الخوارج في عصر معاوية بن أبي سفيان

الخوارج في عصر معاوية بن أبي سفيان

    قد تعرّفت على مأساة التحكيم وما خلّف من آثار ونتائج سيّئة في جيش الإمام وأصحابه حيث فرّقهم وشقَّ شملهم ، فانقلب الاخوان أعداءً ، وأصبح الأنصار معارضين ، إلى أن أدّى ذلك إلى حروب دامية ضدّ إمامهم أمير المؤمنين ولم يبرحوا حتى قضوا على حياته حيلة وغيلة.

 

    لقد بذر معاوية تلك البذرة في جيش الإمام ، ولم يدر بخلده أنّ هذه البذرة سوف تنمو وتكون أشواكاً تعكّر عليه صفو خلافته ، وتشغل باله عشرين سنة إلى العام الذي هلك فيه ، فحصد مازرع ووقع بالحفرة التي حفرها ، وسوف نذكر الحروب والانتفاضات التي جرت في عهد معاوية بعد أن تسنّم عرش الخلافة من عام 41 إلى 60 من الهجرة.

    نعم لم تقف انتفاضاتهم بهلاك معاوية ، بل استمرّت بعد هلاكه ، وعلى طول عهد بني اُميّة ، غير انّا نكتفي بما جرى في عهد معاوية وبعده بقليل ، ليكون نموذجاً لسائر الثورات التي قاموا بها إلى أواخر العصر الأموي. فكانوا مثلا لقوله سبحانه : ( ألَمْ يَأتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَروُا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَ بالَ أَمْرِهِمْ

 

________________________________________

(156)

وَ لَهُمْ عَذابٌ اَليِمٌ ) (1) .

    وقبل ذلك نلفت نظر القارىء إلى هذه الانتفاضات من زاوية اُخرى ، فالخوارج وإن قاموا في وجه الطغاة اللئام من بني اُميّة فثاروا عليهم هنا وهناك بصورة عشوائية ومتفرّقة ، فأسهروا عيونهم وزعزعوا كيانهم ، ولكنّهم أيضاً ذاقوا وبال أمرهم لأنّهم عصوا إمامهم ، وقلّبوا الاُمور عليه ، وأوجدوا الفوضى في عصره ، فصدق فيهم قول الامام وهو يخاطبهم : « أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، يتّخذها الظالمون فيكم سنّة » (2) .

    وهذا الكلام تنّبؤ من الإمام عن مستقبلهم المظلم ، ويحقّ له هذا التنّبؤ ، كيف وهو باب علم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، نعم احتمل ابن أبي الحديد أن يكون دعاءً أيضاً وقال : وهذه المخاطبة لهم وهذا الدعاء عليهم ، وهذه الأخبار عن مستقبل حالهم ، وقد وقع ذلك ، فإنّ الله تعالى سلّط على الخوارج بعده الذلّ الشامل ، والسيف القاطع ، والاثرة من السلطان ، ومازال حالهم يضمحل حتى افناهم الله تعالى وافنى جمهورهم.

    ثمّ إنّ ابن أبي الحديد ذكر في أخبارهم شيئاً كثيراً وأطنب الكلام في سيف المهلّب بن أبي صفرة وبنيه على الخوارج وانّ نتيجته كانت الحتف القاضي ، والموت الزؤوم للخوارج.

    إنّ موسوعتنا هذه موسوعة تاريخ العقائد ، لا تاريخ الأقوام ، ولأجل ذلك ضربنا صفحاً عن نقل جميع الانتفاضات التي أقامها الخوارج في الشهود المختلفة ، وفي أماكن متفرّقة ، واكتفينا بماقاموا به في العصر الإموي ، وخصّصنا بالذكر خصوص ما يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان زارع هذه

________________________________________

    1 ـ التغابن 5.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.

________________________________________

(157)

البذرة ، وحاصد نتائجها الدنيوية ، وحافر تلك الحفرة والواقع فيها ، وطلباً للاكمال نشير إلى الانتفاضات الواقعة بعد عهد معاوية بوجه موجز.

    اغتيل الإمام علي ( عليه السَّلام ) بيد أشقى الأوّلين والآخرين على ما وصفه الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في حديثه (1) وقضى نحبه فبويع الحسن خليفة بعد أبيه وتمّت له البيعة في رمضان سنة أربعين ، وكان معاوية يتحّين الفرص ليسيطر على العراق كما سيطر على مصر ويأخذ بمقاليد الحكم ، وقد أعطاه قتل الإمام فرصة لبسط نفوذه على العراق وخلع الحسن عن الحكم ، فقدّم أمامه عبدالله بن عامر ليفتح الطريق إلى معاوية ، ثمّ غادر هو الشام متوجّهاً إلى العراق.

    ولمّا وقف الحسن على خطّة معاوية وانّه بصدد مواجهته بالقوّة العسكرية قدّم كتائب من جيشه وعلى رأسهم كتيبة قيس بن سعد بن عباده ، وخرج هو من الكوفة حتى نزل المدائن مستعدّاً لمواجهة معاوية ، غير أنّ الحوادث المريرة ـ التي ليس المقام مناسباً لذكرها ـ خيَّبتْ أمله ، فلم يَر بدّا من التنازل عن الحكم و تسليم الأمر إلى معاوية من خلال وثيقة الصلح ، وكيف لايكون مضطرّاً إلى التصالح وقد أعرب عن اضطهاده وتخاذل أصحابه ونهب ماله قبل مواجهة العدوّ ، فقام خطيباً وقال : « يا أهل العراق انّه سخّى بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي وانتهابكم متاعي » (2) .

    أخذ معاوية بمقاليد الحكم وكان يتبجّح بأنّه أزال جميع الموانع التي

________________________________________

    1 ـ سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص 158.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/122 وقد ذكر الطبري صورة وثيقة الصلح في ذلك المقام ولكن ما ذكره لايشتمل على جميع بنود الصلح ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

________________________________________

(158)

كانت تقف في طريقه لتولّي سدّة الحكم ، لكنّه كان غافلا عن أنّ البذرة التي بذرها في صفّين لأجل إيجاد الفرقة في صفوف جيش عليّ ( عليه السَّلام ) سوف تنمو ويأكل من ثمرها وتكون عليه ضدّاً ، فإن تسليم الحسن الحكم لمعاوية ، ومبايعة أهل العراق له قد أغضب رؤوس الخوارج المختفين في جيش الحسن والمتفرّقين في البلاد ، إذ شعروا أنّ هذا التصالح خطر على كيانهم ووجودهم ، ولأجل ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم لمحاربة النظام الجديد كما حاربوا النظام السابق ، فالخوارج كانوا ينظرون إلى عليّ ( عليه السَّلام ) ومعاوية بمنظار واحد بعد قضية التحكيم وإن كان عليّ ( عليه السَّلام ) في نظرهم إماماً عادلا محقّاً قبل التحكيم.

    وإليك بعض حروبهم في عصر معاوية على وجه الإجمال :

 

1 ـ خروج فروة بن نوفل : يقول الطبري : وفي هذه السنة سنة 41 خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام عليّ ( عليه السَّلام ) بـ « شهرزور » على معاوية ، فلمّا قدم معاوية العراق قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة فقالت الحرورية الخمسمائة التي كانت اعتزلت بـ« شهرزور » مع فروة بن نوفل الأشجعي : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه ، فسيروا إلى معاوية نجاهده ، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفه فأرسل اليهم معاوية خيلا من خيل أهل الشام فكشفوا أهل الشام ، فقال معاوية لأهل الكوفة : لاأمان لكم والله عندي حتى تكّفوا بوائقكم ، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم ، فقالت لهم الخوارج : ويلكم ما تبغون منّا ، أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم ، دعونا حتى نقاتله وإن أصبناه كنّا قد كفينا كم عدوّكم ، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا ، قالوا : لا والله حتى نقاتلكم ، فقالوا : رحم الله اخواننا

 

________________________________________

(159)

من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة ، وأخذت أشجع (1) صاحبهم فروة وكان سيد القوم واستعمل الخوارج عليهم عبدالله بن أبي الحر (2) ، رجلا من طيّ ، فقاتلوهم ، فقتلوا (3) .

    وممّا يذكره المؤرّخون من حديث معركة النخيلة : انّ قبيلة اشجع تمكّنت من أخذ فروة بن نوفل من بين أصحابه الخوارج ، فولّى الخوارجُ عليهم عبدالله بن ابى الحرباء ، فقتل في أثناء المعركة ، فولّى الخوارج عليهم حوثرةَ بن وداع بن مسعود الأسدي ، فعاد إلى النخيلة ، فأرسل اليه معاوية أباه ، لعلَّه يردُّه وقال له :

    اُخرج إلى ابنك فلعلَّه يرقُّ إذا رآك.

    فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال :

    ألاأجيئك بأبنك؟ فلعلّك إذا رأيتَه كرهتَ فراقهَ.

    فقال حوثرة : إنّي إلى طعنة من يد كافر يرمح القلب فيها ساعة ، أشوق منّي إلى ابني.

    فرجع أبوه وأخبر معاوية بقوله.

    فأرسل معاوية إليهم جنداً فقتلوهم جميعا (4) .

 

2 ـ خروج شبيب بن بجرة :كان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّاً ، فلمّا دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب المتقرّب وقال : أنا و ابن ملجم قتلنا عليّاً ، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع ،

________________________________________

    1 ـ اسم قبيلة من قبائل الكوفة ، والمراد أنّ القبيلة التي كانت تحمي معاوية أخذت فروة بن نوفل رئيس الخوارج.

    2 ـ وفي الكامل لابن الاثير (عبدالله بن أبي الهوساء) 3/305 ـ 306.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/126.

    4 ـ عمر ابو النضر : الخوارج في الإسلام 31.

________________________________________

(160)

فقال : لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنّه ببابي لأهلكنّكم ، أخْرِجوه من بلدكم ، وكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلاّ قتله ، فلمّا ولي المغيرة بن شعبة الكوفة ، خرج عليه بالطفّ قريب الكوفة ، فبعث إليه المغيرة خيلا عليها خالد بن أرفطة ، وقيل معقل بن قيس ، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه (1) .

    هذه عبرة خاطفة عن ثورات الخوارج في الكوفة ، قبل أن يولّى المغيرة بن شعبة من قبل معاوية ، وبعدما تولّى هو الكوفة كانت لهم ثورات أخمدها المغيرة بدهائه وسيفه وإليكها مجملة :

 

الخوارج والمغيرة بن شعبة والي معاوية في الكوفة :

    غادر معاوية الكوفة إلى الشام واستعمل عبدالله بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له : استعملت عبدالله على الكوفة ، وأباه على مصر ، فتكون أميراً بين نابي الأسد ، فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة ، ولمّا بلغ عمرو ما قاله المغيرة ، دخل على معاوية فقال : استعملت المغيرة على الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه ، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتّقيك ، فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة.

    فلقى المغيرة عمرو ، فقال عمرو : أنت المشير على أميرالمؤمنين بما أشرت به في عبدالله؟ قال : نعم. قال : هذه بتلك (2) وكان المغيرة يمثّل

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/127. ابن الاثير : الكامل 3/206. هؤلاء هم الصحابة العدول الذين يؤخذ عنهم الدين والفتوى!!.

(161)

سياسة معاوية مع الخوارج فيقاتلهم تارة ويعفو عنهم اُخرى ، يقول الطبري : بعث معاوية المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة ، فأحبّ العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفتّش أهل الأهواء عن أهوائهم ، وكان يؤتى فيقال له : إنّ فلاناً يرى رأي الشيعة ، وإنّ فلاناً يرى رأي الخوارج ، فكان يقول : قضى الله أن لا تزالون مختلفين ، وسيحكم الله بين عباده في ماكانوا فيه يختلفون ، فأمنه الناس (1) . وإليك بعض مواجهاته مع الخوارج.

 

3 ـ خروج معين الخارجي : بلغ المغيرة أنّ معين بن عبدالله يريد الخروج فأرسل إليه وعنده جماعة فاُخذ وحبس ، وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره أمره ، فكتب إليه : إنْ شهد أنّي خليفة فخلّ سبيله ، فأحضره المغيرة وقال له : أتشهد أنّ معاوية خليفة و أنّه أمير المؤمنين؟ فقال : أشهد أنّ الله عزّوجلّ حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ الله يبعث من في القبور ، فأمر به فقتل (2) .

 

4 ـ خروج أبي مريم مولى بني الحرث بن كعب : ثم خرج أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب ومعه امرأتان قطام وكحيلة ، وكان أوّل من أخرج معه النساء ، فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أديه ، فردّه أبو مريم بأنّه قد قاتل النساء مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ومع المسلمين بالشام ، وسأردّهما ، فردّهما ، فوجّه إليه المغيرة جابر البجلي ، فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه بـ « بادوريا » (3) .

 

5 ـ خروج أبي ليلى : وكان أبو ليلى رجلا أسود طويلا ، فأخذ بعضادتي

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/132.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206.

    3 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206 ـ 207.

________________________________________

(162)

باب المسجد بالكوفة وفيه عدّة من الأشراف ، وحكم بصوت عال ، فلم يعرض له أحد ، فخرج وتبعه ثلاثون رجلا من الموالي ، فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسواد الكوفة سنة اثنتين وأربعين (1) .

 

6 ـ خروج المستورد : إنّ الخوارج في أيّام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر ، 1 ـ المستورد بن علفة التيمي 2 ـ حيان بن ظبيان السلمي 3 ـ معاذ بن جوين الطائي ، فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان فتشاوروا فيمن يولّون عليهم ، فبايعوا المستورد لأنّه أسنّ الثلاثة واستعدّوا للخروج في غرّة هلال شعبان سنة 43 (2) .

    ثمّ إنّ قبيصة بن الدمون أتى المغيرة وكان على شرطته ، فأخبر أنّ الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيّان بن ظبيان ، وقد اتّعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان ، فقال المغيرة : سِرْ بالشرطة حتّى تحيط بدار حيّان بن ظبيان فأتني به ، وهم لايرون إلاّ أنّه أمير تلك الخوارج ، فسار قبيصة بالشرطة وفي كثير من الناس ، فلم يشعر حيّان بن ظبيان إلاّ والرجال معه في داره نصف النهار واذا معه معاذ بن جوين و نحو من عشرين رجلا من أصحابهما ، فاستسلموا فانطلق بهم إلى المغيرة بن شعبة ، فقال لهم المغيرة : ما حملكم على ما أردتم من شقّ عصا المسلمين ، قالوا له : أمّا اجتماعنا في هذا المنزل فإنّ حيّان بن ظبيان أقرأنا القرآن ، فنحن نجتمع عنده في منزله ، فنقرأ القرآن عليه ، قال : فاذهبوا بهم إلى السجن ، فلم يزالوا فيه نحواً من سنة (3) .

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل : 3/ 207.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/133 ـ 134.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/138. ابن الاثير : الكامل 3/210 ـ 212.

________________________________________

(163)

    وأمّا المستورد ، فقد ذكر الطبري في تاريخه (1) وابن الأثير في كامله (2) ثورته على وجه التفصيل و نحن نذكر ملخّصها حسب ما قام به الدكتور نايف معروف في كتابه « الخوارج في العصر الأموي » : وأمّا المستورد ، فإنّه نزل داراً في الحيرة بعيداً عن أعين الحرّاس. ولكن لمّا أخذت الخوارج تفد عليه ، وانكشف أمره ، أمر أصحابه بالرحيل عنها ، فتحوّلوا إلى دار سليم بن مخدوج العبدي ، في بني سلمة من عبد القيس ، وكان صهراً للمستورد لايرى رأيه في الخروج. ولمّا شاع خبرتحرّك الخوارج ، أدرك المغيرة خطورة الأمر ، فجمع رؤساء القبائل و خطبهم فقال : فليكفين كلّ امرىء من الرؤساء قومه ، وإلاّ فو الذي لا إله غيره لأتحولنّ عمّا كنتم تعرفون إلى ما تنكرون ، وعمّا تحبّون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلاّ نفسه ، وقد اُعذر من أنذر.

    أخذ زعماء القبائل انذار المغيرة موضع جدّ واهتمام ، فعادوا إلى قبائلهم وبادروا في البحث عن مثيري الفتنة في صفوفهم ، وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبدالقيس ، فحذّرهم من إيواء هؤلاء المارقة ، فتراجع كثيرون عن اللحاق بالخوارج.

    ولمّا علم المستورد بتهديد المغيرة لرؤساء القبائل ، وتجنباً لاحراج أصهاره ، أمر أصحابه بالرحيل ، فخرجوا عن ديار عبدالقيس ، وساروا إلى الصراة ومنها إلى « بهرسير » وعزموا على دخول المدينة العتيقة التي كانت بها منازل كسرى فردّهم عنها عاملها سماك بن عبيد الأزدي العبسي. ثم حاول أن يردّهم عن خروجهم ، ويأخذ لهم الأمان ، فأبي المستورد ، وعبر « جراجرايا » ومضى بأصحابه إلى أرض جوخى ، حتى بلغ المذار ، ونزلوا

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/138 ـ 161.

    2 ـ ابن الأثير : الكامل 3/212 ـ 217.

________________________________________

(164)

هناك.

    فبعث إليهم المغيرة جيشاً ، قوامه ثلاثة آلاف رجل من نقاوة الشيعة ، على رأسهم معقل بن قيس الرياحي التميمي الشيعي ، فأرسل معقل في أثرهم أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة من الفرسان ، فلحقهم حتى أدركهم في أرض المذار. وحينئذاك استشار أصحابه في قتالهم أو انتظار قدوم معقل عليه ، فاختلف أصحابه بين مؤيّد ومعارض. وأخيراً تنحّى جانباً. ثمّ تقدم معقل في سبعمائة من فرسانه والتقى الخوارج فانهزم كثيرون من أصحابه ولم يثبت سوى معقل وأبي الرواغ في نحو مائتين من الفرسان. ووصلت مؤخّرة الجيش وتوافقوا للقتال. وفي تلك الأثناء جاءت الخوارج الأخبار بأنّ شريك بن الأعور قد أقبل في ثلاثة آلاف من أهل البصرة ، فاقترح المستورد على أصحابه أن ينحازوا ثانية ، عن أرض البصرة وأن يعودوا إلى أرض الكوفة ، لأن البصريين لايحاربون خارج دائرتهم ، فانسحبوا من مواقعهم وتسلّلوا إلى أرض الكوفة حتى بلغوا جراجرايا ، وقد أصاب حدسُهم ، فإنّ البصريين رفضوا اللحاق بهم ، فمضى الخوارج في طريقهم وعبروا دجلة ونزلوا في ارض بهرسير. وهناك بالقرب من ساباط كان اللقاء الحاسم فاشتدّ القتال بين الفريقين ، وكادت الدائرة تدور على أهل الكوفة لولا ثبات معقل في عدد من فرسانه ، ونجدة أبي الرواغ الذي كان أبعده المستورد عن ساحة المعركة بحيلة حربية ، أمّا المستورد ، فإنّه نادى معقلا ودعاه للمبارزة ، فحاول أصحابه منعه من ذلك ، فأبى وخرج إليه معقل ، فاختلفا ضربتين ، فقتل كل واحد منهما صاحبه. وكان قد أوصى بالامارة من بعده إلى عمرو بن محرز ابن شهاب التميمي ، الذي أخذ الراية بعد مقتله و حمل على الخوارج

 

________________________________________

(165)

فقتلوهم ولم ينج منهم إلاّ بضعة رجال فرّوا من أرض المعركة (1) .

 

7 ـ خروج الموالي لصالح الخوارج : إنّ الموالي في العصر الأموي كانوا تحت الضغط يحقّرون بأنّهم غير عرب ، فلأجل ذلك لاعجب إذا رأينا صلة بينهم وبين الخوارج فإنّهم وإن كانوا لايتبنّون مبادىء الخوارج ولكن كانوا يلتقون معهم بعدائهم للحكومة الأموية ، ولأجل ذلك نجد أنّ عصابة من الموالي خرجت من الكوفة فبعث إليهم المغيرة رجلا من بجيلة ، فقاتلهم وقضى عليها ، وهؤلاء أوّل خارجة خرج فيها الموالي (2) .

 

8 ـ خروج حيان بن ظبيان السلمي : وفي سنة خمسين توفّي المغيرة بن شعبة ، وهو ابن سبعين ، وقد سجن كثيراً من الخوارج وقد أفرج عنهم بعد موته ، ولمّا ولي على الكوفة عبدالرحمن بن عبدالله بن عثمان بن ربيعة الثقفي ، وهو ابن اُمّ الحكم ، اُخت معاوية بن أبي سفيان عادوا للخروج. يقول الطبري : إنّ حيان بن ظبيان السلمي ، جمع إليه أصحابه ، فدعاهم إلى الجهاد ، وأدعم رأيه معاذ بن جوين الطائي ، وبايع القوم حيان بن ظبيان ، ثم اجتمعوا في منزل معاذ بن جوين بن حصين الطائي ، فقال لهم حيان : عباد الله أشيروا برأيكم أين تأمروني أن أخرج؟ فقال له معاذ : إنّي أرى أن تسير بنا إلى « حلوان » فلم يقبله حيان ، فقال له : عدوّك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك ، ورأى الخروج إلى جانب الكوفة ، ولم يرض به أصحابه ، فقال لهم معاذ بن جوين : سيروا بنا فلننزل بـ« انقيا » فخرجوا فبُعِثَ إليهم جيش فقتلوا جميعاً ، وذلك في عام تسعة و خمسين.

    ويقول الطبري : وفي هذه السنة اشتدّ عبيدالله بن زياد على الخوارج

________________________________________

    1 ـ د ـ نايف معروف : الخوارج في العصر الأموي 118 ـ 119.

    2 ـ اليعقوبي : التاريخ 2/221.

________________________________________

(166)

وقتل منهم صبراً جماعة كثيرة ، وفي الحرب جماعة اُخرى ، وممّن قتل منهم صبراً ، عروة بن ادية أخو أبي بلال مرداس بن ادية (1) .

 

الخوارج في البصرة :

    لم تكن الكوفة وضواحيها هي المركز الوحيد لحركة الخوارج وثوراتهم في أوائل العصر الأموي ، فقد كانت البصرة مثل الكوفة مركزاً لنشاطهم وخروجهم.

    فقد خرج حمران بن أبان على البصرة في عام 41 فبعث معاوية بسر بن أرطاة فقتله وأخمد الثورة ، ثم عزله معاوية واستعمل مكانه عبدالله بن عامر فخرج في عصره سهم بن غالب الهجيني في سبعين رجلا ، فخرج إليه ابن عامر ففرّق شملهم حتّى اضطرّوا إلى الأمان.

    ولمّا ولّى معاوية زياداً على البصرة في سنة 45 ، فوجدها تعج من الخوارج ، وكانت لهم انتفاضات واحدة بعد اُخرى ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم (2) ونذكر هنا أهمّها على وجه الاجمال :

 

9 ـ خروج الخطيم الباهلي وسهم بن غالب الهجيني : خرج سهم إلى الأهواز فأحدث وحكم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان ، فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه.

    وأمّا الخطيم فسيّره إلى البحرين ، ثمّ أذن له فقدم ، ولمّا أخلّ بما أمره به زياد أمر بقتله واُلقي في عشيرته (باهلة) (3) .

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/231.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/172.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/172 ـ ابن الاثير : الكامل 3/225.

________________________________________

(167)

10 ـ خروج قريب بن مرة وزحّاف الطائي : خرج هذان الرجلان في أمارة زياد بالبصرة فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية : اُنج بنفسك ، فنادوه (قريب وزحاف و من معهما) : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه. ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا.

    حتّى مرّا على بني علي بن سود من الأزد وكانوا مائة فرموهم رمياً شديداً فصاحوا : يا بني علي ، البُقْيا ، لارماء بيننا ، قال رجل من بني علي :

    لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذةً في غلس الظلام

    ففرّ عنهم الخوارج ، إلى أن واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقع الحرب ، فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف وقد كان عمل هؤلاء منفِّراً على حدّ ، تبرّأ عنهم بعض الخوارج ، ونقل ابن أبي الحديد عن أبي بلال مرداس بن اُدَيَّة انّه قال : قريب ، لاقرّبه الله ، وزحاف لاعفا الله عنه ، ركباها عشواء مظلمة ـ يريد اعتراضهما الناس ـ. ونسب الطبري هذا القول إلى سعيد بن جبير (1) .

    وقال الجزري : واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم ، وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشراً كثيراً ، وخطب زياد على المنبر وقال : والله لتكفّنّني هؤلاء ، أو لأبدأنَّ بكم ، والله لإن اُفِلتَ منهم رجل ، لاتأخذون العام من عطياتكم درهماً ، فثار الناس بهم فقتلوهم (2) .

 

 

11 ـ خروج زياد بن خراش العجلي : خرج زياد بن خراش العجلي في

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/176 ـ 177. ابن أبي الحديد : الشرح 4/135. المبرد : الكامل 2/180.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/229.

 

________________________________________

(168)

ثلاثمائة فارس فأتى أرض مسكن من السواد فسيَّر إليه زياد خيلا عليها سعد بن حذيفة أو غيره فقتلوهم ، وقد صاروا إلى مائة (1) .

 

12 ـ خروج معاذ الطائي : وخرج على زياد أيضاً رجل من طي يقال له معاذ ، فأتى نهر عبدالرحمن بن اُمّ الحكم في ثلاثين رجلا في سنة 51 ، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه ، وقيل بل حلّ لواءه واستأمن (2) .

 

13 ـ خروج طواف بن غلاق : توفّي زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان سنة 53 ، ثمّ إنّ معاوية ولّى ابنه عبيدالله بن زياد على البصرة عام 55 فكانت سيرته مع الخوارج نفس سيرة أبيه ، فاشتدّ عليهم وقتل منهم جماعة كثيرة ، فقد بلغه أنّ قوماً من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه « جدار » فيتحدّثون عنده ويعيبون السلطان ، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ، ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلّي سبيل القاتلين ، ففعلوا ، فأطلقهم ، فكان ممّن قتل طواف ، فعذلهم أصحابهم وقالوا : قتلتم اخوانكم؟ قالوا : اُكْرِهْنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالايمان ، وندم طواف وأصحابه ، فقال طواف : أما من توبة؟ فكانوا يبكون وعرضوا على أولياء من قتلوا ، الدية ، فأبوا ، وعرضوا عليهم القود ، فأبوا.

    ثم لقى طواف ، ابن ثور السدوسي ، فقال له : أماترى لنا من توبة؟ فقال : ما أجد لك إلاّ آية في كتاب الله عزّوجلّ : ( ثُمّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِنْ بَعْدِ مافُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا اِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحيِمٌ ) (3) .

    فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد ، فبايعوه في سنة

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/244.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/244.

    3 ـ النحل : 110.

________________________________________

(169)

ثمان و خمسين ، وكانوا سبعين رجلا من بني عبدالقيس بالبصرة ، فسعى بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد فبلغ ذلك طوافاً ، فعجّلوا الخروج فخرجوا من ليلتهم ، فقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء ، فندب ابن زياد الشرط البخارية ، فقاتلوهم فانهزم الشرط حتّى دخلوا البصرة وذلك يوم عيد الفطر وكثّرهم الناس فقاتلوا فقتلوا ، وبقى طواف في ستة نفر و عطش فرسه فأقحمه الماء فرماه البخارية بالنشاب حتّى قتلوه وصلبوه ثمّ دفنه أهله (1) .

 

14 ـ خروج عروة بن اديّة : إنّ عبيدالله بن زياد خرج في رهان له ، فلمّا جلس ينتظر الخيل ، اجتمع الناس وفيهم عروة بن اُدية ، فأقبل على ابن زياد فقال : خمس كن في الاُمم قبلنا ، فقد صرن فينا ( اَتَبْنونَ بِكُلِّ رِيع آيَةٌ تَعْبَثُونَ * وتَتَّخِذُونَ مَصانعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَ إذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارين )(2) .

    وخصلتين اُخريين لم يحفظهما جرير (الراوي) ، فلمّا قال ذلك ظنّ ابن زياد انّه لم يجتر على ذلك إلاّ ومعه جماعة من أصحابه ، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة ما صنعت ، تعلمنّ والله ليقتلنك ، فتوارى فطلبه ابن زياد ، فأتى الكوفة ، فأخذ بها ، فقدم به على ابن زياد ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ، ثم دعا به فقال : كيف ترى؟ قال : اَرى اَنَّك اَفْسدتَ دنياي واَفسدتُ آخرتك ، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها (3) .

 

15 ـ خروج مرداس به اُديَّة : قال الطبري : حبس ابن زياد فيمن حبس مرداس بن ادية ، فكان السجَّان يرى عبادته و اجتهاده ، وكان يأذن له في الليل فينصرف فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن ، ثمّ إنّه اُفرج عنه بشفاعة

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل 3/254.

    2 ـ الشعراء : 128 ـ 130.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/231 ـ 232 ـ ابن الاثير : الكامل 3/255.

________________________________________

(170)

السجّان (1) .

    يقول المبرّد : كان مرداس قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم ، وشهد النهر ، ونجا فيمن نجا ، وبعد ما خرج من حبس ابن زياد عزم الخروج ، فقال لأصحابه : إنّه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين ، تجري علينا أحكامهم ، مجانبين للعدل ، مفارقين للفصل ، والله إنّ الصبر على هذا لعظيم ، وإنّ تجريد السيف واخافة السبيل لعظيم ، ولكنّا ننتبذ عنهم ولانجرّد سيفاً ولانقاتل إلاّ من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا ، فلمّا مضى بأصحابه لقى عبدالله بن رباح الأنصاري ، وكان له صديقاً فقال له : أين تريد؟ قال : اُريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة ، فقال له : أعلم بكم أحد؟ قال : لا. قال : فارجع ، قال : أو تخاف عليّ مكروهاً؟ قال : نعم وأن يؤتى بك ، قال : لا تخف فإنّي لا اُجرّد سيفاً ولا اُخيف أحداً ولا اُقاتل إلاّ من قاتلني ، ثم مضى حتى نزل « آسك » وهي ما بين رامهرمز وارجان ، فمرّ به مال يحمل لابن زياد ، وقد قارب أصحابه الأربعين ، فحطّ ذلك المال ، وأخذ منه عطاءه واعطيات أصحابه ، وردّ الباقي على الرسل وقال : قولوا لصاحبكم : إنّما قبضنا اعطياتنا ، فقال بعض أصحابه فعلام ندع الباقي؟ فقال : إنّهم يقسمون هذا الفيء ، كما يقيمون الصلاة فلانقاتلهم.

    كل ذلك دليل على عدم تطرّفه واعتداله وانّه أحسّ بعقله أو بدينه أن مآل التطرّف هو الموت والزوال.

    وممّا يدل على اعتداله ـ خلافاً لمن سبق عليه ـ أنَّ رجلا من أصحاب ابن زياد ، قال : خرجنا في جيش نريد خراسان ، فمررنا بـ « آسك »

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/232.

(161)

سياسة معاوية مع الخوارج فيقاتلهم تارة ويعفو عنهم اُخرى ، يقول الطبري : بعث معاوية المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة ، فأحبّ العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفتّش أهل الأهواء عن أهوائهم ، وكان يؤتى فيقال له : إنّ فلاناً يرى رأي الشيعة ، وإنّ فلاناً يرى رأي الخوارج ، فكان يقول : قضى الله أن لا تزالون مختلفين ، وسيحكم الله بين عباده في ماكانوا فيه يختلفون ، فأمنه الناس (1) . وإليك بعض مواجهاته مع الخوارج.

 

3 ـ خروج معين الخارجي : بلغ المغيرة أنّ معين بن عبدالله يريد الخروج فأرسل إليه وعنده جماعة فاُخذ وحبس ، وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره أمره ، فكتب إليه : إنْ شهد أنّي خليفة فخلّ سبيله ، فأحضره المغيرة وقال له : أتشهد أنّ معاوية خليفة و أنّه أمير المؤمنين؟ فقال : أشهد أنّ الله عزّوجلّ حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ الله يبعث من في القبور ، فأمر به فقتل (2) .

 

4 ـ خروج أبي مريم مولى بني الحرث بن كعب : ثم خرج أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب ومعه امرأتان قطام وكحيلة ، وكان أوّل من أخرج معه النساء ، فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أديه ، فردّه أبو مريم بأنّه قد قاتل النساء مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ومع المسلمين بالشام ، وسأردّهما ، فردّهما ، فوجّه إليه المغيرة جابر البجلي ، فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه بـ « بادوريا » (3) .

 

5 ـ خروج أبي ليلى : وكان أبو ليلى رجلا أسود طويلا ، فأخذ بعضادتي

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/132.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206.

    3 ـ ابن الاثير : الكامل 3/206 ـ 207.

________________________________________

(162)

باب المسجد بالكوفة وفيه عدّة من الأشراف ، وحكم بصوت عال ، فلم يعرض له أحد ، فخرج وتبعه ثلاثون رجلا من الموالي ، فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسواد الكوفة سنة اثنتين وأربعين (1) .

 

6 ـ خروج المستورد : إنّ الخوارج في أيّام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر ، 1 ـ المستورد بن علفة التيمي 2 ـ حيان بن ظبيان السلمي 3 ـ معاذ بن جوين الطائي ، فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان فتشاوروا فيمن يولّون عليهم ، فبايعوا المستورد لأنّه أسنّ الثلاثة واستعدّوا للخروج في غرّة هلال شعبان سنة 43 (2) .

    ثمّ إنّ قبيصة بن الدمون أتى المغيرة وكان على شرطته ، فأخبر أنّ الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيّان بن ظبيان ، وقد اتّعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان ، فقال المغيرة : سِرْ بالشرطة حتّى تحيط بدار حيّان بن ظبيان فأتني به ، وهم لايرون إلاّ أنّه أمير تلك الخوارج ، فسار قبيصة بالشرطة وفي كثير من الناس ، فلم يشعر حيّان بن ظبيان إلاّ والرجال معه في داره نصف النهار واذا معه معاذ بن جوين و نحو من عشرين رجلا من أصحابهما ، فاستسلموا فانطلق بهم إلى المغيرة بن شعبة ، فقال لهم المغيرة : ما حملكم على ما أردتم من شقّ عصا المسلمين ، قالوا له : أمّا اجتماعنا في هذا المنزل فإنّ حيّان بن ظبيان أقرأنا القرآن ، فنحن نجتمع عنده في منزله ، فنقرأ القرآن عليه ، قال : فاذهبوا بهم إلى السجن ، فلم يزالوا فيه نحواً من سنة (3) .

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل : 3/ 207.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/133 ـ 134.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/138. ابن الاثير : الكامل 3/210 ـ 212.

________________________________________

(163)

    وأمّا المستورد ، فقد ذكر الطبري في تاريخه (1) وابن الأثير في كامله (2) ثورته على وجه التفصيل و نحن نذكر ملخّصها حسب ما قام به الدكتور نايف معروف في كتابه « الخوارج في العصر الأموي » : وأمّا المستورد ، فإنّه نزل داراً في الحيرة بعيداً عن أعين الحرّاس. ولكن لمّا أخذت الخوارج تفد عليه ، وانكشف أمره ، أمر أصحابه بالرحيل عنها ، فتحوّلوا إلى دار سليم بن مخدوج العبدي ، في بني سلمة من عبد القيس ، وكان صهراً للمستورد لايرى رأيه في الخروج. ولمّا شاع خبرتحرّك الخوارج ، أدرك المغيرة خطورة الأمر ، فجمع رؤساء القبائل و خطبهم فقال : فليكفين كلّ امرىء من الرؤساء قومه ، وإلاّ فو الذي لا إله غيره لأتحولنّ عمّا كنتم تعرفون إلى ما تنكرون ، وعمّا تحبّون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلاّ نفسه ، وقد اُعذر من أنذر.

    أخذ زعماء القبائل انذار المغيرة موضع جدّ واهتمام ، فعادوا إلى قبائلهم وبادروا في البحث عن مثيري الفتنة في صفوفهم ، وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبدالقيس ، فحذّرهم من إيواء هؤلاء المارقة ، فتراجع كثيرون عن اللحاق بالخوارج.

    ولمّا علم المستورد بتهديد المغيرة لرؤساء القبائل ، وتجنباً لاحراج أصهاره ، أمر أصحابه بالرحيل ، فخرجوا عن ديار عبدالقيس ، وساروا إلى الصراة ومنها إلى « بهرسير » وعزموا على دخول المدينة العتيقة التي كانت بها منازل كسرى فردّهم عنها عاملها سماك بن عبيد الأزدي العبسي. ثم حاول أن يردّهم عن خروجهم ، ويأخذ لهم الأمان ، فأبي المستورد ، وعبر « جراجرايا » ومضى بأصحابه إلى أرض جوخى ، حتى بلغ المذار ، ونزلوا

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/138 ـ 161.

    2 ـ ابن الأثير : الكامل 3/212 ـ 217.

________________________________________

(164)

هناك.

    فبعث إليهم المغيرة جيشاً ، قوامه ثلاثة آلاف رجل من نقاوة الشيعة ، على رأسهم معقل بن قيس الرياحي التميمي الشيعي ، فأرسل معقل في أثرهم أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة من الفرسان ، فلحقهم حتى أدركهم في أرض المذار. وحينئذاك استشار أصحابه في قتالهم أو انتظار قدوم معقل عليه ، فاختلف أصحابه بين مؤيّد ومعارض. وأخيراً تنحّى جانباً. ثمّ تقدم معقل في سبعمائة من فرسانه والتقى الخوارج فانهزم كثيرون من أصحابه ولم يثبت سوى معقل وأبي الرواغ في نحو مائتين من الفرسان. ووصلت مؤخّرة الجيش وتوافقوا للقتال. وفي تلك الأثناء جاءت الخوارج الأخبار بأنّ شريك بن الأعور قد أقبل في ثلاثة آلاف من أهل البصرة ، فاقترح المستورد على أصحابه أن ينحازوا ثانية ، عن أرض البصرة وأن يعودوا إلى أرض الكوفة ، لأن البصريين لايحاربون خارج دائرتهم ، فانسحبوا من مواقعهم وتسلّلوا إلى أرض الكوفة حتى بلغوا جراجرايا ، وقد أصاب حدسُهم ، فإنّ البصريين رفضوا اللحاق بهم ، فمضى الخوارج في طريقهم وعبروا دجلة ونزلوا في ارض بهرسير. وهناك بالقرب من ساباط كان اللقاء الحاسم فاشتدّ القتال بين الفريقين ، وكادت الدائرة تدور على أهل الكوفة لولا ثبات معقل في عدد من فرسانه ، ونجدة أبي الرواغ الذي كان أبعده المستورد عن ساحة المعركة بحيلة حربية ، أمّا المستورد ، فإنّه نادى معقلا ودعاه للمبارزة ، فحاول أصحابه منعه من ذلك ، فأبى وخرج إليه معقل ، فاختلفا ضربتين ، فقتل كل واحد منهما صاحبه. وكان قد أوصى بالامارة من بعده إلى عمرو بن محرز ابن شهاب التميمي ، الذي أخذ الراية بعد مقتله و حمل على الخوارج

 

________________________________________

(165)

فقتلوهم ولم ينج منهم إلاّ بضعة رجال فرّوا من أرض المعركة (1) .

 

7 ـ خروج الموالي لصالح الخوارج : إنّ الموالي في العصر الأموي كانوا تحت الضغط يحقّرون بأنّهم غير عرب ، فلأجل ذلك لاعجب إذا رأينا صلة بينهم وبين الخوارج فإنّهم وإن كانوا لايتبنّون مبادىء الخوارج ولكن كانوا يلتقون معهم بعدائهم للحكومة الأموية ، ولأجل ذلك نجد أنّ عصابة من الموالي خرجت من الكوفة فبعث إليهم المغيرة رجلا من بجيلة ، فقاتلهم وقضى عليها ، وهؤلاء أوّل خارجة خرج فيها الموالي (2) .

 

8 ـ خروج حيان بن ظبيان السلمي : وفي سنة خمسين توفّي المغيرة بن شعبة ، وهو ابن سبعين ، وقد سجن كثيراً من الخوارج وقد أفرج عنهم بعد موته ، ولمّا ولي على الكوفة عبدالرحمن بن عبدالله بن عثمان بن ربيعة الثقفي ، وهو ابن اُمّ الحكم ، اُخت معاوية بن أبي سفيان عادوا للخروج. يقول الطبري : إنّ حيان بن ظبيان السلمي ، جمع إليه أصحابه ، فدعاهم إلى الجهاد ، وأدعم رأيه معاذ بن جوين الطائي ، وبايع القوم حيان بن ظبيان ، ثم اجتمعوا في منزل معاذ بن جوين بن حصين الطائي ، فقال لهم حيان : عباد الله أشيروا برأيكم أين تأمروني أن أخرج؟ فقال له معاذ : إنّي أرى أن تسير بنا إلى « حلوان » فلم يقبله حيان ، فقال له : عدوّك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك ، ورأى الخروج إلى جانب الكوفة ، ولم يرض به أصحابه ، فقال لهم معاذ بن جوين : سيروا بنا فلننزل بـ« انقيا » فخرجوا فبُعِثَ إليهم جيش فقتلوا جميعاً ، وذلك في عام تسعة و خمسين.

    ويقول الطبري : وفي هذه السنة اشتدّ عبيدالله بن زياد على الخوارج

________________________________________

    1 ـ د ـ نايف معروف : الخوارج في العصر الأموي 118 ـ 119.

    2 ـ اليعقوبي : التاريخ 2/221.

________________________________________

(166)

وقتل منهم صبراً جماعة كثيرة ، وفي الحرب جماعة اُخرى ، وممّن قتل منهم صبراً ، عروة بن ادية أخو أبي بلال مرداس بن ادية (1) .

 

الخوارج في البصرة :

    لم تكن الكوفة وضواحيها هي المركز الوحيد لحركة الخوارج وثوراتهم في أوائل العصر الأموي ، فقد كانت البصرة مثل الكوفة مركزاً لنشاطهم وخروجهم.

    فقد خرج حمران بن أبان على البصرة في عام 41 فبعث معاوية بسر بن أرطاة فقتله وأخمد الثورة ، ثم عزله معاوية واستعمل مكانه عبدالله بن عامر فخرج في عصره سهم بن غالب الهجيني في سبعين رجلا ، فخرج إليه ابن عامر ففرّق شملهم حتّى اضطرّوا إلى الأمان.

    ولمّا ولّى معاوية زياداً على البصرة في سنة 45 ، فوجدها تعج من الخوارج ، وكانت لهم انتفاضات واحدة بعد اُخرى ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم (2) ونذكر هنا أهمّها على وجه الاجمال :

 

9 ـ خروج الخطيم الباهلي وسهم بن غالب الهجيني : خرج سهم إلى الأهواز فأحدث وحكم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان ، فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه.

    وأمّا الخطيم فسيّره إلى البحرين ، ثمّ أذن له فقدم ، ولمّا أخلّ بما أمره به زياد أمر بقتله واُلقي في عشيرته (باهلة) (3) .

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/231.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/172.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/172 ـ ابن الاثير : الكامل 3/225.

________________________________________

(167)

10 ـ خروج قريب بن مرة وزحّاف الطائي : خرج هذان الرجلان في أمارة زياد بالبصرة فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة فقتلاه ، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف ، فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية : اُنج بنفسك ، فنادوه (قريب وزحاف و من معهما) : لسنا حرورية ، نحن الشرط ، فوقف فقتلوه. ثم جعلا لا يمرّان بقبيلة إلاّ قتلا من وجدا.

    حتّى مرّا على بني علي بن سود من الأزد وكانوا مائة فرموهم رمياً شديداً فصاحوا : يا بني علي ، البُقْيا ، لارماء بيننا ، قال رجل من بني علي :

    لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذةً في غلس الظلام

    ففرّ عنهم الخوارج ، إلى أن واجهوا بنو طاحية من بني سود ، وقبائل من مزينة وغيرها ، ووقع الحرب ، فقتل الخوارج عن آخرهم ، وقتل قريب وزحاف وقد كان عمل هؤلاء منفِّراً على حدّ ، تبرّأ عنهم بعض الخوارج ، ونقل ابن أبي الحديد عن أبي بلال مرداس بن اُدَيَّة انّه قال : قريب ، لاقرّبه الله ، وزحاف لاعفا الله عنه ، ركباها عشواء مظلمة ـ يريد اعتراضهما الناس ـ. ونسب الطبري هذا القول إلى سعيد بن جبير (1) .

    وقال الجزري : واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم ، وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشراً كثيراً ، وخطب زياد على المنبر وقال : والله لتكفّنّني هؤلاء ، أو لأبدأنَّ بكم ، والله لإن اُفِلتَ منهم رجل ، لاتأخذون العام من عطياتكم درهماً ، فثار الناس بهم فقتلوهم (2) .

 

 

11 ـ خروج زياد بن خراش العجلي : خرج زياد بن خراش العجلي في

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/176 ـ 177. ابن أبي الحديد : الشرح 4/135. المبرد : الكامل 2/180.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/229.

 

________________________________________

(168)

ثلاثمائة فارس فأتى أرض مسكن من السواد فسيَّر إليه زياد خيلا عليها سعد بن حذيفة أو غيره فقتلوهم ، وقد صاروا إلى مائة (1) .

 

12 ـ خروج معاذ الطائي : وخرج على زياد أيضاً رجل من طي يقال له معاذ ، فأتى نهر عبدالرحمن بن اُمّ الحكم في ثلاثين رجلا في سنة 51 ، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه ، وقيل بل حلّ لواءه واستأمن (2) .

 

13 ـ خروج طواف بن غلاق : توفّي زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان سنة 53 ، ثمّ إنّ معاوية ولّى ابنه عبيدالله بن زياد على البصرة عام 55 فكانت سيرته مع الخوارج نفس سيرة أبيه ، فاشتدّ عليهم وقتل منهم جماعة كثيرة ، فقد بلغه أنّ قوماً من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه « جدار » فيتحدّثون عنده ويعيبون السلطان ، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ، ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلّي سبيل القاتلين ، ففعلوا ، فأطلقهم ، فكان ممّن قتل طواف ، فعذلهم أصحابهم وقالوا : قتلتم اخوانكم؟ قالوا : اُكْرِهْنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالايمان ، وندم طواف وأصحابه ، فقال طواف : أما من توبة؟ فكانوا يبكون وعرضوا على أولياء من قتلوا ، الدية ، فأبوا ، وعرضوا عليهم القود ، فأبوا.

    ثم لقى طواف ، ابن ثور السدوسي ، فقال له : أماترى لنا من توبة؟ فقال : ما أجد لك إلاّ آية في كتاب الله عزّوجلّ : ( ثُمّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِنْ بَعْدِ مافُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا اِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحيِمٌ ) (3) .

    فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد ، فبايعوه في سنة

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/244.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل في التاريخ 3/244.

    3 ـ النحل : 110.

________________________________________

(169)

ثمان و خمسين ، وكانوا سبعين رجلا من بني عبدالقيس بالبصرة ، فسعى بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد فبلغ ذلك طوافاً ، فعجّلوا الخروج فخرجوا من ليلتهم ، فقتلوا رجلا ومضوا إلى الجلحاء ، فندب ابن زياد الشرط البخارية ، فقاتلوهم فانهزم الشرط حتّى دخلوا البصرة وذلك يوم عيد الفطر وكثّرهم الناس فقاتلوا فقتلوا ، وبقى طواف في ستة نفر و عطش فرسه فأقحمه الماء فرماه البخارية بالنشاب حتّى قتلوه وصلبوه ثمّ دفنه أهله (1) .

 

14 ـ خروج عروة بن اديّة : إنّ عبيدالله بن زياد خرج في رهان له ، فلمّا جلس ينتظر الخيل ، اجتمع الناس وفيهم عروة بن اُدية ، فأقبل على ابن زياد فقال : خمس كن في الاُمم قبلنا ، فقد صرن فينا ( اَتَبْنونَ بِكُلِّ رِيع آيَةٌ تَعْبَثُونَ * وتَتَّخِذُونَ مَصانعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَ إذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارين )(2) .

    وخصلتين اُخريين لم يحفظهما جرير (الراوي) ، فلمّا قال ذلك ظنّ ابن زياد انّه لم يجتر على ذلك إلاّ ومعه جماعة من أصحابه ، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة ما صنعت ، تعلمنّ والله ليقتلنك ، فتوارى فطلبه ابن زياد ، فأتى الكوفة ، فأخذ بها ، فقدم به على ابن زياد ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ، ثم دعا به فقال : كيف ترى؟ قال : اَرى اَنَّك اَفْسدتَ دنياي واَفسدتُ آخرتك ، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها (3) .

 

15 ـ خروج مرداس به اُديَّة : قال الطبري : حبس ابن زياد فيمن حبس مرداس بن ادية ، فكان السجَّان يرى عبادته و اجتهاده ، وكان يأذن له في الليل فينصرف فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن ، ثمّ إنّه اُفرج عنه بشفاعة

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل 3/254.

    2 ـ الشعراء : 128 ـ 130.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/231 ـ 232 ـ ابن الاثير : الكامل 3/255.

________________________________________

(170)

السجّان (1) .

    يقول المبرّد : كان مرداس قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم ، وشهد النهر ، ونجا فيمن نجا ، وبعد ما خرج من حبس ابن زياد عزم الخروج ، فقال لأصحابه : إنّه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين ، تجري علينا أحكامهم ، مجانبين للعدل ، مفارقين للفصل ، والله إنّ الصبر على هذا لعظيم ، وإنّ تجريد السيف واخافة السبيل لعظيم ، ولكنّا ننتبذ عنهم ولانجرّد سيفاً ولانقاتل إلاّ من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا ، فلمّا مضى بأصحابه لقى عبدالله بن رباح الأنصاري ، وكان له صديقاً فقال له : أين تريد؟ قال : اُريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة ، فقال له : أعلم بكم أحد؟ قال : لا. قال : فارجع ، قال : أو تخاف عليّ مكروهاً؟ قال : نعم وأن يؤتى بك ، قال : لا تخف فإنّي لا اُجرّد سيفاً ولا اُخيف أحداً ولا اُقاتل إلاّ من قاتلني ، ثم مضى حتى نزل « آسك » وهي ما بين رامهرمز وارجان ، فمرّ به مال يحمل لابن زياد ، وقد قارب أصحابه الأربعين ، فحطّ ذلك المال ، وأخذ منه عطاءه واعطيات أصحابه ، وردّ الباقي على الرسل وقال : قولوا لصاحبكم : إنّما قبضنا اعطياتنا ، فقال بعض أصحابه فعلام ندع الباقي؟ فقال : إنّهم يقسمون هذا الفيء ، كما يقيمون الصلاة فلانقاتلهم.

    كل ذلك دليل على عدم تطرّفه واعتداله وانّه أحسّ بعقله أو بدينه أن مآل التطرّف هو الموت والزوال.

    وممّا يدل على اعتداله ـ خلافاً لمن سبق عليه ـ أنَّ رجلا من أصحاب ابن زياد ، قال : خرجنا في جيش نريد خراسان ، فمررنا بـ « آسك »

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/232.

(171)

فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلا ، وصاح بنا أبوبلال : أقاصدون لقتالنا أنتم؟ وكنت أنا و أخي قد دخلنا زربا (1) ، فوقف أخي ببابه وقال : السّلام عليكم ، فقال مرداس : وعليكم السّلام ، فقال لأخي : أجئتم لقتالنا؟ فقال له : لا إنّما نريد خراسان ، قال : فبلغوا من لقيكم انّا لم نخرج لنفسد في الأرض ، ولا لنروّع أحداً ولكن هرباً من الظلم ولسنا نقاتل إلاّ من يقاتلنا ، ولانأخذ من الفيء إلاّ اعطياتنا ، ثمّ قال : أنَدِب إلينا أحد؟ قلنا : نعم ، أسلم بن زرعة الكلابي. قال : فمتى ترونه يصل إلينا؟ قلنا : يوم كذا وكذا ، فقال أبوبلال : حسبنا الله ونعم الوكيل.

    فلمّا سار إليهم أسلم ، صاح به أبو بلال : اتّق الله يا أسلم ، فإنا لا نريد قتالا ، ولا نَحْتَجِن فيئاً ، فما الذي تريد؟ قال : اُريد أن أردّكم إلى ابن زياد ، قال مرداس : إذاً يقتلنا ، قال : وإن قتلكم؟ قال : تشركه في دمائنا ، قال : إنّي ادين بأنّه محقّ وأنّكم مبطلون ، فصاح بن حريث بن جحل (من أصحاب أبي بلال) : أهو محق وهو يطيع الفجرة وهو أحدهم ، ويقتل بالظِنَّة ، ويخص بالفيء ، ويجور في الحكم؟ أما علمت أنّه قتل بابن سُعادَ ، أربعة براء؟ ثم حملوا عليه حملة رجل واحد وكان معبد أحد الخوارج قد كاد يأخذه فانهزم هو وأصحابه من غير قتال ، فلمّا ورد أسلم على ابن زياد ، غضب عليه غضباً شديداً ، قال : ويلك أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟ .... وكان إذا خرج إلى السوق ، أومرّ بصبيان ، صاحوا به : أبو بلال وراءك ، وربّما صاحوا به : يا مَعْبد خذه ، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد ، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفّوا النّاس عنه ، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من بني تيم :

________________________________________

    1 ـ الزرب : جمع الزرب و هو مسيل الماء ، حظيرة المواشي وعرين الأسد.

________________________________________

(172)

أألفا مؤمن فيما زعمتمكذبتم ليس ذاك كما زعمتمهم الفئة القليلة غير شك              ويهزمهم بآسك أربعوناولكن الخوارج مؤمنوناعلى الفئة الكثيرة ينصرونا

    ثم ندب لهم عبدالله بن زياد الناس واختار عباد بن أخضر ، فوجّهه في أربعة آلاف وكان التقاؤهم في يوم الجمعة فناداه أبو بلال : اخرج إليّ يا عباد فإنّي اُريد أن اُحاورك ، فخرج إليه ، فقال : ما الذي تبغي؟ قال : آخذ بأقفائكم فأردَّكم إلى الأمير عبيدالله بن زياد ، قال : أو غير ذلك؟ قال : وما هو؟ قال : أن ترجع ، فإنّا لانخيف سبيلا ولا نحارب إلاّ من حاربنا ، ولا نجبي إلاّ ما حمينا ، فقال له عباد : الأمر ما قلت لك ، فقال له حريث بن حجل : أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبّار عنيد؟ قال لهم : أنتم أولى بالضلال منه ، وما من ذاك بدّ.

    وقدم القعقاع بن عطية الباهلي من خراسان يريد الحجّ فلمّا رأى الجمعين ، قال : ماهذا؟ قالوا : الشراة فحمل عليهم ، فاُخِذَ القعقاع أسيراً ، فَأُتي به أبو بلال ، فقال : ما أنت؟ قال : لست من أعدائك ، وأنّما قدمت للحج فجهلت وغررت ، فأطلقه ....

    فلم يزل القوم يجتلدون ، حتى جاء وقت الصّلاة يوم الجمعة ، فناداهم أبوبلال : يا قوم هذا وقت الصلاة ، فوادعونا حتى نصلّي و تصلّوا ، قالوا : لك ذاك ، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصّلاة ، فأسرع عباد ومن معه ، والحروريّة مبطئون ، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصّلاة وقاعد ، حتى مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعاً ، وأتى برأس أبي بلال (1) .

    هذا أبو بلال وهذه مرونته واعتداله ، فعدّ الاباضية مبدأ الاعتدال ليس بقوي ، بل الحق أنّه مبدأ للطريق الذي سلكه عبدالله بن اباض ، ولأجل ذلك نرى

________________________________________

    1 ـ المبرد : الكامل 2/186. الطبري : التاريخ 4/232. ابن الاثير : الكامل 3/256.

________________________________________

(173)

لمّا خرج قريب وزحاف الطائي فاعترضا الناس فقتلا شيخاً ناسكاً إلى آخر مامرّ في خروجهم ، انّه لمّا بلغ أعمالهم أبا بلال اعترض عليهم ، فقال : قريب لا قرّبه الله ، وزحاف لا عَفا الله عنه ، ركباها عشواء مظلمة (يريد اعتراضهما الناس).

 

مخطّط زياد لاستئصال الخوارج :

    كان لزياد بن أبيه اُسلوباً في استئصال الخوارج وهو يتلخّص في أمرين :

    1 ـ إذا وقف على خارجي في قبيلة وثب على جميعهم ، وقد خطب يوماً وقال : ألا ينهى كلّ قوم سفهاءهم يا معشر الأزد لولا أنّكم أطفأتم هذه النائرة لقلت إنّكم أرّثتموها (1) . فكانت القبائل إذا أحسّت بخارجيّ فيهم شدّتهم وأتت بهم زياداً.

    2 ـ خرجت طائفة من الخوارج وأخرجوا معهم امرأة ، فظفربها فقتلها ، ثم عرّاها ، فلم تخرج النساء بعد على زياد ، وكنّ إذا دعين إلى الخروج قلن : لولا التعرية لسارعنا.

    كان الحافز لتلك الثورات والانتفاضات ـ التي كانت تتضمّن التضحية بالنفس والنفيس ـ هو الاعتقاد الجدّي ، بأنّ الحكومات القائمة ، حكومات كافرة ، اُسّست باسم الإسلام ولكن انحرفت عن الخط الصحيح له ، فالأمويّون باعتبار اشاعة الظلم و الفساد بينهم ، خرجوا عن ربقة الإسلام ، ودخلوا في الكفر ، وهم كافرون ، كما أنّ المؤيّدين لهم مثلهم أيضاً كفرة ، فالخلافات والحكومات كلّها كافرة ، والدار دار كفر ، ويجب عليهم جهاد الكفّار (2) .

________________________________________

    1 ـ أرّث : أوقد نار الفتنة.

    2 ـ يعلم ذلك من خطب أمرائهم ورؤسائهم.

________________________________________

(174)

    كان هذا هو الحافز لتلك الثورات والانتفاضات الفاشلة ، فلو وجدنا في صحيفة حياة الخوارج نقطة بيضاء فهذه النقطة المشعّة التي اعترف بها الإمام عليّ عند توصيفهم بقوله ، « لا تقتلوا الخوارج من بعدي ، فإنّه ليس من طلب الحق فأخطاه كمن طلب الباطل فأصابه » (1) .

    فإنّهم كانوا يرون باُمّ أعينهم ، كيف شاع الفساد ، ودبّ العيث بين الحكّام ، فركبت اغيلمة بني اُميّة على رقاب الناس ، واستأثروا بالفيء ، فكان ذلك هو السبب لقيام لفيف منهم ضدّ الحكومات ، وأما مسألة التحكيم التي كانت هي المستمسك الأوّل للمخالفة فكأنها صارت منسية أو تناساها القوم ، فكانوا يبّررون قيامهم بأنّهم بصدد بسط العدل والقسط وازالة الظلم والجور عن المجتمع وإعادة الصلاح والفلاح إلى الساحة الاسلامية.

    ولكن لم يكن النجاح حليفاً لهم ، لأنّهم راهنوا في الساحة السياسية على جوادين خاسرين.

    أحدهما : الاعتماد على الأساليب الاجرامية للنيل بالهدف ، وكأنّهم كانوا ينتحلون مبدأ « الغايات تبرّر الوسائل ».

    الثاني : المظاهرة بالعداء لعليّ وأهل بيته.

    أمّا الأوّل : فكانوا يستعرضون الناس ويفّتشون عن عقائدهم ، ثم يقتلون الأبرياء ، بحجّة أنّهم لم يكفّروا عثمان وعليّاً ، أو غيرهما ممّن كانوا يخالفونهم ، وهذا هو الذي صار سبباً لرغبة الناس عنهم ، وعدم ايوائهم بل طردهم والتعاون مع الحكومات ضدّهم في بعض الموارد ، إذ كيف يصحّ لمسلم أن يشهر سيفه ، ويعترض الطريق ، ويفّتش عن العقائد التي لاصلة لها بالإسلام الذي جاء به النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا الإسلام معقود بها ، ولا هي حد الكفر

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 61.

________________________________________

(175)

والإسلام ، فاتّخاذ هذه الأساليب الشريرة ، التي تعرّفت عليها في بعض الانتفاضات ، صار سبباً لخسرانهم وخيبتهم وإن كان بعض الفرق بريئاً منها ، لكن الكلّ أخذ بجرم الجزء ، والجار بذنب الجار.

    وقد خلّفت هذه الأعمال الاجرامية آثار سيّئة فصار لفظ « الحرورية » مساوياً لسفك الدم و قطع الطريق ، وكان الناس يتوسّلون للاخافة بهذا اللفظ ويقولون : حروري!! مكان الحرامي!!

    وأمّا الثاني : فلأنّ المظاهرة ضدّ عليَّ ، ونصب عدائه و أهل بيته ليس بأمرهيّن ، وكيف لا يكون كذلك ، وقد عجنت دماء ونفوس المسلمين بحبّهم فهم كانوا يتلون قول الله سبحانه في الذكر الحكيم : ( قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ اَجراً إلاّ المَوَدَةَ في القُرْبى ) (1) . فهل يمكن لجماعة تتظاهر بكفر عليّ وأولاده ، وتنصب عدائهم ، ان يكون لهم رصيد شعبي؟ كلاّ ، ولا ، فلأجل ذلك خسروا في انتفاضاتهم ، حتى بوجه الطغاة.

    تعرب انتفاضاتهم عن أنّ الحكومة الأموية كانت تستخدم شيعة العراق في بعض الأحيان لقتال الخوارج ، فكأنّها كانت تضرب عصفورين بحجر واحد ، فإنّ الطائفتين كانا من أعداء الحكومة الأموية ، فضرب أحدهما بالاُخرى كان متنفّساً لها (2) .

    ومع الاعتراف ببراعتهم في النقد والاعتراض ، وتملّكهم القدرة على التنظيم و التخطيط ، لكن كانت انتفاضاتهم المتفرّقة والمبعثرة في الرقعة الإسلامية ، كانت أشبه بالثورات العشوائية ، إذ لم تكن هناك قيادة موحّدة تنبثق منها الثورات ، وتستثمر هذا الجمهور لتحقيق النصر النهائي ، فالحجر الأساس

________________________________________

    1 ـ الشورى : 23.

    2 ـ لا حظ خروج فروة بن نوفل في تاريخ الطبري 4/126.

________________________________________

(176)

في نجاح الثورة و الانتفاضة وإن طالت مدّتها ، هو وجود قيادة موحّدة سرّية ، ينبعث منها الأمر والنهي ، وقد كان القوم يفقدون ذلك الأمر المهمّ.

    هذه نبذة خاطفة عن انتفاضات هؤلاء في عصر معاوية ، وأمّا ما قاموا به في عصر عبدالله بن الزبير ، وخلافة عبدالملك ، وخلافة هشام بن عبدالملك ، إلى أواخر العهد الأموي ، فحدّث عنه ولاحرج ، فهي مليئة بالانتفاضات والمعارك الدموية المريرة بين فترة واُخرى ، ومن أراد الاحاطة بها فليرجع إلى مظانّها في كتب التاريخ.

    إلاّ أنّا نشير إلى بعض الانتفاضات التي قام بها بعض رؤسائهم بعد عصر معاوية كنافع بن الأزرق ونجدة بن عامر الحنفي ، وغيرهم ممّن صاروا من رؤساء المذهب ، وأصحاب المنهج بين الخوارج ، فإنّ هؤلاء وإن كانوا قادة عسكريين إلاّ أنّهم كانوا أيضاً مرشدين لأتباعهم ، ولهم آراؤهم في المذهب ، وندرس كلّ ذلك ببيان فرقهم الكثيرة في الفصل القادم. وبذلك بيّنا الظروف التي كانت سبباً لنشوء المذاهب في هذه الفرقة.

________________________________________

(177)

الفصل التاسع

ألقاب الخوارج وفرقهم

 

________________________________________

(178)

________________________________________

(179)

    للخوارج ألقاب عديدة فمن ألقابهم « الخوارج » لخروجهم على عليّ بن أبي طالب ، و « المحكِّمة » ، لكون شعارهم : « لا حكم إلاّ لله » ، و« الحرورية » لنزولهم بحروراء في أوّل أمرهم ، و« الشُراة » لقولهم : شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بِعْناها بالجنّة ، و« المارقة » لأنّهم مرقوا من الدين كما يَمْرق السهم من الرميّة ـ حسب توصيف الرسول لهم ـ وخرجوا منه ، والفرقة الباقية اليوم أعني الاباضية يفسّرون الخروج بالخروج عن الدين ويخصّون اللقب بالطوائف المنحرفة الذين خرجوا في عصر الأمويين ، وكانوا يعترضون الطريق ويقتلون الأبرياء من غير جرم وسيوافيك أنّ التخصيص بلاوجه.

    وأمّا فرقهم ، فقد ذكر البغدادي لهم عشرين فرقة ، بل أزيد ، وهذه أسماؤهم :

    1 ـ المحكّمة 2 ـ الأزارقة 3 ـ النجدات 4 ـ الصفرية 5 ـ العجاردة ، المفترقة إلى : 6 ـ الخازنية 7 ـ الشعيبية 8 ـ المعلومية 9 ـ المجهولية 10 ـ أصحاب طاعة لايراد الله تعالى بها 11 ـ والصلتية 12 ـ الاخنبسية 13 ـ الشبيبية 14 ـ الشيبانية 15 ـ المعبدية 16 ـ الرّشيدية

 

________________________________________

(180)

    17 ـ المكرمية 18 ـ الحمزية 19 ـ الشمراخية 20 ـ الإبراهيمية 21 ـ الواقفية 22 ـ الاباضية (1) .

    ولا يخفى أنّ الفرق حسب ما ذكرها تزيد على عشرين ، ولو لم تعد العجاردة فرقة مستقلّة باعتبار أنّها مقسّمةً لأقسام كثيرة يكون عدد الفرق « 21 » فرقة.

    ثمّ قال البغدادي : « الاباضية » منهم افترقت فرقاً ، معظمها فريقان « حفصية » و« حارثية » ، وقال : فأمّا « اليزيدية » من الاباضية ، و« الميمونية » من العجاردة ، فهما فرقتان من غلاة الكفر الخارجين عن فرق الاُمّة.

    وأمّا الأشعري فقد ذكر لهم خمس عشرة فرقة ثم ذكر الفرق المتشعّبة منها وهي فرق كثيرة (2) .

    وقد ذكر المقريزي في خططه للقوم ستاً وعشرين فرقة (3) .

    وذكر الشهرستاني لهم ثمانية فرق ، وإليك أسماؤها :

    1 ـ المحكّمة الاُولى 2 ـ الأزارقة 3 ـ النجدات 4 ـ البيهسية 5 ـ العجاردة 6 ـ الثعالبة 7 ـ الاباضية 8 ـ الصفرّية (4) .

    ولكن الحق ، إنّ اُصول الفرق قليلة جدّاً ، وقد ذكر الأشعري أنّ اُصول أربعة وهي : الأزارقة ، النجدية ، الاباضية ، والصفرية ، والأصناف الاُخرى تفرّعوا من الصفرية (5) .

    ويظهر من المبرّد في كامله ، أنّ اُصول الفرق هي ثلاثة :

________________________________________

    1 ـ البغدادي : الفّرق بين الفرق 72.

    2 ـ الأشعري : المقالات 1/86 ـ 131.

    3 ـ تقي الدين المقريزي : الخطط 2/254 ـ 255.

    4 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/114 ـ 138.

    5 ـ الأشعري : المقالات : 1 / 101.

(181)

    الأزارقة ، الاباضية ، البيهسية ، وأمّا الصفرية والنجدية فكانوا يقولون بقول ابن أباض (1) .

    ولعلّ ما ذكره الأشعري في بيان اُصول فرقهم أقرب ، كما يظهر من دراسة مذهبهم ونحن نذكر الفرق الأربعة التي ذكرها الأشعري ، ونحيل بيان سائر الفرق إلى كتب المقالات والفرق ، خصوصاً المقالات للأشعري ، والفَرق بين الفِرق للبغدادي ، والملل و النحل للشهرستاني ، وانّا ضربنا الصفح عن بيان فرقهم عامّة لأنّهم قد هلكوا ولم يبق منهم على أديم الأرض سوى فرقة واحدة هي الاباضية وأقاويلها أقرب إلى أقاويل سائر المسلمين. ولأجل ذلك نرى أنّ أبا بيهس يصف نافعاً بأنّه غلى ، ويصف عبد الله بن اباض بأنّه قصَّر ، وسوف يظهر غلوّ الأوّل وتقصير الثاني حسب تعبير أبي بيهس ، وسيوافيك نصّه في محلّه.

    والعجب أنّ هذه الفرق ظهرت في زمان واحد ، فصار للقوم أئمّة أربعة ، كلّ يدعو إلى نفسه.

    وكانت الخوارج على رأي واحد إلى عصر ابن الزبير وبعد افتراقهم عنه حصل هناك اختلاف بين الأزارقة والنجدية كما ستعرف وصارت فرقتين ذاتي أمامين ، ولم يكن لهم إلى عهد عبدالله بن الزبير إلاّ اُصول بسيطة وهي :

    1 ـ اكفار مرتكب الكبيرة.

    2 ـ انكار مبدأ التحكيم.

    3 ـ تكفير عثمان وعليّ ومعاوية وطلحة والزبير ومن سار على دربهم ورضى بأعمال عثمان وتحكيم عليّ ، على هذه الاُصول نشأوا إلى عهد ابن الزبير.

________________________________________

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/214.

________________________________________

(182)

    قال الكعبي : إنّ الذي يجمع الخوارج إكفار عليّ وعثمان و الحكمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضى بتحكيم الحكمين ، والخروج على الإمام الجائر وإكفار من ارتكب الذنوب (1) .

    وقال الأشعري : أجمعت الخوارج على إكفار عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لأنّه حكّم ، وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا. وأجمعوا على أنّ كلّ كبيرة كفرٌ إلاّ النجدات ، فإنّها لاتقول بذلك ، وأجمعوا على أنّ الله سبحانه يعذّب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلاّ النجدات (2) .

    وما ذكره من الاستثناء دليل على أن أكثر هذه الاُصول برزت بينهم في العصر الزبيري وما بعده ، لا في عهد الإمام علي ولا في عهد معاوية.

    إذا وقفت على ذلك فلنشرع في بيان الفرق الأربعة التي ذكرها الأشعري ونترك بيان عداها إلى الكتب المعدّة لذلك.

________________________________________

    1 ـ البغدادي : الفّرق بين الفِرق 1/73 نقلا عن الكعبي.

    2 ـ الأشعري : مقالات الاسلاميين 1/86.

________________________________________

(183)

الفرقة الاُولى :

الازارقة

أتباع نافع بن الأززق المقتول سنة 65 :

    لمّا هلك معاوية ، تنّفس أهل الكوفة الصعداء ، فاجتمعت شيعتهم على تسليم مقاليد الخلافة للحسين ( عليه السَّلام ) فبايعوه وكاتبوه ، واستقدموه حتى يتسلّم الأمر ، فلمّا غادر الحسين المدينة و مكّة ، متوجّهاً إلى العراق خذلته الشيعة وقصّروا في نصرته ، فلمّا بلغهم قتل الحسين واستشهاده ، قام أهل المدينة بخلع يزيد عن الخلافة وأخرجوا واليه مروان بن الحكم عن المدينة ، ثمّ إنّ عبدالله بن الزبير استغلَّ الظروف ، فدعا إلى البيعة لنفسه من داخل البيت الحرام ، وكانت نتيجة ذلك أن طرد عمّال يزيد من أرض الحجاز ، فخضعت المنطقة كلّها لعبدالله بن الزبير ، ثمّ إنّ يزيد بن معاوية لمّا وقف على خطورة الموقف بعث بأشقى عُمّالِه وأغلظهم « مسلم بن عقْبَة » إلى المدينة فلمّا

 

________________________________________

(184)

ورد مدينة الرسول ، استباح أموالهم ونفوسهم وأعراضهم ثلاثة أيام ، فقتل في ذلك آلافاً من الأبرياء ونهبت الأموال واستبيحت الأعراض إلى درجة لم يذكر التاريخ إلى يومه مثيلا لها ، ثمّ توجّه مسلم إلى مكّة للسيطرة عليها ، فلم يصل إليها حيّاً. ومات في أثناء الطريق ، فتولّى القيادة بعده الحصين بن النمير السكوني ، وحاصر مكّة ، وفي أثناء المحاصرة ورد نعي يزيد في ربيع الآخر عام 64 ، فاضطرّ الحصين إلى العودة إلى الشام ، ولمّا هلك يزيد ، قام بأعباء الخلافة معاوية بن يزيد ، ولكّنه مات بعد أن خلع نفسه عن الخلافة ، فرأى البيت الأموي خطورة الموقف ، فأجمعوا على البيعة لمروان بن الحكم ، وانتقل الملك من البيت السفياني إلى البيت المرواني عام 65 ، وكان ابن الزبير مستولياً على الحجاز عامّة وفي ضمن ذلك ، الحرمان الشريفان.

 

استغلال الخوارج الظروف الحَرِجَة :

    وقد استغلّت الخوارج تلك الظروف الحرجة بعدما لاقوا من عبيدالله بن زياد مالاقوا وقرّروا الانظمام لعبدالله بن الزبير لمحاربة الشاميين :

    قال الطبري : لمّا ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال ماركب ، وقد كان قبل ذلك لايكف عنهم ولايستبقيهم ، غير أنّه بعد ما قتل أبا بلال ، تجرّد لاستئصالهم وهلاكهم واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزبير بمكة ... فقال نافع بن الأزرق للخوارج : إنّ الله قد أنزل عليكم الكتاب ، وفرض عليكم فيه الجهاد ، واحتجّ عليكم بالبيان ، وقد جرّدَ فيكم السيوف أهلُ الظلم ، واُولوا العدى والغشم ، وهذا من قد ثار بمكة ، فاخرجوا بنا نأتي البيت ، ونلقي هذا الرجل فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو ، وإن كان على غير رأينا ، دافعنا عن البيت ما استطعنا ، ونظرنا بعد ذلك في اُمورنا ، فخرجوا حتى قدموا على

 

________________________________________

(185)

عبدالله بن الزبير ، فسرّ بمقدمهم ونبَّأهم أنّه على رأيهم ، وأعطاهم الرضا من غير توقّف ولا تفتيش ، فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشام عن مكّة.

    ثمّ إنّ القوم لقى بعضهم بعضاً فقالوا : إنّ الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر ، تقاتلون مع رجل لاتدرون لعلّه ليس على رأيكم ، إنّما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه ينادي : يالثارات عثمان ، وسلوه عن عثمان ، فإن برئ منه كان وليّكم ، وإن أبى كان عدوّكم. فمشوا له فقالوا له : أيّها الإنسان إنّا قاتلنا معك ولم نفتّش عن رأيك ، أمنّا أنت أم من عدوّنا فأخبرنا : ما مقالتك في عثمان؟

    فنظر فإذا من حوله من أصحابه قليل ، فقال لهم : إنّكم أتيتموني ، فصادفتموني حين أردت القيام ، ولكن روحوا إليّ العشيّة ، حتى اعلمكم من ذلك الذي تريدون ، فانصرفوا ، وجاءت الخوارج وقد أقام أصحابه حوله وعليهم السلاح ، وقامت جماعة منهم عظيمة على رأسه ، بأيديهم الأعمدة ، فقال ابن الأزرق لأصحابه : خشى الرجل غائلتكم وقد ازمع بخلافكم ، واستعدّ لكم ماترون. فدنا منه ابن الأزرق فقال له : يا ابن الزبير اتّق الله ربّك وابغض الخائن المستأثر ، وعادِ أوّل من سنّ الضلالة وأحدث الأحداث ، وخالف حكم الكتاب ، فإنّك إن تفعل ذلك ، ترضي ربّك ، فتنج من العذاب الأليم نفسك ، فإن تركت ذلك ، فأنت من الذين استمتعوا بخلاقهم وأذهبوا في الحياة الدنيا طيّباتهم.

    ثمّ أمر ابن الأزرق عبيدة بن هلال أن يتكلّم عنهم بما يريدون ، فقال : إنّ الناس استخلفوا عثمان بن عفان فحمى الحمى ، فآثر القربى ، واستعمل الفتى ، ورفع الدرة ، ووضع السوط ، ومزّق الكتاب ، وحقَّر المسلم ، وضرب منكري

 

________________________________________

(186)

الجور ، وآوى طريد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وضرب السابقين بالفضل وسيّرهم وحرمهم ، ثم أخذ في الله الذي آفاءه عليهم فقسّمه بين فسّاق قريش ، ومُجّان العرب ، فصارت إليه طائفة من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته ، لايبالون في الله لومة لائم ، فقتلوه ، فنحن لهم أولياء ، ومن ابن عفان وأوليائه براء ، فما تقول أنت يا ابن الزبير؟

    وروى المبرّد في الكامل : ان ابن الأزرق سأل ابن الزبير في الغداة الذي جاء إليه وقال : ما تقول في الشيخين؟ قال : خيراً ، قالوا : فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى ، وآوى الطريد ، وأظهر لأهل مصر شيئاً ، وكتب بخلافه وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين؟

    وما تقول في الذي بعده ، الذي حكّم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولانادم؟

    وما تقول في أبيك وصاحبه وقد بايعا عليّاً وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر ، ثم نكثا بِعَرَض من أعراض الدنيا و أخرجا عائشة تقاتل ، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن ، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة ، فإن أنت كما نقول فلك الزلفة عندالله.

    ثمّ إنّ ابن الزبير ترك التقية وأصحر بالعقيدة بما يخالف عليه الخوارج في حق عثمان وحق أبيه ، فلمّا سمع ذلك الخوارج تفرّقوا عنه (1) .

    فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبدالله بن صفار السعدي من بني صريم ، وعبدالله بن اباض أيضاً من بني صريم ، وحنظلة بن بيهس ، وبنو الماحوز ، عبدالله وعبيدالله والزبير من بني سليط ، حتى أتوا البصرة.

    وانطلق أبو طالوت وعبدالله بن ثور(أبوفديك) وعطية بن الأسود

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/436 ـ 438. المبرد : الكامل : 2/203 ـ 208.

________________________________________

(187)

اليشكري إلى اليمامة فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت ، ثم أجمعوا بعد ذلك على إمامة نجدة بن عامر الحنفي وذلك في سنة 64 (1) .

    وقال الشهرستاني : كان نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكّة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرّقا عنه ، فذهب نافع إلى البصرة ثم الأهواز ، وذهب نجدة إلى اليمامة. قال نافع : التقيّة لاتحلّ ، والقعود عن القتال كفر ، فخالفه نجدة ، وقال بجواز التقية متمسّكاً بقوله تعالى : ( إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاة ) (2) . وبقوله تعالى : ( وَ قالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ اِيمانَهُ ) (3) وقال : القعود جائز والجهاد إذا أمكنه أفضل. قال الله تعالى : ( وَ فَضَّلَ اللهُ الُمجاهِدِيْنَ عَلَى القاعِدِيْنَ اَجْراً عَظِيماً ) (4) . (5)

    ولمّا أظهر نافع أراء شاذّة عن الكتاب والسنّة والفطرة الإنسانية ، فارقته جماعة كانوا معه ، منهم « أبو فديك » وعطية الحنفي وراشد الطويل ، وتوجّهوا شطر اليمامة ، فأخبروا نجدة باحداثه وبدعه. فكتب إليه نجدة بكتاب نَقِمَ عليه احداثه واستدلّ بآيات واضحة المعنى ، وأجاب نافع بكتاب وأوّل ما استدلّ به زميله من الآيات ، وكان هو هذا انشقاقاً عظيماً بين الخوارج ، ويعرب عن وحشيّة الأزارقة ، وجمود قلبهم ، ونزع الرحمة منهم ، فكأنّهم جمادات متحرّكة شريرة سجّلوا لأنفسهم في التاريخ أكبر العار ، وأفظع الأعمال إلى حدّ تبّرأ عنهم ، سائر الفرق وليس ذلك ببعيد ، فهؤلاء أتباع المحكّمة الاُولى الذين ذبحوا عبدالله بن خباب وبقروا بطن زوجته المقرب المتم ، تلمس حدّ الشقاء

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/438.

    2 ـ آل عمران : 28.

    3 ـ غافر : 28.

    4 ـ النساء : 95.

    5 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/125.

________________________________________

(188)

من كتاب نجدة إلى نافع ومن اجابة الثاني.

    قال المبرّد : إنّ أصحاب « نجدة » رأوا أنّ نافعاً قد كفَّر القعدة ورأى الاستعراض وقتل الأطفال ، انصرفوا مع نجدة ، فلمّا صار نجدة باليمامة كتب إلى نافع.

 

كتاب نجدة إلى نافع :

    أمّا بعد : فإنّ عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم ، وللضعيف كلأخ البّر ـ تعاضد قوي المسلمين ، و تصنع للأخرق منهم ـ لا تأخذك في الله لومة لائم ، ولاترى معونة ظالم ، كذلك كنت أنت و أصحابك. أو ما تذكّر قولك : لولا انّي أعلم أنّ للإمام العادل أجر رعيّته ، ماتولَّيتُ أمر رجلين من المسلمين. فلمّا شريت نفسك في طاعة ربّك ابتغاء مرضاته ، وأصبت من الحق فصّه (1) ، وركبت مُرّه ، تجرّد لك الشيطان ، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأةً منك ومن أصحابك ، فاستمالك واستهواك وأغواك ، فُغُوِيْتَ ، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه ، من قعدة المسلمين وضَعَفَتهم ، قال الله عزّوجلّ ، وقوله الحق ، ووعده الصدق : ( لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِيْنَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَ رَسُولِهِ ) (2) : ثمّ سمّاهم تعالى أحسن الأسماء فقال : ( ما عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل ) (3) ثم استحللت قتل الأطفال ، وقد نهى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عن قتلهم ، وقال الله جلّ ثناؤه : ( وَ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى ) (4) ، وقال سبحانه في القعدة خيراً ، فقال :

________________________________________

    1 ـ فصّه : كنهه.

    2 ـ التوبة : 91.

    3 ـ التوبة : 91.

    4 ـ الاسراء : 15.

________________________________________

(189)

( وَ فَضَّلَ اللهُ الُمجاهِدِيْنَ عَلَى القاعِدِيْنَ اَجْراً عَظِيماً ) (1) فتفضيله المجاهدين على القاعدين لايدفع منزلة من هو دون المجاهدين ، أو ماسمعت قوله تعالى : ( لا يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَر ) (2) فجعلهم من المؤمنين وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم ، ثمّ إنّك لاتؤدّي أمانةً إلى من خالفك ، والله تعالى قد أمر أن تودّي الأمانات إلى أهلها ، فاتّق الله في نفسك ، واتّق يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ، فإنّ الله بالمرصاد ، وحكمه العدل ، وقوله الفصل ، والسَّلام.

 

اجابة نافع عن كتاب نجدة :

    أمّا بعد : أتاني كتابك تعظني فيه ، وتذكّرني وتنصح لي وتزجرني ، وتصف ما كنتُ عليه من الحق ، و ماكنتُ اُوثره من الصواب ، وأنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

    وعبت على مادِنْتُ ، من إكفار القعدة وقتل الأطفال ، واستحلال الأمانة من المخالفين ، وساُفسّرلك لِمَ ذلك إن شاء الله ....

    أمّا هؤلاء القعدة ، فليسوا كمن ذكرت ممّن كان على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لأنّهم كانوا بمكّة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا ، ولا إلى الاتّصال بالمسلمين طريقاً ، وهؤلاء قد تفقّهوا في الدين ، وقرأوا القرآن ، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم ، قالوا : ( كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ ) (3) . فقال : ( ألَمْ

________________________________________

    1 ـ النساء : 95.

    2 ـ النساء : 95.

    3 ـ النساء : 97.

________________________________________

(190)

تَكُنْ اَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) (1) وقال سبحانه : ( فَرِحَ الُْمخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَ كَرِهُوا أنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ ) (2) وقال : ( وَ جاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرابِ لِيُؤذَنَ لَهُمْ ) (3) فخبّر بتعذيرهم ، وأنّهم كذبوا الله ورسوله ، ثمّ قال : ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أليِمٌ ) (4) فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.

    وأمّا الأطفال ، فإنّ نوحاً نبيّ الله ، كان أعلم بالله منّي ومنك ، وقد قال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الكافِرينَ دَيَّاراً * إنَّكَ اِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلاّ فاجِراً كَفَاراً ) (5) فسمّاهم بالكفر وهم أطفال ، وقبل أن يولدوا ، فكيف كان ذلك في قوم نوح ، ولاتقوله في قومنا ، والله تعالى يقول : ( اَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ اُولئِكُمْ اَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فىِ الزُّبُرِ ) (6) وهؤلاء كمشركي العرب ، لايقبل منهم جزية وليس بيننا وبينهم إلاّ السيف ، والإسلام.

    وأمّا استحلال أمانات من خالفنا فإنّ الله تعالى أحلّ لنا أموالهم ، كما أحلّ دماءهم لنا ، فدماؤهم حلال طلق (7) وأموالهم فيء للمسلمين ، فاتّق الله وراجع نفسك ، فإنّه لا عذر لك الاّ بالتوبة ، ولن يسعك خذلاننا والقعود عنّا وترك ما نهجناه لك من مقالتنا ، والسلام على من أقرّ بالحق و عمل به(8) .

________________________________________

    1 ـ النساء : 97.

    2 ـ التوبة : 81.

    3 ـ التوبة : 90.

    4 ـ التوبة 90.

    5 ـ نوح : 26 ـ 27.

    6 ـ القمر : 43.

    7 ـ يقال : حلال طلق ، أي حلال طيّب.

    8 ـ المبرد : الكامل 2/210 ـ 212 ، ونقلهما ابن أبي الحديد في الشرح لاحظ 4/137 ـ 139.

(191)

    هذا هو نافع بن الأزرق ، وهذا غلو منهجه وتطرّفه الفكري ، حيث يجوّز استعراض الناس والتفتيش عن عقائدهم وقتل الأطفال إلى غير ذلك.

    وأمّا خروجه فقد بسط الكلام فيه المؤرّخون (1) على وجه لايسعنا نقله وإنّما نكتفي بما لخّصه البغدادي.

    قال البغدادي : ثمّ الأزارقة بعد اجتماعها على البدع التي حكيناها عنهم بايعوا نافع بن الأزرق و سمّوه أمير المؤمنين ، وانضمّ إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفاً ، واستولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس و كرمان وجبوا خراجها.

 

رسالة نافع إلى محكّمة البصرة (2) :

    وكتب إلى من بالبصرة من المحكِّمة : أمّا بعد فإنّ الله اصطفى لكم الدين فلاتموتنّ إلاّ وانتم مسلمون ، إنّكم لتعلمون أنّ الشريعة واحدة ، والدين واحد ، ففيم المقام بين أظهر الكفّار ، ترون الظلم ليلا ونهاراً ، وقد ندبكم الله عزّوجلّ إلى الجهاد ، فقال : ( وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّة ) (3) ولم يجعل لكم في التخلّف عذراً في حال من الأحوال فقال : ( انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالا ) (4) وإنّما عذر الضعفاء والمرضى ، والذين لا يجدون ما ينفقون ، ومن كانت اقامته لعلّة ، ثم فضّل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال : ( لا يَسْتَوِى القَاعِدُونَ مِنَ المُمؤْمِنِينَ غَيْرُ اُولِى الضَّرَرِ وَ الُمجاهِدُونَ فِى سَبِيلِ الله ) (5) ، فلا تغتّروا وتطمئنوا إلى الدنيا ، فإنّها غرّارة

________________________________________

    1 ـ ذكر ابن أبي الحديد مفصّل حروب الأزارقة في شرحه ، لاحظ 4/136 ـ 278.

    2 ـ المبرّد : الكامل 2/213.

    3 ـ التوبة : 36.

    4 ـ التوبة : 41.

    5 ـ النساء : 95.

________________________________________

(192)

مكّارة ، لذّتها نافذة ، ونعيمها بائد ، حُفَّتْ بالشهوات اغتراراً ، وأظهرت حَبْرةً (1) وأضمرت عبرة ، فليس آكلُ منها أكلةً تَسرّه ، ولا شاربُ منها شربةً تونقه (2) إلاّ دنابها درجةً إلى أجله ، وتباعد بها مسافة من أمله ، وإنّما جعلها الله دار المتزوّد منها ، إلى النعيم المقيم ، والعيش السليم ، فليس يرضى بها حازم داراً ولا حليم قراراً ، فاتّقوا الله وتزوّدوا ، فإنّ خير الزاد التقوى ، والسلام على من اتّبع الهدى.

    قال المبرّد : لمّا ورد كتابه عليهم وفي القوم يومئذ أبوبيهس هيصم بن جابر الضبعّي ، وعبدالله بن اباض المري ، فأقبل أبوبيهس على ابن أباض فقال : إنّ نافعاً غلا فكفر ، وانّك قصّرت فكفرت تزعم أنّ من خالفنا ليس بمشرك ، وانّما كفّار النعم ، لتمسّكهم بالكتاب ، وإقرارهم بالرسول ، تزعم أنّ مناكحهم ومواريثهم والاقامة فيهم حلّ طلق ، ثم أدلى أبوبيهس برأيه وسيوافيك في محلِّه.

    ويظهر من هذا الكتاب والكتاب الذي كتبه إلى عبدالله بن الزبير (3) : إنّ نافع بن الأزرق كان من المتطرّفين بين الخوارج ، ولم نجد في تاريخ الخوارج أشدّ تطرّفاً منه.

    ثمّ إنّ عامل البصرة يومئذ عبدالله بن الحارث الخزاعي من قبل عبدالله بن الزبير ، فأخرج عبدالله بن الحارث جيشاً مع مسلم بن عبس بن كريز بن حبيب بن عبد شمس لحرب الأزارقة ، فاقتتل الفريقان بدولاب الأهواز ، فقتل مسلم بن عبس وأكثر أصحابه ، فخرج إلى حربهم من البصرة عمربن عبيدالله بن معمر التميمي في ألفي فارس ، فهزمته الأزارقة ، فخرج إليهم حارثة بن بدر الغداني

________________________________________

    1 ـ الحبرة : النعمة.

    2 ـ تونقه : تعجبه.

    3 ـ المبرّد : الكامل 2/212.

________________________________________

(193)

في ثلاثة آلاف من جند البصرة ، فهزمتهم الأزارقة ، فكتب عبدالله بن الزبير من مكّة إلى المهلّب بن أبي صفرة (1) و هو يومئذ بخراسان يأمره بحرب الأزارقة وولاّه ذلك ، فرجع المهلّب إلى البصرة ، وانتخب من جندها عشرة آلاف ، وانضمّ إليه قومه من الأزد فصار في عشرين ألفاً ، وخرج وقاتل الأزارقة وهزمهم عن دولاب الأهواز إلى الأهواز ، ومات نافع ابن الأزرق في تلك الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده عبيدالله بن مأمون التميمي ، وقاتلهم المهلَّب بعد ذلك بالأهواز فقتل عبدالله بن مأمون في تلك الواقعة ، وقتل أيضاً أخوه عثمان بن مأمون مع ثلاثمائة من أشدّ الأزارقة ، وانهزم الباقون منهم إلى أيدج وبايعوا قطريّ بن الفجاءة (2) وسمّوه أمير المؤمنين ، وقاتلهم المهلّب بعد ذلك حروباً سجالا (3) ، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس ، وجعلوها دار هجرتهم ، وثبت المهلَّب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة ، بعضها في أيام عبدالله بن الزبير ، وباقيها في زمان خلافة عبدالملك بن مروان وولاية الحجّاج على العراق ، وقرّر الحجّاج المهلَّب على حرب الأزارقة ، فدامت

________________________________________

    1 ـ هو أبوسعيد : المهلب بن أبي صفرة ـ واسم أبي صفرة ظالم بن سراق ، الأزدي ، من أزد العتيك. كان المهلّب من أشجع الناس. وهو الذي حمى البصرة من الخوارج حتى سمّاها الناس بصرة المهلّب. ولاّه عبدالله بن الزبير خراسان في سنة 65 ، فحارب الأزارقة وأفنى منهم عدداً كثيراً ، ثمّ ولّي قتالهم في عهد عبدالملك ابن مروان ، وفي شهر ذي الحجة من سنة 82 مات (المعارف 399 ، العبر : 1/72 ـ 75 ـ 77 ـ 88 ـ 92 ـ 95).

    2 ـ هو أبو نعامة : قطري بن الفجاءة ، أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك ابن عمرو بن تميم ، خرج في أيام عبدالله بن الزبير وبقي عشرين سنة يسلّم عليه بالخلافة ، وفي أيام عبدالملك بن مروان وجّه إليه الحجاج جيشاً بعد جيش ، وكان آخرها بقيادة سفيان بن الأبرد الكلبي ، فقتله ـ ويقال : عثرت به فرسه فمات ـ وأتى الحجاج برأسه ، وذلك في سنة 79 (المعارف 411 ، العبر : 1/90).

    3 ـ تقول « كانت الحرب بين الفريقين سجالا » تعني أنّ النصر يكون لهذا الفريق مرّة ولذلك مرّة اُخرى ، وأصل السجال جمع سجل و هو الدلو.

________________________________________

(194)

الحرب في تلك السنين بين المهلّب وبين الأزارقة وفرّوافيما بين فارس والأهواز ، إلى أن وقع الخلاف بين الأزارقة ففارق عبد ربّه الكبير قطرياً وصار إلى واد بجيرفت كرمان في سبعة آلاف رجل ، وفارقه عبد ربّه الصغير في اربعة آلاف ، وصار إلى ناحية اُخرى من كرمان ، وبقي قطري في بضعة عشر ألف رجل بأرض فارس ، وقاتله المهلّب بها ، وهزمه إلى أرض كرمان و تبعه وقاتله بأرض كرمان وهزمه منها إلى الري ، ثم قاتل عبد ربّه الكبير فقتله ، وبعث بابنه يزيدبن المهلّب إلى عبد ربّه الصغير فأتى عليه و على أصحابه ، وبعث الحجّاج سفيان ابن الأبرد الكلبي في جيش كثيف إلى قطري بعد أن انحاز من الري إلى طبرستان فقتلوه بها ، وأنفذوا برأسه إلى الحجّاج وكان عبيدة بن هلال اليشكري (1) قد فارق قطريّاً وانحاز إلى قومس ، فتبعه سفيان بن الأبرد وحاصره في حصن قومس إلى أن قتله وقتل أتباعه ، وطهّر الله بذلك الأرض من الأزارقة ، والحمدلله على ذلك (2) .

    وفي الختام نقول : يظهر من كتبه ورسائله أنّ الرجل كان حافظاً للقرآن ، ومقرئاً له ، ويؤيّد ذلك ما نقله السيوطي أنّ نافع بن الأزرق لمّا رأى عبدالله بن عباس جالساً بفناء الكعبة ، وقد اكتنفه الناس ويسألونه عن تفسير القرآن ، فقال لنجدة بن عويمر الحروري : قم بنا إلى هذا الذي يجتري على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله ، فتفسّرها لنا وتأتينا بمصادقه من كلام العرب ، فإنّ الله تعالى أنزل القرآن بكتاب عربي مبين ، فقال ابن عباس : سلاني عمّا بدالكم ، فقال نافع : أخبرني عن قول

________________________________________

    1 ـ عبيدة بن هلال : أحد بني يشكر بن بكر بن وائل.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/476. والجزري : الكامل 3/349. ابن عبد ربه : العقد الفريد 1/95 ـ 121.

________________________________________

(195)

الله تعالى : ( عن الَيمينِ وَ عَنِ الشّمالِ عِزِين ) (1) .

    قال : العزون حلق الرقاق ، فقال : هل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :

فجاءوا يهرعون إليه حتى                 يكونوا حول منبره عزينا

    ثم سألاه عن أشياء كثيرة عن لغات القرآن الغريبة ، ففسّرها مستشهداً بالشعر الجاهلي ، وربّما تبلغ الأسئلة والأجوبة إلى مائتين ، ولو صحّت تلك الرواية لدلّت على صلة السائلين بالقرآن صلة وثيقة ، كما تدلّ على نبوغ ابن عباس في الأدب العربي وإلمامه بشعر العرب الجاهلي حيث استشهد على كل لغة فسّرها بشعر عنهم ، فجاءت الأسئلة والأجوبة في غاية الاتقان (2) .

    إنّ ابن الأرزق كان يتعلّم من ابن عباس ما يجهله من مفاهيم القرآن ، نقل عكرمة عن ابن عباس انّه بينما كان يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق ، فقال له : يا ابن عباس تفتي الناس في النملة و القملة؟ صف لي إلهك الذي تعبد ، فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله ، وكان الحسين بن عليّ جالساً ناحية فقال : إليّ يا ابن الأزرق ، قال ابن الأزرق : لست إيّاك أسأل ، قال ابن عباس : يا ابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة وهم ورثة العلم ، فأقبل نافع نحو الحسين ، فقال له الحسين : يا نافع إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الالتباس ، سائلا ناكباً عن المنهاج ، ظاعناً بالاعوجاج ، ضالاّ عن السبيل ، قائلا غير الجميل.

    يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه و اُعرّفه بما عرّف به نفسه : لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، وبعيد غير منقص ،

________________________________________

    1 ـ المعارج : 27.

    2 ـ السيوطي الاتقان 1/382 ـ 416 ط دار ابن كثير دمشق بيروت ، تحقيق الدكتور مصطفى.

________________________________________

(196)

يوحّد ولا يتبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال.

    فبكى ابن الأزرق ، وقال : يا حسين ما أحسن كلامك؟ قال له الحسين : بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر وعليّ؟ قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منارالإسلام ونجوم الأحكام. فقال له الحسين : إنّي سائلك عن مسألة. قال : اسأل ، فسأله عن هذه الآية : ( وَ أمّا الْجِدارَ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ ) (1) .

    يا ابن الأزرق من حفظ في الغلامين؟ قال ابن الأزرق : أبوهما. قال الحسين : فأبوهما خير أم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال ابن الأزرق : قد أنبأنا الله تعالى أنّكم قوم خصمون (2) .

 

آراء الأزارقة وعقائدهم :

    إنّ للأزارقة أهواء متطرّفة وبدعاً فظيعة وقد تشترك في بعضها مع سائر الفرق :

    1 ـ قولهم : إنّ مخالفيهم من هذه الاُمّة مشركون ، وكانت المحكّمة الاُولى يقولون : إنّهم كفرة لامشركون.

    2 ـ قولهم : إنّ القعدة ـ ممّن كان على رأيهم ـ عن الهجرة إليهم مشركون.

    3 ـ اوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادّعى أنّه منهم : أن يدفع إليه أسيراً من مخالفيهم ويأمره بقتله ، فإن قتله صدَّقوه في دعواه أنّه منهم ، وإن لم

________________________________________

    1 ـ الكهف : 82.

    2 ـ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق. قسم حياة الإمام الحسين : 158. بتحقيق محمد باقر المحمودي ، والمجلسي : بحار الأنوار 4/297 (ذيل الحديث يحتاج إلى توضيح).

________________________________________

(197)

يقتله قالوا : هذا منافق مشرك ، وقتلوه.

    4 ـ اباحة قتل أطفال المخالفين ونسائهم ، والمقصود : المسلمون ، وزعموا أنّ الأطفال مشركون ، وقطعوا بأنّ أطفال مخالفيهم مخلّدون في النار مع آبائهم.

    5 ـ اسقاط الرجم عن الزاني ، إذ ليس في القرآن ذكره ، واسقاط حدّ القذف عمّن قذف المحصنين من الرجال (1) مع وجوب الحدّ على قاذف المحصنات من النساء.

    6 ـ إنّ التقيّة غير جائزة في قول ولا عمل.

    7 ـ تجويزهم أن يبعث الله نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته ، أو كان كافراً قبل البعثة.

    8 ـ اجتمعت الأزارقة على أنّ من ارتكب الكبيرة كفر كفر ملّة ، خرج به عن الاسلام جملة ، ويكون مخلّداً في النار مع سائر الكفّار ، واستدلّوا بكفر ابليس وقالوا : ما ارتكب إلاّ كبيرة ، حيث اُمر بالسجود لآدم ( عليه السَّلام ) فامتنع ، وإلاّ فهو عارف بوحدانيّة الله تعالى (2) .

    9 ـ إنّ دار مخالفيهم دار كفر ، وقالوا : إنّ مخالفيهم مشركون فلا يلزمنا اداء أماناتهم إليهم ، وسيوافيك تحليل عقائدهم في فصل خاص.

________________________________________

    1 ـ بحجّة أنّه سبحانه قال : ( والّذين يَرْمُونَ الُمحَصَنات ) (النور : 4) ولم يقل : والذين يرمون المحصنين.

    2 ـ البغدادي : الفَرق بين الفرِق : 83 ، الشهرستاني : الملل والنحل 1/121 ـ 123.

________________________________________

(199)

الفرقة الثانية :

النجديَّة

    وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، ومن الغريب أنّه كان للخوارج إمامان في وقت واحد ، إمام في البصرة وهو نافع بن الأزرق ، وإمام في اليمامة وأطرافها وهو نجدة بن عامر ، وذلك انّه لمّا أظهر نافع آراءه المستهجنة الشاذّة كالبراءة من القعدة حتّى سمّاهم مشركين ، واستحلّ قتل أطفال مخالفيه ونسائهم ، تبرّأ منه عدّة من الخوارج ، منهم أبو فديك ، وعطية الحنفي ، وراشد الطويل ، ومقلاص ، وأيّوب الأزرق ، فذهبوا إلى اليمامة ، فاستقبلهم نجدة بن عامر في جند من الخوارج يريدون اللحوق بعسكر نافع ، فأخبروهم باحداث نافع وردّوهم إلى اليمامة ، وبايعوا بها نجدة بن عامر ، وكفّروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم ، وأكفروا من قال بإمامة نافع ، وأقاموا على إمامة نجدة إلى أن اختلفوا عليه في اُمور نقموها منه.

 

________________________________________

(200)

    ثمّ الذين اختلفوا عليه بعد ما اجتمعوا حوله صاروا ثلاث فرق :

    1 ـ فرقة صارت مع عطيّة بن الأسود الحنفي ففارقهم إلى سجستان ، وتبعهم خوارج سجستان ، ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت : عطويّة.

    2 ـ فرقة صارت مع أبي فديك وهم الذين قتلو نجدة.

    3 ـ وفرقة عذروا نجدة في ما أحدثه من البدع وأقاموا على إمامته.

    والذين خالفوه نقموا عليه الاُمور التالية :

    الف ـ إنّه بعث جيشاً في غزو البّر وجيشاً في غزو البحر ، ففضّل الذين بعثهم في البّر على الذين بعثهم في البحر في الرزق والعطاء.

    ب ـ بعث جيشاً فأغاروا على مدينة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وأصابوا منها جارية من بنات عثمان ، فكتب إليه عبدالملك في شأنها ، فاشتراها نجدة من الذي كانت في يديه ، وردّها إلى عبدالملك بن مروان ، فقالوا له : إنّك رددت جارية لنا على عدوّنا.

    ج ـ عذر أهل الخطأ في الاجتهاد إذا كان سببه الجهل وذلك يعود إلى الحادثة التالية :

    بعث ابنه المضرج مع جند من عسكره إلى القطيف ، فأغاروا عليها ، وسبوا منها النساء والذرّية وقوَّموا النساء على أنفسهم ، فنكحوهنّ قبل اخراج الخمس من الغنيمة ، وقالوا : إن دخلت النساء في قسمنا فهو مرادنا ، وإن زادت قيمتهنّ على نصيبنا من الغنيمة غرمنا الزيادة من أموالنا ، فلمّا رجعوا إلى « نجدة » وسألوه عمّا فعلوا من وطء النساء ، ومن أكل طعام الغنيمة قبل اخراج الخمس منها ، وقبل قسمة أربعة أخماسها بين الغانمين ، قال لهم : لم يكن لكم ذلك ، فقالوا : لم نعلم أنّ ذلك لا يحلّ لنا ، فعذَّرهم بالجهالة. ثم قال : إنّ الدين

(201)

أمران :

    أحدهما : معرفة الله تعالى ، ومعرفة رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، وتحريم دماء المسلمين ـ يعنون موافقيهم ـ والاقرار بما جاء من عند الله جملة ، فهذا واجب على الجميع ، والجهل به لايعذر فيه.

    والثاني : ما سوى ذلك ، فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليه الحجّة في الحلال والحرام.

    قالوا : ومن جوّز العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام قبل قيام الحجّة عليه فهو كافر.

    د ـ تولّى أصحاب الحدود من موافقيه وقال : لعلّ الله يعذّبهم بذنوبهم في غير نار جهنّم ويدخلهم الجنّة ، وزعم أنّ من خالفه في دينه يدخل النار.

    هـ ـ أسقط حدّ الخمر (1) .

    و ـ من نظر نظرة صغيرة ، أو كذب كذبة صغيرة ، وأصرّ عليها فهو مشرك ، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصرّ عليه فهو مسلم ، إذا كان من موافقيه على دينه.

    ولهذه البدع ، استتابه أكثر أتباعه وقالوا : اُخرج إلى المسجد ، وتب من احداثك في الدين ، ففعل ذلك.

    ثمّ إنّ قوماً منهم ندموا على استتابته ، وانضمّوا إلى العاذرين له ، وقالوا له : أنت الإمام ولك الإجتهاد ولم يكن لنا أن نستتيبك ، فتب من توبتك ، واستتب الذين استتابوك وإلاّ نابذناك ، ففعل ذلك ، فافترق عليه أصحابه ، وخلعه أكثرهم ، وقالوا له : اختر لنا إماماً ، فاختار « أبافديك ». وصار « راشد الطويل »

________________________________________

    1 ـ هذا ما يقوله البغدادي ، ويقول الشهرستاني : غلظ على الناس من حد الخمر تغليظاً شديداً ، والظاهر صحّة الثاني لكون نجدة من الخوارج.

________________________________________

(202)

(أحد رؤساء الخوارج) مع « أبي فديك » يداً واحدة ، فلمّا استولى أبو فديك على اليمامة علم أنّ أصحاب نجدة إذا عادوا من غزواتهم أعادوا نجدة إلى الإمارة فطلب نجدة ليقتله فاختفى نجدة في دار بعض عاذريه ، ينتظر رجوع عساكره الذين كان قد فرّقهم في سواحل الشام و نواحي اليمن ، ونادى منادي « أبي فديك » : من دلّنا على « نجدة » فله عشرة آلاف درهم ، وأي مملوك دلَّنا عليه فهو حر ، فدلّت عليه أمة ، فأنفذ أبوفديك « راشد الطويل » في عسكر إليه فكبسوه وحملوا رأسه إلى « أبي فديك ».

    ولما قُتِلَ نجدة فصارت النجدات بعده ثلاث فرق :

    1 ـ فرقة اكفرته وصارت إلى أبي فديك ، كراشد الطويل ، وأبي بيهس ، وأبي الشمراخ وأتباعهم.

    2 ـ فرقة عذَّرته فيما فعل ، وهم النجدات.

    3 ـ وفرقة من النجدات هاجروا من اليمامة ، وكانوا بناحية البصرة شكوا فيما حكي من احداث نجدة وتوقّفوا في أمره وقالوا : لاندري هل أحدث تلك الاحداث أم لا؟ فلانبرأ منه إلاّ باليقين.

    وبقى أبوفديك بعد قتل نجدة إلى أن بعث إليه عبدالملك بن مروان ، عمربن عبيدالله بن معمر التميمي في جند فقتلوا أبا فديك ، وبعثوا برأسه إلى عبدالملك بن مروان ، فهذه قصة النجدات (1) .

    وبالامعان فيما نقلنا عنه من الآراء يظهر مذهب النجدية ، وأنّهم كانوا أخف وطأة من الأزارقة وتتلخّص الأفكار التي امتازوا بها عن غيرهم من فرق الخوارج في الاُمور التالية :

________________________________________

    1 ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق 87 ـ 90 ; الأشعري : مقالات الإسلاميين 1/89 ; الشهرستاني : الملل و النحل 1/122 ـ 125.

________________________________________

(203)

    1 ـ التقيّة جائزة (1) .

    2 ـ تعذير قَعَدة المسلمين وضَعَفَتهم.

    3 ـ تحريم قتل الأطفال.

    4 ـ لزوم رد أمانة المخالف (2) .

    5 ـ لا حاجة للناس إلى إمام قط ، وإنّما عليهم أن يتناصحوا فيما بينهم ، فإن هم رأوا أنّ ذلك لايتم إلاّ بإمام يحملهم عليه فأقاموه ، جاز (3) .

    6 ـ تولّي أصحاب الحدود والجنايات من موافقيه.

    7 ـ من نظر نظرة صغيرة ، أو كذب كذبة صغيرة وأصرّ عليها فهو مشرك (ولعلّه في حقّ مخالفيهم) ومن زنى ، وسرق ، وشرب الخمر غير مصرّ عليه فهو مسلم ، إذا كان من موافقيه على دينه (4) .

    هذه آراؤهم وسوف نرجع إلى دراسة هذه الموضوعات في فصل خاص.

    وأخيراً نعيد ما ذكرناه : انقسمت النجدية بعد « نجدة » إلى ثلاث فرق هم : النجدية والفديكية ، والعطوية (5) .

    وهذا يدل على أنّ كثيراً من الفرق كانت فرقاً سياسية ، لادينية.

________________________________________

    1 ـ ولو صحّ ذلك كما هو صريح كتاب نجدة لايصحّ ما نسب إليهم الأشعري في مقالاته من أنّهم استحلّوا دماء أهل المقام وأموالهم في دار التقيّة وبرأوا ممّن حرمّها ، الأشعري : مقالات الاسلاميين 1/91.

    2 ـ لاحظ في هذا الاُصول الأربعة كتاب نجدة إلى نافع تجد فيه تلك الآراء.

    3 ـ الشهرستاني : الملل والنحل 1/124.

    4 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين 1/91.

    5 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين 1/92.

________________________________________

(204)

________________________________________

(205)

الفرقة الثالثة :

البيهسية

    البيهسية من الخوارج ينسبون إلى أبي بيهس و اسمه هيصم بن جابر وهي فرقة مستقلّة ، لاصلة لها بالإبراهيمية والميمونية ، وإنّما تدخّلت في الخلاف الذي حدث بين تلك الفرقتين ، والفرقتان من الاباضية كما سنبيّن :

    قد وقفت عند الكلام في الأزارقة على أنّ أبابيهس هيصم بن جابر الضبعي وعبدالله بن اباض كانا في وقت واحد ، وكان لنافع قيادة روحية مثلما كان لعبدالله بن اباض أو أقوى ، وإنّما خرج أبوبيهس بمنهج عندما ظهر له غلوّ نافع و تقصير عبدالله بن اباض ، حيث إنّ نافع غلا في البراءة من المسلمين وجوّز استعراضهم والتفتيش عن عقائدهم واستحلّ أماناتهم وقتل أطفالهم.

    بينما عبدالله بن اباض قد قصّر (أي في التطرّف) حيث إنّ المخالفين عندهم كفّار ولكن كفّار في النعم كما عدّ سبحانه وتعالى تارك الحج مع

 

________________________________________

(206)

الاستطاعة كافراً وقال : ( وَلِلّه عَلَى النّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ اِلَيْهِ سَبِيلا وِ مِنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العالمين ) (1) وجوّز مناكحهم ومواريثهم والاقامة في بلدهم.

    عند ذلك أدلى أبو بيهس بأوّل رأيه حيث اعتبر أنّ هناك إفراطاً وتفريطاً والحق الوسط ، يقول : إنّ أعداءنا كأعداء رسول الله ، تحلّ لنا الاقامة فيهم ، خلافاً لنافع كما فعل المسلمون خلال اقامتهم بمكة وأحكام المسلمين تجري عليهم ، وزعم أنّ مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنّهم منافقون يظهرون الإسلام ، وانّ حكمهم عند الله حكم المشركين.

    قال المبرّد : فصارت الخوارج في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل :

    1 ـ قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال.

    2 ـ قول أبي بيهس الذي ذكرناه.

    3 ـ وقول عبدالله بن اباض وهو أقرب الأقوال إلى السنّة من أقاويل الضلال (2) .

    ثمّ إنّ البيهسية انقسمت إلى فرق :

    1 ـ العوفية.

    2 ـ أصحاب التفسير.

    3 ـ أصحاب السؤال ، وهم أصحاب شبيب النجراني.

    ولنذكر المشتركات بين هاتيك الفرق ، ثمّ نذكر المميّزات ، أمّا الاُولى فقال أبو بيهس : لا يسلم أحد حتّى يقرّ بمعرفة الله ، ومعرفة رسوله ، ومعرفة ما جاء به محمّد جملة ، والولاية لأولياء الله سبحانه ، والبراءة من أعداء الله وما

________________________________________

    1 ـ آل عمران : 97.

    2 ـ المبرّد : الكامل 2/214 وأضاف انّ الصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن اباض.

________________________________________

(207)

حرّم الله سبحانه ممّا فيه الوعيد ، فلا يسع الإنسان إلاّ علمه ومعرفته بعينه ، وتفسيره.

    ومنه ما ينبغي أن يعرفه باسمه ولايبالي أن لايعرف تفسيره و عينه حتى يبتلى به ، وعليه أن يقف عند ما لا يعلم ، ولا يأتي شيئاً إلاّ بعلم.

    وفي مقابل البيهسية من قال : قد يسلم الإنسان بمعرفة وظيفة الدين ، وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عبده و رسوله ، والاقرار بما جاء من عندالله جملة (1) ، والولاية لأولياء الله ، والبراءة من أعداء الله وإن لم يعرف ما سوى ذلك فهو مسلم.

    ثمّ إنّه مسلم حتى يبتلى بالعمل ، فمن واقع شيئاً من الحرام ، ممّا جاء فيه الوعيد ، وهولايعلم أنّه حرام ، فقد كفر ، ومن ترك شيئاً من كبير ما افترضه الله سبحانه عليه وهو لا يعلم فقد كفر ، فإن حضر أحد من أوليائه مواقعة من واقع الحرام وهو لا يدري أحلال أم حرام ، أو اشتبه عليه ، وقف فيه ، فلم يتولّه ولم يبرأ منه حتى يعرف أحلال ركب أم حرام؟.

    قالت البيهسية : الناس مشركون بجهل الدين (2) ، مشركون بمواقعة الذنوب ، وإن كان ذنب لم يحكم الله فيه حكماً مغلظاً ولم يوقفنا على تغليظه فهو مغفور ، ولا يجوز أن يكون أخفى أحكامه عنّا في ذنوبنا ، ولو جاز ذلك جاز في الشرك (3) .

    وقالوا : التائب في موضع الحدود ، وفي موضع القصاص ، والمقرّ على

________________________________________

    1 ـ الفرق بين الفرقتين : هو أنّ البيهسية التزموا بالمعرفة جملة ، وهؤلاء اكتفوا بالاقرار جملة ، والفرق بينهما واضح ، فإنّ المعرفة تستلزم المعرفة التفصيلية دون الاقرار.

    2 ـ ذلك لازم الأصل الأوّل من اشتراط تحقّق الإسلام بمعرفة ما جاء به محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ).

    3 ـ يريد أنّ المعاصي الكبيرة لا تكون خفيّة علينا ، ولو جاز خفاؤها لجاز خفاء حكم الشرك.

________________________________________

(208)

نفسه يلزمه الشرك إذا أقرّ من ذلك بشيء وهو كافر ، لأنّه لايحكم بشيء من الحدود والقصاص إلاّ على كل كافر يشهد عليه بالكفر عندالله (1) .

    هذه هي الأحكام المشتركة بين جميع فرق البيهسية ولب الجميع عبارة عن أمرين :

    1 ـ لزوم معرفة ما جاء به النبي على وجه التفصيل.

    2 ـ إنّ مرتكب الكبائر مشرك خصوصاً فيما إذا كان في موضع الحد.

    نعم هناك فِرق من البيهسية اختصّوا ببعض الأحكام ، نذكر منها ما يلي :

 

الف ـ العوفية : وهم فرقتان : فرقة تقول : من رجع من دار هجرتهم ومن الجهاد إلى حال القعود نبرأ منهم.

    وفرقة تقول : لا نبرأ منهم ، لأنّهم رجعوا إلى أمر كان حلالا لهم. وكلا الفريقين من العوفية يقولون : إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية ، الغائب منهم و الشاهد.

    والبيهسية يبرأون ، منهم وهم جميعاً يتولّون أبا بيهس ، وقالت العوفية : السكر كفر ، ولا يشهدون أنّه كفر حتى يأتي معه غيره كترك الصلاة ، وما أشبه ذلك ، لأنّهم إنّما يعلمون أنّ الشارب سكر إذا ضمّ إلى سكره غيره ممّا يدلّ على أنّه سكران (2) .

 

ب ـ أصحاب التفسير : كان صاحب بدعتهم رجل يقال له الحكم بن مروان من أهل الكوفة ، زعم أنّه من شهد على المسلمين لم تجز شهادتهم إلاّ بتفسير الشهادة كيف هي. قال : ولو أنّ أربعة شهدوا على رجل منهم بالزنا لم تجز شهادتهم حتى يشهدوا كيف هو ، وهكذا قالوا في سائر الحدود ، فبرأت

________________________________________

    1 ـ وهذا مبني على كون ارتكاب الكبائر كفراً.

    2 ـ إنّ العلم بالسكر يعلم بأدنى شيء ولا يتوقّف على ترك الصلاة.

________________________________________

(209)

منهم البيهسية على ذلك وسمّوهم أصحاب التفسير.

 

ج ـ أصحاب السؤال : وهم الذين زعموا أنّ الرجل يكون مسلماً إذا شهد أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عبده و رسوله ، وتولّى أولياء الله وتبرّأ من أعدائه ، وأقرّ بما جاء من عندالله جملة ، وإن لم يعلم سائر ما افترض الله عليه ممّا سوى ذلك ، أفرض هوأم لا؟ فهو مسلم حتى يبتلى بالعمل به (فيسأل) (1) .

    وقالوا : في أطفال المؤمنين : إنّهم مؤمنون أطفالا وبالغين ، حتى يكفروا ، وإنّ أطفال الكفّار كفّار ، أطفالا وبالغين حتى يؤمنوا.

    وقالوا بقول المعتزلة في القدر (أي كون الأفعال منسوبةً إلى الإنسان دونه سبحانه).

    هذه هي البيهسية وهذه الفرق المتشعّبة عنها.

    وهاهنا آراء تنسب إلى بعض البيهسيين ولم يعرف قائلها.

    منها قول بعض البيهسية : من واقع زنا ، لم يُشهد عليه بالكفر حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد ، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية ، إلاّ أنّهم قالوا : نقف فيهم ولا نسمّيهم مؤمنين ولاكافرين.

    منها قول بعضهم : إذا كفر الإمام كفرت الرعية ، وإنّ الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون ، ولا يصلّى إلاّ خلف من يعرف ، وقالوا : بقتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلال القتل والسبي على كل حال.

________________________________________

    1 ـ قد عرفت أنّ القدر المشترك بين البيهسية هو لزوم معرفة ما جاء به محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) تفصيلا ، ولكن أصحاب السؤال اكتفوا بالاقرار الإجمالي ، فعدّهم من البيهسية موضع تأمّل ، وإن عدّه منهم الأشعري في مقالاته. ثمّ إنّ الفرق بينهم وبين الفرقة المخالفة للبيهسية التي أوعزنا إليها في صدر البحث هو أنّهم يحكمون بالكفر إذا ابتلى بالعمل وهو لا يعلم أنّه حرام ، وهذا بخلاف أصحاب السؤال فهم لا يحكمون بكفره بل يحكمون عليه بالسؤال.

________________________________________

(210)

    منها : السكر من كل شراب ، حلال موضوع عمّن سكرمنه ، وكل ما كان في السكر من ترك الصلاة أوشتم الله سبحانه موضوع فيه ، لاحدّ فيه ، ولا حكم ، ولا يكفّر أهله بشيء من ذلك ماداموا في سكرهم ، وقالوا : إنّ الشراب حلال الأصل ، ولم يأت فيه شيء من التحريم لا في قليله ولا في اكثار أو سكر (1) .

    وأمّا تدخّل أبي بيهس في الخلاف الذي حدث بين الإبراهيمية والميمونية فحاصله أنّ رجلا من الاباضية يعرف بإبراهيم ، دعا قوماً من أهل مذهبه إلى داره ، وأمر جارية له كانت على مذهبه بشيء ، فأبطأت عليه فحلف ليبيعنّها في الأعراب ، فقال له رجل منهم اسمه ميمون : كيف تبيع جارية مؤمنة إلى الكفرة؟ فقال له إبراهيم : إنّ الله تعالى قد أحلّ البيع وقد مضى أصحابنا وهم يستحلّون ذلك ، فتبرّأ منه ميمون وتوقّف آخرون منهم في ذلك وكتبوا بذلك إلى علمائهم ، فأجابوهم بأنّ بيعها حلال ، وبأنّه يستتاب ميمون ، ويستتاب من توقّف في إبراهيم ، فصاروا في هذا ثلاث فرق : أبراهيمية ، وميمونية ، وواقفة.

    ثمّ إنّ البيهسية قالوا : إنّ ميموناً كفر بأن حرّم الأمة في دار التقية من كفّار قومنا ، وكفرت الواقفة بأن لم يعرفوا كفر ميمون وصواب أبراهيم ، وكفر إبراهيم بأن لم يبرأ من الواقفة (2) .

    وأمّا مصير أبي بيهس ، فقد طلبه الحجاج أيّام الوليد فهرب إلى المدينة فطلبه بها عثمان بن حيّان المزني فظفربه وحبسه ، وكان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله ، ففعل ذلك به (3) .

________________________________________

    1 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين 1/113 ـ 118 ، والشهرستاني : الملل والنحل 1/125 ـ 127.

    2 ـ البغدادي : الفرّق بين الفرِق 107 ـ 108.

    3 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/125.

(211)

الفرقة الرابعة :

الصفرية

    اختلفت كلمة أصحاب المقالات في مؤسّس هذه الفرقة ، فنرى أنّ المبرّد يعرّفهم بأنّهم أصحاب ابن صفار ، وانّهم إنّما سمّوا بصفرة لصفرة عَلَتْهم ويستشهد على ذلك بقول ابن عاصم الليثي ، وكان يرى رأي الخوارج وصار مرجئاً.

فارقتُ نجدة والذين تزرّقواوالصفر الآذان (1) الذين تخيّروا              وابن الزبير وشيعة الكذّابديناً بلاثقة ولا بكتاب

    بينما الأشعري والشهرستاني ينسبانها إلى زياد بن أصفر (2) .

________________________________________

    1 ـ قال المبرّد : خفف الهمزة من الاذان ولولاه لانكسر الشعر.(المبرّد : الكامل 2/214).

    2 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين 101 ، والشهرستاني : الملل والنحل 1/137.

________________________________________

(212)

    ولكن يقول المقريزي : إنّهم أتباع زياد بن الأصفر ويضيف ، ربّما يقال : إنّهم أتباع النعمان بن الصفر ، وقيل : بل نسبوا إلى عبدالله بن صفار ، ويقال لهم أيضاً : الزيادية ... ويقال لهم أيضاً : النُكّار من أجل أنّهم ينقصون نصف علي وثلث عثمان وسدس عائشة (1) .

    وعل كل تقدير فهم كالأباضية أقرب الفرق إلى المسلمين :

    1 ـ يخالفون الأزارقة في عذاب الأطفال ، فإنّهم لا يجيزون ذلك ولا يكفّرونهم ولايخلّدونهم في النار.

    2 ـ لم يكفّروا القعدة عن القتال ـ والمراد قعدة الخوارج ـ.

    3 ـ لم يسقطوا الرجم.

    4 ـ التقية جائزة في القول دون العمل عندهم.

    5 ـ وأمّا إطلاق الكافر و المشرك على مرتكبي الكبائر ، فقد قالوا فيه بالتفصيل الآتي :

    ماكان من الأعمال عليه حدّ واقع فلا يتعدّى بأهله ، الاسمُ الذي لزمه به الحدّ كالزنا والسرقة ، والقذف ، فيسمّى زانياً سارقاً ، قاذقاً ، لا كافراً مشركاً.

    وماكان من الكبائر ممّا ليس فيه حدّ لعظم قدره مثل ترك الصلاة والفرار من الزحف ، فإنّه يكفّر بذلك.

    6 ـ ونقل عن الضحّاك منهم انّه جوّز تزويج المسلمات من كفّار قومهم (يريد سائر المسلمين) في دار التقيّة دون دار العلانية.

    7 ـ ونقل عن زياد بن الأصفر انّ الزكاة سهم واحد في دار التقيّة (2) .

________________________________________

    1 ـ المقريزي : الخطط 2/354 ، والنكّار جمع ناكر.

    2 ـ يريد أنّه لا يجب صرف الزكاة على الأصناف الثمانية الواردة في آية الصدقات ، لعدم بسط اليد في دار التقيّة بل تصرف في مورد واحد.

________________________________________

(213)

    8 ـ ويحكى عنه أنّه قال : نحن مؤمنون عند أنفسنا ولاندري أنّنا خرجنا من الإيمان عند الله!

    9 ـ الكفر كفران ، كفر بانكار النعمة ، وكفر بانكار الربوبية.

    10 ـ البراءة براءتان : براءة من أهل الحدود ، سنّة ، وبراءة من أهل الجحود ، فريضة (1) .

    وعلى ما ذكره الشهرستاني فهم لايرون ارتكاب الكبيرة موجباً للشرك والكفر إلاّ فيما إذا لم يرد فيه حدّ كترك الصلاة.

    لكن الظاهر ممّا نقله البغدادي في الفرق انّ بين الصفرية قولين آخرين :

    الف ـ إنّ صاحب كل ذنب مشرك ، كما قالت الأزارقة.

    ب ـ إنّ صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحدّه (2) .

    وكل الصفرية بل جميع فرق الخوارج حتى الاباضية الذين يتحرّجون من تسميتهم خوارج ، يقولون بموالاة عبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير واتباعهما من المحكّمة الاُولى.

    ويقولون بإمامة أبي بلال مرداس ، الخارج بعد المحكّمة الاُولى ، وبإمامة عمران بن حطان السدوسي بعد أبي بلال.

    أمّا أبو بلال فقد مرّت ترجمته وأنّه خرج في أيّام يزيد بن معاوية بناحية البصرة ، فبعث إليه عبيدالله بن زياد ، عبّاد بن أخضر التميمي ، فقتله مع أتباعه.

    وأمّا الثاني فهو من شعراء الخوارج وخطبائهم ، مات سنة 84 ، وبلغ من خبثه في بغض علي ( عليه السَّلام ) أنّه رثا عبدالرحمن بن ملجم وقال في ضربه

________________________________________

    1 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/137. البغدادي : الفَرق بين الفِرق 90. الأشعري : المقالات 101.

    2 ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق 91.

________________________________________

(214)

عليّاً :

يا ضربة من منيب ما أراد بهاإنّي لأذكره يوماً فأحسبه             إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناأوفى الربية عند الله ميزانا

    قال عبدالقاهر (البغدادي) : وقد اجبناه عن شعره هذا بقولنا :

يا ضربة من كفور ما استفاد بهاإنّى لألعنه ديناً ، وألعن منذاك الشقي لأشقى الناس كلّهم                   إلاّ الجزاء بما يصليه نيرانايرجو له أبداً عفواً وغفراناأخفّهم عند ربّ الناس ميزانا (1)

 

اُصول الفرق للخوارج :

    هذه هي اُصول فرق الخوارج المتطرّفين وأمّا سائر الفرق فكلّها مشتقّة منها بسبب اختلاف غير هامّ في التخطيط والتطبيق ، لا في المبدأ والأصل ، وأمّا الاباضية ، فلم يكونوا بهذا التطرّف ، ولأجل ذلك أسماهم سائر الفرق باسم « القعدة » لأنّهم قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.

    يقول « الدكتور رجب محمّد » : قد تطّورت الأحوال في جماعة المحكّمة الذين ظلّوا على عدائهم وصدامهم مع الدوله الأموية إلى الانقسام إلى فرق ثلاث : هي الأزارقة ، والنجدات ، والبيهسية منذ عام 64 ، واُضيفت إليها الفرقة الرابعة وهي الفرقة المعروفة باسم الصفرية منذ عام 75 ، واتّفقت هذه الفرق الأربع فيما بينهم على آراء ، وكفّر بعضهم بعضاً ، واصطدموا بالدولة الأموية مرّات عديدة ، وتصدّت لهم قوات الخلافة وأخضعت شوكتهم وقضت على زعمائهم ، وكان ذلك على يد المهلّب بن أبي صفرة المعاني وعلى يد قومه من

________________________________________

    1 ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق 93.

________________________________________

(215)

الأزد العمانيين ، وعندما حاول بعض زعمائهم اللجوء إلى عمان ، تصدّى لهم العمانيون وقاتلوهم وقتلوهم (1) .

    وعلى كل تقدير فالفرقة الباقية من الخوارج تلعن الفرق الأربع وتتبرّأ منها ، وإليك نصّ بعضهم في هذا الشأن :

    لقد حرص ابن اباض في رسالته إلى عبدالملك بن مروان أن يقرّر رأيه بصراحة في ابن الأزرق ... فذكر فيها قوله :

    « أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وصنيعه وأتباعه. لقد كان حين خرج على الإسلام فيما ظهر لنا ، ولكنّه أحدث وارتدّ وكفر بعد اسلامه فنبرأ إلى الله منهم » (2) .

    وقد عرض القلهاتي بالتحليل لآراء الأزارقة :

    « الأزارقة إمامهم أبو راشد نافع بن الأزرق ، وهو أوّل من خالف اعتقاد أهل الاستقامة ، وشقّ عصى المسلمين ، وفرّق جماعتهم ، وانتحل الهجرة ، وسبى أهل القبلة ، وغنم أموالهم ، وسبى ذراريهم ، وسنَّ تشريك أهل القبلة ، وتبّرأ من القاعد ولو كان عارفاً لأمره تابعاً لمذهبه ، واستحلّ اعتراض الناس بالسيف ، وحرّم مناكحتهم وذبائحهم وموارثتهم ، وابتدع اعتقادات فاسدة وآراء حائدة خالف فيها المسلمين أهل الاستقامة في الدين » (3) .

    وقد تعرَّض كذلك لسائر فرق الخوارج الاُخرى فقال :

    « وجميع أصناف الخوارج ـ غير أهل الاستقامة (الأباضية) ـ اجتمعوا

________________________________________

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم (استاذ التاريخ بجامعة القاهرة وجامعة السلطان قابوس) : الاباضية في مصر و المغرب : 14.

    2 ـ البرادي : الجواهر المنتقاة (رسالة ابن اباض) 156 ـ 167. ويأتي نصّ الرسالة في محلّها.

    3 ـ القلهاتي : الكشف والبيان 2/423.

________________________________________

(216)

على تشريك أهل القبلة ، وسبي ذراريهم ، وغنيمة أموالهم ، و منهم من يستحل قتل السريرة والعلانية ، واعتراض الناس بالسيف على غير دعوة ، ومنهم من يستحلّ قتل السريرة ، وهم مختلفون فيما بينهم ، يقتل بعضهم بعضاً ، ويغنم بعضهم مال بعض ، ويبرأ بعضهم من بعض ، وانتحلوا الهجرة ، وحرّموا موارثتهم ، ومناكحتهم ، وأكل ذبائحهم » (1) .

 

الخوارج قد شوّهوا محاسن الدين :

    إنّ الخوارج قد شوّهُوا محاسنَ الدين الإسلامي تشويهاً غريباً ، فإنَّ هذا الاغراق في التأويل و الاجتهاد أخرجهم عن روح الإسلام وجماله واعتداله ، وهم في تعمّقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ولا دعا إليه القرآن ، وأمّا التقوى التي كانوا يَظْهرون بها فهي من قبيل التقوى العمياء ، والصلاح ، الذي كانوا يتزينون به في الظاهر ، كان ظاهر التأويل بادئ الزخرفة ، وقد طمعوا في الجنة وأرادوا السعي لها عن طريق التعمق والتشدد والغلوّ في الدين ، غلّواً أخرجهم منه ، ومجاوزة الحدِّ ، تُوقع في الضد (2) .