داود عليه السلام

الصفحة 126 

تنزيه داود عن المعصية:

(مسألة) فإن قيل فما الوجه في قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) (1) أوليس قد روى أكثر المفسرين أن داود عليه السلام قال رب قد أعطيت إبراهيم وإسحق ويعقوب من الذكر ما وددت إنك أعطيتني مثله، قال الله تعالى إني ابتليتهم بما لم أبتلك بمثله، وإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم وأعطيتك كما أعطيتهم، قال نعم، فقال عز وجل له فاعمل حتى أرى بلاءك، فكان ما شاء الله أن يكون، وطال عليه ذلك حتى كاد ينساه. فبينا هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فاطلع من الكوة فإذا امرأة

____________

(1) سورة ص. الآية (21 - 24). وقصص الأنبياء ص (312 - 313).

الصفحة 127 

تغتسل فهواها وهم بتزوجها، وكان لها بعل يقال له أوريا، فبعث به إلى بعض السرايا وأمره أن يتقدم أمام التابوت الذي فيه السكينة، وكان غرضه أن يقتل فيه فيتزوج بامرأته، فأرسل الله إليه الملكين في صورة خصمين ليبكتاه (1) على خطيئته وكنيا عن النساء بالنعاج.

وعليكم في هذه الآيات سؤال من وجه آخر وهو أن الملائكة لا تكذب فكيف قالوا خصمان بغى بعضنا على بعض؟ وكيف قال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة إلى آخر الآية؟ ولم يكن من كل ذلك شئ؟.

(الجواب): قلنا: نحن نجيب بمقتضى الآية ونبين أنه لا دلالة في شئ منها على وقوع الخطأ من داود عليه السلام، فهو الذي يحتاج إليه، فأما الرواية المدعاة، فساقطة مردودة، لتضمنها خلاف ما يقتضيه العقول في الأنبياء عليهم السلام، قد طعن في رواتها بما هو معروف، فلا حاجة بنا إلى ما ذكره.

وأما قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم) فالخصم مصدر لا يجمع ولا يثنى ولا يؤنث. ثم قال (إذ تسوروا المحراب) فكنى عنهم بكناية الجماعة، وقيل في ذلك أنه إخراج الكلام على المعنى دون اللفظ، لأن الخصمين ههنا كانا كالقبيلتين أو الجنسين. وقيل بل جمع لأن الاثنين أقل الجمع، وأوله لأن فيهما معنى الانضمام والاجتماع. وقيل بل كان مع هذين الخصمين غيرهما ممن يعنيهما ويؤيدهما. فإن العادة جارية فيمن يأتي باب السلطان بأن يحضر معه الشفعاء والمعاونون، فأما خوفه منهما فلأنه (ع) كان خاليا بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه أحد على مجرى عادته، فراعه منهما أنهما. أتيا في غير وقت الدخول، أو لأنهما دخلا من غير المكان

____________

(1) يبكتاه: بكت (بالفتح): ضربه بسيف أو عصا - وكذلك بمعنى عنف وقرع.

الصفحة 128 

المعهود. وقولهما خصمان بغى بعضنا على بعض جرى على التقدير والتمثيل. وهذا كلام مقطوع عن أو له، وتقديره: أرأيت لو كنا كذلك واحتكمنا إليك؟ ولا بد لكل واحد من الاضمار في هذه الآية. وإلا لم يصح الكلام لأن خصمان لا يجوز أن يبتدؤا به.

وقال المفسرون تقدير الكلام: نحن خصمان. قالوا وهذا مما يضمره المتكلم ويضمره المتكلم له أيضا. فيقول المتكلم سامع مطيع، أي أنا كذلك. ويقول القافلون من الحج آئبون تائبون لربنا حامدون. أي نحن كذلك. وقال الشاعر:

 

وقولا إذا جاوزتما أرض عامر   وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما

فزيعان من جرم بن ريان أنهم  أبوا أن يجيروا في الهزاهز محجما

 

أي نحن فزيعان.

ويقال للمتكلم مطاع معان. ويقال له أراحل أم مقيم؟ وقال الشاعر:

 

تقول ابنة الكعبي لما لقيتها      أمنطلق في الجيش أم متثاقل

 

أي أنت كذلك.

فإذا كان لا بد في الكلام من اضمار فليس لهم أن يضمروا شيئا بأولى منا إذا أضمرنا سواه.

فأما قوله: { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } إلى آخر الآية.

فإنما هو أيضا على جهة التقدير والتمثيل اللذين قدمناهما، وحذف من الكلام ما يقتضي فيه التقدير.

ومعنى قوله: { وعزتي في الخطاب } أي صار أعز مني. وقيل إنه أراد قهرني وغلبني.

وأما قوله لقد ظلمك من غير مسألة الخصم، فإن المراد به إن كان الأمر

الصفحة 129 

كذلك. ومعنى ظلمك انتقصك، كما قال الله تعالى: { أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } (1).

ومعنى ظن قيل فيه وجهان:

أحدهما: أنه أراد الظن المعروف الذي هو بخلاف اليقين.

والوجه الآخر: أنه أراد العلم واليقين، لأن الظن قد يرد بمعنى العلم قال الله تعالى: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } (2) وليس يجوز إن يكون أهل الآخرة ظانين لدخول النار بل عالمين قاطعين.

وقال الشاعر:

 

فقلت لهم ظنوا بإلقاء مذحج    سراتهم في الفارسي المسرد

 

أي أيقنوا. والفتنة في قوله: { وظن داود إنما فتناه } هي الاختبار والامتحان لا وجه لها إلا ذلك في هذا الموضع. كما قال تعالى: (وفتناك فتونا).

فأما الاستغفار والسجود فلم يكونا لذنب كان في الحال، ولا فيما سلف على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب، بل على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل والعبادة والسجود. وقد يفعله الناس كثيرا عند النعم التي تتجدد عليهم وتنزل وتؤول وترد إليهم شكرا لمواليها. فكذلك قد يسبحون ويستغفرون الله تعالى تعظيما وشكرا وعبادة.

وأما قوله تعالى: (وخر راكعا وأناب) فالإنابة هي الرجوع. ولما

____________

(1) الكهف 33.

(2) الكهف 53.

 

 

الصفحة 130 

كان داود عليه السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى ومنقطعا إليه، قيل فيه إنه أناب، كما يقال في التائب الراجع إلى التوبة والندم إنه منيب.

فأما قوله تعالى: (فغفرنا له ذلك) فمعناه إنا قبلنا منه وكتبنا له الثواب عليه فأخرج الجزاء على وجه المجازات به، كما قال تعالى:

(يخادعون الله وهو خادعهم) (1) وقال عز وجل: (الله يستهزئ بهم) فأخرج الجزاء على لفظ المجازي عليه.

قال الشاعر:

 

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

ولما كان المقصود في الاستغفار والتوبة إنما هو القبول، قيل في جوابه فغفرنا لك أي فعلنا المقصود به. كذلك لما كان الاستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب، قيل في جوابه غفرنا مكان قبلنا.

على أن من ذهب إلى أن داود عليه السلام فعل صغيرة، فلا بد من أن يحمل قوله تعالى (غفرنا) على غير إسقاط العقاب، لأن العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة، ومن جوز على داود عليه السلام الصغيرة، يقول إن استغفاره (ع) كان لأحد أمور:

أحدها أن أوريا بن حنان لما أخرجه في بعض ثغوره قتل، وكان داود (ع) عالما بجمال زوجته فمالت نفسه إلى نكاحها بعده، فقل غمه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته، فعوتب على ذلك بنزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع، على أن قل غمه بمؤمن قتل من أصحابه.

وثانيها: أنه روى أن امرأة خطبها أوريا بن حنان ليتزوجها، وبلغ

____________

(1) النساء 142.

الصفحة 131 

داود (ع) جمالها فخطبها أيضا فزوجها أهلها بداود وقدموه على أوريا وغيره، فعوتب (ع) على الحرص على الدنيا، بأنه خطب امرأة قد خطبها غيره حتى قدم عليه.

وثالثها: أنه روي أن امرأة تقدمت مع زوجها إليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة لكن على سبيل الوساطة، وطال الكلام بينهما وتردد، فعرض داود (ع) للرجل بالنزول عن المرأة لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسط والاستصلاح، كما يقول أحدنا لغيره: إذا كنت لا ترضى زوجتك هذه ولا تقوم بالواجب من نفقتها فانزل عنها. فقدر الرجل أن ذلك حكم منه لا تعريض، فنزل عنها وتزوجها داود (ع)، فأتاه الملكان ينبهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل، وأنه كان على سبيل العرض لا الحكم.

ورابعها: أن سبب ذلك أن داود (ع) كان متشاغلا بعبادته في محرابه، فأتاه رجل وامرأة يتحاكمان، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها فيحكم لها أو عليها، وذلك نظر مباح على هذا الوجه، فمالت نفسه إليها ميل الخلقة والطباع، ففصل بينهما وعاد إلى عبادته، فشغله الفكر في أمرها وتعلق القلب بها عن بعض نوافله التي كان وظفها على نفسه فعوتب.

وخامسها: أن المعصية منه إنما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت، وقد كان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها، ولا يقتضي عليه قبل المسألة. ومن أجاب بهذا الجواب قال: إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نساه التثبت والتحفظ.

وكل هذه الوجوه لا يجوز على الأنبياء (ع)، لأن فيها ما هو معصية، وقد بينا أن المعاصي لا تجوز عليهم، وفيها ما هو منفر، وإن لم يكن معصية، مثل أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه فتقدم عليه وتزوجها. ومثل التعريض بالنزول عن المرأة وهو لا يريد الحكم.

الصفحة 132 

فأما الاشتغال عن النوافل فلا يجوز أن يقع عليه عتاب، لأنه ليس بمعصية ولا هو أيضا منفر، فأما من زعم أنه عرض أوريا للقتل وقدمه أمام التابوت عمدا حتى يقتل، فقوله أوضح فسادا من أن يتشاغل برده.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لا أوتي برجل يزعم أن داود عليه السلام تزوج بامرأة أوريا إلا جلدته حدين، حدا للنبوة وحدا للاسلام.

فأما أبو مسلم فإنه قال: لا يمتنع أن يكون الداخلان على داود (ع) كانا خصمين من البشر، وأن يكون ذكر النعاج محمولا على الحقيقة دون الكناية، وإنما ارتاع منهما لدخولهما من غير إذن وعلى غير مجرى العادة، قال وليس في ظاهر التلاوة ما يقتضي أن يكونا ملكين. وهذا الجواب يستغنى معه عما تأولنا به. قولهما ودعوى أحدهما على صاحبه وذكر النعاج. والله تعالى أعلم بالصواب.