القائم المهدي صلوات الله عليه

الصفحة 233 

بيان الوجه في غيبته:

(مسألة): إن قال قائل فما الوجه في غيبته عليه السلام واستتاره على الاستمرار والدوام حتى أن ذلك قد صار سببا لنفي ولادته وانكار وجوده؟

وكيف يجوز أن يكون اماما للخلق وهو لم يظهر قط لاحد منهم، وآباؤه (ع) وان كانوا غير آمرين فيما يتعلق بالإمامة ولا ناهين، فقد كانوا ظاهرين بارزين يفتون في الاحكام ويرشدون عند المعضلات لا يمكن أحد نفي وجودهم وان نفي إمامتهم؟

(الجواب): قلنا اما الاستتار والغيبة فسببهما إخافة الظالمين له على نفسه، ومن أخيف على نفسه فقد أحوج إلى الاستتار، ولم كن الغيبة من ابتدائها على ما هي عليه الآن، فإنه في ابتداء الامر كان ظاهر لأوليائه غائبا عن أعدائه، ولما اشتد الامر وقوي الخوف وزاد الطلب استتر عن الولي والعدو، فليس ما ذكره السائل من أنه لم يظهر لاحد من الخلق صحيحا.

فأما كون ذلك سببا لنفي ولادته (ع) فلم يكن سببا لشئ من ذلك إلا بالشبهة وضعف البصيرة والتقصير عن النظر الصحيح، وما كان التقصير داعيا إليه والشبهة سببه من الاعتقادات، وعلى الحق فيه دليل واضح باد لمن أراده، ظاهر لمن قصده، ليس يجب المنع في دار التكليف والمحنة منه،

الصفحة 234 

ألا ترى أن تكليف الله تعالى من علم أنه يكفر قد صار سببا لا عتقادات كثيرة باطلة، فالملحدون جعله طريقا إلى نفى الصانع، والمجبرة جعلته طريقا إلى أن القبيح منا لا يقبح من فعله تعالى، وآخرون جعلوه طريقا إلى الشك والحيرة الدفع عن القطع على حكمه القديم تعالى، وكذلك فعل الآلام بالأطفال والبهائم قد شك كثير من الناس، منهم الثنوية وأصحاب التناسخ والبكرية والمجبرة، ولم يكن دخول الشبهة بهذه الأمور على من قصر في النظر وانقاد إلى الشبهة مع وضوح الحق له لو أراده، موجبا على الله دفعها، حتى لا يكلف إلا المؤمنين ولا يؤل إلا البالغين. ولهذا الباب في الأصول نظائر كثيرة ذكرها يطول، والإشارة إليها كافية. واما الفرق بينه وبين آبائه عليهم السلام فواضح، لان خوف من يشار إليه بأنه القائم المهدي الذي يظهر بالسيف ويقهر الاعداء ويزيل الدول والممالك، لا يكون كخوف غيره ممن يجوز له مع الظهور التقية وملازمة منزله، وليس من تكليفه ولا مما سبق أنه يجري على يده الجهاد واستيصال الظالمين.

المصلحة بوجوده:

(مسألة): فإن قيل: إذا كان الخوف قد اقتضى ان المصلحة في استتاره وتباعده فقد تغيرت الحال إذا في المصلحة بالامام واختلف، وصار ما توجبونه من كون المصلحة مستمرة بوجوده وأمره ونهيه مختلفا على ما ترون، وهذا خلاف مذهبكم.

(الجواب): قلنا المصلحة التي توجب استمرارها على الدوام بوجوده وأمره ونهيه، انما هي للمكلفين. وهذه المصلحة ما تغيرت ولا تتغير، وإنما قلنا إن الخوف من الظالمين اقتضى أن يكون من مصلحته هو (ع) في نفسه الاستتار والتباعد، وما يرجع إلى المكلفين به لم يختلف، ومصلحتنا وإن كانت لا تتم إلا بظهوره وبروزه، فقد قلنا إن مصلحته الآن في نفسه في خلاف الظهور، وذلك غير متناقض، لان من أخاف الامام واحوجه إلى الغيبة

الصفحة 235 

والى أن يكون الاستتار من مصلحته قادر على أن يزيل خوفه، فيظهر ويبرز ويصل كل مكلف إلى مصلحته، والتمكن مما يسهل سبيل المصلحة تمكن من المصلحة فمن هذا الوجه لم يزل التكليف الذي (به) الامام لطف فيه عن المكلفين بالغيبة منه والاستتار، على أن هذا يلزم في النبي صلى الله عليه وآله لما استتر في الغار وغاب عن قومه بحيث لا يعرفونه، لأنا نعلم أن المصلحة بظهوره وبيانه كانت ثابتة غير متغيرة. ومع هذه الحال فإن المصلحة له في الاستتار والغيبة عند الخوف، ولا جواب عن ذلك. وبيان أنه لا تنافي فيه ولا تناقض إلا بمثل ما اعتمدناه بعينه.

في الوجه في غيبته عن أوليائه وأعدائه:

(مسألة): فإن قيل: فإذا كان الإمام (ع) غائبا بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ولا ينتفع به، فما الفرق بين وجوده وعدمه؟ وإذا جاز ان يكون إخافة الظالمين سببا لغيبته بحيث لا يصل إلى مصلحتنا به حتى إذا زالت الإخافة ظهر، فلم لا جاز أن يكون اخافتهم له سببا لان يعدمه الله تعالى، فإذا انقادوا وأذعنوا أوجده الله لهم؟

(الجواب): قلنا: أول ما نقول إنا غير قاطعين على أن الإمام (ع) لا يصل إليه أحد ولا يلقاه بشر، فهذا أمر غير معلوم ولا سبيل إلى القطع عليه، ثم الفرق بين وجوده غائبا عن أعدائه للتقية وهو في خلال ذلك منتظر أن يمكنوه فيظهر ويتصرف، وبين عدمه واح لا خفاء به. وهو الفرق بين أن تكون الحجة فيما فات من مصالح العباد لازمة لله تعالى، وبين أن تكون لازمة للبشر، لأنه إذا اخيف فغيب شخصه عنهم كان ما يفهوتهم من مصلحة عقيب فعل سببوه وإلجائه إليه، فكانت العهدة فيه عليهم والذم لازما لهم وإذا أعدمه الله تعالى، ومعلوم أن العدم لا يسببه الظالمون بفعلهم، وانما يفعله الله تعالى اختيارا، كان ما يفوت بالاعدام من المصالح لازما له تعالى ومنسوبا إليه.

الصفحة 236 

(مسألة): فإن قيل فالحدود التي تجب على الجناة في حال الغيبة كيف حكمها؟ وهل تسقط عن أهلها؟ وهذا ان قلتموه صرحتم بنسخ شريعة الرسول صلى الله عليه وآله وان أثبتموه فمن الذي يقيمها والإمام (ع) غائب مستتر؟

(الجواب): قلنا: أما الحدود المستحقة بالاعمال القبيحة فواجبة في جنوب مرتكبي القبائح، فإن تعذر على الامام في حال الغيبة إقامتها فالاثم فيما تعذر من ذلك على من سبب الغيبة وأوجبها بفعله، وليس هذا نسخا للشريعة، ولان المتقرر بالشرع وجوب إقامة الحد مع التمكن وارتفاع الموانع، وسقوط فرض إقامته مع الموانع وارتفاع التمكن لا يكون نسخا للشرع المتقرر، لان الشرط في الوجوب لم يحصل. وإنما يكون ذلك نسخا لو سقط فرض إقامة الحدود عن الامام مع تمكنه، على أن هذا يلزم مخالفينا في الإمامة إذا قيل لهم كيف الحكم في الحدود التي تستحق في الأحوال التي لا يتمكن فيها أهل الحل والعقد من نصب إمام واختياره؟ وهل تبطل الحدود أو تستحق مع تعذر إقامتها؟ وهل يقتضي هذا التعذر نسخ الشريعة فأي شئ اعتصموا به من ذلك فهو جوابنا بعينه.

حاجة الناس للامام:

(مسألة): فإن قيل فالحق مع غيبة الامام كيف يدرك وهذا يقتضي أن يكون الناس في حيرة مع الغيبة؟ فان قلتم أنه يدرك من جهة الأدلة المنصوبة إليه قيل لكم هذا يقتضي الاغتناء عن الامام بهذه الأدلة.

(الجواب): قلنا: أما العلة المحوجة إلى الامام في كل عصر وعلى كل حال، فهي كونه لطفا فيما أوجب علينا فعله من العقليات من الانصاف والعدل اجتناب الظلم والبغي، لان ما عدا هذه العلة من الأمور المستندة إلى السمع والعبادة به جايز ارتفاعها لجواز خلق المكلفين من العبادات الشرعية كلها، وما يجوز على حال ارتفاعه لا يجوز أن يكون علته في أمر

الصفحة 237 

مستمر لا يجوز زواله. وقد استقصينا هذا المعنى في كتابنا الشافي في الإمامة وأوضحناه، ثم نقول من بعده أن الحق في زماننا هذا على ضربين: عقلي وسمعي: فالعقلي ندركه بالعقل ولا يؤثر فيه وجود الامام ولا فقده. والسمعي انما يدرك بالنقل الذي في مثله الحجة. ولا حق علينا يجب العلم به من الشرعيات إلا وعليه دليل شرعي. وقد ورد النقل به عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة من ولده صلوات الله عليهم، فنحن نصيب الحق بالرجوع إلى هذه الأدلة والنظر فيها. والحاجة مع ذلك كله إلى الامام ثابتة لان الناقلين يجوز أن يعرضوا عن النقل إما بشبهة أو اعتماد فينقطع النقل أو يبقى فيمن ليس نقله حجة ولا دليل، فيحتاج حينئذ المكلفون إلى دليل هو قول الإمام وبيانه، وإنما يثق المكلفون بما نقل إليهم، وانه جميع الشرع لعلمهم بأن وراء هذا النقل إماما متى اختل استدرك عما شذ منه، فالحاجة إلى الامام ثابتة مع ادراك الحق في أحوال الغيبة من الأدلة الشرعية على ما بيناه.

في بيان علة استتاره:

(مسألة): فإن قيل: إذا كانت العلة في استتار الامام خوفه من الظالمين واتقائه من المعاندين فهذه العلة زايلة في أوليائه وشيعته، فيجب أن يكون ظاهرا لهم أو يجب أن يكون التكليف الذي أوجب إمامته لطفا فيه ساقطا عنهم، لأنه لا يجوز أن يكلفوا بما فيه لطف لهم ثم يحرموه بجناية غيرهم.

(الجواب): قلنا: قد أجاب أصحابنا عن هذا بأن العلة في استتاره من الاعداء هي الخوف منهم والتقية. وعلة استتاره من الأولياء لا يمتنع أن يكون لئلا يشيعوا خبره ويتحدثوا عنه مما يؤدي إلى خوفه وان كانوا غير قاصدين بذلك. وقد ذكرنا في كتاب الإمامة جوابا آخر، وهو أن الإمام (عليه السلام) عند ظهوره عن الغيبة إنما يعلم شخصه ويتميز عينه من جهة المعجز

الصفحة 238 

الذي يظهر على يديه لان النص المتقدم من آبائه عليهم السلام لا يميز شخصه من غيره، كما يميز النص أشخاص آبائه (عليهم السلام) لما وقع على إمامتهم. والمعجز إنما يعلم دلالة وحجة بضرب من الاستدلال، والشبهة معترضة لذلك وداخلة عليه، فلا يمتنع على هذا أن يكون كل من لم يظهر له من أوليائه، فلان المعلوم من حاله أنه متى ظهر له قصر في النظر في معجزه، ولحق به هذا التقصير عند دخول الشبهة لمن يخاف منه من الاعداء، وقلنا أيضا أنه غير ممتنع أن يكون الإمام عليه السلام يظهر لبعض أوليائه ممن لا يخشى من جهته شيئا من أسباب الخوف، فإن هذا مما لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه، وإنما يعلم كل واحد من شيعته حال نفسه، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره.

ولولا أن استقصاء الكلام في مسائل الغيبة يطول ويخرج عن الغرض بهذا الكتاب لاشبعناه ها هنا. وقد أوردنا منه الكثير في كتابنا في الإمامة ولعلنا نستقصي الكلام فيه ونأتي على ما لعله لم نورده في كتاب الإمامة في موضع نفرده له، إن أخر الله تعالى في المدة وتفضل بالتأييد والمعونة، فهو المؤول ذلك والمأمول لكل فضل وخير قربا من ثوابه وبعدا من عقابه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين.