حياة أبطال الأشاعرة وعباقرتهم

 

المنافسة والمنافرة بين الحنابلة والأشاعرة

    إنّ المنافرة بين الطائفتين كانت قائمة على قدم وساق منذ ظهور مذهب الإمام الأشعري بين أهل السنّة واستقطب مجموعة كبيرة من العلماء ، واشتهر مذهباً خاصاً بين أهل السنّة ، ولكن الحنابلة منذ أن تاب الأشعري عن الاعتزال وادّعى أنّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، لم يقبلوا منه [ذلك].

    وقد عرفت كلمة البربهاري عندما ذكر له الشيخ ، ما نقلناه عنه سابقاً. (1)

    وقد تجلّت تلك المنافسة عبر الزمان بصور مختلفة من مرحلة ضعيفة إلى مرحلة قوية أدت إلى الضرب و الشتم وحبس مشايخ الأشاعرة ونفيهم من أوطانهم ، ولأجل إيقاف القارئ على هذه المنافرة نأتي ببعض ما يدلّ على ذلك :

________________________________________

1 ـ لاحظ ص 30 من هذا الكتاب.

________________________________________

(298)

1.ترجمة الشيخ في كتب الذهبي

    إنّ الشيخ الذهبي لم يقم بترجمة الشيخ على وجه يتلقّاه الأشاعرة بالقبول ، بل اشتمل كلامه على لذع ولدغ ، وفي هذا يقول السبكي :

    وأنت إذا نظرت في ترجمة هذا الشيخ الذي هو شيخ السنّة وإمام الطائفة في تاريخ شيخنا الذهبي ، ورأيت كيف مزّقها وحار كيف يضع من قدره ، ولم يمكنه البوح بالغض منه خوفاً من سيف أهل الحق ، ولا الصبر عن السكون لما جبلت عليه طويته من بغضه ، بحيث اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه ، ثمّ قال في آخر الترجمة : « من أراد أن يتبحّر في معرفة الأشعري فعليه بكتاب « تبيين كذب المفتري » لأبي القاسم ابن عساكر. توفنا على السنّة ، وأدخلنا الجنة ، واجعل أنفسنا مطمئنة ، نحب فيها أولياءك ، ونبغض فيها أعداءك ، ونستغفر للعصاة من عبادك ، ونعمل بمحكم كتابك ، ونؤمن بمتشابهه ونصفك بما وصفت به نفسك ».

    فعند ذلك تقضي العجب من هذا الذهبي ، وتعلم إلى ماذا يشير المسكين؟!فويحه ، ثم ويحه!إنّ الذهبي أُستاذي ، وبه تخرّجت في علم الحديث ، إلاّ أنّ الحقّ أحقّ أن يتبع ويجب عليَّ تبيين الحقّ فأقول :

    أمّا حوالتك على « تبيين كذب المفتري » وتقصيرك في مدح الشيخ ، فكيف يسعك ذلك مع كونك لم تترجم مجسماً يشبّه الله بخلقه إلاّ واستوفيت ترجمته؟! حتى إنّ كتابك مشتمل على ذكر جماعة من أصاغر المتأخرين من الحنابلة ، الذين لا يؤبه إليهم ، وقد ترجمت كلّ واحد منهم بأوراق عديدة ، فهل عجزت أن تؤتي ترجمة هذا الشيخ حقّها وتترجمه كما ترجمت من هو دونه بألف ألف طبقة. فأي غرض وهوى نفس أبلغ من هذا؟! وأقسم بالله يميناً برّة ما بك إلاّ أنّك لا تحب شياع اسمه بالخير ، ولا تقدر في بلاد المسلمين على أن تفصح فيه بما عندك من أمره ، وما تضمره من الغموض منه ، فإنّك لو أظهرت ذلك لتناولتك سيوف الله.

    وأمّا دعاؤك بما دعوت به ، فهل هذا مكانه يا مسكين؟!

    وأمّا إشارتك بقولك : « نبغض أعداءك » إلى أنّ الشيخ من أعداء الله

 

________________________________________

(299)

    وأنّك تتبغضه فسوف تقف معه بين يدي الله يوم يأتي وبين يديه طوائف العلماء من المذاهب الأربعة ، والصالحين من الصوفية والجهابذة الحفّاظ من المحدّثين ، وتأتي أنت تتكسع في ظُلم (1) التجسيم الذي تدّعي أنّك بريء منه وأنت من أعظم الدعاة إليه ، وتزعم أنّك تعرف هذا الفن وأنت لا تفهم فيه نقيراً ولا قطميراً ، وليت شعري من الذي يصف الله بما وصف به نفسه؟! من شبهه بخلقه؟! أمن قال : لَيْسَ كمثله شيء و هو السَّميع البَصير ؟

    والأولى بي على الخصوص إمساك عنان الكلام في هذا المقام ، فقد أبلغت ، ثمّ احفظ لشيخنا حقّه وأمسك. (2)

 

2. استفتاء يتعلّق بحال الشيخ

    وقد كتب استفتاء يتعلّق بحال الشيخ في زمان شيخ الأشاعرة أبي القاسم القشيري بخراسان عند وقوع الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة عام ست و ثلاثين وأربعمائة ، وإليك جواب القشيري وغيره عنه :

    بسم الله الرّحمن الرّحيم. اتّفق أصحاب الحديث إنّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمّة أصحاب الحديث ، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث ، تكلّم في أُصول الديانات على طريقة أهل السنّة ، رد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة ، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين من الملة ، سيفاً مسلولاً ، ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنّة.

    بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج (3) في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر وكتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري.

    وكتب تحته الخبازي : كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي وهذا خطه.

________________________________________

1 ـ جمع الظلمة.

2 ـ طبقات الشافعية : 3/347 ـ 354.

3 ـ الدرج : الذي يكتب فيه.

________________________________________

(300)

    والشيخ أبو محمد الجويني : الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه ، وكتبه عبد الله بن يوسف ، وكتب نظير تلك الجملة المشايخ : أبو الفتح الشاشي ، وعلي بن أحمد الجويني ، وناصر العمري ، وأحمد بن محمد الأيوبي ، وأخوه علي ، وأبو علي الصابوني ، و أبو عثمان الصابوني ، وابنه أبو نصر بن أبو عثمان ، والشريف البكري ، ومحمد بن الحسن الملقاباذي. (1)

    يظهر من كتاب « تبيين كذب المفتري وطبقات الشافعية » أنّ بعض هؤلاء كتبوا تحت الورقة بعبارات فارسية ، مثلاً كتب عبد الجبار الإسفرايني بالفارسية : « إن أبو الحسن الأشعري آن امام است كه خداوند عزوجل اين آيت در شأن وى فرستاد : فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه ... ( المائدة : 54 ) (2) و مصطفى ( عليه السَّلام ) در آن روايت ، به جد وى اشارت كرد فقال : هم قوم هذا ». (3)

 

3. الفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور

    يظهر من كلام تاج الدين السبكي أنّ هذا الاستفتاء كان مقروناً بالفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور قاعدة بلاد خراسان آنذاك ، وقد آلت الفتنة إلى خروج إمام الحرمين ، والحافظ البيهقي ، وأبي القاسم القشيري من نيسابور ، وكانت تلعب في ذلك يد الحنابلة تحت الستار ، وإليك شرحه :

    قال السبكي : كان طغرل بك السلجوقي ـ وهو أوّل ملوك السلاجقة ـ رجلاً حنفياً سنّياً ، وكان له وزير يسمّى ب ـ : أبي نصر منصور بن محمد الكندري المعروف بعميد الملك ، والسبكي يتّهمه بأنّه كان معتزلياً ، رافضياً ، ومشبهاً لله سبحانه بخلقه ممّا هو شائع بين الكراميةوالمجسمة (4). فحسّن عميد الملك

________________________________________

1 ـ ولعلّه تعريب ملك آباد.

2 ـ وقد عرفت حقّ المقال في ادّعاء نزول هذه الآية في حقّ أبي موسى الأشعري جدّ الشيخ الأعلى ، فراجع.

3 ـ طبقات الشافعية : 3/374 ـ 375.

4 ـ نحن نشك في وجود هذه الصفات الثلاث في رجل مثقف مثل عميد الملك ، كيف يمكن أن يكون معتزلي المبدأ ، ورافضي العقيدة ، وفي الوقت نفسه قائلاً بالتشبيه والتجسيم ، وهل هذا إلاّ كالاعتقاد بالنقيضين؟!

(301)

    على السلطان لعن المبتدعة على المنابر ، فصدر الأمر بذلك ، واتخذ عميد الدين ذلك ذريعة إلى ذكر الأشعرية ، وصار يقصدهم بالإهانة والأذى والمنع عن الوعظ والتدريس ، وعزلهم عن خطابة الجامع ، واستعان بطائفة من المعتزلة الذين زعموا أنّهم يقلدون مذهب أبي حنيفة ، فحببوا إلى السلطان الإزراء بمذهب الشافعي عموماً ، وبالأشعرية خصوصاً ، وهذه هي الفتنة التي طار شررها فملأ الآفاق ، وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق ، وعظم خطبها وبلاؤها ، وقام في سب أهل السّنة ( الأشاعرة ) خطيبها وسفهاؤها ، إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع ، وتوظيف سبهم على المنابر ، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أُسوة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في زمن بعض بني أُمية ، حيث استولت النواصب على المناصب ، واستعلى أُولئك السفهاء في المجامع والمراتب.

    وكان في بلدة نيسابور رجلاً جواداً ذا أموال جزيلة وصدقات دارّة وهبات هائلة يسمى أبا سهل الموفق ، فشمّر عن ساعد الجد ، و تردد إلى العسكر في دفع ذلك ، وما أفاد شيء من التدبير ، إذ كان الخصم الحاكم ، والسلطان محجباً إلاّ بواسطة ذلك الوزير ، ثمّ جاء الأمر من قبل السلطان طغرل بك بالقبض على الرئيس الفراتي ، والأُستاذ أبي القاسم القشيري ، وإمام الحرمين ، وأبي سهل بن الموفق ، ونفيهم ومنعهم عن المحافل ، وكان أبو سهل غائباً إلى بعض النواحي ولما قرئ الكتاب بنفيهم ، أُغري بهم الغاغة والأوباش ، فأخذوا بالأُستاذ أبي القاسم القشيري ، والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما ، وحبسا بالقهندر.

    وأمّا إمام الحرمين ، فإنّه كان أحس بالأمر واختفى ، وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز ، ومن ثمّ جاور و سُمّي إمام الحرمين ، وبقي القشيري والفراتي مسجونين أكثر من شهر ، فتهيأ أبو سهل بن الموفق من ناحية باخرز وجمع من أعوانهم رجالاً عارفين بالحرب ، وأتى باب البلد وطلب إخراج الفراتي

 

________________________________________

(302)

    والقشيري فما أُجيب ، بل هدد بالقبض عليه بمقتضى ما تقدّم من مرسوم السلطان ، فلم يلتفت وعزم على دخول البلد ليلاً وإخراجهما مجاهرة ، وكان متولّي البلد قد تهيأ للحرب ، وبعد مفاوضات واشتباكات عنيفة توفق أبو سهل إلى إخراجهما من السجن ، فلمّا تم له الانتصار ، تشاور هو وأصحابه فيما بينهم وعلموا أنّ مخالفة السلطان لها تبعة ، وأنّ الخصوم لا ينامون ، فاتّفقوا على مهاجرة البلد إلى ناحية استواء. (1)ثمّ يذهبون إلى الملك. وبقي بعض الأصحاب بالنواحي مفرقين ، وذهب أبو نصر إلى المعسكر وكان على مدينة الري ، وخرج خصمه من الجانب الآخر فتوافيا بالري ، وانتهى إلى السلطان ما جرى ، وسعى بأصحاب الشافعي وبأبي سهل خصوصاً ، فقبض على أبي سهل وأُخذت أمواله وبيعت ضياعه ، ثمّ فرج عنه وخرج وحج.

    وقد غادر كثير من علماء أهل السنة نيسابور ونواحيها ، ومرو وما والاها ، فمنهم أُخرجوا ومنهم من جاء إلى العراق ، ومنهم من جاء الحجاز.

    فممّن حجّ : الحافظ أبو بكر البيهقي ، وأبو القاسم القشيري ، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني وخلائق. يقال : جمعت تلك السنّة أربعمائة قاض من قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية هجروا بلادهم بسبب هذه الواقعة ، وتشتت فكرهم يوم رجوع الحاج ، فمن عازم على المجاورة ، ومن محيّر في أمره لا يدري أين يذهب؟

 

4. كتاب البيهقي إلى يد الملك

    كتب البيهقي ـ و هو محدث زمانه و شيخ السنّة في وقتهـ كتاباً إلى عميد الملك يصفه ويطريه فيه ، ويذكر في تلك الرسالة فضائل الشيخ أبي الحسن ومناقبه ، واندفع في آخر الرسالة إلى السؤال عن عميد الملك في إطفاء النائرة وترك السب وتأديب من يفعله. يقول السبكي : وقد ساق الحافظ ( ابن عساكر ) الكتاب بمجموعه ، فإن أردت الوقوف عليه كلّه فعليك بكتاب

________________________________________

1 ـ كورة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة.

________________________________________

(303)

    التبيين. (1)

 

5. رسالة القشيري إلى البلاد

    وكتب الأُستاذ أبو القاسم القشيري رسالة مفتوحة إلى العلماء الأعلام بجميع بلاد الإسلام عام ست وأربعين وأربعمائة ، يشكو فيها عمّا حلّ بأبي الحسن الأشعري والأشاعرة من المحنة. ابتدأ رسالته بقوله :

    الحمد لله المجمل في بلائه ، المجزل في عطائه ، العدل في قضائه ، والمكرم لأوليائه ، المنتقم من أعدائهـ إلى أن قال ـ : هذه قصة سميناها « شكاية أهل السنّة بحكاية ما نالهم من المحنة » تخبر عن بثّة مكروب ونفثة مغلوب ... إلى أن قال :

    وممّا ظهر ببلاد نيسابور من قضايا التقدير في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة ما دعا أهل الدين إلى شق صدور صبرهم ، وكشف قناع ضيرهم ، بل ظلت الملة الحنيفية تشكو غليلها ، وتبدي عويلها ، وتنصب عزالي رحمة الله على من يستمع شكوها ، وتصغي ملائكة السماء حتى تندب شجوها. ذلك ممّا أحدث من لعن إمام الدين ، وسراج ذوي اليقين ، محيي السنّة ، وقامع البدعة ، وناصر الحقّ ، وناصح الخلق ، الزكي الرضي ، أبي الحسن الأشعري ، قدس الله روحه وسقى بالرحمة ضريحه ، وهو الذي ذب عن الدين بأوضح حجج ، وسلك في قمع المعتزلة ، وسائر أنواع المبتدعة أبين منهج. واستنفد عمره في النضح عن الحق ، فأورث المسلمين وفاته كتبه الشاهدة بالصدق. (2)

    ومن لطيف ما جاء في تلك الرسالة قوله : وما نقموا من الأشعري إلاّ أنّه قال بإثبات القدر لله ، خيره وشره ، ونفعه وضره ، وإثبات صفات الجلال لله ، من قدرته ، وعلمه ، وإرادته ، وحياته ، وبقائه ، وسمعه ، وبصره ،

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية : 3/389 ـ 399. ولكن الكتاب غير موجود فيما طبع من تبيين كذب المفتري ، وقد تفحصناه وما وجدناه فيه.

2 ـ طبقات الشافعية : 3/1 ـ 4 ، والرسالة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة.

________________________________________

(304)

    وكلامه ، ووجهه ، ويده ، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأنّه تعالى موجود تجوز رؤيته ، وأنّ إرادته نافذة في مراداته ، وما لا يخفى من مسائل الأُصول التي تخالف ( طريقه ) طريق المعتزلة والمجسمة فيها ، وإذا لم يكن في مسألة لأهل القبلة غير قول المعتزلة ، وقول الأشعري قول زائد ، فإذا بطل قول الأشعري ، فهل يتعين بالصحة أقوال المعتزلة؟ وإذا بطل القولان فهل هذا إلاّ تصريح بأنّ الحقّ مع غير أهل القبلة؟ وإذا لعن المعتزلة والأشعري في مسألة لا يخرج قول الأُمّة عن قوليهما ، فهل هذا إلاّ لعن جميع أهل القبلة؟

    معاشر المسلمين الغياث الغياث! سعوا في إبطال الدين ، ورأوا هدم قواعد المسلمين ، وهيهات هيهات!يُريدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (1) وقد وعد الله للحق نصره وظهوره وللباطل محقه وثبوره ، ألا إنّ كتب الأشعري في الآفاق مبثوثة ، ومذاهبه عند أهل السنّة من الفريقين معروفة مشهورة ، فمن وصفه بالبدعة علم أنّه غير محق في دعواه ، وجميع أهل السنّة خصمه فيما افتراه.

    وقال في مختتم الرسالة : ولما ظهر ابتداء هذه الفتنة بنيسابور ، وانتشر في الآفاق خبره ، وعظم على قلوب كافة المسلمين ، من أهل السنة والجماعة أثره ، ولم يبعد أن يخامر قلوب بعض أهل السلامة [والوداعة ]توهم في بعض هذه المسائل أنّ لعلّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( رحمه الله ) ، قال ببعض المقالات ، في بعض كتبه ، ولقد قيل من يسمع يخل ، أثبتنا هذه الفصول في شرح هذه الحالة ، وأوضحنا صورة الأمر ، بذكر هذه الجملة ، ليضرب كل[من ]أهل السنّة ، إذا وقف عليها ، بسهمه ، في الانتصار لدين الله عزّ وجلّ ، من دعاء يخلصه ، واهتمام يصدقه ، وكل عن قلوبنا بالاستماع إلى [شرح] هذه القصّة يحمله ، بل ثواب من الله سبحانه على التوجع بذلك يستوجبه ، والله غالب على أمره ، وله الحمد على ما يمضيه من أحكامه ، ويبرمه ويقضيه في أفعاله ، فيما يؤخره و يقدمه ، وصلواته على سيدنا محمد المصطفى و على آله و سلم تسليماً.

________________________________________

1 ـ التوبة : 32.

________________________________________

(305)

    تمت الشكاية. (1)

 

6. استمرار الفتنة إلى زمان وزرارة نظام الملك

    يظهر من السبكي أنّ فتيل الفتنة كان هو الوزير الكندري المعروف عميد الملك ، ويظهر فيما ذكر من استفتاءات أُخر بقاء الفتنة حتى بعد وفاة طغرل بك وقيام ولده ارسلان مقامه و قتل عميد الملك وتصدّى نظام الملك للوزارة. (2)

    إنّ وجود استفتاءات أُخر حول أبي الحسن الأشعري يدلّ على دوام المنافرة بين الأشاعرة وغيرهم من الحنابلة والمعتزلة ، وإليك استفتاءين آخرين ، يتعلّق ثانيهما بعصر أبي نصر القشيري ولد أبي القاسم القشيري ، وقد توفّي الوالد عام 465هـ كما توفّي الولد عام 514هـ .

 

استفتاء آخر ببغداد

    ما قول السادة الأئمة الأجلّة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم؟ ما الذي يجب عليهم؟!

    فأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي :

    قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز ، وعلى الناظر في الأُمور ـ أعز الله أنصارهـ الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله ، وكتب محمد بن علي الدامغاني.

    وبعده كتب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ( رحمه الله ) : الأشعرية أعيان أهل السنّة ، ونصّار الشريعة. انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم ، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنّة ، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين ، وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كلّ أحد. وكتب إبراهيم بن علي الفيروز آبادي.

    وقد كتب مثله محمد بن أحمد الشاشي تلميذ الشيخ أبي إسحاق.

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية : 3/399 ـ 423.2 ـ طبقات الشافعية : 3/393.

________________________________________

(306)

استفتاء ثالث في واقعة أبي نصر القشيري ببغداد

    وهذا الاستفتاء أوعز إليه السبكي في طبقات الشافعية ، في ترجمة الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وقال : « سنحكي إن شاء الله هذاالاستفتاء والأجوبة عند انتهائنا إلى ترجمة الأُستاذ أبي نصر ابن الأُستاذ أبي القاسم في الطبقة الخامسة » ، ولكنّه لم يف بوعده.

    وحكى في المقام خط الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب الاستفتاء أنّه كتب : وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنّة ، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه ، و مذهبه مذهب أهل الحقّ ، وكتب نظير تلك الجملة عدّة من أعلام العصر من حنابلة وأحناف لا حاجة لذكر أسمائهم ، ويظهر من السبكي أنّ هذا الاستفتاء بقي زماناً بين يدي العلماء كلّما جاءت أُمّة منهم كتبت بالموافقة. (1)

 

7. شكوى تاريخية للأشاعرة ضدّ الحنابلة

    لقد بلغت المنافرة بين الأشاعرة والحنابلة إلى القمة في عصر الشيخ أبي نصر عبد الرحيم ابن الشيخ أبي القاسم القشيري ، وبلغ السيل الزبي فقام أعاظم الأشاعرة لمساندة شيخهم أبي نصر برفع الشكوى إلى الوزير نظام الملك ، وتمت الشكوائية بتوقيع كثير من علمائهم ، وكان ذلك سنة 469هـ . وقد نقلنا تلك الشكوائية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة فراجع. (2)

 

الأشاعرة وعقيدة أبي جعفر الطحاوي

    إنّ الرسالة المعروفة بعقيدة الطحاوي يتبنّاها أهل السنّة حتى الحنابلة في هذه الأيام ، وهي من الكتب الدراسية في جامعة المدينة المنورة يومنا هذا ، والمؤلف ينسب كلّ ما جاء فيه إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ، وقد ادّعى تاج الدين السبكي أنّ الأشاعرة لا يخالفون عمّا ذكر في

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية : 3/375 ـ 376.

2 ـ لاحظ بحوث في الملل والنحل : 1.

________________________________________

(307)

    هذه الرسالة إلاّ في ثلاث عشرة مسألة ، والاختلاف في بعضها معنوي ، وبعضها الآخر لفظي ، ثمّ قال : ولي قصيدة نونية جمعتُ فيها هذه المسائل ، وضممت إليها مسائل اختلفت الأشاعرة فيها مع ما جاء في كتاب العقيدة للطحاوي ، وإليك مستهلها :

الورد خطك ، صيغ من إنسانوالسيف لحظك سُلَّ من أجفانه            أم في الخدود شقائق النعمان؟!فسطا كمثل مهند وسنان!

 

    إلى أن قال :

كذب ابن فاعلة يقول لجهلهلو كان جسماً كان كالأجسام ياواتْبَع صراط المصطفى في كل ما             الله جسم ليس كالجسمانمجنونُ فاصْغ وعد عن البهتانيأتي وخلّ وساوس الشيطان (1)

 

    والقصيدة طويلة والغرض إيراد نماذج منها.

    وأمّا الفرق بين الأشاعرة والماتريدية فهو يتوقف على تبيين عقيدة الشيخ الماتريدي مؤسس المنهج ، وسيوافيك [الحديث عن] حياته ومنهجه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة بإذن الله سبحانه. إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (2)

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية : 3/379.

2 ـ الحجرات : 10.

________________________________________

(308)

________________________________________

(309)

حياة

أبطال الأشاعرة وعباقرتهم

    إنّ ما أتى به الشيخ الأشعري من المنهج الكلامي وأفرغه في قالب التأليف والتصنيف ، أو طرحه على بساط البحث عن طريق التدريس والتعليم ، لم يكن منهجاً فكرياً متكاملاً في جميع موضوعاته ، فإنّ بعض أفكاره لم يكن مقترناً بالبراهين والأدلّة الناضجة ، كما أنّه لم يكن مستوعباً لجميع الأبواب ، ولكن ساعده الحظ بأن اقتفى أثره على مدى الأعصار عدة من المفكرين الذين نسبوا أنفسهم إليه ، فأضفوا على هذا المنهج ثوباًجديداً حتى جعلوه متكاملاً ، ناضجاً قابلاً للبقاء ، وبعيداً عن النقاش ، وأساس عملهم يرجع إلى شيئين :

    الأوّل : تحليل الفكرة الأشعرية ببراهين جديدة أوحتها إليهم أنفسهم.

    الثاني : الذب عن الإشكالات التي أوردها خصماء الأشعري على منهجه.

    ولأجل إكمال البحث عن ذلك المنهج نأتي بترجمة بعض أئمّة الأشاعرة في العصور المختلفة ، الذين كان لهم ذلك الدور في إكمال المنهج وتجديده ، وهم المشايخ ، التالية أسماؤهم :

    1. أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى 403هـ . ق ).

    2. أبو منصور عبد القاهر البغدادي ( المتوفى 429 هـ . ق ).

    3. إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ( 419 ـ 478 هـ . ق ).

 

________________________________________

(310)

    4.حجة الإسلام الإمام الغزالي ( 450 ـ 505هـ . ق ).

    5. أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني ( 479 ـ 548هـ .ق ).

    6. أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي فخر الدين الرازي ( 544 ـ 606هـ . ق ).

    7. أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم المعروف بسيف الدين الآمدي ( 551 ـ 631هـ . ق ).

    8. عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين الإيجي مؤلف « المواقف » ( 708 ـ 756هـ . ق ).

    9. مسعود بن عمر بن عبد الله المعروف بسعد الدين التفتازاني ( 712 ـ 791هـ . ق ).

    10. السيد علي بن محمد بن علي الحسيني المعروف بالسيد الشريف شارح « المواقف » ( المتوفى عام 816هـ .ق ).

    11. علاء الدين علي بن محمد السمرقندي المعروف بالقوشجي شارح « التجريد » ( المتوفى بالآستانة عام 879هـ .ق ).

    هؤلاء أبرز أئمّة الأشاعرة الذين بهم نضج وتكامل المذهب ، وتمخّضت الفكرة الأشعرية ، ولولا هؤلاء لأفل نجمها بعد طلوعها بسرعة ، وهلّم معي أيّها القارئ لدراسة أحوالهم ، وعرض بعض أفكارهم ، والتعرف على تراثهم من الرسائل والكتب.

    نعم عقد ابن عساكر في كتابه : « تبيين كذب المفتري » باباً أسماه« باب ذكر جماعة من أعيان مشاهير أصحابه إذاكان فضل المقتدي يدل على فضل المقتدي به »و قد قسّم المقتفين أثره على خمس طبقات يقرب عدد من جاء فيها من ثمانين شخصاً. غير أنّ من يعبأ به في تكييف المنهج أقل منهم بكثير.

(311)

(1)

القاضي أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى 403 هـ )

    هو أبو بكر محمد الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني ، وليد البصرة وساكن بغداد ، يعرّفه الخطيب البغدادي بقوله : محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني المتكلّم على مذهب الأشعري ، من أهل البصرة ، سكن بغداد ، وسمع بها الحديث وكان ثقة. فأمّا الكلام فكان أعرف الناس به ، وأحسنهم خاطراً ، وأجودهم لساناً ، وأوضحهم بياناً ، وأصحّهم عبارة ، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم. (1)

    وقال ابن خلكان : كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، ومؤيداً اعتقاده وناصراً طريقته ، وسكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره ، وكان في علمه أوحد زمانه ، وانتهت إليه الرئاسة في مذهبه ، وكان موصوفاً بجودة الاستنباط وسرعة الجواب. وسمع الحديث وكان كثير التطويل في المناظرة ، مشهوراً بذلك عند الجماعة ، وتوفّي آخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد ( رحمه الله ) تعالى ، و صلّى عليه ابنه الحسن ، ودفن في داره بدرب المجوس ، ثمّ نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.

    والباقلاني نسبه إلى الباقلاء وبيعه!! (2)

    ويظهر من فهرس تآليفه أنّه كان غزير الإنتاج وكثير التأليف ، فقد ذكر له 52 كتاباً ، غير أنّه لم يصل إلينا من هذه إلاّ ما طبع ، وهي ثلاثة :

    1. « إعجاز القرآن » طبع في القاهرة كراراً ، وقد حقّقه أخيراً السيد أحمد صقر ، طبع بمطابع دار المعارف بمصر عام 1972 م.

________________________________________

1 ـ تاريخ بغداد : 5/379 ـ 383.

2 ـ وفيات الأعيان : 4/269 برقم 608.

________________________________________

(312)

    2.« التمهيد في الرد على الملاحدة » وهو كتاب كلامي يعرف منه آراؤه الكلامية في مختلف الأبواب.

    3. « الإنصاف في أسباب الخلاف » وقد نشره محمد زاهد الكوثري في القاهرة عن مخطوطة دار الكتب المصرية عام 1369 هـ .

عثرة لا تقال

    ذكر الخطيب في ترجمة الباقلاني كلاماً وقال : « وحدث أنّ ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها ( يريد الشيخ المفيد ) حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له ، إذ أقبل القاضي ، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه و قال لهم : قد جاءكم الشيطان ، فسمع القاضي كلامه ـ و كان بعيداً من القوم ـ فلمّا جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال لهم : قال الله تعالى : ( إِنّا أَرْسَلْنا الشَّياطينَ عَلى الكافِرينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ) (1) أي إن كنتُ شيطاناً فأنتم كفّار ، وقد أرسلت عليكم. (2)

    أقول : وأظن ـ و ظن الألمعي صواب ـ أنّه لو وقف الخطيب على مكانة ابن المعلم وشيخ الأُمّة الشيخ المفيد ، لتوقف في نقل هذه الأُسطورة ، وهذا اليافعي يعرّفه في تاريخه ويقول : « كان عالم الشيعة وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد ، وبابن المعلم ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة بالدولة البويهية ».

    وقال ابن أبي طي : « كان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ». (3)

    وقال ابن كثير في حوادث سنة 413 : « شيخ الإمامية الروافض ، والمصنف لهم ، والمحامي عن حوزتهم. كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذاك الزمان إلى التشيع ، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من

________________________________________

1 ـ مريم : 83.

2 ـ تاريخ بغداد : 5/379 ، ونقله ابن عساكر في تبيينه : 217.

3 ـ مرآة الجنان : 3/28.

________________________________________

(313)

    العلماء من سائر الطوائف ، وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي و المرتضى ». (1)

    وعلى ذلك فالرجل الذي يصف اليافعي في تاريخه بأنّه يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة ، أو يصفه ابن كثير بأنّه يحضر مجلسه كثير من العلماء من سائر الطوائف ، أجلّ من أن يتوسل في إفحام خصمه وإخضاعه للحق ، بالإهانة والتكلّم بما هو خارج عن أدب المناظرة.

    نعم ، نقل بعض المترجمين للشيخ المفيد أنّه جرت مناظرة بينه و بين أبي بكر الباقلاني ، فلمّا ظهر تفوّق المفيد على مناظره ، قال له أبو بكر : أيّها الشيخ إنّ لك من كلّ قدر معرفة ، فأجابه الشيخ ممازحاً : نعم ما تمثلت به أيّها القاضي من أدوات ( مهنة ) أبيك. (2)

    إنّ الخطيب لم يخف حقده على شيخ الأُمّة في غير هذا المقام أيضاً ، فقد قال في ترجمته : « و كان أحد أئمّة الضلال ، هلك به خلق من الناس ، إلى أن أراح الله المسلمين منه. ومات في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ». (3)

    أهكذا أدب العلم وأدب الدين؟!!

    إنّ هذه شنشنة أعرفها من كلّ من يضمر الحقد على أمثال الشيخ. لاحظ الكامل لابن الأثير الجزء السابع ص 313 ترَ أنّ ما ذكره الخطيب أخف وطأً ممّا ذكره المعلق على « الكامل » من السباب المقذع الخارج عن أدب الدين والتقى.

    فكلّ من أراد أن يقف على أدب الشيخ المفيد في المناظرة واحتجاجه على الخصم ، فليلاحظ مناظراته في الكلام والتفسير التي جمعها تلميذه الشريف المرتضى في كتاب « الفصول المختارة » اختارها من كتابين لشيخه المفيد ،

________________________________________

1 ـ البداية والنهاية : 12/15.

2 ـ روضات الجنات : 6/159مستمداً من تلقبه بالباقلاني ، المنسوب إلى بائع الباقلاء.

3 ـ تاريخ بغداد : 3/231 برقم 1299.

________________________________________

(314)

    أحدهما : « المجالس المحفوظة في فنون الكلام » والثاني « العيون والمحاسن ». ولأجل إعطاء نموذج من مناظرات الشيخ المفيد وقوة عارضته ، نأتي بإحداها التي وقعت مع علي بن عيسى الرماني ( المتوفّى عام 385هـ ). فقد دخل الشيخ عليه والمجلس غاص بأهله ، فقعد حيث انتهى به المجلس ، فلمّا خف الناس قرب من الرماني ، فدخل عليه داخل و قال : إنّ بالباب إنساناً يؤثر الحضور ، وهو من أهل البصرة ، فأذن له فدخل فأكرمه ، و طال الحديث بينهما. فقال الرجل لعلي بن عيسى : ما تقول في يوم الغدير والغار؟ فقال : أمّا خبر الغار فدراية ، وأمّا خبر الغدير فرواية ، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية ، وانصرف البصري ولم يحر جواباً. فقال الشيخ للرماني : أيّها الشيخ مسألة؟ فقال : هات مسألتك؟ فقال : ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل؟ فقال : كافر ، ثمّ استدرك فقال : فاسق ، وعندئذ قال المفيد : ما تقول في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ؟ قال : إمام.

    فقال : ما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير؟ فقال : تابا. فقال المفيد : أمّا خبر الجمل فدراية ، وأمّا خبر التوبة ، فرواية. فقال الرماني : هل كنت حاضراً وقد سألني البصري؟ فقال : نعم ، رواية برواية ودراية بدراية. (1)

    فمن كان هذه مقدرته العلمية وقوة إفحامه للخصم ، فلا يتوسل بما يتوسل به العاجز عن المناظرة ، فما ذكره الخطيب أشبه بالمهزلة منه بالجد. كما أنّ ما نقله ابن عساكر من المنامات بعد موت القاضي أبي بكر أُمور لا يلتجىء إليها إلاّ من يفتقد الحقيقة في عالم الحس فيتطّلبها بالمنامات.

 

(2)

أبو منصور عبد القاهر البغدادي ( المتوفّى 429هـ )

    أبومنصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي ، أحد العلماء البارزين في معرفة الملل والنحل ، وكتابه « الفرق بين الفرق » من الكتب المعروفة في هذا المجال ، ويعد سنداً وثيقاً لمعرفة المذاهب الإسلامية بعد كتاب

________________________________________

1 ـ مجموعة ورام : 611.

________________________________________

(315)

    « مقالات الإسلاميين » للشيخ أبي الحسن الأشعري وكأنّه حذا حذوه في النقل والتقرير ، ويمتاز بحسن الضبط واستيعاب البحث ، وإتقان التبويب ، ودقة العرض.

    يعرّفه ابن خلكان بقوله : كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب ، فإنّه كان متقناً له ، وكان له فيه تآليف نافعة منها كتاب « التكملة ». وكان عارفاً بالفرائض والنحو ، وله أشعار. ونقل عن الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في « سياق تاريخ نيسابور » أنّه ورد مع أبيه نيسابور و كان ذا مال وثروة ، تفقّه على أهل العلم والحديث ، ولم يكتسب بعلمه مالاً ، وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ، ودرس في سبعة عشر فناً ، وكان قد تفقّه على أبي إسحاق الإسفرائيني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين ، واختلف إليه الأئمّة فقرأوا عليه ... وتوفّي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة « اسفرائن » و دفن إلى جانب شيخه أبي إسحاق. (1)

    وترجمه الزركلي في الأعلام و قال : عالم متقن من أئمّة الأُصول ، ولد ونشأ في بغداد ، ورحل إلى خراسان فاستقر بنيسابور ، وفارقها على أثر فتنة التركمان ، ومات في اسفرائين. ثمّ ذكر تصانيفه المطبوعة والمخطوطة. (2)

    وترجمه« عبد الرحمن بدوي » فذكر له تسعة عشر كتاباً ، غير أنّ الواصل إلينا ما هو المطبوع وهو اثنان :

    1. « الفرق بين الفرق » نشر لأوّل مرّة في دار المعارف عام 1910م ، مليئاً بالأخطاء ، ثمّ نشر بتحقيق وإشراف الشيخ محمد زاهد الكوثري ، وأخيراً بتحقيق محمد محيي الدين.

    2. « أُصول الدين » و قد طبع لأوّل مرّة في استانبول عام 1346و طبع بالأُفست أخيراً في بيروت عام 1401هـ . والكتاب يشتمل على خمسة عشر أصلاً من أُصول الدين ، وشرح كلّ أصل بخمس عشرة مسألة ، وعليه يكون

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان : 3/203برقم : 392; تبيين كذب المفتري : 254.

2 ـ الأعلام للزركلي : 4/173.

________________________________________

(316)

    الكتاب مشتملاً على مائتين وخمس وعشرين مسألة.

    وإليك فهرس الأُصول الخمسة عشر التي جعلها أساساً للدين.

ذكر الأُصول الخمسة عشر

    الأصل الأوّل : في بيان الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم.

    الأصل الثاني : في حدوث العالم على أقسامه من أعراضه وأجسامه.

    الأصل الثالث : في معرفة صانع العالم ونعوته في ذاته.

    الأصل الرابع : في معرفة صفاته القائمة بذاته.

    الأصل الخامس : في معرفة أسمائه وأوصافه.

    الأصل السادس : في معرفة عدله وحكمه.

    الأصل السابع : في معرفة رسله وأنبيائه.

    الأصل الثامن : في معرفة معجزات أنبيائه وكرامات أوليائه.

    الأصل التاسع : في معرفة أركان شريعة الإسلام.

    الأصل العاشر : في معرفة أحكام التكليف في الأمر والنهي والخبر.

    الأصل الحادي عشر : في معرفة أحكام العباد في المعاد.

    الأصل الثاني عشر : في بيان أُصول الإيمان.

    الأصل الثالث عشر : في بيان أحكام الإمامة وشروط الزعامة.

    الأصل الرابع عشر : في معرفة أحكام العلماء والأئمّة.

    الأصل الخامس عشر : في بيان أحكام الكفر وأهل الأهواء الفجرة.

    وقد ذكر ما هو الوجه لأخذ الرقم (15) ، أساساً للتقسيم فقال :

    وقد جاءت في الشريعة أحكام مرتبة على خمسة عشر من العدد ، وأجمعت الأُمّة على بعضها واختلفوا في بعضها ، فمنها على اختلاف سن البلوغ

 

________________________________________

(317)

    لأنّها عند الشافعي في الذكور والإناث خمس عشرة سنة بسني العرب دون سني الروم والعجم. ومنها مدة أكثر الحيض عند الشافعي وفقهاء المدينة خمسة عشر يوماً بلياليها. ومنها أقل الطهر الفاصل بين الحيضتين ، فإنّه عند أكثر الأئمّة خمسة عشر يوماً ، وهذا كلّه على أصل الشافعي وموافقيه. فأمّا على أصل أبي حنيفة وأتباعه فإنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة. ومقدار مدة الإقامة التي توجب عنده إتمام الصلاة خمسة عشر يوماً ، وعند الشافعي أربعة أيام. (1)

    إلى غير ذلك من الأحكام الفقهية التي أكثرها محل خلاف بين فقهاء السنّة ، فضلاً عن الشيعة ، كأقل الطهر الفاصل بين الحيضتين ، فإنّه عند أكثر الأئمّة ، خمسة عشر يوماً; أو أنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة إلى غير ذلك ... ، و على فرض صحة الأحكام الفرعية التي ذكرها لا صلة بين صحتها وكون أُصول الدين الأساسية خمسة عشر أصلاً ، وكلّ أصل مشتملاً على خمس عشرة مسألة ، فإنّ ذلك كلّه أُمور ذوقية استحسنها طبعه ، وإلاّففي وسع القارئ أن يجعل الأُصول أكثر أو أقل ، والمسائل كذلك.

    ثمّ إنّ هذه الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة ـ حسب زعمهـ جاءت في كتابه « الفرق بين الفرق » مع اختلاف يسير في التعبير والكلمات. (2)

الفرق بين الكتابين في العرض

    إنّ السابر في كتاب « الفرق بين الفرق » يجد أنّ في قلمه حدة خاصة في عرض المذاهب ، فلا يعرض المذاهب الإسلامية ـ عدا مذهب أهل السنّة ـ بصورة موضوعية هادئة ، بل يعرضها بعنف وهجوم ، وهذا بخلاف سيرته في كتاب « أُصول الدين ».

    ويكفي في هذا ما يقوله : ولم يكن بحمد الله ومنّه في الخوارج ولا في الروافض ، ولا في الجهمية ، ولا في القدرية ، ولا في المجسمة ولا في سائر أهل الأهواء الضالّة إمام في الفقه ، ولا إمام في رواية الحديث ، ولا إمام في

________________________________________

1 ـ أُصول الدين : 1 ـ 2.

2 ـ لاحظ الفصل الثالث من فصول الباب الخامس : ص 323 ـ 324.

________________________________________

(318)

    اللغة والنحو ، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ ، ولا إمام في الوعظ والتذكير ، ولا إمام في التأويل والتفسير ، وإنّما كان أئمّة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة ، وأهل الأهواء الضالة إذا ردّوا الروايات الواردة عن الصحابة في أحكامهم وسيرهم ، لم يصحّ اقتداؤهم بهم متى لم يشاهدوهم ولم يقبلوا رواية أهل الرواية عنهم. (1)

    أقول : ما ذكره في حقّ الروافض ـ إن أراد منه الشيعة ما عدا الغلاة ـ فقد ظلم العلم وجفا أهله ، ولو قاله عن جد فقد قاله عن قصور باعه ، ( وإن كان مؤلفاً في الملل والنحل ) في التعرف على جهودهم المتواصلة وآثارهم القيمة في العلوم الإسلامية ، فقد شاركوا الطوائف الإسلامية في تدوين المعقول والمنقول ، وجمع شذرات الحديث ، وتأليف شوارد السير ، ونظم جواهر الأدب ، ونضد قواعد الفقه ، وترصيف مباحث الكلام ، وتنسيق طبقات الرجال ، وضم حلقات التفسير ، وترتيب دروس الأخلاق ، كما فيهم الفلاسفة والعلماء والساسة والحكام والكتاب والمؤلّفون ، تشهد بذلك آثارهم وحياتهم.

    وعلى أيّ تقدير ، فمن لطيف شعره ما نقله ابن عساكر عنه :

يا من عدا ، ثمّ اعتدى ثم اقترفأبشر بقول الله في آياته             ثمّ انتهى ثمّ ارعوى ثم اعترف« إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » (2)

 

(3)

إمام الحرمين عبد الملك بن عبدالله

الجويني ( 419 ـ 478هـ )

    هو عبدالملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب الجويني.

    أثنى عليه كلّ من ذكره ، يقول ابن خلّكان : أعلم المتأخّرين من

________________________________________

1 ـ الفرق بين الفرق : 232.

2 ـ تبين كذب المفتري : 254.

________________________________________

(319)

    أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق ، المجمع على إمامته ، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأُصول والفروع والأدب ، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره ، وكان يذكر دروساً يقع كلّ واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها ، وقد أقام بمكة أربع سنين ، وبالمدينة يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب ، ولقب بإمام الحرمين. (1)

    وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 456الحوافز التي ألجأت أبا المعالي إلى مغادرة موطنه والخروج إلى الحجاز ، وما هي إلاّ محنة الأشاعرة في عصر الوزير العميد الكندري وزير طغرل بك السلجوقي قال : كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي بلغ من تعصبه أنّه خاطب السلطان ، في لعن الرافضة على منابر خراسان ، فأذن ذلك ، فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية ، فأنف من ذلك أئمّة خراسان ، منهم الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما ، ففارقوا خراسان ، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته ، يدرّس ويفتي ، فلهذا لقب إمام الحرمين ، فلما جاءت الدولة النظامية ( نظام الملك ) أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم. (2)

    أساتذته

    تخرّج على والده الشيخ عبد الله بن يوسف وكان عالماً فقيهاً شافعياً غزير الإنتاج توفي سنة 438 وله من الآثار « الفروق » و « السلسلة » و« التبصرة » و « التذكرة » و غيرها ، توفي والابن في سن التاسعة عشرة ، فأتم دراسته بالاختلاف إلى مدرسة البيهقي ، فتخرج على الشيخ أبي القاسم الإسفرائيني وغيره من الأساتذة الذين أخذ عنهم علمه. (3)

آثاره

    ترك من الآثار العلمية ما يربو على عشرين كتاباً بين مطبوع منتشر ،

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان : 3/167 ـ 168برقم 378.

2 ـ الكامل في التاريخ : 10/31 ـ 33. وقد مرّ بيان الحادثة في الأمر الأوّل من الخاتمة.

3 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 1/281 ـ 282.

________________________________________

(320)

    ومخطوط موجود في خزائن الكتب في مصر وباريس وبرلين ، وإليك أسماء المطبوعة منها :

    1. « الإرشاد في أُصول الدين » و قد طبع في باريس وبرلين والقاهرة.

    2. « الرسالة النظامية في الأحكام الإسلامية » وقد طبعت في القاهرة باسم « العقيدة النظامية » سنة 1367 وقد ترجمت إلى الألمانية عام 1958م.

    3. « الشامل في أُصول الدين » و قد طبع الكتاب الأوّل ( العلل ) من الجزء الأوّل منه في القاهرة 1961م.

    4. « غياث الأُمم في الإمامة » ويعدّه الباحثون أحسن منهجاً من كتاب « الأحكام السلطانية » للماوردي ، نشرته دار الدعوة بالاسكندرية.

    5. « مغيث الخلق في اختيار الأحق » و للشيخ محمد زاهد الكوثري رسالة أسماها « إحقاق الحقّ بإبطال الباطل » في « مغيث الخلق » نشرت في القاهرة 1941م.

    6. « الورقات في أُصول الفقه والأدلّة ». (1)

    ويظهر ممّا نشر في كتبه الكلامية أنّه يستمد في آرائه عن المشايخ الثلاثة :

    1. أبو الحسن الأشعري المتوفّى عام 324 ويعبر عنه ب ـ « شيخنا ».

    2. أبو بكر الباقلاني المتوفّى سنة 403ويعبّر عنه ب ـ « القاضي ».

    3. أبو إسحاق الاسفرائيني المتوفّى عام 413 ويعبر عنه ب ـ الأُستاذ ».

آراؤه ونظرياته

    يبدو أنّ أبا المعالي كان حراً في إبداء النظر ورفض الأفكار وقبولها ، وإليك بعض آرائه :

    1. أنكر مسألة خلق الأفعال ، وأنّ الإنسان مسلوب الاختيار ، وقد

________________________________________

1 ـ الأعلام للزركلي : 4/160; سير أعلام النبلاء : 18/475 ـ 476.

(321)

    عرفت أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة يعدّ إحدى دعائم العقيدة الأشعرية ، وقد قال أبو المعالي بدور الإنسان في أعماله. ولو كان هذا مذهبه كما نسبه إليه الشهرستاني فما معنى المناظرة التي دارت بينه و بين « أبي القاسم بن برهان » في مسألة أفعال العباد؟

    قال القاسم : هل للعباد أعمال؟ فقال أبو المعالي : إن وجدت آية تقتضي ذا فالحجة لك ، فتلا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (1) ومدّ بها صوته وكرر « هم لها عاملون »و قوله : لَو اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (2) أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال : والله إنّك بارد وتتأوّل صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري وأكلّه ابن برهان بالحجة فبهت. (3)

    ولعل هذه المناظرة ونظائرها دعته إلى العدول عن نظرية الأشعري في أفعال العباد ، والانسلاك في خط القائلين بالاختيار للإنسان.

    ولأجل عدم قوله بالقدر الجبري ورفضه هذه الأحاديث ربما اتّهموه بأنّه من فرط ذكائه وإمامته في الورع ، وأُصول المذهب ، وقوة مناظرته ، لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً. (4)

    2. ما نقل عنه في كتاب البرهان قال : « إنّ الله يعلم الكليات لا الجزئيات »وهذه نظرية المعتزلة في علمه سبحانه لا الأشاعرة ، وهي وإن كانت باطلة جداً لكن الإصحار بها في تلك الظروف المليئة بالحقد والتحامل على المعتزلة ، يكشف عن أنّ الرجل كان يملك حرية خاصة في طرح المسائل.

    3. قد سلك في الصفات الخبرية مسلك الحزم والاحتياط ، فأجرى الظواهر على مواردها وفوض معانيها إلى الرب.

________________________________________

1 ـ المؤمنون : 63.

2 ـ التوبة : 42.

3 ـ سير أعلام النبلاء : 18/469و « أكلّه » : أعياه.

4 ـ نفس المصدر : 18/471.

________________________________________

(322)

    قال في « الرسالة النظامية » : ( نشرها محمد زاهد الكوثري عام 1367هـ ) اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنّة ، وامتنع على أهل الحقّ فحواها ، فرأى بعضهم تأويلها ، والتزم ذلك في القرآن ، وما يصحّ من السنن ، وذهب أئمّة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراءالظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، والذي نرتضيه رأياً ، وندين الله به عقداً ، أنّ اتّباع سلف الأُمّة حجّة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة ، وقد درج صحب الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على ترك التعرض لمعانيها ، ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة ، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل ، كان ذلك قاطعاً بأنّه الوجه المتبع ، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزّه الباري عن صفات المحدثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى الرب ، فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله : لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (1) ووَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (2) و تَجْري بِأَعْيُنِنا (3) وما صحّ من أخبار الرسول ، كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه. (4)

قصص الخرافة

    إنّ من يصفه ابن عساكر (5) وغيره بأنّه إمام الأئمّة على الإطلاق حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً ، المقر بفضله السراة والحراة ، وعجماً وعرباً ، من لم تر العيون مثله قبله ولا يرى بعده الخ ، إلى غير ذلك من كلمات

________________________________________

1 ـ ص : 75.

2 ـ الرحمن : 27.

3 ـ القمر : 14.

4 ـ سير أعلام النبلاء : 18/473 ـ 474.

5 ـ التبيين : 278.

________________________________________

(323)

    التبجيل وعظائم التكريم لا يصدر عنه ما يذكره الذهبي في ترجمته :

    1. قرأت بخط أبي جعفر أيضاً : سمعت أبا المعالي يقول : قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ، ثمّ خليت أهل الإسلام الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة ، وركبت البحر الخضم ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام ، كلّ ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق « عليكم بدين العجائز » فإن لم يدركني الحق بلطيف بره ، فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص ، لاإله إلاّ الله ، فالويل لابن الجويني. (1)

    2. قال الحافظ محمد بن طاهر : سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب ـ و كان يختلف إلى درس الأُستاذ أبي المعالي في الكلام ـ فقال : سمعت أبا المعالي اليوم يقول : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت يبلغ بي ما بلغ ، ما اشتغلت به. (2)

    ولو صحّ ذلك ، لما كان ينفعه مجرّد الندم ، بل لكان عليهـ وراء إبراز الندامة ـ أن يأمر بإحراق مسفوراته ، إلاّما كان منها مطابقاً للسنّة ، وكان عليه البراءة ممّا كان يقول ، كما تبرأ شيخه الأشعري على صهوات المنابر ، ولعلّ هذه النقول كلّها من موضوعات بعض الحنابلة الذين يروق لهم ترويج مذهبهم بعزوالشخصيات البارزة إلى الانسلاك في سلكهم يوم هلاكهم وموتهم ، يوم لا ينفعهم الندم والانسلاك.

    وكما لا يصحّ ذلك ، لا يصحّ ما نقل أيضاً :

    1. قال محمد بن طاهر : حضر المحدث أبو جعفر الهمداني مجلس وعظ أبي المعالي ، فقال : كان الله ولا عرش ، وهو الآن على ما كان عليه ، فقال أبو جعفر : أخبرنا يا أُستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها ، ما قال عارف قط يا الله إلاّ وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف

________________________________________

1 ـ سير أعلام النبلاء : 18/471.

2 ـ نفس المصدر : 18/474.

________________________________________

(324)

    ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا ، أو قال : فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ فقال : يا حبيبي ما ثم إلاّالحَيْرة ، ولطم على رأسه ونزل ، وبقي وقت عجيب. وقال فيمابعد : حيرني الهمداني. (1)

    2. قال أبو جعفر الحافظ; سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله : الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ اسْتَوى (2) فقال : كان الله ولا عرش. وجعل يتخبّط ، فقلت : هل عندك للضرورات من حيلة؟فقال : ما معنى هذه الإشارة؟ قلت : ما قال عارف قط يا رباه إلاّ قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ وبكيت وبكى الخلق ، فضرب بكمه على السرير وصاح بالحيرة ، ومزق ما كان عليه ، وصارت قيامة في المسجد ، ونزل يقول يا حبيبي الحيرة والحيرة والدهشة الدهشة. (3)

    يعز على الأشاعرة أن يجهل إمام الحرمين ـ الذي يصفه ابن عساكر بأنّه « لم تر العيون مثله قبله ولا ترى بعده » (4) ـ بجواب هذا السؤال ، حتى يتخذه السائل سنداً لحلوله سبحانه في العرشوكينونته فيه.

    وقد سئل الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) عنه و قيل له : ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

    قال أبو عبد اللّهعليه السَّلام : « ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنّه عزّوجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ، لأنّه جعله معدن الرزق فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزّوجلّ ». (5)

________________________________________

1 ـ نفس المصدر : 18/474 ـ 475.

2 ـ طه : 5.

3 ـ سير أعلام النبلاء : 18/476 ـ 477.

4 ـ التبيين : 278.

5 ـ التوحيد للصدوق : 248.

________________________________________

(325)

    وفي الختام إنّ أبا المعالي أجاب دعوة ربّه في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة 478 ودفن في داره ، ثمّ نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب والده ، وغلقت الأسواق ، ورثي بقصائد ، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولاً ، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه ، وكان الطلبة يطوفون بالبلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. (1)

    وممّا قيل في وفاته :

   

قلوب العالمين على المقاليأيثمر غصن أهل الفضل يوماً                   وأيام الورى شبه اللياليوقد مات الإمام أبو المعالي (2)

 

(4)

حجة الإسلام الإمام الغزالي ( 450 ـ 505هـ )

    الإمام زين الدين حجّة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي ، تلمذ لإمام الحرمين ثمّ ولاّه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد ، وخرج له أصحاب وصنف التصانيف مع التصوف والذكاء المفرط ، وتوفي في الرابع عشر من جمادى الآخرة بالطابران ، قصبة بلاد طوس ، وله خمس وخمسون سنة.

    وقع للغزالي أُمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ، ومجاراة الخصوم ، ومناظرة الفحول ، فأقبل عليه نظام الملك وحل منه محلاً عظيماً ، وطار اسمه في الآفاق وندب للتدريس بنظامية بغداد سنة أربع وثمانين

________________________________________

1 ـ سير أعلام النبلاء : 18/476.

2 ـ تبيين كذب المفتري : 285.

________________________________________

(326)

    وأربعمائة فقدمها في تجمر [تجمهر] كبير وتلقّاه الناس ، ونفذت كلمته وعظمت حشمته ، حتى غلبت على حشمة الأُمراء والوزراء ، وضرب به المثل ، وشدت إليه الرحال.

    وأقبل على العبادة والسياحة ، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع ، وصنّف فيها كتباً ، ثمّ صار إلى القدس والاسكندرية ، ثمّ عاد إلى وطنه بطوس مقبلاً على التصنيف والعبادة وملازمة التلاوة ونشر العلم وعدم مخالطة الناس ، ثمّ إنّ الوزير فخر الدين نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور ، وألحّ كلّ الإلحاح فأجاب إلى ذلك وأقام عليه مدة ، ثمّ تركه وعاد إلى وطنه على ما كان عليه ، وابتنى إلى جواره خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين.

تصانيفه

    يذكر ابن قاضي شهبة تصانيفه ، وإليك بعضها :

    1.الوسيط ، وهو كالمختصر للنهاية ، والوسيط ملخص منه.

    2. الوجيز والخلاصة.

    3. كتاب الفتاوى مشتمل على مائة وتسعين مسألة.

    4. كتاب الإحياء وهو من أشهر تآليفه.

    5. المستصفى في أُصول الفقه.

    6. بداية الهداية في التصوف.

    7. إلجام العوام عن علم الكلام.

    8. الرد على الباطنية.

    9. مقاصد الفلاسفة.

    10. تهافت الفلاسفة.

    11. جواهر القرآن.

    12. شرح الأسماء الحسنى.

    13. مشكاة الأنوار.

    14. المنقذ من الضلال.

 

________________________________________

(327)

    15.

    الخلاصة.

    16. قواعد العقائد.

    إلى غير ذلك من التآليف. (1)

نماذج من آرائه

    والغزالي مع ما أُوتي من مواهب كبيرة في الفلسفة والكلام والتصوف وغير ذلك ، غير أنّه يقتفي أثر إمامه الأشعري ويلتقي معه في كثير من الآراء والمباني ، وإليك قسماً من آرائه في كتاب « قواعد العقائد » :

1. إنكار الحسن والقبح العقليين

    يقول في توصيف أفعاله سبحانه :

    عادل في أقضيته ، لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ، ولا يتصور الظلم من الله تعالى ، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً ، فكلّ ما سواه ، من إنس وجن ... اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً. (2)

    ويقول أيضاً : إنّ لله عزّوجلّ إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ... لأنّه متصرف في ملكه ، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو محال على الله تعالى ، فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً. (3)

    يلاحظ عليه :

    أوّلاً : أنّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، والتصرف في

________________________________________

1 ـ اقرأ ترجمته في المصادر التالية : طبقات السبكي : 4/101 ، تبيين كذب المفتري : 291 ـ 306 ، والمنتظم : 9/168 ، مهرجان الغزالي في دمشق عام 1961 ، مؤلّفات الغزالي لعبد الرحمن البدوي ط 1990م.

2 ـ قواعد العقائد : 60و 204.

3 ـ نفس المصدر : 60و 204.

________________________________________

(328)

    ملك الغير فرع منه ولا ينحصر الظلم فيه.

    وثانياً : أنّ حكم العقل بالقبح لا يترتب على لفظ الظلم حتى يفسر بأنّه تصرف في ملك الغير ، والعالم كلّه ملكه سبحانه ، بل العقل يستقل بقبح إيذاء الغير وتعذيبه من دون جرم ولا تعدّ من أي فاعل صدر ، سواءً أكان خالقاً أم غيره ، ولا يجوز التخصيص في الأحكام العقلية.

    ثمّ إنّ الغزالي يستدل على صدور القبيح منه بقوله :

    « فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال ، إذ لا غرض له ، فلا يتصوّر منه قبيح كما لا يتصوّر منه ظلم ».

    فإن أُريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم : إنّ ذلك عليه محال؟ وهل هذا إلاّ مجرّد تشهّ يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ تفسير القبيح بما لا يوافق الغرض ساقط جداً ، وهو من التفسيرات الخاطئة التي وردت في كتب المتكلّمين من الأشاعرة ، وقليل من المعتزلة ، بل المراد من القبيح ما يستقل العقل بداهة بقبحه إذا لاحظه من دون أن يلاحظ الغرض ، فقد قلنا إنّه كما يوجد في الحكمة النظرية قضايا بديهية ونظرية فهكذا يوجد في الحكمة العملية قضايا يستقل العقل بحسنها وقبحها بالبداهة ، وقضايا يتوقف فيها العقل في بدء الأمر حتى يرجع إلى القضايا الواضحة في الحكمة العملية ، فلا الحسن يدور على موافقة الغرض ولا القبح على مخالفته ، بل كلاهما يدوران على أحكام عقلية واضحة لدى العقل من دون تخصيصها بزمان دون زمان ، أو مكان دون مكان ، أو فاعل دون فاعل. 2. معرفة الله واجبة شرعاً لا عقلاً

    وقد اقتفى الغزالي في هذه المسألة أثر شيخه أبي الحسن الأشعري وقال :

________________________________________

1 ـ قواعد العقائد : 208 ، ويشير بقوله« من مخاصمة أهل النار » إلى المناظرة التي وقعت بين الأشعري وشيخه أبي علي الجبائي ، وقدأوعزنا إليها في صدر الكتاب.

________________________________________

(329)

    إنّ معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل ، لأنّ العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إمّا أن يوجبها لغير فائدة وهو محال ، فإنّ العقل لا يوجب العبث ، وإمّا أن يوجبها لفائدة وغرض ، وذلك لا يخلو إمّا أن يرجع إلى المعبود ، وذلك محال في حقّه تعالى ، فإنّه يتقدّس عن الأغراض والفوائد; وإمّا أن يرجع ذلك إلى غرض العبد ، وهو أيضاً محال ، لأنّه لا غرض له في الحال ، بل يتعب به وينصرف عن الشهوات بسببه.

    وليس في الم آل إلاّالثواب والعقاب ومن أين يعلم أنّ الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما؟ (1)

    يلاحظ عليه : أنّا نختار الشق الثاني ، وهو أنّ الغرض عائد إلى العبد ، وهو أنّه يعلم من صميم ذاته بأنّ له منعماً ، وأنّ النعمات التي أحاطت به معطاة من غيره ، وعندئذ يحتمل أن يكون لمنعمه أوامر وزواجر وتكاليف وإلزامات ربما يعاقب على تركها ، فعندئذ يحكم العقل عليه بأنّه يجب التعرف على المنعم دفعاً للضرر المحتمل.

    والغرض العائد للعبد في المقام ليس غرضاً دنيوياً حتى يقال : كيف يكون هناك غرض وهو يتعب بالمعرفة وينصرف عن الشهوات ، بل غرض عقلي وهو دفع العقاب المحتمل في الم آل.

    وما قال من أنّه من أين علم أنّ الله تعالى يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ولا يعاقب عليهما؟ فهو ناشئ عن إنكار الحسن والقبح العقليين ، أي إنكار أوضح القضايا العقلية وأبدهها; يقول سبحانه دعماً لما تقضي به الفطرة الإنسانية : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَما يَحْكُمُونَ . (2)

________________________________________

1 ـ قواعد العقائد : 209 ، ولعلّ قوله : « يثيب على المعصية والطاعة » تصحيف « يعاقب على المعصية ويثيب على الطاعة ».

2 ـ الجاثية : 21.

 

________________________________________

(330)

3.جواز التكليف بمالا يطاق

    وقد بنى على إنكار الحسن والقبح العقليين أنّه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق مالا يطيقونه ، خلافاً للمعتزلة ، ولو لم يجز ذلك ، لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا : رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ . (1)

    ولأنّه تعالى أخبر نبيّه بأنّ أبا جهل لا يصدقه ، ثمّ أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله ، وكان من جملة أقواله أنّه لا يصدقه ، فكيف في أنّه لا يصدقه. (2)

    يلاحظ عليه : أنّ في كلا الاستدلالين وهناً واضحاً :

    أمّا الأوّل : فهو عجيب جداً كيف يستدل بجزء من الآية ويترك صدرها ، يقول سبحانه : لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسينا أَو أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَولانا فَانْصُرْنا عَلى الْقَومِ الكافِرينَ. (3)

    فصدر الآية يبين شأنه سبحانه وأنّ حكمته مانعة عن أن يكلف نفساً شيئاً خارجاً عن وسعها ، وإنّما يكلفها ما في وسعها ، فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

    إنّ التكليف عبارة عن الإرادة الجدية المتعلّقة بطلب شيء من الغير ، ولا تتمشّى تلك الإرادة إلاّ مع العلم بكون الفعل في وسع الغير ، فلو وقف على كونه خارجاً عن وسعه ، لما تعلّقت به الإرادة الجدية ، فكيف يمكن تكليف الغير بشيء خارج عن وسعه ، مآل ذلك إلى التكليف المحال؟

________________________________________

1 ـ البقرة : 286.

2 ـ قواعد العقائد : 203 ـ 204.

3 ـ البقرة : 286.

(331)

    وأمّا قوله سبحانه : وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ فالمراد هو التكاليف الشاقة التي لا تُتحمل عادة ، وإن كانت تُتحمل عقلاً.

    ويمكن أن يقال : إنّ المراد من الموصول في ما لا طاقة لنا به هو العذاب النازل أو الرجس ، كالمسخ وغيره ، الذي عمّ الأُمم السابقة.

    وأمّا الثاني : فالظاهر أنّ في كلامه تصحيفاً ، وكان الأولى أن يقول أبا لهب مكان أبي جهل.

    نعم تصح العبارة لو ورد في الروايات بأنّ النبي أخبر أبا جهل بأنّه لا يؤمن. وعلى كلّ تقدير فالاستدلال في مورد أبي لهب أوضح بأن يقال إنّ الله كلّف أبا لهب الإيمان بالقرآن ، ومن جملة ما أنزل في القرآن أنّه لا يؤمن فقال : سيصلى ناراً ذات لهب فكأنّه كلّفه الإيمان بأنّه لا يؤمن.

    يلاحظ على الاستدلال بأنّ الآية إخبار عن عدم إيمانه ، وأنّه لا يؤمن إلى يوم هلاكه نظير قول نوح : رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّارا . (1)

    ولم يؤمر أبو لهب أن يؤمن بأنّه لا يؤمن بالله ورسوله وكتابه ، وأمّا ما نزل في حقّه فإنّما هو إخبار عن علم جازم بأنّه لا يؤمن فقط.

    وإن شئت قلت : سقط التكليف عنه بعصيانه القطعي المستمر في علم الله إلى يوم وفاته بعد نزول هذه السورة الكاشف عن ذلك العصيان ، وكلّ من اتحد معه في هذا الوصف فهو كذلك. 4. رأيه في كون فعل العباد مخلوقاً لله

    قد رأى الغزالي فعل العباد مخلوقاً لله سبحانه ومكسوباً لهم يقول ـ بعد التفريق بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية ـ : إنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً ، وبقدرة العبد على وجه آخر ، يعبر عنه بالاكتساب ، وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور يكون بالاختراع فقط إذ قدرة الله تعالى في الأزل

________________________________________

1 ـ نوح : 26 ـ 27.

________________________________________

(332)

    قد كانت متعلّقة بالعالم ، ولم يكن الاختراع حاصلاً بها ، وهي عند الاختراع متعلّقة به نوعاً آخر من التعلّق ، فبه يظهر أنّ تعلّق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها. (1)

    إنّ الغزالي : يريد أن يثبت تعلّق قدرة العبد على الفعل ببيان أنّه ليس معنى تعلق القدرة هو الاختراع ، بل للتعلّق أقسام بشهادة أنّ قدرته سبحانه تعلّقت بالعالم أزلاً ولم يكن الاختراع حاصلاً عنده فتعلّق القدرة أعم من الاختراع ، فعند ذلك فالاختراع أثر قدرته الأخيرة ، والكسب أثر قدرة العبد.

    وأنت خبير بأنّ ما ذكره لا محصل له ، وإنّما هو مجرّد لفظ خال عن معنى ، وذلك أنّه إن أُريد بالقدرة العلة التامة التي يتحقّق بعدها الفعل فتمنع تعلق قدرته سبحانه بكلّ أجزاء العالم أزلاً وأبداً في الأزل وإنّما تعلقت مشيئته على إيجاد كلّ جزء في ظرفه ومكانه ، والقدرة بهذا المعنى خارجة عن إطار البحث ، وإنّما الكلام في القدرة المستدعية للفعل ، فليس لها أثر إلاّ الإيجاد ، وعندئذ فالفعل في وجوده لو استند إليه سبحانه لا يبقى شيء لأن يستند إلى قدرة العبد حتى نقول : الله سبحانه خالق ، والعبد كاسب ، وقد عرفت أنّ الكسب من المفاهيم التي لم يظهر لأحد واقع المراد منها. 5. رأيه في استوائه سبحانه على العرش

    إنّ الظاهر من كلامه في استوائه سبحانه على العرش هو التفويض ، أي تفويض معناه إلى الله سبحانه ، لكنّه عندما يشرح معنى الاستواء ومفاد الآية يفترق عن شيخه أبي الحسن ويلتحق بالمعتزلة الذين يذهبون إلى التأويل في هذه المواضع ، وإليك عبارته :

    وأنّه مستو على الوجه الذي قال ، وبالمعنى الذي أراد ، استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق

________________________________________

1 ـ قواعد العقائد : 196.

________________________________________

(333)

    العرش والسماء ، فوق كلّ شيء إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعداً على الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنّه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى ، وهو مع ذلك قريب من كلّ موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كلّ شيء شهيد. (1)

    ويقول في موضع آخر :

    العلم بأنّه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء ، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء ، وهو الذي أُريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن : ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (2). وليس ذلك إلاّبطريقالقهر والاستيلاء ، كما قال الشاعر :

    قد استوى بِشْرٌ على العراق من غير سيف ودم مهـ راق

    واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطر أهل الباطل إلى تأويل قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنما كُنْتُم إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإجابة والعلم. (3) 6. رأيه في تكلّمه سبحانه

    قد ذهب الغزالي في تفسير تكلّمه سبحانه إلى ما اختاره شيخه فقال : إنّه تعالى متكلّم ، آمر ، ناه ، واعد ، متوعد ، بكلام أزلي ، قديم ، قائم بذاته ، لا يشبه كلام الخلق ، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام ، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان. (4)

    وقال في موضع آخر :

________________________________________

1 ـ قواعد العقائد : 52.

2 ـ فصلت : 11.

3 ـ قواعد العقائد : 165.

4 ـ قواعد العقائد : 165.

________________________________________

(334)

    إنّه سبحانه و تعالى متكلّم بكلام وهو وصف قائم بذاته ـ إلى أن قال ـ : والكلام بالحقيقة كلام النفس ، وإنّما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات ، وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم :

    إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)

    وقد أوضحنا حال الكلام النفسي ، وأنّ نفي التكلم عنه سبحانه لرجوعه إلى العلم. 7. رأيه في رؤية الله سبحانه

    إنّ الغزالي مع أنّه من المصرّين على التنزيه فوق ما يوجد في كلام الأشاعرة ، ولكنّه لم يستطع تأويل ما دلّ على أنّه سبحانه يُرى يوم القيامة فقال : العلم بأنّه تعالى مع كونه منزّهاً عن الصورة والمقدار ، مقدساً عن الجهات والأقطار ، مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة.

    ثمّ قال : وأمّا وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو غير مؤد إلى المحال ، فإنّ الرؤية نوع كشف وعلم ، إلاّ أنّه أتم وأوضح من العلم ، وإذا جاز تعلّق العلم به وليس في جهة ، جاز تعلّق الرؤية به وليس بجهة. (2)

    يلاحظ عليه : إنّه بأيّ دليل يقول : إذا جاز تعلّق العلم به سبحانه ، جاز تعلّق الرؤية به؟ فهل هذا قضية كلية؟ مع أنّ الإرادة والحسد والبخل وسائر الصفات النفسانية يتعلّق بها العلم ، فهل تتعلّق بها الرؤية؟ وهو يعترف بأنّه سبحانه ليس جسماً ولا جسمانياً ولا صورة ، والمغالطة في كلامه واضحة ، فإنّ العلم بالشيء نوع تصور له ، والتصور لا يستلزم الإشارة إلى الشيء ولا كونه في جهة أو كونه متحيزاً ، بخلاف الرؤية بالأبصار فإنّها لا تنفك عن

________________________________________

(1) قواعد العقائد : 58 و 182 ، والشعر للأخطل وقبله :

لا يعجبنك من أم ـ ير خطب ـ ة حتى يكون مع الكلام أصيلا (2) قواعد العقائد : 169 ـ 171.

________________________________________

(335)

    ذلك ، ومن أنكر فإنّما ينكر بلسانه ، وهو يؤمن بقلبه وجنانه.

    ثمّ إنّ له استدلالاً آخر في المقام يقول : وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم ، جاز أن يراه الخلق من غير مقابل و كما جاز أن يُعلم من غير كيفية وصورة ، جاز أن يرى كذلك.

    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصحّ الاستدلال لو كانت الرؤية من الجانبين على نسق واحد : فالعباد ينظرون إليه بعيونهم والله سبحانه ينظر إلى عباده ويراهم بعيونه ، وأمّا إذا قلنا بأنّ رؤيته سبحانه إحاطة وجوده بجميع الأشياء وقيامها به قياماً قيومياً فلا يصحّ القياس ، فرؤيته سبحانه لا تتوقف على المقابلة ، لأنّ الرؤية إنّما تتوقّف على المقابلة إذا لم يكن الرائي محيطاً بالمرئي فيحتاج إلى المقابلة ، دونما لم يكن محتاجاً لها.

    وأظن أنّ عقلية الغزالي الشامخة كانت تصده عن تجويز الرؤية وإنّما صدرت منه هذه الهفوة لاتّفاق الأشاعرة وأهل الحديث على الرؤية. 8. نظره في رعاية الأصلح لعباده

    يقول : إنّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنّه لا يجب عليه سبحانه شيء ، بل لا يعقل في حقّه الوجوب ، فإنّه لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

    وعلّق عليه محقّق الكتاب وقال : فلو أدخل جميعهم الجنة من غير طاعة سابقة ، كان له ذلك ، ولو أورد الكل منهم النار من غير زلة منهم كان له ذلك ، لأنّه تصرف مالك الأعيان في ملكه ، وليس عليه استحقاق ، إن أناب فبفضله يثيب ، وإن عذب فلحق ملكه يعذب. (1)

    يلاحظ عليه : أنّ القائل بالأصلح للعباد يريد بذلك إخراج فعله سبحانه عن العبث لأنّه حكيم ولا سبيل للعبث إليه ، قال سبحانه :

________________________________________

1 ـ قواعد العقائد : 205.

________________________________________

(336)

وَما خَلَقْنا السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ . (1)

    وقال سبحانه : وَما خَلَقْنَا السَّماءَوَالأَرْضََ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ. (2)

    إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله ، وتصرح باقترانها بالحكمة والغرض ، فمن قال بوجوب رعاية الأصلح فإنّما قال بإخراج فعله عن العبث.

    وأمّا كون العمل الأصلح واجباً عليه ، لا يراد منه تكليفه من جانب العبد بالقيام بالأصلح وإنّما المراد استكشاف العقل الحكمَ الضروري من صفاته الكمالية ، أعني كونه حكيماً ، وأنّ حكمته تقتضي ـ إيجاباً ـ أنّه لا يفعل العبث والعمل الخالي عن الهدف ، كما أنّك تحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي كذا وكذا حتماً وليس معناه حكمك على الخارج ، بل معناه استكشاف العقل حكماً ضرورياً من ملاحظة نفس المثلث وزواياه.

    وأمّا تعذيبه سبحانه البريء فلا شكّ أنّه يقدر على ذلك ، ولكن لا يفعل لأنّه قبيح ، والعقل يدرك قبح ذلك العمل من أي مقام صدر وفي أي موضع وقع ، وليس حكم العقل بإيجابه إلاّ الاستكشاف على ما مرّ.

    وأمّا القول بأنّ الحكم بلزوم اقتران فعله بالغرض ، يستلزم استكماله به ، فهو خلط بين كون الغرض للفاعل وكون الغرض للفعل ، فالغاية غاية للفعل لا للفاعل.

    وقد حققنا ذلك في الجزء الثالث عند البحث عن عقائد المعتزلة ، فتربص حتى حين. 9. مناوأة معاوية لعلي ( عليه السَّلام ـ كانت عن اجتهاد

    الغزالي يرى مناوئي علي ( عليه السَّلام ) في الجمل وصفين مجتهدين يقول :

________________________________________

1 ـ الدخان : 38.

2 ـ ص : 27.

________________________________________

(337)

    وما جرى بين معاوية و علي ( عليه السَّلام ) كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة ، إذ ظن علي رضي الله عنه أنّ تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها ، فرأى التأخير أصوب ، وظن معاوية أنّ تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمّة ، ويعرض الدماء للسفك ، وقد قال أفاضل العلماء : « كلّ مجتهد مصيب »و قال قائلون : « المصيب واحد » ولم يذهب إلى تخطئة علي ذو تحصيل أصلاً.

    يلاحظ عليه : أنّ للاجتهاد مقومات ، وللمجتهد مؤهلات مقررة في محله ، أوضحها هو الوقوف على الكتاب والسنة واستخراج الحكم الشرعي من مداركه ، وأمّا الاجتهاد تجاه النص فهو اجتهاد خاطئ ، بل تشريع في مقابل الحجة.

    وعلى ضوء ذلك فهل يمكن لنا توصيف عمل معاوية وزميله عمرو بن العاص ومن لفّ لفهما في الجمل والنهروان بالاجتهاد؟ فما معنى هذا الاجتهاد الذي سفكت الدماء من أجله ، وأُبيحت وغضبت الفروج ، وانتهكت المحارم؟ وما معنى الاجتهاد تجاه قول رسول الله مخاطباً لعمار : « تقتلك الفئة الباغية »؟ فبهذا الاجتهاد عُذِرَابن ملجم المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين على قتل خليفة الحق والإمام المبين في محراب عبادة الله ، حتى قبل إنّ ابن ملجم قيل علياً متأولاً مجتهداً على أنّه صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطان :

يا ضربة من تقىّ ما أراد بها               إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناً

    عجباً لهذا الاجتهاد يبيح سبّ علي أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، ويبيح سبّ كلّ صحابي احتذى مثاله ، ويجوّز لعنهم والوقيعة فيهم والنيل منهم في خطب الصلوات والجمعات والجماعات وعلى رؤوس المنابر ، ولا يلحق فاعل هذه الموبقات ذم ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ ، وإن كان المجتهد من بقايا الأحزاب.

    هذا عرض خاطف لنظريات « الإمام الغزالي » و قد عرفت موقفها من

 

________________________________________

(338)

    الحقّ ، ولنختم ترجمته بنقل أمرين من كتابه :

    1. إنّ صفاته سبحانه تشتمل على عشرة أُصول وهي :

    العلم بكونه حياً ، عالماً ، قادراً ، مريداً ، سميعاً ، بصيراً ، متكلماً ، منزهاً عن حلول الحوادث ، وأنّه قديم الكلام والعلم والإرادة. (1)

    وهذه العبارة تتضمن أحد عشر وصفاً له سبحانه ، ولأجل ذلك قال المعلق : قوله منزهاً عن حلول الحوادث غير معدود في هؤلاء ولم يعلم وجه استثناء خصوصه كما لا يعلم أنّه وصف العلم بالقدمة ، مع أنّ القدرة مثله فليس قدرته حادثة.

    2. ومن لطائف كلامه في رد المجسّمة ما قاله : فأمّا رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنّها قبلة الدعاء ، وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء ، وتنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء ، فإنّه تعالى فوق كلّ موجود بالقهر والاستيلاء. (2)

    وفي خاتمة المطاف : نأتي بكلام لأبي زهرة في حقّ الغزالي ثمّ نعقبه بما يليق به :

    إنّ الغزالي نظر في كلام أبي منصور الماتريدي ، وأبي الحسن الأشعري نظرة حرة بصيرة فاحصة ، لا نظرة تابع مقلد ، فوافقهما في أكثر ما وصل إليه وخالفهما في بعض ما ارتآه ديناًواجب الاتّباع. (3)

    ماذا يريد أبو زهرة من قوله« نظر في كلام الشيخين نظرة حرة »؟

    فلو كان محور حكمه هو كتاب « قواعد العقائد » الذي نقلنا منه مجموعة من آرائه فهو لم يخالفهما إلاّ في أقل القليل ، كيف وقد أنكر الحسن والقبح العقليين ، كما أثبت الرؤية في الآخرة ، وقال بقدم كلامه ، وبذلك ترك عاراً

________________________________________

1 ـ قواعد العقائد : 145.

2 ـ قواعد العقائد : 165.

3 ـ ابن تيمية عصره وحياته : 193.

________________________________________

(339)

(5)

أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني

( 479أو 467 ـ 548هـ )

    الشهرستاني ، أحد المهتمين بدراسة المذاهب والشرائع ، ويعدّ شخصية ثالثة بين الأشاعرة في معرفة الملل والنحل ، بعد الشيخين : أبي الحسن الأشعري ، وعبد القاهر البغدادي ، وكتابه المعروف بالملل والنحل يعد من المصادر لهذا العلم ، ويمتاز عن غيره من الكتب المتقدمة عليه ك ـ « مقالات الإسلاميين » للأشعري و« الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي بذكر كثير من الآراء الفلسفية المتعلّقة بما وراء الطبيعة ، التي كانت سائدة في عصر المؤلف ، ولأجل ذلك حاز الكتاب إعجاب الناس وتقديرهم ، ومع ذلك كلّه قد خلط بين الحقّ والباطل ، خصوصاً في نقل آراء بعض الطوائف الإسلامية.

    ويعرّفه ابن خلكان بقوله : كان مبرزاً فقيهاً متكلماً ، تفقّه على أحمد الخوافي وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما ، وبرع في الفقه وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه ، وصنف كتباً منها : « نهاية الإقدام في علم الكلام » وكتاب « الملل النحل » و« المناهج والبيّنات » وكتاب « المضارعة » و « تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام » و كان كثير المحفوظ (1) ، حسن المحاورة ، يعظالناس ، ودخل بغداد سنة 510 وأقام بها ثلاث سنين ، وظهر ، قبول كثير عند العوام ، وسمع الحديث من علي بن أحمد المديني ب ـ « نيسابور »وغيره ، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني ، وذكره في كتاب

________________________________________

1 ـ كذا في المصدر والأصحّ : « كثير الحفظ ».

________________________________________

(340)

    « الذيل » ، و كانت ولادته سنة 479 أو 467 ، وتوفّي في أواخر شعبان سنة 548هـ . (1)

    ويصفه الذهبي بقوله : شيخ أهل الكلام والحكمة ، وصاحب التصانيف ، ونقل عن السمعاني أنّه كان يميل إلى أهل القلاع ( القرامطة ) والدعوة إليهم والنصرة لطاماتهم ، كما ينقل عن صاحب « التحبير » بأنّه كان إماماً أُصولياً عارفاً بالأدب وبالعلوم المهجورة. وقال ابن أرسلان في تاريخ خوارزم : عالم كيّس متعفف.

    ولولا ميله إلى الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد ، لكان هو الإمام ، وكثيراً ما نتعجب من وفور فضله كيف مال إلى شيء لا أصل له ، نعوذ بالله من الخذلان ، وليس ذلك إلاّ لإعراضه عن علم الشرع ، واشتغاله بظلمات الفلسفة. وقد كانت بيننا محاورات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم. حضرت وعظه مرات فلم يكن في ذلك قال الله و قال رسوله. فسأله سائل يوماً فقال : سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي ، وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال : مثلي ومثلكم كمثل بني إسرائيل يأتيهم المن والسلوى ، فسألوا الثوم والبصل. ثمّ نقل عن ابن أرسلان أنّه حجّ في سنة 510هـ . (2)

المطبوع من كتبه

    1. « الملل والنحل » قد طبع كراراً ، وأخيراً في القاهرة في جزءين بتحقيق محمد سيد كيلاني ، طبع في 1381هـ .

    2. « نهاية الإقدام » وهو مطبوع حرره وصححه « الفرد جيوم » المستشرق ولم يذكر عام الطبع. ومجموع الكتاب يحتوي على عشرين قاعدة كلامية. قال في مقدمة الكتاب : وقد أوردت المسائل على تشعث خاطري وتشعب فكري ، ممتثلاً أمره في معرض المباحثات ترتيباً وتمهيداً ، سؤالاً

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان : 4/273 برقم 611.

2 ـ سير أعلام النبلاء : 20/287 ـ 288 ، ولاحظ الروضات : 8/26برقم 675.

(341)

    وجواباً ، وسمّيت الكتاب « نهاية الإقدام ( بالكسر ) في علم الكلام » (1) وإليك فهرس القواعد :

    1. القاعدة الأُولى : في حدوث العالم وبيان استحالة حوادث لا أوّل لها ، واستحالة وجود أجسام لا تتناهى مكاناً.

    2. القاعدة الثانية : في حدوث الكائنات بأمرها بإحداث الله سبحانه.

    3. القاعدة الثالثة : في التوحيد.

    4. القاعدة الرابعة : في إبطال التشبيه.

    5. القاعدة الخامسة : في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل.

    6. القاعدة السادسة : في الأحوال.

    7. القاعدة السابعة : في المعدوم هل هو شيء أم لا ، وفي الهيولي وفي الرد على من أثبت الهيولي بغير صورة الوجود.

    8. القاعدة الثامنة : في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى.

    9. القاعدة التاسعة : في إثبات العلم بالصفات الأزلية.

    10. القاعدة العاشرة : في العلم الأزلي خاصة ، وأنّه أزلي واحد.

    11. القاعدة الحادية عشرة : في الإرادة.

    12. القاعدة الثانية عشرة : في كون البارئ متكلّماً بكلام أزلي.

    13. القاعدة الثالثة عشرة : في أنّ كلام البارئ واحد.

    14. القاعدة الرابعة عشرة : في حقيقة الكلام الإنساني والنطق النفساني.

    15. القاعدة الخامسة عشرة : في العلم بكون البارئ تعالى سميعاً بصيراً.

________________________________________

1 ـ نهاية الإقدام : 4.

________________________________________

(342)

    16. القاعدة السادسة عشرة : في جواز رؤية البارئ تعالى عقلاً ووجوبها سمعاً.

    17. القاعدة السابعة عشرة : في التحسين والتقبيح ، وبيان أنّه لا يجب على الله تعالى شيء من قبل العقل ، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود الشرع.

    18. القاعدة الثامنة عشرة : في إبطال الغرض والعلة في أفعال الله تعالى ، وإبطال القول بالصلاح والأصلح واللطف ، ومعنى التوفيق والخذلان والشرح والختم والطبع ، ومعنى النعمة والشكر ، ومعنى الأجل والرزق.

    19. القاعدة التاسعة عشرة : في إثبات النبوات.

    20. القاعدة العشرون : في إثبات نبوة نبيّنا محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).

    وقد نسب إليه غير واحد هذين البيتين وجاءا في أوّل كتاب « نهاية الإقدام » و هما :

لقد طفت في تلك المعاهد كلّهافلم أُر إّلا واضعاً كف حائر               وسيرت طرفي بين تلك المعالمعلى ذقن أو قارعاً سن نادم

نكات

    1. إنّ القول بميل الرجل إلى القرامطة ، لا يصدقه كلامه في الملل والنحل ، فإنّه قد طرح في هذا الكتاب عقائد الإسماعيلية واستوفى الكلام فيها وختم كلامه بقوله :

    وكم ناظرت القوم على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم ـ إلى أن قال ـ : وقد سددتم ( الطائفة الإسماعيلية ) باب العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد ، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهباً على غير بصيرة ، وأن يسلك طريقاً من غير بينة. (1)

________________________________________

1 ـ الملل والنحل : 1/197 ـ 198 ، ط دار المعرفة بيروت.

________________________________________

(343)

    2. يروي الشهرستاني أنّ عقيدة السلف في إجراء الصفات الخبرية على الله سبحانه هو التفويض بقوله :

    بالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حدّ التشبيه بصفات المحدثات ، واقتصر بعضهم على صفات دلّت الأفعال عليها و ما ورد به الخبر ، فافترقوا فرقتين :

    فمنهم من أوّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.

    ومنهم من توقّف في التأويل وقالوا : لسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها. (1)

    3. إنّ الرجل يتخبط حقاً في عرض عقائد الشيعة ، وكأنّه لم يرجع إلى مصدر شيعي معتبر ، يقول في حقّ هذه الطائفة : إنّ الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير. أمّا الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس ، وأمّا التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق ، ولما ظهرت المعتزلة والمتكلّمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير ». (2)

    يلاحظ عليه : أنّ الشيعة هم الذين يمثلون أصحاب الإمام علي والسبطين وعلي والسجادوالباقرين والكاظمين ... ( عليهم السَّلام ) وهؤلاء عن بكرة أبيهم مبرأون عن هذه التهم الساقطة. كيف وهم مقتفون أثر عترة النبي الذين جعلهم الرسول الأعظم قرناء الكتاب في العصمة والهداية ، وقد تواترت عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) رواية الثقلين ، وأنّه قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ». (3)

________________________________________

1 ـ الملل والنحل : 1/93 ، وقد عرفت ما في التفويض من الإشكال.

2 ـ الملل والنحل : 1/93 ، وقد عرفت ما في التفويض من الإشكال. 3 ـ راجع في الوقوف على مصادره ونصوصه ، كنز العمال : 1/172 باب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

وقد نشرت جماعة دار التقريب بالقاهرة رسالة مستقلة في هذا المجال أنهى فيها صور الحديث وأسناده.

 

________________________________________

(344)

    أفهل يتصور أن يعتقد مقتفو آثارهم تألية الأئمة ، أو تشبيه إله العالم بواحد من الخلق؟!

    4. يقول أيضاً في حقّ الإمامية : صارت الإمامية متمسكين بالعدلية في الأُصول وبالمشبهة في الصفات ، متحيرين تائهين. (1)

    تمسك الإمامية بالعدل معروف لا شكّ فيه ، وكفى ذلك الكتاب والعقل والسنّة المروية عن طريق أهل البيت ، وأمّا كونهم مشبهين في الصفات ففرية لا يجد الرجل دليلاً عليها في كتبهم ، فهم من أشدّ المنزّهين لله سبحانه عن الصفات الخبرية مثل اليدين والوجه بالمعاني الحقيقية ، وكفى في ذلك خطب علي ( عليه السَّلام ) في النهج ، فقد نزّه الباري سبحانه لا عن الصفات الخبرية وحدها ، بل نزّهه عن كونه متصفاً بصفات ذاتية زائدة على ذاته ، بل صفاته سبحانه عندهم نفس ذاته ، لا بمعنى النيابة ، بل بلوغ الذات في الكمال إلى حدّ صارت نفس العلم والقدرة ، قال ( عليه السَّلام ) : « لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، و من حدّه فقد عدّه ، و من قال فيم فقد ضمنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه ». (2)

    ففي الكتاب نقول ضعيفة ، وساقطة عن هذه الطائفة تحتاج إلى نظارة التنقيب جداً ، فلنكتف بهذا المقدار.

 

(6)

الفخر الرازي ( 543 ـ 606هـ )

    محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أصله من طبرستان ، ومولده في الري وإليها نسبه ، ولد فيها عام ثلاث وأربعين وخمسمائة

________________________________________

1 ـ الملل والنحل : 1/172.

2 ـ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

________________________________________

(345)

    أو سنة أربع وأربعين ، وتوفّي في « هراة » عام ست و ستمائة. (1)

    قال ابن خلّكان : فريد عصره ، ونسيج وحده ، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل ، وله التصانيف المفيدة في حقول عديدة ، منها تفسير القرآن الكريم ، جمع فيه كلّ غريب وغريبة ، وهو كبير لكنّه لم يكمله ، ثمّ ذكر تصانيفه و قال : وكل كتبه ممتعة ، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة ، فإنّ الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدّمين ـ إلى أن قال ـ : و كان له في الوعظ اليد البيضاء ، ويعظ باللسانين : العربي والعجمي ، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء ، وكان يحضر مجلسه بمدينة « هراة » أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه ، وهو يجيب كلّ سائل بأحسن إجابة ، وكان رجع بسببه خلق كثيرمن الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنّة ، وكان يلقب بهراة « شيخ الإسلام ».

    وقد تخرج في المذهب على والده ضياء الدين عمر ، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري ، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي ، وهو على الأُستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي ، وهو على شيخ السنّة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري.

    يقول أبو عبد الله الحسين الواسطي : « سمعت فخر الدين ينشد بهراة على المنبر عقيب كلام عاتب فيه أهل البلد :

المرء مادام حياً يستهان به                 ويعظم الرزء فيه حين يفتقد (2)

    لا شكّ أنّ الرازي من أئمّة الأشاعرة في عصره ، وقد نصر المنهج الأشعري في تآليفه الكلامية وفي تفسيره خاصة ، يقف عليه كلّ من لاحظ الآيات التي تختلف في تفسيرها المعتزلة والأشاعرة ، وستقف على كلامه في تفسير قوله سبحانه : الرَّحمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (3)ولما كان يناظر الكرامية

________________________________________

1 ـ الكامل لابن الأثير : 12/288; و الوفيات : 4/252.

2 ـ وفيات الأعيان : 4/248 ـ 252برقم 600.

3 ـ طه : 5.

________________________________________

(346)

    من أهل التجسيم والتشبيه ويكبتهم في القول بهما صريحاً صار ذلك سبباً للطعن عليه ممن لا يروقه التخطي عن ظواهر النصوص.

    يقول الذهبي : وقد بدت في تآليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنّة ، والله يعفو عنه ، فإنّه توفّي على طريقة حميدة ، والله يتولّى السرائر. (1)

    وأظن أنّ نسبة الانحراف عن السنّة إليه هو ما نقله صاحب « تاريخ روض المناظر » من ابن الأثير : أنّ السلطان غياث الدين قد أبلغ في إكرام الإمام فخر الدين ، و بنى له المدرسة بهراة ، فعظم ذلك على أهلها الكرامية من الحنفية والشافعية ، فحضروا عند الأمير غياث الدين للمناظرة ، وحضر فخر الدين الرازي و القاضي عبد المجيد بن القدوة وهو أكبر الكرامية وأعلمهم وأزهدهم ، فتكلم الرازي فأعرض عنه ابن القدوة ، وطال الكلام ، وقام غياث الدين فاستطال الرازي على ابن القدوة وشتمه ، فأغضب ذلك الملك ضياءالدين ابن عم غياث الدين ، وذم فخر الدين الرازي ونسبه إلى الزندقة والفلسفة عند غياث الدين ، فلم يصنع إليه شيئاً ، فلما كان الغد وعط ابن القدوة الناس من الغدوة بالجامع ، فحمد الله وصلّى على النبي وقال : رَبّنا آمَنّا بِما أَنْزلتَ وَاتَّبَعنا الرَّسُول فَاكْتُبْنا مع الشّاهدين ، أيّها الناس لا نقول إلاّما صحّ عندنا من رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وأمّا علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها ، فلأي ( جهة ) تسنم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيّه ، فبكى و بكت الكرامية ، واستعانوا وثار الناس من كلّ جانب ، وامتلأ الناس فتنة ، وبلغ ذلك السلطان غياث الدين ، فسكن الفتنة وأوعد الناس بإخراج فخر الدين.

    ثمّ أمره بالعود إلى هراة ، فعاد إليها ، ثمّ عاد إلى خراسان وحظي عند السلطان خوارزم شاه ابن محمد بن تكش. (2)

________________________________________

1 ـ سير أعلام النبلاء : 21/501 برقم 261.

2 ـ روضات الجنات : 8/44برقم 682.

________________________________________

(347)

    ولأجل وجود هذا الجو المشحون بالعداء على أهل التنزيه لا يمكن أن يصدق ما نسبه إليه من الشعر الذي ينتقد فيه المنهج الفكري في العقائد ، أعني :

نهاية إقدام العقول عقالوأرواحنا في وحشة من جسومناولم نستفد من بحثنا طول عمرناوكم قد رأينا من رجال ودولةوكم من جبال قد علت شرفاتها                وأكثر سعي العالمين ضلالوحاصل دنيانا أذى ووبالسوى أنّ جمعنا فيه قيل وقالوافبادوا جميعاً مسرعين وزالوارجال فزالوا والجبال جبال (1)

آثاره في العقائد والكلام

    إنّ الرازي كان كثير الإنتاج ، وقد طبع قسم من آثاره نذكر منها ما له صلة بالموضوع :

    1. « أسماء الله الحسنى » وهو المسمى « لوامع البينات » طبع بمصر عام 1396 وهو كتاب قليلالزلة ويفسر الأسماء بين التشبيه والتعطيل.

    2. « مفاتيح الغيب » في ثمان مجلدات كبار في تفسير القرآن الكريم ، وهو مشحون بالأبحاث الكلامية في مختلف الأبواب ، ويناضل فيه المعتزلة ، وينصر الأشاعرة ، ويرد فيه على سائر الطوائف ، وله من الشيعة الإمامية في الكتاب مواقف تحكي عن عناده ولجاجه ، وأنّه بصدد الرد سواء أصحّ أم لم يصحّ ، وستوافيك وصيته عند الموت.

    3. « محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين من العلماء والحكماء والمتكلّمين » وقد لخصّه المحقّق الطوسي وأسماه« تلخيص المحصل » ونقد منهجه في كثيرمن الموارد ، وقد طبع أيضاً.

    4. « المباحث المشرقية » في جزءين جمع فيه آراء الحكماء والسالفين ونتائج أقوالهم وأجاب عنهم ، طبع في حيدرآباد دكن ، وأُعيد طبعه ب ـ « الأُوفست ».

    5. « شرح الإشارات » لابن سينا على نمط النقد والرد على الشيخ

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان : 4/250برقم 600.

________________________________________

(348)

    الرئيس ، يقول المحقّق الطوسي في شرحه للإشارات : وقد شرحه فيمن شرحه الفاضل العلاّمة فخر الدين ملك المناظرين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي ـ جزاه الله خيراً ـ فجهد في تفسير ما خفي منه بأوضح تفسير ، واجتهد في تعبير ما التبس فيه بأحسن تعبير ، وسلك في تتبع ما قصد نحوه طريقة الاقتفاء ، وبلغ في التفتيش عمّاا أودع فيه أقصى مدارج الاستقصاء ، إلاّ أنّه قد بالغ في الرد على صاحبه أثناء المقال ، وجاوز في نقض قواعده حدّ الاعتدال ، فهو بتلك المساعي لم يزده إلاّ قدحاً ، ولذلك سمّى بعض الظرفاء شرحه جرحاً ، ومن شرط الشارحين أن يبذلوا النصرة لما قد التزموا شرحه بقدر الاستطاعة ، وأن يذبّوا عمّا قد تكفلوا إيضاحه ، بما يذب به صاحب تلك الصناعة ، ليكونوا شارحين غير ناقضين ، ومفسرين غير معترضين.

    اللّهمّ إلاّ إذا عثروا على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح ، فحينئذ ينبغي أن ينبهوا عليه بتعريض أو تصريح ، متمسكين بذيل العدل والإنصاف ، متجنبين عن البغي والاعتساف ، فإنّ إلى الله الرجعى ، وهو أحقّ بأن يخشى. (1)

    إلى غير ذلك من الآثار الفكرية العقيدية.

تصلّبه في المنهج الأشعري

    إنّ الرازي في تفسيره وأكثر كتبه متصلّب في المنهج الأشعري ، ويكفي في ذلك ما ذكره في تفسير قوله سبحانه : الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى عند الإجابة على كلام صاحب الكشاف. ينقل عن صاحب الكشاف قوله : « لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلاّ مع الملك ، جعلوه كناية عن الملك ، فقالوا استوى فلان على البلد يريدون « ملك » و إن لم يقعد على السرير البتة ، وإنّما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنّه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك.

    ونحوه قولك : « يد فلان مبسوطة » و « يد فلان مغلولة » بمعنى أنّه جواد

________________________________________

1 ـ الإشارات والتنبيهات : 1/2.

________________________________________

(349)

    وبخيل ، لا فرق بين العبارتين إلاّفيما قلت حتى إنّ من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً ، قيل فيه يده مبسوطة ، لأنّه لا فرق عندهم بينه و بين قوله جواد. ومنه قوله تعالى : وَقالَتِ الْيَهُود يَدُ الله مَغْلُولَة غُلَّت أَيْدِيهِمْ ـ أي هو بخيل ـ بلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان أي هو جواد من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط. والتفسير بالنعمة والتمحّل للتسمية من ضيق العطن ».

    ويقول الرازي : وأقول : إنّا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية ، فإنّهم يقولون : المراد من قوله : فَاخْلَعْ نَعْلَيْك : الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل ، وقوله : يا نار كُوني بَرداً وسَلاماً على إِبراهيم المراد منه : تخليص إبراهيم ( عليه السَّلام ) من يد ذلك الظالم ، من غير أن يكون هناك نار و خطاب ألبتة.

    وكذا القول في كلّ ما ورد في كتاب الله تعالى ، بل القانون أنّه يجب حمل كلّ لفظ ورد في القرآن على حقيقته ، إلاّ إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه ، وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه. (1)

    أظن أنّ الرازي يقول في لسانه ما ليس في قلبه ، فإنّ الفرق بين المقيس والمقيس عليه واضح لا يخفى على مثل الرازي. فإنّ القرائن الحافّة بالكلام في مسألة الاستواء على العرش ، قاضية بأنّ المراد هو الاستيلاء على القدرة لا جلوسه عليه ، وقد ذكرنا القرائن الموجودة في نفس الآيات الدالّة على ذلك المعنى عند البحث عن الصفات الخبرية (2) ، و هذا بخلاف الآيات التيتؤوّلها الباطنية فإنّها تأويلات بلا دليل.

نظرة في تفسير الرازي

    إنّ تفسير تفسير الرازي مع كونه تفسيراً على الكتاب العزيز كموسوعة كلامية في مختلف الأبواب. فينقل آراء الطوائف الإسلامية في مجالات مختلفة ، فيدافع

________________________________________

1 ـ مفاتيح الغيب : 6/6 ، طبع مصر.

2 ـ لاحظ بحث الصفات الخبرية من هذا الكتاب مضافاً إلى دلالة العقل على امتناع اتصافه سبحانه بأحكام المحدّثات والممكنات.

________________________________________

(350)

    عن الأشاعرة ويهاجم المعتزلة بحماس بالغ ، فمن أراد الوقوف على آرائه فعليه بفهارس الأجزاء التي جاءت الإشارة فيها إلى استدلال الأشاعرة أو المعتزلة أو الإمامية على ما يتبنونه من المذاهب ، ونحن نترك ذلك المجال للقارئ الكريم.

    ولكن نركز هنا على نكتة ، وهي أنّ الرازي يخالف الإمامية في غالب المجالات ، خصوصاً فيما يرجع إلى مباحث الإمامة والآيات الواردة في حقّ الإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فيورد التشكيك تلو الآخر في كثير من القضايا التاريخية والأحاديث المستفيضة ، ومع ذلك كلّه فقد أصحر بالحقيقة في موارد نأتي بها أداءً لحقّه في المقام : 1. من اقتدى بعلىّ فقد اهتدى

    اختلف الفقهاء في الجهر بالبسملة في الصلاة ، واستدلّ الرازي على استحباب الجهر بها : بأنّ علياً كان يجهر بها ، وقد ثبت ذلك بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار ». (1) 2. الكوثر أولاد الرسول

    يفسر الرازي الكوثر بأولاد الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ويقول في عداد الأقوال : « القول الرابع » الكوثر : أولاده ، قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثمّ العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يعبأ به. ثمّ انظر ، كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا ( عليهم السَّلام ) والنفس الزكية وأمثالهم. (2)

________________________________________

1 ـ مفاتيح الغيب : 1/111 ، الحجة الخامسة.

2 ـ مفاتيح الغيب : 8/498.

(351)

3. المسح على الرجلين

    استرسل الرازي في الكلام على وجوب المسح على الأرجل على وجه ، كأنّ المسح هو خيرته ، وإليك كلامه : « اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر : أنّ الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين : فرضهما الغسل. وقال ابن داود الإصفهاني : يجب الجمع بينهما ، وهو قول الناصر للحق من أئمّة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلّف مخيّر بين المسح والغسل ».

    حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله : وأَرجلكمفقرأ ابن كثير و حمزة و أبو عمرو و عاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر و عاصم في رواية حفص عنه بالنصب.

    فنقول : أمّا القراءة بالجر ، فهي تقضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله : « جحر ضب خرب » و قوله : « كبير أناس في بجاد مزمل »؟ قلنا : هذا باطل من وجوه :

    الأوّل : إنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه.

    وثانيها : إنّ الكسر إنّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : « جحر ضب خرب » فإنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر. و في هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

    وثالثها : إنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.

    وأمّا القراءة بالنصب فقالوا إنّها أيضاً توجب المسح ، وذلك لأنّ قوله وامسحوا برؤوسكم فرؤوسكم في محل النصب ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس ، جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس

 

________________________________________

(352)

    والجر عطفاً على الظاهر. وهذا مذهب مشهور للنحاة.

    إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى : وأرجلكمهو قوله : وامسحوا ويجوز أن يكون هو قوله : واغسلوالكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فجب أن يكون عامل النصب في قوله : وَأرجلكم هو قوله وامسحوا ، فثبت أنّ قراءةوأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً ، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ، ثمّ قالوا : ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنّها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. (1)

وصية الرازي عند الموت

    لمّا مرض الرازي وأيقن أنّه ملاق ربّه ، أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الإصفهاني وصية في الحادي والعشرين من محرم سنة 606.وممّا جاء في تلك الوصية : يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه ، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو في آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة ... .

    فاعلموا أنّي كنت رجلاً محباً للعلم ، فكنت أكتب في كلّ شيء شيئاً لا أقف على كميته وكيفيته ، سواء أكان حقّاً أم باطلاً أم غثّاً أم سميناً ...

    وأمّا الكتب العلمية التي صنفتها أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدّمين فيها ، فمن نظر في شيء منها ، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضيل والإنعام ، وإلاّ فليحذف القول السيّء فإنّي ما أردت إلاّ تكثير البحث ، وتشحيذ الخاطر والاعتماد في الكلّ على الله تعالى. (2)

    وغير خفي على من سبر كتب الرازي في الكلام والفلسفة والتفسير وغيرها ، أنّه يشكك في كثير من المسائل المسلّمة ، وربما يبالغ بأنّه لو اجتمع الثقلان على الإجابة عن هذا الإشكال لما قدروا. (3) ولعل هذه الندامة الظاهرة

________________________________________

1 ـ مفاتيح الغيب : 3/380 ـ 381 ، طبع مصر.

2 ـ دائرة المعارف ، القرن الرابع عشر ، فريد وجدي : 4/148 ـ 149.

3 ـ شرح المواقف : 8/155.

________________________________________

(353)

    منه حين الموت تكون كفّارة لبعض هذه التشكيكات ، والله العالم.

 

(7)

سيف الدين الآمدي ( 556 ـ 621هـ )

    أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي ، الفقيه الأُصولي الملقب ب ـ « سيف الدين الآمدي » كان حنبلي المذهب ، وانحدر إلى بغداد وقرأ بها على أبي الفتح نصر بن فتيان الحنبلي ، ثمّ انتقل إلى مذهب الشافعي ، ولما بلغ الدرجة الممتازة انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول ، وحفظ منه الكثير وتمهر فيه ، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم ، ثمّ انتقل إلى الديار المصرية ، ثمّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصّبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة ، وانحلال الطوية والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء ، وكتبوا محضراً يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم ، وهذه شنشنة يعرفها التاريخ من الذين أعدموا العقل وصلبوه وشوهوا صورة الشريعة ، واعتمدوا في كلّ شيء حتى فيما يجب ثبوته قبل ثبوت الشرع ، على الحديث ، ورأوا الاشتغال بالعلوم العقلية كفراً وزندقة فابتلي الآمدي (1) بهؤلاء المتزمّتين ، وقبله الشهرستاني كما عرفت ذلك في ترجمته.

    ينقل ابن خلّكان أنّ رجلاً منهم لمّا رأى التحامل وإفراط التعصب على الآمدي كتب في المحضر الذي أعدّوه للسعاية عليه :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه           فالقوم أعداء له و خصوم

 

    والله أعلم وكتب : فلان بن فلان.

    ولعل الحسد ـ في جميع العصور التي قام فيها هؤلاء بقمع أهل الفكر والعقل وطردهم عن الساحة الإسلامية ـ كان أحد العوامل الباعثة على التكفير والتفسيق ، والقتل والصلب ، وكان هناك عامل آخر أشد تأثيراً في هذه المجالات ، وهو سوء الوعي وقلّة العمق في المخالفين ، إذ لم يعرفوا أنّ الإسلام

________________________________________

1 ـ الآمدي : منسوب إلى آمد وهي مدينة في ديار بكر.

________________________________________

(354)

    يحارب الجمود والتقليد ، ويتآخى فيه العقل والشرع ، وتتحد فيه نتيجة البرهنة والتعبد.

    ومن جراء هذه القلاقل لم يجد الآمدي بدّاً من مغادرة مصر إلى دمشق ، وعُيّنَ مدرساً بالمدرسة العزيزية ، ثمّ عزل عنها لبعض التهم الفكرية ، وأقام بطّالاً في بيته. وتوفي على تلك الحال سنة 581 ودفن بسفح جبل قاسيون. (1)

    ويشهد لما ذكرنا من السبب ما نقله الذهبي عن سبط ابن الجوزي في حقّه : لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام ، وكان أولاد « العادل » كلّهم يكرهونه لما اشتهر عنه من علم الأوائل والمنطق ، وكان يدخل على « المعظم » فلا يتحرك له ، فقلت : قم له عوضاً عني. فقال : ما يقبله قلبي. ومع ذا ولاّه تدريس العزيزية. فلمّا مات « العادل » أخرج « الأشرف » سيف الدين ونادى في المدارس : من ذكر غير التفسير والفقه أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته. فأقام السيف خاملاً في بيته إلى أن مات ودفن بقاسيون.

    ولم يكن عمل « العادل » ولا « الشريف » نسيج وحدهما ـ بل لم يزل أهل التعقّل والتفكّر الذين كانوا صفاً كالبنيان المرصوص مقابل الملاحدة والزنادقة ـ مضطهدين مقهورين بيد الحنابلة والمتسمين بأهل الحديث ، و قد بلغ السيل الزبى في العصور السابقة على عصر الآمدي عندما تدخل الخليفة « القادر بالله » العباسي في اختلاف المعتزلة مع الحنابلة وأهل الحديث ، وأصدر كتاباً ضد المعتزلة يأمرهم بترك الكلام والتدريس والمناظرة ، وأنذرهم ـ إن خالفوا أمرهـ بحلول النكاية والعقوبة عليهم. وقد سلك السلطان « محمود » في غزنة مسلك الخليفة في بغداد ، فصلب المخالفين ونفاهم وأمر بلعنهم ، وقد اتخذ ذلك سنّة في الإسلام. (2)

    ففي الحقيقة ما صلبوا المعتزلة ، بل صلبوا العقل وأعدموه ، وأبعدوا الدين المبنية أُصوله على الأسس العقلية عن أساسه.

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان : 3/293 ـ 294برقم 432.

2 ـ البداية والنهاية : 12/6 ـ 7.

________________________________________

(355)

    ولم يقتصروا في النكاية على المعتزلة ، بل عمّ التعذيب المفكّرين من الأشاعرة ، الذين كان منهجهم منزلة بين المنزلتين بين الحنابلة والمعتزلة.

    والعجب من الذهبي أنّه كيف يصور شخصية علمية مثل السيف بأنّه كان تارك الصلاة.

    قال : كان القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة يحكي عن شيخه ابن أبي عمر قال : كنا نتردّد إلى السيف. فشككنا هل يصلي أم لا؟ فنام فعلّمنا على رجله بالحبر. فبقيت العلامة يومين مكانها ، فعلمنا أنّه ما توضّأ ، نسأل الله السلامة في الدين.

    أفي ميزان النصفة والعدل ، القضاء بهذه الظنون واستباحة النفوس والأموال بها ، بعد إمكان أنّه تيمّم مكان الوضوء ، وصلى لعذر شرعي بالطهارة الترابية مكان الطهارة المائية وبقي الحبر في محله.

    هلم معي إلى سفسطة أُخرى ينقلها الذهبي من شيخه ابن تيمية : يغلب على الآمدي الحيرة والوقف ، حتى أنّه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل ، وزعم أنّه لا يعرف عنه جواباً ، وبنى إثبات الصانع على ذلك ، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ، ولا وحدانية الله ، ولا النبوات ، ولا شيئاً من الأُصول الكبار.

    وما ذكره فرية محضة على السيف ، ونحن نعرض فهرس الموضوعات التي أشبع السيف البحث عنها في كتابه « غاية المرام في علم الكلام » حتى نعرف مدى صدق قوله ، فقد جاء فيها :

    القانون الأوّل : في إثبات الواجب بذاته.

    القانون الثالث : في وحدانية الباري تعالى.

     ( ج ) القاعدة الثالثة : في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات.

    1 ـ الطرف الثاني : في إثبات الحدوث بعد العدم.

    القانون السابع في النبوات ، والأفعال الخارقة للعادات.

 

________________________________________

(356)

    1 ـ الطرف الأوّل : في بيان جوازها بالعقل. (1)

    إنّ تعطيل العقول من المعارف العقلية ليس بأقل خطراً من تعطيل ذاته سبحانه وتعالى عن الاتّصاف بالصفات الخبرية ، الذي صار حجّة لدى الحنابلة على تكفير أو تفسيق المعطّلين كيف ، وهو سبحانه يقول : وَيَتفَكّرونَ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) (2) ، ويقول تعالى : وَفي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (3) ، وقوله تعالى : إِنَّ في ذلكَ لآيات لِقَوم يَتَفَكَّرُونَ . (4)

    إلى غير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكّر في الصنع والكون والنفس ، ولم تكن الغاية من تأسيس علم الكلام إلاّ إقامة الحجة على العقائد الإيمانية ، بالأدلّة العقلية والرد على المبتدعة.

    إنّ احتكاك الثقافة الإسلامية مع ثقافات سائر الأُمم أوجد موجة من الاضطراب الفكري والصراع العقيدي بين المسلمين ، وكانت الوسيلة المنحصرة لحماية العقيدة الإسلامية ومحاربة الفرق والمذاهب الإلحادية ، تأسيس علم كامل لإثبات ما يعتنقه المسلمون بالأدلّة العقلية ، وكان تأسيسه وليد الحاجة والضرورة ، فلا عتب على قائل يصفه بصخرة النجاة وسلم السلام والأمان.

مؤلّفاته

    إنّ ما وصل إلينا من تآليفه كلّها يتسم بالطابع العقلي ، إمّا عقلية صرفة ، أو مزيجاً من العقل والنقل ، فمن مؤلّفاته في أُصول الفقه :

    1. « الإحكام في أُصول الأحكام » ، طبع كراراً وأخيراً بتحقيق السيد الجميلي في أربعة أجزاء في مجلدين ، نشر دار الكتاب العربي 1404 هـ ، وهو أبسط

________________________________________

1 ـ لاحظ : 395 ـ 396 من غاية المرام.

2 ـ آل عمران : 191.

3 ـ الذاريات : 21.

4 ـ الرعد : 3.

________________________________________

(357)

    كتاب في أُصول الفقه ، نظير الذريعة للسيد المرتضى بين الشيعة في القرن الخامس.

    2. « منتهى السؤول في علم الأُصول » ، طبع بمصر ، وكان مقرراً للدراسة في الأزهر في الثلاثينات من هذا القرن.

    3. « غاية المرام في علم الكلام » ضمن فيه كتابه الآخر المسمّى بأبكار الأفكار. (1)

    نعم يؤخذ عليه أنّه يصف المعتزلة في المقدمة بالإلحاد ، ويقول واصفاً لكتابه : « كاشفاً لظلمات تهويلات الملحدين كالمعتزلة وغيرهم من طوائف الإلهيين » (2). كما يؤخذ عليه قصوره في عرض عقائد الشيعة ، وكأنّه لم يقف على كتاب لهم ، ونقل ما نقل عنهم عن كتب خصومهم.

    ومن عجيب الكلام استدلاله على عدم اشتراط العصمة في الإمام بالاتّفاق على عقد الإمامة للخلفاء الراشدين ، واعترافهم بأنّهم ليسوا بمعصومين. (3).

    فلا أُعلّق عليه بكلمة إلاّ قولنا« يا للعجب ما أتقنه من برهنة »!!

    وفي آخر الكتاب « كان الفراغ من نسخة في الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وستمائة وذلك بثغر الاسكندرية بالمدرسة العادلية ». (4)

    وقد طبع الكتاب بتحقيق حسن محمود عبد اللطيف ، وقام بتحقيقه باعتباره جزءاً من رسالته للحصول على درجة « الماجستير » في الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.

________________________________________

1 ـ غاية المرام : 5 من المطبوع.

2 ـ غاية المرام : 5 من المقدمة.

3 ـ غاية المرام : 384 ـ 385.

4 ـ غاية المرام : 392.

________________________________________

(358)

(8)

عبدالرحمن عضد الدين الإيجي ( 700 ـ 756هـ ) (1)

    كان إماماً في المعقول ، عالماً بالأُصول والمعاني والعربية ، مشاركاً في الفنون ، كريم النفس ، كثير المال جداً ، كثير الإنعام على الطلبة ، ولد بعد السبعمائة وأخذ من مشايخ عصره ، وأنجب تلامذة عظاماً اشتهروا في الآفاق ، منهم الشيخ شمس الدين الكرماني ، والتفتازاني والضياء القرمي.(2)

1. آثاره المعروفة

    1. « المواقف في علم الكلام » ، وهو المتن الكامل على المنهج الأشعري وشرحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني ، والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني تلميذ المصنف ، ولعلّه من شرحه. وطبع المتن والشرح للشريف في ثمانية أجزاء مع حواشي لعبد الحكيم السيالكوتي اللاهوري.

    وهو المرجع الوثيق لكثير من المتأخرين. وألّفه الإيجي (3) باسم الأمير الشيخ أبي إسحاق ، الذي صار صاحب الخطبة والسكة في شيراز سنة 744هـ .

    2. شرحه على مختصر الأُصول للحاجبي في أُصول الفقه ، وقد أكبّ عليه طلبة الأعصار ، وقد شاركه في تأليفه عدّة من الأفذاذ. واشتهر بشرح العضدي على مختصر الأُصول ، وطبع كراراً. (4)

    3. « العقائد العضدية ».

    4. « الرسالة العضدية ».

________________________________________

1 ـ في ميلاده وعام وفاته اختلاف ، وما ذكرناه هو أحد الأقوال.

2 ـ الدرر الكامنة لابن حجر : 2/229.

3 ـ « الإيج » يقع في جنوب إصطهبانات من نواحي شيراز.

4 ـ روضات الجنات : 5/51 ـ 52.

________________________________________

(359)

    ويظهر من خير الدين الزركلي في « الأعلام » أنّهما طبعتا. وله وراء ذلك آثار لم تر نور الوجود. (1)

    إلى أن قضى حياته في كرمان مسجوناً ( عام 756 أو 757هـ ) ويظهر من غير واحد ممن ترجمه أنّه كان يبغض الشيعة ويعاندهم إلى حدّ يضرب به المثل ومن لطائف شعره قوله :

خذ العفو وأمر بعرف كما أمرولن في الكلام لكل الأنام          توأعرض عن الجاهلينفمستحسن من ذوي الجاه لين

2. حريته الفكرية في اتخاذ الموقف

    إنّ الإيجي ، أشعري المنهج ، يركز على آراء الأشاعرة ويحتج ، ولكن ربما يرد عليهم ولإيقاف القارئ على نماذج نشير إلى موردين :

    الأوّل : قد نقل أدلّة أصحابه على زيادة صفاته سبحانه على ذاته فقال : « لوكان مفهوم كونه عالماً حياً قادراًنفس ذاته لم يفد حملها على ذاته وكان قولنا : الله الواجب بمثابة حمل الشيء على نفسه واللازم باطل ».

    وغير خفي على القارئ أنّ المستدلّ لم يفرق بين العينية المفهومية والعينية المصداقية. فزعم أنّ المدّعى هو الأُولى مع أنّه هو الثانية ، ووقف العضدي على فساد الاستدلال فقال : « وفيه نظر ، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات ، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا ». (2)

    وما ذكره يبطل جميع ما أقامه الأشاعرة من البرهان على الزيادة.

    الثاني : طرح مسألة التكليف بمالا يطاق. وقال : إنّه جائز عند الأشاعرة ، فلمّا رأى أنّ القول به يخالف الفطرة ، أخذ يقسم مالا يطاق إلى مراتب ، فمنع عن التكليف بالمرتبة القصوى منه ، لا الوسطى ثمّ قال : « وبه

________________________________________

1 ـ الأعلام للزركلي : 3/295.

2 ـ المواقف : 280.

________________________________________

(360)

    يعلم أنّ كثيراً من أدلّة أصحابنا نصب للدليل في غير محل النزاع ». (1)

    نعم ، ربما يأخذه التعصب ، فيستدل على مذهبه بشيء مستلزم للدور في مقابل الخصم المنكر. مثلاً يقول : « إنّ الإمامية تثبت ببيعة أهل الحل والعقد ، خلافاً للشيعة ، لثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة ». (2)

    كما يستدل على عدم وجوب العصمة في الإمام بقوله : « إنّ أبا بكر لا تجب عصمته اتّفاقاً ». (3)

    والمترقب من مثل الإيجي العارف بالمناظرة ، الاجتناب عن مثل هذه الاستدلالات التي لا تصح إلاّ أن يصحّ الدور.

    نرى أنّه ينكر القضايا التاريخية المسلمة عند الجميع ويقول في ردّ حديث الغدير : « إنّ علياً لم يكن يوم الغدير ». (4)

    ونرى أنّه لا يطرح فرق الشيعة وينهيها إلى اثنتين وعشرين فرقة ، ويأتي بأسماء فرق لم تسمع أذن الدهر بها إلاّفي ثنايا هذه الكتب. ويقول : « من فرق الشيعة البدائية الذين جوزوا البداء على الله ». (5)

    ولكنّه غفل عن أنّ الاعتقاد بالبداء بالمعنى الصحيح وهو تغيّر المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، عقيدة مشتركة بين الشيعة جمعاء وليست مختصة بفرقة دون أُخرى. وتفسير البداء بما يستلزم الظهور بعد الخفاء على الله أو غير ذلك فرية على الشيعة. إلى غير ذلك من الهفوات الموجودة في الكتاب ، غفر الله لنا و لعباده الصالحين.

 

(9)

مسعود بن عمر التفتازاني ( 712 ـ 791هـ ) (6)

    هو من أئمّة العربية ومن المتضلّعين في المنطق والكلام ، ولد بتفتازان من

________________________________________

1 ـ المواقف : 331.

2 ـ المواقف : 399.

3 ـ المواقف : 399.

4 ـ المواقف : 405.

5 ـ المواقف : 421.

6 ـ قيل أيضاً إنّه تولد عام 722 وتوفّ ـ ي عام 787 ، 793هـ .

(361)

    نواحي « نساء » في خراسان ، أخذ العلوم العقلية عن « قطب الدين الرازي تلميذ العلاّمة الحلي » والقاضي عضد الدين الإيجي وتقدم في الفنون واشتهر ذكره وطال صيته وانتفع الناس بتصانيفه ، وانتهت إليه معرفة العلم بالمشرق. مات في سمرقند سنة 791. (1)

آثاره العلمية في الأدب والمنطق والكلام

    ترك المترجم له آثاراً علمية مشرقة نذكر بعضها :

    1. شرحه المعروف ب ـ « المطول » على « تلخيص المفتاح » للخطيب القزويني في المعاني و البيان والبديع. نقله إلى البياض عام 748هـ بهراة. وقد لخّص هذا الشرح وأسماه بالمختصر.

    2. شرحه على تصريف الزنجاني ، فرغ منه عام 744هـ .

    3. شرحه على العقائد النسفية فرغ منه عام 778هـ .

    4. شرح على شمسية المنطق فرغ منه عام 772هـ .

    5. مقاصد الطالبين مع شرحه ، فرغ منه عام 774هـ .

    6. تهذيب أحكام المنطق ألّفه بسمرقند عام 770هـ . (2)

    وهذه الآثار كلّها مطبوعة متداولة ، وبعضها محور الدراسة في الجامعات العلمية إلى يومنا هذا.

    ومن لطيف أشعاره ما نسبه إليه شيخنا البهائي في كشكوله :

   

كأنّه عاشق قد مد صفحتهأو قائم من نعاس فيه لوثته             يوم الوداع إلى توديع مرتحلمواصل لتخطيه من الكسل

    ويظهر ممّا نقل عنه من الشعر الفارسي أنّه كانت له يد غير قصيرة في الأدب الفارسي.

________________________________________

1 ـ بغية الوعاة : 2/285.

2 ـ روضات الجنات : 4/35 ـ 36.

________________________________________

(362)

أشعري لا ماتريدي

    الماتريدية منهج كلامي أسسه محمد بن محمد بن محمود المعروف بأبي منصور الماتريدي ، و« ماتريد » محلة بسمرقند في ماوراء النهر ينسب إليها ، وتوفّي عام 333هـ .

    وهذا المنهج قريب من منهج الشيخ الأشعري ، والخلاف بينهما لا يتجاوز عدد الأصابع. ولأجل تقارب الفواصل بينهما يعسر التمييز بين المنهجين ، ومقتفي أثرهما. وسنعقد فصلاً ـ بإذنه سبحانه ـ لبيان هذا المنهج ، وحياة مؤسسه ، والفروق الموجودة بينه و بين الأشعري ، وكان المؤسّسان يعيشان في عصر واحد ، ويسعى كلّ منهما للغاية التي يسعى الآخر إليها. بيد أنّ الأشعري كان بالعراق قريباً من المعتزلة ، والماتريدي كان بخراسان بعيداً عن مواضع المعركة.

    والظاهر أنّ التفتازاني ـ رغم كونه خراسانياً قاطناً في سمرقند وسرخس وهراة ـ كان أشعرياً ، ولا يفترق ماطرحه في شرح المقاصد عمّاخطته الأشاعرة أبداً.

    ولنجعل الموضوع ( هل هو أشعري أو ماتريدي؟ ) تحت محكّ التجربة. إنّ النقطة التي تفترق فيها الماتريدية عن الأشاعرة كون القضاء والقدر سالبين للاختيار عند الأشعري ، وليسا كذلك عند الماتريدي.

    والتفتازاني في شرحه على مقاصد الطالبين ينحو إلى القول الأوّل ويقول : قد اشتهر بين أكثر الملل أنّ الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره ، وهذا يتناول أفعال العباد ، وأمره ظاهر عند أهل الحقّ لما تبين أنّه الخالق لها نفسها.

    ثمّ إنّه ينقل أدلة المعتزلة على أنّه لو كان القضاء والقدر سالبين للاختيار ، يلزم بطلان الثواب والعقاب (1) ، ثمّ يخرج في مقام الجواب عن استدلال

________________________________________

1 ـ وقد أتى بروايتين : إحداهما عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والأُخرى عن علي ( عليه السَّلام ) وكلاهما يركزان على أنّ التقدير لا يسلب الاختيار. لاحظ رواية علي ( عليه السَّلام ) في نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 78 ، وأمّا الرواية النبوية فهذا متنها : « روي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال لرجل قدم عليه من فارس : أخبرني بأعجب شيء رأيت. فقال : رأيت أقواماً ينكحون أُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك؟ قالوا : قضاء الله علينا وقدره. فقال ( عليه السَّلام ) : سيكون في آخر أُمّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أُولئك مجوس أُمّتي ».

________________________________________

(363)

    المعتزلة بقوله : إنّ ما ذكر لا يدل إلاّ على أنّ القول بأنّ فعل العبد إذا كان بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وإرادته ، يجوز للعبد الإقدام عليه ، ويبطل اختياره فيه ، واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذم عليه قول المجوس. (1)

    والظاهر منه قبول النتيجة ، ومعه لا يمكن أن يعدّ من الفرقة الماتريدية.

مقتطفات من المقاصد

    إنّ شرح المقاصد كتاب مبسوط في علم الكلام ، بعد شرح المواقف للسيد الشريف. وقد أصحر في الكتاب بفضائل علي وأهل بيته.

    1. يقول : قوله تعالى : قُلْ تَعالَوا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَناوَنِساءَكُمْ وَأَنُفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أراد علياً. وقوله تعالى : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَودَّةَ فِي القُربىوعليّ رضي الله عنه منهم ... . إلى آخر ما ذكر في هذا الفصل من فضائل عليّ. (2)

    2. ويقول في حقّ السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السَّلام ) : فقد ثبت أنّ فاطمة الزهراء سيدة نساءالعالمين ، وأنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة. (3)

    3. ويقول في حقّ الإمام المهدي ( عليه السَّلام ) : وقد وردت الأحاديث الصحيحة في ظهور إمام من ولد فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها ـ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. (4)

________________________________________

1 ـ شرح المقاصد : 2/144.

2 ـ مقاصد الطالبين ، هامش شرح المقاصد : 2/299.

3 ـ المصدر نفسه : 302.

4 ـ المصدر نفسه : 307.

________________________________________

(364)

(10)

السيد الشريف الجرجاني الأستر آبادي ( 740 ـ 816هـ )

    علي بن محمد المعروف بالسيد الشريف الجرجاني من المتضلّعين في الأدب العربي ، المعدود من كبار المتكلّمين على المنهج الأشعري ولد في قرية « تاكو »قرب « أسترآباد » وأتم دروسه في شيراز ، ولمّا دخلها « تيمور »سنة 789هـ ، غادرها الجرجاني وألقى عصا رحله في سمرقند ، ولكنّه عاد أيضاً إلى شيراز بعد موت تيمور. (1)

    وهو يعادل التفتازاني في التوغّل في العلمين ، الأدب والكلام. لكن الشريف أدق نظراً منه ، وآثاره العلمية تعرب عن تخصصه في بعض العلوم ، ومشاركته في كثير منها.

آثاره العلمية

    1. شرحه الكبير على مواقف القاضي عضد الدين الإيجي وهو شرح مبسوط ، بلغ الغاية في توضيح ما ذكره القاضي ، وقد طبع كراراً ، وأخيراً في ثمانية أجزاء ، في أربعة مجلدات.

    2. الكبرى والصغرى في المنطق.

    3. الحواشي على المطول للتفتازاني.

    4. التعريفات.

    إلى غير ذلك من التآليف البالغة نحو خمسين كتاباً. و قد برز جميع ما عنونّاه إلى الطبع. (2)

________________________________________

1 ـ الأعلام : 5/7.

2 ـ لاحظ روضات الجنات : 5/300; الأعلام : 5/7.

________________________________________

(365)

(11)

علاء الدين علي بن محمد القوشجي مؤلّف

شرج التجريد الجديد ( ... ـ 879هـ )

    علي بن محمد القوشجي الحنفي فلكي رياضي ، متكلم بارع ، أصله من سمرقند. والقوشجي كلمة تركية بمعنى « حافظ الطير » يقال كان أبوه من خدام الأمير« الغ بك » ملك ماوراء النهر ، يحفظ له البزاة ، ثمّ ذهب إلى كرمان فقرأ على علمائها وصنّف فيها شرح التجريد للطوسي ، وعاد إلى سمرقند. وكان « الغ بك » قد بنى رصداً فيها ، ولم يكمله فأكمله القوشجي ، ثمّ ذهب إلى تبريز فأكرمه سلطانها« الأمير حسن الطويل » وأرسله في سفارة إلى السلطان« محمد خان » سلطان بلاد الروم ، ليصلح بينهما فاستبقاه محمد خان عنده ، فألّف له رسالة في الحساب أسماها « المحمّدية » ورسالة في علم الهيئة أسماها « الفتحية » ، فأعطاه محمدخان مدرسة « أيا صوفيا » فأقام بالآستانة ، وتوفي فيها ، ودفن في جوار الصحابي أبي أيوب الأنصاري.

آثاره العلمية

    من أشهر آثاره « شرح التجريد » و هو شرح لكتاب « تجريد العقائد » تأليف المحقّق الطوسي ، وقد شرحه ببسط و استيعاب ، وخالفه في مواضع لا توافق منهجه الأشعري ، ولكنّه أنصف في موارد حيث شرح العبارة ولم يزد عليها بشيء.

    يقول في مقدّمة الكتاب : إنّ كتاب التجريد الذي صنّفه في هذا الفن المولى الأعظم ، والحبر المعظم ، قدوة العلماء الراسخين ، أسوة الحكماء المتألهين ، نصير الحقّ والملة الدين ، محمد بن محمد الطوسي ـ قدّس الله نفسه ، و روّح رمسهـ تصنيف مخزون بالعجائب ، وتأليف مشحون بالغرائب ، فهو وإن كان صغير الحجم ، وجيز النظم ، فهو كثير العلم ، عظيم الاسم ، جليل البيان ، رفيع المكان ، حسن النظام ، مقبول الأئمّة العظام ، لم تظفر بمثله علماء الأعصار ، ولم يأت بشبهه الفضلاء في القرون والأدوار ، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأُمهات ، مشحون بتنبيهات

 

________________________________________

(366)

    على مباحث هي المهمات ، مملوّ بجواهر كلّها كالفصوص ، ويحتوي على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص ، متضمن لبيانات معجزة ، في عبارات موجزة ، وتلويحات رائقة لكمالات شائقة ، يفجر ينبوع السلاسة من لفظه ، ولكن معانيه لها السحرة تسجد ، وهو في الاشتهار كالشمس في رائعة النهار ، تداولته أيدي النظار ، وسابقت في ميادينه جياد الأفكار.

    ثمّ أشار إلى أنّ شمس الحقّ والملة والدين محمد الإصفهاني قد شرحه قبله ، فهو قدر طاقته حام حول مقاصده ، وبقدر وسعه جال في ميدان دلائله وشواهده ، وأنّ السيد الشريف الجرجاني علّق على ذلك الشرح حواشي تشتمل على تحقيقات رائقة ، ولكن مع ذلك كان كثيراً من مخفيات رموز ذلك الكتاب باقياً على حاله » إلى آخر ما أفاده في مقدمة الكتاب. ثمّ أهدى كتابه إلى سلطان عصره أبي سعيد الكوركاني.

    ولهذا الشرح حواش من المحقّقين كالمحقّق الأردبيلي وغيره ، وهذا الكتاب أبسط كتاب في الكلام الأشعري بعد شرح المواقف.

    كما أنّ له تآليف أُخرى ذكرت في الأعلام ومعجم المؤلفين وغيرهما من كتب التراجم ، و في كتاب ريحانة الأدب لشيخنا« المدرس » ترجمة اضافية للقوشجي فلاحظه. (1)

ذكر جماعة من الأشاعرة

    وممّا يناسب إلفات النظر إليه ، أنّ ابن النديم عنون الشيخ الأشعري باسم « ابن أبي بشر » عند البحث عن الكلابية أصحاب عبد الله بن محمد بن كلاب القطان ، وعنوان البحث يعطي أنّه من أصحابه ومقتفي منهجه ، ولم يذكر من تلاميذ الأشعري إلاّ شخصين ، وقال :

    « ومن أصحابه : الدمياني ، وحمويه من أهل « سيراف » و كان يستعين بهما ، على المهاترة والمشاغبة ، وقد كان فيهما علم على مذهبه ، ولا كتاب لهما

________________________________________

1 ـ الأعلام : 5/9; معجم المؤلفين : 7/227; ريحانة الأدب : 4/495.

________________________________________

(367)

    يعرف ». (1)

    ولكن ابن عساكر الدمشقي ( المتوفّى571هـ ) ذكر أعيان مشاهير أصحابه ، وخصّ لهم باباً و قال : باب ذكر جماعة من أعيان مشاهير أصحابه ، إذ كان فضل المقتدي يدل على فضل المقتدى به ، ثمّ ذكر فهرس أسمائهم على النحو التالي :

الطبقة الأُولى من أصحاب الأشعري

    1. أبو عبد الله بن مجاهد البصري.

    2. أبو الحسن الباهلي البصري.

    3. أبو الحسين : بندار بن الحسين الشيرازي الصوفي.

    4. أبو محمد الطبري المعروف بالعراقي.

    5. أبو بكر القفال الشاشي.

    6. أبو سهل الصعلوكي النيسابوري.

    7. أبو زيد المروزي.

    8. أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي.

    9. أبوبكر الجرجاني المعروف بالإسماعيلي.

    10. أبو الحسن عبد العزيز الطبري.

    11. أبو الحسن علي الطبري.

    12. أبو جعفر السلمي البغدادي النقاش.

    13. أبو عبد الله الإصبهاني.

    14. أبو محمد القرشي الزهري.

    15. أبو بكر البخاري الاودني.

    16. أبو منصور بن حمشاد النيسابوري.

    17. أبو الحسين بن سمعون البغدادي المذكر.

    18. أبو عبد الرحمن الشروطي الجرجاني.

    19. أبو علي الفقيه السرخسي.

________________________________________

1 ـ فهرست ابن النديم : 271.

________________________________________

(368)

    هؤلاء أصحاب الشيخ أبو الحسن الأشعري الذين تتلمذوا عليه ، وارتووا من مهل علمه ، ويعدّون من الطبقة الأُولى للأشاعرة ، وأمّا الطبقة الثانية ، وهم أصحاب أصحابه ، ممّن سلكوا مسلكه في الأُصول وتأدّبوا بآدابه ، فقد جاء بأسمائهم وترجمتهم ابن عساكر في كتابه « تبيين كذب المفتري » وها نحن نأتي بأسمائهم ، ومن أراد الوقوف على حياتهم وكتبهم ، فعليه الرجوع إليه ، وهؤلاء عبارة عن :

الطبقة الثانية من أصحابه

    20. أبو سعد بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني.

    21. أبو الطيب بن أبي سهل الصعلوكي النيسابوري.

    22. أبو الحسن بن داود المقري الداراني الدمشقي.

    23. القاضي أبو بكر بن الطيب بن الباقلاني. (1)

    24. أبو علي الدقاق النيسابوري شيخ أبي القاسم القشيري.

    25. الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري.

    26. أبو نصر بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني.

    27. الأُستاذ أبو بكر بن فورك الإصبهاني.

    28. أبو سعد بن عثمان النيسابوري الخركوشي.

    29. أبو عمر محمد بن الحسين البسطامي.

    30. أبو القاسم بن أبي عمرو البجلي البغدادي.

    31. أبو الحسن بن ماشاذه الإصبهاني.

    32. أبو طالب بن المهتدي الهاشمي.

    33. أبو معمر بن أبي سعد الجرجاني.

    34. أبو حازم العبدوي النيسابوري.

    35. الأُستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني.

    36. أبو علي بن شاذان البغدادي.

    37. أبو نعيم الحافظ الإصبهاني.

________________________________________

1 ـ وقد تعرفت على حياته وتآليفه فيما سبق.

________________________________________

(369)

    38. أبو حامد أحمد بن محمد الاستوائي الدلوي.

الطبقة الثالثة من أصحابه

    المراد من هذه الطبقة من لقي أصحابه وأخذ العلم عنهم ، وإليك أسماء من ذكرهم وترجمهم ابن عساكر :

    39. أبو الحسن السكري البغدادي.

    40. أبو منصور الأيوبي النيسابوري.

    41. أبو محمد عبد الوهاب البغدادي.

    42. أبو الحسن النعيمي البصري.

    43. أبو طاهر بن خراشة الدمشقي المقري.

    44. الأُستاذ أبو منصور النيسابوري البغدادي. (1)

    45. أبو ذر الهروي الحافظ.

    46. أبو بكر الدمشقي المعروف بابن الجرمي.

    47. أبو محمد الجويني والد الإمام أبي المعالي.

    48. أبو القاسم بن أبي عثمان الهمداني البغدادي.

    49. أبو جعفر السمناني قاضي الموصل.

    50. أبو حاتم الطبري المعروف بالقزويني.

    51. أبو الحسن رشا بن نظيف المقري.

    52. أبو محمد الإصبهاني المعروف بابن اللبان.

    53. أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي.

    54. أبو عبد الله الخبازي المقري النيسابوري.

    55. أبو الفضل بن عمروس البغدادي المالكي.

    56. الأُستاذ أبو القاسم الإسفراييني.

    57. الحافظ أبو بكر البيهقي.

الطبقة الرابعة من أصحابه

    58. أبو بكر الخطيب البغدادي.

________________________________________

1 ـ وقد تعرفت على ترجمته فيما سبق.

________________________________________

(370)

    59. الأُستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري.

    60. أبو علي بن أبي حريصة الهمداني الدمشقي.

    61. أبو المظفر الإسفرائيني.

    62. أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي.

    63. الإمام أبو المعالي الجويني.

    64. أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي.

    65. أبو عبد الله الطبري.

الطبقة الخامسة من أصحابه

    66. أبو المظفر الخوافي النيسابوري.

    67. الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي.

    68. الإمام حجة الإسلام أبو حامد الطوسي الغزالي. (1)

    69. الإمام أبو بكر الشاشي.

    70. أبو القاسم الأنصاري النيسابوري.

    71. الإمام أبو نصر بن أبي القاسم القشيري. (2)

    72. الإمام أبو علي الحسن بن سليمان الإصبهاني.

    73. أبو سعيد أسعد بن أبي نصر بن الفضل العمري.

    74. أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن جني العثماني الديباجي.

    75. القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة المعروف بابن الرطبي.

    76. الإمام أبو عبد الله الفراوي النيسابوري.

    77. أبو سعد إسماعيل بن أحمد النيسابوري المعروف بالكرماني.

    78. الإمام أبو الحسن السلمي الدمشقي.

    79. أبو منصور محمود بن أحمد بن عبد المنعم ماشاذه

________________________________________

1 ـ قد تعرفت على ترجمته ، وعلى آرائه في كتابه : « قواعد العقائد » ، وقد نقل ابن عساكر مفتتح هذا الكتاب ، في تبيينه : 299.

2 ـ وقد رفع بعض أصحاب هذا الإمام شكوى عن الحنابلة ، وقد عرفت نص الشكوى وفيها خطوط الأئمّة بتصحيح مقاله.

(371)

    80. أبو الفتح محمد بن الفضل بن محمد بن المعتمد الإسفرائيني.

    81. أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي.

    هؤلاء هم الذين ذكر ابن عساكر أسماءهم وشيئاً من حياتهم ، وقد أدرك هو نفسه عدة من الطبقة الخامسة ، بعضها بالمعاصرة وبعضها بالرؤية والمجالسة.

    ثمّ إنّ تاج الدين أبا نصر عبد الوهاب بن علي السبكي قد استدرك على ابن عساكر الطبقات الأُخرى التي لم يدركها ابن عساكر ، وقد ذكر ابن عساكر خمس طبقات لأصحابه فاستدرك عليه الطبقتين التاليتين وقال :

 

ومن السادسة

    82. الإمام فخر الدين الرازي. (1)

    83. سيف الدين الآمدي. (2)

    84. شيخ الإسلامي عز الدين بن عبد السلام.

    85. الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي.

    86. شيخ الإسلام عز الدين الحصيري الحنفي ، وصاحب « التحصيل والحاصل »

    87. الخسرو شاهي. (3)

ومن السابعة

    88. شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد.

    89. الشيخ علاء الدين الباجي.

    90. الشيخ الإمام الوالد تقي الدين السبكي.

    91. الشيخ صفي الدين الهندي.

    92. الشيخ صدر الدين بن المرحل.

________________________________________

1 ـ وقد تعرفت على ترجمتهما.

2 ـ وقد تعرفت على ترجمتهما.

3 ـ نسبة إلى خسروشاه وهي قرية من قرى « مرو » وهي غير الواقعة في آذربيجان.

________________________________________

(372)

    93. ابن أخيه الشيخ زين الدين.

    94. الشيخ صدر الدين سليمان عبد الحكم المالكي.

    95. الشيخ شمس الدين الحريري الخطيب.

    96. الشيخ جمال الدين الزملكاني.

    97. الشيخ جمال الدين بن جملة.

    98. الشيخ جمال الدين ابن جميل

    99. قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي.

    100. القاضي شمس الدين بن الحريري الحنفي.

    101. القاضي عضد الدين الإيجي الشيرازي. (1)

    وهاهنا نجعجع بالقلم عن الإفاضة ، ونترك أسماء الباقين من الأشاعرة إلى كتب التراجم ، وقد وقفت على ترجمة أعيانهم ومشاهيرهم الذين استثمروا المنهج ونضجوه ، ودافعوا عنه بحماس.

    إلى هنا وقفت على حياة الإمام الأشعري ومنهجه الكلامي وترجمة الشخصيات البارزة الذين أرسوا ما شيّده ، ونضجوا منهجه ، ولكن الذين جاءُوا بعدهم في أقطار الشرق والغرب ما راموا إلاّ تحرير ما ورثوه من مشايخهم وأساتذتهم ، ولم يضيفوا عليها شيئاً قابلاً للذكر.

    تمّ الجزء الثاني من الكتاب ويليه الجزء الثالث في تبيين عقائد الماتريدية والمعتزلة إن شاء الله تعالى .

والحمد لله ربّ العالمين

________________________________________

1 ـ السبكي ، طبقات الشافعية الكبرى : 3/372 ـ 373.

________________________________________

(373)

فتوى شاذة عن الكتاب والسنّة

    بعد أن خرجت الملازم من الطبع وانتهينا إلى هذا المقام وقفنا على فتوى لعبد العزيز بن عبد الله بن باز المؤرخ 8/3/1407 المرقم 717/2 جواباً على سؤال عبدالله عبد الرحمن يتعلّق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية يوم القيامة ، فأفتى بأنّ من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلّى خلفه ، وهو كافر عند أهل السنّة والجماعة ، وأضاف أنّه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الأباضية في عمان : الشيخ أحمد الخليلي فاعترف بأنّه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة ، ويعتقد أنّ القرآن مخلوق ، واستدلّ لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه « حادي الأرواح » : ذكر الطبري وغيره أنّه قيل لمالك : إنّ قوماً يزعمون أنّ الله لا يُرى يوم القيامة فقال مالك : السيف السيف.

    وقال أبو حاتم الرازي : قال أبو صالح كاتب الليث : أملي على عبد العزيز ابن سلمة الماجشون رسالة عما جحدت الجهمية فقال : لم يزل يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول الله تعالى : وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَة *إلى ربّها ناظرة.

    وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنّه قال : إني لأرجو أن يحجب الله عزّوجلّ جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه ، الذي وعده أولياءه حين يقول : وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَة* إلى ربّها ناظرة .

    إلى أن نقل عن أحمد بن حنبل و قيل له في رجل يحدّث بحديث عن رجل

 

________________________________________

(374)

    عن أبي العواطف أنّ الله لا يُرى في الآخرة فقال : لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم ، ثمّ قال : أخزى الله هذا.

    و قال أبو بكر المروزي : من زعم أنّ الله لا يرى في الآخرة فقد كفر ، وقال : من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي ، والجهمي كافر.

    وقال إبراهيم بن زياد الصائغ : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الرؤية من كذّب بها فهو زنديق.

    وقال : من زعم أنّ الله لا يُرى فقد كفر بالله ، وكذّب بالقرآن ، وردّ على الله أمره ، يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل ... .

تحليل لهذه الفتيا

    1. إنّ هذه الفتوى لا تصدر عمّن يجمع بين الرواية والدراية ، وإنّما هي من متفرعات القول بأنّ الله مستقر على عرشه فوق السماوات ، وأنّه ينزل في آخر كلّ ليلة نزول الخطيب عن درجات منبره (1) ، وأنّ العرش تحته سبحانه يئط أطيط الرحل تحت الراكب (2) ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول :

    بل عطلوا منه السماوات العلى والعرش أخلوه من الرحمان (3)

    ومثل تلك العقيدة تنتج أنّ الله تعالى يرى كالبدر يوم القيامة ، والرؤية لا تنفك عن الجهة والمكان ، تعالى عن ذلك كلّه.

    2. إنّ النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيته سبحانه ورسالة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولم ير أنّ النبي الأكرم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك ، مثل رؤية الله وما شابهه ، وهذا هو البخاري يروي في صحيحه : أنّ الإسلام بني على خمس وليس فيه شيء من الإقرار بالرؤية ، وهل النبي ترك ما هو مقوم الإيمان والإسلام؟!.

    3. إنّ الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلّمين والمفسرين ، وكلّ طائفة تمسّكت بلفيف من الآيات ، فتمسّك المثبت بقوله سبحانه : إِلى ربّها ناظرةوتمسّك النافي بقوله سبحانه : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار وَهُوَ اللَّطيف

________________________________________

1 ـ نقله وسمعه السياح الطائر الصيت ابن بطوطة عن ابن تيمية.

2 ـ السنّة : 80.

3 ـ من قصيدة ابن زفيل النونية ، والمراد منه هو ابن القيم. لاحظ السيف الصيقل للسبكي.

________________________________________

(375)

الخَبير .

    فكيف يكون إنكار النافي رداً للقرآن ، ولا يكون إثبات المثبت رداً له؟!

    فإذا جاز التأويل لطائفة لما يكون مخالفاً لعقيدته ، فكيف لا يسوغ لطائفة أُخرى؟!

    وليست رؤية الله يوم القيامة من الأُمور الضرورية التي يلازم إنكارها إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن ، بل كل طائفة تقبل برحابه صدر المصدرين الرئيسيين ، أعني : الكتاب والسنّة ، ولكن يناقش في دلالتهما على ما تدّعيه الطائفة الأُخرى ، أو تناقش سند الرواية وتقول : إنّ القول بالرؤية عقيدة موروثة من اليهودوالنصارى ، أعداء الدين ، وقد دسّوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين ، فلم تزل مسلمة اليهود والنصارى يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين ، وتشويه تعاليم هذا الدين ، حتى تذرعوا بعد وفاة النبي بشتى الوسائل إلى بذر بذور الفساد ، فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان.

    4. إنّ الاعتقاد بشيء من الأُمور من الظواهر الروحية لا تنشأ جذوره في النفس إلاّ بعد تحقّق مبادئ ومقدّمات توجد العقيدة ، فما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية : السيف السيف ، بدل أن يقول : الدراسة الدراسة ، الحوار الحوار؟!!

    أليس شعار « السيف السيف » ينم عن طبيعة قاسية ، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟!

    وأنا أجلّ إمام دار الهجرة عن هذه الكلمة.

    5. إنّ مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلاّ على نقول وفتاوى ذكرها ابن القيم في كتابه دون أن يرجع إلى تفسير الآيات واحدة واحدة ، أو يناقش المسألة في ضوء السنّة.

 

________________________________________

(376)

    فما أرخص مهمة الإفتاء ومؤهّلات المفتي في هذه الديار.

    وفي الختام ، إنّ ما نقله عن ابن القيم يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية ، فإنّ نفي الرؤية شعار أئمّة أهل البيت ، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) في خطبه ، وكلمه قبل أن يتولد الجهم وأذنابه ، ولأجل ذلك اشتهر : « العدل والتنزيه علويان ، والجبر والتشبيه أمويان ».

    ولأجل ضيق المقام اكتفينا بهذا القدر ، ومن أراد التبسّط في البحث فليرجع إلى الصفحة 191 ـ 239 من هذا الكتاب ، وإلى المطوّلات المدونة في مجال العقائد والكلام.