مؤسس المذهب الاباضي ودعاته

مؤسس المذهب الاباضي ودعاته

في العصور الاُولى

 

(311)

    قد تعرّفت على عقائد الاباضية وشيئاً من اُصولهم وفقههم وسيرتهم والمسالك الأربعة عندهم ، فحان التعرّف على أئمّتهم و دعاتهم في القرون الاُولى ، خصوصاً أنّ الاباضية هي الفرقة الوحيدة الباقية من الخوارج المنتشرة في مناطق مختلفة أعني عمان ، الجزائر ، تونس ، ليبيا ، مصر ، المغرب وزنجبار.

 

1 ـ عبدالله بن اباض ، مؤسّس المذهب :

    هو عبدالله بن اباض المقاعسي ، المري ، التميمي ـ من بني مرّة ـ ابن عبيد ابن مقاعس من دعاة الاباضية بل هو مؤسّس المذهب.

    قد اشتهرت هذه الفرقة بالاباضية من أوّل يوم ، وهذا يدل على أنّه كان لعبدالله بن اباض دور في نشوء هذه الفرقة وازدهارها ، وإن كانت الفرقة يطلقون على أنفسهم أسماء اُخرى يشترك فيها سائر المسلمين كأهل الإسلام وأهل الحق أو جماعة المسلمين ، وغير ذلك ، غير أنّ هذه الأسماء لم تكن وافية بالتعرّف عليهم بل كان المعرّف لهم عنوانين : 1 ـ القعدة 2 ـ الاباضية.

    كل ذلك يشرف الإنسان على الاطمئنان بأنّ لابن اباض تأثيراً هامّاً في

 

________________________________________

(312)

نشوء هذه الفرقة ، وإليك البيان :

 

ظهور خط الاعتدال بعد مقتل الإمام :

    قد عرفت أنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) قد قضى على الخوارج الذين كانوا يثيرون الشغب ، ويستعرضون الناس بالسيف ، فلمّا مضى علي ( عليه السَّلام ) وضع معاوية بن أبي سفيان السيف في الخوارج واستأصل شأفتهم لما كانوا يرتكبون من الأعمال الإجرامية التي عبّر عنها علي ( عليه السَّلام ) في خطبة له : « كلاّ والله إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء. كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين » (1) .

    وقال ( عليه السَّلام ) مخطاباً لهم :

    « أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة » (2) .

    ففي هذه الظروف القاسية وجد بينهم رجل يملك شيئاً من العقل ورأى أنّ تلك الأعمال الإجراميّة تسقطهم عن العيون ولا تُبْلِغُهم إلى الهدف ، وهو « أبو بلال مرداس بن حدير » ونقطة البداية في دعوة أبي بلال كانت هي انكار مسلك العنف وما يذهبون إليه من قتل المخالفين واستعراض الناس ، فأمر أتباعه أن لايُجرِّدوا سلاحاً ، ولايقاتلوا مسلماً إلاّ إذا تعرّضوا لعدوان ، أو واجهوا قتالا ، فكان عليهم حمل السلاح دفاعاً عن النفس ، وينقل البلاذري عنه قوله : « إنّ تجريد السيف واخافة السبيل لأمر عظيم ، ولكنّا نشذّ عنهم ولانجرّد سيفاً

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.

________________________________________

(313)

ولا نقاتل إلاّ من قاتلنا » (1) .

    ويؤيّد الكاتب انّ خط الاعتدال ، ظهر بعد مقتل الإمام علي ( عليه السَّلام ) بقوله :

    « إنّ هذا المسلك (التطرّف) منهم ، دعا بعض من كانوا يوازرونهم ، إلى مخالفتهم ، والافتراق عنهم ، بل وتوجيه شديد النقد عليهم ، ... هذا البعض ـ الذي تشدّد بعد أن كانوا لهم مؤيّدين ـ بدا لهم رأي غير الذي ارتأوه جميعاً ورأوا أنّ عليّاً وإن أخطأ في قبول التحكيم ، وإن لم ينزل عند طلبهم عليه التوبة ممّا فعل ، وكذلك سائر أهل القبلة الذين مازالوا على الشهادتين ، إنّما هم مسلمون لايجوز قتالهم ، ولاسبي نسائهم ، وليست أموالهم غنيمة ، وانّ قتالهم لايكون إلاّ في حالة بغي وعدوان منهم ، فهنا يجب القتال بمقدار مايلزم لدفع العدوان وردّ البغي (2) .

    ويقول : إنّ المحكّمة بعد واقعة النهروان افتقدوا وحدة الصف ، وشاعت فيهم الفرقة ، وساد الاضطراب ، ممّا دفع بعضهم إلى الغلو في التطرّف ، وتنكُّبِ الطريق السوي ، ووجد بينهم من استنكره ولم يجد بداً من الافتراق عن هؤلاء الذين عرفوا بالخوارج ، إيماناً منهم بأنّ طريق الاستعراض بالسيف ، ليس هو طريق الإسلام ، وقد كان على رأس هؤلاء ـ الذين عرفوا بالقعدة ـ أبو بلال مرداس ومن خلفه من الدعاة الذين عرفوا فيما بعد بالاباضية (3) .

    وقد تأثّرت عدّة من الخوارج بهذه الفكرة واستفحلت دعوة أبي بلال ، وظهرت معالمها ، غير أنّ بني اُميّة لم يكونوا يرضون بوجود قدرة ماثلة أمامهم ،

________________________________________

    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 138 وما نقله عن البلاذري مذكور في الأنساب 5/94.

    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 105 و 131 ـ 132.

    3 ـ نفس المصدر.

________________________________________

(314)

فلأجل ذلك استعمل ابن زياد (والي البصرة) بعد موت أبيه زياد بن أبيه ، الشدّة والقسوة على جميع المحكِّمة متطرّفيهم ومعتدليهم ، فقتل أبابلال مرداس بن حدير في منطقة نائية عن البصرة (1) كما قتل أخاه عروة بن ادية (2) في البصرة فقطّع أيديه ثمّ صلبه.

    ففي البصرة اتّبع عمّال الأمويين سياسة البطش والتعذيب والنفي والقتل ضدّ معارضيهم بصفة عامّة ، ولم يستثنوا من هذه السياسة جماعة القعدة ، ورغم انّ هذه الجماعة لم تأخذ بأسلوب الخوارج في التطرّف والعدوان ، وترويع الآمنين ، ورفع السيف في وجه الدولة ، إلاّ أنّ عمّال بني اُميّة في بلاد العراق ، شدّدوا عليها خوفاً من دعوتها التي كانت تستسري بين الناس ، وتحاشياً للشرّ قبل وقوعه ، وقمعاً للنفاق قبل أن ينجم.

    وازاء هذا الإضطهاد لجأت القعدة إلى السرَّية والكتمان ، وظلّوا على هذا الأمر(إلاّ في فترة ثورة ابن الزبير) حتى جاء عصر الحجاج بن يوسف الذي قام بدوره في اضطهاة من ينكشف لديه أمره (3) .

    وبعد ما ثار عبدالله بن الزبير على عمّال يزيد ، ودانت له الحجاز والعراق ، فعند ذلك اجتمعت الخوارج وعلى رأسهم نافع بن الأزرق وعبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض ، فزعموا أنّه ربّما يوجد عنده أُمنيتهم ، ولكن بعدما وقفوا على عقائده في حق عثمان وأصحاب الجمل تفرّقوا عنه ، وغادروا مكّة المكرّمة فمنهم من ذهب إلى البصرة ومنهم من ذهب إلى حضرموت.

    وفي هذه اللحظة الحسّاسة بدأ الخلاف بين ابن الأزرق وعبدالله بن اباض

________________________________________

    1 ـ قتل أوائل خلافة « يزيد » في منطقة « آسك » قريبة من الأهواز عام 60.

    2 ـ وهو الذي سلّ السيف على الأشعث بعد عقد التحكيم كما عرفت تفصيله.

    3 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 32 ـ 33.

________________________________________

(315)

فاختار الاُوّل الخروج وسلّ السيف ، وقتل المخالفين وسبي النساء وأنكر الثاني هذا التطرّف ، كل ذلك حوالي عام 64 إلى 65 من الهجرة ، فقتل الأوّل بسبب تطرّفه في ناحية الأهواز وبقي الثاني يعيش في ظل الاعتدال والتقيّة.

    كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان في تلك الفترة رجلا كاملا لايقلّ عمره عن عمر الدعاة الذين يقودون اُمّة ويتأمّرون عليهم ، ولعلّه كان في تلك الأيام من أبناء الأربعين لو لم يكن أكثر ، فعلى ذلك نخرج بهذه النتيجة انّه كان من مواليد سنة 24 من الهجرة فيكون أصغر بسنتين من جابر بن زيد على رواية أو ستّ سنوات على رواية اُخرى.

    هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه يخاطب عبدالملك بن مروان في رسالة إليه بقوله : « فلا تسأل عن معاوية ولاعن عمله ولا عن صنعته غير انّا قد أدركناه ورأينا عمله وسيرته في الناس ، ولا نعلم أحداً اترك للقسمة التي قسم الله ، ولالحكم حكمه الله ، ولا أسفك لدم حرام منه » (1) .

    كل ذلك يعرب عن أنّ عبدالله بن اباض كان رجلا كاملا وداعياً قويّاً إلى خط الاعتدال وكان هو الناطق باسم هذه الجماعة ، فنسب المذهب إليه لأجل ذلك ، فكونه هو المؤسّس للمذهب أو الداعي القوي إلى خط الاعتدال الذي أسّسه أبو بلال هو الأقوى بالنظر إلى النصوص التاريخية ، والناظر إلى رسالته التي كتبها إلى عبدالملك بن مروان يجده مناظراً قويّاً ينقض دليل خصمه بحجّة أقوى من حجّته ، ونذكر منه نموذجاً :

    احتجّ عبدالملك على صلاح معاوية بقوله : « إنّ الله قام معه وعجّل نصره وبلّج حجّته وأظهره على عدوّه بالطلب لدم عثمان .... » فأجابه في ذلك

________________________________________

    1 ـ الحارثي : العقود الفضية : 122 كما في « الإمام جابر بن زيد » وسيوافيك نصّ الرسالة برمّتها عن مصدر آخر.

________________________________________

(316)

عبدالله بن اباض بقوله : « فإن كنت تعتبر الدين من قبل الدولة والغلبة في الدنيا فإنّنا لانعتبره من قبل ذلك ، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون (1) وظهر المشركون على المؤمنين ليبلي المؤمنين ويُعلي الكافرين ... فلا تعتبر الدين من قبل الدولة ... ».

    ولو كان هو الكاتب لتلك الرسالة (2) ولم تكن مملاة عليه لدّل على احاطته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. كل ذلك يؤيّد انّه هو المؤسّس الثاني للمذهب بعد انطماس خط أبي بلال. وبما أنّ في تلك الرسالة احتجاجات على الطغمة الأمويّة ، وفي الوقت نفسه ، تعكس الأحوال السائدة في تلك الأيّام ، نأتي بنصّها في آخر هذا الفصل و هي من المواثيق التاريخية.

    هذا ما وقفنا عليه بعد الغور في التاريخ.

 

رأى آخر في المؤسّس :

    هناك رأي آخر هو أنّ المؤسّس هو جابر بن زيد التابعي ، تلميذ ابن عبّاس وغيره كما سيوافيك ، وأنّ عبدالله بن اباض كان ناطقاً عن الجماعة التي كان يرأسها ويقودها ذلك التابعي سرّاً وخفاء.

    يقول علي يحيى معمّر :

    « وبعد وفاة جابر بن زيد ظهر عبدالله بن اباض بأجلى مظاهر الغيرة الدينية ولقّن أصحابه مبدأ الإقدام في تقرير الحق ، وقمع أهل الجور والظلم ،

________________________________________

    1 ـ لعلّه اشارة إلى قوله سبحانه في حقّ بني اسرائيل قال : ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهِلْكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ـ الاعراف 129 ـ.

    2 ـ قد نقل البرّادي في كتاب الجواهر المنتقاة رسالة ابن اباض في 156 ـ 167 والكتاب مطبوع بمصر طبعة حجرية ، كما نقلها مؤلف السير والجوابات لبعض أئمة الاباضيّة.

________________________________________

(317)

المنحرفين عن جادة الصواب ، حتى ظهرت هذه الفرقة الناجية المحقة الصادقة في أدوارها الوجودية في حالتي الكتمان والظهور » (1) .

    وقال أيضاً : « فقد كان يحضر مجلس جابر بن زيد عدد من الطلاب كقتادة ، وأيّوب ، وابن دينار ، وحيّان الأعرج ، وأبي المنذر تميم بن حويص ، ومنهم من يأخذ عنه أكثر ممّا يأخذ من غيره ، أو يكاد يختصّ بمجلسه ، كأبي عبيدة بن مسلم ، وضمام ، وأبي نوح الدهان ، والربيع بن حبيب ، وعبدالله بن اباض ، ومن هؤلاء الطلاب من كان يشتغل أثناء التحصيل وبعده بالشؤون العامة ، ومنهم من اشتغل بالمسائل السياسية ومطارحاتها مع حكّام الدولة الأموية في ميدان الكلمة دون استعمال السيف كعبدالله بن اباض ، ومنهم من جلس للتدريس وأخذ مكان الإمام كأبي عبيدة أبي نوح الدهان وقام بنفس الدور وتخصّص فيه (2) .

    إنّ ما ذكره بصورة أمر قاطع غير ثابت في التاريخ ، كيف وأغلب الظن انّ عبدالله بن اباض مات قبل جابر وانّه كان يقود أمر القعدة في حياة جابر ، وإن كانت الأقوال في زمان حياته مختلفة ، فمن قائل إنّه مات عام 80 إلى آخر إنّه مات قرابة 86 ، إلى ثالث بأنّه مات سنه 100 بالمغرب ودفن في جبل نفوسه ، كما أنّه اختلفت الأقوال في حق جابر وأكثر الأقوال إنّه مات عام 94 ، ذكر بعض المؤرّخين انّه مات عام 104 ، فكيف يمكن أن يكون عبدالله هو القائم بالأمر بعد وفاة جابر؟

    ويظهر تقدّم قيادة عبدالله بن اباض على جابر ، من الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : قال : إنّ القعدة أو جماعة المسلمين هم الذين انظمّوا إلى جابر بن

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 151.

    2 ـ الاباضية بين الفرق الاسلاميّة 2/135 ـ 136.

________________________________________

(318)

زيد ، وانضووا تحت قيادته بعد أن انتهى دور عبدالله بن اباض ، فبعد أن رأوا مدى القوَّة التي ينعم بها هذا الفقيد الأزدي بسبب مساندة الأزد له ، لدرجة انّ الحجّاج المشهور بالبطش والعنف لم يجرأ على قتله عندما عرف صلته بالاباضية واكتفى بنفيه إلى بلدة عمان ولم يلبث أن عاد منها إلى البصرة مرّة اُخرى ، ولم يتعرّض له الحجاج في كثير أو قليل (1) .

    ويقول في موضع آخر : ولمّا أحسّ الحجاج بنشاط جابر بن زيد الذي تولّى أمر جماعة القعدة بعد عبدالله بن اباض ، ألقى به في السجن ثم نفاه إلى عمان ، ولمّا عاد منها ، ألقى به في السجن مرّة ثانية ، كما سجن قيادات القعدة الآخرين (2) .

    وهناك نظرية ثالثة وهي أنّ الرجلين كانا متعاصرين ، غير أنّ المصلحة الزمنية كانت توجب اختفاء جابر وظهور عبدالله بن اباض في الساحة. يقول الدكتور صالح بن أحمد الصوافي : « لقد آثرت الجماعة أن يظل أمر جابر مستوراً ولعلّ مرجع ذلك مارأوه من عظم الخسارة فيما لو اشتهر أمر جابر وأخذوه بالشدّة ، فإنّ ذلك يفقد الجماعة عقلها المدبّر وزعيمها الحقيقي ، ولقد بالغ جابر في التخفّي حتى قدّم سواه للتحدّث باسم الجماعة ومُناظرة خصومه ، وكان عبدالله بن اباض أحد اُولئك الذين تحدَّثوا كثيراً باسمهم حتى لقد ظن انّه الزعيم الحقيقي للجماعة فنسبها الآخرون إليه ، وعرفوها بأنّها جماعة الاباضية مع أنّ عبدالله بن اباض لم يكن إلاّ واحداً من أفرادها قدّمه زعيمها ـ جابر بن زيد ـ للتحدّث عنهم ومناظرة خصومهم » (3) .

________________________________________

    1 ـ الاباضية في مصر والمغرب : 200.

    2 ـ الاباضية في مصر و المغرب : 33.

    3 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني 153.

________________________________________

(319)

    يلاحظ عليه : أنّه مجرد استحسان وتحليل حدسي لم يقترن بدليل ، وقد عرفت اقتران الرجلين في الولادة والوفاة وظهور عبدالله بن اباض في الدعوة أيّام يزيد بن معاوية ، ولم يكن يومذاك اسم من جابر ولاخبر.

    ثمّ إنّ الكاتب لمّا رأى أنّ المذهب منتم إلى ابن اباض طيلة قرون ، حاول أن يصحّح وجه النسبة إليه وإنّه كان فرداً واحداً من القعدة ، وذلك بوجهين :

    1 ـ إنّ هذه الجماعة لم تطلق على نفسها اسم الاباضية بل كانوا يسمّون أنفسهم أهل الدعوة أو جماعة المسلمين.

    2 ـ إنّ تسمية الاباضية إنّما أطلقها على هذه الجماعة مخالفوهم في فترات تالية ، وربّما كان الأمويّون كما يرى البعض هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم نسبة إلى عبدالله بن اباض لأنّ الأخير كان من علمائهم وشجعانهم والمناظر باسمهم ، كما أنّ الأمويّين لايريدون نسبة هذه الفرقة إلى جابر حتى لايجذبوا إليه الأنظار ، ولايبدو في حياة جابر المشرقة ، فتميل إليهم النفوس ، فنسبوهم إلى عبدالله بن اباض وهو أقلّ منزلة من جابر في العلم و إن كان لايقلّ عنه في التقوى والورع والصلاح (1) .

    ولا يخفى ضعف الوجهين : أمّا الأوّل فلأنّ الهدف من التسمية هو التعرّف على المسمّى ، ومن المعلوم أنّ اللفظين المذكورين لفظان عامّان لايكونان مشيرين إليه.

    وأمّا الثاني : فمجرّد حدس لادليل عليه ، ولم يكن جابر بن زيد من المشاهير والأعلام بين العلماء والمحدّثين حتى تكون التسمية باسمه موجباً للانجذاب ، بشهادة انّه ليس لجابر روايات وافرة في الصحاح والمسانيد.

________________________________________

    1 ـ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد 161 ـ 162 نقلا عن تاريخ المغرب الكبير ، لمحمّد علي دبوز 2/298.

________________________________________

(320)

    ولعلّ القول الحق ما يذكره الصوافي في آخر كلامه ويقول : إنّ جماعة الاباضية كانت حريصة على التخفّي والتسترّ ولم تبد كجماعة خارجة ، وكان أوّل ظهور لها عندما راح عبدالله بن اباض يتحدّث باسمها ويبعث برسائل إلى الأمير الأموي عبدالله بن مروان ، فكان من الطبيعي أن تنسب هذه الجماعة إلى من أبدى للخليفة نفسه على أنّه صاحب الرأي والكلمة (1) .

    أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت كون جابر بن زيد من الاباضية ، وسيوافيك انّه كان يصلّي خلف الحجاج ويأخذ جوائزه.

 

2 ـ جابر بن زيد العماني الأزدي :

    وهو الشخصية الثانية التي تتبنّاها الاباضية زعيماً ومؤسّساً لمذهبهم وقد أَطروه في كتبهم ، وقد تعرّفت على الاختلاف في ميلاده ووفاته ، فهو من رجال النصف الثاني من القرن الأوّل ، وقد طلع نجمه في هذه الفترة ، وهو عماني عاش في العراق وأمضى أكثر عمره في البصرة احدى عواصم العراق العلمية ، وإليك كلمات أهل الرجال في حقّه.

    1 ـ قال أبو حاتم الرازي : جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي روى عن ابن عباس والحكم بن عمرو وابن عمر ، روى عنه عمرو بن دينار وقتادة وعمرو بن هرم. سمعت أبي يقول ذلك.

    وعن عطاء انّ ابن عباس قال : لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً عن كتاب الله عزّوجلّ ، وقال عكرمة : كان ابن عباس يقول : هو أحد العلماء ، و عن تميم بن حدير عن الرباب قال : سألت ابن عباس عن شيء ، فقال : تسألونني وفيكم ابن زيد؟

________________________________________

    1 ـ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي ، الإمام جابر بن زيد : 162 ـ 163.

(321)

    وعن أبي هلال ، عن داود ، عن عذرة قال : دخلت على جابر بن زيد ، فقلت : إنّ هؤلاء القوم ينتحلونك ـ يعني الاباضية ـ ، قال : أبرأ إلى الله عزّوجلّ من ذلك ، وعن يحيى بن معين يقول : أبو الشعثاء جابر بن زيد روى عنه قتادة ، بصري ، ثقة. وقال أبو زرعة : إنّه بصري أزدي ، ثقة (1).

    2 ـ وقال أبو زكريا النووي بمثل ما قاله الرازي وأضاف : قال أحمد بن حنبل وعمرو بن علي والبخاري : توفّي سنة ثلاث و تسعين ، وقال محمّد بن سعد : سنة ثلاث ومائة ، وقال الهيثم : سنة أربع ومائة (2) .

    3 ـ وقال ابن حجر العسقلاني بمثل ما قالا ، وأضاف : وقال العجلي : تابعي ثقة ، وفي تاريخ البخاري عن جابر بن زيد قال : لقيني ابن عمر فقال : جابر! إنّك من فقهاء أهل البصرة ، وقال ابن حبان في الثقات : كان فقيهاً ، ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة ، وكان من أعلم الناس بكتاب الله ، وفي كتاب الزهد لأحمد : لمّا مات جابر بن زيد ، قال قتادة : اليوم مات أعلم أهل العراق.

    وقال اياس بن معاوية : أدركت الناس ومالهم مفت غير جابر بن زيد.

    وفي تاريخ ابن أبي خيثمة : كان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد.

    وفي الضعفاء للساجي : عن يحيى بن معين : كان جابر اباضياً ، وعن عكرمة : صفرياً ، وأغرب الأصيلي فقال : هو رجل من أهل البصرة لايعرف ، انفرد عن ابن عباس بحديث : « من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل » ولايعرف هذا الحديث بالمدينة (3) .

________________________________________

    1 ـ أبو حاتم الرازي : الجرح والتعديل 2/494 ، رقم 2032.

    2 ـ أبو زكريا النووي (ت 676) ، تهذيب الأسماء واللغات 1/142 ، رقم 98.

    3 ـ تهذيب التهذيب 2/34 ، رقم 61.

________________________________________

(322)

    4 ـ وقال أيضاً : جابر بن زيد ، أبو الشعثاء الأزدي الجوفي (1) ـ بفتح الجيم وسكون الواو بعدها فاء ـ البصري ، مشهور بكنيته ، ثقة فقيه ، من الثالثة ، مات سنة 93 ، ويقال : ومائة (2) .

    ولم يذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ولا ابن حجر في لسانه ، وقال الأوّل في سير أعلام النبلاء : روى جابر عن ابن عباس ، قال : آخى النبي بين الزبير وابن مسعود. وفي موضع آخر منه روى قتادة ، قال : سمعت جابر بن زيد يحدّث عن ابن عباس قال : تقطع الصلاة الحائض (3) .

    هذا ما وقفت عليه في كتب الرجال من أحوال الرجل ، وقد قامت الاباضية في العصور الأخيرة بترجمته ترجمة وافية ، وقد اطروه وإليك نبذاً من كلماتهم في حقّه :

 

كلمات الاباضية في حقّ جابر :

    هذه نصوص علماء الرجال من أهل السنّة ولاعتب علينا أن نشير إلى كلمات اتباع الرجل وإن طال بنا المقام.

    1 ـ لم يكن جابر بن زيد ممّن عرف عنهم الميل إلى التمرّد أو الثورة ، فلم يُعرف عنه أنّه كان ضمن الذين خرجوا على الإمام علي بن أبي طالب ، أو اعتزلوه أو تمرّدوا عليه ، إذ أنّه ولد في عمان في الفترة ما بين عامي 18 و 22 هـ ، ثمّ رحل إلى البصرة يطلب العلم ، وهو شاب في زمن لا نعرفه ، ولايمكن تحديده ، وغلب انّه رحل إليها بعد سنّ العشرين حيث كان شابّاً يستطيع تحمّل مشقّة

________________________________________

    1 ـ ينسب إلى درب الجوف وهي محلّة بالبصرة.

    2 ـ ابن حجر العسقلاني : تقريب التهذيب 1/122 ، رقم 5.

    3 ـ الذهبي : سير أعلام النبلاء 1/490 و 10/252.

________________________________________

(323)

السفر و الترحال. والمعروف أنّ التحكيم الذي أدّى إلى انفصال جزء من جيش علي عنه ، وقيامهم بمعارضته والخروج عليه ، كان في رمضان من عام 37 ، وحدثت معركة النهروان التي أكّدت هذا الانفصال وكرّسته في عام 38 هـ.

    وعلى ذلك فإنّ جابر بن زيد امّا أنّه لم يكن موجوداً في البصرة عند وقوع هذه الأحداث ، أو انّه كان موجوداً ، ولكنّه لم يشارك فيها على أي نحو من الأنحاء ، لأنّ كتب التاريخ السنّية والشيعية والاباضية لم يرد فيها ذكر لأي شيء يتعلّق به ، أو حتى مجرّد ذكر اسمه في تلك الفترة ، ولم يسمع أحد شيئاً عن جابر بن زيد إلاّ بعد انتهاء هذه الأحداث لحوالي أربعين عاماً عندما أتى الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق والياً عليه من قبل عبدالملك بن مروان في عام 75 (1) .

    2 ـ إنّ مؤسّس مذهب الاباضي لم يكن ممّن شهدوا حرب الجمل او صفّين أو النهروان ، ولم يكن ضمن هؤلاء الذين رفعوا السيف في وجه الدولة أو حاربوها من الخوارج وغيرهم ، بل كان يأتلف معها ، فقد كان يأخذ عطاءه من الحجاج بن يوسف الثقفي ، كما كان يأخذ جائرته ويحضر مجلسه ويصلّي خلفه.

    ولذلك كان من مبادئ الاباضية بعد جابر ، جواز الصلاة خلف أهل القبلة كلّهم ، وخلف الجبابرة في أي بلد غلب عليه الجبابرة ، ويجيزون الغزو معهم أيضاً ، كما كانوا يأخذون بأحكامهم ، ولايرون في ذلك بأساً طالما أنّ أحكامهم كانت موافقة للحقّ والعدل ، وكانوا يستحسنون أفعالهم إذا جاءت على هذه الصفة.

    من ذلك : ما حدث عندما عرض على عبدالملك بن مروان أمر رجل

________________________________________

    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في المصر والمغرب : 15.

________________________________________

(324)

تزوّج من امرأة أبيه ظنّاً منه انّها تجوز له ، فأمر عبدالملك بقتله على جهله فيما لايجوز الجهل به ، وقال : لاجهل في الإسلام ولاتجاهل ، فاستحسن جابر بن زيد هذا العمل من عبدالملك وقال عنه : إنّه أحسن وأجاد. وما ذاك إلاّ لما تميّز به هذا الفقيه الكبير ، تميّز مذهبه من صفة التسامح والاعتدال ، ولما قام عليه هذا المذهب من اُسس واُصول (1) .

    3 ـ إنّ جابراً كان يصلّي الجمعة في المسجد الجامع في البصرة خلف عبيدالله بن زياد ، وكان يقول لهم : إنّها صلاة جامعة وسنّة متّبعة.

    وذكروا : انّه كان يتناول من الحجاج عطاء مقداره ستمائة أو سبعمائة درهم ويصلّي خلفه ، وعرض عليه الحجاج أن يولّيه القضاء ولكن جابراً رفض هذا العرض (2) .

    4 ـ إنّ العلم مثله مثل طائر باض في المدينة المنّورة ، وفرّخ بالبصرة ، وطار إلى عمان (3) .

    يريد انّه فرّخ بالبصرة بيد جابر ، ولمّا مات جابر انتقل العلم إلى عمان و ذلك قبيل نهاية القرن الثاني للهجرة حيث قامت الإمامة الاباضية في عمان عام 177 ، وصارت هذه البلاد حجر الزاوية ومركز الثقل السياسي بالنسبة إلى المذهب و الدعوة.

    5 ـ إنّ جابر بن زيد الأزدي من أهل البصرة ، يروي عن عبدالله بن عباس ، وقد لقي جابر بن زيد عائشة اُمّ المؤمنين وسألها عن بعض مسائل ، فلمّا خرج عنها قالت : لقد سألني عن مسائل لم يسألني عنها مخلوق قط ، وإنّما توفّي

________________________________________

    1 ـ الدكتور رجب محمد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 57 ـ 58.

    2 ـ الدكتور رجب محمد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 16 ـ 19 ـ 32.

    3 ـ يكرّرون هذا التعبير في غير واحد من كتبهم وهو من المغالاة في القول.

________________________________________

(325)

جابر ـ رضى الله عنه ـ سنة ثلاث سنين ومائة (1) .

    6 ـ اشتهر انّه لايماكس في ثلاث : في كراء إلى مكّة ، وفي عبد يشترى ليعتق ، وفي شاة التضحية ، وكان يقول : لانماكس في شيء نتقرّب إليه.

    روي أنّه رأى أحد الحجبة يصلّي فوق الكعبة ، فنادى : يا من يصلّي فوق الكعبة لاقبلة لك (2) .

    7 ـ إنّ جابراً أحد المؤلّفين في الإسلام وقد كان لديوانه رنّة ، وكان موضع تنافس بين دور الكتب الإسلامية ، واستطاعت مكتبة بغداد أن تحصل عليه و أن تبخل به عن غيرها من المكتبات.

    يقول علي يحيى معمر :

    كان لهذا الكتاب قيمة كبرى لما فيه من علم وهدى ، ولقربه من عصر النبوّة ، ولأخذ مؤلّفه عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، وكانت له قيمة اُخرى أثرية وهي أنّه أوّل كتاب ضخم اُلّف في الإسلام.

    وإنّه لمن المؤسف أن يضيع هذا التراث العظيم من مكتبة بغداد عندما اُحرقت تلك المكتبة العظيمة. وضاعت منها آلاف النفائس ، كما أنّه من المؤلم المُرّ أن تضيع النسخة التي وصلت إلى ليبيا ، فيما ضاع من التراث الإسلامي العظيم بسبب الجهل والحقد وطلب الرفعة عند الناس ، وليس أعظم محنة من ضياع التراث العلمي والخلقي والديني لاُمّة مسلمة لايستقيم حاضرها إلاّ على القواعد المتينة التي ابتنى عليها ماضيها ، ولن يصلح حاضر هذه الاُمّة إلاّ بما صلح به أوّلها (3) .

________________________________________

    1 ـ ابن سلام الاباضي : بدء الاسلام وشرائع الدين : 108.

    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى : 148.

    3 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى : 150.

________________________________________

(326)

    8 ـ إنّ جابراً أخذ عن عبدالله بن مسعود وجابر بن عبدالله وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وقال : كان جابر بن زيد يلتقي باُمّ المؤمنين عائشة ويأخذ عنها العلم ويسألها عن سنّة الرسول ، وقد سألها يوماً عن جماع النبي وكيف كان يفعل ، وانّ جبينها يتصبّب عرقاً وتقول عائشة : سل يا بُنيّ ، ثم قالت له ممّن أنت؟ قال : من أهل المشرق من بلد يقال لها عُمَان.

    ولمّا كان هذا السؤال بظاهره بمعزل عن الوقار علّق عليه صاحب « تحفة الأعيان » بقوله : المراد انّه سألها عن مقدّمات الجماع التي يجوز السؤال عنها حرصاً منه ـ رضى الله عنه ـ على نقل السنّة وجمعها كي يكون المسلم مقتدياً برسول الله في كل أعماله دقيقها وجليلها.

    يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ السؤال لما نفع هذا التعليق وأمثاله ممّا حشدها مؤلّف الكتاب وهو يعرب عن سذاجة الرجل و عدم عرفانه بموضع السؤال والمسؤول ، والعجب انّ جواب اُمّ المؤمنين لم يذكر في هذه الكتب ولم تصل السنّة إلى أيديهم ، ولعلّ تكذيب أصل القضية أولى من توجيهها.

    وهناك ملاحظة حول حياة جابر وهو أنّ صلاته خلف الحجاج تبرّرها التقية ، وأمّا أخذ الجوائز الذي هو بمعنى دعم ولايته واضفاء المشروعية عليها ، فهل تبرّره التقيّة؟ أو كان من واجبه التخلّي عنها كما تخلّى عن قبول القضاء؟

    إنّ ما جاء في هذه الكلمات من كون الرجل اباضياً مدعماً لمبدئه قاصر عن افادة الاطمئنان و الاذعان ، فإنّ التقيّة أمر مشترك بين الاباضية وغيرهم ، فالذي يوجب تقدير الرجل بل تقدير تلك الطائفة ، انّهم يملكون الشجاعة الأدبية في الاجهار بجواز التقية والسلوك عليها في حياتهم ، بينما يفقدها غيرهم من فرق أهل السنّة ، فهم يعملون بالتقية في حياتهم السياسية والاجتماعية ولكن لايجاهرون بجوازها لو لم يكونوا مجاهرين بحرمتها!

 

________________________________________

(327)

فقه جابر بن زيد :

    قد قام « يحيى محمّد بكوش » بجمع أقوال وآراء جابر من بطون الكتب ، وهو يقول في مقدّمة الكتاب : « فقد وجدت في بطون الكتب أقوالا عديدة للإمام جابر بن زيد سواء ذلك في كتب الاباضية أو في غيرها ، من كتب المذاهب الاُخرى ، ثمّ رجعت إلى كتب الحديث فالتقيت برواياته منبثّة من هنا وهناك فانقدحت في ذهني فكرة أجمع ما يتيسّر لي جمعه وضمّه في مجموعة اُخرجها للناس ... وفي أثناء بحثي ظهر للاُستاذ الصوافي كتاب يتناول هذا الجانب فاطّلعت عليه واستفدت منه كما اطّلعت أثناء ذلك على كتاب للاُستاذ « عوض خليفات » الذي درس نشأة الحركة الاباضية في المشرق فاستفدت منه أيضاً ... وقد قسّمت الكتاب إلى أبواب بلغت أحد عشر باباً ، وكل باب يشتمل على مسائل متفرّفة قد لايجمع بينها سوى أنّها تنسب إلى ذلك الباب ، وإليك فهرس الأبواب :

    1 ـ في حياة الإمام جابر بن زيد ، فيه 13 مسألة.

    2 ـ في مسائل القرآن وعلومه ، فيه 41 مسألة.

    3 ـ في الطهارات ، فيه 19 مسألة.

    4 ـ في الصلاة ، فيه 44 مسألة.

    5 ـ في الزكاة ، فيه 12 مسألة.

    6 ـ في مسائل الصوم ، فيه 18 مسألة.

    7 ـ في مسائل الحج ، فيه 30 مسألة.

    8 ـ في مسائل النكاح والطلاق ، فيه 61 مسألة.

    9 ـ في المعاملات ، فيه 21 مسألة.

    10 ـ في الأقضية والأحكام ، فيه 15 مسألة.

 

________________________________________

(328)

    11 ـ في الزكاة والأطعمة والكفّارات والنذور والوصايا والمواريث ، فيه 31 مسألة (1) .

    ثمّ إنّ الكتاب خرج في 728 صفحة ، وربّما يتخيّل القارىء في بادىء النظر أنّ أكثر ما جاء فيها يرجع إلى آراء جابر وأقواله وأفكاره ، ولكنّه بعد ما سبر الكتاب سرعان ما يرجع ويقف انّ مجموع ما روي عنه في تلك الأبواب ـ لو جمع في محل واحد ـ لايتجاوز عن عشر صفحات ، ولكن المؤلّف اتّخذ طريقة المقارنة الفقهية وطلب لآراء المذاهب دليلها ، فجاء الكتاب كتاباً ضخماً في الفقه ، هو لايمت إلى جابر بصلة إلاّ قليلا.

    هذا وقد بسط المؤلّف الكلام في ترجمة جابر في الباب الأوّل ، ومن أراد التبسّط فليرجع إليه.

 

3 ـ أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت حوالي 158 هـ) :

    هذا هو الشخصية الثالثة لفرقة الاباضية وله ترجمة في كتب الرجال والتاريخ كما له ترجمة مفصّلة في كتب الاباضية ، ونذكر ما وقفنا عليه في القسم الأوّل ثمّ نردفه بكلمات الاباضية.

    قال الحافظ الرازي : « مسلم بن أبي كريمة روى عن علي ـ رضي الله عنه ـ ، روى عنه ... (كذا) ، سمعت أبي يقول ذلك ويقول : هو مجهول (2) .

    ولو كان المقصود من العنوان هو المترجم فيروي عن علي ( عليه السَّلام ) بواسطة أو واسطتين كما لا يخفى.

    وعنونه ابن حبّان في الثقات ، واكتفى بنقل اسمه فقط وقال : مسلم بن

________________________________________

    1 ـ يحيى محمّد بكوش : فقه الإمام جابر بن زيد : 7 ـ 8 وفهرس الكتاب.

    2 ـ الرازي : الجرح والتعديل 8/193 برقم 845.

________________________________________

(329)

أبي كريمة (1) .

    وقال ابن الجوزي : مسلم بن أبي كريمة ، قال الرازي : مجهول (2) .

    ولم أجد له ترجمة في الكتب الرجالية ، وأمّا كلمات الاباضية في حقّه ، فإليك بيانها :

    يقول علي يحيى معمّر : أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158 هـ ، وقد أدرك من أدركه جابر بن زيد ، فروايته عن جابر رواية تابعي عن تابعي. وقد روى أبو عبيدة أيضاً عن جابر بن عبدالله وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة اُمّ المؤمنين (3) ـ رضى الله عنها ـ وروايته هذه عنهم موجودة في هذا المسند الصحيح (4) وهي رواية تابعي عن تابعي.

 

شيوخه :

    أخذ أبو عبيدة العلم عمّن لقيه من الصحابة وعن الجابرين : جابر بن عبدالله وجابر بن زيد ، وعن ضمار السعيدي وجعفر السماك وغيرهم.

 

تلاميذه :

    وحمل العلم عن أبي عبيدة خلق كثير ، منهم الربيع بن حبيب الفراهيدي صاحب المسند ، وفيهم : حملة العلم إلى المغرب و هم : أبو الخطاب

________________________________________

    1 ـ محمد بن حبّان بن أحمد التميمي البستي : الثقات 5/354 و 401.

    2 ـ عبدالرحمان بن الجوزي : كتاب الضعفاء و المتروكين 3/118 دار الكتب العلمية ، بيروت 1406 ، ولاحظ بدء الاسلام : 26 ، 99 ، 110 ، 114 ، ولسان الميزان 6/32.

    3 ـ سماعه عن اُمّ المؤمنين عائشة و أبي هريرة بعيد جداً إلاّ أن يكون الرجل من المعمّرين.

    4 ـ اشارة الى مسند الربيع بن حبيب ، والصحيح أن يقال : الجامع الصحيح ، كما سيوافيك.

________________________________________

(330)

المعافري ، وعبدالرحمن بن رستم وعاصم السدراتي ، وإسماعيل بن درار العذامسي ، وأبو داود القبلي النفراوي ، وكان الإمام أبو الخطاب المعافري قد جاء من اليمن فرافق الأربعة من أهل المغرب فخرج معهم إلى بلادهم ، فنصّبوه عليهم بأمر شيخهم أبي عبيدة. وبأمره نُصّب الإمام عبدالله بن يحيى الكندي في أرض اليمن ، وجمعت إمارته اليمن والحجاز ، وأقام حملة العلم عنده خمس سنين فلمّا أرادوا الوداع سأله إسماعيل بن درار عن ثلاثمائة مسألة من مسائل الأحكام. فقال له أبو عبيدة : « أتريد أن تكون قاضياً مع ابن درار؟ قال : أرايت ان ابتليت بذلك » (1) .

    وقد روي عنه أنّه قال : من لم يكن له اُستاذ من الصحابة فليس هو على شيء من الدين ، وقد منَّ الله علينا بعبدالله بن عباس ، وعبدالله بن مسعود ، وعبدالله بن سلاّم (2) .

 

4 ـ أبو عمرو ربيع بن حبيب الفراهيدي :

    إنّ الربيع من أئمّة الاباضية وهو صاحب المسند المطبوع ، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة (3) ونكتفي في المقام بما ذكره الاُستاذ التنوخي في مقدّمته على شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب :

    « ومن يمن الطالع عن الحديث أن يكون الربيعان : الربيع بن صبيح والربيع بن حبيب في طليعة ركب الجامعين للحديث ، والمصنفّين فيه ، ومن

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/166 ـ 167.

    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني ، وقد ترجم له ترجمة مفصّلة وذكر مواقفه في تنظيم الدعوة ومجالها ، والانتهاز من مواسم الحج لنشر المذهب واعمال السياسة السرّية والأخذ بالتقيّة ، فمن أراد فليرجع إليه (169 ـ 175).

    3 ـ له ترجمة في بدء الاسلام 110 ، والاعلام 3/13.

(331)

الأسف أن لاندري شيئاً عن مصير مسند ابن صبيح وعسى أن يهتم بذلك الباحثون عن نفائس المخطوطات ، ومن لطف الباري أن أبقى لنا مسند الربيع بن حبيب ، ثمّ من نعمه عليّ أن وفّقني لإعادة نشره مع شرح علاّمة عمان عبدالله بن حميد السالمي ولم يطّلع على المسند وشرحه في علماء مصر والشام والعراق إلاّ قليل.

 

الثلاثيات :

    قد ذكر أئمّة الحديث أنّ رتب الصحيح تتفاوت تفاوت الأوصاف المقتضية للصحيح ، وانّ المرتبة العلياما اطلق عليه بعض رجال الحديث أنّه أصح الأسانيد الثلاثية كسند الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه ، وسند إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود ، وسند مالك عن نافع عن ابن عمر ، وهو قول البخاري لأنّ هذه الأسانيد قصيرة السند و قريبة الاتصال بالينبوع المحمّدي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ).

    ويشبه هذه الثلاثة الذهبية سلسلة مسند الربيع بن حبيب وثلاثياته ... أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس ، ورجال هذه السلسلة الربيعية من أوثق الرجال وأحفظهم و أصدقهم ، لم يشب أحاديثها شائبة انكار ولا ارسال ولاانقطاع ولااعضال.

    ولمزايا هذه الثلاثيات اهتمّ كثير من أئمّة الحديث بتأليف الثلاثيات.

    1 ـ ثلاثيات الإمام أحمد المطبوعة أخيراً بدمشق سنة 1380 هـ ، وشرحها في جزأين الإمام محمّد السفاريني ، وعدد ثلاثياته خمسة وستون ومائة حديث.

    2 ـ ثلاثيات البخاري وهي في صحيحه ثنان و عشرون حديثاً.

 

________________________________________

(332)

    3 ـ ثلاثيات الدارمي وهي خمسة عشر حديثاً وقعت في مسنده بسنده.

    4 ـ ثلاثيات الربيع بن حبيب الأزدي ، وأحاديثها في مسنده ، ورجال سلسلتها الثلاثية هم أبو عبيدة التميمي ، وجابر بن زيد الأزدي ، والبحر عبدالله بن عباس ـ شيخ جابر ـ ، وغيره من الصحابة.

    وقد طبع هذا المسند القديم مع شرحه للإمام عبدالله السالمي في أربعة مجلدات طبع اثنان منها في مصر والثالث بدمشق ، ولقد سبرته ولمست أنّ الرجل كان يملك شيئاً من الانصاف ، فلابأس بالاشارة إلى بعض خصوصياته.

 

انطباعات عن الجامع الصحيح :

    هذا الجامع : مسند الربيع بن حبيب الأزدي البصري رتّبه أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني وطبع في أربعة أجزاء تبلغ عدد صفحاته 302 صفحة ، طبع بدمشق سنة 1388 هـ بتقديم عبدالله بن حميد السالمي وأشرف على طبعه محمود غيران.

    أكثير المؤلّف في هذا المسند الروايات عن ضمام بن السائب البصري العثماني عن جابر.

    ثمّ عن أبي عبيدة (مسلم بن أبي كريمة).

    ثمّ عن أبي نوح (صالح بن نوح).

    ثمّ عن سائر مشايخه.

    وأكثر الروايات في الكتاب موقوفات تنتهي إلى الصحابة الاّ قليل منها مسند إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وممّا يشهد على كون الرجل موضوعياً أنّه نقل الروايات عن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) وإليك رواياته عنه :

 

________________________________________

(333)

« الباب (9) ما روى عن علي بن أبي طالب » :

« في التعظيم لله عزّوجلّ ونفي التشبيه له سبحانه عن الأشباه »

    قال الربيع : بلغني عن أبي مسعود ، عن عثمان بن عبدالرحمن المدني ، عن أبي إسحاق والشعبي قال : كان علي بن أبي طالب يقول في تمجيد الله عزّوجلّ : الحيُّ القائمُ الواحدُ الدائمُ فكَّاك المقادِمِ ورزّاقُ البهائم ، القائمُ بغير منصبة ، الدائم بغير غاية ، الخالق بغير كلفة ، فأعرَفُ العباد به الذي بالحدود لايصفُهُ ولا بما يوجد في الخلق يتوهّمه ، لاتدركه الأبصار وهو يدك الأبصار.

    « الباب (10) خطبة علي » :

    قال الربيع : وأخبرنا أبان قال : حدثنا يحيى بن إسماعيل ، عن الحارث الهمداني قال : بلغ عليّاً أنّ قوماً من أهل عسكره شبّهوا الله وأفرطوا ، قال : فخطب علي الناس فحمدالله وأثنى عليه ثمّ قال : يا أيّها الناس اتّقوا هذا العارقة (1) فقالوا : يا أمير المؤمنين وما العارقة؟ قال : الذين يشبّهون الله بأنفسهم ، فقالوا : وكيف يشبّهون الله بأنفسهم؟ قال : يضاهئون بذلك قول الذين كفروا من أهل الكتاب إذ قالوا : خلق الله آدم على صورته ، سبحانه وتعالى عمّا يقولون ، سبحانه وتعالى عمّا يشركون ، بل هو الله الواحد الذي ليس كمثله شيء ، استخلص الوحدانية والجبروت ، وأمضى المشيئة والارادة والقدرة والعلم بما هو كائن ، لامنازع له في شيء ، ولاكفؤ له يعادله ، ولاضد له ينازعه ، ولاسميّ له يشبهه ، ولامثل له يشاكله ، ولاتبدو له الاُمور ، ولاتجري عليه الأحوال ، ولا تنزل به الأحداث ، وهو يجري الأحوال وينزّل الأحداث على المخلوقين ، لايبلغ الواصفون كنه حقيقته ولايخطر على القلوب مبلغ جبروته لأنّه ليس له في

________________________________________

    1 ـ وفي نسخة الفارقة.

________________________________________

(334)

الخلق شبيه ولا له في الأشياء نظير ، لاتدركه العلماء بألبابها ولاأهل التفكير بتدبيرها وتفكيرها إلا بالتحقيق إيماناً بالغيب لأنّه لايوصف بشيء من صفات المخلوقين و هو الواحد الذي لاكفؤله ( وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ وَ أَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبيِرُ ).

    « الباب (11) قصة اليهودي مع علي بن أبي طالب » :

    قال : وأخبرنا إسماعيل بن يحيى قال : حدثنا سفيان (1) عن الضحّاك قال : جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب فقال : ياعلي متى كان ربّنا؟ فقال علي إنّما يقال متى كان لشيء لم يكن فكان ، وهو كائن بلاكينونة ، كائن بلاكيفية ، ولم يزل بلاكيف ، ليس له قبل وهو قبل القبل ، بلاغاية ولامنتهى غاية تنتهي إليها غايته انقطعت الغايات عنده وهو غاية الغايات.

    « الباب (12) قصة القصاب مع علي بن أبي طالب » :

    أخبرنا أبو قبيصة ، عن عبدالغفار الواسطيّ ، عن عطاء : انّ علي بن أبي طالب مرّ بقصّاب يقول : لاوالذي احتجب بسبع سموات لاأزيدُك شيئاً ، قال : فضرب علي بيده على كتفه فقال : يا لحّام إنّ الله لايحتجب عن خلقه ولكن (2) حجب خلقه عنه ، فقال : اُكفّر عن يميني؟ فقال : لا ، لأنّك إنّما حلفت بغيرالله (3) .

________________________________________

    1 ـ خ سنان.

    2 ـ خ ولكّنه.

    3 ـ قوله : انّما حلفت بغير الله ، هذا منه اعتبار بظاهر اللفظ انكاراً لما سمع وتغليظاً على القائل ، وإلاّ فإنّ الحالف انّما قصد الحلف بالله عزّوجلّ وإن أخطأ في وصفه والله أعلم.

________________________________________

(335)

    وقال علي بن أبي طالب لمّا وجّه رسله إلى معاوية بن أبي سفيان : صلّوا في رحالكم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة فإنّ الله لايتقبّل إلا من المتّقين.

    قال : وحدثني موسى بن جبير ، عن عبدالمجيد والفضيل بن عياض ، عن منصور بن المعتمر ، عن الحكم بن عيينة ، عن علي بن أبي طالب قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ اَحْسَنُوا الحُسْنى وَ زِيادَة ).

    قال : غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب (1) .

 

5 ـ أبو يحيى عبدالله بن يحيى الكندي (طالب الحق) :

    كان عبدالله بن يحيى بن عمر الكندي من حضرموت ، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة عامل القاسم بن عمر على حضرموت ، وهو عامل مروان على اليمن (2) .

    إنّ عبدالله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت ، وكتب إلى ابى عبيدة مسلم بن أبي كريمة وإلى غيرهم من الاباضية بالبصرة ، يشاورهم بالخروج ، فكتبوا إليه : إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فافعل ، وأشخص إليه ابو عبيدة ، أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي في رجال من الاباضية فقدموا عليه حضرموت ، فحثّوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه ، فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار العمارة وعلى حضرموت ، إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي ، فأخذوه فحبسوه يوماً ثم أطلقوه ، فأتى صنعاء وأقام عبدالله بن يحيى بحضرموت ، وكثر جمعهم ، وسمّوه « طالب الحق » ، ثمّ استولى على صنعاء فأخذ الضحّاك بن الزمل وإبراهيم بن

________________________________________

    1 ـ مسند ربيع بن حبيب : ص 217 ـ 219 و ص 205.

    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 176 ، نقلا عن الحارثي : العقود الفضية : 187.

________________________________________

(336)

جبلة بن مخرمة فحبسهما ، وجمع الخزائن والأموال فأحرزها ثمّ أرسل إلى الضحّاك وإبراهيم فأرسلهما ، وقال لهما : حبستكما خوفاً عليكما من العامة وليس عليكما مكروه فأقيما إن شئتما أو أشخصا ، فخرجا.

    فلمّا استولى عبدالله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس وقال : إنّا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه وإجابة من دعا إليهما. الإسلام ديننا ، ومحمّد نبيّنا ، والكعبة قبلتنا ، والقرآن إمامنا. رضينا بالحلال حلالا لانبغي به بدلا ، ولانشتري به ثمناً قليلا ، وحرّمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا ، ولاحول ولا قوّة إلاّ بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل ، من زنا فهو كافر ، ومن سرق فهو كافر ، ومن شرب الخمر ، فهو كافر ، ومن شكّ في أنّه كافر ، فهو كافر ، ندعوكم إلى فرائض بيّنات ، وآيات محكمات ، وآثار مقتدى بها ، ونشهد أنّ الله صادق فيما وعد ، عدل فيما حكم ، وندعوا إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد ، واداء الفرائض ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والولاية لأهل ولاية الله ، والعداوة لأعداء الله. كلّ ذلك كان في سنة ثمان و عشرين ومائة (1) .

    ثمّ إنّه استولى على مكّة ثم المدينة وذلك في الوقت الذي بدأت ثورة بني العباس في خراسان ، فكانت الدولة المركزية المروانية مشغولة باخماد الثورة ، فانتهز طالب الحق الفرصة وبسط سيطرته على الحجاز كلّه ، ولكن في سنة ثلاثين ومائة جهزّ مروان بن محمّد جيشاً مع عبدالملك بن محمد بن عطية السعدي فلقى الخوارج بوادي القرى فقتل بلج بن عقبة ، وفرّ أبو حمزة في بقيّتهم إلى مكة ، فلحقهم عبدالملك فكانت بينهم وقعة قتل فيها أبو حمزة وأكثر من كان معه من الخوارج ، وصار عبدالملك في جيش مروان من أهل الشام يريد

________________________________________

    1 ـ أبو الفرج الاصبهاني : الأغاني 23/224 ـ 256 ، وقد بسط الكلام في خبر عبدالله بن يحيى وخروجه ومقتله.

________________________________________

(337)

اليمن. وخرج عبدالله بن يحيى الكندي الخارجي من صنعاء فالتقوا بناحية الطائف وأرض جرس فكانت بينهم حرب عظيمة قتل فيها عبدالله بن يحيى وأكثر من كان معه من الاباضية ، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

    يقول المسعودي : فأكثرها اباضية إلى هذا الوقت وهو سنة 332 هـ ولا فرق بينهم وبين من بعمان من الخوارج في هذا المذهب (1) .

 

أئمّة الاباضية في القرون الاُولى :

    قد تعرّفت على الشخصيات البارزة للاباضية في القرن الأوّل وبداية القرن الثاني ، غير أنّ أئمّتهم وشخصياتهم لاتحصر فيما ذكرنا ، ونحن نأتي بقائمة أسمائهم فمن أراد التوسّع فليرجع إلى تراجمهم في الكتب المعدّة ، فقد ذكروا أنّ لهم وراء من ذكرنا ترجمتهم ، أئمّة بالأسماء التالية :

 

القرن الأوّل :

    1 ـ جعفر بن السماك العبدي.

    2 ـ أبوسفيان قنبر.

    3 ـ الصحار العبدي.

 

القرن الثاني :

    4 ـ صمّام بن السائب.

    5 ـ أبو نوح صالح الدهان.

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/242 طبع دار الأندلس. الطبري : التاريخ 6/41 و 7/394 ـ 400. وابن الأثير : الكامل 5/351 دار صادر.

________________________________________

(338)

    6 ـ الجلندي بن مسعود العماني.

    7 ـ أبو الخطاب عبد الأعلى المعافري.

    8 ـ هلال بن عطية الخراساني.

    9 ـ أبو سنيان محبوب بن الرحيل.

    10 ـ أبو صفره عبدالملك بن صفره.

    11 ـ عبدالرحمن بن رستم.

    12 ـ محمّد بن يائس.

    13 ـ أبو الحسن الأيدلاتي.

 

القرن الثالث :

    14 ـ أفلح بن عبدالوهاب.

    15 ـ عبدالخالق القزاني.

    16 ـ محكم الهواري.

    17 ـ المهتا بن جيفر.

    18 ـ موسى بن علي.

    19 ـ أبو عيسى الخراساني.

    20 ـ محمّد بن محبوب.

    21 ـ محمّد بن عباد.

    22 ـ الصلت بن مالك.

    23 ـ أبو اليقظان بن أفلح.

    24 ـ أبو منصور الياس.

    25 ـ عمروص بن فهد.

 

________________________________________

(339)

    26 ـ هود بن محكم.

 

القرن الرابع :

    27 ـ أبو الخضر يعلى بن أيّوب.

    28 ـ أبو القاسم يزيد بن مخلد.

    29 ـ أبو هارون موسى بن هارون (1) .

    إنّ الكاتب المعاصر علي يحيى معمّر ، ترجم جابر بن زيد و أبا عبيدة مسلم في الجزء الأوّل من كتابه « الاباضية في موكب التاريخ » تحت عنوان الاباضية في قيادة الاُمّة 145 ـ 155 ، ثمّ خصّ الجزء الثاني بترجمة أئمّتهم وذكر كثيراً منهم القاطنين في « ليبيا » بعد البحث عن « دخول المذهب الاباضي الى ليبيا » ومن اراد الوقوف فليرجع الى هذا الجزء 21 ـ 197.

 

دول الاباضية :

    قد قام باسم الاباضية عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلامية :

    1 ـ دولة في عمان استقلّت عن الدولة العباسية في عهد أبي العباس السفّاح سنة 132 ، ولاتزال إلى اليوم.

    2 ـ دولة في ليبيا سنة 140 ولم تعمّر طويلا فقد انتهت بعد نحو ثلاث سنوات.

    3 ـ دولة قامت في الجزائر سنة 160 ، وقد بقيت إلى حوالي 190 ، ثمّ قضت عليها الدولة العبيدية.

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية : 1 / 27 ـ 28.

________________________________________

(340)

    4 ـ دولة قامت في الأندلس ولا سيّما في جزيرتي « ميورقة » و « مينورقة » ، و« ليس لدينا من أخبارهم الكثير وقد انتهت يوم انتهت الأندلس وأطفأ التعصّب الغربي شعلة الإسلام في تلك الديار » (1) .

    هذه الاباضية ، وهذا ماضيهم وحاضرهم ، وقد قدمّنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ، ونشوئهم وحروبهم وشخصياتهم وعقائدهم ، وقد جرّدنا أنفسنا عن كل نزعة نفسانية تعرقلنا عن الوصول إلى الحق ، والله وراء القصد.

    وقد حان لنا انجاز الوعد الذي سبق منّا ، وهو نشر ما كتبه « عبدالله بن اباض » إلى عبدالملك بن مروان ، وإليك نصُّه :

 

رسالة عبدالله بن أباض

إلى عبدالملك بن مروان

بسم الله الرحمن الرحيم

    من عبدالله بن أباض إلى عبدالملك بن مروان : سلام عليك. فإنّي أحمد إليك الله الذي الا إله إلاّ هو و اُصويك بتقوى الله فإنّ العاقبة للتقوى والمرد إلى الله ، واعلم أنّه إنّما يتقّبل الله من المتّقين.

    أمّا بعد ، جاءني كتابك مع سنان بن عاصم ، وإنّك كتبت إليَّ أن أكتب إليك بكتاب ، فكبت به إليك ، فمنه ما تعرف ومنه ماتنكره ، زعمت أنّما عرفت منه ما ذكرت به من كتاب الله وحضضت عليه من طاعة الله ، واتّباع أمره ، وسنّة نبيّه ، وأمّا الذي أنكرت منه فهو عندالله غير منكر. وأمّا ما ذكرت من عثمان والذي عرضت به من شأن الأئمّة وأنّ الله ليس ينكر عليه أحد شهادته في كتابه بما أنزله على رسوله أنّه من لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الظالمون

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/92 ـ 93.

(341)

والكافرون والفاسقون (1) . وانّي لم أكن أذكر لك شيئاً من شأن عثمان و الأئمّة إلاّ والله يعلمه أنّه الحق ، وسأنزع لك من ذلك البيّنة من كتاب الله الذي أنزله على رسوله ، وسأكتب إليك في الذي كتبت به ، وأخبرك من خبر عثمان والذي طعنّا عليه فيه ، وأبيّن شأنه والذي أتى عثمان.

    لقد كان كما ذكرت من قدم في الإسلام وعمل به ولكنّ الله لم يجر العباد من الفتنة والردّة عن الإسلام ، وإنّ الله بعث محمّداً بالحق ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وأنزل الكتاب فيه بيّنات كل شيء يحكم بين الناس فيما اختلفوا ( هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ) (2) . فأحلّ الله في كتابه حلالا وحرّم حراماً وفرض فيه حكماً وفصّل فيه قضاءه وبيّن حدوده فقال : ( تِلْكَ حُدودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ) (3) . وقال : ( وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللهِ فاُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (4) . وقسم ربّنا قسماً وليس لعباده فيه الخيرة ، ثمّ أمر نبيّه باتّباع كتابه ، فقال للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : ( وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبُكَ ) (5) . وقال : ( فَإِذَا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (6) . فعمل محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بأمر ربّه ومعه عثمان ومن شاء الله من أصحابه لايرون رسول الله يتعدّى من قبله شيئاً ، ولايبدّل فريضة ، ولايستحلّ شيئاً حرّمه الله ، ولايحرّم شيئاً أحلّه الله ، ولايحكم بين الناس إلاّ بما

________________________________________

    1 ـ قال الله تعالى في سورة المائدة 44 ـ 45 و 47. ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ). ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ). ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَاُولئكَ هم الفاسِقُونَ ).

    2 ـ الأعراف : 52 ، ويوسف 111.

    3 ـ البقرة : 187.

    4 ـ البقرة : 229.

    5 ـ الأحزاب : 2.

    6 ـ القيامة : 18 ـ 19.

________________________________________

(342)

أنزل الله ، فكان يقول : ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبَّي عَذَابَ يَوْم عَظيِم ) (1) . فسّر ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ما شاء الله تابعاً لما أمر الله ، يتبع ما جاء من الله ، والمؤمنون معه يعلّمهم وينظرون إلى عمله حتى توفّاه الله عليه الصلاة والسلام وهم عنه راضون ، فنسأل الله سبيله وعملا بسنّته. ثم أورث الله عباده الكتاب الذي جاء به محمّد وهداه ولايهتدي من اهتدى من الناس إلاّ باتّباعه ولايضّل من ضلّ من الناس إلاّ بتركه.

    ثمّ قام من بعده أبو بكر على الناس فأخذ بكتاب الله وسنّة نبّيه ولم يفارقه أحد من المسلمين في حكم حكمه ، ولاقسم قسّمه حتى فارق الدنيا وأهل الإسلام عنه راضون وله مجامعون.

    ثمّ قام من بعده عمر بن الخطاب قوّياً في الأمر ، شديداً على أهل النفاق ، يهتدي بمن كان قبله من المؤمنين ، يحكم بكتاب الله ، وابتلاه الله بفتوح من الدنيا ما لم يبتل به صاحباه ، وفارق الدنيا و الدين ظاهر وكلمة الإسلام جامعة وشهادتهم قائمة ، والمؤمنون شهداء الله في الأرض. وكذلك قال الله : ( جَعَلْنَا كُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (2) . ثمّ أشار المؤمنون فولّوا عثمان ، فعمل ماشاء الله بما يعرف أهل الإسلام حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله. ثمّ أحدث اُموراً لم يعمل به صاحباه قبله ، وعهد الناس يومئذ قريب بنبيّهم حديث. فلمّا رأى المؤمنون ما أحدث عثمان أتوه فكلّموه وذكّروه بكتاب الله وسنّة من كان قبله من المؤمنين.

    وقال الله : ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ الُْمجرِمِيْنَ

________________________________________

    1 ـ الأنعام : 15 ، ويونس : 15.

    2 ـ البقرة : 143.

________________________________________

(343)

مُنْتَقِمُونَ ) (1) . فسفَّه أن ذكّروه بآيات الله وأخذهم بالجبروت ، وضرب منهم من شاء الله وسجن ونفاهم في أطراف الأرض من شاء الله منهم نفياً أن ذكّروه بكتاب الله وسنّة نبيّه ومن كان قبله من المؤمنين ، وقال الله : ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَ نَسِىَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ) (2) .

    وإنّي اُبيّن لك يا عبدالملك بن مروان الذي أنكر المؤمنون على عثمان وفارقناه عليه فيما استحلّ من المعاصي عسى أن تكون جاهلا عنه غافلا وأنت على دينه وهواه !! لايحملنّك يا عبدالملك هوى عثمان أن تجحد بآيات الله وتكذّب بها!!! فإنّ عثمان لايغني عنك من الله شيئاً ، فالله ، الله يا عبدالملك بن مروان قبل التناوش من مكان بعيد ، وقبل أن يكون لزاماً ، وأجل مسمّى!! وإنّه كان ممّا طعن المؤمنون عليه وفارقوه وفارقناه فيه ، فإنّ الله قال : ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِها اُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أنْ يَدْخُلُوها إلاّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزىٌ وَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ ) (3) . فكان عثمان أوّل من منع مساجد الله أن يقضى فيها بكتاب الله. وممّا نقمناه عليه وفارقناه عليه أنّ الله قال لمحمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ( لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداةِ وَ العَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِم مِنْ شَىْء وَ ما مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمينَ ) (4) .

    فكان أوّل (5) هذه الاُمّة طردهم ونفاهم ، فكان ممّن نفاهم من أهل المدينة

________________________________________

    1 ـ السجدة : 22 ـ

    2 ـ الكهف : 57.

    3 ـ البقرة : 114.

    4 ـ الأنعام : 52.

    5 ـ في نسخة « خيار ».

________________________________________

(344)

أبوذَرّ الغفاري ، ومسلم الجهني ، ونافع بن الحطام (1) ، ونفى من أهل الكوفة كعب بن أبي الحلمة ، وأبي الرحل الوجاج ، و جندب بن زهير (2) ، وجندب هو الذي قتل الساحر الذي كان يلعب به الوليد بن عقبة (3) ، ونفى عمرو بن زرارة ، وزيد بن صوحان (4) ، وأسود بن ذريح ، ويزيد بن قيس الهمداني ، وكردوس بن الحضرمي ، في ناس كثير من أهل الكوفة.

    ونفى من أهل البصرة عامر بن عبدالله القشري ، ومذعور العبدي ولا أستطيع لك عددهم من المؤمنين.

    وممّا نقمنا عليه أنّه أمّر أخاه الوليد بن عقبة على المؤمنين ، وكان يلعب بالسحرة ويصلّي بالناس سكران ، فاسق في دين الله ، أمّره من أجل قرابته ، على المؤمنين المهاجرين و الأنصار ، وإنّما عهدهم حديث بعهدالله ورسوله والمؤمنين.

    وممّا نقمنا عليه إمارته قرابته على عبادالله وجعل المال دولة بين الأغنياء ، وقال الله : ( كَيْ لاَ يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ ) (5) . وبدّل كلام الله وبدَّل القول واتّبع الهوى.

________________________________________

    1 ـ ورد الاسم أيضاً : « نافع بن الحطامي ».

    2 ـ جندب بن زهير الأزدي : ذكر الطبري أنّه قتل في صفّين وهو يحارب مع عليّ بن أبي طالب.

    3 ـ الوليد بن عقبة ، أخ عثمان بن عفان لاُمّه ، وروي أنّه وهو أمير على الكوفة ، صلّى بالناس الصبح وهو سكران ، ثمّ قال لهم : إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم ، فلمّا بلغ عثمان ذلك لم يسرع إلى إقامة الحدّ عليه ، بل أخّر ذلك. (انظر : ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ج 1 ص 36).

    4 ـ زيد بن صوحان : قتل شهيداً يوم الجمل.

    5 ـ الحشر : 7.

________________________________________

(345)

    وممّا نقمنا عليه أنّه انطلق إلى الأرض ليحميها لنفسه ولأهله (1) حمى حتى منع قطر السماء والرزق الذي أنزله الله لعباده ، لأنفسهم وأنعامهم. وقد قال الله : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالا قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون* وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيامَةَ ) (2) .

    وممّا نقمنا عليه أنّه أوّل من تعدّى في الصدقات وقد قال الله : ( إنَّمَا الصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ المَساكِينَ وَ العامِلِينَ عَلَيْهَا وَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الغَارِمينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السِّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (3) . وقال الله : ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَ لامُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاَ مُبيناً ) (4) .

    وأحدث عثمان منه فرائض كان فرضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رحمة الله عليه ـ ، وانتقص أصحاب بدر ألّفاً من عطائهم ، وكنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله ، وقال الله : ( وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْها فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِهَا جِباهُهُمْ

________________________________________

    1 ـ يقال حمى فلان الأرض يحميها حمى حتى لايقرب. والحمى موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. وقال الإمام الشافعي في تفسير قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) « لا حمى إلاّ لله ولرسوله » : كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصّته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره ، فلم يرعه معه أحد ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله ، فنهى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. (انظر : دكتور حسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسي ج 1 هامش صفحة 273).

    2 ـ يونس : 59 ـ 60.

    3 ـ التوبة : 60.

    4 ـ الأحزاب : 36.

________________________________________

(346)

وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (1) .

    وممّا نقمنا عليه أنّه كان يضمّ كلّ ضالّة إلى إبله ولايرّدها ولايعرّفها ، وكان يأخذ من الإبل والغنم ممّن وجد ما عنده من الناس وإن كانوا قد أسلموا عليها (2) ، وكان لهم في حكم الله أنّ لهم ما أسلموا عليه. وقال الله : ( وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلاتَعْثُوْا فِى الأرضِ مُفسدِينَ ) (3) . وقال : ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَراض مِنْكُمْ ولاتَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيِه ناراً وَ كانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) (4) .

    وممّا نقمنا عليه أنّه أخذ خمس الله لنفسه ويعطيها أقاربه ويجعل منهم عمّالا على أصحابه وكان ذلك تبديلا لفرائض الله ، وفرض الله الخمس لله ولرسوله : ( وَلِذِي القُرْبَى وَ اليَتَامَى وَ المسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَ مَا أنْزَلْنا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (5) .

    وممّا نقمنا عليه أنّه منع أهل البحرين وأهل عُمان أن يبيعوا شيئاً من طعامهم حتى يباع طعام الإمارة ، وكان ذلك تحريماً لما أحلّ الله : ( وَ اَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (6) .

    فلو أردنا أن نخبر بكثير من مظالم عثمان لم نحصها إلاّ ما شاء الله ، وكل ما عددت عليكم من عمل عثمان يُكفّر الرجل أن يعمل ببعض هذا.

________________________________________

    1 ـ التوبة : 34 ـ 35.

    2 ـ أسلموا عليها : تصالحوا عليها.

    3 ـ هود : 85.

    4 ـ النساء : 29 ـ 30.

    5 ـ الأنفال : 41.

    6 ـ البقرة : 275.

________________________________________

(347)

    وكان من عمل عثمان أنّه يحكم بغير ما أنزل الله وخالف سنّة نبي الله والخليفتين الصالحين أبي بكر و عمر وقد قال الله : ( وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصيِرَاً ) (1) .

    وقال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ). (2) ، ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) ، ( وَ مَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرَاً ) (4) ، وقال : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ ) (5) ، وقال : ( وَ لاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُون ) (6) .

    وقال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ) والفاسقون (7) والكافرون (8) وقال : ( ألا لَعَنةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين ).

    وقال : ( ومَنْ يَلعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيراً ). وقال : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ). وقال : ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلمةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ ) (9) . فكل هذه الآيات تشهد على عثمان ، وإنّما شهدنا بما شهدت هذه الآيات : ( اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أنَزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ المَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفَى بِاللهِ

________________________________________

    1 ـ النساء : 115.

    2 ـ المائدة 45.

    3 ـ هود : 18.

    4 ـ النساء : 52.

    5 ـ البقرة : 124.

    6 ـ هود : 113.

    7 ـ وفي سورة المائدة : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) آية 47.

    8 ـ وفي سورة المائدة : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ) آية 44.

    9 ـ يونس 33.

________________________________________

(348)

شَهِيداً ). (1)

    وقال : ( فَوَرَبِّ السَّماءِ وَ الأرضِ إنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (2) .

    فلمّا رأى المؤمنون الذي نزل به عثمان من معصية الله ، والمؤمنون شهداء الله ناظرون أعمال الناس ، وكذلك قال الله : ( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ المُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إلَى عالِمِ الغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) (3) .

    و ترك خصومة الخصمين في الحق والباطل ودفع ما وعد الله من الفتن ، وقال الله : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ ) (4) .

    فعلم المؤمنون أنّ طاعة عثمان على ذلك طاعة إبليس ، فساروا إلى عثمان من أطراف الأرض ، واجتمعوا في ملأ من المهاجرين والأنصار وعامّة أزواج النبيـ عليه الصلاة والسلام ـ فأتوه فذكّروه الله وأخبروه الذي أتى من معاصي الله ، فزعم أنّه يعرف الذي يقولون ، وأنّه يتوب إلى الله منه و يراجع الحق فيقبلوا منه الذي اتّقاهم به من اعتراف الذنب والتوبة والرجوع إلى أمر الله ، فجامعوه وقبلوا منه ، وكان حقّاً على أهل الإسلام إذا اتّقوا بالحق أن يقبلوه ويجامعوه ما استقام على الحق. فلمّا تفرّق الناس على ما اتّقاهم به من الحق نكث عن الذي عاهدهم عليه وعاد فيما تاب منه ، فكتب في أدبارهم أن تقطع أيدهم و أرجلهم من خلاف. فلمّا ظهر المؤمنون على كتابه ونكثه على العهد الذي عاهدهم عليه رجعوا فقتلوه بحكم الله ، وقال الله : ( وَ إنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ

________________________________________

    1 ـ النساء : 166.

    2 ـ الذاريات : 23.

    3 ـ التوبة : 105.

    4 ـ العنكبوت : 1 ـ 3.

________________________________________

(349)

مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) (1) . فجامع أهل الاسلام ما شاءالله ، وعمل بالحق ، وقد يعمل الإنسان بالاسلام زماناً ثم يرتد عنه. وقال الله : ( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أمْلَى لَهُمْ ) (2) .

    فلمّا استحلّ معصية الله وترك سنّة من كان قبله من المؤمنين ، علم المؤمنون أنّ الجهاد في سبيل الله أولى ، وأنّ الطاعة في مجاهدة عثمان على أحكامه. فهذا من خبر عثمان والذي فارقناه فيه ، ونطعن عليه اليوم ، وطعن عليه المؤمنون قبلنا ، وذكرت أنّه كان مع رسول الله وختنه (3) ، فقد كان عليّ بن أبي طالب أقرب إلى رسول الله وأحبّ إليه منه ، وكان ختنه ومن أهل الإسلام. وأنت تشهد عليه بذلك وأنا بعد على ذلك ، فكيف تكون قرابته من محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) نجاةً إذا ترك الحق وضلّ كفراً (4) .

    واعلم ، إنّما علامة كفر هذه الاُمّة كفرها الحكم بغير ما أنزل الله ، ذلك بأنّ الله قال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكَافِرُون ) (5) .فلا أصدق من الله قيلا ، وقال : ( فَبِأيِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ ) (6) .

________________________________________

    1 ـ التوبة : 12.

    2 ـ محمّد : 25.

    3 ـ الختن : زوج الابنة. الجمع أختان.

    4 ـ قال سبحانه لنبيّه : ( لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الزمر / 65 ، ولكن الكلام في وقوع الشرط. إنّ الإمام لم يشرك ، ولم يضل أبداً. إنّما ترك الحق اُولئِكَ الذين ألجأوه إلى إجابة دعوة الشاميين ، وحذّروه من مواصلة الحرب وقد كان الامام على أعتاب النصر ، وقد بلغوا في اللجاج والعناد إلى حدّ لم يمهلوا القائد لقواته ـ الأشتر ـ عدوة فرس أو فواق ناقة ، فلاحظ.

    5 ـ المائدة : 44.

    6 ـ الجاثية : 6.

________________________________________

(350)

    فلا يغرّنّك يا عبدالملك بن مروان ، عثمان عن نفسك ، ولاتسند دينك إلى الرجال يتمنّون ويريدون ويستدرجون من حيث لايعلمون ، فإنّ أملك الأعمال بخواتمها ، وكتاب الله جديد ينطق بالحق أجارنا الله باتباعه أن نضل او نبغي (1) فاعتصم بحبل الله يا عبدالملك واعتصم بالله ، وإنّه من يعتصم بالله يهده صراطاً مستقيماً. وهو حبل الله الذي أمر المؤمنين أن يعتصموا به ولايتفرّقوا. وليس حبل الله الرجال من أيّهم حَسُنَ ينهبون ويطعنون ، فاُذكّرك الله لما أن تدبّرت القرآن فإنّه حق. وقال الله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أقْفالُها ) (2) .فكّن تابعاً لما جاء من الله تهتدي ، وبه تخاصم من خاصمك من الناس ، وإليه تدعو وبه تحتجّ ، فإنّه من يكن القرآن حجّته يوم القيامة به يخاصم من خاصمه ويفلح في الدنيا والآخرة. فإنّ الناس فقد اختصموا( إنَّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) (3) فتعمل لما بعد الموت ولايغرّنّك بالله الغرور.

    وأَمّا قولك في شأن معاوية بن أبي سفيان أنّ الله قام معه وعجّل نصره وأفلح حجّه وأظهره على عدوّه بطلب دم عثمان ، فإن يكن يعتبر الدين من قبل الدولة أن يظهر الناس بعضهم على بعض في الدنيا فإنّا لانعتبر الدين بالدولة ، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون ، وقد ظهر الكفّار على المسلمين ليبتلي المسلمين بذلك ويعلى الكافرين (4) . وقال : ( وَ تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَ لُِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الكافِرِين ) (5) .

________________________________________

    1 ـ وفي نسخة : « أن نبغي أو نضل ».

    2 ـ محمّد : 24.

    3 ـ الزمر : 31 ـ

    4 ـ وفي نسخة « ويملأ الكافرين ».

    5 ـ آل عمران 140 ـ 141.

(351)

    فإن كان الدين إذا ظهر الناس بعضهم على بعض فقد سمعت الذي أصاب المشركون من يوم اُحُد ، وقد ظهر الذين قتلوا ابن عفان عليه وعلى شيعته يوم الدار (1) وظهر أيضاً عليّ ، على أهل البصرة وهم شيعة عثمان (2) ، وظهر المختار على ابن زياد (3) ، وأصحابه وهم شيعتهم ، وظهر معصب الخبيث على المختار (4) وظهر ابن السجف على أخنس بن دلجة وأصحابه ، وظهر أهل الشام على أهل المدينة (5) ، وظهر ابن الزبير على أهل الشام بمكة يوم استفتحوا منها ما حرّم الله عليكم وهم شيعتكم.

    فإن كان هؤلاء على الدين فلايعتبر الدين من قبل الدولة ، فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ويعطي الله رجالا ملكاً في الدنيا ، فقد أعطى فرعون ملكاً وظهر في الأرض ، وقد أعطى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه ، وقد أعطى فرعون ما سمعت.

    ثمّ إنّما اشترى معاوية (6) الإمارة من الحسن بن علي ، ثمّ لم يف له بالذي

________________________________________

    1 ـ اقتحم الثوار على عثمان بن عفان داره ، بعد أن نشب القتال بينهم وبين من تصّدى للدفاع عنه وذلك في الثامن عشر من ذي الحجّة سنة 35 هـ وقتلوه وعرف ذلك اليوم بـ « يوم الدار ».

    2 ـ يشير إلى انتصار الإمام علي بن أبي طالب في وقعة الجمل ، التي دارت بينه و بين عائشة وطلحة والزبير وذلك في جمادى الآخرة سنة 36 هـ.

    3 ـ أرسل المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيدالله بن زياد عامل الأمويين. وسار إبراهيم بن الأشتر حين لقى ابن زياد ومن معه من أهل الشام على نهر الخازر(نهر بين اربيل و الموصل ويصب في دجلة) فدارت الدائرة على ابن زياد وقتل هووكثير من أهل الشام وحمل رأسه إلى المختار.

    4 ـ هزم المختار وقتل في الكوفة سنة 67 هـ في الحرب التي دارت بينه و بين مصعب بن الزبير.

    5 ـ حاضر مسلم بن عقبة المري ، المدينة المنورة ، من ناحية الحرة وفتحها وأباحها ، وذلك في أثناء حكم يزيد بن معاوية.

    6 ـ تعبير خاطئ والصحيح : تصالح الإمام مع معاوية بعد ما أتمّ الحجّة على الاُمّة.

________________________________________

(352)

عاهده عليه ، وقال : ( وُ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا اِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُم فِيهَ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

    فلا تسأل عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه ، غير أنّا قد أدركنا ورأينا عمله وسيرته في الناس ولا نعلم من الناس أحداً (2) أترك للقسمة التي قسمها اللّه ، ولا لحكم حكمه الله ، ولاأسفك لدم حرام منه ، فلو لم يصب من الدماء إلاّ دم ابن سمية (3) لكان في ذلك ما يكفّره.

    ثمّ استخلف ابنه يزيد فاسقاً من الناس لعيناً يشرب الخمر المكفر فيكفيه من السوء ، وكان يتبع هواه بغير هدى من الله وقال الله : ( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إنَّ الله لا يَهدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (4) . فلم يخف عمل معاوية ويزيد على كل ذي عقل من الناس ، فاتّق الله يا عبدالملك ولاتخادع من نفسك في معاوية!! فقد بلغنا أنّ أهل البيت يطعنون على معاوية ويزيد وعملهما وما رأى من خبر معاوية من بعدهما ، فالذي طعنّا عليهما وعليه وفارقناه عليه ، فإنّ منهم فتنة كمن يكون يتولّى عثمان ومن بعده. فإنّا نشهد الله والملائكة أنّا منهم

________________________________________

    1 ـ النحل : 91 ـ 92.

    2 ـ كتب في المخطوطة : « شيئاً لأحد ».

    3 ـ يشير إلى ما عمله معاوية بن أبي سفيان في سنة 45 هـ حين ردّ اعتبار زياد بن سمية في نسبه فأحبّ أن يجعله أخاه وأتى بشهود شهدوا بأنّه ابن أبي سفيان ، وهذا ما يعبّر عنه بالاستلحاق. وأصبح زياد يعرف باسم زياد بن أبي سفيان بعد أن كان يعرف باسم زياد بن سمية أو زياد بن أبيه. وقد دفع معاوية إلى ذلك الاعتبارات السياسية ، ومنذ أن اعترف معاوية بن أبي سفيان بزياد أخاً له وابناً غير شرعي لأبيه ، تفانى زياد في خدمة البيت الأموي.

    4 ـ القصص : 50.

________________________________________

(353)

براء ولهم أعداء ، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا ، نعيش على ذلك ما عشنا ونموت عليه إذا متنا ، ونبعث عليه إذا بعثنا ، نحاسب بذلك عندالله.

    وكتبت إليّ تحذّرني الغلو في الدين ، وإنّي أعوذ بالله من الغلو في الدين ، وساُبيّن لك ماالغلو في الدين إذا جهلته ، فإنّه ما كان يقال على الله غير الحق ويعمل بغير كتابه الذي بيّن لنا وسنّة نبيه الذي بيّن لنا ، اتباعك قوماً قد ضلّوا وأضلّوا عن سواء السبيل. فذلك عثمان والأئمّة من بعدهم وأنت على طاعتهم وتجامعهم على معصية الله ، والله يقول : ( يا أهْلَ الكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحَقَّ ) (1) . فهذا سبيل أهل الغلو في الدين فليس من دعا إلى الله وإلى كتابه ورضى بحكمه ، وغضب لله حين عصي أمره ، وأخذ بحكمه حين ضيع وتركت سنّة نبيّه.

    وكتبت إليّ تعرض على الخوارج ، تزعم أنّهم يغلون في دينهم ويفارقون أهل الإسلام ، وتزعم أنّهم يتّبعون غير سبيل المؤمنين ، وإنّني اُبيّن لك سبليهم ، إنّهم أصحاب عثمان ، والذي أنكروا عليه ما أحدث من تغيير السنّة ، فارقوه حين أحدث وترك حكم الله ، وفارقوه حين عصى ربّه ، وهم أصحاب عليّ بن أبي طالب حين حكّم عمرو بن العاص (2) وترك حكم الله ، فأنكروه عليه وفارقوه فيه وأبوا أن يقرّوا لحكم البشر دون حكم كتاب الله ، فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة وأشدّ مفارقة. كانوا يتولّون في دينهم وسنّتهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وأبا بكر وعمر بن الخطاب ، ويدعون إلى سبيلهم ويرضون بسنّتهم على ذلك ، كانوا يخرجون وإليه يدعون وعليه يفارقون. وقد علم من عرفهم من الناس ورأى عملهم أنّهم كانوا أحسن الناس

________________________________________

    1 ـ النساء : 171.

    2 ـ لم يحكّم عمروبن العاص ، وإنّما حكّم القرآن كما تشهد على ذلك وثيقة التحيكم.فلاحظ.

________________________________________

(354)

عملا وأشدّ قتالا في سبيل الله. وقال الله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) (1) .

    فهذا خبر الخوارج ، نشهد الله والملائكة انّا لمن عاداهم أعداء وانّا لمن والاهم أولياء ، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا ، على ذلك نعيش ماعشنا ، ونموت على ذلك إذا متنا ، غير أنّا نبرأ إلى الله من ابن الأزرق وأتباعه من الناس ، لقد كانوا خرجوا حين خرجوا على الإسلام فيما ظهر لنا ، ولكنّهم ارتدّوا عنه وكفروا بعد إيمانهم (2) فنبرأ إلى الله منهم.

    أمّا بعد فإنّك كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك ، وأجتهد في النصيحة ، وإنّي اُبيّن لك إن كنت تعلم و أفضل ما كتبت إليك به ، وذكّرتني بالله أن اُبيّن لك فإنّي قد بيّنت لك بجهد نفسي ، وأخبرتك خبر الاُمّة ، وكان حقَّاً عليّ أن أنصح لك واُبيّن لك ما قد علمت. إنّ الله يقول : ( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّناتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ اُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَ أصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أنا التَّوَّابُ الرَّحيمُ ) (3) . فإنَّ الله لم يتَّخذني عبداً وأن أكفر بربّي ، ولااُخادع الناس بشيء ليس في نفسي ، واُخالف إلى ما أنهى عنه ، فأمري علانية غير سرّ ، أدعو إلى كتاب الله وليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ويرضوا بحكمه ويتوبوا إلى ربّهم ويراجعوا كتاب الله ، ولئن أدعوكم إلى كتاب الله ليحكم بيني وبينكم في الذي اختلفوا فيه ، ونحرّم ما حرّم الله ، ونحكم بما حكم الله ، ونبرأ ممّن برىء اللهُ منه ورسوله ، ونتولّى من يتولّاه الله ، ونطيع من أحلّ لنا طاعة في كتابه ، ونعصي

________________________________________

    1 ـ التوبة : 123.

    2 ـ يشيرهنا إلى تبرّئ الاباضية من نافع بن الأزرق والأزارقة وذلك لغلوّهم وتطرّفهم في الدين.

    3 ـ البقرة : 159 ـ 160.

________________________________________

(355)

من أمر الله بمعصيته. أن نطيعه فهذا الذي أدركنا عليه نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله وسلم ). وإنّ هذه الاُمّة لم تحرّم حراماً ولم تسفك دماءً إلاّ حين تركوا كتاب ربّهم الذي أمرهم أن يعتصموا به ، ويأمنوا عليه ، وانّهم لايزالون مفترقين مختلفين حتى يراجعوا كتاب الله وسنّة نبيّه ، وينتصحوا كتاب الله على أنفسهم ، ويحكّموه إلى ما اختلفوا فيه. فإنّ الله يقول : ( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيِه مِنْ شَيء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ أُنيبُ ) (1) . وإنّ هذا هو السبيل الواضح لايشبّه به شيء من السبل ، وهو الذي هدى الله به من كان قبلنا ، محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) والخليفتين الصالحين من بعده ، فلايضلّ من اتّبعه ولايهتدي من تركه ، وقال : ( وَ أَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوهُ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (2) . فاحذر أن تفرّق بك السبل عن سبيله ، ويزّين لك الضلالة باتّباعك هواك فيما جمعت إليه الرجال ، فإنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، إنّما هي الأهواء والدين. إنّما يتبع الناس في الدنيا والآخرة إمامين ، إمام هدى ، وإمام ضلالة. أمّا إمام الهدى فهو يحكم بما أنزل الله ويقسم بقسمه ويتبع كتاب الله ، وهم الذين قال الله : ( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (3) وهؤلاء أولياء المؤمنين الذين أمرالله بطاعتهم ، ونهى عن معصيتهم. وأمّا إمام الضلالة فهو الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقسم بغير ما قسم الله ، ويتبع هواه بغير سنّة من الله فذلك كفر كما سمّى الله ، ونهى عن طاعتهم وأمر بجهادهم ، وقال : ( فَلا تُطِعِ الكافِرينَ وَ جاهِدَهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيرا ) (4) .

________________________________________

    1 ـ الشورى : 10.

    2 ـ الأنعام : 153.

    3 ـ السجدة : 24.

    4 ـ الفرقان : 52.

________________________________________

(356)

فإنّه حقّ أنزله بالحق وينطق به ، وليس بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون. ولا يضربن الذكر عنك صفحاً ، ولاتشكّنّ في كتاب الله ، ولا حول ولاقوّة إلاّ بالله ، فإنّه من لم ينفعه كتاب الله ، لم ينفعه غيره.

    كتبت إليّ أن أكتب إليك بمرجوع كتابك ، فإنّي قد كتبت إليك ، وأنا اُذكّرك بالله العظيم إنّ استطعت بالله لمّا قرأت كتابي ثمّ تدبّر فيه وأنت فارغ ثم تدبّره ، فقد كتبت إليك بجواب كتابك وبيّنت لك ما علمت ونصحت لك. فإنّي اُذكّرك بالله العظيم لمّا قرأت كتابي وتدبّرته ، واكتب إليّ إن استطعت بجواب كتابي إذا كتبت إليك ، إنّما أتنازع فيه أنا وأنت ، انزع عليه بيّنة من كتاب الله اُصدّق فيه قولك ، فلاتعرض لي بالدنيا فإنّه لارغبة لي في الدنيا ، وليست من حاجتي ، ولكن لتكن نصحتك لي في الدين ، ولما بعد الموت ، فإنّ ذلك أفضل النصيحة ، فإنّ الله قادر أن يجمع بيننا وبينك على الطاعة ، فإنّه لاخير لمن لم يكن على طاعة الله. وبالله التوفيق وفيه الرضى ، والسلام عليه ، والحمد لله ، وصلّى الله على نبيّه محمّد وآله وسلّم تسليماً (1) .

________________________________________

    1 ـ السير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان 2/325 ـ 345 تحقيق الاُستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف ، ط وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان ، والجواهر المنتقاة 156 ـ 162 ، وازالة الوعثاء عن اتباع أبي الشعثاء 86 ـ 101.