فصل في تتبع كلامه وجوابه عن المطاعن على عمر

الصفحة 173 

فصل في تتبع كلامه وجوابه عن المطاعن على عمر (1)

قال صاحب الكتاب: " أحد (2) ما طعن به عليه، قولهم: إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه أسوة (3) الأنبياء في ذلك حتى قال ذلك اليوم: والله ما مات محمد، ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (4) وقوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)... (5) قال: أيقنت بوفاته، وكأني لم أسمع هذه الآية، فلو كان يحفظ القرآن، أو يكفر فيه لما قال ذلك. وهذا يدل على بعده من حفظ القرآن، ومن هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما ".

ثم قال: " وهذا لا يصح، وذلك لأنه روي عنه أنه قال: كيف

____________

(1) نقل ابن أبي الحديد هذا الفصل في الجزء الثاني عشر من شرح نهج البلاغة ص 195 فما بعدها مع تفاوت يسير في بعض الحروف والكلمات نشير إلى المهم منها برمز - ش.

(2) ش " أول ما طعن به ".

(3) الأسوة: القدوة.

(4) الزمر / 30.

(5) آل عمران / 144.

الصفحة 174 

يموت وقد قال الله تعالى: (ليظهره على الدين كله) (1) وقال:

(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (2) ولذلك نفى موته عليه السلام، لأنه حمل الآية على أنها خبر عن ذلك في حال حياته، حتى قال أبو بكر: إن الله قد وعده بذلك وسيفعله، وتلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك بموته، وإنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت، لا أنه منع من موته.

ثم قال: " فإن قيل: فلم قال لأبي بكر عند قراءة الآية: كأني لم أسمعها ووصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة! ".

وأجاب بأن قال: " لما كان الوجه في ظنه ما أزال أبو بكر فيه الشبهة جاز أن يتيقن ".

ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة.

وأجاب: " بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين، ولو لم يكن في ذلك إلا خبر أبي بكر، وادعاؤه لذلك والناس مجتمعون، لحصل اليقين، وقوله: كأني لم أقرأ هذه الآية، ولم أسمعها تنبيه عن ذهابه (3) عن الاستدلال بها لا أنه على الحقيقة لم يقرأها ولم يسمعها، ولا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب أن يكون لا يعرف القرآن لأن ذلك لو دل لوجب أن لا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه ".

ثم ذكر: " أن حفظ جميع القرآن غير واجب، ولا يقدح الاخلال به في الفضل ".

وحكي عن أبي علي: " أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحط علمه

____________

(1) التوبة / 33.

(2) النور / 55.

(3) ش " على ذهوله ".

الصفحة 175 

بجميع الأحكام. ولم يمنع ذلك من فضله، واستدل بما روي حديثا من قوله: " كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإن حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، وذكر أنه عليه السلام لم يعرف أي موضع يدفن رسول الله صلى الله عليه وآله فيه حتى رجع إلى ما رواه أبو بكر، وذكر قصة الزبير في موالي صفية، وأن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأخذ ميراثهم كما أن عليه أن يحمل عقلهم (1) حتى أخبره عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للأب والعقل على العصبة ".

ثم سأل نفسه فقال: " كيف يجوز ما ذكرتموه على أمير المؤمنين عليه السلام مع قوله: " سلوني قبل أن تفقدوني " وقوله: " إن ها هنا علما جما " يومي إلى قلبه، وقوله: " لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم. وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم " وقوله: " كنت إذا سألت أجبت وإذا سكت ابتديت (2) ".

وأجاب عن ذلك ب " أن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم من غير أن يدل على الإحاطة بالجميع ".

وحكي عن أبي علي استبعاده ما روي من قوله: " لو ثنيت لي الوسادة " إلى آخر الخبر، قال: (لأنه لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يحكم بما لا يجوز، ومعلوم أنه عليه السلام لا يحكم بين الجميع إلا بالقرآن،

____________

(1) العقل - بسكون ثانية - الدية، وعقل عن فلان إذا أدى عنه جنايته.

(2) يعني إذا سأل النبي صلى الله عليه وآله أجابه، وإذا أمسك عن السؤال ابتداه.

الصفحة 176 

ثنيت له الوسادة أو لم تثن، وذلك يدل على أن هذا الخبر موضوع) (1) يقال له: ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يكون على سبيل الانكار لموته على كل حال، والاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه، أو يكون منكرا لموته في تلك الحال، من حيث لم يظهر دينه على الدين كله، وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب: (إنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال).

فإن كان الوجه الأول، فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله، والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل، والعلم من دينه عليه السلام بأنه سيموت كما مات من قبله ضروري، وليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر، من قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) وما أشبهها.

وإن كان خلافه على الوجه الثاني، فأول ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت، وإنما خالف في تقدمه، وقد كان يجب أن يقول له: وأي حجة في هذه الآيات على من جوز عليه صلى الله عليه وآله الموت في المستقبل، وأنكره في هذه الحال!

وبعد، فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق! ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم!

وكيف حمل معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) وقوله:

____________

(1) كل ما نقله المرتضى ملتقط من الصفحات 9 - 12 من ق 2 ج 20 من المغني.

(2) الزمر / 30.

الصفحة 177 

(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة! وكيف لم يخطر هذا لعمر وحده، ومعلوم أن ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة، وقلة التأمل والبصيرة! وكيف لم يوقن بموته لما رأى ما عليه أهل الاسلام من اعتقاد موته، وما ركبهم من الحزن والكآبة لفقده، وهلا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد، فلم يحتج إلى موقف ومعرف، وقد كان يجب - إن كانت هذه شبهة - أن يقول في حال مرض الرسول صلى الله عليه وآله: وقد رأى من جزع أهله وأصحابه وخوفهم عليه الوفاة حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تأخره (1) عن الخروج في الجيش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرر ويردد الأمر حينئذ بتنفيذه: لم أكن لأسأل عنك الركب، -: ما هذا الجزع والهلع وقد أمنكم الله بكذا وكذا من وجه كذا، وليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب.

فأما ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من خبر الاستحلاف في الأخبار، فقد بينا في صدر هذا الكتاب الكلام عليه، ودللنا على أنه غير مقتض لذهاب بعض الأخبار عليه من حيث يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبر ويخوفه من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله، لأن العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر، وذكرنا أيضا أنه لا تاريخ لهذا الخبر، ويمكن أن يكون استحلافه عليه السلام في الأخبار (2) إنما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الأحكام (3).

____________

(1) ش " من تباطئه ".

(2) ش " الرواة ".

(3) انظر شرح نهج البلاغة ج 2 / 41 و 42 و ج 12 / 195 - 200.

الصفحة 178 

فأما حديث الدفن، وإدخاله في باب أحكام الدين التي يجب معرفتها، فطريف وقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام سمع من النبي صلى الله عليه وآله في باب الدفن مثل ما سمع أبو بكر، وكان عازما على العمل به، حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل بما كان يعلمه لا من طريق أبي بكر وظن الناس أن العمل لأجله، ولم يكن ذلك كذلك ويجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله خبر وصيه في موضع دفنه ولم يعين له موضعا بعينه، فلما روى أبو بكر ما روى رأى موافقته، فليس في هذا دلالة على أنه عليه السلام استفاد حكما لم يكن عنده فأما موالي صفية فقد تقدم قولنا في شأنهم، وبطلان ما ظنه صاحب الكتاب في قصتهم [ وليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به، ولكنه كسكوته عن كثير من الحق تقية ومداراة للقوم (1) ] وأما قوله عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني) وقوله: (إن ها هنا لعلما جما) إلى غير ذلك فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط، على ما ظنه صاحب الكتاب، بل هو قول واثق بنفسه، آمن من أن يسأل عما لا يعلمه، وكيف يجوز أن يقول مثله على رؤس الاشهاد، وظهور المنابر: (سلوني قبل أن تفقدوني) وهو يعلم أن كثيرا من الأحكام في الدين يعزب (2) عنه، وأين كان أعداؤه، والمنتهزون لفرصته وزلته عن سؤاله عن مشكل المسائل، وغوامض الأحكام، والأمر في هذا ظاهر.

فأما استبعاد أبي علي لما روي عنه عليه السلام: (لو ثنيت لي

____________

(1) الزيادة من (شرح نهج البلاغة).

(2) عزب - بالمهملة والزاي - أي بعد وهي مثل غرب - بالمعجمة والراء - معنى ووزنا.

الصفحة 179 

الوسادة) للوجه الذي ظنه، فمن بعيد الاستبعاد، لأنه لم يفطن لغرضه عليه السلام، وإنما أراد كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا صلى الله عليه وآله، وصحة شرعه، فأكون حاكما - حينئذ - عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة وأحكام هذا القرآن، وهذا من أحسن الأغراض وجليلها وعظيمها في العلم.

قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، وأحد ما طعنوا به على عمر أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ (1) وقال له: إن يكن لك سبيل عليها، فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه وقال: لولا معاذ لهلك عمر، قالوا: ومن يجهل هذا القدر لا يجوز أن يصير إماما، لأنه يجري مجرى أصول الشرع، بل العقل يدل على ذلك، لأن الرجم عقوبة، ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق).

ثم قال: (وهذا غير لازم، لأنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل، لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر، وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع، وإنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر، وإنما قال ما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل).

ثم قال: (فإن قيل إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لولا معاذ!) وأجاب عن ذلك - ب (أنه لم يرد: لهلك من جهة العذاب، وإنما أراد:

أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل كما يقال للرجل هلك من الفقر إذ افتقر وصار الفقر سببا لهلاكه (2) ويجوز أن يريد بذلك تقصيره في

____________

(1) الإصابة 3 / 427، وفتح الباري 12 / 120.

(2) في المغني " إذ افتقر وصار سببا لقتل الخطأ " ولا يخفى الخلل في العبارة.

الصفحة 180 

تعرف حالها، لأن ذلك لا يمتنع أن يكون خطيئة وإن صغرت، (1)...) يقال له: ما تأولت به في الخبر من التأويل البعيد، لأنه لو كان الخبر على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه، بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له: هي حامل، ولا يقول له: إن كان لك سبيل عليها، فلا سبيل لك على ما في بطنها، لأن هذا القول من عنده أنه أمر برجمها مع العلم بأنها حامل، وأقل ما يجب لو كان الأمر على ما ظنه صاحب الكتاب أن يقول لمعاذ: ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم، وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها، فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة، وفي إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا، وقد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم، فإذا علم ارتفاعه (2) أمر بالرجم، وصاحب الكتاب قد اعترف بأن ترك المسألة عن ذلك تقصير وخطيئة، وادعى أنها صغيرة، ومن أين له ذلك ولا دليل يدل عنده في غير الأنبياء عليهم السلام أن معصية عنده صغيرة.

فأما إقراره بالهلاك لولا تنبيه معاذ فهو يقتضي التعظيم والتفخيم لشأن الفعل، ولا يليق ذلك إلا بالتقصير الواقع، أما في الأمر برجمها مع العلم بأنها حامل، أو ترك البحث عن ذلك والمسألة عنه، وأي لوم عليه في أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن عن تفريط منه ولا تقصير.

قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، واحد ما طعنوا به في ذلك خبر المجنونة التي أمر برجمها فنبهه أمير المؤمنين عليه السلام،

____________

(1) المغني 20 ق 2 / 12.

(2) أي الحمل.

الصفحة 181 

وقال: " إن القلم (1) مرفوع عن المجنون حتى يفيق " فقال: " لولا علي لهلك عمر " وذلك يدل على أنه لم يعرف الظاهر من الشريعة).

ثم قال: (وهذا غير لازم لأنه ليس في الخبر أنه عرف جنونها، فيجوز أن يكون الذي نبه عليه جنونها دون الحكم، لأنه كان يعلم أن في حال الجنون لا يقام الحد، وإنما قال: " لولا علي لهلك عمر " لا من جهة المعصية والإثم، لكن من جهة أن حكمه لو نفذ لعظم غمه، ويقال في شدة الغم: إنه هلاك كما يقال في الفقر وغيره هلاك، وذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغم الذي زال بهذا التنبيه. على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في الشريعة أن يكون صحيحا، وأن يقال: إذا كانت مستحقة للحد فإقامته عليها تصح، وإن لم يكن لها عقل، لأنه لا يخرج الحد من أن يكون واقعا موقعه، ويكون قوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاث) يراد بذلك زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم، ومن هذا حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فيرجع فيه إلى غيره، فلا يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة (2)...) يقال له: الكلام في هذا يقرب من الخبر الذي تقدمه، لأنه لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال له أمير المؤمنين عليه السلام: " أما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق! " بل كان يقول له بدلا من ذلك: هي مجنونة، ولكان أيضا لما سمع من التنبيه له على ما يقتضي

____________

(1) في المغني " العلم " وقال المعلق: " لعله الحد " وإذا خفي حديث رفع القلم مع اشتهاره على المحقق الفاضل فتمحل التوجيه فكيف خفي على الدكتور طه حسين وقد راجع الكتاب وعلى شيخ الأزهر وقد أشرف عليه!!

(2) المغني 20 ق 2 / 13.

الصفحة 182 

الاعتقاد فيه أنه أمر برجمها مع العلم بجنونها يقول متبرئا عن الشبهة: ما علمت بجنونها، ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم واستعظامه لما أمر به (1) وقوله: " لولا علي لهلك عمر " يدل على أنه كان تأثم وتحرج بوقوع الأمر بالرجم، وأنه مما لا يجوز ولا يحل له أن يأمر به، وإلا فلا معنى لهذا الكلام.

أما ذكره الغم، فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله! ولم يكن منه تقصير ولا تفريط، لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به، وكانت المسألة عن حالها والبحث لا يجبان عليه، فأي وجه لتألمه وتوجعه، واستعظامه لما فعله! وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر للإمام بعد ذلك براءة ساحته (2) لم يجب أن يندم على فعله ويستعظمه، لأنه وقع صوابا مستحقا.

فأما قوله: (كان لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون الحد) وتأوله الخبر المروي بما يقتضي زوال التكليف دون الأحكام، فإن أراد أنه لا يمتنع في العقل (3) أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف ولا إهانة فذلك صحيح، كما يقام على التائب، وأما الحد في الحقيقة فهو الذي يضامه (4) الاستخفاف والإهانة فلا يقام إلا على المكلفين ومستحقي العقاب، وبالجنون قد زال التكليف فزال استحقاق العقاب الذي يتبعه الحد.

____________

(1) ش " فلما رأيناه استعظم ما أمر به ".

(2) غ " سابقة ".

(3) الشرع خ ل.

(4) يضامه: أي يضم إليه.

الصفحة 183 

وقوله: " لا يمتنع أن يرجع فيما هذا حاله من المشتبه إلى غيره " فليس هذا من المشتبه الغامض، بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء، على أنا قد بينا أن الإمام لا يجوز أن يرجع إلى غيره في جلى ولا مشتبه من أحكام الدين.

وقوله: (إن الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الإمامة) فقد بينا أنه اقتراح بغير حجة، لأنه إذا اعترف بالخطأ فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير.

قال صاحب الكتاب - بعد أن ذكر الطعن بمفارقة جيش أسامة وأحال على ما تقدم مما قد تكلمنا عليه وبينا ما فيه مما لا حاجة بنا إلى إعادته (شبهة أخرى لهم قال: وأحد ما طعنوا به حديث أبي العجفاء (1) وأنه منه من مغالاة الصداق في النساء (2) اقتداء بما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صداق فاطمة عليه السلام حتى قامت المرأة ونبهته بقوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) (3) على جواز ذلك فقال: " كل الناس أفقه من عمر ".

وبما روي أنه تسور على قوم ووجدهم على منكر، فقالوا له إنك أخطأت من جهات تجسست وقال الله تبارك وتعالى: (ولا

____________

(1) أبو العجفاء هرم بن نسيب السلمي تابعي يروي عن عمر بن الخطاب عداده في أهل البصرة روى عنه محمد بن سيرين أورده ابن حبان في كتاب الثقاة (تاج العروس 8 / 190 مادة " عجف "..).

(2) في ش " في صدقات النساء ".

(3) النساء 20.

الصفحة 184 

تجسسوا) (1) ودخلت بغير أذن ولم تسلم، وأجاب عن ذلك بأن قال:

(علمنا بتقدم عمر في العلم وفضله فيه (2) ضروري فلا يجوز أن يقدح فيه بأخبار آحاد غير مشهورة (3) وإنما أراد في المهور أن المستحب الاقتداء (4) برسول الله صلى الله عليه وآله وأن المغالاة فيها ليس بمكرمة، ثم عند التنبيه علم أن ذلك مبني على طيب النفس، فقال ما قال على جهة التواضع، لأن من أظهر الاستفادة من غيره وإن قل علمه فقد تعاطي الخضوع، ونبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها وصير نفسه قدوة في ذلك وأسوة، وذلك يحسن من الفضلاء.

فأما حديث التجسس (5) فإن فعله فقد كان له ذلك. لأن للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل، وإنما لحقه على ما يروي في الخبر الخجل " لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر، (6)...).

يقال له: أما تعويلك على العلم الضروري بكونه من أهل العلم والاجتهاد فذلك لا ينفعك إذا صح لأنه قد يذهب على من هو بهذه الصفة كثير من الأحكام حتى ينبه عليها، أو يجتهد فيها وليس العلم الضروري ثابتا بأنه عالم بجميع أحكام الدين فيكون قاضيا على هذه الأخبار.

____________

(1) الحجرات 12.

(2) غ " وما كان فيه من الاجتهاد في المسائل والتنبيه وغير ذلك ضروري ".

(3) غ " مشهورة النقل ".

(4) غ " وأما حديث المهور فإنما أراد أن المستحب الاقتداء ".

(5) غ " فأما ما روي من حديث التجسس ".

(6) المغني 20 ق 2 / 14.

 

 

الصفحة 185 

فأما تأوله الحديث، وحمله إياه على الاستحباب، فهو دفع للعيان لأن المروي أنه منع من ذلك وحظره حتى قالت له المرأة ما قالت، ولو كان راغبا عن المغالاة وغير حاظر لها (1) - لما كان في الآية حجة عليه ولا كان لكلام المرأة موقع ولا كان يعترف لها بأنها أفقه منه بل كان الواجب أن يرد عليها ويوبخها ويعرفها أنه ما حظر ذلك، وإنما تكون الآية حجة عليه لو كان حاظرا مانعا.

فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح، وتصويب الخطأ ولو كان الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة مخطئة فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطي وهي المصيبة.

فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة، وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة، وقد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه، وقال له: إنك أخطأت السنة من وجوه فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب، وتلك الحال تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر وكل هذا تلزيق وتلفيق. (2) قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى وأحد ما طعنوا به ونقموا عليه أنه كان * يعطي من بيت المال ما لا يجوز (3) حتى * كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم في كل سنة وبأنه حرم أهل البيت خمسهم الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض وأجاب عن ذلك بأن

____________

(1) حاظر لها: أي مانع.

(2) التلزيق هنا - الترقيع، والتلفيق، الأصل فيه أن يضم شقة من الثوب إلى أخرى فيخيطهما، والمراد هنا زخرفة الكلام من غير تحقق.

(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

الصفحة 186 

دفعه إلى الأزواج من حيث ظن أن لهن حقا في بيت المال، وللإمام أن يدفع ذلك على قدر ما يراه، وهذا الفعل مما قد فعله من قبله ومن بعده ولو كان منكرا (1) لما استمر عليه أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت استمراره عليه، ولو كان ذلك طعنا لوجب إذا كان يدفع إلى الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر وغيرهم من بيت المال أن يكون في حكم الخائن وكل ذلك يبطل ما قالوه لأن بيت المال إنما يراد لوضع الأموال في حقها ثم الاجتهاد إلى المتولي للأمر في القلة والكثرة.

فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد، وقد اختلف الناس فيه فمنهم من جعله حقا لذوي القربى وسهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الآية ومنهم من جعله حقا لهم من جهة الفقر وأجراهم مجرى غيرهم، وإن كانوا قد خصوا بالذكر كما أجرى الأيتام وإن خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر، والكلام في ذلك يطول فلم يخرج بما حكم به عن طريق الاجتهاد، ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة جميع الصحابة على ما قدمناه من قبل.

فأما اقتراضه من بيت المال فإن صح فهو غير محظور، بل ربما كان (2) أحوط إذا كان على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذي يمكنه منه الرد، وقد ذكر الفقهاء ذلك وقال أكثرهم إن الاحتياط في مال الأيتام وغيرهم أن يجعل في ذمة الغني المأمون لبعده عن الخطر ولا فرق بين أن يقرض الغير أو يقترض ومن بلغ من أمره أن يطعن على عمر بمثل هذه الأخبار مع ما يعلم من سيرته وتشدده في ذات الله واحتياطه فيما يتصل بملك الله وتنزيهه

____________

(1) غ " لو كان مستنكرا ".

(2) غ " كان أحوط، وعن الخطر أبعد إذا كان على ثقة من نفسه من رده ".

الصفحة 187 

عنه (1) حتى فعل بالصبي الذي أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل به وحتى كان يرفع نفسه عن الأمر الخطير (2) ويتشدد على كل أحد حتى على ولده فقد أبعد في القول والمطاعن... (3)).

يقال له: أما تفضيل الأزواج فإنه لا يجوز لأنه لا سبب فيهن يقتضي ذلك، وإنما يفضل الإمام في العطاء ذي الأسباب المقتضية لذلك مثل الجهاد وغيره من الأمور العام نفعها للمسلمين وقوله: (إن لهن حقا في بيت المال) صحيح إلا أنه لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن وما عيب بدفع حقهن وإنما عيب بالزيادة عليه وما نعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام استمر على ذلك وإن كان صحيحا كما ادعى فالمسبب الداعي إلى الاستمرار على جميع الأحكام.

فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن والحسين عليهما السلام وغيرها من بيت المال فعجيب لأنه لم يفضل هؤلاء في العطية فيشبه ما ذكرناه في الأزواج وإنما أعطاهم حقوقهم وسوى بينهم وبين غيرهم.

فأما الخمس فهو للرسول صلى الله عليه وآله ولأقربائه على ما نطق به القرآن وإنما عني تعالى بقوله: (ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (4) من كان من آل الرسول صلى الله عليه وآله خاصة لأمور (5) كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها ها هنا وقد روى سليم بن

____________

(1) غ " بمال الله، وتنزهه وبعده عنه ".

(2) ش " الأمر الحقير ".

(3) المغني 20 ق 2 / 15 - 16.

(4) الأنفال 41.

(5) ش " لأدلة كثيرة ".

الصفحة 188 

قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول " نحن والله الذين عني الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه صلى الله عليه وآله فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين) (1) وكل هؤلاء منا خاصة لم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم الله تعالى بها نبيه. صلى الله عليه وآله وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس " وروى يزيد بن هرمز (2) قال كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن الخمس لمن هو؟ قال: فكتب إليه كتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نزعم أنه لنا فأبى قومنا علينا بذلك فصبرنا عليه، والكلام في هذا الباب يطول ولا حاجة بنا إلى تقصيه هاهنا.

وأما الاجتهاد الذي عول عليه وجعله عذرا في إخراج الخمس عن أهله قد أبطلناه.

فأما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعوا إلى الريبة والتهمة ومن كان من التشدد والتحفظ والتعفف (3) على الحد الذي ذكره فكيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال وفيه حقوق وربما مست الحاجة إلى الاخراج فيها وأي حاجة لمن كان متقللا خشنا جشب المأكل خشن الملبس يتبلغ بالقوت إلى اقتراض الأموال فأما حكايته عن الفقهاء أن الاحتياط أن يجعل أموال الأيتام في ذمة الغني المأمون، فذلك إذا صح لم يكن نافعا لأن عمر لم يكن غنيا ولو كان غنيا لما اقترض وقد خرج اقتراضه عن أن يكون من باب الاحتياط، وإنما شرط الفقهاء مع الإمامة الغنى لئلا تمس الحاجة إليه، فلا يمكن ارتجاعه ولهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن

____________

(1) الحشر: 7.

(2) " يزيد بن هرم ".

(3) خ " التقشف ".

الصفحة 189 

صوابا وحسن نظر للمسلمين وفي هذه الجملة كفاية.

قال صاحب الكتاب: (شبهة أخرى لهم (1) وأحد ما نقموا عليه قولهم: إنه عطل حد الله تعالى في المغيرة بن شعبة لما شهدوا عليه بالزنا، ولقن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة اتباعا لهواه، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم، فتجنب أن يفضح المغيرة وهو واحد وفضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله تعالى ووضعه الحد في غير موضعه) وأجاب عن ذلك (أنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة وإرادة الرابع لأن يشهد لا تكمل البينة وإنما تكمل الشهادة) وذكر (أن قوله أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين يجري في أنه سائغ صحيح مجرى ما روي عنه عليه السلام من أنه أتي بسارق فقال له: (لا تفر) وقال لصفوان بن أمية لما أتاه بالسارق وأمر بقطعه فقال: (هي له) (2) يعني ما سرق (هلا قبل أن تأتيني (3) به) فلا يمتنع من عمر أن يجيب ألا تكمل الشهادة، وينبه الشاهد على لا يشهد) وذكر (أن له أن يجلد الثلاثة من حيث صاروا قذفة وأنه ليس حالهم وقد شهدوا كحال من لم تتكامل الشهادة عليه، لأن الحيلة في إزالة الحد عنه ولما تكاملت الشهادة ممكنة بتنبيه وتلقين ولا حيلة فيما قد وقع من الشهادة، فلذلك حدهم) قال:

(وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة لأنه يتصور بأنه زان، ويحكم بذلك، وليس كذلك حال الشهود، لأنهم لا يتصورون بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة) وحكي عن أبي علي أن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة

____________

(1) عبارة " شبهة أخرى لهم " ساقط من " الشافي " وأعدناها من " المغني ".

(2) أي صفوان.

(3) أي هلا كان قولك قبل أن تأتيني به.

الصفحة 190 

[ واشتهر لما خرج للصلاة بهم (1) لأنهم صاحوا به من نواحي المسجد بأنا نشهد بأنك زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة ] وحكي عن أبي علي في جواب اعتراضه على نفسه بما روي عن عمر أنه كان إذ رآه يقول لقد خفت أن يرميني الله عز وجل بحجارة من السماء أن هذا الخبر غير صحيح ولو كان حقا لكان تأويله التخويف وإظهاره قوة الظن بصدق القوم لما شهدوا عليه ليكون ردعا له وذكر أنه غير ممتنع أن يجب أن لا يفضح لما كان متوليا للبصرة من قبله ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة، (وهل يقتضي الفسق أم لا) بأن قال: (لا يعلم أنه كان يتم الشهادة ولو علمنا ذلك لكان من حيث ثبت في الشرع أن له السكوت لا يكون طعنا، ولو كان ذلك طعنا وقد ظهر أمره لأمير المؤمنين لما ولاه، فارس ولما ائتمنه على أموال الناس وعلى دمائهم) (2).

يقال له: إنما نسب عمر إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت، وإنما بتلقينه لم تكمل الشهادة، لأن زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه، وقد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم، ولو لم يكن هذا هكذا لما شهد القوم قبله وهم لا يعلمون حال زياد، هل حاله في ذلك الحكم كحالهم، لكنه مجمع بالشهادة لما رأى كراهية متولي الأمر لكمالها، وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها، ومن العجايب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة فلو كان درء الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد.

____________

(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".

(2) المغني 20 ق 2 / 16 و 17.

الصفحة 191 

وقوله: (إن دفع الحد عن المغيرة ممكن ودفعه عن ثلاثة وقد شهدوا غير ممكن) طريف لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة لا ندفع عن الثلاثة الحد فكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره؟ بل لو أمسك عن الاحتيال في الجملة لما لحق الثلاثة حد.

وقوله: (إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة وفي هذا من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة) غير صحيح لأن الحكم في الأمرين واحد لأن الثلاثة إذا ما حدوا يظن بهم الكذب وإن جوزوا أن يكونوا صادقين والمغيرة لو كملت الشهادة عليه بالزنا لظن ذلك به مع التجويز لأن يكون الشهود كذبة وليس في أحد الأمرين إلا ما في الآخر (1) وما روي عنه عليه السلام من أنه أتي بسارق فقال له: (لا تقر) إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه، لأنه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه، وقصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه.

فأما قوله عليه السلام: (هلا قبل أن يأتيني به) فلا يشبه كل ما نحن فيه، لأنه بين أن ذلك القول كان يسقط الحد لو تقدم، وليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد.

فأما ما حكاه عن أبي علي من أن القذف من الثلاثة كان قد تقدم

____________

(1) نقل ابن أبي الحديد كل ما أورده القاضي في هذه القضية ونفض المرتضى له في شرح نهج البلاغة ج 12 ص 227 - 230.

وقال معقبا على ذلك بقوله: " أما المغيرة فلا شك أنه زنى بالمرأة ولكني لست أخطئ عمر في درء الحد عنه " ثم نقل تفصيل القصة من تاريخ الطبري، والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وعقب على ذلك بقوله: " إن الخبر بزناه كان شائعا مستفيضا " ثم قال: " وإنما قلنا في أن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه، لأن الإمام يستحب له ذلك، وإن غلب على ظنه أنه يجب الحد عليه " ج 12 ص 241.

الصفحة 192 

وأنهم لو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة، فغير معروف والظاهر المروي خلافه، وهو أن حدهم عند نكول زياد عن الشهادة، وأن ذلك كان السبب في إيقاع الحد بهم، وما تأول عليه قوله: لقد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء لا يليق بظاهر الكلام، لأنه يقتضي التندم والتأسف على تفريط وقع، ولم يخاف أن يرمي بالحجارة، وهو لم يدرء الحد عن مستحق له، ولو أراد الردع والتخويف للمغيرة لأتى بكلام يليق بذلك، ولا يقتضي إضافة التفريط إلى نفسه، وكونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد ويعدل به إلى غيره.

وأما قوله: (إنا ما كنا نعلم أن زيادا كان يتمم الشاهد) فقد بينا أن ذلك كان معلوما بالظاهر ومن قرأ ما روي في هذه القصة علم بلا شك أن حال زياد كحال الثلاثة في أنه إنما حضر ليشهد، وإنما عدل عنها لكلام عمر وقوله: (إن الشرع يبيحه السكوت) ليس بصحيح لأن الشرع قد حظر كتمان الشهادة.

فأما استدلاله على أن زياد لم يفسق بالامساك عن الشهادة، واستدل بتولية أمير المؤمنين له فارس فليس بشئ يعتمد لأنه لا يمتنع أن يكون قد تاب بعد ذلك. وأظهر توبته لأمير المؤمنين عليه السلام فجاز أن يوليه، وكان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئا طيبا، وإن كان معتمدا في باب الحجة كان يقول: إن زياد إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة في الزنا وقد شهد أنه شاهده بين شعبها الأربع. وسمع نفسا عاليا فقد صح على المغيرة بشهادة الأربع وجلوسه منها مجلس الفاحشة إلى غير ذلك، من مقدمات الزنا وأسبابه، فألا ضم إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده بشهادة الأربع ما صح من الفاحشة من تعريك أذن أو ما يجري مجراه من خفيف التعزير ويسيره، وهل في العدول عن ذلك حتى كف

الصفحة 193 

عن لومه وتوبيخه والاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به؟

قال صاحب الكتاب: (شبهة أخرى لهم (1) وأحد ما نقموا عليه أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي عنه أنه قضى في الجد بسبعين قضية، وروي مائة قضية، وأنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله تعالى بين الجميع وأنه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظن).

وأجاب عن ذلك بأن مسائل الاجتهاد يجوز فيها الاختلاف، والرجوع من رأي إلى رأي بحسب الإمارات وغالب الظن، وادعى أن هذه طريقة أمير المؤمنين عليه السلام في أمهات الأولاد ومقاسمة الجد مع الإخوة ومسألة الحرام.

قال: (وإنما الكلام في أصل القياس والاجتهاد، فإذا ثبت خرج من أن يكون ذلك طعنا وقد ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يولي من يرى خلافه (2) كابن عباس وشريح ولا يمنع زيد (3) وابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف بينه وبينهما.

فأما ما روى في السبعين قضية فالمراد به في مسائل الجد لأن مسألة واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة، وليس في ذلك عيب بل يدل على سعة علمه) (4) قال (وقد صح في زمان الرسول صلى الله عليه وآله مثل ذلك، لأنه لما شاور في أمر الاسراء أبا بكر أشار أن لا يقتلهم،

____________

(1) " شبهة أخرى لهم " ساقطة من الشافي.

(2) غ " خلاف رأيه ".

(3) غ " زيد بن ثابت ".

(4) في المغني " وإنما المراد بذلك الدلالة على سعة علمه وعلى كثرة ما اتفق في مسائل الجد في أيامه ".

الصفحة 194 

وأشار عمر بقتلهم فمدحهما جميعا، فما الذي يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين، ومن الواحد في الحالين؟ وبعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن عليه السلام في طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين عليه السلام، لأنه سلم الأمر وتمكنه أكثر من تمكن الحسين (1) عليه السلام ولم يمنع ذلك من كونهما مصيبين... (2)).

يقال له: لا شك أن التلون في الأحكام، والرجوع من قضاء إلى قضاء، إنما يكون عيبا وطعنا إذا بطل الاجتهاد الذي تذهبون إليه، فأما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا.

فأما الدعوى على أمير المؤمنين عليه السلام أنه ينتقل في الأحكام ورجع من مذهب إلى آخر فإنها غير صحيحة ولا نسلمه * ونحن ننازعه في ذلك كل النزاع، ونذهب إلى دفعه أشد الدفاع وهو لا ينازعنا في تلون صاحبه في الأحكام فلا يشتبه الأمران * (3) وأطهر ما روي في ذلك خبر أمهات الأولاد وقد سلف من كلامنا في هذا الكتاب ما فيه كفاية، وقلنا: إن مذهبه عليه السلام في بيعهن كان واحدا غير مختلف وإن كان قد وافق عمر في بعض الأحوال لضرب من الرأي فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه، فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذي تذهبون إليه، بل لما بيناه من قبل أنه عليه السلام كان غير متمكن من اختياره، وأنه كان يجري أكثر الأمور مجراها المتقدم للسياسة والتدبير، وهذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه من الفتيا.

____________

(1) غ " من تمكن الحسين عليه السلام لما اشتد في الطلب ".

(2) المغني 20 ق 2 / 19.

(3) ما بين النجمتين ساقط من نقل ابن أبي الحديد.

الصفحة 195 

فأما قوله: (إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة وإنما كانت في مسائل من الجد) فكلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة والمسائل.

فأما أمر الأسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم واليقين، لأنه لا سبيل لأبي بكر وعمر إلى المشورة في أمر الأسارى إلا من طريق الظن والحسبان وأحكام الدين معلومة وإلى العلم بها سبيل.

فأما ادعاؤه من أن الاجتهاد من الحسن عليه السلام بخلاف اجتهاد الحسين عليه السلام فليس على ما ظنه لأن ذلك لم يكن عن اجتهاد وظن بل كان عن علم ويقين فمن أين له أنهما عليهما السلام عملا على الظن فما نراه اعتمد على حجة ومن أين له أن تمكن الحسن عليه السلام كان أكثر من تمكن الحسين عليه السلام على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم، ومن ذاك القتال، لأن المقاتل كان مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة، والمسلم مضيعا للأمر مفرطا وإذا كان عند صاحب الكتاب التسليم والقتال إنما كانا أصابها عن ظن وإمارات، فليس يجوز أن يغلب الظن بأن الرأي في القتال مع ارتفاع إمارات التمكن ولا يغلب في الظن المسالمة مع أمارات القوة والتمكن، وهذا بين لمن تدبره بعين بصيرة (1) قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى واحد منا طعنوا به ونقموا عليه، قوله: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) قالوا: وهذا اللفظ قبيح لو صح المعنى،

____________

(1) هذا الفصل نقله ابن أبي الحديد عن " الشافي " في شرح نهج البلاغة ج 12 / 246 - 249 بتفاوت غير مهم في بعض الحروف والكلمات والمظنون قويا أنها من تصرفاته.

الصفحة 196 

فكيف إذا فسد لأنه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول، ولأنه يوهم مساواة الرسول صلى الله عليه وآله في الأمر والنهي [ ولأنه أوهم (1) ] أن اتباعه أولى من اتباع الرسول صلى الله عليه وآله قال: (وهذا غير لازم لأنه إنما عني بقوله: أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، كراهية لذلك، وتشدده فيه من حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما، وتغير الحكم لأنا نعلم أنه كان متبعا للرسول ومتدينا بالاسلام، فلا يجوز أن يحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله) وقد حكي عن أبي علي: إن ذلك بمنزلة أن يقول: أنا أعاقب من صلى إلى بيت المقدس، وإن كان قد صلى إلى بيت المقدس في حياة رسول الله (2) صلى الله عليه وآله واعتمد في تصويبه على كف الصحابة عن النكير عليه، وادعى أن أمير المؤمنين أنكر على ابن عباس رحمه الله إحلال المتعة، وأنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريمها قال: (فأما متعة الحج فإنما أراد ما كانوا يفعلون من فسخ الحج لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع، لم يرد بذلك التمتع الذي يجري مجرى تقديم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك لأنه جائز لم يقع فيه فسخ) (3).

يقال له: ظاهر الخبر المروي عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل لأنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، وأضاف النهي إلى نفسه، ولو كان الرسول

____________

(1) التكملة من " المغني ".

(2) غ " وإن كان قد صلى إلى هذه القبلة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(3) المغني 20 ق 2 / 20 وعند ابن أبي الحديد " قبح " بدل " فسخ ".

الصفحة 197 

نهى عنهما لأضاف النهي إليه، ولكان أوكد وأولى، وكان يقول: فنهى عنهما أو نسخهما وأنا من بعده أنهى عنهما، وأعاقب عليهما، وليس يشبه ذلك ما ذكره من الصلاة إلى بيت المقدس لأن نسخ الصلاة إلى بيت المقدس معلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وسلم وليس كذلك المتعة على أنه لو قال: إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي صلى الله عليه وآله جائزة وأنا الآن أنهى عنهما لكان ذلك قولا قبيحا، يجري مجرى ما استقبحناه من القول الأول، وليس هذا القول منه ردا على الرسول صلى الله عليه وآله لأنه لا يمتنع أن يكون استحسن حظرها في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم واعتقد أن الإباحة في أيام الرسول صلى الله عليه وآله كان لها شرط لم يوجد في أيامه، وقد روي عنه أنه صرح بهذا المعنى، فقال: إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله والنساء يومئذ قليل وكذلك روي عنه في متعة الحج، أنه قال: قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك، ثم يرجعوا بالحج تقطر رؤسهم.

فأما اعتماده على الكف عن النكير، فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا على شرائط شرحناها وأوضحناها ولا معنى لإعادتها، على أنه قد روي عن عمر أنه قال بعد نهيه عن المتعة: ولا أقدر على أحد تزوج متعة إلا عذبته بالحجارة، ولو كنت تقدمت فيها لرجمت، وما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا القول، لأن المتمتع عندهم لا يستحق الرجم، ولم يدل ترك النكير على صوابه.

فأما ادعاؤه أن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على ابن عباس إحلالها فالأمر بخلافه وعكسه، فقد روي عنه عليه السلام بطرق كثيرة

الصفحة 198 

أنه كان يفتي بها وينكر على من حرمها ونهى عنها، وروي عن عمر بن سعد الهمداني عن حبيش بن المعتمر قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول لولا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي (1) وروى أبو بصير قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام يقول: سمعت علي بن الحسين يروي عن جده أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي) وقد أفتى بالمتعة جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس (2) وعبد الله ابن مسعود (3) وجابر بن عبد الله الأنصاري (4) وسلمة بن الأكوع (5) وأبي سعيد الخدري (6) وسعيد بن جبير (7) وابن جريج (8) ومجاهد (9) وغير من ذكرنا ممن يطول ذكره.

____________

(1) انظر تفسير الطبري ج 5 / 9 وكنز العمال 8 / 294.

(2) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حبر الأمة ولد بمكة وكف بصره في آخر عمره فسكن الطائف وتوفي بها سنة 68 ورأي ابن عباس نقله جماعة منهم الجصاص في أحكام القرآن، والزمخشري في الفائق 1 ك 331 وابن الأثير في النهاية 2 / 488 مادة " شفا ".

(3) عبد الله بن مسعود الهذلي من أكابر الصحابة توفي في أيام عثمان سنة 32 وانظر صحيح، مسلم بشرح النووي 9 / 181.

(4) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي صحابي كبير توفي سنة 78 وانظر عمدة القاري للعيني 8 / 310 وأحكام القرآن للجصاص 2 / 178.

(5) سلمة بن عمر بن سنان الأكوع صحابي معروف غزا إفريقية أيام عثمان توفي بالمدينة سنة 74.

(6) أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان من أكابر الصحابة توفي سنة 74.

وانظر عمدة القارئ 8 / 310.

(7) سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي حبشي الأصل تابعي من تلامذة ابن عباس قتله الحجاج بواسط سنة 95.

(8) ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج رومي الأصل، من فقهاء مكة مكي المولد والوفاة توفي سنة 150، وانظر تهذيب التهذيب 6 / 406.

(9) مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم تابعي مفسر توفي سنة 104 وانظر تفسير الطبري ج 5 ص 9.

الصفحة 199 

فأما سادة أهل البيت وعلماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها كعلي ابن الحسين زين العابدين، وأبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق، وأبي الحسن موسى الكاظم، وعلي بن موسى الرضا عليهم السلام.

وما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها لأن مقامهم على الفتيا بها نكرة فأما متعة الحج فقد فعلها النبي صلى الله عليه وآله والناس أجمع من بعده، والفقهاء في أعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا.

فأما قول صاحب الكتاب: (إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل لأن ذلك أولا لا يسمى متعة، ولأن ذلك ما فعل في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا فعله أحد من المسلمين بعده، وإنما هو من سنن الجاهلية، فكيف يقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل ولا يفعل، وهذا الكلام أضعف من أن يحتاج إلى الاكثار (1) فيه.

قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى) ثم ذكر الطعن بقصة الشورى وأنه خرج بها عن الاختيار والنص معا وذم كل واحد بأن ذكر فيه طعنا * ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه، وأنه * (2) جعل الأمر إلى ستة، ثم إلى أربعة ثم إلى واحد وقد وصفه بالضعف والقصور، وقال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن، لعلمه بأن عليا وعثمان لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه وأمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة

____________

(1) نقل ابن أبي الحديد كلام القاضي في المتعتين ونقض المرتضى له في شرح نهج البلاغة ج 12 / 251 - 254 وينظر في ذلك كتاب المتعة للأستاذ توفيق الفكيكي رحمه الله فإنه من خير ما كتب في هذا الموضوع والغدير 6 / 220 - 227.

(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني والشافي وأعدناه من شرح النهج.

الصفحة 200 

أيام، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم. والذين ليس فيهم عبد الرحمن، فأجاب عن ذلك: (بأن الأمر الظاهرة لا يجوز أن يعترض عليها بأخبار آحاد غير صحيحة، والأمر في الشورى ظاهر وإن الجماعة دخلت فيها بالرضي [ وكانوا يجتمعون ويتشاورون على وجه يدل على الرضى (1) ] فلا فرق بين من قال في أحدهم أنه دخل فيها إلا بالرضى وبين من قال ذلك في جميعهم، ولذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين عليه السلام في الشورى أحد ما نعتمد عليه، في أن لا نص يدل على أنه المختص بالإمامة وأطنب في أنه كان يجب أن يصرح بالنص على نفسه.

ولا يحتاج إلى ذكر فضائله ومناقبه لأن الحال حال مناظرة ولم يكن الأمر مستقرا لواحد، ولا يمكن أن يتعلق بالتقية قال: (والمتعالم من حاله أنه لو امتنع من الدخول في الشورى أصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره) وذكر (أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول من حيث كان الاحتمال فيه أقل) وذكر (أن عبد الرحمن أخذ الميثاق على الجماعة بالرضا بمن يختاره) قال:

(ولا يجب القدح في الأفعال بالظنون بل يجب حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال، كما يجب مثله في الألفاظ ويجب إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به أن يحمل فعله على ما يطابقها).

قال: (وقد علمنا أن حال عمرو ما كان عليه من النصيحة للمسلمين يمنع من صرف أمره في الشورى إلى الأغراض التي يظنها القوم، فلا يصح أن يقولوا: كان مراده بالشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة التي فيها عبد الرحمن عند الخلاف أن يتم الأمر لعثمان [ وينصرف عن

الصفحة 201 

علي ] (1) لأنه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه عن النص على عثمان، كما لم يمنع ذلك أبا بكر لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبي بكر لم ينقص عنه قال: (وليس ذلك بدعة [ ولا خلاف سنة (1) ] لأنه إذا جاز في غير الإمام إذا اختار [ الإمام ] (1) أن يفعل ذلك، بأن ينظر في أماثل القوم فيعلم إنهم عشرة، ثم ينظر في العشرة فيعلم أن الأماثل خمسة، ثم ينظر في واحد منهم، فما الذي يمنع من مثله في الإمام، وهو في هذا الباب أقوى اختيارا لأن له أن يختار واحدا بعينه) وذكر (إنه إنما حصر الأمر في الجماعة الذين انتهى إليهم الفضل وجعله شورى بينهم ثم بين أن الانتقال من الستة إلى الأربعة، ومن الأربعة إلى الثلاثة، لا يكون مناقضا لأن الأحوال مختلفة، وليست الحال واحدة، ولو كانت أيضا واحدة لكان كالرجوع لأن للإمام أن يرجع في مثل ذلك لأنه في حكم الوصية) قال:

(وقولهم: أنه كان يعلم أن عليا وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان [ فلذلك قال ما قال، وقد بينا أن ذلك ظن منه والظاهر من الفعل خلافه، وقولهم: إنه كان يعلم ذلك (1) ] قلة دين لأن الأمور المستقبلة لا تعلم، وإنما يحصل فيها إمارة) وقال: (والإمارات توجب أنه لم يكن فيهم حرص شديد على الإمامة [ على وجه يقع فيه الاختلاف ] (1) بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق والائتلاف، والاسترواح إلى قيام الغير بذلك، وإنما جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن عند الاختلاف لعلمه بزهده في الأمر وأنه لأجل ذلك أقرب إلى أن يتثبت لأن الراغب عن الشئ يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه، ومن كانت هذه حاله كان القوم إلى الرضا به أقرب) حكي عن أبي علي

____________

(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".

الصفحة 202 

(إن المخادعة إنما تظن بمن قصده في الأمور طريق الفساد، وعمر برئ من ذلك) قال: (والضعف الذي وصف به عبد الرحمن إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي ولذلك رد الاختيار والرأي إليه) وحكي عن أبي علي أنه ضعف ما روي من أمره بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة، وإن ذلك لو صح لأنكره القوم، ولم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط، ثم تأوله إذا سلم صحته على أنهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا وطلب الأمر من غير وجهه، وقال: (لا يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد، وإن بعد عنده أن يقدموا عليه، كما قال تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين... (1)) (2).

يقال له: قد بينا فيما تقدم طرفا من الكلام في الشورى، وذكرنا أن الذي رتبه فيها من ترتيب العدد واتفاقه واختلافه يدل على بطلان مذهب أصحاب الاختيار في عدد العاقدين للإمامة، وأنه يتم بعقد واحد لغيره برضى أربعة، وأنه لا يتم بدون ذلك، وقصة الشورى تصرح بخلاف هذا الاعتبار، فهذا من وجوه المطاعن في قصة الشورى من جملتها أنه وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة، ثم جعل الأمر فيمن له هذه الأوصاف. وروى محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال:

قال عمر: لا أدري ما اصنع بأمة محمد صلى الله عليه وآله وذلك قبل أن يطعن فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم، قال:

أصاحبكم يعني عليا قلت: نعم والله هو لها أهل في قرابته من رسول الله

____________

(1) الزمر / 65.

(2) نقل المرتضى كلام القاضي باختصار، وتجده كاملا في المغني 20 ق / 2 ص 21 إلى 26.

 

 

الصفحة 203 

صلى الله عليه وآله وصهره، وسابقته، وبلائه، فقال عمر: إن فيه بطالة (1) وفكاهة، قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: فأين الزهو والنخوة، قلت: عبد الرحمن، قال: هو رجل صالح على ضعف فيه، قلت: فسعد، قال: ذاك صاحب مقنب (2) وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها قلت: فالزبير قال: وعقة لقس (3) مؤمن الرضى، كافر الغضب، شحيح، وإن هذا الأمر لا يصلح له إلا القوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف (4)، قلت: أين أنت وعثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه، وقد روي من غير هذا الطريق أن عمر قال لأصحاب الشورى: روحوا إلي فلما نظر إليهم، قال: قد جائني كل واحد منهم يهز عقيرته يرجو أن يكون خليفة أما أنت يا طلحة أفلست القائل إن قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لننكحن أزواجه من بعده فما جعل الله محمدا بأحق ببنات أعمامنا منا، فأنزل الله فيك: (وما كان لكم أن تؤذوا

____________

(1) البطالة - بفتح الباء -: التعطل والتفرغ عن العمل، وعلق ابن أبي الحديد على ذلك بقوله: " لقد كان عليه السلام على قدم عظيمة من الوقار والجد، والسمت العظيم، والهدى الرصين، ولكنه كان طلق الوجه سمح الأخلاق، وعمر كان يريده مثله من ذوي الفضاضة والخشونة، لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه، ولا يستحسن طبع من يباينه، في الخلق والطبع " قال: "... وأنا أعجب من لفظة عمر - إن كان قالها - إن فيه بطالة، وحاش لله أن يوصف علي عليه السلام بذلك! وإنما يوصف به أهل الدعابة واللهو، وما أظن عمر - إن شاء الله - قالها. وأظنها زيدت في كلامه، وإن الكلمة ها هنا دالة على انحراف شديد " (الشرح 12 / 279).

(2) المقنب: جماعة من الفرسان.

(3) وعقه لقيس: أي كله شراسة، وشدة الخلق، وخبث النفس، قال الزمخشري في الفائق: " وروي أنه قال: ضرس ظبيس، أو قال: ضميس).

(4) قال في الفائق: " لا يصلح أن يلي هذا الأمر إلا حصيف العقدة: قليل الغرة، الشديد في غير عنف، اللين في عير ضعف الجواد في غير سرف، البخيل في غير وكف ".

الصفحة 204 

رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا (1)) وأما أنت يا زبير، فوالله ما لان قلبك يوما ولا ليلة، وما زلت جلفا جافيا، وأما أنت يا عثمان فوالله لروثة أهلك خير (2) منك. وأما أنت يا عبد الرحمن فإنك رجل ما تحب قومك جميعا، وأما أنت يا سعد فأنت رجل عصبي، وأما أنت يا علي فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجح، فقام علي عليه السلام موليا فقال عمر: والله إني لأعلم مكان رجل لو وليتموها إياه لحملكم على المحجة البيضاء قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل، وفي خبر آخر رواه البلاذري في تاريخه: إن عمر لما خرج أهل الشورى من عنده قال إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق، قال ابن عمر: فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟ قال أكره أن أتحملها حيا وميتا فوصف كل واحد من القوم كما ترى بوصف قبيح يمنع من الإمامة ثم جعلها في جملتهم حتى كأن تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع، ونحن نعلم أن الذي ذكره كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد، فهو مانع مع الاجتماع، مع إنه وصف عليا عليه السلام بوصف لا يليق به، ولا ادعاه عدو قط عليه، وهو معروف بضده من الركانة والبعد عن المزاح والفكاهة، وهذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره عليه السلام وكيف يظن به ذلك وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا أطرق هبنا أن

____________

(1) الأحزاب 53.

(2) نقل ذلك الزمخشري في الفائق 2 / 425، 426، وابن أبي الحديد في شرح النهج 12 / 143 وقال ابن أبي الحديد: - فأما الرواية الأخرى التي قال فيها لعثمان: لروثة خير منك، فهي من روايات الشيعة ولسنا نعرفها من كتب غيرهم.

الصفحة 205 

نبتدءه بالكلام، وهذا لا يكون إلا ومن شدة التزمت (1) والتوقر، وما يخالف الدعابة والفكاهة، ومما تضمنته الشورى من المطاعن، أنه قال: لا أتحملها حيا وميتا، وهذا كان علة عدوله عن النص على واحد بعينه، وهو قول متلمس متخلص لا يفتات (2) على الناس في آرائهم ثم نقض هذا بأن نص على ستة من بين العالم كله، ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا يؤل إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدم، وأي شئ يكون التحمل أكثر من هذا وأي فرق بين أن يتحملها بأن ينص على واحد بعينه، وبين أن يتحملها بما فعله من الحصر والترتيب!

ومن جملة المطاعن أنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام، ومعلوم: أن بذلك لا يستحقون القتل، لأنهم إذا كانوا إنما كلفوا: أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام، فربما طال زمان الاجتهاد، وربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض، فأي معنى للأمر بالقتل، ثم أمر بقتل من يخالف الأربعة، وما يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن، وكل ذلك مما لا يستحق به القتل.

وأما تضعيف أبي علي لذكر القتل، فليس بحجة مع أن جميع من روى قصة الشورى روى ذلك، وقد ذكر ذلك الطبري في تاريخه (3) وغيره.

فأما تأوله الأمر بالقتل على أن المراد به إذا تأخر على طريق شق

____________

(1) التزمت: الوقار.

(2) المتملس والمتخلص في معنى واحد، ولا يفتات: لا يستبد.

(3) انظر تاريخ الطبري 4 / 229 حوادث سنة 23.

الصفحة 206 

العصا وطلب الأمر من غير وجهه، فبعيد من الصواب لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك، ولأنهم إذا شقوا العصا، وطلبوا الأمر من غير وجهه من أول يوم، وجب أن يمنعوا ويقاتلوا، فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة إطلاقا؟.

فأما تعلقه بالتهديد فكيف يجوز أن يتهدد الإنسان على فعل بما لا يستحقه، وإن علم أنه لا يعزم عليه.

فأما قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) (1) فيخالف ما ذكر، لأن الشرك يستحق به إحباط الأعمال، وليس يستحق بالتأخر عن البيعة القتل.

فأما ادعاء صاحب الكتاب (أن الجماعة دخلوا في الشورى على سبيل الرضى، وأن عبد الرحمن أخذ عليهم العهد أن يرضوا بما يفعله، فمن قرأ قصة الشورى على وجهها، وعدل عما تسوله النفس من بناء الأخبار على المذاهب، علم أن الأمر بخلاف ما ذكره.

وقد روى الطبري في تاريخه، عن أشياخه من طرق مختلفة، أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لما خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بني هاشم إن طمع (2) فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا، وتلقاه العباس بن عبد المطلب فقال عليه السلام: يا عم عدلت عنا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، وإن رضي رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم

____________

(1) الزمر / 65.

(2) في الطبري " إن أطيع ".

الصفحة 207 

عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله (1) إني لا أرجو إلا أحدهما فقال له العباس: لم أدفعك في شئ إلا رجعت إلي متأخرا (2) أشرت إليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت فاحفظ عني واحدة فكل ما عرض عليك القوم فقل لا إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا [ وغيرهم ] (3)، وأيم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام أما والله لأن بقي عمر لأذكرنه ما فعل وأتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدنني حيث يكرهون، ثم تمثل:

 

حلفت برب الراقصات عشية    غدون خفافا يبتدرن المحصبا

ليحتلبن رهط ابن يعمر قاربا    نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا (4)

 

____________

(1) في الطبري " مستأخرا ".

(2) بله، بمعنى: دع، وهي مبنية على الفتح، وقيل: معناها سوى.

(3) التكملة من شرح نهج البلاغة عن الشافي.

(4) الراقصات الإبل، وخفاف مسرعات، ويبتدرن: يستبقن، والمحصب: موضع رمي الجمار بمنى، أو الشعب بين مكة ومنى كان الخارجون من مكة إلى منى ومن منى إلى مكة يقيمون به ساعة من الليل قبل التوجه إلى مقصدهم ليحتلبن توكيد للحلب وفي الطبري " ليختلين " والتخلي هو أن تترك الناقة الغزيرة للحلب بعد أن يدني ولدها فتعطف عليه ويترك تحتها ريثما تستدر ثم يجر من تحتها وتسمى خلية والشداخ - كشداد: يعمر بن عوف الكناني: و " نجيعا " مفعول " يحتلبن ".

الصفحة 208 

فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري تركه مكانه، فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن (1).

فإن قيل: أي معنى لقول العباس إني دعوتك إلى أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن هذا الأمر من قبل وفاته، أليس هذا مبطلا لما تدعونه من النص.

قلنا: قد مضى الكلام على هذا المعنى فيما مضى من الكتاب، وبينا أنه لا يمتنع أن يريد العباس رضي الله عنه سؤاله عمن يصل الأمر إليه، وينتقل إلى يديه، لأنه قد يستحقه من لا يصل إليه، [ وقد يصل إلى من لا يستحقه ] وليس يمتنع أن يريد إنا كنا نسأله صلى الله عليه وآله قبل الموت ليتجدد ويتأكد، ويكون لقرب العهد أبعد من أن يطرح.

فإن قيل: أليس قد أنكرتم على صاحب الكتاب هذا التأويل بعينه فيما استعمله فيما روي عن أبي بكر من قوله: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وآله هل للأنصار في هذا الأمر حق؟

قلنا: إنما أنكرناه في ذلك الخبر لأنه لا يليق به من حيث قال: فكنا لا ننازعه أهله، وهذا قول من لا علم له بأنه ليس للأنصار حق في الإمامة، ومن كان يرجع في أن لهم حقا في الأمر أو لا حق لهم فيه، إلى ما يسمعه مستأنفا وليس في هذا الخبر الذي ذكرناه ما في ذلك الخبر.

وروى العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف في إسناده أن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه شكا إلى العباس رضوان الله عليه وما سمع من قول عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن

____________

(1) الطبري 4 / 230 حوادث سنة 23.

الصفحة 209 

وقال: والله لقد ذهب الأمر منا فقال العباس: فكيف قلت ذاك يا ابن أخي قال: إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن نظير عثمان وصهره فأحدهما يختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معي لن ينفعاني إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.

وقال ابن الكلبي: عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها أروى بنت كريز، وأروى أم عثمان فلذلك قال صهره.

وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن بن عوف دعا عليا عليه السلام فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة الخليفتين بعده، فقال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.

وفي خبر آخر عن أبي الطفيل (1) أن عبد الرحمن قال لعلي عليه السلام: هلم يدك خذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر فقال علي عليه السلام آخذها بما فيها على أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله جهدي، فترك يده وقال: هلم يدك يا عثمان أن تأخذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر قال:

نعم، قال: هي لك يا عثمان.

وفي رواية الطبري أنه قال لعثمان مثل قوله لعلي عليه السلام

____________

(1) أبو الطفيل عامر بن وائلة الليثي صحابي كان شيعة لعلي عليه السلام وشهد معه مشاهدة ويروى بعض أحداثها كما روى عنه عمر طويلا حتى مات بالكوفة أو مكة سنة 110 على الأصح وهو آخر من مات من الصحابة (انظر أسد الغابة 5 / 233).

الصفحة 210 

فقال: نعم فبايعه فقال علي عليه السلام: ختونة حنت دهرا (1) وفي خبر آخر، نفعت الختونة يا ابن عوف، ليس هذا أول ما تظاهرتم علينا فيه (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن.

وفي غير رواية الطبري أن عبد الرحمن قال له: قد قلت ذلك لعمر فقال علي عليه السلام أو لم يكن ذلك كما ظننت.

وروى الطبري أن عبد الرحمن قال: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج علي عليه السلام وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.

وفي رواية الطبري أن الناس لما بايعوا عثمان تلكأ علي عليه السلام فقال عثمان: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أو في بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما... (2)) فرجع عليه السلام حتى بايعه وهو يقول:

" خدعة وأي خدعة " (3).

وروى البلاذري في كتابه عن الكلبي، عن أبيه عن أبي مخنف في إسناد له: إن أمير المؤمنين عليه السلام لما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما فقعد، فقال له عبد الرحمن: بايع وإلا أضرب عنقك، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره. فيقال: إن عليا عليه السلام خرج مغضبا فلحقه أصحاب الشورى، فقالوا له: بايع، وإلا جاهدناك فأقبل معهم يمشي

____________

(1) الختونة: المصاهرة، والذي في الطبري " حبوته حبوة دهر " والحبوة:

العطاء.

(2) الفتح 10.

(3) الطبري 4 / 238 وفيه " خدعة وإيما خدعة ".

الصفحة 211 

حتى بايع عثمان فأي رضا هاهنا، وأي إجماع، وكيف يكون مختارا من يهدد بالقتل والجهاد!

وهذا المعنى يعني حديث التهديد بضرب العنق لو روته الشيعة لتضاحك المخالفون منه، ولتغامزوا وقالوا: وهذا من جملة ما يدعونه من المحال، ويروونه من الأحاديث، وقد أنطق الله به رواتهم، وأجراه على أفواه ثقاتهم.

وقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل نفند (1) فيه ما فعلوه من بيعة عثمان، وعدولهم بالأمر عن أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن قال له عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة، ثم جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أتقاتل فنقاتل؟ فقال عليه السلام: فبمن نقاتل، وتكلم أيضا عمار فيما رواه أبو مخنف فقال: يا معشر قريش أين تصرفون هذا الأمر من أهل بيت نبيكم؟ تحولونه ها هنا مرة وهاهنا مرة أما والله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله، فقال له هشام بن الوليد (2): يا ابن سمية لقد عدوت طورك، وما عرفت قدرك، وما أنت وما رأته قريش لأنفسها وإمارتها، فتنح عنها، وتكلمت قريش بأجمعها وصاحت بعمار وانتهرته، فقال: الحمد لله ما زال أعوان الحق قليلا.

وروى أبو مخنف أن عمارا رحمه الله قال في ذلك اليوم:

 

يا ناعي الاسلام قم فانعه         قد مات عرف وأتى منكر

 

____________

(1) التفنيد: اللوم وتضعيف الرأي.

(2) هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي أخو خالد بن الوليد من المؤلفة قلوبهم (انظر الإصابة ق 1 حرف الهاء بترجمته) وفي الطبري " فقال رجل من بني مخزوم " ولا أدري لم هذه الكناية.

الصفحة 212 

أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم، وقال لأمير المؤمنين عليه السلام: لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانيا، فقال عليه السلام: والله ما أجد عليهم أعوانا ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون.

وروى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام وكنت حاضرا بالمدينة فإذا هو واجم كئيب، فقلت: ما أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم، فقال: صبر جميل فقلت: سبحان الله إنك لصبور قال: فأصنع ماذا؟ قلت: تقوم في الناس وتدعوهم إلى نفسك إنك أولى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل والسابقة، وتسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة وإن دانوا لك كان لك ما أحببت، وإن أبوا قاتلتهم، فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله الذي أتاه نبيه صلى الله عليه وآله وكنت أولى به منهم، إذ ذهبوا بذلك فرده الله إليك، وإن قتلت في طلبه قتلت شهيدا، وكنت أولى بالعذر عند الله في الدنيا والآخرة، فقال: أو تراه كان تابعي من كل مائة عشرة؟ فقلت له: أرجو ذلك قال: لكن لا أرجو، ولا والله من المائة اثنين، وسأخبرك من أين ذلك إن الناس إنما ينظرون إلى قريش، فيقولون هم قوم محمد صلى الله عليه وآله وقبيلته، وإن قريشا تنظر فينا ويقولون إن لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش، وإنهم أولياء هذا الأمر من دون قريش والناس، إنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد ابدا، ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم، فلا والله لا تدفع هذا السلطان قريش طائعة إلينا أبدا فقلت: أفلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه، وأدعو الناس إليك؟ فقال: يا جندب ليس هذا زمان ذاك، فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل علي عليه السلام زبروني، وقهروني حتى رفع ذلك من أمري إلى الوليد بن عقبة، فبعث

الصفحة 213 

إلي فحبسني، وهذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير في أن الخلاف كان واقعا، والرضا كان مرتفعا والأمر إنما تم بالحيلة والمكر والخداع، وأول شئ مكر به عبد الرحمن أنه ابتدأ فأخرج نفسه من الأمر ليتمكن من صرفه إلى من يريد، وليقال أنه لولا إيثار الحق، وزهده في الولاية لما أخرج نفسه، ثم عرض على أمير المؤمنين عليه السلام ما يعلم أنه لا يجيب إليه، ولا تلزمه الإجابة إليه من السيرة فيهم بسيرة الرجلين، وعلم أنه لا يتمكن من أن يقول: إن سيرتهما لا تلزمني، لئلا ينسب إلى الطعن عليهما، وكيف يلزم سيرتهما وكل واحد منهما لم يسر بسيرة صاحبه، بل اختلفا وتباينا في كثير من الأحكام، هذا بعد أن قال لأهل الشورى: وثقوا لي من أنفسكم بأنكم ترضون باختياري إذا خرجت نفسي، فأجابوه على ما رواه أبو مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم إلا أمير المؤمنين عليه السلام فإنه قال: أنظر، لعلمه بما يجر هذا المكر حتى أتاهم أبو طلحة فأخبره عبد الرحمن بما عرض، وبإجابة القوم إياه إلا عليا عليه السلام، فأقبل أبو طلحة على علي عليه السلام فقال: يا أبا الحسن إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين فما بالك تخالفه وقد عدل بالأمر عن نفسه، فلن يتحمل المأثم لغيره فاحلف علي عليه السلام عبد الرحمن أن لا يميل إلى هوى، وأن يؤثر الحق، ويجتهد للأمة، ولا يحامي ذا قرابة، فحلف له، وهذا غاية ما تمكن منه أمير المؤمنين عليه السلام في الحال، لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الأمر ظنت به الجماعة الخير، وفوضوا إليه الاختيار، فلم يقدر أمير المؤمنين عليه السلام أن يخالفهم، وينقض ما اجتمعوا عليه، فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه وصرح بما يخاف من جهته من الميل إلى الهوى وإيثار القرابة غير أن ذلك كله لم يغن شيئا.

وأما قول صاحب الكتاب: (إن دخوله عليه السلام في الشورى

الصفحة 214 

دلالة على أنه لا نص عليه بالإمامة (1) ولو كان عليه نص لصرح به في تلك الحال وكان ذكره أولى من ذكر الفضائل والمناقب) فقد تقدم الكلام في هذا مستقصى وبينا المانع (2) من تصريحه عليه السلام في تلك الحال وغيرها بالنص وذكرنا أيضا علة دخوله في الشورى ولو لم يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من مقاماته وفضائله، وذرائعه (3) ووسائله إلى الإمامة، وبالأخبار الدالة عند تأملها على النص والإشارة بالإمامة إليه لكان غرضا صحيحا، وداعيا قويا، وكيف لا يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين، وفعل ما لم يسبق إليه من التحرز للدين!

فأول ما كان يقال له: - لو امتنع منها - إنك مصرح بالطعن على واضعها، وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها، وليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك، وإنك أحق به، فيعود الأمر إلى ما كان عليه السلام يخافه من تفرق الأمة، ووقوع الفتنة، وتشتت الكلمة، وفي أصحابنا القائلين بالنص من يقول: إنه عليه السلام إنما دخل في الشورى لتجويزه أن ينال الأمر منها، وعليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به من كل وجه يظن أنه توصل إليه وقول صاحب الكتاب: (إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها لأن الأمر لم يكن استقر لواحد) طريف لأن الأمر وإن لم يكن في تلك الحال مستقرا لأحد فمعلوم أن الإظهار لما يطعن في المتقدمين من ولاة الأمر لا

____________

(1) في المغني " وصح دلالة دخوله في الشورى أن لا نص عليه ".

(2) ع " إن المانع من ذكر النص كونه يقتضي تضليل من تقدم عليه وتفسيقهم، وليس كذلك تعديد المناقب والفضائل، وأما دخوله في الشورى فلو لم يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من مقاماته " الخ خ ل.

(3) الذرائع جمع ذريعة وهي الوسيلة.

الصفحة 215 

يتمكن منه، ولا يرضى به، وكذلك الخروج مما يتفق أكثرهم عليه ويرضى جهودهم به، لا يقرون أحدا عليه، بل يعدونه شذوذا عن الجماعة، وخلافا على الأمة، فأما قوله: (إن الأفعال لا يقدح فيها بالظنون، بل يجب أن تحمل على ظاهر الصحة، وإن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسن الظن به يجب أن يحمل فعله على ما يطابقها) فإنا متى سلمنا له هذه المقدمة لم يتم قصده فيها، لأن الفعل إذا كان له ظاهر وجب أن يحمل على ظاهره إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره، كما يجب مثله في الألفاظ، وقد بينا أن ظاهر الشورى وما جرى فيها يقتضي ما ذكرناه للإمارات اللائحة الوجوه الظاهرة، فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل، بل المخالف هو الذي يسومنا أن نعدل عن الظاهر.

فأما الفاعل وما تقدم له من الأحوال فمتى تقدم للفاعل حالة تقتضي أن يظن به الخير من غير علم ولا يقين، فلا بد من أن يؤثر فيها، ويقدح أن يرى له حالة أخرى تقتضي ظن القبيح به لدلالة ظاهرها على ذلك، وليس لنا أن نقضي بالأولى على الثانية وهما جميعا مظنونتان، لأن ذلك بمنزلة أن يقول قائل: اقضوا بالثانية على الأولى، وليس كذلك إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي العلم بالخير منه، ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به، لأنا حينئذ نقضي بالعلم على الظن ونبطل حكمه لمكان العلم، وإذا صحت هذه الجملة فما تقدمت لمن ذكر حالة تقتضي العلم بالخير، وإنما تقدم ما يقتضي حسن الظن، فليس لنا أن لا نسئ الظن عند ظهور إمارات سوء الظن، لأن كل ذلك مظنون غير معلوم.

وقوله: (ولو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع، كما لم يمنع ذلك أبا بكر من النص عليه) ليس بشئ، لأنه فعل ما يقوم

الصفحة 216 

مقام النص على من أراد إيصاله إليه، وصرفه عمن أراد أن يصرفه عنه من غير شناعة للتصريح، وحتى لا يقال ما قيل في أبي بكر، ويراجع في نصه كما روجع أبو بكر، ولم يتعسف أبعد الطريقين وغرضه يتم من أقربهما.

فأما بيان صاحب الكتاب: (إن الانتقال من الستة إلى الأربعة في الشورى ومن الأربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا) فهو رد على من زعم أن ذلك تناقض، فليس من هذا الوجه طعنا بل قد بينا وجوه المطاعن ففصلناها.

فأما قوله: (إن الأمور المستقبلة لا تعلم وإنما تحصل فيها إمارة) ردا على من قال: إن عمر كان يعلم أن عليا عليه السلام وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان، فكلام في غير موضعه، لأن المراد بذلك الظن لا العلم وإن عبر عن الظن بالعلم فعلى طريقة في الاستعمال معروفة، لا يتناكرها المتكلمون.

ولعل صاحب الكتاب قد استعمل في العلم موضع الظن فيما لا يحصى كثرة من كتابه هذا وغيره.

وقد بينا فيما ذكرناه من رواية الكلبي عن أبي مخنف أن أمير المؤمنين عليه السلام أول من سبق إلى هذا المعنى في قوله للعباس شاكيا إليه:

ذهب والله الأمر منا لأن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة، وإن كان الزبير وطلحة معي فلن انتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.

فأما قوله: (إن عبد الرحمن كان زاهدا في الأمر والزاهد أقرب إلى التثبت) فقد بينا وجه إظهار الزهد فيه، وأنه جعله الذريعة إلى مراده.

الصفحة 217 

فأما قوله: (إن الضعف الذي وصفه به إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي) فهب إن الأمر كذلك أليس قد جعله أحد من يجوز أن يختار للإمامة، ويفوض إليه مع أنه ضعيف عنها، وهذا بمنزلة أن يصفه بالفسق ثم يدخله في جملة القوم، لأن الضعف عن الإمامة مانع منها كما أن الفسق كذلك، وهذا الكلام يأتي على جميع ما ذكره في الفصل (1).

قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى وربما قالوا: إنه أبدع في الدين ما لا يجوز كالتراويح، وما عمله في الخراج الذي وضعه على السواد، وفي ترتيب الجزية، وكل ذلك مخالف القرآن والسنة، لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين، والخمس منها لأهل الخمس، فخالف القرآن وكذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا فخالف ذلك، والسنة أن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات فخالف السنة).

وأجاب عن ذلك: (إن قيام شهر رمضان قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عمله ثم تركه، وإذا علم أن الترك ليس بنسخ صار سنة يجوز أن يعمل بها، وإذا كان ما لأجله ترك عليه السلام من التنبيه بذلك على أنه ليس بفرض ومن تخفيف التعبد ليس بقائم في فعل عمر لم يمتنع أن يدوم عليه، * وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة والتشدد في حفظ القرآن * (2) فما الذي يمنع أن يعمل به [ على وجه أنه مسنون ] (3).

____________

(1) كلام القاضي في هذا الباب ورد المرتضى عليه أورده ابن أبي الحديد في شريح نهج البلاغة ج 12 ص 256 - 270 مع تفاوت بسيط في بعض الحروف والكلمات.

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(3) التكملة من " المغني ".

الصفحة 218 

قال: (فأما أمر الخراج فأصله الستة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن لمن يتولى الأمر ضربا من الاختيار في الغنيمة، وكذلك فصل بين الأموال والرجال فجعل الاختيار في الرجال إلى الإمام في القتل والاسترقاق والمفاداة، وفصل بينه وبين المال، وإن كان الجميع غنيمة، وذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين على سبيل الملك وإنما المراد أن لهم في ذلك من الاختصاص والحق ما ليس لغيرهم فإذا عرض ما يقتضي تقديم أمر آخر جاز للإمام أن يفعل، ورأى عمر في أرض السواد الاحتياط للاسلام أن يقر في أيديهم على الخراج الذي وضعه [ لما فيه من الأحوال المؤدية للقوة بفعله ] (1) وأن في الناس من يقول فعل ذلك برضا الغانمين، وبأن عوض [ بعضهم ] (1) واستدل على صحة فعله بالاجماع من الأمة، وبأنه لما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين تركه [ على جملته، ولو كان ذلك منكرا لغيره كما غير في أيامه الأمور المنكرة (1) ] وذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد وأن الخبر المروي في هذا الباب ليس بمقطوع به، ولا معناه معلوم (2) ذكر أنه تكلم على ما فيه من المطاعن وعلى المشهور منها دون ما يعلم أنه لا أصل له وحكي عن أبي علي أنه لو جاز أن يعول في الطعن على مثل ذلك لم يسلم أحد من الطعن، وعارض بالخوارج وطعنهم على أمير المؤمنين عليه السلام ثم نبه على ما ترك مما ادعى أن الأمر في بطلانه ظاهر نحو ما روي عن أبي بكر وكلامه في الصلاة وقوله: لا يفعلن خالد ما آمره وما روي من أن عمر قال لأبي بكر يوم الغدير إن محمدا لمفتون بابن عمه [ ولو قدر أن يجعله نبيا لفعل (1) ] وحديث ما عزم عليه من إحراق بيت فاطمة عليها

____________

(1) الزيادة من " المغني " وكل زيادة تحت هذه الرقم فمنه أيضا.

(2) كل ما نقله المرتضى في هذا الباب من " المغني " نقله باختصار (انظر المغني ج 20 ق ص 27 - 29).

الصفحة 219 

السلام [ ونحو ما رووه عن عمر قال: ثلاثة أشياء كانت على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وزادوا على ذلك وحي على خير العمل، في الأذان ]... (1).

يقال له: أما التراويح فلا شبهة أنها بدعة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (يا أيها الناس إن الصلاة باليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة، ولا تصلوا صلاة الضحى، فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها في النار).

وقد روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المساجد فقال: وما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة، ونعمت البدعة، فاعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وآله بأن كل بدعة ضلالة.

وقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلي بهم نافلة شهر رمضان زجرهم، وعرفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه، واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم، فبعث إليهم الحسن عليه السلام فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا واعمراه فأما ادعاؤه أن قيام شهر

____________

(1) ما بين المعقوفين ساقط في " الشافي " وأعدناه من " المغني " والمظنون أنها أيضا ساقطة من نسخة " المغني " التي نقض المرتضى ما فيها لأنه لم يتعرض للرد عليها كما ترى، ونهي عمر (رض) عن هذه الثلاثة نص عليه علاء الدين علي بن محمد القوشجي وهو من أئمة المتكلمين على مذهب الأشاعرة في أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد تجد تفصيل ذلك في كتاب " النص والاجتهاد " لشرف الدين ص 206.

الصفحة 220 

رمضان كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله ثم تركه فمغالطة منه لأنا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد وإنما أنكرنا الاجتماع على ذلك.

فإن ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله صلاها جماعة في أيامه فإنها مكابرة ما أقدم عليها أحد ولو كان كذلك ما قال عمر: إنها بدعة، وإن أراد غير ذلك فهو ما لا ينفعه لأن الذي أنكرناه غيره والذي ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن والمحافظة على الصلاة ليس بشئ لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله بذلك أعلم، ولو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة ويأمران بها، وليس لنا أن نبدع في الدين بما يظن أن فيه مصلحة لأنه لا خلاف في أن ذلك لا يسوغ ولا يحل.

فأما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن لأن الله تعالى جعل الغنيمة في وجوه مخصوصة فمن خالفها فقد أبدع، وليس للإمام ولا لغيره أن يجتهد فيخالف النص، فبطل قوله: (إنه رأى من الاحتياط للاسلام أن تقر في أيديهم على الخراج) لأن خلاف النص لا يكون من الاحتياط، والله ورسوله أعلم بالاحتياط منه، ولو كان أرضى الغانمين عن ذلك أو عوضهم بينة على ما ادعاه صاحب الكتاب، لوجب أن يظهر ذلك، ويعلم وما عرفنا من ذلك شيئا، ولا نقله الناقلون، وما ادعاه من الإجماع فمعوله فيه على ترك النكير الذي قد تقدم الكلام عليه وتكرر، وكذلك تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين عليه السلام ما أقره من أحكام القوم وادعاؤه أن خبر الجزية غير معلوم، ولا مقطوع به، فهب أن ذلك سلم على ما فيه أليس من مذهبه أن أخبار الآحاد في الشريعة يعمل بها وإن لم تكن معلومة فألا عمل عمر بالخبر الذي روي في هذا الباب، وعدل عن اجتهاده الذي أداه إلى مخالفة النص.

الصفحة 221 

فأما ما عارض به من مذهب الخوارج فمن المعارضة البعيدة، لأن الخوارج لم تنقم على أمير المؤمنين عليه السلام إلا ما هو معلوم وقوعه، وإنما اشتبه عليهم صفته، وهل يدخل في باب القبح أو الحسن، وعلينا أن نبين لهم زوال القبح عن ذلك، وأنه حسن صواب، وما نعرف أحدا منهم يطعن بما يخالف ما ذكرناه.

فأما تقسيمه الشبه إلى بعيد وقريب وخفي البطلان وظاهره، فما وجدناه عول في هذا التمييز بين الأمرين إلا على استبعاده، وادعائه أن ذلك ظاهر البطلان، ومثل هذا لا يكون حجة، وقد كان يجب أن يبين من أي وجه كان خبر خالد بن الوليد وما شاكله من السخف والبطلان بحيث لا يجوز أن يتكلم عليه، وما الذي بعد هذا وقرب ما تكلم عليه، فإنه ما اعتمد في ذلك إلا على ما لا حجة فيه ولا شبهة فأما خبر الاحراق فقد مضى ما فيه كفاية فيما تقدم فلا معنى لإعادته (1).

____________

(1) ما تقدم في هذا الباب من كلام القاضي ونقض المرتضى منقول في شرح نهج البلاغة ج 2 / 281 - 284 باختلاف يسير.