في معنى العرش

الصفحة 75   

في معنى العرش(*)

قال الشيخ أبو جعفر - رحمه الله -(1): اعتقادنا في العرش أنه حملة جميع الخلق والعرش في وجه آخر هو العلم...(2) إلخ.

قال الشيخ أبو عبد الله المفيد - رحمه الله -: العرش في اللغة هو الملك(3)، قال الشاعر بذلك:

 

إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم  وأودت كما أودت أياد وحمير(4)

 

يريد إذا ما بنو مروان هلك ملكهم وبادوا، وقال آخر(5):

 

أظننت عرشك لا يزول ولا يغير

 

يعني: أظننت ملكك لا يزول ولا يغير وقال الله تعالى مخبرا عن واصفي ملك ملكة سبأ: (وأوتيت من كل شئ

____________

(*) أنظر البحار - ص 93 ج 14 ط كمباني. چ.

(1) عنه في البحار 58: 7 / 5.

(2) الاعتقادات ص 45، وبحار الأنوار 55: 7.

(3) بحار الأنوار 55: 7.

(4) بحار الأنوار 55: 7.

(5) (ق): الآخر.

الصفحة 76   

ولها عرش عظيم)(1) يريدون: لها ملك عظيم، فعرش الله تعالى هو ملكه، واستواؤه على العرش هو استيلاؤه على الملك، والعرب تصف الاستيلاء بالاستواء، قال الشاعر:

 

قد استوى بشر على العراق      من غير سيف ودم مهراق(2)

 

يريد به قد استولى على العراق(3)، فأما العرش الذي تحمله الملائكة،

____________

(1) النمل: 23.

(2) بحار الأنوار 4: 5.

(3) قال العلامة الشهرستاني في مجلة (المرشد ص 29 - 31 ج 3): ليس المذهب الصحيح ما ذهب إليه الحشوية وبعض الظاهرية من أن العرش سرير كبير يجلس الله عليه جلوس الملك اغترارا منهم بما يفهمه العوام من كلمة (العرش) أو من لفظة (استوى) إذ العلم والدين متفقان على تنزيه الخالق - عز شأنه - من صفات الأجسام، وتقديس العالم الروحاني من شوائب المواد. ولو اتخذنا فهم العوام ميزانا لتفسير الكتاب والسنة لشوهنا محاسن تلك الجمل البليغة، وذهبنا بها إلى معاني مبذولة غير مقبولة، ولوجب علينا أن نفسر آية: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة: 20) بدخول الأصابع كلها في الآذان، وأن نفسر حديث (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) بأن الحجر هو إحدى أكف الرب - تعالى شأنه - نعم، لهذا الحديث وأمثاله ولتلك الآية وأمثالها وجه معقول، ولكن على سبيل التشبيه والمجاز وعليهما مدار الكلام البليغ.

وبالجملة: إننا نفسر القرآن بالقرآن لئلا نحيد عن صراطه المستقيم، فنقول:

إن العرب كانوا ولا يزالون يسمون البيت المصنوع سقفه وقوائمه من أصول الأشجار عريشا ويستعملون الصيغ المشتقة من هذا الاسم لمعاني قريبة منه، كما في آية (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) (الأعراف:

137).

وفي آية: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) (النحل: 68) وآية: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) (الأنعام: 141) يعني بذلك السقوف وقوائمها المصنوعة من أصول الشجر وفروعها للكرم أو لغيره، وآية:

(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية عل عروشها) (البقرة 260) يعني قصورها وبيوتها المسقفة، وبهذه المناسبة ومن غلبة الاستعمال صار (العرش) علما للدائرة الخاصة بملوك البشر على اختلاف أشكالها حسب اختلاف حضارة البشر في أدواره وفخامة الملك وسلطانه.

وقد استعمل الوحي الإلهي لفظة (العرش) على سبيل التجوز في دائرة ملك الله سبحانه الخاصة به وبملائكته المقربين، فعرشه كناية عن عالم الروحانيات، وما كان الحكماء الأقدمون يسمونه بعالم الملكوت، وسماه حكماء الاسلام بعالم الأمر.

وأما لفظة (استوى) وهي التي جعلت الآية من المتشابهات عند القوم، فمعناها التمكن التام والاستيلاء الكامل بدليل ما يظهر من آية: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) (المؤمنون: 28) أي: تمكنت، وآية:

(فاستغلظ فاستوى على سوقه) (الفتح: 29) أي: تمكن واستقام، وآية: (و لما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما) (القصص: 14) فالاستواء فيهن بمعنى التمكن التام دون الجلوس كما زعمت المشبهة، وكثير في محاورات العرب استعمال (استوى) بمعنى التمكن الأتم والاقتدار الكامل، كقول بعيث الشاعر:

 

قد استوى بشر على العراق      من غير سيف ودم مهراق

 

يريد تمكنه التام، غير أننا نتوخى على الدوام تفسير القرآن بالقرآن والاهتداء منه إليه، وقد دلنا على معنى (العرش) كما دلنا على معنى (الاستواء) وأن الله سبحانه قد ظهر من خلقه للسموات والأرض تمكنه التام واقتداره الكامل على عالم الأرواح، أي: دائرة ملكه الخاصة به والمهيمنة على عالم الأجسام ويؤيد ذلك: قوله تعالى بعد هذه الآية: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه: 6) مشيرا إلى أنه استولى قبل كل شئ على عالم الملكوت والأرواح، ثم تمكن بذلك من تملك عالم الناسوت والأجرام.

وإن شئتم التفاصيل الكافية بأسرار العرش وآياته وحل سائر مشكلاته، فقد استوفينا كل ذلك في رسالتنا (العرشية). چ.

الصفحة 77   

فهو بعض الملك(1)، وهو عرش خلقه الله تعالى في السماء السابعة، وتعبد الملائكة - عليهم السلام - بحمله وتعظيمه، كما خلق سبحانه بيتا في الأرض وأمر البشر بقصده وزيارته والحج إليه وتعظيمه، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى خلق بيتا تحت

____________

(1) بحار الأنوار 5: 8.

الصفحة 78   

العرش سماه البيت المعمور تحجه الملائكة في كل عام، وخلق في السماء الرابعة بيتا سماه الضراح وتعبد الملائكة بحجه والتعظيم له والطواف حوله، وخلق البيت الحرام في الأرض وجعله(1) تحت الضراح(2).

وروي عن الصادق - عليه السلام -(3) أنه قال: لو ألقي حجر من العرش لوقع على ظهر البيت المعمور، ولو القي حجر من البيت المعمور لسقط على ظهر البيت الحرام، ولم يخلق الله عرشا لنفسه ليستوطنه، تعالى الله عن ذلك.

لكنه خلق عرشا أضافه إلى نفسه تكرمة له وإعظاما وتعبد الملائكة بحمله كما خلق بيتا في الأرض ولم يخلقه(4) لنفسه ولا ليسكنه، تعالى الله عن ذلك كله.

لكنه خلقه لخلقه وأضافه لنفسه(5) إكراما له وإعظاما، وتعبد الخلق بزيارته والحج إليه.

فأما [ الوصف للعلم ](6) بالعرش فهو في مجاز اللغة دون حقيقتها، ولا وجه لتأويل(7)(8) قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)(9) بمعنى(10) أنه احتوى على العلم، وإنما الوجه في ذلك ما قدمناه.

والأحاديث التي رويت في صفة الملائكة الحاملين للعرش أحاديث آحاد وروايات أفراد لا يجوز القطع بها ولا العمل عليها، والوجه الوقوف عندها والقطع على أن [ العرش في الأصل ](11) هو الملك، والعرش المحمول جزء من الملك تعبد الله تعالى بحمله الملائكة على ما قدمناه(12).

____________

(1) ( أ ) (ز) (ح): فجعله.

(2) بحار الأنوار: 55: 8.

(3) بحار الأنوار 55: 8.

(4) (ز): يجعله.

(5) (ح) (ز) (ق): إلى نفسه.

(6) (ق): وصف العلم.

(7) بحار الأنوار 55: 8.

(8) (ح) (ز) (ش) (ق): لتأول.

(9) طه: 5.

(10) (ق): على.

(11) في المطبوعة: الأصل في العرش.

(12) بحار الأنوار 55: 8.