا بخلاف ما ظننته من أن كون إماما لا يصح أن يعلم من جهته من حيث توهمت أن صدقه لا يصح أن يكون معلوما قبل إمامته.

فأما قولك: فإذا استغني به عن الإمام - وأنت تعني التواتر - فهلا جاز أن يستغنى به في سائر الشريعة،؟ فما استغني قط في التواتر عن الإمام، بل وجه الحاجة فيه إليه (3) ظاهر لأنا قد بينا أن المتواترين كان يجوز أن لا ينقلوا ذلك فلا نعلمه من جهة النقل، وبعد أن نقلوه يجوز - أيضا - أن يعدلوا عن نقله فإذا تسقط الحجة به في المستقبل، فكيف توهمت الاستغناء عن الإمام فيما نقل؟ على أنه لو سلم لك استظهارا وإيجابا لإقامة الحجة من كل وجه أن التواتر بالنص على الإمام يستغنى عنه

____________

(1) أي بالتواتر.

(2) المغني 20 ق 1 / 71.

(3) الضمير في " فيه " للتواتر. وفي " إليه " للإمام لأنه يكون من وراء المتواترين.

الصفحة 185 

فيه، وكذا كل ما كان حكمه حكم النص عليه من الشريعة التي تواتر بها النقل وتظاهر لم يكن ما ذكرته قادحا في الطريقة التي استدللنا بها على وجوب وجود الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله لحفظ شريعته، وذلك أن جميع الشريعة - التي كلامنا فيها - ليس بمتواتر به، بل أكثرها مفقود فيه التواتر عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله، فالحاجة إلى الإمام في الشريعة إذا قائمة من حيث بينا وإن سلم أن ما ورد به التواتر منها مستغنى فيه عن الإمام.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: يجب على هذه العلة (1) في هذا الزمان والإمام مفقود أو غائب أن لا نعرف الشريعة، ثم لا يخلو حالنا من وجهين:

إما أن نكون معذورين وغير مكلفين لذلك، فإن جاز ذلك فينا ليجوزن في كل عصر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وذلك يغني عن الإمام وتبطل علتهم (2).

وإن قالوا: بل نعرف الشريعة لا من قبل الإمام.

قيل لهم: فبأي وجه يصح أن نعرفها، يجب جواز مثله في سائر الأعصار، وفي ذلك الغنى عن الإمام في كل عصر،... " (3).

يقال له: قد بينا أن الفرقة المحقة القائلة بوجود إمام حافظ للشريعة هي عارفة بما نقل من الشريعة عن النبي صلى الله عليه وآله وما لم ينقل عنه فبما نقل عن الأئمة القائمين بالأمر بعده عليه السلام وواثقة بأن

____________

(1) وهي حفظ الشريعة بوجود الإمام.

(2) في المغني " عليهم " وهو تحريف قطعا.

(3) المغني 20 ق 711.

الصفحة 186 

شيئا من الشريعة يجب معرفته لمن لم يخل به من أجل كون الإمام من ورائها. وبينا أن من خالف الحق وضل عن دين الله تعالى الذي ارتضاه لا يعرف أكثر الشريعة لعدوله عن الطريق الذي يوصل إلى العلم بها، ولا يثق بأن شيئا مما يلزمه معرفته لم ينطو عنه وإن أظهر الثقة من نفسه، ولا يجب أن يكون من هذا حكمه معذورا لتمكنه من الرجوع إلى الحق.

فأما قولك: " إن قالوا بل نعرفها لا من قبل الإمام " فإن أردت إمام زماننا فقد بينا إنا قد عرفنا أكثر الشريعة ببيان من تقدم من آبائه عليهم السلام، غير أنه لا نقضي الغني في الشريعة من الوجه الذي تردد في كلامنا مرارا.

وإن أردت أن تعرف الشريعة لا من قبل إمام في الجملة بعد الرسول صلى الله عليه وآله فقد دللنا على بطلان ذلك.

وبعده وإن تقدم أكثر ما اختلف فيه من الشريعة لولا ما نقل عن الأئمة من آل الرسول صلى الله عليه وآله فيه من البيان لما عرف الحق، وإن من عول في الشريعة على الظن فقد خبط (1) وضل عن القصد، وبينا - أيضا - أن جميع الشريعة لو كان منقولا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقف منها شئ على بيان الأئمة بعده عليه السلام لكانت الحاجة إليهم فيها قائمة من حيث كان يجوز من نقلها فعلمناها أن لا ينقلها، وبعد أن نقلها أن يعدل عن نقلها فلا يعلم في المستقبل (2).

وقد تكرر هذا المعنى دفعة بعد أخرى، والعذر فيه لنا ما استعمله صاحب الكتاب من ترداد التعلق بالشئ الواحد وتكراره.

____________

(1) خبط: سار على غير هدى ومنه قيل: خبط عشواء وهي الناقة التي في بصرها ضعف إذا مشت لا تتوقى شيئا.

(2) أي ويجوز عدوله عن النقل بعد ذلك فلا يعلم ذلك المنقول في الزمن المستقبل.

الصفحة 187 

وقال صاحب الكتاب: فإن قالوا: ليس كل ما شرع (1) النبي " صلى الله عليه وآله ثابتا بالتواتر. فكيف يصح ما تعلقتم به؟ (2).

قيل لهم: إنا أردنا أن نبين أن حفظ ذلك ممكن بالتواتر، وأن ذلك يسقط علتهم لأن قولهم بالحاجة إلى الإمام إنما يمكن متى ثبت لهم أن حفظ الشريعة لا يمكن إلا به، فإذا أريناهم أنه يمكن بغيره فقد بطلت العلة.

فأما أن نقول في جميع الشريعة أن محفوظ بالتواتر، فبعيد (3)، بل فيها ما نقل بالتواتر، وفيها ما تلقته (4) الأمة بالقبول وأجمعت عليه، وقد علمنا بالدليل أنهم لا يجتمعون على خطأ، وفيها ما يثبت (5) بالكتاب المنقول بالتواتر، وفيها ما يثبت (5) بخبر يعلم صحته باستدلال على ما قدمناه من قبل، وفيها ما يثبت بطريقة الاجتهاد من قياس وخبر واحد، وكل ذلك يستغنى فيه عن الإمام...) (6) يقال له: ليس ينفعك إمكان التواتر بجميع الشريعة إذا أقررت بأن أكثرها أو بعضها لا تواتر فيه، ولا يكون ذلك معترضا للطريقة التي نحن في نصرتها، وأنت في نقضها، ولا قادحا في استمرارها، لأنا في الاستدلال بهذه الطريقة أوجبنا الحاجة إلى الإمام في الشريعة لأمر يخصها، ولأحوال هي عليها، تقتضي الحاجة إليه فيها، وإذا لم يكن جميع ما يحتاج فيه منها متواترا فقد ثبت الحاجة إليه حجة، ولا اعتبار بإمكان التواتر في

____________

(1) غ " شرعه ".

(2) وهو عدم الاستغناء عن الإمام بالتواتر.

(3) غ " فلا ".

(4) غ " نقلته الأمة ".

(5) غ " ثبت " في الموضعين.

(6) المغني 20 ق 1 / 72.

الصفحة 188 

جميعها، على أنا قد بينا أن التواتر لا يجوز أن تحفظ به الشريعة واستقصيناه وأحكمناه.

فأما الاجماع فلا حجة فيه إذا لم يقطع على أن في جملة المجمعين معصوما يؤمن غلطه وزلله، لأن الخطأ يجوز على آحاد الأمة وجماعاتها، وليس يجوز أن يكون اجتماعها عاصما لها، ولا مؤمنا من وقوع الخطأ منها، ومن هذه حاله لا يجوز أن يحفظ الله تعالى به شرعا.

فأما الكتاب فليس يجوز الاقتصار عليه في حفظ الشرع. لأن أكثر الشرائع (1) ليس في صريحه بيانها على التفصيل والتحديد، وهو مع ذلك لا يترجم (2) عن نفسه، ولا ينبئ عن معناه وتفصيله وتأويله، ولا بد له من مترجم ومبين.

فإن قيل: إنه الرسول صلى الله عليه وآله لم ندفع ذلك إلا أنه لا بد لمن لم يشاهد زمن الرسول من أن يتصل ذلك به، ويكون له طريق إلى معرفته، فإن كان الطريق هو التواتر والاجماع فقد مضى ما فيهما، وهذا يوجب الرجوع إلى أنه لا بد من حجة مبلغ لما يقع من بيان الرسول صلى الله عليه وآله للكتاب.

وأما الاجتهاد والقياس فقد دللنا على بطلانهما في الشريعة وأنهما لا ينتجان علما ولا فائدة، فضلا عن أن يحفظا الشريعة وحال أخبار الآحاد في فساد حفظ الشريعة بها أظهر من كثير مما تقدم، لأنها لا توجب علما، وهي - أيضا - متكافئة متقابلة، وواردة بالمختلف من الأحكام والمتضاد، وما يعتمد في قرائنها إما أن يكون على طريقة خصومنا الاجماع أو القياس،

____________

(1) يريد الأحكام.

(2) يترجم: يبين. وكان علي عليه السلام يقول: (أنا ترجمان القرآن).

الصفحة 189 

وليس مطابقة شئ من ذلك لها بموجب لصحتها والقطع عليها.

قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: إن أهل التواتر وإن كانوا حجة فقد يصح عليهم السهو عما ينقلون في بعض الأحوال، أو في كل حال، فلا بد من حافظ يزيل سهوهم، وينبه على كتمانهم، ولا يجوز عليه ما يجوز عليهم.

قيل لهم: إن أهل التواتر (1) علمهم به ضروري لا يزول بفعلهم، بل القديم تعالى يفعله فيهم، وكمال العقل في الجمع العظيم يقتضي أن لا ينسوا ما حل هذا المحل، ولو جاز السهو في ذلك لم نأمن من (2) حصول السهو في علمهم بالمشاهدات فتختل (3) معرفتنا بالبلدان والملوك، وفساد [ يبطل ] (4) ذلك ما قالوه ويجب أن لا يؤمن فيمن لا يعرف الإمام أن لا يعرف الصلاة والصيام والأمور الظاهرة في الشريعة، بل كان يجوز (5) الاخلال في نقل القرآن، ونقل كون الرسول في الدنيا، وثبوت إعلامه (6)... " يقال له: ليس كل ما علم ضرورة لا يصح أن يسهى عنه، وإنما يستبعد سهو العاقل والعقلاء في العلوم التي هي من جملة كمال عقولهم، كالعلم بأن الاثنين أكثر من واحد، وأن البشر لا يطابق الذراع، والموجود لا يخلو أن يكون قديما أو محدثا، إلى ما شاكل هذه العلوم وهي

____________

(1) غ " إن الذي ينقله أهل التواتر " وليس بمستقيم.

(2) غ " لم يؤمن ".

(3) " فتحيل " وفي الشافي " وهذا يختل " فآثرنا ما أثبتناه.

(4) ساقطة من الأصل وأعدناها من المغني.

(5) غ " وتجويز ".

(6) المغني 20 ق 1 / 72.

الصفحة 190 

كثيرة، أو فيما تكرر علمهم به، ومشاهدتهم له من جملة المشاهدات كامتناع سهو العاقل عن اسمه، وما يتكرر علمه به، وإدراكه له من لباسه وأعضائه، وليس بمنكر أن يسهو العاقل في أشياء مخصوصة وإن علمها ضرورة إذا كانت خارجة عما ذكرناه، لأنا نعلم أن الانسان قد يسهو عما أكله في أمسه، وصنعه في عمره، وإن كان علمه بذلك عند حصوله ضروريا فكيف أحلت (1) على أهل التواتر السهو من حيث علموا ما تواتروا به ضرورة، فإن عنيت بما ذكرته إحالة السهو على جميعهم أو على الجمع العظيم منهم فهو مما لا نأباه، ولا ينفعك وقد تقدم في كلامنا أن العادات قاضية بامتناع السهو على الأمم العظيمة في الشئ الواحد في الوقت الواحد، غير أن ذلك وإن كان باطلا لم يسقط عنك ما بينا لزومه، لأنه وإن امتنع السهو على المتواترين جميعا في حالة واحدة عما نقلوه فغير ممتنع أن يسهو بعضهم عنه في حال، وبعض في حال أخرى، إلى أن يخرج الخبر من أن يكون متواترا، وهذا أيضا مما قد تقدم.

وهب أن السهو لا يجوز على المتواترين في جماعاتهم ولا في آحادهم - حيثما ادعيت -، ما المانع من عدولهم عن النقل تعمدا لبعض الأغراض والدواعي؟ وقد بينا فيما سلف من كتابنا جواز ذلك عليهم، وأن في جوازه بطلان كونهم حجة، وصحة ما نذهب إليه من وجود إمام حافظ للشريعة.

 

فأما المعرفة بالبلدان والملوك فمخالفة لما ذكرناه وإلزامك لنا الشك في أمرها لا يلزمنا.

أما السهو عن البلدان والظاهر الشائع من أخبار الملوك فإنا لا نجيزه

____________

(1) أي جعلته محالا.

الصفحة 191 

لما قدمناه في كلامنا آنفا من استحالة السهو على العقلاء فيما تكرر علمهم به، وإدراكهم له، ولحق هذا القسم من حيث تكرر العلم فيه بالقسم الذي أحلنا سهو العقلاء عنه.

وأما تعمد العقلاء كتمان أمر البلدان قياسا على جواز كتمان العبادات والشرائع على الأمة فيستحيل لأنه لا داعي للعقلاء إلى كتمان أمر البلدان وما أشبهها يعرف ولا غرض (1)، بل كل داع معقول يدعو إلى نقلها ونشر خبرها، لأن تصرف الناس في تجاراتهم وأسفارهم وكثير من معائشهم يقتضي ذلك. ويوجب أن بهم إليه أمس الحاجة. وما كانت دواعي الإذاعة فيه قائمة وعلم استمرارها في كل زمان لا يجوز كتمانه، لأن الكتمان لا يقطع إلا بداع قوي، وغرض ظاهر، وكل ذلك مفقود في أمر البلدان مع ما بيناه من ثبوت الدواعي إلى نقل خبرها وإشاعته.

فأما ما نقل من كون الرسول في الدنيا فهو جار مجرى ما تقدم من أحوال البلدان من وجه، لأنه لا غرض لعاقل في كتمان دعاء داع إلى نفسه على وجه الظهور، ويجوز أن يكون محقا ويجوز أن يكون مبطلا، ولأن من اعتقد تكذيبه لا يمنعه هذا الاعتقاد من نقل خبره، لأن العقلاء قد يخبرون عن حال الصادق والكاذب، والمحق والمبطل.

فأما نقل القرآن، ونقل وجود الإعلام سوى القرآن فهو مما لا يمتنع حصول الدواعي إلى كتمانه، وقد يجوز من طريق الإمكان وقوع الإخلال به (2)، وليس على أن يقدر أن الحال في المصدقين به صلى الله عليه وآله في الكثرة والظهور هذه، بل بأن يقدر أن المصدق للدعوة كان في الأصل واحدا أو اثنين، وكان من عداه مكذبا معاديا فلا يمتنع مع هذا

____________

(1) أي ليس هناك داع ولا غرض يعرف للعقلاء في تعمد الكتمان.

(2) أي بالنقل.

الصفحة 192 

التقدير الاخلال بنقل الإعلام بأن يدعو المكذبين دواعي الكتمان إليه، وينفر المصدقون لضعف أمرهم، غير أن هذا مما يؤمن وقوعه لقيام الدلالة عندنا على أن لله تعالى حجة في كل زمان حافظا لدينه، مبينا له متلافيا لما يجري فيه من زلل وغلط لا يمكن أن يستدركه غيره.

فأما الصلاة والصيام والأمور الظاهرة في الشريعة فليس يلزم على هذه الطريقة أن لا يعرفها إلا من عرف الإمام وإلزام صاحب الكتاب ذاك ظلم أو سهو، لأنه لا علة لنا توجبه.

وقد بينا أنه لا يمتنع أن يعرف الصلاة والصيام وما أشبهها بالتواتر من لا يعرف الإمام غير أنه وإن عرف ذلك لا يكون واثقا بأن شيئا مما يجري مجرى هذه العبادة من العبادات لم ينطو عنه، وأنه وإن أظهر الثقة بذلك فهو غير واثق في الحقيقة ولا متيقن.

فأما ما لا يزال يعارضنا به الخصوم في هذا الموضوع من قولهم:

جوزوا أن يكون القرآن قد عورض بمعارضة هي أبلغ منه وأفصح فكتم ذلك المسلمون لغلبتهم وقوتهم، وخوف المخالفين منهم فهو ساقط بما أصلناه في كلامنا، لأنا قد بينا أن ما دواعي النقل فيه ثابتة لا يلزمنا تجويز كتمانه، وقد علمنا أن لكل من خالف الملة من الدواعي إلى نقل معارضة القرآن لو كانت مما لا يجوز أن يقعدوا معه عن نقلها لخوف أو لغيره ولأن فيهم من لا يخاف جملة لحصوله في بلاد عزه ومملكته كالروم ومن جرى مجراهم، ولأن الخوف - أيضا - لا يمنع من النقل كما لم يمنعهم من نقل كثير مما يسخط المسلمين ويغضبهم من سب النبي صلى الله عليه وآله وقذفه وهجائه، ولأن الخوف إنما يمنع - إن منع - من التظاهر بالنقل، ولا يمنعهم من الاستسرار به، وفي نقله على جهة الاستسرار ما يوجب اتصاله بنا، وفي إفساد هذه المعارضة وإبطاله وجوه كثيرة، ولعلنا أن نستقصيها

الصفحة 193 

فيما يأتي من الكتاب عند الكلام في النص على أمير المؤمنين عليه السلام.

وجملة ما يعقد عليه هذا الباب أن كل شئ كانت الدواعي إلى نقله للعقلاء أو لبعضهم ثابتة معلومة لم يجز كتمانه، وفي كل شئ جاز أن يدخل فيه دواعي النقل ودواعي الكتمان معا جوزنا فيه الكتمان، فاعتبر كل ما يرد عليك من أعيان المسائل هذا الاعتبار، فما لحق بما يسوغ فيه دواعي الكتمان أجزته، وما لم يسغ أحلته.

إلا أن ما يسوغ فيه الكتمان وحصول الدواعي إليه على ضربين:

منه ما يجب إذا كتم أن يبينه إمام الزمان ويظهره لتقوم الحجة به وهو ما كان من قبيل العبادات والفرائض، وما يجب على المكلفين العلم به، ومنه ما لا يجب فيه ذلك - وإن كتم - كأكثر الحوادث التي تجري من الناس في متصرفاتهم التي لا تعلق لها بشرع ولا دين.

قال صاحب الكتاب: " فأما ما يصير محفوظا بالاجماع فقد علمنا بالدليل أنه لا يجوز على الأمة فيه الخطأ، ولا يجوز عليهم الذهاب عن الحق، ولا بد من كون الحق محفوظا فيهم حتى لا يخلو الزمان ممن يحفظ الشرع والحق، فإما أن يكون واحدا بعينه أو جماعة، وإما أن يكون كل ذلك في واحد أو جميع الشرع في الجماعة، وإذا ذهب بعضهم عنه أمكنهم معرفته ممن يحفظه وينبهه على ذلك من هو حافظ له، وكذلك القول في سائر الأدلة، فمن أين أنه لا بد من الحاجة إلى الإمام؟... " (1).

فيقال له: ليس يجوز أن تكون الأمة حافظة للشرع لأن الغلط جائز على آحادها وجماعاتها كما بيناه فيما تقدم، وليس يرجع خصومنا في الاستدلال على أنهم لا يجمعون على خطأ، وإن كان العقل مجوزا

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 72.

الصفحة 194 

اجتماعهم عليه إلى خبر واحد يجعلون إجماعهم وإمساكهم عن النكير على راويه (1) دليلا على صحته، ولم يثبت أنهم أجمعوا عليه في الحقيقة حسب ما ادعوه، ولو ثبت لم يصح الاستدلال على الاجماع وصحته بأمر لا يعلم أنه دليل إلا بعد صحة الاجماع، لأن لخصمهم أن يقول: جوزوا أن يكون إجماعهم على تصديق هذا الخبر، وترك النكير على رواته من جملة الخطأ الذي يجوز اجتماعهم عليه، فكأن الذاهب إلى صحة الاجماع والمستدل عليه بهذه الطريقة يقول: الدليل على صحة الاجماع نفس الاجماع، ويرجعون إلى ظاهر آيات لا دلالة في ظاهرها ولا في فحواها على صحة إجماع الأمة، بل أكثرها يتضمن أوصافا من المدع أكثر الأمة لا تستحقه، ولا يستجيز عاقل وصفهم به.

وقد بين الكلام في هذه الآيات، والصحيح في تأويلها في غير موضع.

ولم يستعمل صاحب الكتاب فيما ادعاه من صحة الاجماع شيئا من الحجاج فننقضه عليه، بل اقتصر على الدعوى (2) وأحال على ما ادعى أنه ذكره في غير هذا الموضع فلهذا لم نستقص الكلام واقتصرنا على هذه الجملة وهي كافية.

على أنا لو سلمنا له " أن الأمة لا تجتمع على خطأ " لم يغن ذلك عنه شيئا فيما ادعاه من كونها حافظة للشرع، لأنه قد اعترف في كلامه بأنه قد يجوز على بعضها الذهاب عن الحق في الشرع حتى يبقى الحق في جماعة من جملتها، ولا بد له من الاعتراف بذلك، لأن ما يدعي في صحة إجماعها لو صح لكان دالا على أنها لا تجتمع على الخطأ، فأما أن يكون دالا على

____________

(1) خ " ليس على راويه " ولا وجه له.

(2) اقتنع بالدعوى، خ ل.

الصفحة 195 

أن كل حق فلا بد من اجتماعها عليه فليس مما يمكن أن يدعى، وقد علمنا أن بعضها إذا ذهب عن الحق، وبقي الحق في بعض آخر فإن البعض الذي ثبت الحق فيه ليس بإجماع، ولا يكون قولهم حجة على من ذهب عن الحق، لأنه ليس بكل الأمة الذي يدعى أن الخطأ لا يجوز عليها إذا اجتمعت.

 

فإن قيل: يكون قول البعض حجة بدليل سوى الاجماع إما بالتواتر أو غيره.

قلنا: ليس هذا هو الذي نحن فيه، لأن كلامنا على أن الشرع هل يصح حفظه بالاجماع أم لا؟ وإذا كان على القول دليل ثابت وجب الرجوع إليه من غير اعتبار الاجماع فيه أو الخلاف، وقد مضى في التواتر وأنه مما لا يصح حفظ الشرع به ما مضى.

قال صاحب الكتاب: " ولا بد لهم من التعلق بمثل ذلك في نقل الخبر الذي به يعلم كون الإمام وصفته، والنص على كونه إماما إلى غير ذلك، فإذا استغنى في كل ذلك عن الإمام، وقيل فيه: إن السهو والكتمان لا يقع فيه، فكذلك القول فيما عداه من الشرع، ولا يمكنهم أن يقولوا: إنه يعلم إماما بالمعجز، لأنا قد دللنا من قبل على أن ظهوره على غير الأنبياء لا يصح، ولأن المعجز لا بد من نقله، فإذا جعلوه محفوظا بالتواتر، ومنعوا فيه السهو والكتمان لزم مثله في سائر ما ذكرناه،... " (1).

فيقال له: أما وجود الإمام وصفاته المخصوصة فليس يحتاج في العلم بها إلى خبر، بل العقل يدلنا على ذلك على ما بيناه.

فأما النص على عين الإمام واسمه فنعلمه من طريق الخبر، ويجوز

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 72.

الصفحة 196 

فيه الكتمان، ولو وقع لظهر الإمام، ودل على نفسه بالمعجز وبين عن الكتمان، وكان الناظر في النص على الإمام بعينه لم يكلف ما ذكرناه إلا بعد أن قطع الله تعالى عذره بعقله في وجود إمام معصوم في كل زمان، وأنه لو كتم النص على اسمه بعينه لوجب عليه البيان عنه، وإقامة الحجة فيه، وليس جهله بأن الإمام فلان دون غيره يقدح في ثقته (1) بما بيناه، لأنه وإن جهل كونه فلانا فهو يعلم أن لله تعالى في أرضه حجة حافظا لدينه، فمن هذا الوجه يثق ويسكن، وإنما غلط صاحب الكتاب من حيث ظن أن بالتواتر يعلم كون الإمام وصفته، ولو فطن لما اعتمدناه لعلم سلامة مذهبنا من الخلل.

فأما نفيه إظهار المعجز على الإمام فما اعتمد فيه إلا على الحوالة على ما قدمه في كتابه، ولو اقتصرنا على مثل فعله وأحلنا على ما في كتبنا، وما سطره أصحابنا - رضوان الله عليهم - في جواز ما أحاله لكفانا، غير أنا نجري على عادتنا في عقد كل ما يمضي في كلامنا من دعوى بدليل يمكن إصابة الحق منه.

والذي يدل على جواز إظهار المعجزات على يد من ليس بنبي أن المعجز هو الدال على صدق من يظهر على يده فيما يدعيه، أو يكون كالمدعى له لأنه يقع موقع التصديق ويجري مجرى قول الله تعالى له صدقت فيما تدعيه علي، وإذا كان هذا هو، هو حكم المعجز لم يمتنع أن يظهره الله تعالى على يد من يدعي الإمامة ليدل به على عصمته، ووجوب طاعته، والانقياد له، كما لا يمتنع أن يظهره على يد من يدعي نبوته.

فأما امتناع خصومنا من إظهار المعجزات على يد غير الأنبياء من

____________

(1) فيه نفيه، خ ل أي العذر.

الصفحة 197 

حيث ظنوا أنها تدل على النبوة من جهة الإبانة والتخصيص، وأن دلالتها مخالفة لسائر الدلالات، وأنها إذا دخلت من جهة الإبانة استحال ظهورها على يد من ليس بنبي، كما أن ما أبان السواد والجوهر من سائر الأجناس يستحيل ثبوته لما ليس بجوهر ولا سواد. فباطل، لأن شبهتهم في اعتقادهم أن المعجزات تدل من جهة الإبانة، وأنها تخالف من هذا الوجه سائر الأدلة أنهم وجدوها مما يجب ظهورها وحصولها، وليس بواجب مثل ذلك في سائر الأدلة، لأنه غير منكر أن يثبت كون بعض القادرين قادرا من غير أن يقوم دلالة على أنه كذلك، وليس يسوغ مثل هذا في دلالة المعجزات لأنه لا بد من ظهورها على يد النبي، أو لأنهم رأوا سائر الأدلة لا يخرجها كثرتها من كونها دالة على مدلولاتها لأن ما دل على أن الفاعل قادر لو تكرر وتوالى لم يخرج من أن يكون دالا، وليس هذا حكم المعجزات لأن كثرتها يخرجها من كونها دالة على النبوة، وليس في شئ مما ذكروه ما يوجب كون المعجزات دالة على جهة الإبانة والتخصيص.

أما وجوب حصولها وظهورها على يد النبي ومخالفتها في ذلك لسائر الأدلة فليس بمقتض لما ذكروه، لأنه إنما وجب ذلك فيها من حيث كانت مصالحنا متعلقة بالنبي، وكان مؤديا إلينا، ومبينا لنا من مصالحنا ما لا يصح أن نقف عليه إلا من جهته، وإذا وجب على القديم تعالى تعريفنا مصالحنا، ولم يمكن أن نعرفها من جهة من لا نقطع على صدقه وجب أن يظهر المعجز على يد النبي لهذا الوجه، وليس يجب هذا في سائر الأدلة، لأنه ليس يجب أن يعرف أحوال كل قادر في العالم، ولا تتعلق هذه المعرفة بشئ من مصالحنا، من أن في الأمور العقلية ما يجب قيام الدلالة عليه، ولا يقتضي ذلك من حاله مخالفته لسائر الأدلة، ووجوب كونه دالا من جهة الإبانة.

فأما ما حكاه ثانيا فإنه غير صحيح، لأن كثرة المعجزات وتواتر

الصفحة 198 

وقوعها يخرجها من أن تكون واقعة على الوجه الذي يدل عليه، لأن أحد الشروط في دلالتها كونها ناقضة للعادة، ومتى توالى وجودها وكثر حصلت معتادة، وبطل فيها انتقاض العادة فلم تدل من هذا الوجه، وليس كذلك حكم سائر الأدلة لأن تواترها وتوالي وجودها يؤثر في وجه دلالتها، ألا ترى أن ما دل على أن الحي منا قادر لا تتغير دلالته بكثرته وتواليه من حيث لم تكن الكثرة مؤثرة في وجه الدلالة، وكما أنه غير ممتنع أن يدل قدر من الأفعال المحكمة على كون فاعله عالما ولا يدل ما هو أنقص منه، ويخالف من هذا الوجه ما يدل على أن الحي قادر في أن يسيره وكثيره دال ولم يوجب مع ذلك مخالفته له ولسائر الأدلة في معنى الإبانة، بل كانت دلالة الجميع على حد واحد وإن كان بينهما الاختلاف الذي ذكرناه فكذلك غير ممتنع أن يدل المعجزات على النبوة إذا لم تبلغ حدا من الكثرة وإن كانت لو كثرت لخرجت من كونها دالة، ولا يجب أن تكون مخالفة لسائر الأدلة في معنى الإبانة.

فأما ما يقوله بعضهم من أن المعجزات لو ظهرت على يد غير الأنبياء لاقتضى تجويز ظهورها على غيرهم التنفير عن النظر فيها إذا ظهرت على أيديهم.

وقولهم: إن النظر فيها إنما وجب من جهة الخوف لأن تكون لنا مصالح لا نقف عليها إلا من جهتهم، وإذا جوزنا ظهورها على يدي من ليس بنبي ارتفعت جهة الخوف، وكان هذا سببا قويا في النفور عن النظر، والاضراب عن تكلفه، فشبيه في البطلان بما تقدم، لأن من له العلم المعجز ودعي إلى النظر فيه يلزمه النظر وإن كان مجوزا أن يكون من ظهر عليه ليس بنبي، لأنه وإن جوز ذلك فهو غير آمن من أن يكون له مصالح لا يقف عليها إلا من جهته فيجب عليه النظر في المعجز ليعلم

الصفحة 199 

صدق المدعي ويرجع إلى قوله في كونه نبيا أو إماما، أوليس بنبي ولا إمام، ولو لزم النفور عن النظر لأجل تجويز الناظر أن يكون من ظهر على يده العلم ليس بنبي للزم من مثله النفور إذا كان الناظر قبل نظره في المعجز مجوزا أن يكون شعبذة ومخرفة (1)، وغير دالة على الصدق، والناظر لا بد قبل نظره من أن يكون مجوزا لما ذكرناه، فإن لزمه النظر مع هذا التجويز ولم يكن منفرا له ولا مسقطا لوجوب النظر عليه فالتجويز أيضا فيمن ظهر عليه العلم أن يكون غير نبي غير منفر، ولا مسقطا لوجوب النظر، على أن من ظهر العلم على يده لا يخلو من أن يكون ممن تتعلق مصالحنا به وبمعرفته كالنبي والإمام أو لا يكون كذلك كالصالحين الذي يجوز أن يظهر عليهم المعجزات، فإن كان على الوجه الأولى فلا بد من أن يدعونا إلى النظر في علمه ويخوفنا من ترك النظر فيه بفوت مصالحنا، ولا بد من أن يلزمنا النظر مع الخوف، فإن جوزنا قبل النظر في معجزه كونه كاذبا كان هذا التجويز عند الجميع غير مؤثر في وجوب النظر، وإن كان على الوجه الثاني لم يدعنا إلى النظر في علمه ولم يلزمنا النظر فيه فقد زال الالتباس الذي تعلق به القوم، والتنفير لأن من يدعونا إلى النظر في علمه ويخوفنا بفوت مصالحنا لا يجوز أن يكون صادقا، ولا مصلحة لنا معه بل لا يخلو عندنا من أن يكون كاذبا مخرفا، أو صادقا متحملا لمصالحنا، فيلزم النظر في أمره على كل حال، وقد زال الاشتباه على ما ذكرناه بين حال من يجوز كونه متحملا لمصالحنا وبين حال الصالح، فأين التنفير عن النظر في الإعلام لولا ذهاب القوم عن الصواب؟.

ولاستقصاء الكلام في جواز إظهار المعجزات على غير الأنبياء موضع

____________

(1) الشعبذة: الحركات السريعة التي يتخيل الرائي الأشياء على غير حقيقتها والمخرفة: فساد العقل.

الصفحة 200 

غير هذا، ولعلنا أن نفرد له مسألة بمشيئة الله تعالى.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإنا تتبعنا حال أكثر الشرع (1) فوجدنا النقل فيه، والأدلة عليه أظهر من النص على الإمام، بل من كون [ الإمام في بعض الاعتبار ] (2) وسائر صفاته [ في بعض ] الأعصار ]، فكيف يصح أن يجعل (3) العلم بكل ذلك فرعا على الإمام والمعرفة بكونه إماما؟... " (4).

فيقال له: أما كون الإمام ووجوده في كل عصر فطريقه العقل، وقد بيناه ولا نسبة بينه وبين العلم بأكثر الشرع الذي يعتمد فيه الخصوم على الاجتهاد، وطرق الظنون.

فأما النص على عين الإمام واسمه وهو أيضا أظهر من أكثر الشرع وأثبت، لأنا نرجع في تصحيحه إلى أخبار قد أجمع عليها المختلفون من الأمة، ونبين من فحواها الدلالة على النص أو إلى أخبار قد تواترت بها فرقة كثيرة العدد، مشهورة المكان والاعتقاد، وليس في أكثر الشرع أخبار متواترة، ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لم يفزع خصومنا في أكثره إلى الظنون والاستحسان، لأن ما يوجد فيه أخبار متواترة لا يفتقر في تصحيحه إلى غيرها من ظن واجتهاد،.

على أنا لم نجعل العلم بالشرع والثقة بما أدى إلينا منه فرعا على معرفة إمام بعينه، بل جعلناه مسندا إلى ما يعلم بالعقول من وجود إمام معصوم في كل عصر على طريق الجملة يحفظ الشريعة، فلو كان العلم

____________

(1) غ " من تجويز ".

(2) ما بين المعقوفين ساقط فأعدناه من المغني.

(3) غ " يجفل " وهو تصحيف.

(4) المغني 20 / 73.

الصفحة 201 

بأكثر الشرع أظهر من النص على الإمام - كما ظننت - لم يقدح في طريقنا على هذا الوجه.

قال صاحب الكتاب: " على أن المتعالم من حال أمير المؤمنين عليه السلام - وهو الإمام الأول - (1) أنه كان قد يرجع في معرفة بعض الشرائع إلى غيره من الصحابة وقد كان يرجع من رأي إلى رأي، فكيف يمكن ادعاء ما ذكروه من أن الشريعة لا تصير محفوظة إلا بالإمام، والمتعالم من حاله أنه كان يجوز لغيره مخالفته في الفتاوى والأحكام، وكان لا ينكر على من لا يتبع قوله كما ينكر على من لا يتبع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،... (2) ".

يقال له: ما رأينا أعجب من إقدامك على ادعاء رجوع أمير المؤمنين عليه السلام إلى غيره في معرفة الشرائع مع ظهور بطلان هذه الدعوى لكل عاقل سمع الأخبار، وأكثر ما يدل على بطلانها أنك لم تشر إلى شئ رجع فيه إلى غيره من الأحكام، وأرسلت القول به إرسالا فعل من لا خلاف عليه، ولا نزاع في قوله، وكيف يستجيز منصف مثل هذه الدعوى مع ما قد تظاهرت به الرواية وأطبق عليه الولي والعدو من قول النبي صلى الله عليه وآله: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " (3).

____________

(1) يعني في اعتقاد الإمامية.

(2) المغني 20 / 73.

(3) هذا الحديث رواه كثير من علماء أهل السنة، وقد أحصى منهم الشيخ الأميني في الغدير ج 6 من ص 61 - 77 مائة وثلاثة وأربعين عالما بطرق مختلفة، ثم عقب ذلك بقوله: " نص غير واحد من هؤلاء الأعلام بصحة الحديث من حيث السند " قال " وهناك جمع يظهر منهم اختيارها " أي صحة السند، قال: " وكثير من أولئك يرون حسنه، مصرحين بفساد الغمز فيه وبطلان القول بضعفه " ثم ذكر واحدا وعشرين عالما ممن قطع بصحته، ثم ذكر لفظ الحديث برواياتهم كل ذلك مع الإشارة إلى الأجزاء والصفحات من كتبهم وكذلك تعرض السيد في الجزء الخامس من العبقات لمثل ذلك.

 

 

الصفحة 202 

وقوله صلى الله عليه وآله: " أقضاكم علي ". (1) وقوله صلى الله عليه وآله: " علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار " (2).

وقول أمير المؤمنين عليه السلام: " بعثني رسول الله إلى اليمن، فقلت أتبعثني وأنا شاب لا علم لي بكثير من الأحكام؟ فضرب بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، فما شككت في قضاء بين اثنين " (3) وليس يجوز أن يكون أقضى الأمة، ومن الحق معه في كل حال، ومن هو باب العلم والحكمة (4) يرجع إلى غيره في الأحكام، وليس يرجع

____________

(1) أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 3 / 38، والقاضي الإيجي في المواقف 3 / 276 ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، / 235، وأخرجه المحب في الرياض 2 / 298 والخوارزمي في المناقب ص 50 وفي فتح الباري 8 / 136 بلفظ (أقضى أمتي علي).

(2) هذا الحديث أخرجه جمع من الحفاظ والأعلام منهم الخطيب في تاريخ بغداد 14 / 321، والهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 236، والرازي في تفسيره 1 / 111 عند كلامه على الجهر بالبسملة، والكنجي في الكفاية ص 135 وانظر الغدير للأميني ج 3 من ص 177 فما بعدها، والعجب من ابن تيمية يقول في هذا الحديث: " حديث إن رسول الله قال (علي مع الحق، والحق يدور معه حيث دار... الحديث " فإن هذا الحديث من أعظم الكلام كذبا وجهلا، ولم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وآله لا بإسناد صحيح ولا ضعيف " إلى أن قال " ولو قيل رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكنا وهو كذب قطعا على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كلام ينزه عنه رسول الله، منهاج السنة ج 2 / 167!.

(3) رواه الإمام أحمد في المسند ج 2 ح 636 و 666 و 690 و 882 و 1145 و 1281 و 1282 و 1341 وأبو داود في السنن 3 / 301، والشهرستاني في الملل والنحل 1 / 202.

(4) روى أبو نعيم في الحلية 1 / 65 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا).

الصفحة 203 

في الأحكام إلى غيره إلا من ذهب عنه بعضها، وافتقر إلى معرفة غيره فيها، ومن هذا حكمه (1) لا يجوز أن يكون أقضى الأمة، لأن أقضاها لا يجوز أن يغرب (2) عنه علم شئ من القضايا والأحكام.

والظاهر المعلوم خلاف ما ادعاه صاحب الكتاب أنه لا اختلاف بين أهل النقل في رجوع من تولى الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله في معضلات الأحكام، ومشتبهات الأمور إليه وأنهم كانوا يستضيئون برأيه، ويستمدون من علمه.

وقول عمر: " لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو حسن ".

وقوله: " لولا علي لهلك عمر " معروف (3).

فكيف يسوغ لصاحب الكتاب أن يعكس الأمر ويقلبه، ويجعل ما هو ظاهر من الافتقار إليه - صلوات الله عليه - والرجوع إلى فتاويه وأحكامه رجوعا منه إلى غيره؟ وهذه مكابرة لا تخفى على أحد.

____________

(1) يعني في الحاجة إلى غيره.

(2) يغرب: يبعد، وفي نسخة يعزب والمعنى واحد.

(3) رواه بهذا اللفظ جماعة من العلماء منهم ابن عبد البر في الاستيعاب 3 / 39 والمحب في الرياض 2 / 325 والخوارزمي في المناقب ص 48 والسبط في التذكرة ص 67 والشافعي في مطالب السؤول ص 30 طبعة إيران على الحجر، ورواه القسطلاني في إرشاد الساري ج 3 / 162 في كتاب الحج باب ما ذكر في الحجر الأسود بهذا اللفظ (لا أبقاني الله بأرض لست فيها يا أبا الحسن) ورواها السبط في التذكرة 67 (اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب) ورواها ابن كثير في التاريخ 7 / 359 بلفظ: (أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها) وأخرجها المحب في الرياض 2 / 194 عن ابن البختري هكذا (اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو حسن إلى جنبي) وغيرهم وغيرهم ولا شك أنه قالها غير مرة وفي أكثر من موطن.

الصفحة 204 

فأما الرجوع من رأي إلى آخر فقد بينا أنه باطل، وأن أكثر ما يتعلق به خبر عبيدة السلماني وقد قلنا ما عندنا فيه.

ولو ذكر صاحب الكتاب شيئا يمكن أن يكون شبهة في الرجوع عن المذهب، والتنقل في الآراء لبينا كيف القول فيه.

وأما تركه عليه السلام الإنكار على من لا يتبع قوله فقد بينا أن النكير على ضروب، وأنه عليه السلام كان يستعمل مع مخالفيه في الأحكام ما يجب استعماله في مثلها من المناظرة والدعاء (1).

وليس يجب أن يجري كل خلاف مجرى الخلاف في اتباع قول الرسول صلى الله عليه وآله، إن أريد بالخلاف - أيضا - الواقع على طريق الشك في نبوته، وإن أريد ما يقع من الخلاف على طريق دخول الشبهة في مراده أو في ثبوت أمره بالشئ أو نهيه عنه فقد يجوز أن يستعمل في هذا الضرب من الخلاف - يعني الثاني - المناظرة والدعاء الجميل دون غيره.

بل عندنا أن كل من خالفه عليه السلام في الأحكام هذه صورته في أنه راد لقول النبي صلى الله عليه وآله من حيث لا يعلم.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، قالوا: قد ثبت أنه لا بد من إمام يقوم بإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وقسمة الفئ، وحفظ البيضة، إلى غير ذلك، وأن قيامة بذلك لا بد منه، وإن لم نقل أنه يحفظ الشرع، ومعلوم من هذه الأمور أنها لا يجوز أن توكل إلى من يجوز عليه فيها الغلط، لأنها من باب الدين، فتجويز الغلط فيها كتجويز الغلط في سائر الشرائع، وذلك لا يصح إلا بأن يكون معصوما يؤمن سهوه وغلطه، وليس بعض الأئمة بذلك أولى من بعض، لأن العلة واحدة.

____________

(1) أي الدعوة إلى الله تعالى.

الصفحة 205 

وفي ذلك إثبات إمام معصوم في كل زمان على ما نقوله،... " (1) يقال له: وهذه الطريقة أيضا مما لا نعتمده وقد بينا أن التعلق بإقامة الحدود في وجوب الإمامة غير مستمر، لأن العقل يجوز أن لا يتعبد بذلك أصلا، ويجوز أن ينسخ عنا بعد التعبد به، وألزمنا من تعلق بوجوب إقامة الحدود في الدلالة على أن الإمامة واجبة من طرق السمع أن يكون الخطاب بإقامة الحدود متوجها إلى الأئمة في حال إمامتهم، فلا تجب إقامتهم والتوصل إلى كونهم أئمة بذلك، وعارضنا بالزكاة وغيرها (2)، وفساد هذه الطريقة التي حكيتها على الترتيب الذي رتبته أظهر من أن يخفى، وإن كان أكثر ما تكلمت به علينا واستعملته في ردها فاسدا أيضا غير مستمر.

ونحن نبين عنه، ويمكن أن يتعلق بمعنى هذه الطريقة على ضرب من الترتيب في الدلالة على وجوب عصمة الإمام.

فيقال: قد ثبت عندنا وعند مخالفينا أنه لا بد من إمام في الشريعة يقوم بالحدود وتنفيذ الأحكام، وإن اختلفنا في علة وجوب الإمامة، واعتمدنا في وجوبها على طريقة، واعتمدوا على أخرى، وإذا ثبت ذلك وجبت عصمته، لأنه لو لم يكن معصوما وهو إمام فيما قام به من الدين الذي من جملته إقامة الحدود وغيرها وواجب علينا الاقتداء به من حيث قال وفعل لجاز وقوع الخطأ منه في الدين، ولكنا إذا وقع منه ذلك مأمورين باتباعه فيه، والاقتداء به في فعله، وهذا يؤدي إلى أن نكون مأمورين بالقبيح على وجه من الوجوه، وإذا فسد أن نكون مأمورين بالقبيح وجب

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 74.

(2) أي أن الخطاب موجه إلى الأمة بإقامة الحدود كما هو موجه إليهم في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

الصفحة 206 

عصمة من أمرنا باتباعه، والاقتداء به في الدين.

وليس لأحد أن يقول: إنما أمرنا باتباع الإمام والاقتداء به فيما علمنا صوابه من جهة غيره فنحن نتبعه في الذي نعلمه صوابا، وإذا أخطأ في بعض الدين لم نتبعه، لأن هذا لو كان صحيحا لوجب أن لا يكون بين الإمام وبين رعيته مزية في معنى الاقتداء به والائتمام، بل اليهود والنصارى والزنادقة (1)، لأن رعية الإمام قد يوافق بعضهم بعضا في المذاهب، لأن من حيث ذهب إليه ذلك البعض الموافق، بل من حيث علم بالدليل صحته، وكذلك قد يوافق المسلمون اليهود والنصارى في القول بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وتعظيمهما، وتفضيلهما لا من حيث ذهبت اليهود والنصارى إلى ذلك، ونحن نعلم أنه لا إمامة لكل هؤلاء من حيث الموافقة وإنما تكون لهم إقامة لو اتبعت أقوالهم ولزمت موافقتها من حيث قالوها، وذهبوا إليها، وإذا ثبت أن للإمام مزية في معنى الاقتداء به والائتمام على كل من ليس بإمام ثبت أن الاقتداء به واجب من حيث قال وفعل، حتى يكون قوله أو فعله حجة في صواب ذلك الفعل.

قال صاحب الكتاب: " يقال لهم: إن هذه الحدود والأحكام انما تجب إقامتها إذا كان إمام، فإذا لم يكن فلا تجب إقامة ذلك، بل لا بد من سقوط الحدود كما تسقط بالشبهات، ومن العدول في باب الأحكام إلى صلح وتراض وغير ذلك، فمن أين أنه لا بد من إمام مع إمكان ذلك؟.

فإن قالوا: نقول في ذلك كما تقولون.

____________

(1) زنادقة وزناديق جمع زنديق - بكسر الزاي - من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة. أو من لا يؤمن بالآخرة، أو منكر الربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب زن دين أي دين المرأة، والتفسير الأخير طريف باعتبار التركيب.

الصفحة 207 

قيل لهم: إنا نقول: إن إقامة الإمام واجبة، ولسنا نقول: إن كون إمام في كل زمان واجب (1) لا بد منه، وطريقتنا في ذلك مخالفة لطريقتكم، وإنما وجهنا للالزام على علتكم، ونحن مخالفون لكم فيها،... " (2).

يقال له: ما ذكرته في هذا الفصل ينقص ما كنت اعتمدته في الاستدلال على وجوب الإمامة من طريق السمع، لأنك تعلقت بأمر الله تعالى بإقامة الحدود، وقلت: إنها إذا كانت من فروض الإمام وجب علينا إقامته، لأن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به، وأنت الآن قد الزمت على الطريقة التي حكيتها ما هو لازم لك، لأنك ألزمت أن تكون الحدود والأحكام يجب إقامتها عند حصول الإمام، ولا يجب إقامته ليقوم بها، وهذا بعينه لازم لك، وليس يفترق الأمران من حيث كان خصومك يوجبون إقامة الإمام على الله تعالى، وتوجبها أنت على العباد، لأن لقائل أن يقول لك: إذا كان الله تعالى قد أمر بإقامة الحدود والأحكام، وعلمنا أنه لا يقوم بهما إلا الإمام، وجب عليه تعالى إقامته، لأن ما أمر به من إقامة الحدود لا يتم إلا بإقامة الإمام من جهته، لأن اختياره وهو معصوم على ما رتبته في الطريقة التي ناقضتها لا يمكن، فإن جاز أن يأمر بإقامة الحدود جاز أيضا أن يأمر بإقامة الحدود ويكون الأمر متوجها إلى الأئمة متى أقامهم، ولا يجب عليه إقامتهم وإن كانت إقامة الحدود لا تتم إلا بذلك جاز أن يأمر بإقامة الحدود الأئمة في حال إمامتهم ولا يكون الخطاب متوجها إليهم قبل أن يكونوا أئمة فيلزمهم مع غيرهم التوصل إلى إقامة

____________

(1) " واجب " خبر إن ونصبها محقق المغني، وأشار إلى أنها في الأصل " واجب " ولعله نصبها على التمييز، وإلا فكونها خبرا لكون بعيد!

(2) المغني 20 ق 1 / 74.

الصفحة 208 

الإمام، وإن كانت إقامة الحدود لا يمكن إلا بإقامته ولا فصل بين الأمرين.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: خبرونا عن هذه الحدود وإلا؟ كأن في هذا الزمان ما حالهما؟ ولسنا نجد إماما ظاهرا يقوم بذلك، أو يمكن الرجوع إليه.

فإن قالوا: إنهما يسقطان، ويرجع فيهما إلى ما ذكرنا.

قيل لهم: جوزوا مثله في سائر الأزمان،... (1) ".

يقال له: ليس تسقط الحدود في الزمان الذي لا يتمكن الإمام فيه من الظهور وإقامتها، بل هي ثابتة في جنوب (2) مستحقيها، فإن أدركهم ظهور الإمام أقامها عليهم، وإن لم يدركهم ظهوره كان الله تعالى المتولي في القيامة الجزاء بها أو العفو عنها، والإثم في تأخير إقامتها والمنع من استعمال الواجب فيها لازم لمن أخاف الإمام وألجأه إلى الغيبة والاستتار.

وليس يلزم قياسا على هذا أن لا يقيم الله تعالى إماما، لأنه إذا لم يقمه وسقطت الحدود التي تقتضيها المصلحة كان تعالى هو المانع للعباد ما فيه المصلحة.

ثم يقال له: خبرنا عن الحدود في هذه الأحوال التي لا يتمكنون فيها - معشر أهل الاختيار - من الاختيار، ما القول فيها؟ أتسقط أم هي ثابتة؟، فإن قال: هي ثابتة على مستحقيها والإثم في تأخير إقامتها على من منع أهل الاختيار من إقامة الإمام، فمتى تمكنوا من إقامته وقامت

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 74.

(2) جمع جانب وكأنه مأخوذ من القول المعروف (كل ذنبه في جنبه).

الصفحة 209 

عنده البينة بشئ تقدم مما يستحق عليه الحدود أقامها على مستحقيها وإلا كان أمرها إلى الله تعالى.

قيل له: بمثل هذا الاختيار أجبنا.

وإن قال: إن الحدود تسقط إذا لم يكن إمام يقيمها كما تسقط بالشبهات.

قيل له: أفيلزم على ذلك سقوطها في كل حال ومع التمكن؟.

فإن قال: لا، لأنها إنما سقطت في الأحوال التي لا يتمكن العاقدون فيهما من العقد.

قيل له: فما المانع لنا من جوابك هذا؟ وأن نقول: إن الحدود تسقط في غيبة الإمام كما تسقط بالشبهات، لأن حال الغيبة حال ضرورة، ولا يجب أن تسقط في كل حال حتى يلزمنا تجويز خلو الزمان من إمام يقيم الحدود جملة قياسا على ما فات من إقامتها في حال غيبته، فكل شئ يفصل فيه خصومنا بين أحوال التمكن من عقد الإمامة واختيار الإمام وأحوال التعذر في معنى سقوط الحدود وثبوتها هو ما فصلناه بعينه بين حال غيبة الإمام وحال فقده.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: إن وقوع الشئ على وجه يجوز أن يكون خطأ وفاسدا فيما يتعلق بالدين ليس بأكثر من عدمه، فإذا جوزتم أن لا تقام الحدود في هذا الزمان وفي غيره من الأزمنة التي لم يظهر فيها الإمام لو كان معلوما ولا يوجب [ ذلك ] فسادا في الدين، فما الذي يمنع من إثبات إمام غير معصوم جميل الظاهر، يجوز عليه الخطأ فيما

الصفحة 210 

يقيمه من الحدود والأحكام؟، [ ولا يوجب ذلك فسادا في ] (1).... " (2).

يقال له: قد بينا أن عدم إقامة الحدود في هذا الزمان اللوم فيه على الظالمين المخيفين للإمام، وليس يلزم قياسا على عدمها من قبل الظلمة أن تعدم أو تقع على وجه يوجب فسادا في الدين من قبل الله تعالى، والفصل بين الأمرين ظاهر، لأن الحجة في أحدهما لله تعالى لا عليه، وفي الآخر عليه لا له، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قال صاحب الكتاب: " ثم يقال: خبرونا عن الحدود والأحكام أيتولى الإمام جميعها في العالم؟ أو يتولى بعض ذلك، وما عداه يتولاه حكامه وأمراؤه، فلا بد [ له من أعوان له؟ ] * (3) ولا بد من أن يقولوا بالوجه الثاني * (4)، لأنه لا بد في بعض ذلك من أن يتولاه الأمراء والحكام.

قيل لهم: فيجب أن يكونوا معصومين للعلة التي ذكرتموها لأنها موجودة في كل من يقوم بالحدود والأحكام، (5)... ".

يقال له: قد علمنا أنك إنما رتبت ما حكيته عنا من الطريقة التي كلامك الآن عليها على الوجه الذي رتبته لنلزم هذا الالزام، ونورد هذا النقض، ولو أوردتها على الوجه الذي ذكرناه لم يسغ لك إيراد هذا الالزام، لأن من ذكرته من الأمراء والحكام وسائر من يتولى الأعمال من قبل الإمام لا يلزم الاقتداء بهم من حيث قالوا وفعلوا، بل الاقتداء بالإمام واجب عليهم في جملة الخلق فكيف يلزم عصمتهم وما أوجبنا به

____________

(1) الزيادة في الموضعين من المغني.

(2) المغني 20 ق 1 / 75.

(3) الزيادة من المغني.

(4) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(5) المغني 20 ق 1 / 75.

الصفحة 211 

عصمة الإمام في هذا الوجه من وجوب الاقتداء به على الوجه الذي ذكرناه غير ثابت فيهم.

قال صاحب الكتاب - بعد فصل لا طائل فيه -: " ومتى قالوا: إن الأمير إذا أخطأ في ذلك فالإمام يأخذ على يده، كان هذا القول منهم فصلا مع وجود العلة، لأنا إنما ألزمناهم عصمة الأمراء على علتهم، فالفصل الذي قالوه لا ينجيهم، على أن من قولنا أن الإمام إذا أخطأ فعلماء الأمة تأخذ على يده، لأنا لا نجوز على جميعهم الخطأ (1)،... ".

يقال له: لا شك في أن الفصل بما ذكرته مع إطلاق القول في أصل الاستدلال على الوجه الذي حكيته نقض ظاهر، غير أن من يفصل بين أصحابنا وبين الإمام وخلفائه لا يرتضي ما أطلقته في الاستدلال، بل يقول: في الأصل لا يجوز أن توكل هذه الأحكام إلى من يخطئ فيها خطأ يثمر فسادا في الدين، وليس وراءه من يتلافى خطأه ويستدرك غلطه فلا يلزم عصمة الأمراء والحكام.

وأما قولك: إن الإمام إذا أخطأ أخذ على يده علماء الأمة، فتصريح بأن الأمة أئمة للإمام، وإيجاب لفرض طاعتها عليه، وهذا مع ما فيه من الخروج عن أقوال الأمة تناقض ظاهر، لأنه يستحيل أن يقول قائل لا بد لزيد على عمرو طاعة وإمرة فيما له فيه بعينه عليه طاعة وإمرة فيكون ذلك صحيحا، والإمام إمام في جميع الدين فليس يجوز أن يكون لبعض رعيته عليه في بعض الدين طاعة ولا إمامة.

قال صاحب الكتاب: " ولا يمكنهم أن يقولوا: إن الإمام يعلم كل ذلك، لأن الإمام لا يزيد على الرسول، فإذا كان قد يخفى عليه خطأ عماله وأمرائه وإنما كان يعرف ما ينتهي خبره إليه فكذلك القول في

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 76.

الصفحة 212 

الإمام، ولأن الأمر في ذلك ظاهر في حال أمير المؤمنين مع عماله، وإذا لم يعلم الإمام الخطأ من الأمراء فكيف يستدرك (1) ذلك،... " (2).

يقال له: من فصل من أصحابنا بين الإمام وحكامه في العصمة بالفصل الذي ذكرناه يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقع من أمرائه وخلفائه، وإن بعدت داره من دارهم خطأ يقتضي فسادا في الدين فيخفى عليه، بل لا بد من أن يتصل به ذلك حتى يستدركه ويتلافاه.

وأما قولك: " إن الإمام لا يزيد على الرسول وقد خفي عليه خطأ عماله وأمرائه " فلا إشكال في أن الإمام لا يزيد على الرسول، ولكن من أين لك أنه قد خفي على الرسول خطأ عماله وأمرائه، ولم يتعلق بذلك في شبهة فنحلها؟ بل عولت على الدعوى وإرسالها حتى كأنه لا مخالف فيما حكمت به، والقول في أمير المؤمنين عليه السلام كالقول في الرسول صلى الله عليه وآله في أنه لا يجوز أن يخفى عليه من خطأ عماله وخلفائه ما يقتضي الفساد في الدين، وليس يجب أن يستبعد ذلك ونحن نجد حزمة (3) الملوك وذوي القدرة والسلطان منهم يراعون من أحوال خلفائهم وعمالهم في البلاد وإن بعدت ما ينتهون فيه إلى حد لا يخفى عليهم معه شئ من أحوالهم المتعلقة بسلطانهم وتدبيرهم وما يحتاجون إلى معرفته، وقد عرفنا هذا من أحوال كثير من الملوك المتقدمين، وشاهدناه أيضا ممن عاصرناه، وكان بالصفة التي قدمناها، وإذا تم مثل ما ذكرناه لمن ليس بحجة لله تعالى على خلقه، ولا حافظ لشريعته ودينه، ولا مادة بينه وبينه

____________

(1) غ " يستدل بذلك " وله وجه لولا ما يظهر من كلام علم الهدى أنها على ما في المتن.

(2) المغني 20 ق 1 / 76.

(3) جمع حازم، والحزم: ضبط الأمور.

الصفحة 213 

تعالى، ولا سبب ولا وصلة لم ننكر إتمامه وانتظامه لمن كان على جميع هذه الصفات التي نفيناها عن هؤلاء.

ثم أورد صاحب الكتاب فصولا لا حاجة بنا إلى نقضها لأنه سأل نفسه في بعضها عما لا نسأله عنه، وبنى بعضها على مذاهب قد تقدم إفسادها - إلى أن قال -:

" على أنه يلزمهم أن يكون الشاهد الذي يشهد على الزنا والسرقة معصوما وإلا أدى إلى الفساد في الدين بأن يقيم الحد على من لا يستحقه [ إذا غلط في الشهادة أو زور فيها، وهذا يوجب عصمة الشهود ] (1)... " (2).

فيقال له: أما الفصل بين الشاهد والإمام على الطريقة التي رتبناها فواضح، لأن غلط الشاهد لا يتعدى إلى غيره، من حيث لا يجب الاقتداء به، والاتباع لقوله وفعله، والإمام مقتدى به، متبع في أقواله وأفعاله، فجواز الغلط على أحدهما يخالف جوازه على الآخر.

على أن في أصحابنا من يذهب إلى أن للإمام إمارة نصبها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله يفرق بين الصادق من الشهود والكاذب، فمتى شهد عنده الكاذب رد شهادته ولم يمضها وإن كان في الظاهر عدلا، ومن سلك هذه الطريقة لم يلزمه ما ألزمته أيضا من هذا الوجه.

قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، قالوا: لا بد من إمام

____________

(1) الزيادة بين المعقوفين من المغني.

(2) المغني 20 ق 1 / 77.

الصفحة 214 

معصوم يحفظ الشرع ويقوم به، لأنه لا بد فيه من حافظ، وليس إلا الإمام - على ما نقول - أو الأمة - على ما تقولون - وقد علمنا أن الأمة لا يجوز ذلك عليها، لأن كل واحد منها يجوز عليه الغلط والسهو، وجميعها ليس إلا كل واحد منها يجب جواز الغلط على الجميع، وإلا انتقض القول بجواز ذلك على آحادها، وإذا لم يصح كون الشريعة محفوظة بالأمة فلا بد من إثبات معصوم في كل زمان يحفظها،... " [ و ] قال أيضا صاحب الكتاب:

" واعلم أنا قد بينا في باب الاجماع من هذا الكتاب (1) إنه لا يمتنع جواز الخطأ على كل واحد من الجماعة ويؤمن ذلك في جميعهم لأن انفراد كل واحد من الجماعة بقول * لا يؤمن ذلك فيه * (2)، ويؤمن في جميعهم، وكما لا يمتنع أن يؤمن على زيد الخطأ في شئ دون شئ بحسب الدليل، أو في حال دون حال، ولا يتناقض ذلك فكذلك ما ذكرناه وبينا أن النبي صلى الله عليه وآله لو قال في عشرة من المكلفين: إن كل واحد منهم يجوز أن يرتد (3) ولا يجوز اجتماعهم على ذلك، لم يمتنع، وبينا أن التجويز مفارق للاثبات والصحة، ولا يجوز أن يصح من كل واحد منهم الخطأ في معنى القدرة، ولا يصح من سائرهم لأن ذلك يتناقض [ وكذلك فلا يجوز أن يثبت لكل واحد منهم صفة ولا نثبت لجميعهم، لأن ذلك يتناقض ] (4).

وأما التجويز فهو بمعنى الشك، وغير ممتنع أن يشك فيما يأتيه كل

____________

(1) باب الاجماع في الجزء السابع من المغني.

(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(3) غ " يجوز أن يريد القبيح ".

(4) ما بين المعقوفين ساقط عن الشافي فأثبتناه عن المغني.

الصفحة 215 

واحد منهم إذا انفرد لفقد الدليل، ولا يشك فيما اجتمعوا عليه، بل يعلم صوابا بحصول الدليل،... " إلى قوله:

" وإنما الغرض بما أوردناه إبطال التوصل إلى القدح في الاجماع من جهة العقل على ما يسلكه القوم، فأما الكلام في إثباته فموقوف على السمع، وقد دللنا من قبل على صحة الاجماع وإنه لا معدل عنه، فإذا صح كونه حجة فمن أين إنه لا لا بد من إمام معصوم؟... (1) ".

يقال له: من عجيب الأمور إنك تناقض في الاجماع من لا تعرف مذهبه فيه، لأن كلامك يدل على مخالفين في الاجماع منا يذهبون إلى أن الأمة يجب أن تجتمع على الخطأ من طريق العقول، وأنه يستحيل عندهم أن تقوم دلالة سمعية على أنهم لا يختارون الخطأ في حال الاجماع، وليس يتوهم علينا مثل هذا من أنعم (2) النظر في مذهبنا، وإنما نورد الحجاج الذي حكيت بعضه في الاجماع، مثل قولنا: إن جميعهم هم آحادهم فما يجوز على الآحاد يجب جوازه على الجميع إلى نظائر ذلك على من يذهب إلى أن الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطأ من طريق العقول ولا يعتبر فيه السمع ويجري اجتماعها على الخطأ بالشبهة في امتناعه عليها مجرى اجتماعها على السهو عن شئ واحد في وقت واحد، ولا نعرف محصلا من أصحابنا ولا من غيرهم يذهب إلى أن السمع يستحيل أن يرد على سبيل التقدير بأن الأمة أو جماعة منها لا تختار الخطأ في حال دون حال وعلى وجه دون وجه، والذي يجب أن نتشاغل به بعد هذا الكلام في صحة ما يدعى من السمع الوارد بأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولم نجده ذكر هاهنا شيئا من الاستدلال بالسمع، وإنما أخال على ما ذكره هناك، ونبين فساده على

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 79.

(2) أنعم النظر: زاد في الامعان فيه.

الصفحة 216 

طريقتنا في الإيجاز والاختصار بمشيئة الله تعالى وتوفيقه.

أحد ما اعتمده في الدلالة على أن الأمة لا تجتمع على خطأ وأكد عنده قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (1) وأنه لما توعد تعالى على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول بعد البيان وجب أن يدل على أن اتباع سبيلهم صواب، ولا يكون سبيلهم بهذه الصفة إلا وهم حجة فيما يتفقون عليه.

وهذه الآية لا يمكن التعلق بها من وجوه:

منها، أن لفظ المؤمنين لا يجب عمومه لكل مؤمن، بل الحق فيه تناوله لثلاثة فصاعدا، فتناوله لثلاثة مقطوع عليه، وما عدا الثلاثة مجوزا وقد بينا في مواضع أن هذا اللفظ ليس من ألفاظ العموم المستغرقة للجنس، بل لا لفظ في اللغة يستغرق الجنس بصيغته ووضعه، وإذا لم يعقل من ظاهر لفظ المؤمنين الاستغراق لجميعهم، لم يسغ التعلق بها في الاجماع على الوجه الذي يدعيه الخصوم، وجرت الآية مجرى المجمل الذي يحتاج في تفسير وتفصيله إلى بيان، وإذا لم يسغ للقوم حملها على الكل لم يسغ أيضا لهم حملها على البعض، لأنه لا شئ يقتضي حملها على بعض معين دون بعض، ولو ساغ ذلك لكنا نحن أحق به إذا حملناها على الأئمة من آل محمد صلوات الله عليهم من حيث ثبتت عصمتهم وطهارتهم، وأمنا وقوع شئ من الخطأ منهم، وكانوا من هذا الوجه أحق بأن تتناولهم الآية.

ومنها، أن لفظة (سبيل) تقتضي الوحدة، ولا يجب حملها على كل

____________

(1) سورة النساء 115.

الصفحة 217 

سبيل، فكيف يمكن الاستدلال بالآية على أن كل سبيل للمؤمنين صواب يجب اتباعه، وليس لهم أن يقولوا: إنما نحمل هذه اللفظة على الجميع من لم تختص سبيلا دون سبيل، لأن ذلك تحكم، لأنه كما لم تناوله اللفظة سبيلا دون سبيل بظاهرها فلم تتناول - أيضا - بظاهرها جميع السبل، ويجب إذا فقدنا دلالة اختصاصها ببعض السبل أن نقف وننتظر البيان، ولا يجب من حيث عدمنا الاختصاص أن ندعي عمومها بغير دليل، كما لا يجب إذ عدمنا العموم فيها أن ندعي الاختصاص، واحد القولين مع فقد الدلالة كالآخر.

ومنها، أنه توعد على اتباع غير سبيلهم، وليس في ذلك على وجوب اتباع سبيلهم، فيجب أن يكون اتباع سبيلهم موقوفا على الدليل.

ومنها، على تسليم عموم المؤمنين والسبيل أن الآية لا تدل على وجوب اتباعهم في كل عصر، بل هو كالمجمل المفتقر إلى بيان فلا يصح التعلق بظاهره، وليس لأحد أن يقول: إنني أحمله على كل عصر من حيث لم يكن اللفظ مختصا بعصر دون غيره، لأن هذه الدعوى نظيرة للدعوى التي قدمناها وبينا فسادها، وليس له أن يقول: إنني أعلم عموم وجوب اتباعهم في الأعصار كلها بما علمت به وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وآله في كل عصر، فما قدح في عموم أحد الأمرين قدح في عموم الآخر. لأنا نعلم وجوب اتباع الرسول في كل عصر بظاهر الخطاب، بل بدلالة لا يمكن دفعها، فمن ادعى في عموم وجوب اتباع المؤمنين دلالة فليحضرها.

ومنها، أنه تعالى حذر من مخالفة سبيل المؤمنين وعلق الكلام بصفة من كان مؤمنا، فمن أين لخصومنا أنهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين.

الصفحة 218 

وهم إذا خرجوا من الإيمان خرجوا عن الصفة التي تعلق الوعيد بخلاف من كان عليها.

ومنها، أن قوله تعالى (المؤمنين) لا يخلو، إما أن يريد به المصدقين بالرسول عليه السلام، أو المستحقين للثواب على الحقيقة، فإن كان الأول بطل، لأن الآية تقتضي التعظيم والمدح لمن تعلقت به من حيث أوجبت اتباعه، وترك خلافه، ولا يجوز أن يتوجه إلى من لا يستحق التعظيم والمدح، وفي الأمة من يقطع على كفره، وأنه لا يستحق شيئا منهما، ولأنه كان يجب لو كان المراد بالقول المصدقين دون المستحقين للثواب أن يعتبر الاجماع دخول كل مصدق فيه في شرق وغرب، وهذا مما يعلم تعذره وعموم القول يقتضيه وليس يذهب صاحب الكتاب وأهل نحلته إلى هذا الوجه فنطنب فيه، وإن أراد بالمؤمنين مستحقي الثواب والمدح والتعظيم فمن أين ثبوت مؤمن بهذه الصفة في كل عصر يجب اتباعهم؟.

ويجب أيضا أن لا يثبت الاجماع إلا بعد القطع على أن كل مستحق للثواب في بحر وبر وسهل وجبل قد دخل فيه لأن عموم القول يقتضيه، وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الاجماع أبدا، وإن حمل على بعض المؤمنين دون بعض،! وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه خرجنا عن موجب العموم وجاز حمله على طائفة من المؤمنين وهم أئمتنا عليهم السلام.

وإن قيل: إن المراد بالمؤمنين من كان في الظاهر يستحق التعظيم والمدح، وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، فذلك باطل لأنه خروج في هذا الاسم عن اللغة، وعما يدعي أنه نقل إليه في الشرع جميعا، ولأن الآية تقتضي المدح والتعظيم، من حيث أوجب علينا اتباع من تعلقت به، ومن أظهر الإيمان ولم يبطنه لا يستحق التعظيم في الحقيقة، ولهذا تعبدنا

الصفحة 219 

بمدحه بشرط، ويجب على هذا الوجه أيضا أن يعتبر في الاجماع دخول كل مظهر للإيمان، وهو مستحق في الظاهر للتعظيم.

ومنها، إنا تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه لم يكن في هذه الآية دلالة تتناول الخلاف في الحقيقة، لأنه جائز أن يكون تعالى إنما أمرنا باتباع المؤمنين من حيث ثبت بالعقول أن في جملة المؤمنين في كل عصر إماما معصوما لا يجوز عليه الخطأ، وإذا جاز ما ذكرناه سقط غرضهم في الاستدلال على صحة الاجماع، لأنهم إنما أجروا بذلك إلى أن يصح الاجماع فيحفظ الشرع به، ويستغنى عن الإمام، وإذا كان ما استدلوا به على صحة الاجماع يحتمل ما ذكرناه فسد التعلق به.

وأما قوله في نصرة هذه الطريقة جوابا لما سأل عنه نفسه من أن الآية " تقتضي الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين " ولم يذكر ما حال سبيلهم قيل له: إن الوعيد لما علقه تعالى بغير سبيل المؤمنين حل محل أن يعلقه بالعدول عن سبيل المؤمنين، وترك اتباعهم في أنه يقتضي لا محالة أن اتباع سبيل المؤمنين صواب، وأن الوعيد واجب لتركه ومفارقته " (1) فتحكم (2) ظاهر، ودعوى محضة، لأنه غير ممتنع أن يكون اتباع غير سبيلهم محرما، واتباع سبيلهم مباحا أو محرما أيضا، وليس هذا مما يتنافى ويبين ذلك أنه لو صرح بما تأولناه (3) حتى يقول: اتباع غير سبيل المؤمنين محظور عليكم، وقبيح منك، واتباع سبيلهم يجوز أن يكون قبيحا وغير قبيح فاعملوا فيه بحسب الدلالة، أو يقول: واتباع سبيلهم

____________

(1) المغني ج 17 ص 161 في فصل " أن الاجماع حجة ".

(2) يريد بالتحكم هنا فرض الرأي بلا دليل.

(3) في الأصل " ناولناه " والتصحيح عن خ.

الصفحة 220 

مباح لكم لساغ هذا الكلام ولم يتناقض، وإذا كان سائغا بطل قول من ادعى أن النهي عن اتباع غير سبيل المؤمنين موجب لاتباع سبيلهم، وأنه يجري مجرى التحريم لمفارقة سبيلهم، والعدول عنها، وليس لأحد أن يقول: إن من لم يتبع غير سبيل المؤمنين فلا بد أن يكون متبعا لسبيلهم، فمن هاهنا حكمنا بأن النهي عن أحد الأمرين إيجاب للآخر، وذلك أن بين الأمرين واسطة فقد يجوز أن يخرج المكلف من اتباع غير سبيلهم، واتباع سبيلهم معا بأن لا يكون متبعا سبيل أحد.

فأما قولك: " إنه علق الوعيد بما يجري مجرى الاستثناء من سبيل المؤمنين حتى لا تتم معرفته إلا بمعرفة سبيل المؤمنين (1) فكأنه تعالى أراد ما يجري مجرى النفي وإن كان بصورة الإثبات، لأنه لا فرق بين ذلك وبين أن يقول ولا يتبع غير سبيل المؤمنين، وهذا بين في التعارف لأن أحدنا لو قال لغيره: من أكل غير طعامي فله العقوبة، فالمتعارف من ذلك أن أكل طعامه مخالف لذلك، وأن العقوبة إنما تتعلق بخروجه عن أن يكون آكلا لطعامه " (2) فغير صحيح، لأن " غير " - هاهنا - ليس بواجب أن يكون بمعنى " إلا " الموضوعة للاستثناء، بل جائز أن تكون بمعنى: خلاف، فكأنه تعالى قال: لا يتبع خلاف سبيل المؤمنين (3) وما هو غير لسبيلهم، ولم يرد لا يتبع إلا سبيلهم، ومعرفة الغير المحظور واتباعه وإن كانت لا تتم إلا بمعرفة سبيلهم على ما ذكر فغير ممتنع أن يكون حكمه موافقا لحكم

____________

(1) في المغني " وإذا عرف سبيلهم عرف ذلك الغير الذي يحرم اتباعه، وما حل هذا المحل فلا بد من أن يدل على أن سبيل المؤمنين بخلافه وكأنه تعالى " الخ ولا يختلف المعنى غير أن ما في المتن أقل أو أدل.

(2) المغني 17 / 162.

(3) أو، خ ل.

 

 

الصفحة 221 

اتباع سبيلهم في الحظر (1)، ولا يجب أن يكون واجبا من حيث كان الأول محظورا، وكانت معرفته لا تتم إلا بمعرفته، وقد أصاب في قوله: " لا فرق بين ذلك وبين أن يقول: " ولا يتبع غير سبيل المؤمنين " غير أنه ظن أنه لو استعمل هذا اللفظ لفهمنا منه ما ادعاه من اتباع سبيلهم، وليس الأمر كما ظن، بل التأويل الذي تأولناه، ودللنا على احتمال اللفظ الأول له قائم في الثاني، وحكم المثل الذي ضربه أيضا هذا الحكم، فإن من قال: لا تأكل غير طعامي، أو من أكل غير طعامي عاقبته، لا يفهم من ظاهر لفظه ومجرده إيجاب أكل طعامه، بل المفهوم حظر أكل ما هو غير لطعامه وحال طعامه في الحظر الإباحة أو الإيجاب موقوفة على الدليل، وأقل أحوال هذا اللفظ عند من ذهب إلى أن لفظة " غير " مشتركة بين الاستثناء وغيره وأن ظاهرها لا يفيد أحد الأمرين أن يكون محتملا لما ذكرناه من حظر أكل غير طعامه ومحتملا لإيجاب أكل طعامه، ووضع لفظة " غير " مكان لفظة " إلا " وإنما يفهم في بعض المواضع عن مستعمل هذا اللفظ إيجاب، أكل طعامه لا بمجرد اللفظ، بل بأن يعرف قصده إلى الإيجاب، أو لغير ذلك من الدلائل المقترنة (2) إلى اللفظ، ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما حسن أن يقول القائل: من أكل غير طعامي عاقبته، ومن أكل طعامي - أيضا - عاقبته، وكان يجب أن يكون نقضا وجاريا مجرى قوله: من أكل إلا طعامي عاقبته، ومن أكل طعامي عاقبته، فلما حسن ذلك مع استعمال لفظة " غير " ولم يحسن مع استعمال لفظة " إلا " دل على صحة قولنا.

____________

(1) الحظر: الحجر، وهو ضد الإباحة، وحظره فهو محظور أي محرم وبابه نصر.

(2) المضمومة خ ل.

الصفحة 222 

فأما قوله: " وبين ما قدمناه أن اتباع سبيل المؤمنين لم يكن حجة وصوابا، لكان حاله في أنه قد يكون صوابا وخطأ بحسب قيام الدلالة على ذلك حال اتباع غير سبيلهم، في أنه قد يكون صوابا وخطأ (1) ولو كان كذلك لم يصح أن يعلق الوعيد غير سبيلهم، وكان يبطل معنى الكلام " (2) من حيث علم أن ذلك لا يكون إلا خطأ ويكون اتباع سبيلهم مما يجوز أن يكون خطأ وصوابا، ولو لم يكن كذلك وكان الأمران متساويين لجاز أن يعلق الوعيد بأحدهما دون الآخر، ويكون الصلاح للمكلفين أن يعلموا حظر اتباع غير سبيلهم بهذا اللفظ ويعلموا مساواة اتباع سبيلهم له في الحظر بدليل آخر كما يقوله [ أكثر خصومنا ] (3) وهو مذهب صاحب الكتاب. إن قوله [ عليه السلام ] (3) " في سائمة (4) الغنم الزكاة " لا يجب أن يفهم منه رفع الزكاة عما ليس بسائم، ومفارقة حاله لحال السائمة، بل يجوز أن يكون الحكم واحدا نعلمه (5) في السائمة بهذا القول، وفي غيرها بدليل آخر وبمثل هذه الشبهة التي تشبث بها صاحب الكتاب يتعلق من خالفنا في دليل الخطاب فيقول: لولا أن حكم ما ليس بسائم مخالف للسائم لم يكن لتعليق (6) الزكاة بالسائمة معنى، وإذا علق بالسائمة وجب أن يخالف حكمها حكم ما ليس بسائم، ولا طريق لجميعنا إلى إبطال هذه الطريقة

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(2) المغني 17 / 162.

(3) ما بين المعقوفين من تلخيص الشافي للشيخ الطوسي.

(4) السائمة الماشية التي ترسل للمرعى ولا تحتاج إلى العلف وجمعها سوائم.

(5) يعلم، خ ل.

(6) المتعلق، خ ل.

الصفحة 223 

إذا تعلق بها الناصر لدليل الخطاب إلا ما سلكناه في دفع ما أورده في نصرة الاجماع.

ولا يزال هؤلاء القوم على سنن (1) من نصرة مذاهبهم، والذب عنها حتى إذا وقعوا (2) إلى كلام في الإمامة وما يتصل بها نسوا كل ذلك وأعرضوا عنه، وقدحوا فيها (3) بما يقدح في أصولهم، ويعترض على مذاهبهم، وليس يزين هذا إلا الهوى، وقوة العصبية.

فأما قوله: " على أن ما خرج من أن يكون سبيلا للمؤمنين إذا حرم اتباعه، فإنما وجب ذلك فيه لكونه " غيرا " لسبيلهم على ما يقتضيه اللفظ، وكونه " غيرا " لسبيلهم بمنزلة كونه تركا لسبيلهم، وخارجا عن سبيلهم. فلا بد من أن يدل على أن اتباع سبيلهم هو الواجب ليخرج به من أن يكون متبعا غير سبيلهم وهذا كقول أحدنا لغيره: لا تتبع خلاف طريقة الصالحين، وغير سبيلهم، في أنه بعث (4) له على اتباع سبيل الصالحين، وأن لا يخرج عن ذلك (5) " فلم يزد فيه على الدعوى، ولو سلمنا له ما دعاه من التعليل لم يجب أن يكون اتباع غير سبيلهم بمنزلة الخروج عن سبيلهم، لأن اتباع غير سبيلهم لا بد أن يكون اتباعا لسبيل ما ليس سبيلا لهم، والخروج عن اتباع سبيلهم ليس كذلك، لأنه قد يخرج عن اتباع سبيلهم وغير سبيلهم بأن لا يكون متبعا لسبيل أحد، لأن الاتباع الذي أريد هاهنا أن يفعل الفعل لأجل فعل المتبع على جهة التأسي

____________

(1) السنن: الطريق.

(2) إذا دفعوا، خ ل.

(3) الضمير الأول للكلام والثاني للإمامة.

(4) أي حث.

(5) المغني 17 / 162.

الصفحة 224 

به (1)، وقد يجوز أن يحظر الله تعالى على المكلف اتباع سبيل المؤمنين وغير المؤمنين على هذا الوجه.

فإذا؟ صح ما ذكرناه فسد قوله " فلا بد من أن يدل على اتباع سبيلهم. هو الواجب، ليخرج عن أن يكون متبعا غير يكون متبعا سبيلهم، فأما قول أحدنا لغيره: لا تتبع خلاف طريقة الصالحين فالقول فيه كالقول فيما تقدم، وظاهر اللفظ وإطلاقه لا يدل على وجوب اتباع طريقة الصالحين، وإنما يعقل بالدلالة، ولأن المخاطب بهذا القول إذا كان حكيما علم من حاله أنه لا بد أن يوجب اتباع طريقة الصالحين، ويحث عليها، وما يعلم إلا من حيث ظاهر اللفظ " خارج عما نحن فيه، ولو أن أحدا قال بدلا من ذكر الصالحين: لا تتبع خلاف طريقة زيد، لم يجب أن يفهم من إطلاق لفظه إيجاب اتباع طريقته، ولولا أن الأمر فيما تقدم على ما قلناه دون ما ادعاه صاحب الكتاب من أن غير سبيل المؤمنين بمنزلة الخروج عنها، لوجب فيمن قال لغيره: لا تضرب غير زيد، ثم قال: ولا زيدا، أن يكون مناقضا في كلامه من حيث كان قوله: لا تضرب غير زيد إيجابا لضربه، وقوله: ولا زيدا حظرا لذلك وفي العلم بصحة هذا القول من مستعمله (2)، وأنه غير جار مجرى قوله:

اضرب زيدا ولا تضربه دلالة على استقامة تأويلنا للآية.

فأما قوله: " فالاستدلال على أن في جملة الأمة مؤمنين في كل عصر، أن نفس الظاهر يقتضي إثبات مؤمنين يصح أن يتبع سبيلهم، لأنه لا يصح (3) أن يتوعد الله تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع

____________

(1) التأسي: " الاقتداء، وفلان أسوة بالضم والكسر أي قدوة.

(2) خ " يستعمله ".

(3) غ " لا يجوز ".

الصفحة 225 

سبيل المؤمنين إلا وذلك يمكن في كل حال ولا يصح دخوله في أن يكون ممكنا إلا بأن يثبت في كل عصر جماعة من المؤمنين، يبين ذلك أنه لم ا توعد على العدول عن اتباع سبيلهم فكذلك توعد على مشاقة (1) الرسول صلى الله عليه وآله، فإذا وجب في كل حال صحة المشاقة ليصح الوعيد المذكور فكذلك يجب أن يصح في كل حال اتباع سبيلهم، والعدول عنها " (2) فليس يجب من حيث توعد الله تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين ثبوت مؤمن (3) في كل عصر، وإنما تقتضي الآية التحذير من العدول عن اتباعهم إذا وجدوا، ويمكن من اتباعهم وتركه.

ولسنا نعلم من أي وجه ظن أن التوعد على الفعل يقتضي إمكانه في كل حال!

وليس هذا مما تدخل فيه عندنا شبهة على متكلم، ونحن نعلم أن البشارة بنينا صلى الله عليه وآله قد تقدمت على لسان من سلفت نبوته كموسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما، وقد أمر الله تعالى أممهم باتباعه وتصديقه، وأشار لهم إليه بصفاته وعلاماته، وتوعدهم على مخالفته وتكذيبه، ولم يلزم أن يكون ما توعد عليه من مخالفته، وأوجبه من تصديقه واتباعه ممكنا من كل وقت ولا مانعا من إطلاق الوعيد، فقد قال شيخ أصحابه أبو هاشم (4) وتبعه على هذه المقالة جميع أصحابه: إن قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله،

____________

(1) المشاقة: الخلاف.

(2) المغني 17 / 168.

(3) المؤمنين، خ ل.

(4) أبو هاشم: محمد بن عبد السلام الجبائي وقد تكرر ذكره في الكتاب.

الصفحة 226 

الآية (1)...) لا يقتضي ثبوت من يستحق القطع على سبيل النكال، ولا يفتقر إليه وإنما يوجب أن من واقع السرقة المخصوصة على الوجه المخصوص يستحق القطع على سبيل التنكيل، ولو لم يقع التمكن (2) أبد الدهر من الوقوف على من هذه حاله لما أخل بفائدة الآية، وعول في قطع من يقطع من السراق المشهود عليهم أو المقرين (3) على الاجماع، وإذا صح هذا فكيف يجب من حيث أطلق الوعيد على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين وجود مؤمنين في كل عصر، وما المانع من أن يكون الوعيد تعلق بحال مقدرة كأنه قال تعالى: لا تتبعوا غير سبيل المؤمنين إذا حصلوا أو وجدوا، وفساد ما تعلق به أظهر من أن يخفى.

فأما قوله: " والوجه الثاني، أن الآية دالة على وجوب اتباع سبيل المؤمنين، ونعلم أن في كل حال مؤمنين بدليل آخر، وهو ما ثبت بالقرآن وغيره أن في كل حال طائفة من أمة النبي (4) ظاهرين على الحق (5)، وأن في كل عصر شهداء يشهدون على الحق " (6) فما تراه أحال إلا على غيب، لأنه ادعى أن القرآن وغيره دال على أن في كل عصر مؤمنين وشهداء، وما نعلم في القرآن شيئا يدل على ذلك، ولا في غيره، ولو تعلق فيما ادعاه بشئ لبينا فساده، ولكنه اقتصر على محض الدعوى.

____________

(1) المائدة 38.

(2) خ " التمكين ".

(3) أي المقرين على أنفسهم بالسرقة.

(4) غ " الرسول صلى الله عليه ".

(5) يشير إلى الحديث (لا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وانظر فيض القدير 3 / 51.

(6) المغني 17 / 168 وفيه " يشهدون بالحق ".

الصفحة 227 

وليس فيما تعلق به من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) إلى قوله: (وتكونوا شهداء على الناس) (1) وقوله:

(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم (2)) وقوله تعالى: (وجئ بالنبيين والشهداء) (3) وقوله جل اسمه: (ويقول الإشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) (4) دلالة على موضع الخلاف، وهو: في أن في كل عصر مؤمنين يشهدون على غيرهم، وأكثر ما تدل عليه الآيات التي تلوناها أن يكون في الأمة شهداء، وأن من جملة المؤمنين من يستشهد فيشهد فأما أن يقتضي ذلك وجود الشهداء في كل عصر فبعيد...

فأما استدلاله من الآية " على أن إجماع كل عصر حجة (5) بأنها تقتضي التحذير من ترك اتباع سبيل المؤمنين، وليس فيها تخصيص وقت من وقت (6) " فباطل، لأنه ليس يلزم إذا لم يكن في الآية تخصيص وقت من وقت أن يحمل على كل الأوقات، وذلك أنها كما لم تخص وقتا دون وقت فلم تعم أيضا جمع الأوقات، وفقد دلالة أحد الأمرين كفقد دلالة الآخر، ولا فرق بين من ذهب إلى عمومها في الأوقات من حيث لم يكن فيها اختصاص وقت وبين من خصها بوقت معين، أما وقت نزول الآية أو

____________

(1) الحج 77.

(2) الحديد 19.

(3) الزمر 69.

(4) هود 18.

(5) في المغني " فإن قال: أتدل الآية على أن إجماع كل عصر حجة؟ قيل له نعم لأنها تقتضي " وجملة " التحذير من ترك " مكانها بياض في المغني.

(6) المغني 17 / 169 وفيه " وليس يخصص وقت من وقت ".

الصفحة 228 

غيره، واحتج بأنه لما لم يجد فيها ما يقتضي عموم سائر الأوقات ولا تخصيص وقت سوى الوقت الذي عينته.

فإذا قيل (1): حكم الوقت الذي عينته كحكم غيره في أن الآية لا تقتضي تخصيصه فليس تعيين وقت أولى من تعيين غيره.

قلنا نحن: وحكم سائر الأوقات وجميعها حكم بعضها في أن الآية لا تقتضي تناوله، فليس من ادعى عموم الأوقات بأولى ممن ادعى وقتا مخصوصا.

ومما اعتمد عليه في الاستدلال على صحة الاجماع وإن كان قد ضعفه بعض التضعيف قوله (واتبع سبيل من أناب) (2) إلى أن قال: لأن من أناب إلى الله تعالى هم المؤمنون، لأنهم هم المختصون بهذه الطريقة (3)، وسلك في ترتيب الاستدلال بها المسلك في الآية المتقدمة.

وهذه الآية لا دلالة فيها على ما يذهبون إليه في صحة الاجماع، وأكثر الوجوه التي ذكرناها في الآية المتقدمة يبطل الاحتجاج بهذه الآية.

وأنت إذا تصفحتها وقفت على الفصل بين ما يختص إحدى الآيتين من الوجوه وما يمكن أن يكون كلاما على الجميع، فلهذا لم نتشاغل بإعادة شئ مما مضى.

ومما يخص هذه الآية أن الإنابة حقيقتها في اللغة هي الرجوع، وإنما تستعمل في التائب من حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة، وليس يصح إجراؤها على التمسك بطريقة واحدة لم يرجع إليها عن غيرها على سبيل

____________

(1) في الأصل " وإذا قيل له " ولا شك أن " له " زائدة باعتبار الجواب.

(2) لقمان 15.

(3) كلام القاضي هنا نقله المرتضى بتصرف لم يخرجه عن معناه.

الصفحة 229 

الحقيقة، ولو استعمل فيمن ذكرناه لكان مستعملها متجوزا عند جميع أهل اللغة، وإذا كانت حقيقة الإنابة في اللغة هي الرجوع لم يصح إجراء قوله تعالى (واتبع سبيل من أناب) إلى جميع (1) المؤمنين حتى يعم بها من كان متمسكا بالإيمان، وغير خارج عن غيره إليه، ومن رجع إلى اعتقاده وأناب إليه بعد أن كان على غيره، لأنا لو فعلنا ذلك لكنا عادلين باللفظ عن حقيقتها (2) من غير ضرورة، والواجب أن يكون ظاهرها متناولا للتائبين من المؤمنين الذين أنابوا إلى الإيمان، وفارقوا غيره، وإذا تناولت هؤلاء لم يكن دلالة على مكان الخلاف بيننا وبين خصومنا في الاجماع.

ومما تعلق به أيضا قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (3) قال: " الوسط هو العدل ولا يكون هذا حالهم إلا وهم خيار، لأن الوسط من كل شئ هو المعتدل منه، وقوله تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم) (4) المراد بذلك خيرهم، وعلى هذا الوجه يقال له: إنه عليه السلام من أوسط العرب (5) يعني بذلك من خيرهم، وبين أنه تعالى جعلهم كذلك ليكونوا شهداء على الناس كما أنه عليه السلام شهيد عليهم، فكما أنه لا يكون شهيدا إلا وقوله حق وحجة فكذلك القول فيهم " (6).

وهذه الآية لا تدل أيضا على ما يدعونه، لأن لا يخلو أن يكون المراد بها جميع الأمة المصدقة بالرسول صلى الله عليه وآله أو بعضها (7)، وقد.

____________

(1) إلى جميع، خ ل.

(2) أي حقيقة الإنابة.

(3) البقرة 143.

(4) القلم 28.

(5) " من أوسط قريش نسبا يعني خيرهم ".

(6) المغني 17 / 171.

(7) أو بعضهم، خ ل.

الصفحة 230 

علمنا أنه لا يجوز أن يريد جميعها، لأن كثيرا منها ليس بخيار ولا عدول، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يصف جماعة بأنهم خيار عدول وفيهم من ليس بعدل ولا خير، وهذا مما يوافقنا عليه صاحب الكتاب، وإن كان أراد بعضهم لم يخل ذلك البعض من أن يكون هو جميع المؤمنين المستحقين للثواب أو يكون بعضها منهم غير معين، فإن كان الأول فلا دلالة توجب عمومها في الكل دون حملها على بعض معين، لأنه لا لفظ هاهنا من الألفاظ التي تدعى للعموم كما هو في الآيتين المتقدمتين، وإن كان المراد بعضا معينا خرجت الآية من أن تكون فيها دلالة لخصومنا على الخلاف بيننا وبينهم، ولم يكن بعض المؤمنين بأن تقتضي تناولها له أولى من بعض فساغ لنا أن نقصرها على الأئمة من آل محمد صلوات الله عليهم (1)، ويكون قولنا أثبت في الآية من كل قول لقيام الدلالة على عصمة من عدلنا بها إليه (2) وطهارته، وتميزه من كل الأمة.

فإن قيل: إطلاق القول يقتضي دخول كل الأمة فيه لولا الدلالة التي دلت من حيث الوصف المخصوص على تخصيص من استحق المدح منهم، والثواب، فإذا خرج من لا يستحقهما بدليل وجب عمومها في كل المستحقين الثواب والمدح، لأنه ليس هي بأن تتناول بعضا أولى من بعض.

قيل: إن إطلاق القول لا يقتضي كل الأمة - على أصلنا - حتى يلزم إذا أخرجنا من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره، ولو اقتضى ذلك ووجب تعليق الأمة من عدا الخارجين عن استحقاق الثواب لوجب

____________

(1) في " عليه وعليهم السلام ".

(2) أي عدلنا بالآية إلى الإمام المعصوم.

الصفحة 231 

القضاء بعمومها في جميع من كان بهذه الصفة في سائر الأعصار، لأن ظاهر العموم يقتضيه على مذهب من قال به فكان لا يسوغ حمل القول على إجماع كل عصر، لأنه تخصيص لا يجد مقترحه فرقا بينه وبين من اقترح تخصيص فرقة من كل عصر، وهذا يبطل الغرض في الاحتجاج بالآية.

وليس لأحد أن يقول: كيف يكون اجتماع جميع أهل الأعصار على الشهادة حجة وصوابا على ما ألزمتموناه ولا يكون إجماع جميع أهل كل عصر كذلك؟ لأن هذا مما لم ينكر كما لم يكن منكرا عند خصومنا أن يكون إجماع أهل العصر حجة وصوابا، وإن لم يكن اجتماع كل فرقة من فرقهم كذلك.

فإن قيل: بأي شئ يشهد جميعهم، وهم لا يصح أن يشاهدوا كلهم شيئا واحدا فيشهدوا به؟

قيل: قد تصح الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات كشهادتنا بتوحيد الله عز وجل، وعدله، ونبوة الأنبياء عليهم السلام إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.

ولو قيل أيضا: فعلى من تكون الشهادة إذا كان المؤمنون جميعا في الأعصار (1) هم الشهداء؟

قلنا: تكون شهادتهم على من لا يستحق الثواب، ولا يدخل تحت القول من الأمة، ويصح أيضا أن يشهدوا على باقي الأمم الخارجين عن الملة، وكل هذا غير مستبعد.

ومما يمكن أن يقال في أصل تأويل الآية: أن قوله تعالى (جعلناكم

____________

(1) خ " إذا كان جميع المؤمنين في الأعصار ".

الصفحة 232 

أمة وسطا)، إذا سلم أن المراد جعلناكم عدولا خيارا لا يدل أيضا على ما يريده الخصم، لأنه لم يبين هل جعلهم عدولا في كل أقوالهم وأفعالهم أو في بعضها؟ والقول محتمل وممكن أن يكون أراد تعالى أنهم عدول فيما يشهدون به في الآخرة، أو في بعض الأحوال، فإن رجع راجع إلى أن يقول: إطلاق القول إنما يقتضي العموم، وليس هو بأن يحمل على بعض الأحوال أو الأقوال أولى من بعض، فقد مضى الكلام على ما يشبه هذا مستقصى.

فأما حمل الأمة (1) على النبي صلى الله عليه وآله في باب الشهادة، وكونه حجة فيها، فلم يكن قول النبي صلى الله عليه وآله حجة من حيث كان شهيدا، بل من حيث كان نبيا معصوما فتشبيه أحد الأمرين بالآخر من البعيد.

ومما يسقط التعلق بالآية أيضا أن قوله تعالى: (لتكونوا شهداء) يقتضي حصول كل واحد منهم بهذه الصفة، لأن ما جرى هذا المجرى من الأوصاف لا بد أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة، ألا ترى أنه لا يسوغ أن يقال في جماعة: إنهم مؤمنون إلا وكل واحد منهم مؤمن؟، فكذلك لا يسوغ أن يقال: أنهم شهداء إلا وكل واحد منهم شهيد، لأن شهداء جمع شهيد، كما أن مؤمنين جمع مؤمن، وهذا يوجب أن يكون كل واحد منهم - أعني من الأمة - حجة مقطوعا على صواب فعله وقوله، وإذا لم يكن هذا مذهبا لأحد، وكان استدلال الخصوم بالآية يوجبه فسد قولهم، ووجب صرف الآية إلى جماعة يكون كل واحد منهم شهيدا وحجة، وهم الأئمة عليهم السلام الذين ثبتت عصمتهم وطهارتهم.

____________

(1) خ " الآية ".

الصفحة 233 

على أن الآية لو تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه فيها لا يقتضي كون جميع أقوال الأمة وأفعالها حجة، لأنها غير مانعة من وقوع الصغائر (1) التي لا تسقط العدالة (2) منهم، فإن أمكن تمييز الصغائر من غيرها كانوا حجة فيما قطع عليه وإن لم يمكن علم في الجملة أن الخطأ الذي يكون كثيرا ويؤثر في العدالة مأمون منهم، وغير واقع من جهتهم وإن ما عداه يجوز عليهم، فيسقط مع ما ذكرناه تعلق المخالفين بالآية في نصرة الاجماع.

فأما قوله في نصرة هذه الطريقة: " أن كونهم عدولا كالعلة والسبب في كونهم شهداء، وأنه قد صح في التعبد أنه لا يجوز أن ينصب للشهادة إلا من تعلم عدالته، أو تعرف (3) بالأمارات التي يقتضي غالب الظن، وصح أن من ينصبه بغالب (4) الظن إذا تولى الله تعالى نصبه يجب أن يعلم من حاله ما نظنه، فإذا ثبت ذلك لم يخل من أن يكونوا حجة فيما يشهدون أو لا يكونوا، فإن لم يكونوا حجة بطلت شهادتهم، لأن من حق الشاهد إذا أخبر عما يشهد به أن يكون خبره حقا وإن لم يجر مجرى الشهادة، فلا بد

____________

(1) صغيرة منهم خ ل.

(2) العدالة - لغة - مأخوذة من العدل وهو الاستقامة، وعرفها الفقهاء بأنها ملكة اجتناب الكبائر وعدم الاصرار على الصغائر، أو إتيان الواجب وترك المحرم، أو مجرد ترك المعاصي عن ملكة، أو خصوص الكبائر منها، وغير ذلك من التعريفات التي تختلف لفظا وتتقارب معنى، وقد أخذها الفقهاء شرطا في المفتي والقاضي وإمام الجماعة، والشاهد، وتعرف بالعلم الوجداني من أي أسبابه حصل، بالبينة العادلة، والشياع المفيد للعلم، وحسن الظاهر، وبالوثوق والاطمئنان الحاصل عن علم ومعرفة لا كتسرع بعض الجهال الذين سرعان ما يثقون ثم يرجعون لأتفه الأسباب وبأدنى عارض من الشبه.

(3) خ " ويعرف ".

(4) خ " لغالب ".

الصفحة 234 

من أن يكون قولهم وفعلهم صحيحا، ولا يكون كذلك إلا وهم حجة، وليس بعض أقوالهم وأفعالهم بذلك أولى من بعض، " (1) فلو سلم له جميع ما ذكره لم يلزم الاحتجاج به، ولا أن يكونوا حجة في جميع أقوالهم وأفعالهم لأن أكثر ما تدل عليه الآية فهم أن يكونوا عدولا رشحوا للشهادة، فالواجب أن ينفى عنهم ما جرى شهادتهم، وأثر في عدالتهم، دون ما لم يكن بهذه المنزلة.

وإذا كانت الصغائر على مذهب صاحب الكتاب غير مخرجة (2) عن العدالة لم يجب بمقتضى الآية نفيها عنهم، وبطل قوله " أنه ليس بعض أقوالهم وأفعالهم أولى من بعض " لأنا قد بينا فرق ما بين الأفعال المسقطة للعدالة والأفعال التي لا تسقطها.

فأما قوله: " ويخالف حالهم حال الرسول عليه السلام لأن ما يجوز (3) عليه من الصغائر لا يخرج ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجة فيه من أن يكون متميزا فيصح كونه حجة، وليس كذلك لو جوزنا على الأمة الخطأ في بعض ما تقوله وتفعله، لأن ذلك يوجب خروج كل ما تجتمع (4) عليه من أن يكون حجة لأن الطريقة في الجميع واحدة " (5) فيسقط بما ذكرناه لأنه إذا كان تجويز الصغائر على الرسول لا يخرجه فيما يؤديه من أن يكون حجة، ويتميز ذلك للمكلف فكذلك إذا كانت الآية إنما تقتضي

____________

(1) المغني 17 / 178 علما بأن اختلافا يسيرا في هذا الفصل بين المغني والشافي في بعض الحروف والكلمات وليس هناك اختلاف في المعنى.

(2) خ " غير مقتضية الخروج ".

(3) في المغني " لأن ما نجوزه " وهذا تصريح من القاضي بتجويز الصغائر على النبي صلى الله عليه وآله، وقد نقل عن أبي هاشم اشتراط أن تكون غير منفرة.

(4) غ " تجمع ".

(5) المغني 17 / 178.

الصفحة 235 

كون الأمة عدولا فيجب نفي ما أثر في عدالتهم، والقطع بانتفاء الكبير من المعاصي عنهم وتجويز ما عداها عليهم (1)، ولا يخرجهم هذا التجويز من أن يكونوا حجة فيما لو كان خطأ لكان كبيرا، وقد يصح تمييز ذلك على وجه، فإن في المعاصي (2) ما نقطع على كونها كبائر، ولو لم يكن إلى تمييز سبيل لصح الكلام أيضا من حيث كان الواجب علينا اعتقاد نفي الكبائر عنهم، وتجويز الصغائر، وإن شهادتهم لما لو لم يكن حقا لكانت الشهادة به كبيرة لا تقع منهم وإن جاز وقوع ما لم يبلغ هذه المنزلة ويكون هذا الاعتقاد مما يجب علينا على سبيل الجملة، وإن تعذر علينا تفصيل أعمالهم وأحوالهم (3) التي يكونون فيها حجة مما خالفهم لا سيما وشهادتهم ليست عندنا فيجب علينا تمييز خطأهم من صوابهم، وإنما هي عند الله تعالى، وإذا كانت عنده جاز أن يكون الواجب علينا هو الاعتقاد الذي ذكرناه.

فأما قوله: " وقد قيل (4): إن المراد بالآية ليس هو الشهادة في الآخرة، وإنما هو القول بالحق، والإخبار بالصدق، لقوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) (5) وكل من قال حقا فهو شاهد به، وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو تتحمل بسبيل، وإن كانوا مع شهادتهم بالحق يشهدون في الآخرة بأعمال العباد فيجب في كل ما أجمعوا عليه قولا واحدا أن يكون حقا، وفعلهم يقوم

____________

(1) أي إذا كانت الصغائر جائزة على النبي - كما يقول - فعدم منافاتها لعدالة غيره أولى.

(2) خ " من المعاصي ".

(3) خ " وأقوالهم ".

(4) في المغني: " وقد قيل: إن قوله عز وجل (لتكونوا شهداء على الناس) ليس المراد بذلك أداء الشهادة " الخ.

(5) آل عمران 18.

الصفحة 236 

مقام قولهم فيجب أن يكون هذا حاله، لأنه إذا أجمعوا على الشئ فعلا وأظهروه إظهار ما يعتقد أنه حق حل محل الخبر، وهذا يوجب أنه لا فرق بين الكبير والصغير في هذا الباب " (1) فغير مؤثر فيما قدحنا به في الاستدلال بالآية بأن التعلق من الآية إنما هو بكونهم عدولا لا بلفظ الشهادة لأن التعلق لو كان بالشهادة لم يكن في الكلام شبهة من حيث كانت الشهادة لا تدل نفسها على كونها حجة كما تدل العدالة، ولو تعلق متعلق بكونهم شهودا ويذكر شهادتهم لم نجد بدا (2) من اعتبار العدالة والرجوع إليها، وإذا كانت الصغائر لا تؤثر في العدالة ولا يمتنع وقوعها على مذهب صاحب الكتاب وأهل مقالته من العدل المقبول الشهادة فما الموجب من الآية نفيها عن الأمة، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكونوا شهداء في الدنيا والآخرة معا وبين أن يكونوا شهداء في الآخر دون الدنيا، فما نراه زادنا في الكلام الذي عدل إليه شيئا ينتفع به (3).

ومما تعلق به في نصرة الاجماع ما روي من قوله عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على خطأ) (4) وهذا الخبر لا شبهة في فساد التعلق به، لأنه من أخبار الآحاد التي توجب الظن، ولا توجب علما ولا عملا، فلا يسوغ القطع بمثلها، ولا خلاف في أن نقله إلينا من طريق الآحاد، وأكثر ما

____________

(1) المغني 17 / 179.

(2) أي لم نجد عوضا، يقال: لا بد من كذا: لا فراق منه، وقيل لا عوض.

(3) المغني 17 / 180.

(4) رواه ابن ماجة في كتاب الفتن باب السواد الأعظم بلفظ " أن أمتي لا تجتمع على ضلالة " ح 3950 علق عليه محقق الكتاب بقوله: " في الزوائد: في إسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف وقد جاء الحديث بطريق في كلها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي ". كما رواه أحمد في المسند 5 / 145 بلفظ : (لم تجتمع أمتي إلا على هدى) ".

الصفحة 237 

يتعلق به الخصوم في تصحيحه تقبل الأمة له، وتركهم الرد على راويه، وليس كل الأمة تقبله، ولو تقبلته أيضا لم يكن في تقبلها دلالة بأن الخطأ ودخول الشبهة جائزان عليها وكلامنا في ذلك، وليس يجوز أن يجعل المصحح للخبر إجماع الأمة الذي لا نعلم صحته إلا بصحة الخبر، على أنه لو لحظنا الكلام في إثبات الخبر نفسه لم يكن فيه دلالة على ما ذهب إليه القوم لأنه نفى أن يجتمعوا على خطأ، ولم يبين ما الخطأ الذي لا يجتمعون عليه (1)، وليس في اللفظ دلالة على نفي كل الخطأ، ولا نفي بعض معين، فالخبر إذا كان المجمل المفتقر إلى بيان فإن تعلق متعلق بأنه من حيث لم يكن ينفي بعض الخطأ أولى من بعض وجب أن يكون نافيا للجميع فقد سلف الكلام على فساد هذه الطريقة.