المكر والخدعة من الله، معنى الله يستهزئ بهم

الصفحة 35   

فصل: وذكر أبو جعفر - رحمه الله -(1) في قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم)(2)

____________

(1) الاعتقادات ص 25، التوحيد: 163 / 1 و 159 - 160 / 1.

(2) قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) إلخ (النساء: 142) سيأتي الأصل في آية: (الله يستهزئ بهم) ونوضح أن العرف من عرب وغيرهم يتمثلون في أغلب محاوراتهم استعارة بالعمل عن أشباهه وما على شاكلته فيقولون (نام فلان عن حقه وتحزم لحق غيره) فلا يخطر ببالهم الحزم والمنام المحسوسان، وإنما يريدون أنه يعمل عملا يشبه بالنائم عن حق نفسه أو المتحزم لخدمة غيره، كما يقال لمن قعد عن طلب نصيبه أو ضيع فرصة متاحة: لقد كنت نائما أو غائبا، وإن كان حاضرا واعيا، لأن عمله يشبه عمل النائم والغائب دون عمل الواعي الحاضر، كذلك الذين يثشبثون لأهوائهم وشهواتهم بدسائس التمويه والتطلية والحيل الشرعية والتزوير في التسمية كأنهم يمكرون ويخدعون الله، ثم إن الله تعالى في إسقاطهم على غرة يشبه من يقابلهم بالمكر والخديعة في حين أنه ليس مكرا في الحقيقة، وإنما هو تأديب بعد استدراج، وبعد إنذار واحتجاج، وبهذه المناسبة وصف الله بأنه خير الماكرين وخادع المنافقين.

إن الماكرين أو الخادعين لا يعملون لغاية مقدسة ولا يسبق منهم إنذار لمن في وجههم أو إعلامه لكنما الله سبحانه يعمل لغاية قدسية كالتأديب، ويعمل بعد الانذار والمواعيد لعلهم يحذرون ويتقون، فهي وأشباهها بحسب الاصطلاح استعارة، لكن الشيخين الجليلين حسباها من المجاز المرسل. ش.

الصفحة 36   

و: (نسوا الله فنسيهم)(1) و: (ومكروا ومكر الله(2) و: (الله يستهزئ بهم)(3):

____________

(1) التوبة: 67.

(2) آل عمران: 55.

(3) قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) (البقرة: 16) إن بلاء الظاهرية وأعني بهم الغلاة المتمسكين بالظواهر المأثورة ليس على الدين والمسلمين بأقل من بلاء الباطنية وأعني بهم الغلاة في التمسك ببواطن الآثار واعتبارهم ظواهر النقل العرفية قشورا، وما هؤلاء وأولئك سوى طرفي إفراط وتفريط في الحقيقة، وأحرى بهم أن يعدلوا عن تطرفهم ويسلكوا مذهب التوسط والاعتدال، فإن للقرآن والحديث ظواهر مقصودة عند التخاطب مثل: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (البقرة: 44) و (أحل الله البيع وحرم الربا) إلى آخره (البقرة: 276) مجمعا عليها بالضرورة. كما أن في القرآن والحديث ألفاظا لا يراد منها معانيها اللغوية الأصلية المبذولة، وإنما قصد منها معان عرفية يتقبلها عرف التخاطب على سبيل التجوز والتشبيه كآية: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة: 20) أو حديث: (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) فلا ترى العقلاء إلا مجتمعين على صرف هذه الألفاظ عن مفاهيمها اللغوية الأصلية إلى معان ثمثيلية رائجة الاستعمال في محاورات العرف من كل أمة، فتجد العرف يقولون (فلان نام عن ميراث أبيه وتحزم لمنازعة السلطان) أي عمل شبيه عمل النائم أو شبيه المتحزم دون أن يقصد النوم الأصلي أو الحزام الحقيقي، قال الشاعر:

 

لا تعجبي يا سلم من رجل      ضحك المشيب برأسه فبكى

 

وليس المشيب في الحقيقة إنسانا يضحك، لكنه يعمل بالرجل شبه عمل الضاحك المستهزئ، وكذلك الله سبحانه يعمل بالظالمين عملا يخيل للناظر البسيط غير المتعمق أنه عمل المستهزئ بهم، لأنه سبحانه يوسع عليهم ابتداء ويملي لهم ويمدهم في طغيانهم حتى إذا استمر طغيانهم وضاق الذرع بهم وبظلمهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر على حين غفلة وبدون مهلة، فيخال البسطاء أنه سبحانه يستهزئ بهم أو يمكر في إذلالهم بعد الإعزاز وإسقاطهم بعد الإسعاد والإمداد، لكن الخواص من ذوي الألباب يعلمون أن إمهالهم بادئ بدء استدراج وإتمام حجة، ثم التنكيل بهم تأديب لهم وللبقية، ويشهد على هذا قوله بعدئذ: (ويمدهم في طغيانهم... إلخ. ش.

الصفحة 37   

أن العبارة بذلك كله [ عن جزاء الأفعال ](1).

[ قال أبو عبد الله ](2): وهو كما قال إلا أنه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه:

أن العرب تسمي الشئ باسم المجازى عليه للتعلق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت الأفعال المجازى عليها مستحقة لهذه الأسماء كان الجزاء، مسمى بأسمائها، قال الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا)(3) فسمى ما يأكلونه(4) من الطيبات تسمية النار وجعله نارا، لأن الجزاء عليه النار.

____________

(1) في بقية النسخ: الجزاء على الأفعال.

(2) ليست في بقية النسخ.

(3) النساء: 10.

(4) في المطبوعة: يأكلون.