المرجئة

 2 ـ المرجئة

    المرجئة على وزن المرجعة بصيغة الفاعل من أرجأ الأمر: أخّره. وترك الهمزة لغة. قال في اللِّسان: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخّرته. وقرئ أرجه ، وأرجئه قال تعالى: ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) ( الأحزاب / 51 ) و « الإرجاء » التأخير ، والمرجئة صنف من المسلمين والنّسبة إليه مرجئيّ مثال مرجعي (1).

    وقال ابن الأثير في ( النِّهاية ) : المرجئة تهمز ، ولاتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير ، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي ، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ(2).

    وظاهر كلامهما أنّها مأخوذة من الإرجاء بمعنى التّأخير ، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل. والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين:

    1 ـ طال التشاجر في معنى الإيمان في العصر الأوّل ، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة ، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول

________________________________________

    1 ـ لسان العرب مادة « رجأ ».

    2 ـ النهاية ج 2 ص 206 نفس المادة.

________________________________________

(74)

     والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل ، فأخذوا من الإيمان جانب القول ، وطردوا جانب العمل ، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: « لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ».

    وعلى هذا ، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض ، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الايمان ، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب ، صغيرها وكبيرها ، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم ، وشارب الخمر ، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً ، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي ـ عليه السلام ـ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.

    ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.

    والقول المشهور بين السنّة والشيعة أنّه مؤمن فاسق ، وسيوافيك القول في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المعتزلة والخوارج.

    ولعلّه إلى ذلك الوجه أيضاً يرجع ما ذكره ابن الاثير في نهايته بأنّهم سمّوا مرجئة لاعتقادهم بأنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي ، أي أخّر عنهم.

    يلاحظ على هذا الوجه: أنّ القوم وإن أخّروا العمل وأخرجوه عن كونه مقوّماً للايمان أو بعضه ، ولم يعتبروه جزءاً و شرطاً ، ولكن لم يتّفقوا على تفسيره بالقول المجرّد ، والاقرار باللّسان ، بل لهم آراء في ذلك.

    فاليونسيّة منهم ( أتباع يونس بن عون ) زعمت أنّ الإيمان في القلب واللسان. وإنّه هو المعرفة بالله ، والمحبّة ، والخضوع له بالقلب ، والإقرار باللّسان ، أنّه واحد ليس كمثله شيء (1).

    والغسّانية ( أتباع غسّان المرجئ ) زعمت أنّ الإيمان هو الاقرار أو المحبّة لله تعالى ،

________________________________________

    1 ـ الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

________________________________________

(75)

     فاكتفت بأحد الأمرين من الإقرار أو المحبّة لله (1). إلى غير ذلك من الأقوال والآراء لهم في حقيقة الإيمان (2).

    وعلى ضوء هذا لا يصحّ أن يقال إنّ المرجئة هم الّذين قدّموا القول وأخّروا العمل. بل أخّروا العمل جميعاً و أمّا غيره فقد اكتفوا في تحقّق الايمان تارة بالاذعان القلبي ، وأُخرى بالاقرار باللسان ، هذه ملاحظة بسيطة حول هذه النظرية. وهناك ملاحظة أُخرى ربّما تبطل أصلها وهي:

    أنّ التّاريخ يدلّ على أنّ أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ، لا بمعنى تقديم القول أو الاذعان القلبي وتأخير العمل ، بل المراد تقديم القول في الشيخين وتصديقهما ، وتأخير القول في حقّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وإرجاء أمرهم إلى الله سبحانه ، والتوقّف فيهم. وإليك النّصوص التاريخيّة الّتي تدلّنا على أنّ أساس الإرجاء هوالتوقّف في حق الخليفتين الأخيرين والمقاتلين لهما.

    قال ابن سعد: « كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أوّل من تكلّم بالإرجاء وعن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد بن عليّ ، فلاماه على الكتاب الّذي وضعه على الإرجاء. فقال لزاذان: « يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه » وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز » ! (3).

    وقال ابن كثير في ترجمة الحسن: « وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه. وقال أيّوب السختياني وغيره: كان أوّل من تكلّم في الإرجاء ، وكتب في ذلك رسالة ، ثمّ ندم عليها. وقال غيرهم: كان يتوقّف في عثمان وطلحة والزّبير ، فلا يتولاّهم ، ولا يذمّهم. فلمّا بلغ ذلك أباه محمّد بن الحنفيّة ضربه فشجّه وقال: ويحك ألاّ تتولّى أباك عليّاً. وقال أبوعبيد: توفّي سنة خمس وتسعين. وقال خليفة: توفّي أيّام عمر بن عبد العزيز

________________________________________

    1 ـ الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.

    2 ـ فصل الأشعري في المقالات اختلافهم في الايمان ، وجعلهم اثنتا عشرة فرقة لاحظ ص 135 ـ 136.

    3 ـ الطبقات الكبرى ج 5 ص 328.

________________________________________

(76)

     والله أعلم » (1).

    وقال ابن عساكر في تاريخه: « قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم ، وكنت مع عمّي في حلقته ، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير ، فأكثروا ، والحسن ساكت ، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولايتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا ، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال ، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء ، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه » (2).

    وقال ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) في ترجمة الحسن ما هذا خلاصته:

     « قال ابن حبان: كان الحسن من علماء الناس بالاختلاف وقال سلام بن أبي مطيع عن أيّوب: أنّا أتبرّأ من الإرجاء. إنّ أوّل من تكلّم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمّد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد فلاماه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء ، فقال لزاذان: يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه. قلت ( ابن حجر ) : المراد بالإرجاء الّذي تكلّم الحسن بن محمّد فيه ، غير الارجاء الّذي يعيبه أهل السنّة المتعلّق بالايمان ، وذلك أنّي وقفت على كتاب الحسن بن محمّد المذكور ، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الايمان له في آخره قال: حدّثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أعين قال: كان الحسن بن محمّد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على النّاس: أما بعد ، فإنا نوصيكم بتقوى الله. فذكر كلاماً في الموعظة والوصيّة لكتاب الله واتّباع ما فيه وذكر اعتقادهـ ثمّ قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ونجاهد فيهما ، لأنّهما لم تقاتل عليهما الأمّة ولم نشكّ في أمرهما ، ونرجئ من

________________________________________

    1 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 140.

    2 ـ تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 246 طبع دمشق 1332 هـ.

________________________________________

(77)

    بعدهما ممّن دخل الفتنة ، فنكل أمرهم إلى الله ـ إلى آخر الكلام. فمعنى الّذي تكلّم فيه الحسن أنّه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً وكان يرى أنّه يرجئ الأمر فيهما ، وأمّا الإرجاء الّذي يتعلّق بالايمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب » (1).

 

هذا التاريخ المتضافر يدلّنا على اُمور:

    1 ـ إذا كان الحسن بن محمّد الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء فيرجع أصل الارجاء وتاريخه إلى الربع الأخير من القرن الأوّل للهجرة ، وقد توفّي محمّد بن الحنفيّة والد المؤسِّس عام ثمانين أو إحدى وثمانين ، عن عمر يناهز خمساً وستين سنة ، وقد توفّي ولده الحسن ( أصل الارجاء ) عام تسعة وتسعين أو قبله أو بعده بقليل ، وعليه يعود ظهور الإرجاء إلى حوالي عام سبعين من الهجرة ، أو ما يقاربه.

    2 ـ إنّ الحسن بن محمّد هو وليد البيت الهاشمي العريق في الولاء والمحبّة لأميرالمؤمنين وشيعته ومحبّيه وأصحابه ، وعند ذاك كيف يكون مثل هذا الشخص أساساً للإرجاء بهذا المعنى ، ولعلّه أظهر هذه الفكرة في بداية الأمر ( وإن ندم عليه في أواخر عمره وتمنّى الموت قبل كتابة ما كتبه ) لغاية توحيد الكلمة ، وإيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حيث كان الخطباء و وعّاظ السلاطين يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً مديدة ، فأراد وليد البيت الهاشمي إيقاف السبّ بهذه الفكرة ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن لا يطّلع الحسن بن الحنفيّة على انحراف النّاكثين والقاسطين والمارقين الّذين ابتزّوا أمر الخلافة ، وتطلّعوا إلى أمر ، هم أقصر منه فحاول لنيل غايته بالقول بأنّا نتكلّم في الشيخين ولا نتكلّم في غيرهما ممّن جاءوا بعدهما بشيء من المدح والقدح.

    والرجل وإن كان حسن النيّة لكنّه كان سيّىء العمل لما ترتّبت على هذا العمل من التوالي الفاسدة ، ولعلّ ندامته في آخر العمر لأجل ما رأى من المفاسد الّتي ترتّبت

________________________________________

    1 ـ تهذيب التهذيب: ج 2 ، ص 320 ـ 321.

________________________________________

(78)

     على هذه الفكرة.

    3 ـ لو كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء ، فقد عرفت تاريخ حياته وأنّه قام بزرعه في الربع الأخير من القرن الأول ، وعلى ذلك لايصحّ ما نقله أحمد أمين المصري عن ابن عساكر: « أنّهم هم الشكّاك الّذين شكّوا وكانوا في المغازي ، فلمّا قدموا المدينة بعد قتل عثمان وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ، ليس بينهم اختلاف قالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف ، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً ، وكان أولى بالعدل أصحابه ، وبعضكم يقول: كان عليّ أولى بالحقّ ، وأصحابه كلّهم ثقة وعندنا مصدّق ، فنحن لا نتبرّأ منهما ، ولا نلعنهما ، ولا نشهد عليهما ، ونرجئ أمرهما إلى الله حتّى يكون الله هو الذي يحكم بينهما » (1).

    يلاحظ عليه: أنّه قتل عثمان أواخر عام ( 35 ) من الهجرة ، واستشهد الامام أميرالمؤمنين في شهر رمضان عام ( 40 هـ ) ، ومقتضى ما ذكره الدكتور ، تكوّن الإرجاء في العقد الرابع من القرن الأوّل. وهذا لايتّفق مع ذلك التاريخ المتضافر في أنّ أصل الإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة لتأخّر عصره ، وقد كان لوالده محمّد بن الحنفية يوم قتل عثمان من العمر خمس عشرة ويوم استشهد الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عشرون سنة ، وكان الحسن بن محمّد في أصلاب الآباء و أرحام الاُمّهات ، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هذا النقل ، هو أنّ ـ الأحوال الحاضرة بعد قتل الخليفتين وقدوم المسلمين الغزاة ، أوجدت أرضيّة لتكوّن هذه الفكرة ، ولكنّها كانت خاملة تدور في الذاكرة ، وأوّل من أظهرها و طرحها بصورة علميّة وكتب فيها رسالة هو الحسن بن محمّد ولذلك قال عمّ عثمان بن ابراهيم بن حاطب لابن أخيه:يا بنيّ: ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً.

    4 ـ وأبعد من هذا الكلام ما ذكره ذلك الكاتب حيث قال:إنّ نواة هذه الطائفة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل ، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من

________________________________________

    1 ـ فجر الاسلام: ص 279 ، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر.

________________________________________

(79)

    أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل « أبي بكرة » و « عبدالله بن عمر » و « عمران بن حصين » وروى أبوبكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي.. » (1).

    5 ـ قد عرفت أنّ من المحتمل أن يكون الحافز لمؤسّس هذه الفكرة ، هو إيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، ولكنّ العامل المؤثّر في نشوء هذه البذرة ونموّها هو اشتداد الدعاية من جانب الأمويين لتبرئة عثمان من الأحداث المؤلمة المنسوبة إليه ، وتنزيه الناكثين ومن انضمّت إليهم من اُمّهات المؤمنين في نقض البيعة ، والخروج على الإمام المفترض الطاعة ، وإكثار الوقيعة في الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، وقد أثّرت تلك الدّعايات والروايات الّتي كذبوا بها على لسان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في بسطاء القوم وسذّاجهم بحيث أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج ، فلم يكن لهم بدُّ أمام هذه الدعايات من أحد أمرين: إمّا الإجتهاد ، وخرق الحجب ، وشهود الحقائق بعين الفكر والعقل. وإمّا الوقوف على الرأي الوسط والتوقّف عن التكلّم في حقّ هؤلاء ، وإرجاء الأمر إلى الله ، والفرض الأوّل كان أمراً غير ميسور لبساطة الفهم وسذاجته ، فصار الثاني متعيّناً.

    يقول أحد المصريين حول الدعايات الفارغة بعد عهد عثمان: « ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير الّتي ابتلى بها المسلمون ، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه ، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة ، حتى أصبحت وبالاً على الدّين ، وشرّاً على المسلمين ، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم ، وعائقاً أمام الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينية » (2).

    6 ـ يعتقد الكاتب المصري « أحمد أمين » أنّ المرجئة تكوّنت ، بصورة حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن ولايريق دماء حزب ، بل ولا يحكم بتخطئة فريق

________________________________________

    1 ـ فجر الاسلام ص 280.

    2 ـ عثمان بن عفان للاُستاذ صادق إبراهيم عرجون ص 41 ، كما في الغدير ، ج 8.

 

________________________________________

(80)

     وتصويب آخر.

    وما ذكره حدس لا أساس له ، ولقد استنتجه ممّا نقلناه عنه سابقاً من أنّ فكرة الإرجاء ترجع إلى الغزاة القادمين إلى المدينة بعد قتل الخليفتين.. وعرفت أنّه لا ينطبق مع ما تضافر في التاريخ.

    والظاهر أنّ فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأمويّة ، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فغشيت وجه الحقيقة ، وعاقت البسطاء عن الخوض في الأبحاث الخطيرة ، واقتحام المعارك المدلهمّة ، ممّا نقم به على هؤلاء من الطامّات والأحداث وما قيل في براءتهم ، فتخيّل لهم أنّ الأصلح والرأي الأوسط هو عدم الجنوح إلى جانب دون آخر. وهؤلاء وإن كانوا غير معذورين في هذا الأمر ، لكنّهم ـ في زعمهم ـ أخذوا جانب الإحتياط في مقابل الناقمين.

    7 ـ إنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حقّ بعض الصحابة. لكنّ هذا الأصل قد نسي في الآونة اللاحقة ، وأخذ أصل آخر مكانه ، بحيث لم يبق من الأصل الأوّل أثر بين المرجئة اللاحقة وفرقهم المختلفة ، وهو البحث عن تحديد الإيمان والكفر ، والمؤمن والكافر.

    فصار تحديد الإيمان بالاقرار دون العمل ، أو المعرفة القلبيّة دون القيام بالأركان ، ركناً ركيناً لهذه الطائفة بحيث كلّما أطلقت المرجئة ، لا يتبادر من هذه الكلمة إلاّ من تبنّى هذا المعنى.

    وقد أنهاهم أبو الحسن الأشعري في « مقالات الإسلاميين » في فصل خاصّ إلى اثنتي عشرة طائفة اختلفوا في حقيقة الإيمان بعد اتّفاقهم على إبعاد العمل عن ساحته وحقيقته.

    وهذا يوضح صحّة ما قلناه من أنّ الإرجاء ـ يوم تكوُّنه ـ لم يظهر بصورة حزب سياسيّ. بل ظهر بصورة منهج فكري دينيّ التجأ إليه أصحابه ، خضوعاً للدعايات

(81)

     الفارغة ، وتسليماً لها ، وبما أنّ الإرجاء على كلا الأصلين كان لصالح السلطة من الأمويين ، كانت السلطة يومذاك تؤيّدهم لأنّ في تبنّي كل من الأصلين ، صلاحهم ودعم عروشهم.

    فالأصل الأوّل يدعو إلى أنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ ، بل يترك أمر المخطئين إلى الله ، وهذا التسليم هو نفس ما يطلبه أصحاب السلطة ، حتّى يجتنب الناس عن القضاء في يزيد الخمور ، وعبد الملك السفّاك ، وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي ، ممّن عاشوا قبل الفكرة أو بعدها ، وسوّدوا صحيفة تاريخهم.

    والأصل الثاني يعرب عن أنّ الشهادة اللّفظية بالتوحيد أو المعرفة القلبيّة يكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين ، فيحرم قتاله ونضاله بل يكون نفسه وماله مصونين من الإعتداء ، وهذا أيضا كان اُمنية الأمويين ، إذ على ضوء ذلك ، يكون يزيد الخمور والحجّاج الظلوم من المؤمنين ، ويكون دمهما ومالهما مصونين من الإعتداء.

 

عقيدة المرجئة:

    لا تجد للمرجئة رأياً خاصّاً في أبواب المعارف والعقائد سوى باب الايمان والكفر ، فكلامهم يدور حول هذين الموضوعين وأُسّ نظريّتهم أنّ الايمان هوالتصديق بالقلب ، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، أو ما يقرب من ذلك ، فأخرجوا العمل من حقيقة الايمان ، واكتفوا بالتصديق القلبي ونحوه ويترتّب على ذلك الأصل اُمور:

    1 ـ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم ، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان ، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال: إنّ العمل يكثر ويقلّ وسيوافيك نظرنا فيه.

    2 ـ إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة ، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الإتصاف بالايمان ، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة. أمّا الاُولى:

 

________________________________________

(82)

     فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الايمان بحيث يكون تارك العمل كافراً ، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر ، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر.

    وأماّ الثانية: فلأنهّم يعتقدون أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخفّ وطأة من الخوارج ، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الايمان.

    3 ـ إنّ مرتكب الكبيرة لا يخلّد في النار وإن لم يتب ، ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له ، خلافاً للمعتزلة الّذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب وإنّ من مات بلا توبة يدخل النّار ، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو (1).

    هذه عقيدة المرجئة عرضناها على وجه الإجمال. وقد تأثّر أهل السنّة ببعض هذه الفروع كالقول بعدم تخليد عصاة المؤمنين في النار ، وجواز تخلّف الوعيد دون الوعد.

    وهيهنا سؤال وهو أنّه إذا كانت حقيقة الإرجاء هو الاكتفاء في الحكم بالايمان بالتصديق القلبي ، أو الإقرار باللسان ، فما هو الوجه في لعنهم والتبرّي منهم ، اذ ليست هذه النظرية بمجرّدها سبباً للّعن والتحاشي والتبرّي بهذه الدرجة.

    والإجابة عنه: هي إنّ التبرّي منهم ليس لأجل هذه النّظرية ، بل لأجل أنهّم جرّدوا الأعمال من الايمان ولم يعتقدوها من الفرائض (2) ولم يتقيّدوا بها في مجال الفعل والترك ، ولأجل ذلك أصبح الايمان عندهم يتلخّص في التصديق القلبي ، والإقرار اللّفظي.

    ولا يخفى أنّ هذه العقيدة خاطئة جدّاً ، إذ لو صحّت فعندئذ لا يتجاوز الايمان عن التصديق القلبي أو الإقرار باللسان ، فما أسهل الإسلام وأيسره لكلّ من انتسب إليه ولو انتساباً شكليّاً.

________________________________________

    1 ـ ذكر الشيخ الأشعري فروعاً آخر لهم في هذا المجال. لاحظ مقالات الإسلاميين ص 126 ـ 147.

    2 ـ كنز الفوائد ص 125 ط بيروت.

________________________________________

(83)

    قال الصاحب بن عبّاد: ادّعت المرجئة أنّ قاتل النفس بغير الحقّ ، وسارق المال ، ومخيف السبل ومرتكب الزنا ، وشارب الخمر ، لايقطع أنّهم من أهل النار ، وإن ماتوا مصرّين. وقالت العدليّة: بل هم من أهل النار مخلّدون لا يجدون عنها حولاً ، لأنّ الله أخبر ( وَ إِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيم ) ( الانفطار / 14 ) ولم يخصّ فاجراً عن فاجر ، فقال عزّ وجلّ: ( إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيم * وَإِنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٌ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّين * وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) ( الانفطار / 13 ـ 16 ) وقال تعالى: ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء / 93 )

    فإن قالوا فقد قال الله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذِلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( النساء / 48 ) فالجواب أنّه تعالى قال في هذه الآية: « لمن يشاء » والمشيئة مغيّبة عنّا ، إلى أن نعرفها بالأدلّة ، وقد بيّن « من يشاء » بقوله: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) ( النساء / 31 ) فهو يكفّر الصغائر بتجنّب الكبائر ، والكبائر بالتوبة ، قال سبحانه : ( وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) ( الزمر / 54 ) (1).

    وهنا وجه آخر للعنهم وهو يرجع إلى قولهم بالإرجاء بالمعنى الأوّل أعني التوقّف في أمر الامام عليّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وعدم الحكم بشيء فيه من الإيمان وضدّه. وأيّ مصيبة أعظم من التوقّف في ايمان أخي رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وصنوه ووزيره ، وهو الصدّيق الأكبر ، وأوّل المؤمنين. قال ـ صلوات الله عليهـ : « ولقد كنت أتّبعه ( الرسول ) اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة ( حراء ) ب ـ ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة » (2).

________________________________________

    1 ـ الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل للصاحب ( 385 هـ ) ص 23 المطبوع ضمن نفائس المخطوطات.

    2 ـ نهج البلاغة: الخطبة القاصعة ج 3 ص 161 ـ 182 بالرقم 187.

________________________________________

(84)

    أفي مثله يتوقّف الإنسان المنصف في الحكم بإيمانه؟

فإن كنت لاتدري فتلك مصيبة           وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

    إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تبيين حقيقة الإيمان وتحديده لغةً وكتاباً وسنّةً.

آراء ونظريات حول الإيمان:

    اختلف العلماء في ماهيّة الإيمان ولهم أقوال أربعة نعرضها مع التحليل:

    1 ـ الايمان هو معرفة الله بالقلب فقط ، وإن أظهر اليهوديّة ، والنصرانية ، وسائر أنواع الكفر بلسانه ، فإذا عرف الله بقلبه فهو مؤمن. نسب إلى الجهم بن صفوان وغيره.

    2 ـ إنّ الايمان هو إقرار باللّسان بالله تعالى وشريعته ، وإن اعتقد الكفر بقلبه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن ، وهو قول محمد بن كرّام السجستاني.

    3 ـ الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وأنّ الأعمال ليست إيماناً ، ولكنّها شرائع الايمان ، وهو قول جماعة من الفقهاء وهو الأقوى كما سيوافيك.

    4 ـ الايمان هو المعرفة بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وأنّ كلّ طاعة واجبة ، بل الأعمّ منها ومن النافلة فهي إيمان وكلّما ازداد الإنسان عملاً إزداد ايماناً ، وكلّما نقص نقص إيمانه (1).

    وإليك تحليل الآراء والأقوال:

 

ما هوالايمان لغةً وكتاباً:

    إنّ الإيمان لغة هو التصديق ، وهو على وزن « إفعال » من الأمن بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم وجود سبب الخوف ، فحقيقة قوله « آمن به » : أذعن به ، وسكنت نفسه ، واطمأنّت بقبوله فيؤول « الباء » في الحقيقة إلى السببية ، وهو تارة يتعدّى

________________________________________

    1 ـ الفصل ج 3 ص 188 ، ونسب إلى محمد بن زياد الحريري الكوفي قول خامس ساقط جداً ، ومن شاء فليرجع إليه.

________________________________________

(85)

     بالباء كما في قوله تعالى: ( آمنّا بما أنْزَلْت ) « آل عمران / 53 ) واُخرى باللام كقوله سبحانه: ( وما أنتَ بِمُؤْمِن لَنا ) ( يوسف / 17 ) وقوله تعالى: ( فآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) ( العنكبوت / 26 ).

    فإذا كان الإيمان بمعنى التّصديق لغة ، فهل يكفي التصديق لساناً فقط ، أو جناناً فقط ، أو لا يكفي هذا ولا ذاك ، بل يشترط الجمع ، والظّاهر من الكتاب العزيز هو الأخير. فالإيمان بمقتضى الآيات عبارة عن التّصديق بالقلب ، الظّاهر باللسان ، أو ما يقوم مقامه ، ولا يكفي واحد منهما وحده. أمّا عدم كفاية التصديق القلبي فلقوله تعالى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم ظُلْماً وَ عُلُوّاً ) ( النمل / 14 ) وقوله سبحانه: ( فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) ( البقرة / 89 ) فأثبت لليهود المعرفة وفي الوقت نفسه الكفر. وهذا يعرب عن أنّ الاستيقان النفساني لا بدّ له من مظهر كالإقرار باللسان ، أو الكتابة ، أو الإشارة كما في الأخرس.

    ويمكن أن يقال إنّه يكفي التّصديق القلبي ، ولكنّ الإنكار باللسان مانع ، فلو علم أنّه مذعن قلباً ، ولم ينكره لساناً ، لكفى في الحكم بالايمان ، كما كفى في تحقّقه واقعاً.

    وأمّا عدم كفاية التّصديق اللّساني فلقوله تعالى : ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ ) ( الحجرات / 14 ) والأعراب صدّقوا بألسنتهم ، وأنكروه بقلوبهم أو شكّوا فيه. وهؤلاء جروا في توصيف أنفسهم بالايمان على مقتضى اللّغة ، وادّعوا أنّهم مصدّقون قلباً وجناناً ، فردّ الله عليهم بأنّهم مصدّقون لساناً ، لا جناناً ، وأسماهم مسلمين ، ونفى كونهم مؤمنين.

    وعلى ضوء هذه الآيات يتبيّن فساد القولين الأولين وتظهر قوةّ القول الثالث وهو كون الايمان لغة: هو التّصديق القلبي ، لكنّ الكتاب العزيز دلّ على عدم كفاية التصديق القلبي وأنّه يشترط أن يكون معه إقرار أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة يدلّ على التسليم الباطني ، وقد عرفت ما احتملناه أخيراً.

    وأمّا الأثر المترتّب على الإيمان بهذا المعنى في الدنيا فهو حرمة دمه وعرضه وماله

 

________________________________________

(86)

     إلاّ أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.وأمّا الأثر المترتّب عليه في الآخرة فهو صحّة أعماله واستحقاق الثواب عليها ـ لو قام بها ـ وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة.

    وأمّا السّعادة الاُخرويّة فهي رهن العمل كما يأتي بيانه. فمن صدّق لساناً وجناناً ، ولكن تجرّد عن العمل والامتثال ، فهو مؤمن فاسق ، وليس بكافر ( خلافاً للخوارج ) ولا هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الايمان والكفر ( خلافاً للمعتزلة ) ولا يكفي في النّجاة ، بل ـ إن لم يتب ـ يدخل النار ويعذّب فيها.

    وهذه هي النقطة الّتي يفترق فيها أهل الحقّ عن المرجئة ، فإنّهم يقولون إنّ التصديق لساناً أو جناناً أو معاً ، يكفي في النجاة من النار و دخول الجنّة ، ويثيرون في العصاة روح الطغيان على المُثل والأخلاق ، اعتماداً على أنّهم مؤمنين وإن فعلوا الكبائر وارتكبوا الموبقات. هذا هو الحقّ القراح ، وإليك تحليل أدلّة سائر الأقوال على ضوء الأقوال الّتي سردناها في صدر البحث.

هل الايمان هو التصديق القلبي؟

    استدلّ القائل بأنّ الإيمان هو التّصديق القلبي مضافاً إلى ما مرّ من الآيات في صدر البحث (1) بأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين ، وخاطبنا الله بلغة العرب ، وهو في اللغة التصديق ، والعمل بالجوارح لايسمّى ايماناً.

    يلاحظ عليه: أنّه يكفي في إثبات خروج العمل عن حقيقة الايمان ، وأمّا كون التصديق بالقلب كافياً في صدق الايمان فلا يثبته ، كيف وقد دلّت الآية على أنّ الجحد لساناً أو بغيره ، والاستيقان قلباً يوجب دخول الجاحد في عداد الكفّار. قال سبحانه: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا ظُلْماً وَعُلُوّاً ) ( النمل / 14 ).

________________________________________

    1 ـ ( وما أنت بمؤمن لنا ) ( يوسف / 17 ) ( فآمن له لوط ) ( العنكبوت / 26 ).

________________________________________

(87)

    غاية ما يمكن أن يقال ما عرفت من أنّ التصديق القلبي كاف في تحقّق الايمان ، والجحد لساناً مانع ، فلو تحقّق التصديق القلبي ولم يقترن بالجحد عناداً لكفى في كون الرجل مؤمناً ثبوتاً وواقعاً ، وأمّا الحكم بكونه مؤمناً إثباتاً فيحتاج إلى إظهاره باللسان ، أو بالعمل ، أو العلم بكونه معتقداً بطريق من الطّرق.

    ثمّ إنّ ابن حزم الظاهري ( ت 456 هـ ) أورد على هذا القول بوجهين:

    الأوّل: أنّ الإيمان في اللغة ليس هو التصديق ، لأنّه لا يسمّي التصديق بالقلب دون التصديق باللسان ايماناً في لغة العرب ، وما قال قطّ عربيّ إنّ من صدّق شيئاً بقلبه فأعلن التكذيب بلسانه ، أنّه يسمّى مصدّقاً به ولا مؤمناً به. وكذلك ما سمّى قطّ التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً.

    الثاني: لو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق إسم الايمان لكلّ من صدّق بشيء ما ، ولكان من صدّق بإلهيّة الحلاّج والمسيح والأوثان مؤمنين ، لأنّهم مصدّقون بما صدّقوابه (1).

    يلاحظ عليه: أنّ الوجه الأوّل صحيح لو رجع إلى ما ذكرنا من كون الإنكار باللسان مانعاً وإلاّ فلو صدّق قلباً ولم ينكره بلسانه فهو مؤمن لغةً وقرآناً. غير أنّ الحكم في مقام الإثبات يحتاج إلى الدليل من الإقرار باللسان ، أو الكتابة باليد ، أو الإشارة بالجوارح.

    وأمّا الوجه الثّاني ، فهو من الوهن بمكان لا يحتاج إلى البيان وكم لهذا الرجل من كلمات واهية. أضف إليه ما في كتابه من بذاءة في الكلام وتحرّش بالسباب وتحكّك بالوقيعة.

هل الايمان هو الإقرار باللسان؟

    إنّ النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه ومن بعدهم ، اتّفقوا على أنّ من أعلن بلسانه بشهادة

________________________________________

    1 ـ الفصل: ج 3 ، ص 190

________________________________________

(88)

     الإسلام فإنّه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام.

    أضف إليه قول رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء « اعتقها فإنّها مؤمنة » (1)

    يلاحظ عليه: أنّ الحكم لهم بالايمان كان بحسب الظّاهر لا الحكم بأنّه مؤمن عند الله واقعاً ، ولذلك لو علم عدم مطابقة اللّسان مع الجنان يحكم عليه بالنفاق. قال سبحانه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ ) ( البقرة / 8 ). ولمّا كان الرسول وأصحابه مأمورين بالحكم بحسب الظاهر قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: « أُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله الاّ الله ويؤمنوا بما اُرسلت به ، فإذا عصموا منّي دماءُهم وأموالهم إلاّ بحقّها ، وحسابهم على الله » وبذلك يظهر وجه حكمه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في السوداء « بأنّها مؤمنة ».

    روى ابن حزم عن خالد بن الوليد أنّه قال: ربّ رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: إنّي لم اُبعث لأشقّ عن قلوب الناس.

    إلى هنا تبيّن فساد القولين الأوّلين ، وأنّ الحقّ هو القول الثالث ، وعرفت الأثر المترتّب عليه ، إنّما المهم هو نقد القول الرابع الّذي يجعل العمل جزءاً من الإيمان وإليك البحثفيه:

ليس العمل جزءاً من الايمان:

    إذا كانت المرجئة في جانب التّفريط ، فالخوارج المكفّرة لمرتكبي الكبائر ، والمعتزلة القائلة بأنّ من فقد العمل ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر ، في جانب الإفراط. فإنّ الذكر الحكيم ـ مع الدعوة المؤكّدة إلى العمل ـ لايرى العمل جزءاً من الإيمان بل يعطفه عليه ، ويراه كمالاً له ، لا عنصراً دخيلاً فيه. ويكفي في ذلك الآيات التالية:

________________________________________

    1 ـ نفس المصدر ، ص 206.

________________________________________

(89)

    1 ـ ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحَاتِ ) ( البقرة / 277 ) فالعطف يقتضي المغايرة ، فلو كان العمل داخلاً فيه لزم التكرار ، واحتمال كون المقام من قبيل ذكر الخاص بعد العام يحتاج الى وجود نكتة لذكره بعده ، إلاّ أن يقال: إنّ الصالحات جمع معرّف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون العمل جزءاً من الإيمان يريد بها خصوص فعل الواجبات واجتناب المحرّمات ، فحينئذ يصحّ عطف الخاص على العام لحصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

    نعم ، الآية تصلح دليلاً على ردّ مقالة من جعل مطلق العمل ـ فرضاً كان أو نفلاً ـ جزءاً من الإيمان.

    2 ـ ( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) ( طه / 112 ) والجملة حالية والمقصود: عمل صالحاً حال كونه مؤمناً ، وهذا يقتضي المغايرة.

    3 ـ ( وَ إِنْ طِائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إْحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) ( الحجرات / 9 ) فأطلق المؤمن على الطائفة العاصية وقال ما هذا معناه: « فان بغت احدى الطائفتين من المؤمنين على الطائفة الاُخرى منهم » إلاّ أن يقال: إنّ اطلاق المؤمن بلحاظ حال التلبّس أي بما أنّهم كانوا مؤمنين قبل القتال ، لا بلحاظ حال الجري والتكلّم.

    4 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) ( التوبة / 119 ). فأمر الموصوفين بالايمان ، بالتقوى ، أي الاتيان بالطاعات والاجتناب عن المحرّمات ، فدلّ على أنّ الايمان يجتمع مع عدم التقوى وإلاّ كان الأمربه لغواً وتحصيلاً للحاصل ، إلاّ أن يحمل الأمر على الإستدامة فيخرج عن كونه تحصيلاً للحاصل.

    5 ـ الآيات الدالّة على كون القلب محلاّ للايمان.

    منها قوله تعالى: ( اُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ) ( المجادلة / 22 ). ولو كان العمل جزءاً منه لما كان القلب محلا لجميعه. وقوله سبحانه : ( وَلمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي

 

________________________________________

(90)

قُلُوبِكُمْ ) ( الحجرات / 14 ) وقوله تعالى: ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيمَانِ ) ( النحل / 106 ).

    6 ـ آيات الطّبع والختم ، فإنّها تشعر بأنّ محلّ الإيمان هو القلب ، ولأجل ذلك من طبع أو ختم على قلبه لا يؤمن أبداً.

    قال تعالى: ( اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِم ) ( النحل / 108 ) وقال سبحانه: ( وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ ) ( الجاثية / 23 ).

    فإن قلت: دلّ الكتاب على أنّ الايمان عبارة عن التصديق الظّاهر بالإقرار باللّسان أو نحوه. فعندئذ كيف يكون محلّه هو القلب مع أنّ جزءاً منه الإظهار باللّسان ونحوه.

    قلت: قد عرفت أنّ الايمان لغة هو التّصديق قلباً ، غاية الأمر دلّ الدّليل على عدم كفايته إذا أنكره وجحده باللّسان وإن أذعن به في القلب. بل يمكن أن يقال: إنّ الايمان هو التّصديق المورث للسكون والسكينة والتسليم. والجاحد بلسانه لا تحصل له تلك الحالة وإن حصل له العلم ، لكن ليس كلّ علم ملازماً للإيمان بل هو أخصّ منه. ولأجل ذلك قال سبحانه: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( النساء / 65 ) فالايمان هو المعرفة المورثة للسكون ، الباعثة إلى التسليم ، ولا تحصل تلك الحالة للجاحد الحاقد.

    هذا هو مقتضى الكتاب ، ويؤيّده الإجماع حيث جعلوا الإيمان شرطاً لصحّة العبادات ، ولا يكون الشيء شرطاً لصحّة جزئه.

    وأمّا السنّة فهناك روايات تدلّ على أنّ الإقرار المقترن بالعرفان ، ايمان. وإليك بعضها:

    روى الصدوق بسند صحيح عن جعفر الكناسي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً؟ قال: يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده و

(91)

     رسوله ، ويقرّ بالطّاعة ، ويعرف إمام زمانه ، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن (1).

    ومثله غيره.

    وأمّا زيادة الايمان ونقصانه ، فالظّاهر من المتكلّمين أنّ الإيمان لو كان هو التّصديق فلا يزيد ولا ينقص ، بخلاف ما لو جعلنا العمل جزءاً منه فهو يزيد وينقص بزيادته ونقصانه.

    والتّحقيق ـ كما سيأتي ـ خلافه ، فهو على كلا القولين يزيد وينقص ، لأنّ التصديق ذو مراتب ، والتسليم مثله ذو درجات ، وليس تسليم الرسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم لله ، ولأحكامه ، ولفروضه ، ولسننه ، أو معرفتهم ، وإذعانهم كتسليم ومعرفة سائر الناس ، ومن أنكر ذلك فإنّما ينكره بلسانه ولكن قلبه مطمئنّ ببطلانه.

 

هل العمل جزء من الايمان؟

    احتجّ القائل بأنّ العمل جزء من الإيمان بآيات:

    1 ـ قوله سبحانه: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيماناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ ) ( الفتح / 4 ). ولو كانت حقيقة الايمان هي التّصديق ، لما قبل الزيادة والنقيصة ، لأنّ التصديق أمره دائر بين الوجود والعدم. وهذا بخلاف ما لو كان العمل جزءاً من الايمان. فعندئذ يزيد وينقص حسب زيادة العمل ونقيصته. والزيادة لا تكون إلاّ في كمّية عدد لا في ما سواه ، ولا عدد للاعتقاد ولا كمّية له (2).

    يلاحظ عليه: أنّ الايمان بمعنى الإذعان أمر مقول بالتّشكيك. فلليقين مراتب ، فيقين الإنسان بأنّ الإثنين نصف الأربع ، يفارق يقينه في الشدّة والظهور ، بأنّ نور القمر مستفاد من الشّمس ، كما أنّ يقينه الثاني ، يختلف عن يقينه بأنّ كلّ ممكن فهو زوج

________________________________________

    1 ـ البحار ( ج 66: ص 16 ) كتاب الايمان والكفر نقلاً عن ( معاني الاخبار ).

    2 ـ الفصل ج 3 ص 194.

________________________________________

(92)

     تركيبي له ماهيّة ووجود ، وهكذا يتنزّل اليقين من القوّة إلى الضّعف ، إلى أن يصل إلى أضعف مراتبه الّذي لو تجاوز عنه لزال وصف اليقين ، ووصل إلى حدّ الظنّ ، وله أيضاً مثل اليقين درجات ومراتب ، ويقين الإنسان بالقيامة ومشاهدها في هذه النشأة ليس كيقينه بعد الحشر والنشر ، ومشاهدتها بأُمّ العين. قال سبحانه: ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد ) ( ق / 22 ) فمن ادّعى بأنّ أمر الايمان بمعنى التّصديق والإذعان ، دائر بين الوجود والعدم ، فقد غفل عن حقيقته ومراتبه. فهل يصحّ لنا أن ندّعي أنّ ايمان الأنبياء بعالم الغيب ، كإيمان الانسان العادي ، مع أنّ مصونيّتهم من العصيان والعدوان رهن علمهم بآثار المعاصي وعواقبه ، الّذي يصدّهم عن اقتراف المعاصي وارتكاب الموبقات. فلو كان إذعانهم كإذعان سائر الناس ، لما تميّزوا بالعصمة عن المعصية. وما ذكره من أنّ الزيادة تستعمل في كمّية العدد منقوض بآيات كثيرة استعملت الزيادة فيها في غير زيادة الكمّية. قال سبحانه: ( وَ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) ( الاسراء / 109 ). وقال: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إلاّ نُفُوراً ) ( الاسراء / 41 ). والمراد شدّة خشوعهم ونفورهم ، لا كثرة عددهما ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي استعمل فيها ذلك اللّفظ في القوّة والشدّة لا الكثرة العدديّة.

    2 ـ قوله سبحانه: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) ( البقرة / 143 ) وإنّما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تنسخ بالصّلاة إلى الكعبة.

    يلاحظ عليه: أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولا نشكّ في أنّ العمل أثر للاذعان وردّ فعل له ، ومن الممكن أن يطلق السبب ويراد به المسبّب. إنّما الكلام في أنّ الإيمان لغةً وكتاباً موضوع لشيء جزؤه العمل وهذا ممّا لا يثبته الإستعمال. أضف إليه أنّه لو أخذنا بظاهرها الحرفي ، لزم أن يكون العمل نفس الايمان لا جزءاً منه ، ولم يقل به أحد.

    3 ـ قوله سبحانه: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ( النساء / 65 ). أقسم سبحانه

 

________________________________________

(93)

     بنفسه أنّهم لا يؤمنون إلاّ بتحكيم النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم والتسليم بالقلب وعدم وجدان الحرج في قضائه. والتحكيم غير التصديق والتسليم ، بل هو عمل خارجي.

    يلاحظ عليه: أنّ المنافقين ـ كما ورد في شأن نزول الآية ـ كانوا يتركون النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويرجعون في دعاويهم إلى الأحبار و ـ مع ذلك ـ كانوا يدّعون الايمان بمعنى الإذعان والتسليم للنّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ، فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتّى يرى أثره في حياتهم وهو تحكيم النبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في المرافعات ، والتسليم العملي أمام قضائه ، وعدم إحساسهم بالحرج ممّا قضى. وهذا ظاهر متبادر من الآية وشأن نزولها. فمعنى قوله سبحانه: ( فلا وربّك لا يؤمنون ) ، أنّه لا يقبل ادّعاء الايمان منهم إلاّ عن ذلك الطّريق.وبعبارة ثانية; إنّ الآية وردت في سياق الآيات الآمرة بإطاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال سبحانه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( النساء / 64 ) والمنافقون كانوا يدّعون الايمان ، وفي الوقت نفسه كانوا يتحاكمون إلى الطّاغوت. فنزلت الآية ، وأعلنت أنّ مجرّد التصديق لساناً ليس إيماناً. بل الايمان تسليم تامّ باطني وظاهري.فلا يستكشف ذلك التسليم التامّ ، إلاّ بالتسليم للرّسول ظاهراً ، وعدم التحرّج من حكم الرّسول باطناً ، وآية ذلك ترك الرُّجوع إلى الطّاغوت ورفع النزاع إلى النّبي ، وقبول حكمه بلا حرج. فأين هو من كون نفس التحكيم جزءاً من الإيمان؟

    4 ـ قوله سبحانه: ( وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) ( آل عمران / 97 ) سمّى سبحانه تارك الحجّ كافراً.

    يلاحظ عليه: أنّ المراد إمّا كفران النّعمة وأنّ ترك المأمور به كفران لنعمة الأمر ، أو كفر الملة لأجل جحد وجوبه.

    5 ـ قوله سبحانه: ( وَمَا اُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلوةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَوةَ وَ ذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة ) ( البيّنة / 5 ). والمشار اليه بلفظة « ذلك » جميع ما جاء بعد « إلاّ » من إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، فدلّت هذه الآية على دخول العبادات في ماهية الدين.

 

________________________________________

(94)

    والمراد من الدّين ، هو الإسلام لقوله سبحانه ( إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام ) ( آل عمران / 19 ).

    وعلى ضوء هذا ، فالعبادات داخلة في الدّين حسب الآية الاُولى ، والمراد من الدين هو الإسلام حسب الآية الثانية ، فيثبت أنّ العبادات داخلة في الإسلام ، وقد دلّ الدّليل على وحدة الإسلام والإيمان وذلك بوجوه:

    الف ـ الإسلام هو المبتغى لقوله: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آلعمران / 85 ) والايمان أيضاً هو المبتغى ، فيكون الإسلام والايمان متّحدين.

    ب ـ قوله سبحانه: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( الحجرات / 17 ) فجعل الاسلام مرادفاً للايمان.

    ج ـ قوله سبحانه: ( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( الذاريات / 35 ـ 36 ) وقد اُريد من المؤمنين والمسلمين معنى واحداً ، فهذه الآيات تدل على وحدة الإسلام والايمان. فإذا كانت الطّاعات داخلة في الإسلام فتكون داخلة في الإيمان أيضاً لحديث الوحدة (1).

    يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المشار إليه في قوله ( وذلك دين القيّمة ) هو الجملة الاُولى بعد « إلاّ » أعني ( ليعبدوا الله مخلصين له الدّين ) لا جميع ما وقع بعدها من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والمراد من قوله ( ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) هو إخلاص العبادة لله ، كإخلاص الطّاعة (2) له ، والشّاهد على ذلك قوله سبحانه: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذِلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم / 30 ). فإنّ وزان قوله ( ذلك الدّين القيّم ) وزان قوله ( ذلك دين القيّمة ) والمشار إليه في الجملة الاُولى هو

________________________________________

    1 ـ الفصل: ج 3 ص 234 ، والبحار: ج 66 ص 16 ـ 17.

    2 ـ المراد من الدين في قوله « مخلصين له الدين » هو الطاعة.

________________________________________

(95)

     الدّين الحنيف الخالص عن الشرك ، بإخلاص العبادة والطّاعة له سبحانه.

    ثانياً : يمنع كون العبادات داخلة في الإسلام حتّى في قوله سبحانه: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام ) وقوله تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِيناً... ) لأنّ المراد منه هو التّسليم أمام الله وتشريعاته ، بإخلاص العبادة والطّاعة له في مقام العمل دون غيره من الأوثان والأصنام ، وبهذا المعنى سمّي إبراهيم « مسلماً » في قوله تعالى: ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولانَصْرانِياً وَلكِنْ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / 67 ) وبهذا المعنى طلب يوسف من ربّه أن يميته مسلماً قال سبحانه حكاية عنه: ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ ) ( يوسف / 101 ) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول إخلاص العبادة له ، والتجنّب من الشّرك ، فلو فرض أنّ العبادة داخلة في مفهوم الدّين ، فلا دليل على دخولها في مفهوم الإسلام.

 

    ثالثاً: نمنع كون الإسلام والايمان بمعنى واحد ، فالظّاهر من الذّكر الحكيم اختلافهما مفهوماً. قال سبحانه: ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلِكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلوبِكُمْ ) ( الحجرات / 13 ) فلو استعمل الإسلام أو المسلمين وأُريد منهما الإيمان والمؤمنين في مورد أو موردين ، فهو لوجود قرينة تدلّ على أنّ المراد من العامّ هو الخاصّ.

    إلى غير ذلك من الآيات الّتي جمعها ابن حزم في « الفصل » (1) ولا دلالة فيها على ما يرتئيه ، والإستدلال بهذه الآيات يدلّ على أنّ الرّجل ظاهريّ المذهب إلى النّهاية يتعبّد بحرفيّة الظواهر ، ولا يتأمّل في القرائن الحافّة بالكلام وأسباب النّزول.

    نعم هناك روايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تعرب عن كون العمل جزءاً من الإيمان وإليك بعضها:

    1 ـ روى الكراجكي عن الصّادق أنّه قال: « ملعون ملعون من قال: الإيمان قول

________________________________________

    1 ـ الفصل: بكسر الفاء وفتح الصاد بمعنى النخلة المنقولة من محلّها الى محلّ آخر لتثمر ، كقصعة وقصع.

________________________________________

(96)

     بلا عمل » (1).

    2 ـ روى الكليني عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال: « قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته يقول: كان عليّ ( عليه السلام ) يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ، ولا صلاة ، ولا حلال ، ولا حرام ، قال: وقلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : إنّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أكرم على الله عزّ وجلّ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وأنّ جوار الله للمؤمنين ، وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين ، ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً » (2).

    والمراد من « جحد الفرائض » تركها عمداً بلا عذر ، لا جحدها قلباً وإلاّ لما صلح للاستدلال.

    3 ـ روى الكليني عن محمّد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : الكبائر تخرج من الايمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر ، قال رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم: لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن (3).

    4 ـ وروى أيضاً عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمر بن ذرّ ـ وأظنّ معهما أبو حنيفة ـ على أبي جعفر عليه السلام ، فتكلّم ابن قيس الماصر فقال: إنّا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملّتنا من الايمان في المعاصي والذنوب. قال: فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) : يا ابن قيس أمّا رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت (4).

________________________________________

    1 ـ البحار ج 69 ص 19 ، الحديث 1.

    2 ـ الكافي ج 2 ص 33 ، الحديث 2 ، والبحار ج 66 ص 19 ، الحديث 2.

    3 ـ الكافي ج 2 ص 284 ـ 285 ، الحديث 21.

    4 ـ الكافي ج 2 ص 285 ، الحديث 22.

________________________________________

(97)

    5 ـ وعن الرضا عن آبائهـ صلوات الله عليهم ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : الايمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان وعمل بالأركان (1).

    إلى غير ذلك من الرّوايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي ـ قدس سرهـ في بحاره ، باب « الايمان مبثوث على الجوارح » (2).

    أقول: الظّاهر أنّها وردت لغاية ردّ المرجئة الّتي تكتفي في الحياة الدينية بالقول والمعرفة ، وتؤخّر العمل وترجو رحمته وغفرانه مع عدم القيام بالوظائف ، وقد تضافر عن أئمّة أهل البيت ـ عليه السلام ـ لعن المرجئة.

    روى الكليني عن الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: لعن الله القدريّة ، لعن الله الخوارج ، لعن الله المرجئة ، لعن الله المرجئة ، فقلت: لعنت هؤلاء مرّة مرّة ولعنت هؤلاء مرّتين قال: إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قَتَلَتَنا مؤمنون ، فدماؤنا متلطّخة بثيابهم إلى يوم القيامة. إنّ الله حكى عن قوم في كتابه: ( ألاّ نُؤْمِنُ لِرَسُول حَتّى يَأْتِينَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُموهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) قال: كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا (3).

    وروى أيضاً عن أبي مسروق قال:سألني أبو عبدالله ( عليه السلام ) عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدريّة وحروريّة ، قال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة الّتي لا تعبد الله على شيء (4).

    إلى غير ذلك من الرِّوايات الواردة في ذمّ هذه الفرقة الّتي كانت تثير روح العصيان والتمرّد على الأخلاق والمثل بين الشباب ، وتحرّضهم على اقتراف الذنوب والمعاصي رجاء المغفرة.

________________________________________

    1 ـ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 226.

    2 ـ بحار الأنوار ج 69 الباب 30 من كتاب الكفر والايمان ص 18 ـ 149.

    3 ـ الكافي ج 2 ، ص 409 ، الحديث 1.

    4 ـ الكافي ، ج 2 ، ص 409 ، الحديث 2. والآية 183 من سورة آل عمران.

________________________________________

(98)

    والّذي يظهر من ملاحظة مجموع الأدلّة ، هو أنّ الايمان ذو مراتب ودرجات ، ولكل أثره الخاصّ.

    1 ـ مجرّد التصديق بالعقائد الحقّة ، وقد عرفت ثمرته وهي حرمة دمه وعرضه وماله ، وبه يناط صحّة الأعمال واستحقاق الثّواب ، وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة.

    2 ـ التصديق بها مع الاتيان بالفرائض الّتي ثبت وجوبها بالدّليل القطعي كالقرآن ، وترك الكبائر الّتي أوعد الله عليها النّار ، وبهذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة ، ومانع الزّكاة ، وتارك الحجّ ، وعليه ورد قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم « لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن » وثمرة هذا الايمان عدم استحقاق الإذلال والإهانة والعذاب في الدنيا والآخرة.

    3 ـ التصديق بها مع القيام بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات. وثمرته اللّحوق بالمقرّبين ، والحشر مع الصّديقين وتضاعف المثوبات ، ورفع الدّرجات.

    4 ـ نفس ما ذكر في الدّرجة الثالثة لكن بإضافة القيام بفعل المندوبات ، وترك المكروهات ، بل بعض المباحات ، وهذا يختصّ بالأنبياء والأوصياء (1).

    ويعرب عن كون الإيمان ذا درجات ومراتب ، ما رواه الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) في حديث قال: « قلت: ألا تخبرني عن الإيمان؟ أقولهو وعمل ، أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كلّه ، والقول بعض ذلك العمل ، بفرض من الله بيّن في كتابه ، واضح نوره ، ثابتة حجّته ، يشهد له به الكتاب ، ويدعوه إليه ، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتّى أفهمه ، قال: الايمان حالات ودرجات وطبقات ، ومنازل: فمنه التامّ المنتهى تمامه ، ومنه النّاقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه.

________________________________________

    1 ـ البحار ج 69 ص 126 ـ 127.

________________________________________

(99)

    قلت:إن الايمان ليتمّ وينقص ويزيد؟ قال: نعم ، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وكلت من الايمان بغير ما وكلت به اُختها... الخ » (1).

    ويعرب عنه أيضاً ما رواه الصدوق عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال: قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: ليس الايمان بالتحلّي ، ولا بالتمنّي ، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب ، وصدّقه الأعمال (2).

    والمراد بالتحلّي التزيّن بالأعمال من غير يقين بالقلب ، كما أنّ المراد من التمنّي هو تمنّي النجاة بمحض العقائد من غير عمل.

    وفي ما رواه النّعماني في كتاب القرآن عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شواهد على ذلك التقسيم (3).

خاتمة المطاف

    إنّ البحث في أنّ العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا ، وإن كان مهمّاً قابلاً للمعالجة في ضوء الكتاب والسنّة ، كما عالجناه ، إلاّ أنّ للبحث وجهاً آخر لا تقلّ أهميته عن الوجه الأول وهو تحديد موضوع ما نطلبه من الآثار. فإذا دلّ الدليل على أنّ الموضوع لهذا الأثر أو لهذه الآثار هو نفس الاعتقاد الجازم ، أو هو مع العمل ، يجب علينا أن نتّبعه سواء أصدق الإيمان على المجرّد أم لا ؟ سواء كان العمل عنصراً مقوّماً أم لا ؟

    مثلاً; إنّ حقن الدماء وحرمة الأعراض والأموال يترتّب على الإقرار باللسان سواء أكان مذعناً في القلب أم لا ، ما لم تعلم مخالفة اللسان مع الجنان. ولأجل ذلك نرى أنّ كلّ عربيّ وعجميّ وأعرابيّ وقرويّ أقرّ بالشهادتين عند الرسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حكم عليه

________________________________________

    1 ـ البحار ج 69 ص 23 ـ 24 لاحظ تمام الرواية وقد شرحها العلامة المجلسي.

    2 ـ البحار ج 69 ص 72 نقلاً عن معاني الاخبار ص 187.

    3 ـ البحار ج 69 ص 73 ـ 74 نقلاً عن تفسير النعماني.

________________________________________

(100)

     بحقن دمه واحترام ماله. قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « اُمرت أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم » (1).

    فهذه الآثار لا تتطلّب أزيد من الإقرار باللّسان ما لم تعلم مخالفته للجنان ، سواء أصحّ كونه مؤمناً أم لا.

    وأمّا غير هذه من الآثار التي نعبّر عنه بالسعادة الأُخروية فلا شكّ أنّها رهن العمل ، وأنّ مجرّد الاعتقاد والإقرار باللسان لا يسمن ولا يغنى من جوع. وهذا يظهر بالرجوع إلى الكتاب والسنّة. قال سبحانه: ( إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ( الحجرات / 15 ). نرى أنّه ينفي الايمان عن غير العامل. وما هذا إلاّ لأنّ المراد منه ، الإيمان المؤثّر في السعادة الأخرويّة ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل » (2).

    فالإمام ( عليه السلام ) بصدد بيان الإسلام الناجع في الحياة الاُخروية ، ولأجل ذلك فسّره نهايةً بالعمل. ولكنّ الاسلام الّذي ينسلك به الانسان في عداد المسلمين ، ويحكم له وعليه ظاهراً ما يحكم للسائرين من المسلمين ، تكفي فيه الشهادة باللّفظ ما لم تعلم المخالفة بالقلب ، وعلى ذلك جرت سيرة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وأصحابه.

    فلو أوصلَنا السبر والدقّة إلى تحديد الايمان فهو المطلوب ، وإلاّ فالمهمّ هو النّظر إلى الآثار المطلوبة وتحديد موضوعاتها حسب الأدلة سواء أصدق عليه الايمان أم لا ، سواء أدخل العمل في حقيقته أم لا كما تقدّم. هذا ما ذكرناه هنا عجالة ، وسوف نميط السّتر عن وجه الحقيقة عند البحث عن عقيدة الطائفتين ـ المعتزلة والخوارج ـ في مورد مرتكب الكبيرة ، ونحدّد مفهوم الايمان في ضوء الكتاب والسنّة.

________________________________________

    1 ـ بحار الأنوار : ج 68 ص 242.

    2 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 125.

(101)

المرجئة والفرق الاُخرى:

    الانسان يتصوّر بادئ بدء أنّ المرجئة كسائر الطّوائف لهم آراء في جميع المجالات الكلاميّة ، خاصّة بهم ، يفترقون بها عن غيرهم ، ولكن سرعان ما يتبيّن له أنّ الأصل المقوّم للمرجئة هو مسألة تحديد الإيمان والكفر. وأمّا الموضوعات الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ. ولأجل ذلك تفرّقوا في آخر أمرهم إلى فرق متبدّدة ومتضادّة. فترى مرجئياً يتّبع منهج الخوارج ، ومرجئياً آخر يقتفي أثر القدريّة ، وثالثاً يشايع الجبريّة. وما هذا إلاّ لأنّ الإرجاء قام على أصل واحد وهو تحديد الايمان بالإقرار او باللسان أو المعرفة القلبية. وأمّا الاُصول الاُخرى فليس لهم فيها رأي خاصّ قطّ. وصار هذا سبباً لذوبانهم في الفرق الاخرى وتفرّقوا على الفرق التالية:

    1 ـ مرجئة الخوارج ، 2 ـ مرجئة القدرية ، 3 ـ مرجئة الجبرية ، 4 ـ المرجئة الخالصة.

    وهذه الطّوائف بعضها بالنسبة إلى بعض على نقيض ، فمرجئة القدريّة تقول بالاختيار والحريّة للانسان ، ومرجئة الجبريّة تنكره. ومع ذلك كلّه فالطائفتان تستظلاّن تحت سقف واحد ، وهو الإرجاء ، وإن اختلفوا في سائر المسائل. نعم يوجد هناك مرجئة خالصة لم يتكلّموا بشيء في بقيّة المسائل وذكر الشهرستاني لهم طوائف ستّ وهي:

    1 ـ اليونسيّة 2 ـ العبيديّة 3 ـ الغسّانيّة 4 ـ الشعبانيّة 5 ـ التومينية 6 ـ الصالحيّة.

    وهؤلاء لم يتكلّموا إلاّ في الارجاء واختلفوا في تحديد الايمان بعد إخراج العمل منه ، وتركوا البحث عن سائر الموضوعات ، بخلاف الطّوائف الثلاث المتقدّمة. فإنّهم اشتركوا في الإرجاء واختلفوا في سائر الموضوعات. فمن مرجئيّ سلك مسلك الخوارج ، يبغض عثماناً وعليّاً ، ويناضل ضدّ الحكّام ، إلى آخر يتفيّأ بفيء القدريّة يحترم الخلفاء الأربع ، ويرى الانسان فاعلاً مختاراً وفعله متعلّقاً بنفسه. إلى ثالث يركب مطيّة الجبر ويرى الإنسان أداة طيّعة للقضاء والقدر.

 

________________________________________

(102)

شعراء المرجئة:

    قد وجد بين المرجئة شعراء عبّروا عن عقيدتهم في قصائدهم ونذكر هنا شاعرين:

    1 ـ ثابت بن قطنة. كان في صحابة يزيد بن المهلّب يولّيه أعمالاً من أعمال الثغور ، وقد روى أبو الفرج الإصفهاني قصيدة له في أغانيه مستهلّها:

يا هند فاستمعي لي أنّ سيرتنانرجى الاُمور إذا كانت مشبهةالمسلمون على الاسلام كلّهمواو لا أرى أنّ ذنباً بالغ أحداًلانسفك الدم إلاّ أن يراد بنامن يتّق الله في الدنيا فإنّ لهو ماقضى الله من أمر فليس لهكلّ الخوارج مُخط فى مقالتهأمّا عليّ و عثمان فانّهماو كان بينهما شغب وقد شهدايجزى عليّاً و عثماناً بسعيهماالله يعلم ماذا يحضران به                   أن نعبد الله لم نشرك به أحداًو نصدق القول فيمن جار أو عنداوالمشركون استووا في دينهم قددامِ النّاس شركا إذا ما وحّدوا الصمداسفك الدماء طريقا واحداً جدداأجر التقيّ إذا وفّى الحساب غداردّ و مايقض من شيء يكن رشداولو تعبّد فيما قال و اجتهداعبدان لم يشركا بالله مذ عبداشقّ العصا و بعين الله ما شهداو لست أدري بحق آيةً ورداوكلّ عبد سيلقى الله منفردا (1)

    2 ـ عون بن عبدالله بن علقبة بن مسعود: وقد وصف بكونه من أهل الفقه والأدب وكان يقول بالإرجاء ثم عدل عنه وقال مخطئاً ما اعتقده:

فأوّل ما أُفارق غير شكّوقالوا مؤمن من آل جوروقالوا مؤمن دمه حلال           أُفارق ما يقول المرجئوناوليس المؤمنون بجائريناوقد حرمت دماء المؤمنينا (2)

________________________________________

    1 ـ فجر الاسلام ص 281 ـ 282 نقلاً عن الأغاني ج 4 ص 204.

    2 ـ نفس المصدر:ص 282 ، نقلاً عن الأغاني ج 8 ص 92.

________________________________________

(103)

خطر المرجئة على أخلاق المجتمع:

    قد عرفت التطوّر في فكرة الإرجاء وأنّه استقرّ رأي المرجئة أخيراً على أنّ الايمان عبارة عن الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب ، وهذا يكفي في اتّصاف الانسان بالإيمان. ولو صحّ ما نسب إليهم في شرح المواقف « من عدم العقاب على المعاصي » (1) فالمصيبة أعظم.

    وهذه الفكرة فكرة خاطئة تسير بالمجتمع ـ وخصوصاً الشباب ـ إلى الخلاعة والإنحلال الأخلاقي وترك القيم ، بحجّة أنّه يكفي في اتّصاف الانسان بالايمان ، وانسلاكه في سلك المؤمنين ، الإقرار باللّسان أو الإذعان بالقلب ، ولا نحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة ، ولا يضرّه شرب الخمر وفعل الميسر ، ويجتمع مع حفظ العفاف وتركه.

    ولو قدر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع ، لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه ، ومن الدين إلاّ اسمه. ويكون المتديّن بهذه الفكرة كافراً واقعياً ، اتّخذ هذه الفكرة واجهة لما يكنّ في ضميره.

    ولقد شعر أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بخطورة الموقف ، وعلموا بأن إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة ، والشيعة خاصّة ، سترجعهم إلى الجاهليّة ، فقاموا بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة فقالوا:

     « بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة » (2).

________________________________________

    1 ـ شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ، ص 229 و 238.

    2 ـ الكافي ج 6 ص 47 ، الحديث 5. قال المجلسي في المرآة عند شرح هذا الحديث: « أي علموهم في شرخ شبابهم بل في أوائل إدراكهم وبلوغهم التميز من الحديث ما يهتدون به الى معرفة الأئمة ( عليهم السلام ) والتشيع قبل أن يغويهم المخالفون ويدخلوهم في ضلالتهم ، فيعسر بعد ذلك صرفهم عن ذلك. والمرجئة في مقابلة الشيعة من الإرجاء بمعنى التأخير ، لتأخيرهم عليّاً عليه السلام عن مرتبته ، وقد يطلق في مقابلة الوعيديّة إلاّ أن الأول هو المراد هنا ».

ويحتمل أن يكون المراد هو الثاني بقرينة « أولادكم » فإنّ فكرة الإرجاء بالمعنى الأول تضرّ الكلّ ، وبالمعنى الثاني تضر الشباب الّذين تهددهم الغرائز الجامحة كما أوعزنا إليه في المتن.

________________________________________

(104)

    وفكرة الإرجاء فكرة خاطئة تضرّ بالمجتمع عامّة. وإنّما خصّص الإمام منهم الشباب لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة ، لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر للشباب لاقتراف الذنوب والانحلال الأخلاقي والانكباب وراء الشهوات مع كونهم مؤمنين.

    ولو صحّ ما ادّعته المرجئة من الايمان والمعرفة القلبيّة ، والمحبّة لإله العالم ، لوجب أن تكون لتلك المحبّة القلبيّة مظاهر في الحياة ، فإنّها رائدة الانسان وراسمة حياته ، والانسان أسير الحبّ وسجين العشق ، فلو كان عارفاً بالله ، محبّاً له ، لاتّبع أوامره ونواهيه ، وتجنّب ما يسخطه ويتّبع ما يرضيه ، فما معنى هذه المحبّة للخالق وليس لها أثر في حياة المحبِّ.

    ولقد وردت الإشارة إلى التأثير الذي يتركه الحبّ والودّ في نفس المحبّ في كلام الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث قال: « ما أحبّ الله عزّ وجلّ من عصاه » ثم أنشد الامام ( عليه السلام ) قائلاً:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّهلو كان حبّك صادقاً لأطعته                   هذا محالٌ في الفعال بديع إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع (1)

    إنّ للامام الصادق ( عليه السلام ) احتجاجاً على المرجئة ، علّمه لأحد أصحابه وأبطل فيه حجّة القائل بكفاية الاقرار بالايمان قياساً على كفاية الانكار باللسان في الكفر ، وإليك الحديث:روى محمّد بن حفص بن خارجة قال: سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والايمان وقال: إنّهم يحتجّون علينا ويقولون: كما أنّ الكافر عندنا هو الكافر عند الله ، فكذلك نجد المؤمن إذا أقرّ بإ يمانه أنّه عند الله مؤمن ، فقال: سبحان الله; وكيف يستوي هذان ، والكفر إقرار من العبد فلا يكلّف بعد اقراره ببيّنة ، والايمان دعوى لا يجوز إلاّ ببيّنة ، وبيّنته عمله ونيّته ، فإذا اتّفقا فالعبد عند الله مؤمن ، والكفر موجود بكلّ جهة من هذه الجهات الثلاث ، من نيّة ، أو

________________________________________

    1 ـ سفينة البحار: ج 1 ص 199 مادة « حبب ».

________________________________________

(105)

    قول ، أو عمل. والأحكام تجري على القول والعمل ، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالايمان ، ويجري عليه أحكام المؤمنين ، وهو عند الله كافر ، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله (1).

    توضيح الرواية; أنّ الامام ـ عليه السلام ـ شبّه الاقرار الظاهري بالدعوة كسائر الدعاوي ، كما أنّ الدعوة في الدعاوي لا تقبل إلاّ ببيّنة ، فكذا جعل الله تعالى هذه الدعوة غير مقبولة إلاّ بشاهدين من قلبه وجوارحه فلا يثبت إلاّ بهما.

 

المرجئة وعلماء الشيعة

    إنّ علماء الشّيعة الإماميّة تبعاً لأئمتهم ، قاموا في وجه المرجئة وحذّروا الاُمّة من ألوان خداعهم ، علماً منهم بأنّ في نفوذ فكرة الارجاء ، مسخ الإسلام ومحوه من أديم الأرض ، وإليك كلمة قيّمة لفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ( المتوفّى عام 260هـ ) من أصحاب الأئمة الثلاثة: ـ الجواد والهادي والعسكري ( عليهم السلام ) ذكرها في كتابه ( الايضاح ص 20 ) قال: « ومنهم المرجئة الّذين يروي منهم أعلامهم مثل إبراهيم النخعي ، وإبراهيم بن يزيد التيمي ، ومن دونهما مثل سفيان الثوري ، وابن المبارك ووكيع ، وهشام ، وعلي بن عاصم عن رجالهم أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب; القدريّة والمرجئة. فقيل لهم: ما المرجئة؟ قالوا: الّذين يقولون: الايمان قول بلا عمل. وأصل ما هم عليه أنّهم يدينون بأنّ أحدهم لو ذبح أباه واُمّه وابنه وبنته وأخاه واُخته ، وأحرقهم بالنار ، أو زنى ، أو سرق ، أوقتل النّفس الّتي حرّم الله ، أو أحرق المصاحف ، أو هدم الكعبة ، أو نبش القبور ، أو أتى أيّ كبيرة نهى الله عنها ، إنّ ذلك لا يفسد عليه ايمانه ، ولا يخرجه منه ، وأنّه إذا أقرّ بلسانه بالشهادتين إنّه مستكمل الايمان ، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل ـ صلّى الله عليهما ـ فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب ممّا نهى الله عنه ، ويحتجّون بأنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: اُمرنا أن نقاتل النّاس حتّى يقولوا:

________________________________________

    1 ـ الكافى: ج 2 ص 39 ـ 40 ، الحديث 8.

________________________________________

(106)

     لا إله إلا الله ، وهذا قبل أن يفرض سائر الفرائض وهو منسوخ.

    وقد روى محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن المغيرة بن سعيد ، عن أبيه ، عن مقسم ، عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود هذه الاُمّة. وقد نسخ احتجاجهم قول النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم حين قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصوم شهر رمضان (1).

    وله ـ رحمه الله ـ احتجاج و مناشدة مع المرجئة في كتابه فمن أراد فليرجع إليه (2).

    هل كان أبو حنيفة مرجئياً؟

    إنّ المشهور بين أرباب الملل والنحل أنّ الامام أبا حنيفة كان مرجئيّاً ، وممن نقل ذلك ، الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه « مقالات الإسلاميين » فقال: « الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أنّ الإيمان المعرفة بالله ، والإقرار بالله والمعرفة بالرّسول والإقرار بما جاء به من عند الله في الجملة دون التفصيل ».

    ثمّ ينقل عن غسّان وأكثر أصحاب أبي حنيفة أنّهم ينقلون عن أسلافهم أنّ الايمان هو الاقرار والمحبّة لله والتعظيم له والهيبة منه ، وترك الاستخفاف بحقّه ، وأنّه يزيد ولا ينقص (3).

    والظّاهر هو الأوّل لتنصيصه في كتاب « العالم والمتعلّم » الذي أملاه وكتبه ت لاميذه على ذلك وإليك النصّ:

    قال العالم ـ رضي الله عنهـ : الايمان هو التصديق والمعرفة واليقين والاقرار والاسلام. والناس في التصديق على ثلاث منازل:

    فمنهم: من يصدِّق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه.

________________________________________

    1 ـ الايضاح: ص 20 ـ 21.

    2 ـ الايضاح :ص 47 ـ 66.

    3 ـ مقالات الاسلاميين: ص 132.

________________________________________

(107)

    ومنهم: من يصدِّق بلسانه ويكذّب بقلبه.

    ومنهم: من يصدّق بقلبه ويكذّب بلسانه.

    قال المتعلّم ـ رحمه الله ـ : لقد فتحت لي باب مسألة لم أهتد إليه ، فأخبرني عن أهل هذه المنازل الثّلاث أهم عند الله مؤمنون؟

    قال العالم ـ رضي الله عنهـ : من صدّق بالله وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه فهو عند الله وعند الناس مؤمن.

    ومن صدّق بلسانه وكذّب بقلبه كان عند الله كافراً وعند الناس مؤمناً ، لأنّ الناس لا يعلمون ما في قلبه. وعليه يسمّونه. مؤمناً بما ظهر لهم من الإقرار بهذه الشهادة وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب.

    ومنهم من يكون عند الله مؤمناً وعند الناس كافراً وذلك بأنّ الرّجل يكون مؤمناً بالله وبما جاء عنه. ويظهر الكفر بلسانه في حال التقيّة أي الإكراه فيسمّيه من لا يعرف أنّه يتّقي ، كافراً ، وهو عند الله مؤمن (1).

    وفي الفقه الأكبر المنسوب له ما هذا نصّه: « الإيمان هو الإقرار والتصديق » وجاء فيه: « ويستوي المؤمنون كلّهم في المعرفة واليقين والتوكّل والمحبّة والرضا والرجاء ويتفاوتون فيما دون الايمان في ذلك كلّه ». وجاء فيه: « الله متفضّل على عباده عادل قد يعطي في الثّواب أضعاف ما يستوجبه العبد ، تفضّلاً منه وقد يعاقب على الذّنب عدلاً منه وقد يعفو فضلاً منه » ، وجاء فيه: « ولا نكفّر أحداً بذنب ولا ننفي أحداً عن الايمان » (2).

    أقول: إنّ القول بأنّ الايمان هو التصديق القلبي فقط ، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل ويرى النجاة والسعادة فيه ، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير

________________________________________

    1 ـ العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة ، تحقيق عمر رواس قلعة جى وعبد الوهاب الهندي الندوي ، ص 52 ـ 53.

    2 ـ ضحى الإسلام: ج 3 ص 321.

________________________________________

(108)

     رابح. فالمرجئة هم الّذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثراً في الحياة الاُخرويّة ، ويعيشون على أساس العفو والرجاء وبالجملة يهتمّون بالرغب دون الرهب والله سبحانه يقول: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً ) ( الأنبياء / 90 ).

    وعلى ذلك; فرمي كلّ من قال بأنّ الايمان هو التصديق بالإرجاء ، رمي في غير محلّه ، فإذا كان المرميّ ذا عناية خاصّة بالعمل بالأركان ، والقيام بالجوارح ، وكان شعاره قوله سبحانه: ( إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر * إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصالِحَاتِ وَ تَواصَوْا بِالحَقّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) فهو على طرف النقيض منهم ، خصوصاً على ما نقله شارح المواقف من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم.

    هذا إجمال القول في عقيدة المرجئة وما يترتّب عليها من المفاسد ، ولأئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) كلمات في حقّهم حذّروا المجتمع فيها من تلك الطائفة يجدها المتتبّع في محلّه (1). ويظهر من الأمير نشوان الحميري ( المتوفّى عام 573 هـ ) شيوع المرجئة في عصره في الأوساط الإسلاميّة قال: « وليس كورة من كور الاسلام إلاّ والمرجئة غالبون عليها إلاّ القليل » (2) ـ أعاذنا الله من شرّ الأبالسة.

إكمال :

    قد عرفت التطوّر في استعمال لفظ « المرجئة » وأنّها تستعمل تارة في تأخير القول في عثمان وعليّ ، وعدم القضاء في حقّهما بشيء ، وإرجاع أمرهما إلى الله. وأُخرى في تقديم القول على العمل وتأخيره عنه قائلاً بأنّه لا تضرّ مع الايمان المعصية ، كما لا تنفع مع

________________________________________

    1 ـ بحار الأنوار: ج 18 ص 392 فصل المعراج ، وغيره.

    2 ـ شرح الحور العين ص 203 ، كما في « بحوث مع أهل السنة ».

________________________________________

(109)

     الكفر الطاعة ، والحسن بن محمّد بن الحنفيّة مبدع الإرجاء بالمعنى الأوّل ، لا الثاني. وإطلاقها على المعنيين لاشتراكهما في التأخير.

    غير أنّ الدكتور جلال محمّد عبد الحميد موسى نسب الإرجاء بالمعنى الثاني الى الحسن وقال: « إنّنا نجد بذور هذا المذهب عند الحسن بن محمّد الحنفيّة ( ت 101هـ ) وهو عالم من علماء أهل البيت ، قد تصدّى للردّ على الخوارج حين نشروا مبدأهم الخطير « لا عقد بدون عمل » وهو يستلزم تكفير مرتكب الكبيرة واستحلال قتله ، فأعلن « الحسن » أنّه لا يضرّ مع الايمان معصية وأنّ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الايمان ، حتى يزول الايمان بزوالها » (1).

    وما ذكره خلط بين معنيي الارجاء فلاحظ ، وقد تقدّم في كلام ابن حجر التصريح بذلك (2).

    تمّ الكلام في المرجئة

________________________________________

    1 ـ نشأة الأشعرية وتطورها: ص 20.

    2 ـ تهذيب التهذيب: ج 2 ، ص 321.