خبر أم القائم (صلوات الله عليه) وسيرتها إلى أن اشتريت

الصفحة 489 

88 / 92 - حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الرهني (1) الشيباني، قال:

وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين، وزرت قبر غريب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم انكفأت إلى مدينة السلام متوجها إلى مقابر قريش في وقت تضرم الهواجر وتوقد السمائم (3) فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (عليه السلام) واستنشقت نسيم تربته المغمورة بالرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران، انكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر.

فلما رقأت العبرة، وانقطع النحيب، فتحت بصري، فإذا أنا بشيخ قد انحنى

____________

(1) في النسخ: محمد بن يحيى الذهبي، تصحيف صوابه ما في المتن، راجع رجال النجاشي: 384، معجم رجال الحديث 15: 122.

(2) في " ط ": تقدم.

(3) في " ط ": السماء.

الصفحة 490 

صلبه، وتقوس منكباه وتثفنت (1) جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه عند القبر: يا بن أخي، لقد نال عمك شرفا عظيما بما حمله السيدان من غوامض العبرات، وشرائف العلوم التي لا يحتمل مثلها إلا سلمان الفارسي (رضي الله عنه)، وقد أشرف عمك على استكمال المدة وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلا يفضي إليه بسره.

قلت: يا نفس، لا يزال العناء والمشقة ينالان منك باتعابي (2) الخف والحافر في طلب العلم، وقد قرعت سمعي من الشيخ لفظة تدل على علم جسيم، وأثر عظيم.

فقلت: يا شيخ، من السيدان؟

قال: النجمان المغيبان (3) في سر من رأى.

فقلت: فإني أقسم بالولاية، وشرف محل هذين السيدين من الإمامة والوارثة، إني خاطب علمهما، وطالب آثارهما، وباذل من نفسي الإيمان المؤكدة على حفظ أسرارهما.

فقال: إن كنت فيما تقول صادقا، فاحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم. فلما نشرت الكتب، وتصفح الروايات منها، قال: صدقت، أنا بشر (4) بن سليمان النخاس، من ولد أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد (عليهما السلام)، وجارهما بسر من رأى.

قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما.

قال: فإن مولانا أبا الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) فقهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه، فأتجنب بذلك موارد الشبهات، حتى كملت معرفتي وأحسنت الفرق بين الحلال والحرام.

فبينا أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى، وقد مضى هوي (5) منها، إذ قرع

____________

(1) في " ع، م ": وتنقبت.

(2) في " ط ": ما لقاني، وفي " ع، م ": فألقاني.

(3) في " ع ": البحران المغيبان، وفي " م ": البحران المعينان.

(4) في " م، ط ": بشير.

(5) الهوي: الساعة من الليل.

الصفحة 491 

الباب قارع، فعدوت مسرعا، فإذا أنا بكافور خادم مولانا أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) يدعوني إليه، فلبست ثيابي، فدخلت عليه، فرأيته يحدث ابنه أبا محمد (عليه السلام)، وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال: يا بشر، إنك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم، يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها سوابق الشيعة في الولاية، بسر أطلعك عليه، وأنفذك في تتبع أمره. وكتب كتابا لطيفا بخط رومي، ولغة رومية، وطبع عليه خاتمه، وأخرج سبيكة صفراء، فيها مائتان وعشرون دينارا، فقال: خذها وتوجه إلى مدينة بغداد، واحضر معبر الفرات، ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانب زواريق السبايا وبرزت (1) الجواري منها، فستحدق بهن طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس، وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمرو بن يزيد (2) النخاس عامة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا، لابسة حريرين صفيقين (3)، تمنع من السفور، وليس يمكن التوصل (4) والانقياد لمن يحاول لمسها، فيشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق، فيضربها النخاس، فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه!

فيقول بعض المبتاعين: علي بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة.

فتقول له بالعربية: لو برزت في زي سليمان بن داود على مثل سرير ملكه، ما بدت لي فيك رغبة، فاشفق على مالك.

فيقول النخاس: فما الحيلة؟ ولا بد من بيعك؟

فتقول الجارية: وما العجلة، ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته ووفائه. فعند ذلك قم إلى عمرو بن يزيد النخاس وقل له: إن معي كتابا لطيفا لبعض

____________

(1) في " ع ": وبور، وفي " ط ": وبدزن.

(2) في " ط، م ": مزيد.

(3) الثوب الصفيق: المتين، الجيد النسج، الكثيف. " لسان العرب - صفق - 10: 204 ".

(4) في " ط ": الوصول.

الصفحة 492 

الأشراف، كتبه بلغة رومية ولفظ رومي، ووصف فيه نبله وكرمه ووفاءه وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.

قال بشر بن سليمان النخاس: فامتثلت جميع ما حده لي مولانا أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية: فلما نظرت إلى الكتاب بكت بكاء شديدا، وقالت لعمرو بن يزيد النخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب. وحلفت بالمحرجة المغلظة (1) إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها. فما زلت أشاحه (2) في ثمنها حتى استقر الثمن على مقدار ما كان أصحبني مولاي أبو الحسن (عليه السلام) من الدنانير في السبيكة الصفراء، فاستوفاه مني وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا أبي الحسن من كمها وهي تلثمه، وتضعه على خدها، وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت متعجبا منها: أتلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟!

فقالت: أيها العاجز، الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، أعرني سمعك، وفرغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يسوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي (3) من ولد الحواريين، ونسبي متصل إلى وصي المسيح شمعون.

أنبئك بالعجب أن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين، من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم تسعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد، وقواد العساكر، ونقباء الجيوش، وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهي (4) ملكه كرسيا مرصعا من أصناف الجواهر، إلى صحن القصر فوق أربعين مرقاة. فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان، وقامت الأساقفة خلفه، ونشرت أسفار الإنجيل، تساقطت الصلبان من

____________

(1) المحرجة من الإيمان: التي لا مخرج منها، والمغلظة: المؤكدة.

(2) في " م، ط " أشاحنه.

(3) في " ع، م ": وأبي.

(4) في " ع، م ": بهر.

الصفحة 493 

الأعالي حتى ألصقت بالأرض، وتقوضت الأعمدة، وتغيرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم.

فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك، أعفنا من ملاقاة هذه النحوس، الدالة على زوال هذا الدين المسيحي، والمذهب الملكاني (1).

فتطير جدي من ذلك تطيرا شديدا، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصلبان، واحضروا أخا هذا العاثر المنكوس جده، لأزوج منه هذه الصبية، فتدفع نحوسه عنكم بسعوده. فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتما، فدخل قصره، وأرخيت الستور.

وأريت (2) في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين، قد اجتمعوا في قصر جدي، ونصبوا فيه منبرا، يباري السماء علوا وارتفاعا، في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه، فيدخل عليهم محمد (صلى الله عليه وآله) مع ختنه وعدة من أهل بيته، فيقوم إليهم المسيح فيعتنقه، فيقول له: يا روح الله إني جئتك خاطبا من وصيك شمعون فتاته فلانة، لابني هذا. وأومأ بيده إلى أبي محمد ابن صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون، فقال: قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم رسول الله. قال: قد فعلت. فصعدوا ذلك المنبر، فخطب محمد (صلى الله عليه وآله)، وزوجني من ابنه، وشهد المسيح (عليه السلام)، وشهد أبناء محمد (صلى الله عليه وآله) والحواريون.

فلما استيقظت من نومي أشفقت (3) أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسرها في نفسي، ولا أبديها لهم، وضرب صدري بمحبة أبي محمد (عليه السلام)، حتى امتنعت عن الطعام والشراب، وضعفت نفسي، ودق شخصي، ومرضت مرضا شديدا، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن

____________

(1) الملكانية: أصحاب: ملكا، الذي ظهر بأرض الروم، واستولى عليها. ومعظم الروم ملكانية. الملل والنحل 1: 203.

(2) في " ط ": ورأيت.

(3) في " ع، م ": أنفت.

الصفحة 494 

دوائي، فلما برح به اليأس قال: قرة عيني، يخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا؟

قلت: يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة، فلو كشفت العذاب (1) عمن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدقت عليهم، ومنيتهم (2) بالخلاص، رجوت أن يهب لي المسيح وأمه العافية والشفاء.

فلما فعل ذلك تجلدت في إظهار الصحة في بدني، وتناولت يسيرا من الطعام، فسر بذلك جدي، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، فأريت أيضا بعد أربع عشرة ليلة كأن سيدة النساء فاطمة (عليها السلام)، ومعها مريم بنت عمران، وألف من وصائف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد (عليه السلام). فأتعلق بها وأبكي، وأشكو إليها امتناع أبي محمد (عليه السلام) من زيارتي.

فقالت سيدة النساء (صلوات الله عليها) إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله، على مذهب النصرانية، هذه أختي مريم ابنة عمران تبرأ إلى الله من ذلك، فإن ملت إلى رضا الله، ورضا المسيح ومريم عنك، وزيارة ابني أبي محمد إياك، فقولي:

أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها، وطيبت نفسي، وقالت: الآن توقعي زيارة ابني أبي محمد، إياك، فإني منفذته إليك.

فانتبهت وأنا أقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمد. فلما كانت الليلة القابلة: رأيت أبا محمد (عليه السلام) كأنني أقول له: لم جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبك.

قال: فما كان تأخري عنك إلا لشركك، وإذ قد أسلمت فإني زائرك كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.

قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسارى؟

قالت: أخبرني أبو محمد (عليه السلام) ليلة من الليالي: إن جدك سيسير جيوشا إلى

____________

(1) (العذاب) ليس في " ع، م ".

(2) في " ع، م ": ومننتهم.

الصفحة 495 

قتال المسلمين يوم كذا، فعليك باللحاق به، متنكرة في زي الخدم، مع عدة من الوصائف، من طريق كذا. ففعلت، فوقعت علينا طلائع المسلمين، حتى كان من أمري ما رأيت وشاهدت، وما شعر بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك، وذلك باطلاعي إياك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في قسم الغنيمة عن اسمي، فأنكرت وقلت: نرجس. فقال: اسم الجواري.

قال بشر: فقلت لها: العجب أنك رومية ولسانك عربي!

قالت: بلغ من ولوع (1) جدي وحبه إياي على تعلم الآداب، أن أوعز إلى امرأة ترجمان له، في الاختلاف إلي، فكانت تقصدني صباحا ومساء وتفيدني العربية، حتى استمر عليها لساني، واستقام.

قال بشر: فلما انكفأت بها إلى سر من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن (عليه السلام) بها، فقال لها: كيف أراك الله (عز وجل) عز الاسلام وذل النصرانية، وشرف أهل بيت نبيه محمد (صلى الله عليه وآله)؟

قالت: كيف أصف لك - يا بن رسول الله - ما أنت أعلم به مني!

قال: فإني أحب أن أكرمك، فأيما أحب إليك: عشرة آلاف درهم، أم بشرى لك بشرف الأبد؟

قالت: بل البشرى.

قال: أبشري بولد يملك الدنيا شرقا وغربا، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا.

فقالت: ممن؟

قال: ممن خطبك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة كذا من شهر كذا. بالرومية.

قالت: من ابنك أبي محمد (عليه السلام).

قال: فهل تعرفينه؟

قالت: وهل خلت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت على يد سيدة

____________

(1) في " ع، م ": بلوغ.

الصفحة 496 

النساء (عليها السلام)!

فقال أبو الحسن: يا كافور، ادع لي حكيمة أختي.

فلما دخلت عليه قال لها: ها هي. فاعتنقتها طويلا، وسرت (1) بها كثيرا.

فقال مولانا: يا بنت رسول الله، خذيها إليك وعلميها الفرائض والسنن، فإنها زوجة أبي محمد.(2)

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

____________

(1) في النسخ: وسألت.

(2) كمال الدين وتمام النعمة: 417 / 1، غيبة الطوسي: 208 / 178، روضة الواعظين: 252، مناقب ابن شهرآشوب 4: 440.