موسى عليه السلام

الصفحة 100 

تنزيه موسى عن العصيان بالقتل:

(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في قتل موسى عليه السلام للقبطي وليس يخلو من أن يكون مستحقا للقتل أو غير مستحق، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه (ع)، وقوله: (هذا من عمل الشيطان) وقوله: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) (1)، وإن كان غير مستحق فهو عاص في قتله، وما بنا حاجة إلى أن نقول إن القتل لا يكون صغيرة لأنكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السلام.

(الجواب): قلنا مما يجاب به عن هذا السؤال إن موسى عليه السلام لم يعتمد القتل ولا أراده، وإنما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله، فأراد موسى (ع) أن يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه، فأدى ذلك إلى القتل من غير قصد إليه، فكل ألم يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به، ولا فرق بين أن تكون المدافعة من الانسان عن نفسه، وبين أن يكون عن غيره في هذا الباب والشرط في الأمرين أن يكون

____________

(1) القصص الآية 16.

الصفحة 101 

الضرر غير مقصود، وأن يكون القصد كله إلى دفع المكروه والمنع من وقوع الضرر. فإن أدى ذلك إلى ضرر فهو غير قبيح.

ومن العجب، أن أبا علي الجبائي ذكر هذا الوجه في تفسيره، ثم نسب مع ذلك موسى (ع) إلى أنه فعل معصية صغيرة، ونسب معصيته إلى الشيطان. وقد قال في قوله (رب إني ظلمت نفسي) أي في هذا الفعل الذي لم تأمرني به، وندم على ذلك وتاب إلى الله منه، فيا ليت شعري، ما الذي فعل بما لم يؤمر به، وهو إنما دافع الظالم ومانعه، ووقعت الوكزة منه على وجه الممانعة من غير قصد. ولا شبهة في أن الله تعالى أمره بدفع الظلم عن المظلوم، فكيف فعل ما لم يؤمر به، وكيف يتوب من فعل الواجب؟

وإذا كان يريد أن ينسب المعصية إليه فما الحاجة به إلى ذكر المدافعة والممانعة، وله أن يجعل الوكزة مقصودة على وجه تكون المعصية به صغيرة.

فإن قيل: أليس لا بد أن يكون قاصدا إلى الوكزة وإن لم يكن مريدا بها إتلاف النفس؟.

قلنا: ليس يجب ما ظننته، وكيف يجعل الوكزة مقصودة، وقد بينا الكلام علي أن القصد كان إلى التخليص والمدافعة، ومن كان إنما يريد المدافعة لا يجوز أن يقصد إلى شئ من الضرر، وإنما وقعت الوكزة وهو لا يريدها، إنما أراد التخليص، فأدى ذلك إلى الوكزة والقتل.

ووجه آخر: وهو أن الله تعالى كان عرف موسى عليه السلام استحقاق القبطي للقتل بكفره، وندبه إلى تأخير قتله إلى حال التمكن، فلما رأى موسى (ع) منه الإقدام على رجل من شيعته تعمد قتله تاركا لما ندب إليه من تأخير قتله.

فأما قوله: (هذا من عمل الشيطان) ففيه وجهان:

الصفحة 102 

أحدهما: أنه أراد أن تزيين قتلي له وتركي لما ندبت إليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب من عمل الشيطان.

والوجه الآخر: أنه يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان، مفصحا بذلك عن خلافه لله تعالى واستحقاقه للقتل.

وأما قوله (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)، فعلى معنى قول آدم عليه السلام (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (1) والمعنى أحد وجهين: إما على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه وإن لم يكن هناك ذنب، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب.

وأما قوله (فاغفر لي) فإنما أراد به: فاقبل مني هذه القربة والطاعة والانقطاع. ألا ترى أن قبول الاستغفار والتوبة يسمى غفرانا؟ وإذا شارك هذا القبول غيره في معنى استحقاق الثواب والمدح به جاز أن يسمى بذلك، ثم يقال لم ذهب إلى أن القتل منه (ع) كان صغيرة، ليس يخلو من أن يكون قتله متعمدا وهو مستحق للقتل، وقتله عمدا وهو غير مستحق، أو قتله خطأ، وهو مستحق. والقسم الأول يقتضي أن لا يكون عاصيا جملة والثاني لا يجوز مثله على النبي (ع)، لأن قتل النفس عمدا بغير استحقاق لو جاز أن يكون صغيرة على بعض الوجوه جاز ذلك في الزنا وعظائم الذنوب، فإن ذكروا في الزنا وما أشبهه التنفير، فهو في القتل أعظم. وإن كان قتله خطأ غير عمد وهو مستحق أو غير مستحق، ففعله خارج من باب القبيح جملة. فما الحاجة إلى ذكر الصغيرة؟.

____________

(1) الأعراف الآية 23.

الصفحة 103 

 

تنزيه موسى عن الضلالة والاستغفار عن الرسالة:

(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه: (إنك لغوي مبين)؟.

(الجواب): إن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظا جفاة، ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات لما رأوا من يعبد الأصنام (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) وإنما خرج موسى (ع) خائفا على نفسه من قوم فرعون بسبب قتله القبطي، فرأى ذلك الرجل يخاصم رجلا من أصحاب فرعون فاستنصر موسى (ع)، فقال له عند ذلك إنك لغوي مبين. وأراد أنك خائب في طلب ما لا تدركه وتكلف ما لا تطيقه، ثم قصد إلى نصرته كما نصره بالأمس على الأول، فظن أنه يريده بالبطش لبعد فهمه، فقال له (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) (1). فعدل عن قتله، وصار ذلك سببا لشيوع خبر القبطي بالأمس.

في تنزيه موسى (ع) عن الضلال:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قول فرعون لموسى (ع): (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) (2) إلى قوله (ع) (فعلتها إذا وأنا من الضالين) (3) وكيف نسب (ع) الضلال إلى نفسه، ولم يكن عندكم في وقت من الأوقات ضالا؟.

(الجواب): قلنا: أما قوله (وأنت من الكافرين) فإنما أراد به

____________

(1) القصص الآية 19.

(2) الشعراء الآية 19.

(3) الشعراء الآية 20.

الصفحة 104 

من الكافرين لنعمتي، فإن فرعون كان المربي لموسى (ع) إلى أن كبر وبلغ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) (1).

وأما قول موسى (ع) (فعلتها إذا وأنا من الضالين)، فإنما أراد به الذاهبين عن أن الوكزة تأتي على النفس، أو أن المدافعة تفضي إلى القتل.

وقد يسمى الذاهب عن الشئ أنه ضال ويجوز أيضا أن يريد أنني ضللت عن فعل المندوب إليه من الكف عن القتل في تلك الحال والفوز بمنزلة الثواب.

بيان خيفة موسى والوجه فيها:

(مسألة): فإن قيل: كيف جاز لموسى عليه السلام وقد قال تعالى:

(أن ائت القوم الظالمين) أن يقول في الجواب (إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون) (2) وهذا استعفاء عن الرسالة.

(الجواب): أن ذلك ليس باستعفاء كما تضمنه السؤال، بل كان (ع) قد أذن له في أن يسأل ضم أخيه في الرسالة إليه قبل هذا الوقت، وضمنت له الإجابة، ألا ترى إلى قوله تعالى (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نار فقال لأهله امكثوا) إلى قوله (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون) (3) فأجابه الله تعالى إلى مسألته بقوله (فقد أوتيت سؤلك يا موسى). وهذا يدل على أن ثقته بالإجابة إلى مسألته التي قد تقدمت، وكان مأذونا له فيها. فقال: (إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق

____________

(1) الشعراء الآية 18.

(2) الشعراء الآية 12 - 13.

(3) طه الآية 29 - 30.

الصفحة 105 

لساني) شرحا لصورته وبيانا عن حاله المقتضية لضم أخيه إليه في الرسالة، فلم يكن مسألته إلا عن أذن وعلم وثقة بالإجابة.

في تنزيه موسى (ع) عن الكفر والسحر:

(مسألة): فإن قيل: كيف جاز لموسى (ع) أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك كفر وسحر وتلبيس وتمويه، والأمر بمثله لا يحسن؟.

(الجواب): قلنا لا بد من أن يكون في أمره عليه السلام بذلك شرط، فكأنه قال ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين، وكانوا فيما يفعلونه حجة. وحذف الشرط لدلالة الكلام عليه واقتضاء الحال له، وقد جرت العادة باستعمال هذا الكلام محذوف الشرط، وإن كان الشرط مرادا، وليس يجري هذا مجرى قوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (1) وهو يعلم أنهم لا يقدرون على ذلك وما أشبه هذا الكلام من ألفاظ التحدي، لأن التحدي وإن كان بصورة الأمر لكنه ليس بأمر على الحقيقة ولا تصاحبه إرادة الفعل، فكيف تصاحبه الإرادة والله تعالى يعلم استحالة وقوع ذلك منهم وتعذره عليهم وإنما التحدي لفظ موضوع لإقامة الحجة على المتحدي وإظهار عجزه وقصوره عما تحدى به، وليس هناك فعل يتناوله إرادة الأمر بإلقاء الحبال والعصي بخلاف ذلك، لأنه مقدور ممكن. فليس يجوز أن يقال أن المقصود به هو أن يعجزوا بها عن إلقائها ويتعذر عليهم ما دعوا إليه، فلم يبق بعد ذلك إلا أنه أمر بشرط، ويمكن أن يكون على سبيل التحدي بأن يكون دعاهم إلى الإلقاء على وجه يساوونه فيه، ولا يخيلون فيما ألقوه من السعي والتصرف من غير أن يكون له حقيقة، لأن ذلك غير مساو لما ظهر على يده من انقلاب الجماد حية على الحقيقة دون التخييل. وإذا كان ذلك ليس في مقدورهم فإنما تحداهم به لتظهر حجته ويوجه دلالته وهذا واضح، وقد بين الله تعالى

____________

(1) البقرة الآية 23.

الصفحة 106 

في القرآن ذلك بأوضح ما يكون فقال: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) (1).

تنزيه موسى (ع) عن الخوف:

(مسألة) فإن قيل: فمن أي شئ خاف موسى عليه السلام حتى حكى الله تعالى عنه الخيفة في قوله عز وجل: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) (2) أوليس خوفه يقتضي شكه في صحة ما أتى به؟.

(الجواب): قلنا: لم يخف من الوجه الذي تضمنه السؤال، وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما أشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر، فأمنه الله تعالى من ذلك وبين له أن حجته ستتضح للقوم بقوله تعالى: (لا تخف إنك أنت الأعلى) (3).

تنزيه موسى عن نسبة الاضلال لله تعالى:

(مسألة): فإن قال: فما معنى قوله تعالى حاكيا عن موسى (ع):

(ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (4).

____________

(1) الأعراف الآيات 113 - 119.

(2) طه الآية 67.

(3) طه الآية 68.

(4) يونس الآية 88.

الصفحة 107 

(الجواب: قلنا: أما قوله تعالى (ليضلوا عن سبيلك) ففيه وجوه:

أولها أنه أراد لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف (لا) وهذا له نظائر كثيرة في القرآن، وكلام العرب فمن ذلك قوله تعالى: (وإن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وإنما أراد (لئلا تضل) وقوله تعالى: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)، وقوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم).

وقال الشاعر:

 

نزلتم منزل الأضياف منا          فعجلنا القرى أن تشتمونا

 

والمعنى أن لا تشتمونا.

فإن قيل: ليس هذا نظيرا لقوله تعالى (ربنا ليضلوا عن سبيلك) لأنكم حذفتم في الآية (أن) و (لا) معا وما استشهدتم به إنما حذف منه لفظة (لا) فقط.

قلنا: كلما استشهدنا به فقد حذف فيه الكلام ولا معا، ألا ترى أن تقدير الكلام لئلا تشتمونا. وفي الآية إنما حذف أيضا حرفان وهما أن ولا، وإنما جعلنا حذف الكلام فيما استشهدنا به بإزاء حذف أن في الآية من حيث كانا جميعا ينبئان عن الغرض ويدلان على المقصود ألا ترى أنهم يقولون جئتك لتكرمني، كما تقولون جئتك أن تكرمني. والمعنى أن غرضي الكرامة، فإذا جاز أن يحذفوا أحد الحرفين جاز أن يحذفوا الآخر.

ثانيها: إن اللام ها هنا لام العاقبة وليست لام الغرض، ويجري مجرى قوله تعالى (فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) وهم لم يلتقطوه

____________

(1) القصص الآية 8.

الصفحة 108 

لذلك بل لخلافه، غير أن العاقبة لما كانت ما ذكره حسن إدخال اللام، ومثله قول الشاعر:

 

وللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدور تبنى المساكن

 

ونظائر ذلك كثيرة. فكأنه تعالى لما علم أن عاقبة أمرهم الكفر، وأنهم لا يموتون إلا كفارا، وأعلم ذلك نبيه، حسن أن يقول إنك آتيتهم الأموال ليضلوا.

وثالثها: أن يكون مخرج الكلام مخرج النفي والانكار على من زعم أن الله تعالى فعل ذلك ليضلهم، ولا يمتنع أن يكون هناك من يذهب إلى مذهب المجبرة (1) في أن الله تعالى يضل عن الدين، فرد بهذا الكلام عليه كما يقول أحدنا: إنما آتيت عبدي من الأموال ما آتيته ليعصيني ولا يطيعني، وهو إنما يريد الإنكار على من يظن ذلك به، ونفي إضافة المعصية إليه.

وهذا الوجه لا يتصور إلا على الوجهين: إما بأن يقدر فيه الاستفهام وإن حذف حرفه، أو بأن يكون اللام في قوله (ليعصيني) لام العاقبة التي قد تقدم بيانها. ومتى رفعنا من أوهامنا هذين الوجهين، لم يتصور كيف يكون الكلام خارجا مخرج النفي والانكار.

ورابعها: أن يكون أراد الاستفهام، فحذف حرفه المختص به، وقد حذف حرف الاستفهام في أماكن كثيرة من القرآن. وهذا الجواب يضعف لأن حرف الاستفهام لا يكاد يحذف إلا وفي الكلام دلالة عليه وعوض عنه، مثل قول الشاعر:

 

كذبتك عينك أم رأيت بواسط  غلس الظلام من الرباب خيالا

 

لأن لفظة أم يقتضي الاستفهام، وقد سأل أبو علي الجبائي نفسه عن هذا السؤال في التفسير، وأجاب عنه بأن في الآية ما يدل على حذف حرف

____________

(1) المجبرة: أو الجبرية: فرقة تنسب إلى جهم بن صفوان تقول أن الانسان مجبر في أعماله.

الصفحة 109 

الاستفهام، وهو دليل العقل الدال على أن الله تعالى لا يضل العباد عن الدين. ودليل العقل أقوى مما يكون في الكلام دالا على حرف الاستفهام.

وهذا ليس بشئ، لأن دليل العقل وإن كان أقوى من كل دليل يصحب الكلام، فإنه ليس يقتضي في الآية أن يكون حرف الاستفهام منها محذوفا لا محالة. لأن العقل إنما يقتضي تنزيه الله تعالى عن أن يكون مجربا بشئ من أفعاله إلى إضلال العباد عن الدين، وقد يمكن صرف الآية إلى ما يطابق دليل العقل من تنزيهه تعالى عن القبيح، من غير أن يذكر الاستفهام ويحذف حرفه. وإذا كان ذلك ممكنا لم يكن في العقل دليل على حذف حرف الاستفهام، وإنما يكون فيه دليل على ذلك لو كان يتعذر تنزيهه تعالى عن إرادة الضلال، إلا بتقدير الاستفهام.

فأما قوله تعالى: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (1) فأجود ما قيل فيه أنه عطف على قوله (ليضلوا) وليس بجواب لقوله (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) (2) وتقدير الكلام (ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.) وهذا الجواب يطابق أن يكون اللام للعاقبة، وأن يكون المعنى فيها لئلا يضلوا أيضا.

وقال قوم إنه أراد (فلن يؤمنوا) فأبدل الألف من النون الخفيفة.

كما قال الأعشى:

 

وصل علي حين العشيات والضحى     ولا تحمد المثرين والله فاحمدا

 

أراد فاحمدن، فأبدل النون ألفا، وكما قال عمر بن أبي ربيعة:

 

وقمير بدا ابن خمس وعشرين له قالت الفتاتان قوما

 

____________

(1) يونس الآية 88.

(2) يونس الآية 88.

الصفحة 110 

أراد قومن. ومما استشهد به ممن أجاب بهذا الجواب الذي ذكرناه آنفا في أن الكلام خبر، وإن خرج مخرج الدعاء. وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: " لن يلدغ المؤمن من جحر مرتين ". وهذا نهي، وإن كان مخرجه مخرج الخبر. وتقدير الكلام: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. لأنه لو كان خبرا لكان كذبا. وإذا جاز أن يراد بما لفظه لفظ الخبر النهي، جاز أن يراد بما لفظه لفظ الدعاء الخبر. فيكون المراد بالكلام " فلن يؤمنوا ".

وقد ذكر أبو علي الجبائي أن قوما من أهل اللغة قالوا أنه تعالى نصب قوله تعالى: (فلا يؤمنوا) وحذف منه النون. وهو يريد في المعنى " ولا يؤمنون " على سبيل الخبر عنهم، لأن قوله تعالى (فلا يؤمنوا) وقع موقع جواب الأمر الذي هو قوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) فلما وقع موقع جواب الأمر وفيه الفاء، نصبه بإضمار أن، لأن جواب الأمر بالفاء منصوب في اللغة. فنصب هذا لما أجراه مجرى الجواب، وإن لم يكن في الحقيقة جوابا. ومثله قول القائل " أنظر إلى الشمس تغرب " (بالجزم)، وتغرب ليس هو جواب الأمر على الحقيقة، لأنها لا تغرب لنظر هذا الناظر، ولكن لما وقع موقع الجواب أجراه مجراه في الجزم، وإن لم يكن جوابا في الحقيقة.

وقد ذكر أبو مسلم محمد بن بحر في هذه الآية وجها آخر، وهو من أغرب ما ذكر فيها، قال: إن الله تعالى إنما آتى فرعون وملأه الزينة والأموال في الدنيا على طريق العذاب لهم والانتقام منهم لما كانوا عليه من الكفر والضلال، وعلمه من أحوالهم في المستقبل من أنهم لا يؤمنون. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (1). فسأل موسى عليه

____________

(1) التوبة الآية 55.

الصفحة 111 

السلام ربه وقال: رب إنك آتيتهم هذه الأموال والزينة في الحياة الدنيا على طريق العذاب ولتضلهم في الآخرة عن سبيلك التي هي سبيل الجنة وتدخلهم النار بكفرهم، ثم سأله أن يطمس على أموالهم بأن يسلبهم إياها ليزيد ذلك في حسرتهم وعذابهم ومكروههم، ويشد على قلوبهم بأن يميتهم على هذه الحال المكروهة. وهذا جواب قريب من الصواب والسداد.

تنزيه موسى عن سؤال الرؤية لنفسه:

(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) (1) أوليس هذه الآية تدل على جواز الرؤية عليه تعالى لأنها لو لم تجز لم يسغ أن يسألها موسى (ع) كما يجوز أن يسأله اتخاذ الصاحبة والولد؟.

(الجواب): قلنا: أولى ما أجيب به عن هذه الآية أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه، وإنما سألها لقومه. فقد روي أن قومه طلبوا ذلك منه، فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه تعالى. فلجوا به وألحوا عليه في أن يسأل الله تعالى أن يريهم نفسه، وغلب في ظنه أن الجواب إذا ورد من جهته جلت عظمته كان أحسم للشبهة وأنفى لها، فاختار السبعين الذين حضروا للميقات لتكون المسألة بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسئل عليه السلام على ما نطق به القرآن، وأجيب بما يدل على أن الرؤية لا يجوز عليه عز وجل.

ويقوي هذا الجواب أمور:

منها: قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) (2).

____________

(1) الأعراف 143.

(2) النساء 153.

 

 

الصفحة 112 

ومنها: قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) (1).

ومنها: قوله تعالى: (فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك) (2) فأضاف ذلك إلى السفهاء، وهذا يدل على أنه كان بسببهم من حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.

ومنها: ذكر الجهرة في الرؤية وهي لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم، وهذا يقوي أن الطلب لم يكن للعلم الضروري على ما سنذكره في الجواب التالي لهذا الكلام.

ومنها: قوله تعالى: (أنظر إليك) لأنا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه، أمكن أن يكون قوله أنظر إليك على حقيقته، وإذا حملنا الآية على العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام، فيصير تقديره أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة. ويمكن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال: إذا كان المذهب الصحيح عندكم أن النظر في الحقيقة غير الرؤية، فكيف يكون قوله أنظر إليك على حقيقته، في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه، فإن قلتم: لا يمتنع أن يكونوا إنما التمسوا الرؤية التي يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة فسأل على حسب ما التمسوا، قيل لكم: هذا ينقض قولكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد، وما يقتضي الجسمية بأن تقول: الشك في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع، والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك، لأن الشك الذي لا يمنع من معرفة السمع إنما هو في الرؤية التي يكون معها نظر ولا يقتضي التشبيه.

____________

(1) البقرة 55.

(2) الأعراف 155.

الصفحة 113 

فإن قلتم يحمل ذكر النظر على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز، لأن عادة العرب أن يسموا الشئ باسم طريقه وما قاربه وما داناه، قيل لكم فكأنكم قد عدلتم عن مجاز إلى مجاز، فلا قوة في هذا الوجه، والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى، وليس لأحد أن يقول: لو كان موسى (ع) إنما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول أرني أنظر إليك، ولا كان الجواب أيضا مختصا به في قوله: لن تراني، وذلك أنه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه، مع أن المسألة كانت من أجل الغير إذا كان هناك دلالة تؤمن من اللبس، فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه: أسألك أن تفعل بي كذا وكذا وتجيبني إلى كذا وكذا، ويحسن أن يقول المشفوع إليه: قد أجبتك وشفعتك وما جرى مجرى هذه الألفاظ. وإنما حسن هذا لأن للسائل في المسألة غرضا، وإن رجعت إلى الغير لتحققه بها وتكلفه كتكلفه إذا اختصه.

فإن قيل: كيف يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالتها، ولئن جاز ذلك ليجوز أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما وما أشبهه متى شكوا فيه.

قلنا: إنما صحت المسألة في الرؤية ولم تصح فيما سألت عنه، لأن مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع، وإنه تعالى حكيم صادق في أخباره، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في جوازه، ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع فلا ينتفع بجوابه ولا يثمر علما. وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية: قد كان جايز أن يسأل موسى (ع) لقومه ما يعلم استحالته وإن كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في الدين، وأن ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الأدلة وإصابة الحق منها، غير أن من أجاب بذلك شرط أن يبين النبي (ع) أنه عالم باستحالة ما سأل فيه، وأن غرضه في السؤال أن يرد الجواب فيكون لطفا.

الصفحة 114 

وجواب آخر في الآية: وهو أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربه تعالى أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي يضطر عندها إلى المعرفة، فتزول عنه الخواطر ومنازعة الشكوك والشبهات، ويستغني عن الاستدلال، فتخف المحنة. عنه بذلك، كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى طلبا لتخفيف المحنة، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه. والسؤال وإن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الادراك بالبصر.

قال الشاعر:

 

رأيت الله إذا سمى نزارا          واسكنهم بمكة قاطنينا

 

واحتمال الرؤية للعلم أظهر من أن يدل عليه لاشتهاره ووضوحه. فقال الله تعالى لن تراني أي لم تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته، ثم أكد ذلك بأن أظهر في الجبل من الآيات والعجائب ما دل به على أن المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز، فإن الحكمة تمنع منها، والوجه الأول أولى لما ذكرناه متقدما من الوجوه، لأن موسى (ع) لا يخلو من أن يكون شاكا في أن المعرفة الضرورية لا يصح حصولها في الدنيا أو غير شاك، فإن كان شاكا فالشك فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز على الأنبياء (ع)، لا سيما وقد يجوز أن يعلم ذلك على حقيقته بعض أمتهم فيزيد عليهم في المعرفة، وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شئ يمنع منهم، وإن كان موسى عليه السلام عالما بذلك وغير شاك فيه، فلا وجه لسؤاله إلا أن يقال إنه سأل لقومه، فيعود إلى معنى الجواب الأول.

فقد حكي جواب ثالث في هذه الآية عن بعض من تكلم في تأويلها من أهل التوجيه، وهو أنه قال: يجوز أن يكون موسى عليه السلام في وقته مسألته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية عليه تعالى، فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا، قال: وليس شكه في ذلك بمانع أن يعرف الله تعالى بصفاته،

الصفحة 115 

بل يجري مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الأعراض في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى، قال ولا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لأجله. وهذا الجواب يبعد من جهة أن الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها وإن كان لا يمتنع من معرفته بصفاته، فإن الشك في ذلك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على حقيقته، فيكون النبي (ع) شاكا فيه وأمته عارفون به مع رجوعهم في المعارف بالله تعالى، وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذا يزيد في التنفير على كل ما يوجب تنزيه الأنبياء عليهم السلام عنه.

فإن قيل: فعن أي شئ كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين؟.

قلنا: أما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه، فإنه يقول إنما تاب لأنه أقدم على أن يسأل عن لسان قومه يؤذن له وليس للأنبياء عليهم السلام ذلك، لأنه لا يؤمن من أن يكون الصلاح في المنع منه، فيكون ترك إجابتهم منفرا عنهم. وليس تجري مسألتهم على سبيل الاستسرار، وبغير حضور قومهم يجري مجرى ما ذكرناه لأنه ليس يجوز أن يسألوا مستسرين ما لم يؤذن لهم فيه، لأن منعهم منه لا يقتضي تنفيرا.

ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول أنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وفي الناس من قال إنه تاب من حيث ذكر في الحال ذنبا صغيرا مقدما. والذي يجب أن يقال في تلفظه بذكر التوبة إنه وقع على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب معروف. وقد يجوز أن يكون أيضا الغرض في ذلك مضافا إلى ما ذكرناه من الاستكانة والخضوع والعبادة وتعليمنا وتفهيمنا على ما نستعمله وندعو به عند نزول الشدائد وظهور الأهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة

الصفحة 116 

مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى، فإن الأنبياء (ع) وإن لم يقع منهم القبائح فقد يقع من غيرهم، ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستغفار والاستقالة وهذا بين بحمد الله ومنه.

بيان الوجه في أخذ موسى برأس أخيه يجره:

(مسألة): فإن قيل: فما وجه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين) (1) أوليس ظاهر هذه الآية يدل على أن هارون عليه السلام أحدث ما أوجب إيقاع ذلك الفعل منه؟ وبعد فما الاعتذار لموسى (ع) من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين؟.

(الجواب) قلنا: ليس فيما حكاه الله تعالى من فعل موسى وأخيه عليهما السلام ما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما، وذلك أن موسى (ع) أقبل وهو غضبان على قومه لما أحدثوا بعده مستعظما لفعلهم مفكرا منكرا ما كان منهم، فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدة الفكر. ألا ترى أن المفكر الغضبان قد يعض على شفيته ويفتل أصابعه ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى (ع) أخاه هارون مجرى نفسه، لأنه كان أخاه وشريكه وحريمه، ومن يمسه من الخير والشر ما يمسه، فصنع به ما يصنعه الرجل بنفسه في أحوال الفكر والغضب، وهذه الأمور تختل أحكامها بالعادات، فيكون ما هو إكرام في بعضها استخافا في غيرها، ويكون ما هو استخفاف في موضع إكراما في آخر.

وأما قوله: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، فليس يدل على أنه وقع على

____________

(1) الأعراف 150.

الصفحة 117 

سبيل الاستخفاف، بل لا يمتنع أن يكون هارون (ع) خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل لسوء ظنهم أنه منكر عليه معاتب له، ثم ابتدأ بشرح قصته فقال في موضع آخر: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (1) وفي موضع آخر: (ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) إلى آخر الآية، ويمكن أن يكون قوله: (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) ليس على سبيل الامتعاظ والأنفة (أي الغيرة)، لكن معنى كلامه:

(لا تغضب ولا يشتد جزعك وأسفك) لأنا إذا كنا قد جعلنا فعله ذلك دلالة الغضب والجزع فالنهي عنه في المعنى نهي عنهما.

وقال قوم إن موسى عليه السلام لما جرى من قومه من بعده ما جرى اشتد حزنه وجزعه، ورأى من أخيه هارون عليه السلام مثل ما كان عليه من الجزع والقلق، أخذ برأسه إليه متوجعا له مسكنا له، كما يفعل أحدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها. وعلى هذا الجواب يكون قوله " لا تشمت بي الأعداء " لا يتعلق بهذا الفعل، بل يكون كلاما مستأنفا.

وأما قوله على هذا الجواب " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي "، فيحتمل أن يريد أن لا تفعل ذلك وغرضك التسكين مني فيظن القوم أنك منكر علي.

وقال قوم في هذه الآية إن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام، حتى أن هارون (ع) كان غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى أنت قتلته، فلما وعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة وأتمها له بعشر وكتب له في الألواح كل شئ وخصه بأمور شريفة جليلة الخطر بما أراه من الآية في الجبل ومن كلام الله تعالى له وغير ذلك من شريف الأمور، ثم رجع إلى أخيه، أخذ برأسه ليدنيه إليه ويعلمه ما جدده الله تعالى له من ذلك ويبشره به، فخاف هارون (ع) أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقا على موسى

____________

(1) طه 94.

الصفحة 118 

عليه السلام: لا تأخذ بلحيتي، ولا برأسي لتبشرني بما تريده بين أيدي هؤلاء فيظنوا بك ما لا يجوز عليك ولا يليق بك والله تعالى أعلم بمراده من كلامه.

في قدرة موسى على الصبر وتنزيهه عن النسيان:

(مسألة) فإن قيل: فما وجه قوله تعالى فيما حكاه عن موسى عليه السلام والعالم الذي كان صحبه وقيل إنه الخضر عليه السلام من الآيات التي ابتداؤها: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إنشاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) (1) إلى آخر الآيات المتضمنة لهذه القصة. وأول ما تسألون عنه في هذه الآيات أن يقال لكم كيف يجوز أن يتبع موسى عليه السلام غيره ويتعلم منه، وعندكم أن النبي (ع) لا يجوز أن يفتقر إلى غيره؟

وكيف يجوز أن يقول له إنك لن تستطيع معي صبرا والاستطاعة عندكم هي القدرة وقد كان موسى عل مذهبكم قادرا على الصبر؟ وكيف قال موسى ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فاستثنى المشيئة في الصبر وأطلق فيما ضمنه من طاعته واجتناب معصيته؟ وكيف قال لقد جئت شيئا أمرا وشيئا نكرا وما أتى العالم منكرا في الحقيقة؟ وما معنى قوله لا تؤاخذني بما نسيت وعندكم أن النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام؟ ولم نعت موسى (ع) النفس بأنها زكية ولم تكن كذلك على الحقيقة؟ ولم قال في الغلام: (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) (2) فإن كان الذي خشية الله تعالى على ما ظنه قوم، فالخشية لا يجوز عليه تعالى؟ وإن كان هو

____________

(1) الكهف 65 - 70.

(2) الكهف 80.

الصفحة 119 

الخضر (ع) فكيف يستبيح دم الغلام لأجل الخشية والخشية لا تقتضي علما ولا يقينا؟.

(الجواب): قلنا: إن العالم الذي نعته الله تعالى في هذه الآيات فلا يجوز إلا أن يكون نبيا فاضلا، وقد قيل إنه الخضر عليه السلام، وأنكر أبو علي الجبائي ذلك وزعم أنه ليس بصحيح قال: لأن الخضر (ع) يقال إنه كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا من بعد موسى (ع)، وليس يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلم هذا العالم ما لم يعلمه موسى، وأرشد موسى (ع) إليه ليتعلم منه، وإنما المنكر أن يحتاج النبي (ع) في العلم إلى بعض رعيته المبعوث إليهم. فأما أن يفتقر إلى غيره ممن ليس له برعية فجائز، وما تعلمه من هذا العالم إلا كتعلمه من الملك الذي يهبط عليه بالوحي، وليس في هذا دلالة على أن ذلك العالم كان أفضل من موسى في العلم، لأنه لا يمتنع أن يزيد موسى في سائر العلوم التي هي أفضل وأشرف مما علمه، فقد يعلم أحدنا شيئا من سائر المعلومات وإن كان ذلك المعلوم يذهب إلى غيره ممن هو أفضل منه وأعلم.

وأما نفي الاستطاعة فإنما أراد بها أن الصبر لا يخف عليك أنه يثقل على طبيعتك، كما يقول أحدنا لغيره: إنك لا تستطيع أن تنظر إلي. وكما يقال للمريض الذي يجهده الصوم وإن كان قادرا عليه: إنك لا تستطيع الصيام ولا تطيقه، وربما عبر بالاستطاعة عن الفعل نفسه كما قال الله تعالى حكاية عن الحواريين: (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) (1) فكأنه على هذا الوجه قال: إنك لن تصبر ولن يقع منك الصبر.

ولو كان إنما نفى القدرة على ما ظنه الجهال، لكان العالم وهو في ذلك سواء، فلا معنى لاختصاصه بنفي الاستطاعة، والذي يدل على أنه نفى عنه

____________

(1) المائدة 112.

الصفحة 120 

الصبر لاستطاعته قول موسى (ع) في جوابه: (ستجدني إن شاء الله صابرا) ولم قل ستجدني إن شاء الله مستطيعا. ومن حق الجواب أن يطابق الابتداء، فدل جوابه على أن الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه.

وأما قوله: (فلا أعصي لك أمرا) فهو أيضا مشروط بالمشيئة، وليس بمطلق على ما ذكر في السؤال، فكأنه قال ستجدني صابرا ولا أعصي لك أمرا إن شاء الله. وإنما قدم الشرط على الأمرين جميعا وهذا ظاهر في الكلام.

وأما قوله: (لقد جئت شيئا أمرا) فقد قيل أنه أراد شيئا عجبا، وقيل أنه أراد شيئا منكرا، وقيل إن الأمر أيضا هو الداهية. فكأنه قال جئت داهية.

وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أن الأمر مشتق من الكثرة من أمر القوم إذا كثروا، وجعل عبارة عما كثر عجبه، وإذا حملت هذه اللفظة على العجب فلا سؤال فيها، وإن حملت على المنكر كان الجواب عنها وعن قوله لقد جئت شيئا نكرا واحدا. وفي ذلك وجوه:

منها: أن ظاهر ما أتيته المنكر ومن يشاهده ينكره قبل أن يعرف علته.

ومنها: أن يكون حذف الشرط فكأنه قال إن كنت قتلته ظالما فقد جئت شيئا نكرا.

ومنها: أنه أراد أنك أتيت أمرا بديعا غريبا، فإنهم يقولون فيما يستغربونه ويجهلون علته أنه نكر ومنكر، وليس يمكن إن يدفع خروج الكلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع. ألا ترى إلى قوله: (أخرقتها لتغرق أهلها) وإلى قوله: (أقتلت نفسا زكية بغير نفس). ومعلوم أنه إن كان قصد بخرق السفينة إلى التغريق، فقد أتى منكرا. وكذلك إن كان قتل النفس على سبيل الظلم.

الصفحة 121 

وأما قوله: (لا تؤاخذني بما نسيت) فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة:

أحدها: أنه أراد النسيان المعروف، وليس ذلك بعجب مع قصر المدة، فإن الانسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.

والوجه الثاني: إنه أراد لا تأخذني بما تركت. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) (1) أي ترك، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " وقال موسى لا تؤاخذني بما نسيت ". يقول بما تركت من عهدك.

والوجه الثالث: إنه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسيانا للمشابهة كما قال المؤذن لأخوة يوسف عليه السلام: إنكم لسارقون أي إنكم تشبهون السراق. وكما يتأول الخبر الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " كذب إبراهيم (ع) ثلاث كذبات في قوله سارة أختي، وفي قوله بل فعله كبيرهم هذا. وقوله إني سقيم "، والمراد بذلك إن كان هذا الخبر صحيحا أنه فعل ما ظاهره الكذب. وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها. وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه أن النبي صلى الله عليه وآله إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه. فأما فيما هو خارج عما ذكرناه فلا مانع من النسيان، ألا ترى أنه إذا نسي أو سهى في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمر ولا يتصل، فنسب إلى أنه مغفل، فإن ذلك غير ممتنع، وأما وصف النفس بأنها زكية فقد قلنا إن ذاك خرج مخرج الاستفهام لا على سبيل الإخبار. وإذا كان استفهاما فلا سؤال على هذا الموضع. وقد اختلف المفسرون في هذه النفس، فقال أكثرهم إنه كان صبيا لم يبلغ

____________

(1) طه 115.

الصفحة 122 

الحلم، وأن الخضر وموسى عليهما السلام مرا بغلمان يلعبون، فأخذ الخضر (ع) منهم غلاما فأضجعه وذبحه بالسكين. ومن ذهب إلى هذا الوجه يجب أن يحمل قوله زكية على أنه من الزكاة الذي هو الزيادة والنماء، لأن الطهارة في الدين من قولهم: زكت الأرض تزكو إذا زاد ريعها.

وذهب قوم إلى أنه كان رجلا بالغا كافرا ولم يكن يعلم موسى (ع) باستحقاقه القتل، فاستفهم عن حاله. ومن أجاب بهذا الجواب إذا سئل عن قوله تعالى: (حتى إذا لقيا غلاما فقتله) (1) يقول لا يمتنع تسمية الرجل بأنه غلام على مذهب العرب وإن كان بالغا.

فأما قوله: (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) فالظاهر يشهد أن الخشية من العالم لا منه تعالى. والخشية ههنا قيل: العلم. كما قال الله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) (2) وقوله تعالى:

(إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) (3) وقوله عز وجل: (وإن خفتم علية) (4) وكل ذلك بمعنى العلم.

وعلى هذا الوجه كأنه يقول إنني علمت بإعلام الله تعالى لي أن هذا الغلام متى بقي كفر أبويه (كفروا أبواه)، ومتى قتل بقيا على إيمانها.

فصارت تبقيته مفسدة ووجب احترامه، ولا فرق بين أن يميته الله تعالى وبين أن يأمر بقتله. وقد قيل أن الخشية هاهنا بمعنى الخوف الذي لا يكون معه يقين ولا قطع. وهذا يطابق جواب من قال إن الغلام كان كافرا مستحقا للقتل بكفره، وانضاف إلى استحقاقه ذلك بالكفر خشية إدخال أبويه في الكفر وتزيينه (وترديده) لهما. قال قوم إن الخشية ههنا هي الكراهية. يقول القائل:

____________

(1) الكهف 74.

(2) النساء 128.

(3) البقرة 229.

(4) التوبة 28.

الصفحة 123 

فرقت بين الرجلين خشية أن يقتتلا، أي كراهة لذلك، وعلى هذا التأويل والوجه الذي قلنا أنه بمعنى العلم لا يمتنع أن تضاف الخشية إلى الله تعالى.

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) (1) والسفينة البحرية تساوي المال الجزيل، وكيف يسمى مالكها بأنه مسكين والمسكين عند قوم شر من الفقير؟ وكيف قال: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) (2) ومن كان وراءهم قد سلموا من شره ونجوا من مكروهة وإنما الحذر مما يستقبل.

قلنا أما قوله: لمساكين ففيه أوجه:

منها أنه لم يعن بوصفهم بالمسكنة الفقر، وإنما أراد عدم الناصر وانقطاع الحيلة. كما يقال لمن له عدو يظلمه ويهضمه أنه مسكين ومستضعف وإن كان كثير المال واسع الحال. ويجري هذا مجرى ما روي عنه عليه السلام من قوله: " مسكين مسكين رجل لا زوجة له ". وإنما أراد وصفه بالعجز وقلة الحيلة وإن كان ذا مال واسع.

ووجه آخر: وهو أن السفينة الواحدة البحرية التي لا يتعيش إلا بها ولا يقدر على التكسب إلا من جهتها كالدار التي يسكنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها، فهو مضطر إليها ومنقطع الحيلة إلا منها. فإذا انضاف إلى ذلك أن يشاركه جماعة في السفينة حتى يكون له منها الجزء اليسير، كان أسوأ حالا وأظهر فقرا.

ووجه آخر: إن لفظة المساكين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون، فإذا صحت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء. وقد سقط السؤال. فأما قوله

____________

(1) الكهف 79.

(2) الكهف 79.

الصفحة 124 

تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) فهذه اللفظة يعبر بها عن الإمام والخلف معا. فهي ها هنا بمعنى الإمام. ويشهد بذلك قوله تعالى:

(ومن ورائه جهنم) يعني من قدامه وبين يديه. وقال الشاعر:

 

ليس على طول الحياة ندم       ومن وراء المرء ما لا يعلم

 

وقال الآخر:

 

أليس ورائي إن تراخت منيتي  لزوم العصى تحنى عليها الأصابع

 

ولا شبهة في أن المراد بجميع ذلك: القدام.

وقال بعض أهل العربية إنما صلح أن يعبر بالوراء عن الإمام إذا كان الشئ المخبر عنه بالوراء يعلم أنه لا بد من بلوغه ثم يسبقه ويخلفه. فتقول العرب: البرد وراءك وهو يعني قدامك، لأنه قد علم أنه لا بد من أن يبلغ البرد ثم يسبق.

ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يريد أن ملكا ظالما كان خلفهم وفي طريقهم عند رجوعهم على وجه لا انفكاك لهم منه ولا طريق لهم إلا المرور به، فخرق السفينة حتى لا يأخذها إذا عادوا عليه. ويمكن أن يكون وراءهم على وجه الاتباع والطلب والله أعلم بمراده.

تنزيه موسى عن تبرئته بهتك عورته:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) (1) أوليس قد روي في الآثار أن بني إسرائيل رموه (ع) بأنه أدر وبأنه أبرص، وأنه (ع) ألقى ثيابه على صخرة ليغتسل، فأمر الله تعالى تلك الصخرة بأن تسير فسارت وبقي موسى (ع) مجردا يدور على محافل بني إسرائيل حتى رأوه وعلموا أنه لا عاهة به.

____________

(1) الأحزاب 69.

الصفحة 125 

(الجواب): قلنا ما روي في هذا المعنى ليس بصحيح وليس يجوز أن يفعل الله تعالى بنبيه عليه السلام ما ذكروه من هتك العورة ليبرئه من عاهة أخرى، فإنه تعالى قادر على أن ينزهه مما قذفوه به على وجه لا يلحقه معه فضيحة أخرى، وليس يرمي بذلك أنبياء الله تعالى من يعرف أقدارهم.

والذي روي في ذلك من الصحيح معروف، وهو أن بني إسرائيل لما مات هارون عليه السلام قذفوه بأنه قتله لأنهم كانوا إلى هارون (ع) أميل، فبرأه الله تعالى من ذلك بأن أمر الملائكة بأن تحمل هارون (ع) ميتا، فمرت به على محافل بني إسرائيل ناطقة بموته ومبرئة لموسى عليه السلام من قتله.

وهذا الوجه يروى عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام. وروي أيضا أن موسى (ع) نادى أخاه هارون فخرج من قبره فسأله هل قتله قال لا؟ ثم عاد إلى قبره. وكل هذا جائز والذي ذكره الجهال غير جائز.