تأويل اليد

الصفحة 30   

فصل:   ومضى في كلام أبي جعفر - رحمه الله - شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى:

(واذكر عبدنا داود ذا الأيد)(1) فقال: ذو القوة(2).

قال الشيخ المفيد - رحمه الله -: وفيه وجه آخر وهو أن اليد عبارة عن النعمة، قال الشاعر:

 

له علي أياد لست أكفرها         وإنما الكفر ألا تشكر النعم

 

فيحتمل أن قوله تعالى: (داود ذا الأيد) يريد به ذا النعم، ومنه قوله تعالى:

(بل يداه مبسوطتان)(3) يعني نعمتيه العامتين في الدنيا والآخرة.

____________

(1) ص: 17.

(2) الاعتقادات ص 23، مجمع البيان 4: 469، التوحيد: 153 / 1.

(3) قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) هي الآية الرابعة والستون في سورة المائدة، وتمامها: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)... إلخ، استعارة أسماء الجوارح للمعاني والمجردات سائغة وشائعة كقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) البقرة: 238. وليس للنكاح عقدة محسوسة ولا أنشوطتها في كف ولي الزوج الحسية، فمن الجهل الفاضح توقف المجسم من تأويل اليد في الكتاب والسنة.

وفي الحديث النبوي: الحجر الأسود يمين الله في أرضه، وقد حكي اتفاق الظاهرية، حتى الإمام أحمد بن حنبل على وجوب تأويل هذا الحديث، فليست الاستعارة عار الكلمة لو لم تكن زينتها، ولا هي بدعا في العربية، بل هي سنة البلغاء من كل الأمم، فللجميع تعابير شكوى من يد الزمان حيث لا يد للزمان ولا جسد، و لهم الشكوى من يد المنون وليس بذي يد.

وقال الشاعر الجاهلي: (وإذا المنية أنشبت أظفارها)... إلخ، وأنى للمنايا من أكف أو أظافير، فهل يحمل المجسم كل هذه الكلم على حقائقها اللغوية المحسوسة، أم يختار فيها وفي أمثالها ما نرجحه في آية: (لما خلقت بيدي) (ص: 75)؟

وإذا جاز المجاز في القرآن ولو مبدئيا فلنا على تأويل اليد في خصوص هذه الآية شاهدان منها عليها، أحدهما: جملة (غلت أيديهم) فإن أيدي اليهود المحسوسة لم تغل بأغلال محسوسة، وإنما ذلك منه كناية عن خزي وعار لحقا بهم، وثانيهما: جملة (ينفق (برحمته) كيف يشاء) فإنه دليل إرادة النعمة من كلمة اليد - كما اختاره الشيخ المفيد وغيره.

وفي القرآن شاهد ثالث في (سورة الإسرى: 29): (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)... إلخ، فإن مغلة اليد فيها كناية عن الشح والتقتير، وبسطها كناية عن التبذير والسرف في الصرف أو العطاء، والقرآن يفسر بعضه بعضا. ش.