محمد بن عبدالوهاب والحركة الوهابية

      محمد بن عبدالوهاب

    مؤسس الحركة الوهابية

    نشأته ووفاته

    استشفاف بوادر الضلال من كلماته

    اتفاق الشيخ ومحمد بن سعود

    بدء الدعوة ونشرها

    صِدام بين ابن عبدالوهاب وأمير عيينة

    تكفير محمد بن عبدالوهاب جميع المسلمين

    حروبه مع المسلمين

 

________________________________________

(332)

________________________________________

(333)

تاريخ الوهابية

    مؤسسها ، ناصرها وتطورها

    قد وقفت في الفصول السابقة على العقائد الوهابية عن كثب ، وأنها لم تكن شيئاً جديداً سوى ما ابتدعه أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري وقد كاد أن يصير نسياً منسياً ، ويذهب أدراج الرياح ، غير أنّ بذورها لما كانت تقبع في طيات كتبه ورسائله ، قام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي بتجديد العهد بها ، وإحيائها مرة أُخرى بفضل سيف آل سعود في الشطر الثاني من القرن الثاني عشر إلى أوليات القرن الثالث عشر الهجري ، أي من سنة 1160 إلى سنة 1207 هـ الّتي وافاه الأجل فيها ، ثم تعاهد أبناؤه من بعده مع أبناء بيت قبيلة آل سعود فترة بعد فترة ، على أن تكون الدعوة والإرشاد والتخطيط على أبنائه ، والتطبيق والتنفيذ والسلطة على كاهل آل سعود ، فلم تزل هذه المعاهدة باقية إلى يومنا هذا ، غير أنها اتخذت في هذه الآونة لنفسها شكلا آخر ، وهو أن القوة والسلطة كانت في بدء التأسيس آلة طيّعة بيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ولكنه في عصرنا هذا تبدلت رأساً على عقب ، فأصبحت السلطة الدينية أداة طيعة في يد آل سعود ، يأتمرون بكل ما يلقى إليهم من البلاط السعودي والملك الحاكم من قبلهم على شبه الجزيرة العربية.

    وهذه إحدى الصور الّتي تحكي لنا عن تراجع الوهابية عن مبادئها الأولية الّتي قامت على أعتابها يوم تأسيسها ، وسنوافيك بما يحكي لك المزيد من ذلك.

 

________________________________________

(334)

نشأته ووفاته

    اختلف المؤرخون في عام ولادته ووفاته ، فمن قائل (1) بأنه ولد سنة 1111 هـ وتوفي عام 1207 هـ فيكون عمره ستاً وتسعين; إلى آخر (2) بانه ولد عام 1115 هـ وتوفي 1207 هـ فيكون قد ناهز إحدى وتسعين ، نشأ وترعرع في بلده « العيينة » في نجد ، وتلقى دروسه بها على رجال الدين من الحنابلة ، ثم غادر موطنه ونزل المدينة المنورة ليكمل دروسه ، يقول أحمد أمين المصري : « سافر الشيخ إلى المدينة ليتم تعلمه ، ثم طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي ، فأقام نحو أربع سنين في البصرة ، وخمس سنين في بغدادن وسنة في كردستان ، وسنتين في همدان ، ثم رحل إلى إصفهان ، ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوّف ، ثم رحل إلى « قم » ثم عاد إلى بلده ، واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر ، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة » (3).

    وقد ذكر كثير من المؤرخين تجواله وترحاله في هذه البلاد ، منهم عبد الرزاق الدنبيلي في كتابه « مآثر سلطانية » (4) ، والشيخ أبو طالب الإصفهاني الّذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبدالوهاب ، فقد ذكر سفر الشيخ إلى إصبهان وإلى أكثر بلاد العراق وإيران ، حتّى إلى « غزنين » الّذي هو بلد في أفغانستان (5).

 

استشفاف بوادر الضلال من كلماته

    إنّ الإنسان مهما كان ذكياً مواظباً على ستر عقيدته لا يتمكن من إخفائها في الفترة الّتي يكون فيها الوعي غائباً والذهن خاملا ، وعند ذلك يبدو على صفحات وجهه وفلتات لسانه ما يكتمه ويخفيه في الأوعية ، قال أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) :

________________________________________

1 ـ زيني دحلان : الدرر السنية : ص 42 طبع الآستانة وغيره.

2 ـ أحمد أمين : زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، ص 10 بيروت ، وقد أرّخ الآلوسي ولادته بـ 1111 هـ لكنه أرّخ وفاته بـ 1206 هـ.

    3 ـ نفس المصدر السابق : ص 10.

    4 ـ مآثر سلطانية : ص 82 و ...

    5 ـ ميرزا أبو طالب سفرنامه : ص 409 و ...

________________________________________

(335)

« ما أضمر أحد شيئاً إلاّ في ظهر فلتات لسانه وصفحات وجهه » (1) وقد كان محمد بن عبدالوهاب ممن يتفرّس مشايخه وأساتذته فيه الضلال ، حيث كان عندما يتردد إلى مكة والمدينة لأخذ العلم من علمائهما ، وعندما كان يدرس على الشيخ محمد بن سليمان الكردي ، والشيخ محمد حيات السندي كانا يتفرسان فيه الغواية والإلحاد ، بل يتفرس غيرهما فيه مثل ذلك ، وكان ينطق الكل بأنه سيضل اللّه تعالى هذا ، ويضل به من أشقاه من عباده ، حتّى أنّ والده عبدالوهاب ـ وهو من العلماء الصالحين ـ كان يتفرس فيه الإلحاد ويحذّر الناس منه ، حتّى أنّ أخاه الشيخ سليمان ألف كتاباً في الرد على ما أحدثه من البدع والعقائد الزائفة ، وكان محمد بن عبدالوهاب بادىء بدء كما ذكره بعض المؤلفين مولعاً بمطالعة أخبار من ادّعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب وسجاح ، والأسود العنسي ، وطليحة الأسدي وأضرابهم (2).

    يكتب ميرزا أبو طالب الإصفهاني وهو معاصره ويقول : أخذ في أول أمره عن كثير من علماء مكة والمدينة ، وكانوا يتفرسون فيه الضلال والإضلال ، وكان والده عبدالوهاب من العلماءالصالحين ، وكان يتفرس فيه ذلك ويذمه كثيراً ، يحذر الناس منه ، وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب أنكر عليه ما أحدثه ، وألف كتاباً في الرد عليه ، وكان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار مدّعي النبوة كمسيلمة و ... » (3).

    لو صحّ هذا فهو يعرب عن أنّ محمد بن عبدالوهاب كان يضمر في مكامن ذهنه شيئاً يشاكل فعل هؤلاء المتنبئين ، فصبّ ما أضمره في الدعوة الجديدة إلى التوحيد ، وعاد يكفّر رجال الدين عامة في كافة العصور ، وينسبهم إلى الجهل والضلال ، وهذه سمة المبتدعين عامة.

 

انتقال عبد الوهاب إلى « حريملة »

    ترك أبوه « العيينة » ونزل بلدة « حريملة » وبقي فيها إلى أن وافته المنيّة

________________________________________

1 ـ نهج البلاغه ، قسم الحكم 260.

2 ـ صدقي الزهاوي : الفجر الصادق ص 17 والسيد أحمد زيني دحلان : فتنة الوهابية ص 66.

3 ـ ميزرا أبو طالب : سفرنامه ، ص 409.

________________________________________

(336)

سنة 1143 (1) ولم يكن راضياً عن ابنه ، وطالما زجره ونهاه ، ولمّا توفّي الوالد تجرّأ عليه أهل « حريملة » وهمّموا بقتله ، فلم يجد بداً من الهرب إلى « العيينة » وهي مسقط راسه ودار نشأته ، وقد تعاهد هو وأميرها « عثمان بن معمر » على أن يشد كلُّ أزر الآخر ، فيترك الأمير للشيخ الحرية في إظهار الدعوة والعمل على نشرها ، لقاء أن يقوم محمد بن عبد الوهاب بدوره بشتى الوسائل لسيطرة الأمير على نجد بكاملها ، وكانت يومذاك موزعة إلى ست أو سبع إمارات منها إمارة العيينة (2) ولكن لكي تقوى الروابط بين الاثنين زوّج الأمير أُخته « جوهرة » من الشيخ ، فقال له الشيخ : « إنى لآمل أن يهبك اللّه نجداً وعربانها » (3).

    هكذا بدأ التآلف بين الشيخ والأمير ، واحدة بواحدة ... مساومة ثم أخذ وعطاء ، والثمن هو الدين والشعب ، أمّا زواج الشيخ من « جوهرة » فتثبيت للتحالف ، وضمان للوفاء ... لقد سخر محمد بن عبد الوهاب الدين لأجل الدنيا ، وتطوع لتعزيز حكمه دون أن يكون على يقين من عدله ، أو يأخذ منه موثقاً لتحسين الأوضاع وراحة الناس ، والعمل للصالح العام ، بل على العكس ، فقد وعده بملك نجد وعربانها ... ولكن لا بالاقتراح وحرية تقرير المصير ، بل بالحرب والغزو وبأشلاء الضحايا (4).

    أبعد ذلك يصحّ أن يعدّ الشيخ من المصلحين المجددين ، وممّن له رسالة إنسانية كما عدّه نفر منهم أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، ومهما كان فإنّ التحالف بين الشيخ والأمير لم يطل عمره ولم يتم أمره ، وما تمخّص إلاّ عن زواج الشيخ بجوهرة ، وهدم قبر زيد بن الخطاب ، وإثارة الفتن والقلاقل فقط ـ لم يطل عمر التحالف بين ابن عبد الوهاب والأمير ابن معمر ـ لأنّ سليمان الحميدي صاحب الأحساء والقطيف أمر عثمان بن معمر ـ وكان أقوى منه ـ أن يقتل الشيخ.

________________________________________

1 ـ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ص 111.

2 ـ الآلوسي ـ السيد محمود : تاريخ نجد ، ص 11.

3 ـ فيلبي ـ عبداللّه : تاريخ نجد ، ص 36.

4 ـ مغنية ـ محمد جواد : هذه هي الوهابية ص 112.

________________________________________

(337)

    يقول عبداللّه فيلبي في تاريخ نجد : « قرر عثمان أن يتخلص من ضيفه ، فطلب منه أن يختار المكان الّذي يريد الذهاب إليه ، فاختار « الدرعية » ، فأرسل عثمان معه رجلا اسمه فريد : وكلفه أن يقتل ابن عبد الوهاب في الطريق ، ولكن فريداً خذلته إرادته ، وترك الشيخ وقفل راجعاً دون أن يمسه بسوء (1).

    ويذكر السيد محمود شكري الآلوسي انتقال الشيخ من « عينية » إلى « حريملة » نحو ما مرّ ويزيد : خرج إلى « الدرعية » سنة : 1160 هـ وهي بلاد مسيلمة الكذاب (2).

 

اتفاق الشيخ ومحمد بن سعود

    ورد الشيخ إلى الدرعية في العام الّذي عرفت ، وكان أميرها آنذاك محمد بن سعود جد السعوديين ، وتمّ الاتفاق بين الأمير والشيخ على غرار ما كان قد تمّ بينه وبين ابن معمر في « العيينة » ، فقد وهب الشيخ نجد وعربانها لابن سعود ، كما وهبهما من قبل لابن معمر ، ووعده أن تكثر الغنائم عليه والأسلاب الحربية الّتي تفوق ما يتقاضاه من الضرائب (3) على أن يدع الأمير للشيخ ما يشاء من وضع الخطط لتنفيذ دعوته.

    وتقول الرواة : إنّ الأمير سعود بايع محمد بن عبد الوهاب على القتال في سبيل اللّه ... ومعلوم انهما لم يفتحا بلداً غير مسلم في الشرق أو في الغرب ، وإنما كانا يغزوان ويحاربان المسلمين الذين لم يدخلوا في طاعة ابن سعود ، ولأجل ذلك قال الأمير لابن عبدالوهاب : « أبشر بالنصر لك ولما أمرت به ، والجهاد لمن خالف التوحيد ، لكن أُريد أن اشترط عليك اثنين :

     أولا : إذا قمنا بنصرتك وفتح اللّه لنا ولك ، أخشى أن ترحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا فعاهده الشيخ أن لا يفعل.

________________________________________

1 ـ فيلبي ـ عبداللّه : تاريخ نجد ، ص 390 ط المكتبة الأهلية بيروت.

2 ـ كشف الارتياب ص 13 ـ 14 نقلا عن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي.

3 ـ فيلبي : تاريخ نجد ص 39.

________________________________________

(338)

ثانياً : إنّي أتقاضى من أهل « الدرعية » مالا وقت الثمار ، وأخاف أن تمنع ذلك ، فقال الشيخ : لعل اللّه يفتح الفتوحات فيعوضك اللّه من الغنائم ما هو أعظم منها » (1).

    وعلى هذا تم الاتفاق بين أمير « الدرعية » والشيخ.

    إنّ بعض المستشرقين مثل « فيليب حتّى » (2) و « جولد تسيهر » (3) وغيرهما يذكرون أنه قد تقوّت الروابط بين الاثنين بمثل ما تقوّت بينه وبين أمير « عيينة » وزوّج محمد بن سعود ابنه عبدالعزيز من إحدى بنات محمد بن عبد الوهاب ، ولا يزال العهد بين آل سعود وعائلة عبد الوهاب مستمراً إلى يومنا هذا ، وإن اختلف مضمومنه مع استمرار التزاوج على نطاق وسيع (4).

 

بدء الدعوة نشرها

    شعر محمد بن عبد الوهاب بقوته عن طريق هذا التحالف الجديد ، وأن الامارة السعودية اصبحت تناصره وتؤازره ، فلأجل ذلك جمع الشيخ أنصاره وأتباعه وحثهم على الجهاد ، وكتب إلى البلدان المجاورة المسلمة أن تقبل دعوته ، وتدخل في طاعته ، وكان يأخذ ممن يطيعه عشر المواشي والنقود والعروض ، ومن أبى غزاه بانصاره ، وقتل الأنفس ونهب الأموال ، وسبى الذراري ، وكان شعارهم : « ادخل في الوهابية وإلاّ فالقتل لك ، والترمّل لنسائك ، واليتم لأطفالك » هذا هو بالذات مبدأ الوهابية الّذي لا تتنازل عنه لأية مصلحة ، ومن أجله تحالف مع ابن معمر في « العيينة » ، ثم مع ابن سعود في « الدرعية » ، وكان على أتم استعداد أن يتحالف مع أية قوة يستعين بها على ذلك (5).

________________________________________

1 ـ أبو علية ـ عبد الفتاح : محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى ص 13 ـ 14.

2 ـ فيليب حتّى : تاريخ العرب ج 2 ص 926 المترجم إلى الفارسية.

3 ـ العقيدة والشريعة في الإسلام ص 267 ط مصر الطبعة الثانية.

4 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ط الرياض ص 23.

5 ـ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ، ص 114.

________________________________________

(339)

    كان الشيخ يغزو بأنصاره وأتباعه عربان نجد ، يسلبونهم مصدر حياتهم ، ثم ينتقلون إلى الدرعية بعد أن يتركوا وراءهم أشلاء الضحايا ، والخرائب والأرامل والأيتام ، ويوزع الشيخ عليه أربعة أخماس الغنائم والأسلاب من المسلمين الآمنين ، ويخص الخمس بالخزينة الّتي يشرفون عليها هو و الأمير السعودي.

    يقول عبداللّه فيلبي في تاريخ نجد : « وقد أدخل الإمام في عقول طلابه مبادىء فريضة الجهاد المقدس ، فوجد الكثير منهم في الجهاد أقدس تعاليمه ، إذ أنه يتفق مع ما اعتاد عليه العرب ـ يريد أنّ العرب قد اعتادوا على السلب والنهب ـ ، كما خصص الشيخ خمس الأسلاب لخزينته المركزية الّتي كان الأمير والإمام يتقاضيان منها ما يقوم بأودهما ... وهكذا كان سلطان الشيخ في تصرف شؤون البلاد بعد مرور سنة أو سنتين ، وقد أصبح شريكاً مؤسساً.

 

الوهابية أو السيف

    ربما يستغرب القارىء عند ما يسمع أنّ الوهابية تحصنت في بدء دعوتها بهذا الشعار ، وطبقته في حياتها سنين ، ولكنه لعمر اللّه حقيقة لامرية فيها ، فقد ارتفع صرح الإمارة السعودية يوم انتشارها إلى العصر الحاضر على هذا الأصل ، فإن السعودية آنذاك ويوم تعاهدها مع محمد بن عبدالوهاب تعيش حياة البؤس ، ولم يكن ابن سعود متمكناً حتّى من تأمين الأغذية لأعز تلاميذ محمد بن عبد الوهاب ، الّذي يمارس تأثيره بقوة الإقناع فقط (1).

    وبعد أُولى غزوات الدرعيين على جيرانهم ، وزعت الغنائم بالعدل طبقاً لأحكام الوهابية : الخمس لابن سعود ، والباقي للجند; ثلث للمشاة ، وثلثان للخيالة; وكان التمسك بالوهابية يكافأ مادياً ، وإذا كان الغزو في السابق مجرد حملة شجاعة ، فقد تحول الآن إلى انتزاع أموال المشركين! وإحالتها إلى المسلمين الحقيقيين!

________________________________________

1 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 1 ص 13.

________________________________________

(340)

صِدام بين ابن عبد الوهاب وأمير « العيينة »

    قد تعرفت أنّ التحالف بين الشيخ وأمير « العيينة » لم يلبث إلاّ برهة قليلة ، وأنه اعتذر عن ضيفه وسمح له أن يغادر الامارة ويذهب إلى أية نقطة شاء ، ولما التحق محمد بن عبدالوهاب بأمير « الدرعية » وبزغ نجمه ، أحسّ عثمان بن معمر أمير « العيينة » بتمخض خطر من جانب السعوديين ، فلم يجد مناصاً من إظهار التودد والمداراة معهم ، إلى أن انتهى به الأمر إلى تزويج ابنته من ابن عبد العزيز بن محمد بن سعود ، الّذي بلغ الوهابيون في عهده أوج قوتهم (1). إلاّ أنّ العداء حتّى الموت بين الأقارب ظاهرة عادية تماماً في الجزيرة العربية ، فلا داعي للدهشة من تطور الأحداث لاحقاً ، وكان لموقف محمد بن عبد الوهاب ـ الّذي لم ينس أنّ أمير « العيينة » نفاه منها ـ أهمية حاسمة في التنافس بين حكام « الدرعية » و « العيينة » ، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتّى اتّهم أمير « العيينة » بأنه أجرى مراسلات سرية مع حاكم الأحساء « محمد بن عفالق » وأعد العدة للخيانة(2).

    ـ ولأجل ذلك ـ أرسلوا بعض المرتزقة ، ومنهم حمد بن راشد ، وإبراهيم بن زيد إلى عثمان بن معمر حاكم « العيينة » فاغتالوه أثناء أدائه لصلاة الجمعة.

    ومما جاء في كتاب أصدره آل سعود وآل الشيخ تحت عنوان : تاريخ نجد ، ونقله عن رسائل محمد بن عبدالوهاب ، الشيخ حسين بن غنا ، وأشرف على طباعته عبدالعزيز بن باز مفتي الديار السعودية ، العبارة التالية :

    إنّ عثمان بن معمر مشرك كافر ، فلمّا تحقق أهل الاسلام من ذلك تعاهدوا على قلته بعد انتهائه من صلاة الجمعة ، وقتلوه وهو في مصلاه بالمسجد في رجب سنة 1163 هـ وفي اليوم الثالث من مقتله جاء محمد بن عبدالوهاب إلى « العيينة » وعين عليهم مشاري بن معمر ، وهو من أتباع محمد بن عبد

________________________________________

1 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 1 ص 23.

2 ـ فاسيليف : فصول من تاريخ العربية السعودية ـ ص 28.

(341)

الوهاب (1).

    هكذا كانوا يحكمون على الموحدين المصلين في محراب العبادة بالشرك والخروج عن التوحيد « وما نقموا منهم » « إلاّ أن قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا » ولم يخضعوا للسلطة الّتي أسسها محمد بن عبد الوهاب .

    ثم إنّ محمد بن عبد الوهاب نحّى « مشاري » عن منصة الحكم وأسكنه « الدرعية » مع عائلته ، وعين شخصاً آخر للشغال الحكم ، حتّى يكون الحاكم أطوع له كطوع الظل لذي الظل ، ولم يكتف بذلك حتّى جاء إلى قصر آل معمر وأمر بتدميره (2).

    إنّ هذه العلمية تسفر عن عقيدة محمد بن عبد الوهاب في حق عامة أهل نجد دون استثناء ، لأنه لو كان ابن معمر كافراً فقد كان سكنة نجد كلهم على دينه ، فهم حينئذ كفرة تباح دماؤهم ونساؤهم وممتلكاتهم ، والمسلم هو من آمن بالطريقة التي يسير عليها محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود(3).

    لم يبرح زمن على سلطة آل سعود على « العيينة » حتّى ثاروا على النظام الّذي فرض عليهم من جانب محمد بن عبدالوهاب ، ولكن لم يكتب لانتفاضتهم النجاح ، فعاد السعوديون إلى « العيينة » فدمّروا البلد على آخره ، فهدموا الجدران ، وردموا الآبار ، وأحرقوا الأشجار ، واعتدوا على أعراضهم وبقروا بطون الحوامل من النساء ، وقعطوا أيدي الأطفال ، وأحرقوهم بالنار ، وسرقوا المواشي وكل ما في البيوت ، وقتلوا كل الرجال.

    هكذا خربت « العيينة » وما زالت مخروبة منذ عام 1163 هـ حتّى يومنا هذا ، وما زالت الوهابية يبررون أعمالهم بما قاله محمد بن عبد الوهاب : إنّ اللّه سبحانه وتعالى قد صبّ غضبه على العيينة وأهلها وأفناهم تطهيراً لذنوبهم ، وغضباً على ما قاله حاكم العيينة ، عثمان بن معمر ، فقد قيل لحاكمها

________________________________________

1 ـ تاريخ نجد ، ص 97 .

2 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 1 ص 43 ـ ابن غنام : تاريخ نجد ، ج 2 ص 57.

3 ـ تاريخ نجد ، ص 98 ، 99 ، 100 ، 101.

________________________________________

(342)

بأن الجراد آت إلى بلادنا و نحن نخشى أن يأكل الجراد زراعتنا ، فأجاب الحاكم ساخراً من الجراد : سنخرج على الجراد دجاجاً فتأكله ، وبهذا غضب اللّه سبحانه لسخرية الحاكم بالجراد ، وهو آية من آيات اللّه لا يجوز السخرية منها ، ولهذا أرسل اللّه الجراد على بلدة العيينة فأهلكها عن آخرها(1).

    نحن نفترض أنّ أمير العيينة استهزأ بآية من آيات اللّه فكفر ، فيجب ضرب عنقه بسيف الجلادين ، فهل كفر الآخرون ، وهل تزر وازرة وزر أُخرى ، وما هي إلاّ خدعة يمّوه بها الأمر على الصبيان وأشباههم.

    فلما قضى محمد بن عبد الوهاب وآل سعود على مناوئيهم في المنطقة ، قويت الإمارة السعودية من طريق الدين باتّباعها محمد بن عبدالوهاب ، وقويت دعوة ابن عبد الوهاب بطريق السيف باتّباع ابن سعود له وانتصاره به ، فكان ابن سعود الأمير الحاكم ، وابن عبد الوهاب الزعيم الديني ، وصارت ذرية كل منهما تتولى مرتبة سلفها.

    لقد قوّى انتصار القبيلة السعودية على حاكم « العيينة » عزيمتهم على توسيغ نطاق حكومتهم ، مغبة أمر محمد بن عبد الوهاب بالجهاد وحث اتباعه عليه ، وأول جيش تم تأليفه له من سبع ركائب (2) ومعلوم أنّ هذه الجيوش والركائب لم تغز بلاد الكفار والمشركين ، ولا الرومان ، وإنما غزوا بلاد المؤمنين ، بلاد القائلين بـ ( لا إله إلاّ اللّه ، محمد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ) ولما أحس ابن عبد الوهاب بسلطة وقدرة ، كتب إلى أهل نجد ( وهم المسلمون بزعمهم ) على الدخول في مذهب التوحيد ، فأطاع بعضهم بينما امتنع آخرون ، فأمر أهل « الدرعية » بالقتال ، فأجابوه وقاتلوا معه أهل نجد والأحساء مراراً ، حتّى دخل بعضهم في طاعته طوعاً أو كرهاً ، وصارت جميع إمارة نجد لآل سعود بالقهر والغلبة » (3).

________________________________________

1 ـ ناصر السعيد : تاريخ آل سعود ، ص 22 ـ 23.

2 ـ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ، ص 117 نقلا عن ابن بشر عثمان ، عنوان المجد في تاريخ نجد .

3 ـ السيد محسن الأمين : كشف الارتياب ص 13 ـ 14 نقلا عن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي.

________________________________________

(343)

سراب لا ماء

    قد كان اللحركة الوهابية في عصر مؤسسها صدى ودوي ، والقريب منها يستشف الحقيقة عن كثب ، ويرى أنها قد بنيت على القتل الذريع ، والسفك المروع ، وأن محمد بن عبدالوهاب يهتف بأنه لا عدل ولا سلم ، ولا رحمة ، ولا إنسانية ، ولا حياة ، لا شيء أبداً إلاّ الوهابية أو السيف.

    وهذه السنّة الّتي استنّها محمد بن عبدالوهاب يتحمل وزرها منذ يومه إلى يوم القيامة ، لأنها كماترى دعوة تقوم على الحرب والضحايا ، وتتطبع بطابع الدم والفوضى ، ويكفي في ذلك قول أخيه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب في كتاب الصواعق الإلهية مخاطباً لأخيه وأتباعه :

 

     « فانتم تكفّرون بأقل القيل والقال ، بل تكفّرون بما تظنون أنتم أنه كفر ، بل تكفّرون بصريح الإسلام ، بل تكفّرون من توقف عن تكفير من كفّرتموه » (1).

    ولم يكن أخوه فريداً في القضاء ، فقد رجع عن طريقته بعض المنصفين المنخدعين بدعوته ، وهذا هو السيد محمد بن إسماعيل الأمير لمّا بلغه من أحوال الشيخ النجدي ، الدعوة إلى التوحيد ، فأنشا قصيدته المشهورة :

سلام على نجد ومن حلّ في نجد                     وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

    ثم حقق الأحوال من بعض من وصل إلى اليمن ، ووجد الأمر على عكس ما روي له ، فأنشأ يقول في قصيدته ثانياً عما قاله أولا :

رجعت عن القول الّذي قلت في نجد                 فقد صحّ لي عنه خلاف الّذي عندي

    حكي عن محمد بن إسماعيل أنه قال في شرح القصيدة المذكورة المسماة بـ « محو الحوبة في شرح أبيات التوبة » : لمّا بلغت قصيدتي الأُولى نجداً التي مدحت فيها الحركة الوهابية ، جاء إلينا بعد أعوام رجل كان يعرّف نفسه بـ « الشيخ مربد بن أحمد التميمي » وذلك في صفر سنة ألف ومائة وسبعين ،

________________________________________

1 ـ الصواعق الإلهية ، ص 27 ـ 29 ، ط 1306.

________________________________________

(344)

وحمل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه ، ثم عاد إلى وطنه في شوال تلك السنة ، وكان من تلاميذ ابن عبد الوهاب الّذي وجهنا إليه القصيدة ، وقد قدم إلينا قبله الشيخ الفاضل عبد الرحمان النجدي ، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها عليه من سفك الدماء ونهب الأموال والتجري على قتل النفوس ، ولو بالاغتيال ، وتكفيره الأُمة المحمدية في جميع الأقطار ، فبقي فينا تردد فيما نقله ذلك الشيخ ، حتّى قدم إلينا الشيخ « مربد » وله نباهة ، ومعه بعض رسائل ابن عبدالوهاب الّتي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان ، وقتلهم ونهبهم ، وحقق لنا أحواله ، فعرفنا أحوال رجل عرف من الشريعة شطراً ولم يمعن النظر ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية ، ويدله على العلوم النافعة ويفقّهه ، بل طالع بعض مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وقلدهما من غير إتقان ، مع أنهما يحرمان التقليد (1).

    يقول العلامة السيد محسن الأمين العاملي :

    هذا يدل على أن محمد بن إسماعيل رجع عن مغالاته في التوهب ، ولعل رجوعه كان بعد تأليفه رسالة « تطهير الإعتقاد عن أدران الإلحاد » فإنّ تلك الرسالة لا تقصر عن كتب ابن عبدالوهاب في المغالاة (2).

 

أهل البيت أدرى بما فيه

    هذه لمحة خاطفة عن حياة محمد بن عبدالوهاب ، جئنا بها ليكون القارىء الكريم على اطلاع بحقيقة حاله على جهة الإجمال ، ولكن هناك الكثير الكثير في الزوايا والخبايا ذكرت في تاريخ حياته أغفلنا ذكرها روما للاختصار ، ولكن ما يجب ذكره في المقام كلمة أخيه في حقه ، وهو من أهل بيته وأدرى بحاله منّا ومن كل كاتب. يقول في كتاب أسماه « الصواعق الإلهية » رداً على آراء أخيه : « فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ، ويستنبط من علومهما ، ولا يبالي من خالفه.

________________________________________

1 ـ كشف الارتياب ، ص 8 .

2 ـ السيد محسن : كشف الارتياب : ص 16 ـ 19.

________________________________________

(345)

    وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل ، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر ، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ولا واللّه ، ولا واللّه عشر واحدة ، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهّال ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، الأُمة كلها تصيح بلسان واحد ، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال! أللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق ... » (1)

    ويقول ايضاً : إنّ هذه الأُمور ( الّتي يكفر بها محمد بن عبد الوهاب ) حدثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام ، حتّى ملأت بلاد الاِسلام كلها ، ولم يُرْوَ عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك ، ولا قالوا هؤلاء مرتدون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ، وتمضي قرون على الأئمة من ثمانمائة عام ، ومع هذا لم يُرْوَ عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر ، بل ما يظن هذا عاقل ، بل واللّه لازم قولكم أن جميع الأُمة بعد زمان الإمام أحمد ـ رحمة اللّه تعالى ـ ، علماؤها وأُمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدّون ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، واغوثاه إلى اللّه! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم إنّ الحجة ما قامت إلاّ بكم ، وإلاّ قبلكم لم يعرف دين الإسلام (2).

    وهذه العبارة من أخيه صريحة في أنه كان يكفّر جميع طوائف المسلمين ، ويعتبر بلادهم بلاد حرب.

 

تكفير محمد بن عبد الوهاب جميع المسلمين

    ولعلّ القارىء ينتابه الاستغراب مما نسبه إليه أخوه ، ولكنه إذا رجع إلى مبادىء دعوته يسهل له التصديق بالنسبة ، وإليك خلاصة رسالته تحت أربع قواعد :

________________________________________

1 ـ سليمان بن عبدالوهاب النجدي : الصواعق الإلهية ، ص 3 ـ 4.

2 ـ نفس المصدر السابق ، ص 38.

________________________________________

(346)

الأُولى : إنّ الكفار الذين قاتلهم رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) مقرّون بأنّ ( اللّه ) هو الخالق الرازق المدبر ، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأرضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصَارَ ... فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) (1).

    الثانية : إنهم يقولون : ما دعونا الأصنام وما توجهنا إليهم الاّ لطلب القرب والشفاعة لقوله تعالى : ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ مَا نَعْبُدُهُم اِلاّ لَيُقَرِّبُونا إلى اللّه زُلفَى ) (2). وقوله : ( وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّه مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه ) (3). الثالثة : إنّه ظهر ( صلّى اللّه عليه وآله ) على قوم متفرقين في عبادتهم ، فبعضهم يعبد الملائكة ، وبعضهم الأنبياء والصالحين ، وبعضهم الأشجار والأحجار ، وبعضهم الشمس والقمر ، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.

    الرابعة : إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين ، لأن أولئك يشركون في الرخاء ، ويخلصون في الشدة ، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى :

    ( فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إلَى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (4).

    وهو لا يريد من قوله « إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً ... » إلاّ المسلمين عامة ، وذلك لأنهم يتوسلون بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في شدتهم ورخائهم ، ولذلك صاروا عنده أغلظ من مشركي عهد الرسالة.

    ومما يؤخذ عليه فيما ذكره في القاعدة الثانية ، وهي المحور الرئيس للضلالة ، أنّ هناك فرقاً جلياً بين المسلمين وعبدة الأوثان والأصنام ، فإنّ

________________________________________

1 ـ سورة يونس : الآية 31.

2 ـ سورة الزمر : الآية 3.

3 ـ سورة يونس : الآية 18.

4 ـ محمد بن عبد الوهاب : رسالة أربع قواعد ص 1 ـ 4 ط مصر المنار ، سورة العنكبوت : الآية 65.

________________________________________

(347)

المسلمين يعبدون اللّه وحده ، ولا يتوجّهون إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ بقصد أن يدعو لهم عند اللّه ، ويشفع لهم عنده ، وأين هو من عبدة الطاغوت الذين كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون اللّه ، ويتوجهون إليها على أنها آلهة تملك ضرهم ونفعهم ، وما هذه إلاّ مغالطة مفضوحة ، وقد تكررت هذه الظاهرة في أكثر رسائله وكتبه ، فإليك نتفاً منها في كتابه الآخر المسمى بكشف الشبهات الّذي فرض تدريسه على علماء الحرمين في بعض الفترات الّتي شهد لها التاريخ ، حيث يقول في حق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) :

    1 ـ « أرسله إلى أُناس يتعبّدون ويحجّون ويتصدقون ويذكرون اللّه كثيراً ، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات بينهم وبين اللّه ، يقولون نريد منهم التقرب إلى اللّه ، ونريد شفاعتهم عنده ، مثل الملائكة و عيسى و مريم وأُناس غيرهم من الصالحين (1).

    وفي هذه العبارة من المغالطة مالا يخفى ، فقد حاول تزييف الحقيقة وقال : ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين اللّه ، فقد ركز على التوسيط ، مع أنهم عبدوهم أولا ، واتخذوهم وسائط ثانياً ، فالممنوع هو عبادة الغير لا توسيطه ، فالشيخ يركز على مجرد الوساطة الّتي ليست ملاكاً لشركهم ، ويترك ما هو الملاك لكفرهم ، أعني عبادتهم. وعمل المسلمين على اتخاذ الوسيلة لا على عبادتها.

    2 ـ يقول في موضع آخر ما نصه :

     « إنّ التوحيد الّذي جحدوه هو توحيد العبادة ، الّذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد ، كما كانوا يدعون اللّه سبحانه ليلا و نهاراً ، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من اللّه ليشفعوا له ، أو يدعو رجلا صالحاً مثل اللات ، أو نبياً مثل عيسى (2).

    فتراه كيف يستر الحقيقة فيقول : « ثم منهم من يدعو الملائكة أو يدعو

________________________________________

1 ـ كشف الشبهات : ص 3 .

2 ـ محمد بن عبدالوهاب : كشف الشبهات ، ص 4 ، ط مصر بتصحيح محب الدين الخطيب.

________________________________________

(348)

رجلا صالحاً فيركز على الدعوة الّتي هي أعم من العبادة ، مع أنّ منهم من يعبد الملائكة ، أو يعبد رجلا صالحاً ، وليس كلّ دعوة عبادة ، وإلاّ فلا يوجد فوق البسيطة من يصحّ تسجيل اسمه في ديوان الموحدين ، والرجل لأجل إثبات أنّ المسلمين في دعوة النبي والصالحين كهؤلاء المشركين في عبادة الملائكة والصالحين ، يركز على كلمة « يدعو » ويترك كلمة « يعبد » فهناك فرق بين الدعوة والعبادة ، وليس كل دعوة عبادة ، ولا كل عبادة دعوة ، بل بينهما من النسب عموم و خصوص من وجه ، فلو كانت الدعوة تنبثق من ألوهية المدعو وربوبيته فتتّسم بالعبادة ، ولو كان انبثاقها من أنه عبد من عباد اللّه ولكنه عبد عزيز عند اللّه تستجاب دعوته إذا دعا ، فلا تكون الدعوة عبادة ، بل يدور الأمر بين كونه مفيداً إذا كان مستجاب الدعوة ، وغير مفيد ، إذا لم يكن كذلك.

    3 ـ يقول أيضاً : « تحققت أنّ رسول اللّه قاتلهم ليكون الدعاء كله للّه ، والذبح كله للّه ، والنذر كله للّه ، والاستغاثة كلها باللّه ».

    أمّا كون الدعاء كله للّه فإن كان المراد به العبادة فلا غبار عليه ، والمسلمون على هذا عن بكرة أبيهم ، وإن كان المراد هو القسم الّذي لا يراد به العبادة فليس بمنحصر في اللّه ، وما أكثر دعاء إنسان لإنسان وهذا هو الدعاء ورد في القرآن الكريم في غير مورد العبادة. قال سبحانه :

     ( قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيلا وَنَهَاراً ) (1).

    وأمّا النذر فلا شك أنّ المسلمين ينذرون للّه سبحانه ، ويذكرون لفظ الجلالة في إنشاء صيغته الدالة عليه ، وقد أسهبنا القول في ذلك فيما مضى ، والشيخ خلط بين اللام للغاية واللام للانتفاع ، فلو استعملت في بعض الموارد لفظة اللام فإنما يراد منه الانتفاع ، فلو قيل هذا نذر للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أو للروضة المباركة ، فالمراد هو إهداء ثوابه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أو انتفاع الروضة به.

________________________________________

1 ـ سورة نوح : الآية 5 .

________________________________________

(349)

    4 ـ ويقول أيضاً :

     « إنّ المشركين يقرّون بالربوبية وإن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء ».

    يؤاخذ عليه أن كفرهم إنما لعبادتهم الملائكة والأنبياء لا لتعلقهم بها إذ ليس مجرد التعلق مع الاعتراف بعبوديتهم وعدم تفويض الأمر إليهم موجباً للتكفير.

    5 ـ ويقول أيضاً : « إنّ الذين قاتلهم رسول اللّه مقرّون بأن أوثانهم لا تدبّر شيئاً وإنما أرادوا منها الجاه والشفاعة » (1).

    فترى أنه كيف يقلب الحقيقة ، فلم يكن تكفيره لهم لأجل طلب الشفاعة ، بل لعبادتهم أولا ، ثم طلب الشفاعة منهم ثانياً ، قال سبحانه :

     ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُون هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه ) (2).

    6 ـ ويقول : « إنّ اللّه كفّر من قصد الأصنام ، وكفّر من قصد الصالحين ، وقاتلهم رسول اللّه ».

    كلاّ ، إنّ رسول اللّه كفّر من عبد الصالحين ، لا من قصدهم ، فمن قصد الصالحين لطلب العلم والمال والدعاء لا يكون كافراً.

    7 ـ ويقول أيضاً ـ وهو يعلّم أتباعه كيف يناظرون المخالف ـ : اقرأ عليه : ( ادعوا ربّكم تضرعاً وخفيةً إنه لا يحبّ المعتدين ) فإذا أعلمته بهذا فقل له : هل علمت هذا عبادة للّه؟ فلا بد أن يقول نعم ، والدعاء مخ العبادة ، فقل له : إذا أقررت أنها عبادة ، ثم دعوت تلك الحاجة نبياً أو غيره ، هل أشركت في عبادة اللّه غيره؟ فلابد أن يقول نعم » (3).

________________________________________

1 ـ نفس المصدر السابق ، ص 6.

2 ـ سورة يونس : الآية 18.

3 ـ نفس المصدر السابق .

________________________________________

(350)

    والمغالطة في كلامه واضحة ، فإنّ الدعاء في قوله : « ادعوا ربكم » مساوق للعبادة لا بمعنى أن الدعاة بمعنى العبادة ، بل معناه أن الدعوة إذا انبثقت من الاعتقاد بالألوهية والربوبية تصير مصداقاً للعبادة ، وجزءاً من جزئياته ، كما أن المراد من قوله : « والدعاء مخ العبادة » هو أن الدعاء مخ العبادة ، أو دعاء من يعتقد أنه ند للّه في جميع الشؤون أو بعضها مخ العبادة ، وأين هو من دعوة الأنبياء والصالحين الذين لا يُدعَوْن إلاّ بعنوان أنهم عباد صالحون لا يعصون اللّه ما أمرهم وهم بأمره يعملون ، ولا يملكون شيئاً لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً إلاّ بإذن اللّه ، أفهل تكون الدعوتان متماثلتين حتّى تشتركا في الحكم؟

    وإنك إذا تتبعت كلماته وجمله في هذا الكتاب يظهر لك أنه يحاول التضليل من طريق تشبيه توسل المسلمين ودعائهم ، بعمل المشركين وعبدة الأوثان ، بالتمسك بمشابهات ومشاركات بعيدة ، وتناسى ما هو البون الشاسع بين الأُمتين والدعوتين.

    قال زيني دحلان : كان محمد بن عبدالوهاب يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة : ومن توسل بالنبي فقد كفر ، وكان أخوه الشيخ سليمان ينكر عليه إنكاراً شديداً ، فقال لأخيه يوماً : كم أركان الإسلام يا محمد؟ فقال : خمسة (1) فقال أنت جعلتها ستة : السادس : من لم يتبعك فليس بمسلم ، هذا عندك ركن سادس للإسلام.

    وقال رجل آخر : كم يعتق اللّه كل ليلة في رمضان؟ فقال له : يعتق في كل ليلة مائة ألف ، وفي آخر ليلة ، يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله ، فقال له : لم يبلغ من اتّبعك عشر ما ذكرت ، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم اللّه تعالى ، وقد حصرت المسلمين فيك وفي من اتّبعك؟ فبهت الّذي كفر.

    ولما طال النزاع بينه وبين أخيه فخاف على نفسه ، فارتحل إلى المدينة المنورة ، وألّف رسالة في الرد على محمد بن عبدالوهاب وأرسلها له ، فلم

________________________________________

1 ـ يشير إلى ما رواه البخاري في كتاب الإيمان.

(351)

ينته ، وألّف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الردّ عليه وأرسلوها إليه ، فلم ينته (1).

    ويقول جميل صدقي الزهاوي : كان محمد بن عبدالوهاب يسمي جماعته من أهل بلده ، الأنصار; وكان يسمي متابعيه من الخارج ، المهاجرين; وكان يأمر من حج حجة الإسلام قبل اتّباعه أن يحج ثانياً قائلا إنّ حجتك الأُولى غير مقبولة لأنك حججتها وأنت مشرك ، ويقول لمن أراد أن يدخل في دينه : اشهد على نفسك أنك كنت كافراً ، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين ، واشهد على فلان وفلان ( يسمي جماعة من أكابر العلماء الماضين ) أنهم كانوا كفاراً.

    فإن شهد بذلك قبله ، وكان يصرّح بتكفير الاُمة منذ ستمائة سنة ، ويكفّر كل من لا يتبعه وإن كان من أتقى المسلمين ، ويسميهم مشركين ، ويستحل دماءهم وأموالهم ، ويثبت الإيمان لمن اتّبعه.

    وكان يكره الصلاة على النبي بعد الأذان ، وينهى عن ذكرها ليلة الجمعة وعن الجهر بها على المنابر ، ويعاقب من يفعل ذلك عقاباً شديداً ، حتّى أنه قتل رجلا أعمى مؤذناً لم ينته عن الصلاة على النبي بعد الأذان ، ويلبس على أتباعه أن ذلك كله محافظة على التوحيد.

    كان قد أحرق كثيراً من كتب الصلاة على النبي ، كدلائل الخيرات وغيرها ، وكذلك أحرق كثيراً من كتب الفقه والتفسير والحديث مما هو مخالف لأباطيله (2).

    قال أحمد زيني دحلان : إنّ الوهابيين أرسلوا في دولة الشريف مسعود بن سعيد بن زيد المتوفى سنة 1165 هـ ثلاثين نفراً من علمائهم فأمر الشريف أن يناظرهم علماء الحرمين ، فناظروهم فوجدوا عقائدهم فاسدة ، وكتب قاضي الشرع حجة بكفرهم فأمر بسجنهم ، فسجن بعضهم وفرّ الباقون.

    ثم في دولة الشريف أحمد المتوفى سنة 1195 هـ أرسل أمير الدرعية بعض

________________________________________

1 ـ السيد أحمد بن زيني دحلان : الدرر السنية في الرد على الوهابية ، ص 39 ـ 40.

2 ـ صدقي الزهاوي : الفجر الصادق ، ص 17 ـ 18.

________________________________________

(352)

علمائه فناظرهم علماء مكة وأثبتوا كفرهم ، فلم يأذن لهم بالحج (1).

    وقال أيضاً : لما منع الناس من زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) خرج ناس من الأحساء وزاروا النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وبلغه خبرهم ، فلما رجعوا مرّوا عليه بالدرعية ، فأمر بحلق لحاهم ، ثم أركبهم مقلوبين من الدرعية إلى الأحساء.

    وبلغه مرة أن جماعة قصدوا الزيارة والحج ، وعبروا على الدرعية ، فسمعه بعضهم يقول لتابعيه : خلّوا المشركين يسيرون طريق المدينة ، والمسلمون ( أتباعه ) يخلفون معنا (2).

 

تكفير المسلمين شعارهم الوحيد

    من رجع إلى كتب محمد بن عبد الوهاب وما ألّف في الفترة المتاخمة إلى عصره يقف على أنهم اتفقوا على تكفير المسلمين قاطبة ، سنّيهم وشيعيّهم ولم تكن المحاربة وقتل الأنفس وسفك الدماء في عصره وما بعده إلاّ على أساس أن غيرهم مشركون ، لا حرمة لدمائهم وممتلكاتهم ، يجب تتويبهم قسراً ، وإلاّ فإنه ستهدر دماؤهم ، ويشهد على ذلك ما كتبه الآلوسي صاحب تاريخ نجد الّذي له مع السعوديين أُلفة وطيدة حيث يقول بعد التطرق لذكر سعود بن عبد العزيز (3) : إنه قاد الجيوش وأذعنت له صناديد العرب و رؤساؤهم ، بيد أنه منع الناس عن الحج ، وخرج على السلطان وغالى في تكفير من خالفهم ، وشدّد في بعض الأحكام ، وحمل أكثر الأُمور على ظواهرها ، كما غالى الناس في قدحه ، والإنصاف ، الطريق الوسطى ، لا التشديد الّذي ذهب إليه علماء نجد من تسمية غاراتهم على المسلمين بالجهاد في سبيل اللّه ، ومنعهم الحج ، ولا التساهل الّذي عليه عامة أهل العراق والشامات وغيرهما (4).

________________________________________

1 ـ السيد محسن الأمين : كشف الارتياب ، ص 15 ـ نقلا عن خلاصة الكلام.

2 ـ الشيخ أحمد بن زيني دحلان : الدرر السنية ، ص 41.

3 ـ سعود بن عبدالعزيز بن محمد وهو حفيد أول من بايع محمد بن عبدالوهاب ، وسيتم التعرض لتاريخ حياته .

4 ـ السيد محسن الأمين : كشف الارتياب ، ص 9 نقلا عن تاريخ نجد.

________________________________________

(353)

    فهذا الاعتراف الصريح من موالي الوهابيين يدل على أنهم كانوا في فترة من الزمن على تكفير المخالفين ، وتسمية الغارة على المسلمين جهاداً في سبيل اللّه.

    نعم في الفترة الأخيرة الّتي أخذ فيها أزمّة الحكم في نجد والحرمين الشريفين عبد العزيز ، ثم خلفه أبناؤه من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد اليوم ، تنازلوا عن تكفير المسلمين علانية ، ولاترى هذه التهمة في صفحات وسائلهم الإعلامية السمعية والبصرية ، فتغير موقفهم بالنسبة إلى جميع الطوائف الإسلامية ، فيرون الحرمة لبلادهم ودمائهم وممتلكاتهم ، إلاّ الشيعة ، فهم موقفهم السابق منهم ، وخصوصاً بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران فقد تأججت نار أحقادهم وحميتهم العصبية عليهم ، فلا تمر برهة زمنية إلاّ وينتشر كتاب ضد الشيعة بأقلام المأجورين في مختلف أنحاء العالم ، ويبذلون مال اللّه ليصدّوا الناس عن طريقه.

 

سؤال وجواب

    إنّ الوهابية امتداد فكري لما بذره أحمد بن تيمية في أوائل القرن الثامن وتعتبر حركتهم الهدامة انعكاساً جذرياً لمبادئه الضالة ، ويتمخض عن ذلك ، سؤال يستثيره نجاح محمد بن عبدالوهاب النسبي في تطبيق وإقرار مبادىء دعوته ، دون مؤسس المنهج أحمد بن تيمية ، فقد أخفق في دعوته ، وأخمدت في بادىء بدئها ، وإن كان قد تبعه بعض الناس فلم تكن متابعتهم له عن علم بمبادئه وغاياته.

    وهذا ابن كثير الشامي التابع لمنهج ابن تيمية يقول : كان الناس يتبركون بجنازته (1) مع أنّه عنده شرك ، والشرك من أعظم الجرائم عند ابن تيمية ، فلم تكن متابعة جماعة من الناس له عن إحاطة ودراية ، بل مخالفته للحكم السائد في الشام ، وإبعاده منها إلى مصر ثم سجنه ، صارت سبباً لاستمالة قلوب الناس

________________________________________

1 ـ البداية والنهاية ، ج 14 ، حوادث عام 728.

________________________________________

(354)

إليه من دون وعي بمعتقده ، وهذا بخلاف محمّد بن عبد الوهاب ، فقد تكللت دعوته بالنجاح النسبي ، فياترى ما هو السبب؟.

    نجيب بكلمة واحدة ، إنّ ابن تيمية افتقد الأرضية الكفيلة بإنجاح دعوته لأنّه بثّها بين أوساط علمية ، كان فيهم كبار العلماء والفقهاء ، فأخمدوا ضوضاءها بالاستدلال والبرهنة ، فثاروا في وجهه ثائرة أخمدت دعوته وأبطلت كيده ، وكانت السلطة أيضاً ناصرت العلماء في مجابهتهم له ، فلم يكن لبذرة الفساد نصيب سوى الكمون في ثنايا الكتب ، أو النجاح في مرضى القلوب.

    وأمّا ما يرتبط بدعوة محمّد بن عبد الوهاب فقد ساعد على إنجاحها وجود أرضية خصبة مليئة بالأُمية والجهل بمبادىء الإسلام ، تضاف إلى ذلك مناصرة سلطة آل سعود وتحالفهم معه في تطبيق دعوته ، على أن يكون التخطيط من الشيخ ، والإنجاز من السلطة بالقوة والإغارة والفتك والتخويف.

    يقول الزهاوي : لمّا رأى ابن عبد الوهاب أنّ قاطبة بلاد نجد بعيدون عن عالم الحضارة ، لم يزالوا على البساطة والسذاجة في الفطرة ، وقد ساد عليهم الجهل حتّى لم تبق للعلوم العقلية عندهم مكانة ولا رواج ، وجد هنالك من قلوبهم ما هو صالح لأن تزرع فيه بذور الفساد ، مما كانت نفسه تنزع إليه وتمنيه به من قديم الزمان ، وهو الحصول على رئاسة عظيمة ينالها باسم الدين ـ إلى أن قال ـ : فلم يجد للحصول على أُمنيته طريقاً بين أولئك إلاّ أن يدّعي أنّه مجدد في الدين ، مجتهد في أحكامه; فحمله هذا الأمر على تكفير جميع طوائف المسلمين ، وجعلهم مشركين بل أسوأ حالا وأشدّ كفراً وضلالا ، فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين ، الذين يزورون قبر نبيّهم ويستشفعون به إلى ربّهم (1).

 

الرادّون على محمّد بن عبد الوهاب

    هذا غيض من فيض من حياة محمّد بن عبدالوهاب المليئة بالإجرام والإفساد والتضليل ، وشق عصا المسلمين ، فمن أراد التوسع في دراسة حياته

________________________________________

1 ـ جميل صدقي : الفجر الصادق ، ص 14.

________________________________________

(355)

وما جرّه على المسلمين من حروب وويلات ، فليرجع إلى الكتب المؤلفة حول الوهابية ومؤسسها ، وتاريخ نجد والسلطة القبلية الحاكمة فيه منذ عصر محمّد بن عبدالوهاب إلى يومنا هذا.

    إلاّ أنّ العلماء الواعين في الحرمين الشريفين في عصره وما بعده ، وفي سائر الأقطار الإسلامية ، قد أدوا ما عليهم من وظائف رسالية تجاه هذه الحركة الهدامة ، فترى كيف أنّهم قد بذلوا الجهود المضنية في سبيل ردّ دعوتهم وإثبات بطلانها ، وإليك قائمة من الردود المؤلفة في إبطالها ، نأتي بأسمائها وأسماء مؤلّفيها :

    1 ـ « مقدمة شيخه محمّد بن سليمان الكردي الشافعي » الّتي قرّظ بها رسالة أخيه سليمان بن عبدالوهاب ، وقع في نحو ثلاث ورقات ، وقد تضمّنت ما يشير إلى ضلاله ومروقه عن الدين ، على نحو ما حكي في ذلك عن شيخه الآخر محمّد حياة السندي ، ووالده عبد الوهاب.

    2 ـ « تجريد سيف الجهاد لمدّعي الاجتهاد » لشيخه العلامة عبد اللّه بن عبد اللطيف الشافعي.

    3 ـ « الصواعق والرعود » للعلامة عفيف الدين عبداللّه بن داود الحنبلي.

    قال العلامة علوي بن أحمد الحداد : كتبت عليه تقاريظ أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والأحساء وغيرهم ، تأييداً له وثناء عليه.

    ثم قال : ولو وقفت عليه قبل هذا ما ألفت كتابي هذا.

    ولخصه محمّد بن بشير قاضي رأس الخيمة بعجمان.

    4 ـ « تهكّم المقلدين بمن ادّعى تجديد الدين » للعلاّمة المحقق محمّد بن عبدالرحمن ابن عفالق الحنبلي ، وقد ترصّد فيه لكل مسألة من المسائل الّتي ابتدعها وردّ عليها بأبلغ رد ، وقد ضمّن كتابه هذا ملحقاً يتناول ما يتعلق بالعلوم الشرعية والأدبية ، كما أرفقه بأسئلة كان قد بعثها إلى محمد بن عبد الوهاب ، منهاشطر وافر حول علم البيان تتعلق بسورة « والعاديات » ،

 

________________________________________

(356)

وألمح في ذيلها إلى عجزه عن الجواب عن أدناها فضلا عن أجلِّها.

    5 ـ رسالة للعلامة أحمد بن علي القباني البصري الشافعي ، وتقع في نحو عشر كراريس عقد فصولها كافة للرد على معتقداته وتزييف أباطيله.

    6 ـ رسالة للعلامة عبدالوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي المكي.

    7 ـ « الصارم الهندي في عنق النجدي » للشيخ عطاء المكي.

    8 ـ رسالة للشيخ عبد اللّه بن عيسى المويسي.

    9 ـ رسالة للشيخ أحمد المصري الأحسائي.

    10 ـ السيوف الصقال في أعناق من أنكر على الأولياء بعد الانتقال ، لأحد علماء بيت المقدس.

    11 ـ السيف الباتر لعنق المنكر على الأكابر ، للسيد علوي بن أحمد الحداد ، طبع في نحو مائة ورقة.

    12 ـ رسالة للشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن عبداللطيف الأحسائي.

    13 ـ تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ، للعلامة عبداللّه بن إبراهيم مير غني الساكن بالطائف.

    14 ـ رسالة للشيخ محمد صالح الزمزمي الشافعي ، تقع في نحو عشرين كراساً ، حكى السيد علوي بن أحمد الحداد أنّه رآها أمام مقام إبراهيم بمكة.

    15 ـ « الانتصار للأولياء الأبرار » للعلامة طاهر سنبل الحنفي ، حكى السيد علوي المذكور آنفاً أنّه رآه عند مؤلفه بالطائف.

    16 ـ مجموعة أجوبة وردود نظماً ونثراً لأكابر علماء المذاهب الأربعة ، لا يحصون ، من أهل الحرمين الشريفين والأحساء والبصرة وبغداد وحلب واليمن وغيرها.

    حكى عنها السيد علوي أيضاً وذكر أنّه أتى بها إليه رجل من آل ابن عبد الرزاق الحنابلة ، الذين يقطنون الزيارة والبحرين.

 

________________________________________

(357)

    17 ـ كتاب ضخم يحتوي على جملة من الأسئلة والأجوبة ، كلها من علماء أهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، حدّث به أيضاً السيد المذكور ، كلها في الرد على محمّد بن عبد الوهاب.

    18 ـ قصيدة للسيد المنعمي ردّ بها على ابن عبد الوهاب إثر قتله جماعة كانوا قد عفوا شعر رؤسهم ، مطلعها :

أفي حلق رأس بالسكاكين « الحدِّ »                   حديث صحيح بالأسانيد عن جدي

    19 ـ « مصباح الأنام وجلاء الضلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام » للعلامة السيد علوي بن الحداد المتقدم ، طبع سنة 1325 هـ بالمطبعة العامرية ، وما سبق حكايته عن مؤلفه منقول عنه.

    20 ـ « الصواعق الإلهية » لأخيه سليمان بن عبدالوهاب « مطبوع ».

    21 ـ كتاب لشيخ الإسلام بتونس المحقق إسماعيل التميمي المالكي المتوفى سنة 1248 ، وهو في غاية التحقيق والإحكام ، نقض فيه رسالة لابن عبدالوهاب طبعت في تونس.

    22 ـ رسالة مسجعة محكمة للمحقق الشيخ صالح الكواش التونسي ، طبعت ضمن كتاب « سعادة الدارين في الردّ على الفرقتين » نقض فيها مؤلفها رسالة لابن عبدالوهاب.

    23 ـ رسالة للعلامة المحقق السيد داود البغدادي الحنفي ، مطبوعة.

    24 ـ قصيدة للشيخ غلبون الليبي ، ردّ بها على قصيدة الصنعاني الّتي مدح بها ابن عبد الوهاب ، تقع في أربعين بيتاً ، مطلعها :

سلامي على أهل الإصابة والرشد                       وليس على نجد ومن حلَّ في نجد

    وهي مذكورة في سعادة الدارين.

    25 ـ قصيدة أخرى للسيد مصطفى المصري البولاقي ، يرد فيها أيضاً على قصيدة الصنعاني الّتي ذكرت في المصدر السابق ، تقع في مائة وستة وعشرين بيتاً ، مطلعها :

 

________________________________________

(358)

بحمد وليِّ الحمد ، لا الذم أستبدي                    وبالحق لا بالخلق ، للحق أستهدي

    26 ـ قصيدة ثالثة للسيد الطباطبائي البصري ، يرد فيها على قصيدة الصنعاني ، وقد كان لهذه القصائد الأثر الأكبر في إرجاع الصنعاني عن غيه الّذي وقع فيه ، حتّى بلغ به الأمر إلى إنشاد قصيدة يعلن فيها توبته مما بدر منه : مستهلها :

رجعت عن القول الّذي قلت في نجدِ                 فقد صحّ لي عنه خلاف الّذي عندي

    27 ـ « سعادة الدارين في الرد على الفرقتين ـ الوهابية والظاهرية ـ للعلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري المتوفى في العقد الثاني من هذا القرن ، وقد طبع في مجلدين.

    28 ـ « الدرر السنية في الرد على الوهابية » لمفتي مكة السيد أحمد زيني دحلان المتوفى سنة 1304 هـ وهو مطبوع.

    29 ـ « شواهد الحق في التوسل بسيد الخلق » للشيخ يوسف النبهاني. طبع في مجلد.

    30 ـ « الفجر الصادق » لجميل صدقي الزهاوي ، مطبوع.

    31 ـ « إظهار العقوق ممن منع التوسل بالنبي والولي الصدوق » للشيخ المشرفي المالكي الجزائري.

    32 ـ رسالة في جواز التوسل ، للشيخ المهدي الوازناني مفتي فاس ، ردّ فيها على محمّد بن عبد الوهاب في منعه ذلك.

    33 ـ « غوث العباد ( في ) بيان الرشاد » للشيخ مصطفى الحمامي المصرى ، مطبوع.

    34 ـ « جلال الحق في كشف أحوال أشرار الخلق » للشيخ إبراهيم الحلبي القادري الاسكندري ، وهو كتاب جيد طبع في الاسكندرية سنة 1355 هـ.

 

________________________________________

(359)

    35 ـ « البراهين الساطعة » للعلامة الشيخ سلامة العزامي المتوفى سنة 1379 هـ.

    36 ـ « النقول الشرعية في الردّ على الوهابية » للشيخ حسن الشطي الحنبلي الدمشقي ، مطبوع.

    37 ـ رسالة أُخرى له أيضاً في تأييد مذهب الصوفية والردّ على من ناوأهم ، مطبوعة.

    38 ـ رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء ، للشيخ محمّد حسنين مخلوف ، مطبوعة.

    39 ـ « المقالات الوفية في الردّ على الوهابية » للشيخ حسن قزبك ، مطبوعة.

    40 ـ « الأقوال المرضية في الردّ على الوهابية » وهي رسالة صغيرة للشيخ عطا الكسم الدمشقي.

    والردود على الوهابية أكثر مما ذكر ، وقد اكتفينا بهذا العدد المبارك ، وفيه غنى وكفاية ، وكلّها لأهل السنة والجماعة ، وأمّا الشيعة فحدث عنها ولا حرج ، وأول من ردّ عليه ، الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء الأكبر بكتاب أسماه بـ « منهج الرشاد لمن أراد السداد » كتبه ردّاً على الرسالة الّتي بعثها سعود بن عبد العزيز إليه يشرح فيها مواقف الوهابية في المسائل الراجعة إلى التوحيد والشرك ، وقد طبع في النجف الأشرف عام 1343 هـ ، ثم توإلى النقد من علماء الشيعة بعد تدمير قباب البقيع عام 1344 هـ ، إلى يومنا هذا ، ونشير إلى قليل من كثير مما طبع وانتشر باللغة العربية :

    1 ـ الآيات البينات في قمع البدع والضلالات ، للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( 1294 ـ 1373 هـ ) طبع بالنجف الأشرف 1345 هـ.

    2 ـ الآيات الجلية في ردّ شبهات الوهابية ، للشيخ مرتضى كاشف الغطاء ( م 1349 هـ ) .

 

________________________________________

(360)

    3 ـ إزاحة الوسوسة عن تقبيل الأعتاب المقدسة ، للشيخ عبد اللّه بن محمد حسن المامقاني ( ت 1351 هـ ) طبع في النجف الأشرف مع كتابه مخزن المعاني.

    4 ـ البراهين الجلية في دفع شبهات الوهابية ، للسيد محمد حسن القزويني الحائري ( ت 1380 هـ ) طبع بالنجف ( 1346 هـ ) .

    5 ـ التبرك ، للشيخ علي الأحمدي الميانجي ، طبع في بيروت.

    6 ـ دعوى الهدى إلى الورع في الأفعال والفتوى ، للشيخ محمد جواد البلاغي ( ت 1352 هـ ) .طبع في النجف الأشرف ( 1344 هـ ) .

    7 ـ الرد على الوهابية ، للشيخ محمّد علي الغروي الأردوبادي ، طبع سنة ( 1345 هـ ) .

    8 ـ الرد على الوهابية للسيد حسن الصدر الكاظمي ( ت 1354 هـ ) ، طبع في بغداد ( 1344 هـ ) .

    9 ـ كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب ، للسيد محسن الأمين العاملي ( ت 1373 هـ ) طبع في صيدا.

    10 ـ المواسم المراسم ، للسيد جعفر مرتضى العاملي ، يبحث عن مشروعية إقامة مراسم الاحتفال في الأعياد ، أو مظاهر الحزن في المآتم ـ طبع في طهران.

    11 ـ هذه هي الوهابية ، للشيخ محمد جواد مغنية العاملي ( ت 1400 هـ ) طبع في بيروت.

    12 ـ مع الوهابيين في خططهم وعقائدهم ، لمؤلف هذا الكتاب ، طبع في طهران ، عام ( 1406 هـ ) .

    13 ـ الوهابية في الميزان ، له أيضاً ، طبع في قم المشرفة عام ( 1407 هـ ) .

(361)

    14 ـ وأخير الردود لا آخرها ـ التوحيد والشرك في القرآن الكريم ، له أيضاً ، استعرض فيه الآيات الواردة حولهما بإمعان ودقة ، وفند جميع مستمسكات الوهابيين فيه.

    ولنكتف بهذا المقدار ، وإلاّ فاردود عليها من الشيعة بألسنة مختلفة كثيرة.      « فاحتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها »

الإمام الصادق ( عليه السَّلام)

 

 

________________________________________

(362)

تاريخ الإمارة القبلية السعودية

الفترة الأُولى

     وقد تصدى للحكم فيها من عام 1137 إلى 1233 الأُمراء التالية أسماؤهم : 1 ـ محمد بن سعود 2 ـ عبدالعزيز بن محمد بن سعود 3 ـ سعود بن عبدالعزيز 4 ـ عبد اللّه بن سعود.

 

الفترة الثانية

1240 ـ 1309

    5 ـ تركي ابن أخي عبد العزيز 6 ـ مشاري بن عبدالرَّحمن 7 ـ فيصل بن تركي 8 ـ خالد بن سعود 9 ـ عبداللّه بن ثنيان 10 ـ فيصل بن تركي 11 ـ عبداللّه بن فيصل التركي 12 ـ سعود بن فيصل التركي 13 ـ عبدالرَّحمن بن فيصل.

 

الفترة الثالثة

1319 ـ ...

    14 ـ عبد العزيز بن عبدالرَّحمن 15 ـ سعود بن عبدالعزيز 16 ـ فيصل بن عبدالعزيز 17 ـ خالد بن عبدالعزيز 18 ـ فهد بن عبدالعزيز.

    ويعلم اللّه من سيتحكم في الديار المقدسة بعد هذا الرجل.

 

________________________________________

(363)

تاريخ الإمارة القبلية السعودية

    قد تعرفت على أنّ آل سعود وعلى رأسهم محمّد بن سعود كانوا هم الحماة لدعوة محمّد بن عبد الوهاب ، وقد تمخض عنها إبرام اتفاقية بين ابن عبد الوهاب وأمير العائلة السعودية ، وهذه الاتفاقية لا تزال باقية إلى يومنا هذا وإن تبدلت بأشكال مختلفة ، غير أن الوقوف على كيفية توسع نطاق دعوة ابن عبد الوهاب يتوقف على دراسة تاريخ حياة هذه القبيلة بعد هذه الاتفاقية ، كيف أنّهم سلّوا سيوفهم في طريق نشرها إلى حدّ خضبوا وجه الأرض بإراقة دماء الصالحين والمؤمنين ، وقتل الأطاف في حجور أُمهاتهم ، وتدمير الأبنية ، وإحراق الأشجار والنخيل ، إلى غير ذلك ممّا يكلّ البيان عن وصفه والقلم عن الإحاطة به ، والقارىء إذا استطلع ما سنذكره مؤيداً بمصادر موثقة ، يقف على أنّه لم تكن هناك رسالة دينية ولا إنسانية ، بل كانت الدعوة الوهابية واجهة وغطاء لما تربّوا عليه وألفوه في حياتهم القبلية من النهب والغارة والقتل والسفك ، وتوسيع نطاق السلطة ، إلى غير ذلك مما كانوا يمارسونه قبل قبول الدعوة الوهابية ، الّتي تركز بزعمهم على رفض الشرك وزيادة رقة الموحدين ، وكانت فكرةً اغترّ بها البسطاء وانطلت على عقولهم الساذجة ، لأنّهم كانوا يعيشون في واحات الصحاري منقطعين عن الأُمم المتحضرة ، فلأجل ذلك تمكنت الدعوة الوهابية من النفوذ إلى أذهانهم بيسر وسهولة ، فصار البدو أداة طيعة بيد الأمير وصاحب الدعوة ، فأشاعا الفساد بما أوتيا من قوة.

    إنّ تاريخ العائلة السعودية حسبما يذكره المؤرخون تتلخص في فترات ثلاث :

    الفترة الأُولى : وهي تبتدىء من عام 1137 هـ إلى 1233 هـ.

    الفترة الثانية : تبتدىء من عام 1240 هـ إلى 1309 هـ.

    الفترة الثالثة : تبتدىء من عام 1319 هـ إلى عصرنا هذا.

 

________________________________________

(364)

الفترة الأولى لحياة العائلة

    1 ـ إمارة محمد بن سعود : ( 1137 هـ ـ 1179 هـ ) .

    إنّ محمد بن سعود هو أول من صافح محمد بن عبد الوهاب و كان معه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في العام الآنف الذكر ، وقد حصل صدام بينه وبين عثمان بن معمر شيخ « العيينة » ، وقد خشي عثمان من امتداد السلطة السعودية فعقد حلفاً مع « ثرمدة » و « ابن سويط » شيخ الظفير ، ولكنه باء بالفشل واغتيل على يد الوهابيين عند خروجه من المسجد ، فانضمت « العيينة » بعد ذلك إلى الحكم السعودي ، وقد آل معمر دورهم السياسي في نجد (1).

    يقول زيني دحلان : « كان ابتداء ظهوره أمره ( ابن عبد الوهاب ) في الشرق سنة 1143 هـ ، واشتهر أمره بعد الخمسين وألف ومئة بنجد وقراها ، فتبعه وقام بنصرته أمير الدرعية محمد بن سعود ، وجعل ذلك وسيلة إلى اتساع ملكه ونفاذ أمره ، فأحمل أهل « الدرعية » على متابعة محمد بن عبدالوهاب فيما يقول ، فتبعه أهل « الدرعية » وما حولها ، ومازال يطيعه على ذلك كثير من أحياء العرب ، حي بعد حي ، وقبيلة بعد قبيلة ، حتّى قوي امره فخافته البادية ، فكان يقول لهم إنما أدعوكم إلى التوحيد ، وترك الشبرك باللّه ، ويزين لهم القول وهم بَواد في غاية الجهل لا يعرفون شيئاً من أُمور الدين ، فاستحسنوا ما جاءهم به ، وكان يقول لهم إنّي أدعوكم إلى الدين ، وجميع من هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق ومن قتل مشركاً فله الجنة ، فتابعوه وصارت نفوسهم بهذا القول مطمئنة ، وكان محمد بن عبدالوهاب بينهم كالنبي في أمته ، لا يتركون شيئاً مما يقول ، والذا قتلوا إنساناً أخذوا ماله وأعطوا الأمير محمد بن سعود الخمس ، واقتسموا الباقي ، وكانوا يمشون حينما مشى ، ويأتمرون له بما شاء ، والأمير محمد بن سعود ينفذ كل ما يقول ، حتّى اتسع له الملك.

________________________________________

1 ـ أبو عليه ، عبدالفتاح : محاضرات في تاريخ الدولة السعودية ، ص 16.

________________________________________

(365)

البعثة الوهابية إلى مكة

    تولى ولاية مكة الشريف مسعود من عام 1146 إلى عام وفاته 1165 هـ ، وقد أرسل محمد بن سعود عندما استحفل أمر محمد بن عبدالوهاب ثلاثين عالماً إلى مكة يستأذنونه في الحج ، ولكن كان هدفهم هو الدعوة إلى الوهابية ونشرها في أوساط أهل الحرمين ، وقد كان أهلهما قد سمعوا بظهورهم في نجد وإفسادهم عقائد البوادي ، ولم يعرفوا حقيقتهم بعد عن كثب ، فلما وصلت بعثته أمر الشريف مسعود أن يناظرهم علماء الحرمين ، فإذا بهم فوجئوا بعقائد غريبة ، فأقاموا عليهم الحجة والبرهان ، فقبض على جماعة منهم ، بينما فرّ بجلدته البعض الآخر (1).

 

الصدام مع حاكم الرياض

    كان دهام بن دواس حاكماً على الرياض ، وكان من ألد الأعداء للدعوة الوهابية ، وقد دامت الحروب بين الرياض والدرعية زهاء سبعة وعشرين عاماً على الرغم من قرب المسافة بينهما ، وكانت سجالا ، فلم تمرّ سنة إلاّ وقعت فيها غزوة بين البلدين ، وفي إحدى هذه الهجمات قتل ولدا محمد بن سعود ، أعني فيصلا وسعوداً (2).

    وظل أمير الرياض المنافس الرئيسي لمحمد بن سعود ، وكانت الغزوات بين الدرعية والرياض تدور رحاها كل عام تقريباً.

    ففي عام 1178 هـ اتفق أبناء « يام » من أهالي نجران وقبيلتي العجمان و « بني خالد » وتحالفوا على سحق محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب.

    فقد تحالف بنو يام على أن يسيروا من نجران بقيادة السيد حسن بن هبة اللّه ، وأن يسير بنو خالد والعجمان من الأحساء بقيادة حاكمها آنذاك باسم الخالدي ، وتواعد الجميع على الزحف على الدرعية ، فصارت جموع من

________________________________________

1 ـ الدرر السنية ، ص 43 ـ بتصرف.

2 ـ أبو علية ، عبدالفتاح : محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى ، ص 19 ـ 20.

________________________________________

(366)

نجران والأحساء ، ولكن قائد نجران قد وصل إلى ضواحي « الدرعية » قبل وصول العجمان وبني خالد ، وبوحدتهم تمكنوا من سحق الجند السعودي واختفى محمد بن سعود ، وكاد ينتهي أظلم حكم دخيل عرفته شبه الجزيرة العربية على أيدي أهالي نجران الأبطال ، لو لم يلجأ محمد بن عبدالوهاب إلى المكر والخداع ، فقد رفع راية الصلح على أن يقف أهالي نجران عند حدهم ويمتنعوا من دخول « الدرعية » ، وأنّ يسلّموا ما تحت أيديهم من الأسرى السعوديين ، ويتعهد كل من محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود بدفع عشرة آلاف جنيه ذهب كتعويض لأهالي نجران عن رحتلهم هذه ، وأن لا يتعدى محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب حدود « الدرعية » ، وبهذا شهد محمد بن عبدالوهاب ببطلان دعوته أمام أهالي نجران.

    ولما وصلت قوات الخالدي المسلحة بالمدافع إلى ضواحي « الدرعية » ، وكان قد انضمّ إليها الكثير من النجديين فوجئوا بهذا الصلح ، والقبوله تمشياً مع ما اتّخذه أبناء عمهم من أبناء نجران ، ولم يكن سبب فشلها الاّ التصرفات الفردية للشيخ حسن بن هبة اللّه ، وإلاّ لقضي على الوجود السعودي في ذلك الوقت ، وقد كان عنف الهجوم وإيجاد الرعب على حد أُصيب محمد بن سعود بإسهال ، ومرض مرضاً شديدياً من جزاء ما انتابه من رعب شديد حينما شاهد أنّ أبناء يام يحاصرون « الدرعية » ، بعد سحقهم للجند السعودي ، وقد تسبب ذلك هلاك محمد بن سعود من جراء المرض الّذي أصابه من ذلك الحادث ، ومات عام 1179 هـ (1).

 

2 ـ عبدالعزيز بن محمد بن سعود ( 1179 ـ 1218 هـ )

    اختار محمّد بن سعود ولده عبدالعزيز وليّاً للعهد من بعده ، باقتراح من محمد بن عبدالوهاب ، فكان أول أمير يبايع بولاية العهد من السعوديين ، ومنذ ذلك الحين أصبحت الإمارة تنتقل بالمبايعة بولاية العهد ، تماماً كما فعل

________________________________________

1 ـ ناصر السعيد : تاريخ آل سعود ، ص 30.

________________________________________

(367)

معاوية مع ولده يزيد ، وهذه واحدة من بدع الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وقد تزوج عبدالعزيز ابنة محمد بن عبدالوهاب ، وامتزج النسب بعضه ببعض أكثر من ذي قبل (1).

    ولم تكن سيرة عبدالعزيز خيراً من سيرة أبيه بل شرّاً منه ، وقد نجمت في عهده حروب دامية سفكت فيها دماء الأبرياء بما يتجاوز حد الوصف ، وإن كنت في شك مما نقول فعليك بقراءة ما أسجله لك من وثائق موثقة :

 

احتلال الأحساء عام 1207 هـ

    تشكل الأحساء وسواحلها وموانئها جزءاً من البلاد المطلة على الخليج ، والّتي يتنازع عليها العثمانيون وولاة العراق ومصر.

    كانت الأحساء في القرن الثاني عشر ( 1100 ـ 1200 ) تخضع لنفوذ قبائل بني خالد ، وهي قبائل نجدية كبيرة منتشرة على شاطىء الخليج تحت حكم شيخهم محمد آل حميد ، الّذي أنذر عثمان بن معمر شيخ العيينة بطرد محمد بن عبد الوهاب من قريته ، لما أساءت تعاليمه إلى القرى المجاورة ، وكان ذلك من أسباب العداء بين بني خالد وآل سعود ، بالإضافة إلى رغبة هؤلاء في التوسع ، وأدى ذلك إلى سقوط الأحساء في يد الوهابيين عام 1785 م « حوالي 1207 هـ ».

    وفي خريف 1703 م « حوالي 1215 هـ » توجه سعود بن عبدالعزيز مع قوات كبيرة إلى الأحساء ، ونهبت قواته البدوية كل ما صادفته في طريقها ، وقتلت دون رحمة كل من أبدى مقاومة ، ودمرت بساتين النخيل واستأثرت بمحاصيل التمور ، ورعت الماشية في الحقول ، وأعربت الأحساء كلها عن خضوعها لهم ، وعيّن براك بن عبدالمحسن أميراً للأحساء (2) ولكنه حاول في ربيع 1796 م أن يتخلص من سلطة الوهابيين ، ولكنه اطّلع عليه سعود بن عبدالعزيز

________________________________________

1 ـ المصدرالسابق ، ص 30.

2 ـ ابن غنام : تاريخ نجد ، ج 2 ص 158 ـ 166.

________________________________________

(368)

فجاء بجيش قوي إلى الأحساء وقمع الحركة فيها من جديد (1).

    يقول ابن بشر في كيفية إخضاع الأحساء : فلما أصبح الإصباح رحل سعود بعد صلاة الصبح ، فلما استووا على ظهور ركائبهم وقربوا من الأحساء ، أطلقوا رصاص بنادقهم دفعة واحدة ، فاسقط الكثير من النساء الحوامل ما في بطونهم لهول الموقف ، فاحتلها ، ثم نزل سعود فأمرهم بالخروج إليه ، فخرج فأقام هناك مدة أشهر يقتل من أراد قتله ، يجلي من أراد إجلاءه ، ويحبس من أراد حبسه ، ويأخذ من الأموال ، يهدم من المحالّ ، ويبني ثغوراً ويهدم دوراً ، وضرب عليهم ألوفاً من الدراهم وقبضها منهم ، وذلك لما تكرر منهم من نقض العهد ومنابذة المسلمين وأكثر فيها القتل ( إلى أن يقول ) فلما أراد ابن سعود الرحيل من الأحساء أمسك عدة رجال من رؤساء أهلها ... فاستقدمهم إلى « الدرعية » وأسكنهم فيها ، واستعمل في الأحساء أميراً باسم ( ناجم ) وهو رجل منهم (2).

 

تدمير كربلاء والتصفية الجسدية

    وفي سنة 1216 هـ جهز سعود بن عبد العزيز بن محمد جيشاً جراراً من أعراب نجد ، وغزا به العراق ، وحاصر كربلاء ثم دخلها عنوة ، وأعمل في أهلها السيف ، ولم ينج منهم إلاّ من فرّ هارباً ، أو اختفى في مخبأ من حطب ونحوه فلم يعثروا عليه ، وهدم قبر الحسين( عليه السَّلام ) واقتلع الشباك الموضوع على القبر الشريف ، ونهب جميع ما في خزانة المشهد ، ولم يرع لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ولا لذريته أدنى حرمة ، وجدد بجريمته النكراء مأساة واقعة كربلاء ويوم الحرة ، وجرائم بني أُمية وبني العباس.

    ويتناول كوران سيز وصف تلك الواقعة بقوله :

    وقد جرت العادة أن يحتفل الشيعة كل عام بعيد الغدير في يوم الغدير في

________________________________________

1 ـ ابن غنام : تاريخ نجد : ج 2 ص 174 ـ 175.

2 ـ نفس المصدر : ج 2 ، ص 174 ـ 175 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 1 ، ص 105 ـ 106.

________________________________________

(369)

النجف الأشرف ، فخرج أهالي كربلاء من بلدتهم ، فانتهز الوهابيون فرصة غيابهم عن البلدة واقتحموها ، وهم حوالي اثني عشر ألف جندي ، ولم يكن في البلدة إلاّ عدد قليل من الرجال المستضعفين ، قتلهم الوهابيون ولم يبقوا أحداً منهم حيّاً ، ويقدر عدد الضحايا خلال يوم واحد بثلاثة آلاف ، وأمّا السلب فكان فوق الوصف ، ويقال إنّ مائتي بعير حملت فوق طاقاتها بالمنهوبات الثمينة ، فقد استولى الوهابيون على كل الكنوز والأموال ، وجردوا القبة من صفائح النحاس المطلية بالذهب (1).

    وقال « فيلبي » في تاريخ نجد : اقتحم سعود بجيش أبيه كربلاء ، وبعد حصار قصير أعمل السيف في رقاب أهلها ، ودمر ضريح الحسين ( عليه السَّلام ) ، ونهب المجوهرات الّتي كانت تغطي الضريح ، وجمع كل شيء ذا قيمة في المدينة ...

    والحق أن يقال إنّ عمله هذا هزّ العالم كله ، فضلا عن الشيعة ، فقد كان منعطفاً تاريخياً للثورة على الوهابيين ، كما أدّى فيما بعد إلى عواقب وخيمة على سلطة هذه الإمارة الضالة (2).

    ويقول العلاّمة السيد جواد العاملي مؤلف مفتاح الكرامة :

     « ... فأغار سعود بن عبدالعزيز في سنة 1216 هـ على مشهد الحسين( عليه السَّلام ) وقتل الرجال والأطفال ، وأخذ الأموال ، وعاث بالحضرة المقدسة ، وخرب بنيانها وهدم أركانها ، ثم إنّه بعد ذلك استولى على مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وفعل بالبقيع ما فعل ، ولم يستثن من ذلك إلاّ قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) » (3).

________________________________________

1 ـ الدكتور منير العجلاني : تاريخ البلاد العربية ، ص 126 ـ 127.

2 ـ فيلبي : تاريخ نجد ، ص 99.

وهذا الكاتب ، أعني فيلبي كان رجلا إنكليزياً باسم « سنت جون فيلبي » فقد أظهر الإسلام وأقام مدة مديدة في نجد ، وكان له علاقة وطيدة مع السعوديين ثم توترت علاقته معهم بسبب تسجيله هذه الحوادث التاريخية المريرة الّتي أصبحت وصمة عار في جبين الأسرة السعودية إلى الأبد.

3 ـ العاملي ، السيد جواد : مفتاح الكرامة ، ج 5 ص 512.

________________________________________

(370)

    كان تدمير كربلاء أفدح هزيمة مني بها سليمان باشا والي بغداد ، مما زاد في تدهور وضع الوالي.

 

احتلال الطائف عام 1217 هـ

    قال الجبرتي : في أواخر سنة 1217 هـ أغار الوهابيون على الحجاز ، فلما قاربوا الطائف خرج إليهم الشريف غالب فهزموه ، فرجع إلى الطائف وأحرقت داره وهرب إلى مكة ، فحاربوا الطائف ثلاثة أيام حتّى دخلوها عنوة ، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال ، وهذا دأبهم في من يحاربهم ، وهدموا قبة ابن عباس في الطائف (1).

    يقول زيني دحلان : فدخلوا البلد عنوة في ذي القعدة سنة 1217 هـ فقتلوا الناس قتلا عاماً حتّى الأطفال ، وكانوا يذبحون الطفل الرضيع على صدر اُمه ، وكان جماعة من أهل الطائف خرجوا قبل ذلك هاربين ، فأدركتهم الخيل وقتلت أكثرهم ، وفتشوا على من توارى في البيوت وقتلوه ، وقتلوا من في المساجد ـ إلى أن قال ـ : وصارت الأعراب تدخل كل يوم إلى الطائف وتنقل المنهوبات إلى الخارج حتّى صارت كأمثال الجبال ، فأعطوا خمسها للأمير واقتسموا الباقي ، ونشروا المصاحف وكتب الحديث والفقه والنحو في الأزقة ، وأخبروا أن الأموال مدفونة في المخابىء فحفروا في موضع فوجدوا فيه مالا ، وعندها حفروا جميع بيوت البلد حتّى بيوت الخلاء والبالوعات.

 

استيلاء الوهابيين على مكة في سنة 1218 هـ

    عزم الوهابيون في سنة 1217 هـ على الاستيلاء على مكة المكرمة وإخضاعها لسيطرتهم ونفوذهم ، فأعدّوا العدة وحشدوا الحشود المكثفة لذلك في أول الأشهر الحرم ، فشاع خبرهم في الآفاق وبلغ مسامع الناس وهم في موسم الحج ، وقد كان ممن حج في ذلك العام ، إمام مسقط : سلطان بن سعيد ونقباء وأمراء حجيج مصر والشام وغيرهما ، فاستنجد بهم الشريف غالب

________________________________________

1 ـ غالب محمد أديب : أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي ، ص 93.`

(371)

أمير مكة فأبوا عليه ، ودعاهم إلى الجهاد ضد الوهابية بعد انقضاء مناسك الحج فأعرضوا عنه ، وتعللوا بعلل واهية ، وأكثر الإلحاح عليهم فلم يجد فيهم أُذناً صاغية ، فاضطرّ إلى الجلاء عن مكة برفقة أتباعه وخزائنه وذخائره ، وكثير من أهالي مكة إلى مدينة جدة ، للأمن من غائلة سطوة الوهابيين.

    ووصل ابن سعود بقواته مشارف مكة المكرمة يومة العاشر من المحرم ، فدخلها من دون مقاومة تذكر ، ففعل بها وبأهلها ما فعله جنده بأهل الطائف (1).

    وفرض ابن سعود على علمائها تلقّي أفكار ابن عبد الوهاب ومدارسة كتبه ، كما منع مسلمي الآفاق من أداء الحج والعمرة ، فانقطع عن أهل مكة والمدينة ما كان يصل إليهم من الصدقات ، أو أسباب التجارة الّتي كانوا يتعيشون منها (2).

    وبعد استيلائهم على مكة ، قدمت جموع غفيرة من نجد من الوهابيين ، فتوجهت حشودهم بتخطيط مسبق إلى الأضرحة والمزارات ذات القباب الّتي شيدت لتكريم شخصيات صدر الإسلام فهدموها ، وكذا فعلوا بدار مولد النبيّ وقبّة السيدة خديجة وقبة زمزم (3) ، فما مضت عليهم إلاّ ثلاثة أيام حتّى محوا جميع آثار صدر الإسلام ومعالمه ، وآثار الصالحين ، فأزالوها عن بكرة أبيها (4).

 

طرد الوهابيين من مكة المكرمة

    كانت الوهابية مسيطرة على الحرم الشريف على نحو ما مرّ ذكره ، فدفعت جرائمهم الّتي ارتكبوها بمكة الشريف غالب إلى تصميمه على تجديد العهد بها لتطهيرها من دنس الوهابيين ، فسار برفقة الشريف باشا حاكم جدة

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 64 ـ تاريخ الجبرتي ، ص 93.

2 ـ أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي ، ص 93.

3 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 1 ص 122.

4 ـ تاريخ الجبرتي ، ص 118 بتصرف.

________________________________________

(372)

وكثير من العسكر والعبيد ، وتمكنوا من اقتحام متاريس الوهابيين المحيطة بها ، فدخلوها وأحكموا السيطرة عليها ، بعد أن طردوا منها كل ما تبقى من شراذم الوهابيين.

    ثم أخذ الشريف غالب يحارب كل من كان يوالي الوهابيين ممن جاور مكة من القبائل بالغارة عليهم ، حتّى تمكن من استئصالهم والقضاء على تبعيتهم وعمالتهم لهم.

    هذا غيض من فيض من جرائم عبدالعزيز بن محمّد آل سعود ، وهذه كلها حروب وفتن ، وتدمير وتخريب وضحايا ، ونهب وسلب وهتك للمقدسات الدينية ، وغارات متصلة ليل نهار على المسلمين الآمنين.

    وظلّ على هذه السيرة إلى عام 1218 هـ حتّى اغتاله رجل. قال جبران شامية الكاتب الوهابي : وانتقم الشيعة من غزوة كربلاء بعد سنتين باغتيال الإمام عبد العزيز وهو يصلّي في المسجد عام 1218 هـ وقال فيلبي : لقد تنكّر القاتل بزي « درويش » وذهب إلى « الدرعية » وبقي فيها أياماً يصلّي خلف عبد العزيز ، وفي ذات يوم ألقى بنفسه على عبد العزيز وهو يصلّي ، وطعنه بمدية في ظهره اخترقت به إلى بطنه ، وعجلت به إلى مقره الأخير ، وتكاثر الناس على القاتل وقتلوه (1).

    وقال ابن بشر : كان مقتل أمير الدرعية عبدالعزيز ضربة جديدة للوهابيين ، ففي خريف عام 1803 م قتل في مسجد الطريف بالعاصمة على يد درويش غير معروف يدعى عثمان ، وهو كردي من إحدى قرى الموصل ، وكان هذا الدرويش قد حلّ ضيفاً على البلاط ، وعندما سجد عبدالعزيز أثناء الصلاة هجم هذا الدرويش الّذي كان في الصف الثالث على الأمير وقتله بطعنة من خنجر ، ثم جرح أخاه عبداللّه ، وتفيد بعض المعلومات أن قاتل عبد العزيز شيعي هلك كل أفراد عائلته اثناء غزو كربلاء (2).

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 64.

2 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 54.

________________________________________

(373)

    وبذلك طويت صفحات حياته السوداء ، وقد اقتصرنا في التعرض لتاريخ حياته على ما هو الجدير بالذكر منها ، وإلاّ فقد قال أحمد بن زيني دحلان : إنّ الشريف غالباً ( أمير مكة ) غزا الوهابيين ما ينوف عن خمسين غزوة ، من سنة 1205 هـ إلى سنة 1220 هـ وكانت أكثر هذه الحروب أيام سلطة عبد العزيز آل سعود ، ومن اراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « خلاصة الكلام في أُمراء البلد الحرام » وكتاب « كشف الارتياب » للسيد الأمين ، وقد ذكر الأخير نبذاً من هذه الحروب.

 

3 ـ سعود بن عبدالعزيز ( 1218 ـ 1229 هـ )

    استولى سعود على السلطة في الإمارة القبلية السعودية بعد وفاة والده ، وكان أول عمل قام به غزو بلدتي الزبير والبصرة ، وأعمل فيهما القتل والسلب وهدم قبري طلحة والزبير ، وتوسعت رقعة النفوذ السعودي في عهده إلى أوجها ، فقد كثف الغزوات والغارات بقصد الاحتلال والسلب والنهب ، بشكل رهيب لم يكن له سابقاً في تاريخ دويلتهم ، وقد تمخّض عن تلك الأغراض التوسعية ضم جميع نواحي نجد والأحساء وسواحل البحر الأحمر إلى نفوذهم ، واستمر حكمه أحد عشر عاماً (1).

    وإليك بعض حروبه وغاراته على جدة ، والحرمين الشريفين على وجه الاختصار :

 

محاصرة الوهابيين جدة 1219 هـ

    ثم دخلت سنة 1219 هـ فاقبلت جيوش الوهابيين وعلى رأسها ابن شكبان والمضايفي باثني عشر ألف مقاتل لحصار جدة ، فأراد الشريف غالب تحصين مكة لعلمه بعدم قدرتهم على جدة ، فنادى بالنفير العام ، فخرج الناس على طبقاتهم إلى « الزاهر » حاملين السلاح ، وبقوا هناك سبع ليال.

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ص 62 ـ 63 بتصرف.

________________________________________

(374)

    أمّا الذين حاصروا جدة فبقوا ثلاثة أيام يحملون عليها حملة واحدة ، فيفرقهم المدفع ويقتل منهم فينهزمون إلى خيامهم ، حتّى قتل الكثيرون منهم وامتلأت الحفر والقنوات من جيفهم ، وكانوا يدفنون العشرة في محل واحد ، فلما رأوا ذلك ارتحلوا ، وقتلوا في طريقهم حيّاً من الأعراب ، وأخذوا إبلا للشريف غالب ، فجهز الشريف جيشاً بقيادة الشريف حسين للانتقام منهم ، فهجموا عليهم في منطقة تسمى « الليث » فغلبوهم ، وقتل كثير من الوهابيين في تلك الملحمة ، واستهشد الشريف حسين ، فعاود الشريف غالب إرسال الجند والكتائب عليهم حتّى يترصدوا لهم كل موضع ، فهزموهم هزائم ساحقة ، واقتطعوا الكثير من رؤوسهم ، وعلقت على أبواب مكة للعبرة (1).

 

محاصرة مكة والمدينة سنة 1220 هـ ثانياً

    يقول زيني دحلان :

    ودخلوا مكة في أواخر ذي القعدة سنة 1220 هـ وتملكوا المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل السلام ، وانتهبوا الحجرة ( النبوية ) وأخذوا ما فيها من الأموال ، وفعلوا أفعالا شنيعة ، وجعلوا على المدينة أميراً منهم يدعى « مبارك مزيان » واستمر حكمهم سبع سنين ومنعوا دخول الحاج الشامي والمصري مع المحامل مكة ، وصاروا يصنعون للكعبة ثوباً من العباء ، وأكرهوا الناس على الدخول في دينهم ، وهدموا القباب الّتي على قبور الأولياء ، وكانت الدولة العثمانية في تلك السنة في ارتباك كثير وشدّة قتال مع النصارى ، وفي اختلاف في خلع السلاطين وقتلهم (2).

    وقال الكاتب جبران شامية : إنّ سعود بن عبد العزيز حاصر المدينة المنورة وفعل بها ما فعله بالطائف ومكة (3).

    وقال السيد جواد العاملي : في سنة 1221 هـ في الليلة التاسعة من شهر

________________________________________

1 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 25 ـ 26.

2 ـ زيني دحلان : فتنة الوهابية ص 72 ، تاريخ الجبرتي ص 116 ـ 118.

3 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 65 نقلا عن خطط الشام.

________________________________________

(375)

صفر قبل الصبح بساعة ، هجم علينا بالنجف الأشرف ونحن في غفلة ، حتّى بعض أصحابه صعدوا السور وكادوا يأخذون البلد ، فظهرت لأميرالمؤمنين الكرامات الباهرة ، فقتل من جيشه الكثير ، ورجع خائباً ، وله الحمد على كل حال (1).

    وقال أيضاً : جاء سعود بن عبدالعزيز عام 1223 هـ في شهر جمادى الآخرة من نجد بما يقرب من عشرين ألف مقاتل ، أو أزيد ، فجاءتنا النذر بأنّه يريد أن يدهمنا في النجف الأشرف غفلة ، فتحذرنا منه ، وخرجنا جميعاً إلى سور البلد ، فأتانا ليلا فرآنا على حذر قد أحطنا بالسور بالبنادق والأطواب ، فمضى إلى الحلة فرآهم كذلك ، ثم مضى إلى مشهد الحسين على حين غفلة نهاراً ، فحاصرهم حصاراً شديداً فثبتوا له خلف السور ، وقتل منهم وقتلوا منه ، ورجع خائباً ، ثم عاث في العراق فقتل من قتل ، وبقينا مدة تاركين البحث والنظر على خوف ووجل ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم ، وقد استولى على مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وتعطل الحج سنين وما ندري ما يكون (2).

    ويظهر من غير واحد من المؤرخين أنّ الحج انقطع من العراق أربع سنين ، ومن الشام ثلاث سنين ، ومن مصر سنتين ، ولا يعلم هل انقطع بعد ذلك أو لا.

 

غزو الوهابيين لبلاد الشام

    وقد غزا سعود منطقتي عسير وتهامة ، ثم انسحب منهما وغزا كربلاء مرة ثانية عام 1223 هـ ، فاستعصت عليه لأنّ أهلها حصنوها بعد الغزوة الأُولى ، ثم هاجم البصرة والزبير وغنم بعض الأموال (3).

    وفي هذه السنة هجم ولد عبداللّه بن سعود على بلاد حوران فنهب

________________________________________

1 ـ العاملي ـ السيد جواد : مفتاح الكرامة ، ج 5 ص 512.

2 ـ نفس المصدر ج 6 ص 435.

3 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ص 65.

________________________________________

(376)

الأموال ، وأحرق الغلال ، وقتل الأنفس البريئة ، وسبى النساء وقتل الأطفال ، وهدم المنازل وعاث في الأرض فساداً (1).

    ويقول صلاح الدين المختار ، وهو من المعجبين بآل سعود :

    في السادس من ربيع الثاني عام 1225 هـ ( 1809 م ) سار الأمير سعود بثمانية آلاف مقاتل إلى الديار الشامية ، وقد بلغه أن عشائر سوريا من عنزة وبني صخر وغيرهما قد نزلوا في نقرة الشام ، فلما وصلها لم يجد فيها أحداً ، فتوجه بقواته إلى « حوران » وهاجم القرى والدساكر وبصرى ، واستولى على ما عثر عليه من مال ومتاع وطعام ، وكان أهلها قد هربوا إلى مختلف النواحي عند ما سمعوا بقدومه ، ثم هاجم الأمير قصر المزريب فاستعصى عليه ، وارتحل إلى بصرى ليلا ومنها قفل عائداً إلى بلده ومعه غنائم كثيرة.

    وقال السيد جواد العاملي : وفي سنة 1225 هـ قد أحاطت الأعراب من عنيزة القائلين بمقالة الوهابي بالنجف الأشرف ومشهد الحسين ( عليه السَّلام ) وقد قطعوا الطرق ونهبوا زوار الحسين( عليه السَّلام ) بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان ، وقتلوا منهم جمعاً غفيراً ، وأكثر القتلى من العجم ، وربما قيل إنّهم مائة وخمسون ، وقيل اقل ، وبقي جملة من زوّار العرب في الحلّة ما قدروا أن يأتوا إلى النجف ، فبعضهم صام في الحلّة ، وبعضهم مضى إلى الحسكة ، ونحن الآن كأنّا في حصار ، والأعراب إلى الآن ما انصرفوا وهم من الكوفة إلى مشهد الحسين بفرسخين أو أكثر (2).

    وقد بلغ تعصب الوهابيين إلى حدّ حملهم على قطع العلاقات التجارية مع غيرهم ، وكانت التجارة إلى عام 1269 هـ مع الشام والعراق محرمة (3).

    وكانوا إذا وجدوا تاجراً في طريق يحمل متاعاً إلى المشركين صادروا ماله (4).

________________________________________

1 ـ الشهابي : لمع الشهاب ، ص 201.

2 ـ مفتاح الكرامة .

3 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 105.

4 ـ ابن بشر : عنوان المجد في تاريخ نجد ، ج 1 ، ص 122.

________________________________________

(377)

    وفي سنة 1226 هـ أرسل محمد علي باشا ، والي مصر ولده طوسون لتحرير الحجاز من الوهابيين ، فصدوه في الكرّة الأُولى ، وتغلّب عليهم في الثانية ، واستولى على مكة والمدينة ، وحاول أن يفتح نجداً ، فلم يستطع.

    يقول ابن بشر :

     « وصلت النجدات المصرية عام 1227 هـ فزحف طوسون على المدينة ، وانضم إليه كثير من عرب جهينة وحرب ، فحاصرها وقطع عنها المياه ، وكان فيها سبعة آلاف من أهل نجد ، فدخل المصريون البلد ، وقتل من النجديين نحو أربعة آلاف (1).

    ثم تابع طوسون حتّى دخل مكة والطائف بمساعدة الشريف غالب من دون قتال عام 1229 هـ ( 1883 م ) .

    وفي سنة 1228 هـ حج محمد علي باشا وعزل الشريف غالباً وأرسله منفياً إلى سلانيك ، وعيّن مكانه الشريف محمّد بن عون ، فانتقلت الإمارة من فرع إلى آخر من أُسرة الأشراف ، ومحمد بن عون هو جدّ الشريف حسين أبي فيصل ملك العراق وعبد اللّه ملك الأردن.

    يقول العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية :

    إنّ سعود بن عبدالعزيز أقام هيئة باسم الآمرين بالمعروف ومهمتها التجول في الأسواق أوقات الصلاة ، تخضّ الناس على أدائها ، وما زالت هذه الطريقة متبعة إلى اليوم عند السعوديين ، واصبحت تحمل العصا وتجول في الأسواق والشوارع تنهال ضرباً بها على حليق الذقن و من يلمس قبر الرسول ، أو قبر إمام من أئمة البقيع ، وغير ذلك مما يخالف العقيدة الوهابية ، بل كانوا إلى الأمس القريب يضربون المدخنين علناً وإن كانوا غرباء عن الديار (2).

    وقد هلك سعود في الدرعية عام 1229 هـ وهو في الثامنة والستين من

________________________________________

1 ـ ابن بشر ، عثمان : عنوان المجد ، ص 160.

2 ـ مغنية ، محمد جواد : هذه هي الوهابية ، ص 127.

________________________________________

(378)

عمره ، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة أي من سنة 1218 هـ إلى سنة 1229 هـ وبذلك طويت صحيفة عمره السوداء وكانت حياته كلها مليئة بالحرب والدمار.

 

4 ـ عبداللّه بن سعود ( 1229 هـ ـ 1234 )

    وتولى بعد سعود ابنه عبداللّه ، ونازعه عمه عبداللّه بن محمد ، وانقسمت الأُسرة على نفسها ، وفي هذه السنة ارسل الباشا عساكر كثيرة إلى ناحية القنفذة برّاً وبحراً ، فاستولوا عليها وهرب من كان فيها من الوهابيين ، وفي أول سنة 1230 هـ عاد إلى الطائف ، ووقعت بينه وبين الوهابيين حروب كان النصر له فيها عليهم ، واستولى عر تبة وبيشة ورينة ، وقتل الكثير من الوهابيين ، فاستسلم أهلها ، ومنها استولى على تربة ، وقضى فيها على آخر مقاومة وهابية ، ثم عاد إلى مكة ومنها إلى القاهرة (1).

    بقي طوسون في الحجاز بعد حملته إلى نجد.

 

تدمير الدرعية

    وفي أوائل سنة 1234 هـ أرسل محمد علي باشا ولده إبراهيم باشا إلى الحجاز ، لإكمال محاربة الوهابيّين والاستيلاء على « الدرعية » ، فتوجه بعساكر وأموال وذخائر كثيرة حتّى دخل مكة ، ثم خرج منها بالعساكر قاصداً « الدرعية » ، وجعل يملك كل أرض وصلها بلا معارضة ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأسر منهم وغنم خياماً ومدفعين (2).

    وفي سنة 1233 هـ ملك بلداً من بلاد الوهابيين وقبض على أميره ، ثم استولى على الشقراء ، وكان بها عبداللّه بن سعود ، فخرج هارباً إلى « الدرعية » ليلا ، وبينها وبين الشقراء يومان ، ثم استولى إبراهيم باشا على بلد كبير من

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 68.

2 ـ الأمين ، السيد محسن : كشف الإرتياب ، ص 45.

________________________________________

(379)

بلادهم ولم يبق بينه وبين « الدرعية » ، إلاّ ثمان عشرة ساعة ، ثم زحف على « الدرعية » ، فملك جانباً منها ، وحاصر الوهابيين وأحاط بهم (1).

    وقال جبران شامية : استمر الحصار خمسة أشهر ، فكانت تتوإلى على إبراهيم باشا النجدات والذخيرة من مصر ، والأرزاق والمواشي من البصرة والمدينة ، وبقيت قبائل البدو التي انضمن إليه تناصره مادامت عطاياه مستمرة ، وفي نهاية الشهر الخامس من الحصار ، أي في سنة 1234 هـ ، استسلم عبداللّه بن سعود لإبراهيم باشا فأرسله أسيراً للقاهرة ثم للآستانة ، حيث طوفوه في الأسواق ثم أعدموه ، وقتل في « الدرعية » ، عدد كبير من آل سعود وآل الشيخ ، ونفي قسم منهم إلى مصر ، وبذلك انتهت الدولة السعودية الأُولى (2).

    ثم اقام إبراهيم باشا في « الدرعية » سبعة أشهر ، ثم أمر بتدميرها فاصبحت أثراً بعد عين (3). وانتهت ستة أشهر من المعارك الطاحنة ، وفقد السعوديون أثناء تلك المعارك زهاء عشرين من اقرباء الإمام بمن فيهم ثلاثة من إخوانه ، وكتب إبراهيم باشا إلى القاهرة والآستانة بأنّ الوهابيين خسروا 14 ألف من القتلى ، و 6 آلا من الأسرى ، ومن بين الغنائم 60 مدفعاً (4).

    بسبب هزيمة الوهابيين جرت في القاهرة احتفالات بهية ، أطلقت فيها نيران المدافع ، وأجريت الألعاب النارية ، وكان الناس يسرحون ويمرحون ، وأعرب شاه إيران ( فتح علي شاه ) في رسالة إلى محمد علي باشا عن تقديره لدحر الوهابيين (5).

    وقال العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في هذا المجال :

________________________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ جبران شامية : آل سعود ، ماضيهم ومستقبلهم ص 69.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 131 ـ نقلا عن ارشيف السياسة الخارجية لروسيا.

5 ـ الجبرتي ، طبع مصر ، ص 636.

________________________________________

(380)

     « وطغى إبراهيم باشا وبقي في البلاد ، وأكثر فيها الفساد ، وصادر أموال آل سعود وآل محمد بن عبدالوهاب ، وأجلى الكثير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم من الديار ، ونفى الكثير منهم إلى مصر ، وكان هذا جزاء وفاقاً لما فعلوه من قبل بأُمّة محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من المظالم والمآثم ، وما ارتكبوه من الخيانة للّه وكتابه ، وللنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وسنّته : وهكذا كل ظالم لا بد أن يبتلى بأظلم وأغشم (1).

    ( فَاعْتَبِرُوا يا أُولي الأَبصارِ ) (2) .

________________________________________

1 ـ الشيخ محمد جواد مغنية : هذه هي الوهابية ، ص 129.

2 ـ سورة الحشر : الآية 2.

(381)

الفترة الثانية للإمارة القبلية السعودية

    قد هرب كثير من كبار الوهابيين عندما ملك إبراهيم باشا « الدرعية » ، فلما ارتحل عنها رجعوا إليها ، منهم عمر بن عبدالعزيز وتركي ابن أخي عبدالعزيز ، ومشاري بن سعود ، فعمروا « الدرعية » ورجع أكثر أهلها ، فجهّز محمد علي باشا عسكراً بإمرة حسين بك ، فقبضوا على مشاري الّذي كان قد انتخب رئيساً لـ « الدرعية » وأرسلوه إلى مصر فمات في الطريق ، وتحصّن الباقون في قلعة الرياض ، بينها وبين « الدرعية » أربع ساعات ، فحصارهم حسين بك ثلاثاً فطلبوا الأمان فآمنهم فخرجوا ( إلاّ تركيّاً فهرب من القلعة ليلا ) فقيدهم وأرسلهم إلى مصر.

 

5 ـ تركي ابن أخي عبدالعزيز ( 1239 ـ 1250 هـ )

    عاش تركي ابن أخي عبدالعزيز مختفياً طوال عدة سنوات في المناطق الجنوبية ، وكان يتجول في صحراء نجد داعياً العربان إلى إحياء مجد الأسلاف ، وتزوج أثناء تجواله بامرأة من آل تامر ، ولدت له ذكراً أسماه جلوي ، فتجمع حول تركي ثلاثون رجلا ثم انضمت إليه بعض القبائل ، وفي تلك الأثناء بدأت في القسيم انتفاضة ضد المصريين إلى حدٍّ ألجأهم إلى الجلاء إلى الحجاز ، وتركوا حاميتين في الرياض ومنفوخة (1).

________________________________________

1 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 2 ، ص 12.

________________________________________

(382)

    وانتهز تركي فرصة ضعف المواقع المصرية في نجد في عامي 1239 و 1240 هـ فوسّع نفوذه في المنطقة المحيطة بالرياض ومنفوخة ، وعزل الحاميتين المصريتين ، وبعد عدة شهور سقطت الرياض بيد تركي ، وتمّ جلاء المصريين عن نجد ، وأعلنت بعض مناطق القصيم عن اعترافها بحكم تركي ، فتركي إذاً هو الأمير السعودي الوهابي الأول من الفرع الثاني لمحمد بن سعود ، وبه انتقلت الإمارة من سلالة عبدالعزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبداللّه بن محمد بن سعود ، وما زالت فيها إلى اليوم (1).

    ولكنه نشب خلاف في العائلة السعودية ، فتمرد مشاري بن عبدالرَّحْمن بن مشاري بن سعود مع بعض أفخاذ قبيلة قحطان على الأمير ، فكبر على نسل عبد العزيز أن تخرج الإمارة منهم ، فدبّر مشاري أمر اغتيال تركي ، وتم له ذلك ، ونادى مشاري بنفسه أميراً.

 

6 ـ مشاري بن عبدالرحمن ( 1250 هـ )

    قال جبران شامية : انتهت ولاية الإمام الخامس تركي بن عبد اللّه اغتيالا على يد ابن عمّه مشاري بن عبد الرحمان ، الّذي استولى على السلطة وأصبح الإمام السادس ، ودام حكم مشاري أربعين يوماً ، إذ زحف فيصل بن تركي من الهفوف إلى الرياض بمساعدة عبداللّه ، وعبيداللّه ، من آل الرشيد شيوخ حائل ، واستولى على المدينة وأعدم مشاري ، وأصبح فيصل الإمام السابع في العائلة السعودية.

 

7 ـ فيصل بن تركي ( 1250 ـ 1253 هـ )

    تولى فيصل بن تركي الحكم بعد أبيه وهو في حوالي الأرِبعين من العمر ، في أوج نضوج قابلياته الجسمانية والروحانية ، وأصبح يتقبل البيعة من أهالي العاصمة ، ولكن محمد علي باشا لم يمهله طويلا ، فأرسل حملة كبرى إلى نجد ومعها خالد بن سعود ، الّذي كان مع السعوديين المنفيين بمصر ، فدخل جيش

________________________________________

1 ـ ابن بشر : عنوان المجد ، ج 2 ص 26 ـ 30.

________________________________________

(383)

محمد علي باشا واستولى على العاصمة بلا مقاومة ، بعد أن فرّ منها فيصل ، ثم أسر ونفي إلى مصر ، وأقام المصريون فيها خالد بن سعود حاكماً مكان فيصل ، وكان ذلك سنة 1253 هـ.

    وكانت الحجاز لم تزل بيد محمد علي ، وكان من أعوانه خالد أصغر أبناء سعود الكبير ، وأخو الإمام عبد اللّه الّذي استسلم لإبراهيم باشا في الحملة المصرية الأُولى وأُعدم في استنبول.

 

8 ـ خالد بن سعود ( 1253 ـ 1255 هـ )

    نشأ خالد بن سعود في القاهرة في كنف محمد علي ، الّذي أعدّه ليتولى الحكم في الجزيرة العربية نيابة عنه ، وكان لخالد أنصاره الذين لم يرضوا عن انتقال الإمامة عن أولاد سعود الكبير إلى أولاد عبد اللّه بن محمد (1).

    وجد فيصل أنّ أهل الرياض وقبائل كثيرة مالت إلى الأمير خالد ، لأنّه كان يمثّل نزعة دينية بحكم تثقفه في القاهرة ، وذلك ممّا دعا فيصل إلى ترك الرياض ، ودخل الأمير خالد الرياض سنة 1253 هـ.

    فأعاد الحكومة إلى فرع سعود الكبير ، وأصبح الأمير الثامن ، فاستمر خالد في الإمارة سنتين.

 

9 ـ عبد اللّه بن ثنيان ( 1255 ـ 1258 هـ )

    ثم ثار عليه عبد اللّه بن ثنيان مع النجديين ، فأرادوا الفتك به فهرب إلى مكة ، ثم مات (2).

    ولمّا بلغ ذلك فيصلا وهو محبوس بمصر ، استطاع أن يهرب ليلا من القلعة ومن معه ، حتّى وصلوا جبل شمر مقر عمارة ابن الرشيد ، فأكرمهم وتوجهوا إلى القصيم فانضاف إليهم كثير منهم.

    إلى أن استطاع بعون أهالي عنيزة أن يقاتل ابن ثنيان في الرياض ،

________________________________________

1 ـ أبو علية ، عبد الفتاح : الدولة السعودية الثانية ، ص 41.

2 ـ الأمين ، السيد محسن : كشف الارتياب ص 47 ـ نقلا عن خلاصة الكلام لزيني دحلان.

________________________________________

(384)

فقبضوه وحصروا عليه ، ثم قتل في الحبس خنقاً في سنة 1258 هـ.

 

10 ـ فيصل بن تركي ( 1258 ـ 1278 هـ )

    صار بعد ذلك فيصل سيداً في دياره لمدة تقرب من عشرين عاماً ، وفي سنة 1262 هـ صدر الأمر من الدولة العثمانية بتجهيز العساكر لمحاربة فيصل بن تركي أمير الرياض ، لأنّه استفحل أمره ويخشى أن يقع منه ما وقع من أسلافه ، وأن يكون ذلك برأي الشريف محمد بن عون أمير مكة المكرمة ، فتوجه الشريف مع العساكر من المدينة حتّى وصل جبل شمر ، فسار معه أميره ابن الرشيد بكثير من القبائل ، ولما وصلوا القصيم أطاعهم أهله ، فخاف فيصل فأرسل لأهل القصيم أن يتوسط في الصلح على تأدية عشرة آلاف ريال في كل سنة ، فتم الصلح ، ورجع الشريف بالعساكر ، واستمرّ فيصل يدفع ذلك حتّى مات سنة ( 1282 هـ ) (1).

    ولكنه بعد ما أُصيب بالشلل وقد البصر ، سلّم الأُمور لابنه عبداللّه ، وبعدما مات نشبت حرب أهلية بين أولاده الأربعة ، وهم عبداللّه وسعود ومحمد وعبدالرَّحمن ، وعمّت الفوضى البلاد.

 

11 ـ عبداللّه بن فيصل التركي ( 1278 هـ ـ 1284 هـ )

    كان فيصل قد بايع ولده الأكبر عبداللّه بولاية العهد مطابقاً للتقاليد المتّبعة في البيت السعودي ، ولكن نشبت الحروب الأهلية بين أولاده الأربعة وهم : عبداللّه وسعود ومحمد وعبدالرحمن ، وعمّت الفوضى في البلاد ، وقد نازع سعود أخاه عبداللّه وثار عليه ، واستمرت الحروب الأهلية بين الطرفين ، ونشبت الفتن والقلاقل واستمرت 25 عاماً ، ممّا أدى إلى ضعف الإمارة وذهاب سلطانها ، وانتفاضة حكام المقاطعات عليها ، واستقلال كلّ بدويلته واحتل الأتراك الأحساء والقطيف (2) واستمرّ الصراع داخل أُسرة آل سعود ، وظهر عبداللّه في الأراضي المحتلة من قبل الأتراك ، وطرد سعود من الرياض موقتاً ،

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ، ماضيهم ومستقبلهم ، ص 78.

2 ـ وهبة ـ حافظ : خمسون عاماً في جزيرة العرب ، ص 24.

________________________________________

(385)

ففي سنة 1283 هـ عاد عبداللّه من جديد إلى الرياض إلاّ أنّ الوضع في الإمارة كان ميؤوساً منه فالمجاعة مستمرة ، وكان الناس يأكلون جيف الحمير ويحرقون جلود الماعز ويدقونها ، بل كانوا يدقون العظام ويأكلون مسحوقها ، ومع هذا فمن لم يمت بالسيف مات جوعاً (1).

 

12 ـ سعود بن فيصل تركي ( 1284 هـ ـ 1291 هـ )

    وفي العام القادم 1284 هـ عاد سعود مجدداً إلى الرياض ، واستمرت المعارك سجالا بين الأخوين واقترنت كالعادة بالنهب والقتل ، ولكن عبداللّه بن فيصل كان يعتمد على الأتراك ، بينما يعتمد سعود على الإنجليز ، حتّى أنّهم أرسلوا أغذية له ، وبعد طائفة من الأحداث استتب الأمر إلى سعود ، ودخل الرياض في محرم 1290 هـ و توفي بعده بعام 1291 هـ وأمّا عبدالله فقد تنازل عن الحكم وترك الرياض هو وأخوه محمد ، ورحل إلى مقربة من الكويت واستقرّ في بادية قحطان ، ثم تركها بعد أن رفضوا الخوض في معركة جديدة يكونون حطبها بلا فائدة ، ولما توفي سعود أخذ الحكم مكانه أخوه عبد الرَّحمن الّذي كان يميل إلى سعود بعكس محمد ، فحكم لمدة عامين ، ثم تلاها حرب بينه وبين أخيه محمد الّذي كان يكبره سناً ، فوقعت معركة بينهما في ثرمدا في غرب الرياض ، وعاد الأمر من جديد للتوتر ، حتّى وافق الاثنان على أن يتولى الحكم أخوهم الكبير عبداللّه ، فعاد هذا الأخير من البادية واستلم الحكم عام 1293 هـ حتّى عام 1305 هـ ولم يقبل أبناء سعود أن يتولى عمّهم الكبير عبداللّه ، فغادروا الرياض احتجاجاً على ذلك ، واستقروا في « الخرج ». وعندئذ توجه عبد الرحمن خوفاً من أبناء أخيه إلى عبداللّه ، فقرر الإخوة الثلاثة ( عبداللّه ـ محمد ـ عبدالرحمن ) تشكيل جبهة واحدة بزعامة عبداللّه ضد أولاد سعود الذين تمكنوا من السيطرة على الرياض بضعة أسابيع ، ثم فرّ أولاده ودخل عبداللّه الرياض من جديد ، وبقي فيها إلى أن مات عام 1305 هـ.

________________________________________

1 ـ الريحاني ـ أمين : تاريخ نجد الحديث ، ص 99.

________________________________________

(386)

13 ـ عبدالرحمن بن فيصل

    ولما توفي عبداللّه أخذ أخوه عبدالرحمن الأمر بيده ، وأعلن نفسه أميراً خلفاً لأخيه عبداللّه ، ولم يطل الوقت حتّى اختلف عبدالرحمن مع أولاد سعود ، ومن جانب آخر جنحت قبائل نجد لمحمد بن الرشيد مع أنّه لم يكن وهابياً بل كان حليفاً للخليفة العثماني ، الّذي يتبع المذهب الحنفي ويستمد منه المال والسلاح (1).

    ولما رأى عبدالرحمن قوة ابن الرشيد شعر أنّه بين أمرين : إمّا أن يحارب ابن الرشيد وإمّا أن يخضع له كموظف عنده ، ولا طاقة له على الأُولى ولا تطيقه نفسه على الثانية ، فلم يبق أمامه إلاّ الرحيل ، فرحل عن نجد بأهله سنة 1309 هـ وظل منتقلا في الأمصار ، فذهب أولا إلى الأحساء ، ثمّ إلى الكويت ، ثمّ إلى قبائل بني مرة قرب الربع الخالي ، ثم إلى قطر ومنها عاد إلى الكويت ، واستقرّ فيها مع عائلته وأولاده; وكان عمر ولده عبدالعزيز عشر سنوات ، وعين له أمير الكويت الشيخ محمد بن الصباح مرتباً إلى أن خصصت له الدولة العثمانية ستين ليرة عثمانية في الشهر (2).

    فقطع ابن الصباح عنه المرتب ، وعاش هو وأفراد عائلته في شدة وضيق (3) وبذلك انتهت الدولة السعودية الثانية.

    يقول بعض المؤرخين : « إنّ الوهابية فقدت صيتها وبريقها لما توسّعت فوق طاقتها فانهزمت ، وهكذا خسروا الأرض والحركة الوهابية ».

    لم يكرم الشيخ مبارك الصباح ضيافة آل سعود في الكويت ، فسكنوا ثلاث غرف من طين في أحد أزقة الكويت ، ومع ذلك كان آل سعود خلال إقامتهم في الكويت مدة سبعة أو ثمانية أعوام متعاونين مع الشيخ مبارك حسبما تمليه مصالحهم ، لقد كانت مجالس الشيخ مبارك بالنسبة إلى الشاب عبدالعزيز

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 81 ـ 82.

2 ـ الريحاني : تاريخ نجد الحديث ، ص 91.

3 ـ مغنية ـ محمد جواد : هذه هي الوهابية ، ص 132 ـ 133.

________________________________________

(387)

مدرسة تلقى مما يدور فيها من الأحداث ، ولعلّ أهم درس وعاه هو الحذر عند التعامل مع القوى الدولية ، والنظر بعين الاعتبار لمركز بريطانيا المتفوق (1).

________________________________________

1 ـ السعدون ـ خالد : العلاقات بين نجد والكويت ، ص 67.

________________________________________

(388)

الفترة الثالثة للإمارة القبلية السعودية

    ذات يوم جاء الفتى عبدالعزيز إلى الشيخ مبارك وقال له : أريد أن أنقذ نجداً من ابن الرشيد فهل تساعدني بالمال والعتاد؟ فأعطاه الشيخ مائتي ريال وثلاثين بندقية وأربعين جملا وبعض الزاد ، فأخذها ومضى هو وأرحامه وأصحابه ، ورافق عبدالعزيز أخوه محمد وابن عمه عبداللّه بن جلوي وبعض أتباعهم وعددهم نحو أربعين رجلا (1).

    سارت الجماعة متخفّية حتّى وصلت ضواحي الرياض وغافلت حراسها ، وذلك في 3 شوّال سنة 1319 هـ ، ودخلت المدينة خلسة ، وقتلت قائد الحامية الشمري عبدالرَّحْمن بن ضبعان ، فاستسلم رجاله وخضعت الواحة لآل سعود ، فأرسل عبدالعزيز ناصر بن سعود إلى الشيخ مبارك مبشراً وطالباً المدد ، ثم بنى سوراً حول الرياض ، ثم دامت مساعدات شيخ الكويت واستتبّ له الأمر.

 

14 ـ عبدالعزيز بن عبدالرحمن ( 1319 ـ 1373 هـ )

    وبعد هذا صار عبدالعزيز حاكماً للرياض وهو في الثانية والعشرين ، وظل أبوه مستشاراً رئيسياً له وإماماً للمسلمين (2).

________________________________________

1 ـ السعدون خالد : العلاقات بين نجد والكويت ، ص 68.

2 ـ المصدر السابق.

________________________________________

(389)

    اتصلت الدولة العثمانية بعبد العزيز بن سعود بواسطة الشيخ مبارك ودعته لإرسال والده عبدالرّحْمن لمفاوضة والي البصرة ، ولبّى عبدالرّحمن الدعوة ووصل إلى الكويت ومنها إلى الزبير برفقة الشيخ مبارك ، حيث عقدت الجلسة الأُولى من المباحثات عام 1322 هـ وتوصل الفريقان إلى اتفاق تضمن إقرار العثمانيين بسيطرة عبدالعزيز على مناطقه بوصف أنّه موظف عثماني برتبة قائم مقام ، وتعهّد العثمانيون بمنع آل الرشيد عن التدخل في شؤون إمارة آل سعود (1).

 

عبدالعزيز يتحالف مع الإنكليز

    انتهز عبدالعزيز الفرصة فاجتمع لأول مرة في سنة 1328 هـ برسمي بريطاني هو المعتمد في الكويت ، أعني « ويليم شكسبير » ونشأت بينهما مودة وتقدير متبادل ، واجتمعا ثانية سنة 1330 هـ ، وكذلك في ربيع الأول 1331 هـ وشرح عبدالعزيز لمندوب بريطانيا بأنّ الوقت مناسب لتخليص نجد والأحساء نهائياً من السيطرة العثمانية.

    تمكّن شكسبير من إجراء مباحثات سياسية مع عبدالعزيز ، فوضع مسودة معاهدة التزم الإنكليز بموجبها بضمان مواقع أمير الرياض في نجد والأحساء ، وحمايته من الهجمات العثمانية المحتملة من جهة البحر والبر إذا التزم بمساعدة الحلفاء ، وتخلى الإنكليز عن سياستهم القديمة ، والتزموا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لشبه الجزيرة العربية ، والتزم عبدالعزيز بعدم إقامة علاقات مع البلدان الأُخرى بدون مشاورة تمهيدية مع السلطات البريطانية ، وتبين الدراسة التي أجراها « تلولير » لوثائق الأرشيفات الإنكليزية ، أن عبدالعزيز كان يدرك بدقة مضامين السياسة البريطانية في الجزيرة العربية (2).

    وجاء في المعاهدة أنّ ابن سعود يتعهّد أن يمتنع عن كل مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أية حكومة أو دولة أجنبية ، وأنّ أمير نجد لا يمكن أن يتنازل عن

________________________________________

1 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 215.

2 ـ الأمين ، السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 48.

________________________________________

(390)

الأراضي أو جزء منها ، ولا أن يؤجرها أو يرهنها أو يتصرف بها بأىّ شكل ، ولا أن يقدمها على سبيل الامتياز إلى أيّة دولة أجنبية ، أو إلى أحد من رعايا دولة أجنبية بدون موافقة الحكومة البريطانية.

    وجاء في المادة السادسة أنّ ابن سعود يتعهّد كما تعهّد والده من قبل بأن يمتنع عن كل تجاوز وتدخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ ( قطر ) وعمّان وسواحلها ، وكل المشايخ الموجودين تحت حماية الإنكليز ، والذين لهم معاهدات معها ، ولم يرد في المعاهدة شيء عن الحدود الغربية لنجد ، وهكذا فرضت هذه المعاهدة ، الحماية البريطانية على نجد وتوابعها ، وصارت هذه المعاهدة جزءاً من شبكة النفوذ البريطاني الّتي أرادت لندن فرضه على القسم الأكبر من الشرق الأوسط ، وعلى أيّة حال على الجزيرة العربية كلّها بعد الحرب العالمية الأولى.

    ثم استلمت نجد من عام 1344 هـ ، مقابل توقيع المعاهدة مؤونة شهرية بمبلغ 5 آلاف جنيه استرليني مع إرساليات معينة من الرشاشات والبنادق (1).

    وكما كان ابن الرشيد حليفاً مخلصاً للأتراك ، فقد كان عبدالعزيز حليفاً دائماً وصديقاً وفيّاً للإنكليز ، فكان يذكرها ويشكرها في خطبه وغيرها ، وهذا مثال من أقواله « بحق الانكليز » جاء في خطبة ألقاها بمكة المكرمة عام 1362 هـ.

     « ولا يفوتني في هذا الموقف أن أتمثّل بأنّ من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه ، فأثني على الجهود الّتي قدّمتها الحكومة البريطانية بتقديم بواخر الحجاج وتسهيل سفرهم ، كما أثني على مساعدتها ومساعدة الحلفاء القيمة ، ومتابعتهم تموين البلاد بما يحتاجه الأهالي من أسباب المعيشة وغيرها ، وكذلك لابدّ من الإشارة إلى أنّ سيرة البريطانيين معنا طيبة من أول الزمن إلى آخره ».

    يقول العلامة الشيخ محمد جواد مغنية بعد نقل هذا الكلام :

________________________________________

1 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 251 ـ 252.

(391)

     « ويعلم الصغير والكبير أنّ الإنكليز والحلفاء وأية دولة استعمارية يستحيل أن تفعل شيئاً بقصد الخير والإنسانية ، وإذا فعلت مع بلد أو بلدان ما يبدو كذلك فإنّما تتخذ منه وسيلة إلى التسرب إلى أسواقه والسيطرة على مقدراته. إنّ الاستعمار يوافق ويتصنع ليمتص دماء الشعوب.

    وغريب أن تخفى هذه الحقيقة على الملك عبدالعزيز ، وأن يقول ـ وهو الوهابي الّذي يصلّي في أول الوقت حتّى في بيت عدوه عجلان ـ من لم يشكر الناس ( أي الإنكليز ) لم يشكر اللّه ، وهذا مع العلم بأنّ الوهابية تقول بفساد الصلاة عند قبر نبي أو ولي ، لأنّها تكون مشوبة بعبادة صاحب القبر ، إذاً كيف ربط الملك عبد العزيز شكر اللّه بشكر الإنكليز بحيث لا يقبل الأول بدون الثاني ، وبعد أن ضعف الإنكليز حلّ محلهم الأمريكيون (1).

 

التوسع السعودي بعد التعاون مع بريطانيا

    ترافقت هذه الفترة مع تطورات دولية عملت لمصلحة آل سعود ، فقد انتهت الحرب العالمية الأُولى واستسلمت تركيا عام 1337 هـ ، وتبعتها ألمانيا ، فانقطع دور تركيا في الجزيرة العربية ، وانفردت بريطانيا بالتحكم بشؤون المنطقة.

    ومن ناحية أُخرى نجد بريطانيا قد خانت وعودها للهاشميين بإنشاء الدولة العربية الكبرى في الشمال ، وصارت تسعى للتخلص منهم ومن وعودها لهم ، فتوجه عبدالعزيز ضدهم في هذه الفترة الّتي شهدت احتلال آل سعود للحائل ، ثم للحجاز وعسير ، واختلطت السياسة بالدين (2).

 

 

هجوم الوهابيين على الحجاز

    في سنة 1340 هـ غزا الوهابيون عرب الفرع من قبيلة حرب في عقر دارهم في الحجاز ، ونهبوا المواشي ، فجاء النذير إلى أهل الفرع فلحقوهم

________________________________________

1 ـ مغنية ـ محمد جواد : هذه هي الوهابية ، ص 135 ـ 136.

2 ـ جبران شامية ـ آل سعود ، ماضيهم ومستقبلهم ، ص 114 ـ 115.

________________________________________

(392)

واستخلصوا منهم ما نهبوه ، وقتلوا منهم ، وغنموا جميع ما معهم وولوا منهزمين ، ومن جملة ما غنموه أعلام وبيارق ، فدفعوها إلى الملك حسين وانقطع مجيء أعراب نجد إلى الفرع لاكتيال التمر ، فحصل بذلك ضيق على أهل الفرع بسبب كساد تمورهم الّتي كان يشتريها النجديون » (1).

 

قتل الوهابيون الحجاج اليمانين سنة 1341 هـ

    في هذه السنة التقى الوهابيون بالحجاج اليمانين وهم عزل من السلاح وجميع آلات الدفاع ، فسايروهم في الطريق وأعطوهم الأمان ، ثم غدروا بهم لمّا وصلوا إلى سفح جبل ، مشى الوهابيون في سفح الجبل واليمانيون تحتهم ، فعطفوا على اليمانيين وأطلقوا عليهم الرصاص حتّى قتلوهم عن بكرة أبيهم ، وكانوا ألف إنسان ، ولم يسلم منهم غير رجلين هربا وأخبرا بالحال (2).

 

هجوم الوهابيين على الحجاز عام 1343 هـ

    وقد هجم الوهابيون في هذه السنة على الحجاز وحاصروا الطائف ، ثم دخلوها عنوة وأعملوا في أهلها السيف ، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتّى قتلوا منهم ما يقرب من الفين ، بينهم العلماء والصلحاء ، وأعملوا فيها النهب ، وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعر منها الجلود ، نظير ما عملوه في المرة الأولى ، حتّى أنّ السلطان عبد العزيز بن سعود لما سئل عنها لم ينكر وقوعها ، لكنه اعتذر بما وقع من خالد بن الوليد يوم فتح مكة ، وقول النبىّ : اللّهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد (3).

    أصبح الحجاز بعد معركة الطائف مفتوحاً أمام عبدالعزيز ، لكنه تباطأ بالزحف على مكة حتّى يستكشف نوايا الإنكليز الذين كانوا أنذروه وطلبوا منه التوقف عن القتال ، لكن سياسة بريطانيا كانت قد تغيرت خلال هذه المدة ،

________________________________________

1 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 50.

2 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 54.

3 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 52.

________________________________________

(393)

وأصبحوا يريدون التخلص من الملك حسين وأولاده في الحجاز ، حتّى يكفوا عن مطالبتهم بتنفيد تعهداتهم لعرب الشمال ، وكانت وسيلتهم المفضلة أن يضربوا العرب بالعرب ، وكان عبدالعزيز أداتهم في تلك السياسة (1).

 

هجوم الوهابيين على شرقي الأردن

    وفي سنة 1343 هـ هجمت جماعة من الوهابيين فجأة على أعراب شرقي الأردن الآمنين ، فهجموا على أُم العمد وجوارها ، فقتلوا ونهبوا ، ومالبثوا أن ارتدّوا مدحورين مأسورين ، وإنّ الدبابات والطائرات الإنكليزية اشتركت في قتالهم مع عرب شرقي الأردن ، وانجلت المعركة عن قتل ثلاثمائة من الوهابيين بأمر من الإنكليز.

 

استيلاء الوهابيين على مكة المكرمة سنة 1343 هـ

    كان الملك حسين يظن أنّ الإنكليز سيتدخلون لإنقاذه على نحو ما فعلوا في شرقي الأردن في الشهر الماضي ، فأرسل برقية إلى المستر بولارد القنصل البريطاني في جدة ذكر فيها أنّ الحالة حرجة ، وأنّ علاقته بالحكومة البريطانية تجعله يطلب منها الاهتمام بصد ابن سعود ، وتجنّب ما وقع في الطائف ، وهو يأمل منها النظر في طلبه باسرع ما يمكن ، فأبرق القنصل إلى حكومته في لندن فوافاه الجواب أن الحكومة البريطانية متمسكة بسياستها في عدم التدخل في الأُمور الدينية ـ وهي لذلك ـ لا تريد أن تتدخل في أي نزاع بشأن امتلاك الأماكن المقدسة في الإسلام (2).

    وفي الوقت نفسه كتب الدكتور « ناجي الأصيل » مندوب الحسين في لندن رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول فيها : « إنّ صاحب الجلالة الهاشمية يناشد الحكومة البريطانية ـ طبقاً لروح المعاهدة الّتي هي تحت المفاوضة ـ أن تتدخل لوضع حدّ للاعتداء الوحشي الّذي يقوم به الوهابيون ضد الأماكن المقدسة ، وإخراجهم من الطائف.

________________________________________

1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 134.

2 ـ دائرة الوثائق العامة في لندن ( أف ، أو رقم 371 ـ 10014 ) .

________________________________________

(394)

    فوافاه الجواب : إنّ الحكومة البريطانية لا تريد أن تتورط في النزاع القائم بين أُمراء عرب مستقلين ، حول امتلاك الأماكن المقدسة في الإسلام ».

    ثم رد ناجي الأصيل على جواب وزراة الخارجية في 2 تشرين الأول وقال : إنّ ما قام به شعب الحجاز من مخاطرة كبرى في تأييد بريطانيا في الحرب العامة يستدعي من بريطانيا مساعدتها له في إنقاذ مكة من ويلات الحرب ، وإنّ العالم الإسلامي لا يرضى أن تقع الأماكن المقدسة ولو لفترة قصيرة جدّاً في أيدي طائفة كالوهابية (1).

 

تنازل الحسين عن العرش لصالح ولده علي

    ارتأت الحكومة البريطانية حفاظاً على مصالحها في المنطقة خلع الأُسرة الهاشمية عن الحرمين الشريفين ، حتّى تحلّ محلّها السلطة الوهابية ، ولأجل ذلك استعملت بريطانيا جميع وسائل الضغط لتجبر الملك حسين على التنازل عن العرش ، وعلى رأسها قطع المساعدات المالية عنه ، حتّى عجز عن دفع رواتب الضباط والجنود (2).

    أصبح وضع الحسين ميؤوساً منه ، فاجتمع أعيان الحجاز ومنهم أشراف مكّة وعلماء الدين وكبار التجار في جدة ، وقرروا خلع الحسين لترضية ابن سعود ، وبعد أخذ ورد ، وافق الحسين على التنازل عن العرش لولده الّذي نصب ملكاً على الحجاز في 6 تشرين الأول ( عام 1924 م ) الموافق 1343 هـ ، وبعد ثلاثة أيام أرسل الحسين مع أمتعته إلى جدة لكن الحكومة البريطانية تضايقت من وجوده هناك ، فأرسلت إليه إنذاراً بمغادرة المدينة تلبية لطلب عبد العزيز ، وابلغته بأنّ عليه أن يسافر إلى قبرص ، حتّى مات هناك عام 1931 م 1350 هـ ونقلت جنازته إلى الأردن فدفن في المسجد الأقصى ، وانتهت بذلك حقبة محزنة من تاريخ العرب (3).

________________________________________

1 ـ نفس المصدر .

2 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 135.

3 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 135.

________________________________________

(395)

    دخل الوهابيون مكة بغير قتال بعدما خرج الملك حسين وولده منها إلى جدة ، فنهبوا داره واستولوا على جميع ما يؤول إليه ، ثم قامت الحرب بينهم وبين الملك علي المتحصن في جدة ، وانقطع الحج في تلك السنة ، وعين خالد بن لؤي حاكماً على مكة ثم انطلق الوهابيون وفرضوا على السكان حضور صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم ، كما منعوا التدخين وقراءة المولد النبوي وزيارة القبور ، ومن يشاهدونه يفعل ذلك يشتمونه ويضربونه ، وربما ساقوه إلى الحبس أو فرضوا عليه الغرامة (1).

    دخل عبد العزيز مكة المكرمة ، واستعرض الجيش ، واجتمع مع العلماء وفرض عليهم اعتناق الأُصول الّتي جاء بها محمد بن عبدالوهاب ، وكان يقول وهو يحارب الملك عليّاً : إنّه ما جاء إلى الحجاز إلاّ لينقذه من ظلم الأشراف ، ولا يريد تملكه وإنّما يجعل مصيره إلى رأي عموم المسلمين.

    وهذا هو الأسلوب الماكر لجميع الدهاة إذا تغلبوا على قطر من الأقطار ، حتّى أنّ دولة إسرائيل الغامشة بعدما استولت على أراض جديدة عام 1967 م كانت تقول بأنّها لا تريد الاستيلاء عليها.

 

اكتساح قبور البقيع

    لما استتبّ الأمر لعبد العزيز وملك الحجاز قاطبة ، عمد إلى تخريب المعالم الإسلامية في مكّة وجدّة والمدينة ، فخربوا في مكة قباب عبدالمطلب جدّ النبىّ ، وأبي طالب عمّه ، وخديجة أُم المؤمنين ، وخربوا مولد النبي ومولد فاطمة الزهراء( عليها السَّلام ) ، ولما دخلوا جدّة هدموا قبّة حواء ، وخربوا قبرها بل خربوا في هذه البلاد كل القباب والمزارات والأمكنة الّتي يتبرك بها ، ولما حاصروا المدينة هدموا مسجد حمزة ومزاره ، لوقوعهما خارج المدينة المنورة (2).

    يقول الدكتور علي الوردي أُستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد :

________________________________________

1 ـ الريحاني.

2 ـ الأمين ، السيد محسن : كشف الارتياب ص 55.

________________________________________

(396)

    كان البقيع مقبرة المدينة في عهد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وما بعده ، دفن فيه العباس والخليفة عثمان ، وزوجات النبي والكثير من الصحابة والتابعين ، كما دفن فيه أربعة من أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) هم الحسن بن علىّ ، وعلىّ بن الحسين ، ومحمّد بن علىّ وجعفر بن محمّد ، وقد صنع الشيعة لقبور هؤلاء الأربعة ضريحاً باهراً يشبه الأضرحة المعروفة في العراق وإيران ، لكن على نطاق أصغر ، واعتاد الشيعة أن يزوروا هذا الضريح فيقبلونه ويتبركون به ويصلّون عنده ، على نحو ما يفعلون في أضرحة العراق وإيران (1).

    ظلّت هذه القبور سليمة أكثر من أربعة أشهر دون أن يمسّها أحد بسوء ، ولكن اتّهم ابن سعود في تنفيذ مبدأ الوهابية لإبقائه عليها ، فاضطر ابن سعود في شهر رمضان سنة 1344 هـ إلى إرسال كبير علماء نجد عبداللّه بن بليهد من مكة إلى المدينة للعمل على هدم القبور ، وعندما وصل ابن بليهده إلى المدينة اجتمع بعلمائها ووجه إليهم الاستفتاء التالي :

     « ما قول علماء المدينة ـ زادهم اللّه فهماً وعلماً ـ في البناء على القبور واتّخاذها مساجد ، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً ، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع ، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليها ، فهل هو غصب يجب دفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع اللّه ، والتقرب بالذبح والنذر لها ، وإيقاد السرج عليها ، هل هو جائز أم لا؟.

    وما يفعل عند حجرة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من التوجه إليها عند الدعاء وغيره ، والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها ، وكذلك ما يفعل في المسجد من الترحيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة ، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين وبيّنوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين » (2).

    ترى أنّ الأسئلة طرحت بشكل أدرج فيها الجواب ، وألزم المفتين على

________________________________________

1 ـ الوردي ـ علي : لمحات اجتماعية ، ملحق الجزء السادس ص 305.

2 ـ الوردي ـ الدكتور علي : لمحات اجتماعية ، ص 305 ـ 306.

________________________________________

(397)

الإجابة بما يرتأيه السائل ، ولأجل ذلك جاء الجواب بالشكل التالي :

     « أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه ، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين في ذلك بحديث علىّ قال لأبي الهياج :

    ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته؟ » ( رواه مسلم ) .

    وأمّا اتّخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع ، لحديث ابن عباس : « لعن اللّه زائرات القبور المتخذين عليها المساجد والسرج » ، رواه أهل السنن ، وأمّا ما يفعه الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور ، ودعاء أهلها مع اللّه فهو حرام ممنوع شرعاً لا يجوز فعله أصلا.

    وأمّا التوجه إلى حجرة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عند الدعاء فالأولى منعه ، كما هو معروف عن معتبرات كتب المذهب ، ولأنّ أفضل الجهات جهة القبلة ، وأمّا الطواف والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقاً ، وأمّا ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة فهو محدث ، هذا ما وصل إليه علمنا (1).

    وعلى أثر صدور هذه الفتوى هدمت القبور ، فأحدثت هذه الجريمة ضجّة مدوّية في أقطار العالم الإسلامي ، خصوصاً الشيعية منها ، فقرّر علماء الشيعة على أثر تلقّيهم هذا الخبر إعلان الحزن العام وإظهار الحداد وترك التدريس ، وعقد في صحن الكاظمية إجتماع حضرته جماهير كثيرة ، وتليت فيه البرقيات والرسائل الواردة في هذا الشأن ، كما نظمت البرقيات الّتي قرّر إرسالها إلى ملوك وعلماء العالم الإسلامي في أقطارهم المختلفة ، وجرى مثل ذلك في كربلاء والنجف (2).

________________________________________

1 ـ الوردي ـ الدكتور علي : لمحات ، ص 396 ـ نقلا عن كشف الإرتياب ، ص 349 ـ 360 ولقد عرفت في الفصول السابقة أنها فتاوى فارغة عن البرهانية ، فلاحظ.

2 ـ نفس المصدر السابق ، ص 308.

________________________________________

(398)

    وفي ذلك يقول الدكتور الوردي : وأخذت الجرائد العراقية تنشر المقالات في التنديد بابن سعود وشجب أعماله ، فقد كتبت جريدة « العراق » في مقالة افتتاحية لها تقول : « قضي الأمر وأصدر ابن بليهد الفتوى المعلومة ، فقام بأكبر خدمة لسيده ابن سعود ، ولم يعلم بأنّ مسعاه كان سهماً أصاب كبد العالم الإسلامي فآلمه أيما ألم » كما نشرت مقالة أخرى بقلم إسماعيل آل ياسين من الكاظمية عنوانها « الطامة الكبرى والأماكن المقدسة في الحجاز » وورد فيها ما نصّه :

     « أيّها المسلمون ، ما هذا السبات وما هذا الجمود الّذي أدّى بكم إلى السكون وإلى عدم الاكتراث بهذه القضايا المؤلمة ، والأدوار المخزية الّتي يمثلها ذلك الطاغية في البلاد المقدسة؟ » (1).

    يقول الوردي : نشرت جريدة « العراق » حديثاً جرى بين أحد محرريها والسيد محمود الكيلاني نقيب أشراف بغداد ، أعلن فيه السيد محمود انتقاده لما قام به الوهابيون من هدم قبور البقيع وذكر أن بناء القبب على القبور ليس مخالفاً للسنة النبوية ، لأنّ النبي نفسه دفن في حجرة عائشة وهي حجرة ذات جدران وسقف كقبة ، وذكر أيضاً أنّ تقبيل الأضرحة هو من باب تقبيل المحبوب ، وهو أمر غير ممنوع في الإسلام.

    ونشرت صحيفة « العراق » بعندئذ ثلاثة أبيات من الشعر ، طالبة من الشعراء تشطيرها وتخميسها وهي :

لعمري إنّ فاجعة البقيعوسوف تكون فاتحة الرزاياأما من مسلم للّه يرعى                     يشيب لهولها فود الرضيعإذا لم نَصْحُ من هذا الهجوعحقوق نبيّه الهادي الشفيع (2)

________________________________________

1 ـ المصدر السابق. نقلا عن عددها الصادر في 29 أيار ، 1926 م.

2 ـ الوردي ـ علي : لمحات ، ص 309 ولم يذكر الوردي قائل الشعر وناظمه ، وهو للعلامة الفقيد الراحل آية اللّه السيد صدر الدين الصدر العاملي ، المتوفى عام 1373 هـ وهو والد الإمام السيد موسى الصدر المختطف.

________________________________________

(399)

    حلّ شهر محرّم عام 1344 هـ فكانت خطب مجالس التعزية ونوحيّات المواكب الحسينية تدور في معظمها حول فاجعة البقيع ، وتطالب الانتقام من ابن سعود ، إنّ يوم 8 شوال أصبح يوم حداد في السنوات التالية في النجف وكربلاء ، حيث تغلق فيه الأسواق وتخرج مواكب اللطم (1).

 

 

الصراع الداخلي بين عبدالعزيز وأتباعه

    بعدما استتبّ الأمر لعبد العزيز بتأييد من بريطانيا ، وطرد الملك حسين وولده الأمير علي من الحجاز ، فصار سلطان نجد سلطان الحجاز اليوم ، كما صار الأمير ملكاً للقطرين ، ولكن أتباعه الذين يعبر عنهم في تاريخ المملكة بالإخوان أورثوا له مشكلة خاصة ، وهي الإصرار على تطبيق مباديء الوهابية ، فرموه بموالاة الكفار الإنكليز والتساهل في الدين ، وأنكروا عليه ألقاب السلطان والملك ، وتطويل شاربه وثوبه ، ولبس العقال ، وإرساله ولده سعود لزيارة مصر للعلاج ، لأنّه بلد الكفار ، وإرسال ابنه فيصل لزيارة البلاد الأوربية لأنّها أكثر كفراً ، ورأوا أنّ استخدام السيارات وأجهزة اللاسلكي والهاتف بدع لأنّها من صنع الفرنج ، وأنّه يجب محاربة الدول المجاورة كالعراق والأردن واحتلالها ونشر الوهابية بين سكانها ، وقد أحرقوا أول شاحنة ظهرت في مدينة ( الحول ) وكاد سائقها يلقى المصير ذاته ، إلى غير ذلك مما عليه بني المذهب الوهابي (2).

    قال أمين الريحاني : إنّ الإخوان فيما ظهر من بسالتهم اورثوا عبدالعزيز مشكلا آخر ، فقد طغى الإخوان وتجبّروا ، فضج الناس ، وراح الإخوان يحاربون من لم يتبعهم من البدو ، ويكفّرون وينهبون ويقتلون ويقولون أنت يا بدوي مشرك ، والمشرك حلال الدم والمال ، وقد انتشرت من جراء ذلك الفوضى في البلاد ، وكاد يقطع حبل الأمن والسلام (3).

________________________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ أبو علية : الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبدالعزيز ، ص 160 ووهبة حافظ ، الجزيرة العربية في القرن العشرين ، ص 229.

3 ـ الريحاني ـ أمين : تاريخ نجد الحديث ، ص 260.

________________________________________

(400)

    كان الإخوان كارهين للعلم والتقدم ، فاعتبروا أي نوع من أنواع التكنولوجيا الحديثة شرّاً وكفراً ، كالهاتف والتلغراف والسيارات والساعات والكهرباء ، وقالوا إنّها سحر من عمل الشيطان ، فقاوموا استخدامها ونشرها وأخّروا تقدّم البلاد (1).

    وفي مطلع عام 1345 هـ اجتمع رؤساء الإخوان ، ومن أبرزهم فيصل الدويش وابن حثلين وابن بجاد في الغطغط ، وأعدّوا قائمة ذكروا فيها ما يؤاخذون به عبدالعزيز ومن جملته :

    1 ـ سفرة ابنه سعود إلى مصر.

    2 ـ سفرة ابنه فيصل إلى لندن للتفاوض مع الإنجليز ، وهو يعني التعاون مع بلد الشرك.

    3 ـ استخدام التلغراف والهاتف والسيارة في أرض إسلامية.

    4 ـ فرض رسوم جمركية على مسلمي نجد ، وكان هذا في الواقع احتجاجاً على تشديد استغلال السكان عن طريق الضرائب.

    5 ـ منع قبائل الأردن والعراق حق الرعي في أراضي المسلمين.

    6 ـ حظر المتاجرة مع الكويت لأنّهم كفّار لم يأخذوا بمبادىء الوهابية.

    7 ـ التسامح مع الخوارج ( الشيعة ) في الأحساء والقطيف ، فيجب عليه أن يهديهم إلى الإسلام أو يقتلهم (2).

    هذه بعض القرارات الّتي اتّخذها مؤتمر الإخوان ، وكان عبدالعزيز آنذاك في الحجاز ، فأسرع بالسفر إلى نجد عن طريق المدينة محاولا علاج غضب الإخوان بالحيل والدجل ، ولما وصل إلى الرياض عقد فيها مؤتمراً بتاريخ 25 رجب سنة 1345 هـ وحضر الدعوة جميع زعماء الإخوان ، إلاّ سلطان بن بجاد ، وهو القائد الّذي استولى على الحجاز ، وبرر عدم حضوره بقوله : « إنه

________________________________________

1 ـ المانع محمد : توحيد المملكة العربية السعودية ، ص 15.

2 ـ ابن هذلول : تاريخ ملوك آل سعود ، ص 180.

(401)

لم يثق بعبد العزيز وأقواله ، وخاصة بعد أن اتخذنا قراراتنا بتجريمه وتكفيره وعزله » وفي هذا الإجتماع قال عبدالعزيز عن نفسه إنه خادم الشريعة ، يحافظ عليها أتم المحافظة ، وهو الّذي يعهدونه من قبل ولم يتغير كما يتوهم الناس ، ولا يزال ساهراً على مصالح العرب والمسلمين.

    وفي عام 1346 هـ قررت الحكومة العراقية التفاوض لإقامة مخافر للشرطة مجهزة باللاسلكي والسيارات المصفحة بالقرب من الحدود النجدية ، للإشراف على تنقلات البدو ، ومنع الغزو ، وفي أثناء إنشاء المخافر هاجم الإخوان مخفر البصية فقتلوا عدداً من العمال والشرطة الذين كانوا فيه ، ثم عادوا من حيث أتوا ، وتقدر المصادر البريطانية عدد القتلى بعشرين كان من بينهم امرأة واحدة. كان الإخوان يشنون غاراتهم على العشائر العراقية ويعيثون فيها نهباً وقتلا ، إلى أن اضطرت الطائرات الإنجليزية بإصرار من الحكومة العراقية إلى إلقاء منشورات على البادية تنذر الإخوان بالابتعاد عن الحدود العراقية بمسافة أربعمائة ميل ، ولكن لم يهتم الإخوان بهذه المنشورات ، فانتهت بقصف تجمعاتهم وقواهم (1).

    إنّ قصف الطائرات وضع ابن سعود بين نارين : نار الإنجليز ونار الإخوان ، ووجد ابن سعود أن الأفضل أن يتفاوض مع الإنجليز بدلا من محاربتهم ، فجرت مفاوضات في جدة مرتين ، وكان يمثل الجانب البريطاني ( سرجلبرت كلايتون ) ورجع عبدالعزيز بعد ذلك إلى الرياض واجتمع مع الإخوان ، فأخذ يهدىء روعهم ، وطلب منهم أن يعرضوا شكاواهم عليه ، فذكرو اله منها علاقته بالكفار وصداقته مع الأنجليز ، واستعمال مخترعاتهم الشيطانية كالسيارات وأجهزة الهاتف ، وتساهله تجاه المخافر الّتي يبنيها الكفار على الحدود ، ومنع المسلمين من الجهاد لإعلاء كلمة اللّه ونصر دينه ، وفي هذا المؤتمر حاول ابن سعود أن يقنعهم بأن جهاد الكفار يجب أن يكون في حدود الطاقة ، وأن هذه الآلات ليست من السحر وعمل الشيطان.

________________________________________

1 ـ فيلبي عبداللّه : تاريخ نجد ، ص 359.

________________________________________

(402)

ثورة الإخوان

    إنّ النتيجة الّتي انتهى إليها مؤتمر الرياض لم يرض عنها الرؤساء الثلاثة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد وابن حثلين ، فصاروا ينشرون الإشاعات السيئة ضد ابن سعود ، وأنه بصدد هدم الدين وموالا الكفار وطلب الملك ، ويقطعون الطريق على القوافل ، ويهاجمون عشائر العراق.

    كان عدد الثائرين نحواً من خمسة آلاف رجل فأعدّ عبدالعزيز جيشاً كبيراً لقتالهم يربو على خمسة عشر ألفاً ، ووقعت المعركة بين الفريقين في صباح 35 آذار سنة 1929 الموافق سنتة 1349 هـ وانتهت بهزيمة الإخوان وانتصار عبدالعزيز.

    يقول الدكتور علي الوردي : إنّ معظم بناة الدول يقتلون من ساعدهم على بنائها ، وسبب ذلك أن أولئك المساعدين يريدون أن يشاركوا الباني في ثمرة بنائه ، بينما هو لا يريد أن يتنازل لهم عن تلك الثمرة ، فينشب النزاع بينهم ، وربما ينتهي إلى القضاء على أولئك المساعدين ، وقد صدق من قال : السياسة لا أب لها.

    ويبدو أنّ هزيمة الإخوان كانت بسبب أن المشايخ والعلماء كانوا مع عبد العزيز ، وهذا مما أدى إلى الوهن في عزيمة الإخوان ، وقلل من فدائيتهم وحماسهم الديني (1).

    لمّا تخلّص عبدالعزيز من حركة الإخوان ، أنشأ جيشاً تحت إشراف بعض الضباط العرب من بقايا الجيش العثماني واستورد السيارات وأجهزة اللاسلكي ، وأنشأ مدارس حديثة في بلاده ، وهو وإن تخلّص من شرّ الإخوان لكنه ابتلي بشر علماء الدين النجدييين ، فقد أوجد فتح المدارس الإبتدائية في الحجاز ضجة بينهم ، فاحتجوا على عبد العزيز بأنه يجري تعلم الرسم أولا ، واللغات الأجنبية ثانياً ، والجغرافيا ثالثاً في تلك المدارس الحديثة.

________________________________________

1 ـ صادق حسن السوداني : العلاقات العراقية السعودية ، ص 308 والوردي ، علي ، لمحات ص 335.

________________________________________

(403)

    ظل المشايخ يستنكرون المخترعات الحديثة الّتي ترد إلى البلاد ، فاستنكروا الحاكي والسينما والأنوار الكشافة والطائرات ، فهم يعتقدون في الطائرات مثلا أن ركابهم يتحدَّون ربهم بها (1).

    وحين بدأ الأمريكيون ينقبون عن النفط في منطقة الظهران ، قال المشايخ لابن سعود : لا يجوز دخول الكفار البلاد لأنهم يفسدون الرجال والنساء ، ويدخلون الخمر والفوتوغراف وما شاكل ذلك من الأمور الشيطانية إلى داخل البلاد ، ومن الطرائف الّتي تروى في هذا الصدد أن جماعة من البريطانيين زاروا ابن في قصره في الرياض ، وبينما هم في القصر حلّ وقت الصلاة ، فقام ابن سعود وحاشيته يصلون خلف إمام لهم ، فقرأ الإمام في الركعة الأولى قوله تعالى : ( وَلاَ تَركَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ) وأعاد قراءة الآية في الركعة الثانية ، ولما انتهت الصلاة زحف ابن سعود من مكانه نحو الإمام وأشبعه وخزاً وركلا ، وهو يؤنبه قائلا : « ما لك بالسياسة يا خبيث ، وما الّذي تقصده من ترديد هذه الآية في كل ركعة؟ أفلا توجد آيات غيرها » (2).

    فلم تُجْدِ اعتراضات الإخوان ومعارضة المشايخ نفعاً.

    وهنا يقف القارىء على تطور الوهابية في سيرها التاريخي ، فمبادىء الوهابية هي الّتي كان الإخوان يطلبونها ، فقضى عليهم عبد العزيز بالسيف والنار ، ثم ما يطلبه المشايخ من تحريم العلم الحديث والاختراعات الحديثة وإيقاف المجتمع على ما كان عليه من السذاجة والبساطة ، وهؤلاء يستنكرون ، وعبد العزيز كان يعمل بقوة وقدرة ، ويسقطب الرأي العالم لصالحه ، فلم يجد المشايخ بدّاً من السكوت. وأين هذه المباديء الّتي تسوق إلى الأُمية من وهابية اليوم الّتي يدرس مشايخها في الجامعات الحديثة وينالون الدرجات العلمية الرائجة في الغرب ، ويأكلون ويلبسون ويسافرون مثل الإفرنج ، حتّى أنّ مفتي المملكة تذاع خطبه مباشرة عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية ، وها هنّ البنات يدرسن في الجامعات في مختلف العلوم ،

________________________________________

1 ـ فيلبي ، عبداللّه : تاريخ نجد ، ص 356.

2 ـ المميز ، أمين : المملكة العربية السعودية كما عرفتها ، ص 126 ـ 129.

________________________________________

(404)

وهذه المقاهي ودور السينما والأفلام المبتذلة الخليعة ، وأشرطة الأغاني والموسيقى : هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنه لم يبق من مبادىء الوهابية إلاّ ما يمت إلى الأولياء وقبورهم ومراسم إحياء مواليدهم ، لم يبق شيء منها ، سوى ما يرجع إلى الحط من مقامات الأولياء وتوقيرهم واحترامهم ، فبناء القباب على مشاهد الصالحين محرم ، والتوسل بهم محظور ، لكن الربا جائز والحلف مع الكفّار سائغ ، وتسليطهم على بلاد المسلمين لدعم عرش السلطة أمر لابد منه ، والأغاني الّتي تشيع الخلاعة وتدفع الشباب إلى الميوعة والتسيب الخلقي مباحة ومشروعة ، وهكذا دواليك.

     ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مَمّا يَكْسِبُونَ ) (1).

________________________________________

1 ـ سورة البقرة : الآية 79.

________________________________________

(405)

أزمة ثالثة يواجهها عبدالعزيز

    قد قضى عبدالعزيز على فتنة الإخوان ، وكافح محالفة مشايخ الدين ، ولكنه قد واجه عام 1349 هـ وما بعدها أزمة خاصة ، وهذه السنوات كانت منحوسة على أمير الحجاز ، حيث إنّ الأزمة الاقتصادية قد خيمت بكابوسها على الحجاز ونجد ، وقلّ مجيء الحجاج إلى الحجاز ، فبعد ما كان عدد الحجاج في السنوات السابقة يقدر بمائة ألف انخفض إلى أربعين ألفاً في عام 1350 هـ وإلى ثلاثين ألفاً في عام 1351 هـ وإلى عشرين ألفاً في العام المتأخر عنها ، فساد البؤس والحرمان في أنحاء الحجاز ، وأصبح الكثير من سكانه على حافة المجاعة ، وأينما سار الحجاج يحيط بهم المتسولون من كل جانب للاستجداء ، وإذا رمى أحد الحجاج بفضلات الطعام أو قشور الفواكه تهافت عليها الأطفال متكالبين من شدة الجوع (1).

    وهذا فيلبي يذكر في مذاكراته : بدأ القلق يستحوذ على الملك عبدالعزيز ، فأعرب عن قلقه في ذات يوم ، وقال بأنّا سنواجه كارثة اقتصادية تحل بالبلاد ، ويضيف فيلبي : قلت له إن بلدك مليء بالكنوز الدفينة من نفط وذهب ، وأنت عاجز عن استغلالها بنفسك ، ولا تسمح للآخرين باستغلالها بالنيابة عنك ، فقال عبد العزيز : لو وجدة من يدفع لي مليون جنيه فإنني سأمنحه كل ما يريده من امتيازات في بلادي (2).

________________________________________

1 ـ خيري حماد ، عبداللّه فيلبي ، ص 208 ـ بيروت ، 1961 م.

2 ـ نفس المصدر.

________________________________________

(406)

    لمّا وقف الغرب على وجود الكنوز في أراضي نجد ، حصل التنافس للحصول على امتياز التنقيب عن النفط بين شركتين :

    إحداهما أمريكية والأخرى بريطانية ، وقد تمكنت الشركة الأمريكية من الحصول على الامتياز عام 1353 هـ ، ووقعت الاتفاقية في جدة ، من قبل مستر هاملتون والشيخ عبداللّه سليمان ممثل الحكومة السعودية. (1)

    وكانت هذه هي الخطوة الأولى الّتي مكنت الأمريكيين من السيطرة على منابع الثروة في شبه الجزيرة العربية.

    وبعد فترة من الزمن ، وبشكل تدريجي تمكن الأمريكيون من إعمال نفوذهم ، والسيطرة على جميع مصادر الثروة بالحد الّذي نشاهده اليوم ، ولا نطيل الكلام في ذلك ، ونحيل القراء الكرام إلى مطالعة الصحف اليومية الّتي تصدر من أجهزة الإعلام العالمي ، والتي تحكي مراراً وتكراراً أخبار خيانة آل سعود لشعوب العالم الإسلامي ، وسعيهم الحثيث لاستنزاف مصادر الثروة لصالح الأمريكيين.

 

زوجاته وأولاده

    يقول الوردي : كان عبدالعزيز مزواجاً إلى درجة يندر أن يكون له مثيل في عصرنا ، وكان مولعاً بزيادة نسله حتّى بلغ مجموع أولاده الذكور أخيراً خمسة وأربعين ولداً ، مات منهم عشرة وبقي منهم خمسة وثلاثين ، وأما بناته فلا نعلم عن عددهن شيئاً ، وقد تولد آخر ولده في عام 1368 هـ وكان في الواحدة والسبعين من عمره ، وقد ناهز عدد أولاد وأحفاده بما فيهم من البنات عند وفاته الثلاثمائة.

    إنّ هذا العدد الكبير من الأُمراء أصبح ظاهرة اجتماعية لها أثرها الكبير في المملكة السعودية ، فقد صاروا طبعة متميزة تعيش فوق القانون ، وقد توافر لدى أفراد هذه الطبقة من جراء تدفق النفط مال كثير يكاد لا يحصى ، ولا

________________________________________

1 ـ الوردي ـ علي : لمحات ، ص 351.

________________________________________

(407)

حاجة إلى القول بأن اجتماع هذين العاملين ـ التميز الطبقي وتوافر المال ـ لابد أن يؤدي بطبيعته إلى الترف الباذخ والانهماك في الشهوات بلا حدود (1).

 

نهاية العهد

    بدأت تظهر على عبدالعزيز منذ سنة 1367 هـ أعراض الشيخوخة والانحلال ، وزاد الألم في ركبتيه فلم يعد يقوى على المشي ، ولجأ إلى الاستعانة بكرسي متحرك ، وعاد لا يميز الأشياء على الرغم من ارتداء النظارات ، إلى أن لفظ أنفاسه في ثاني شهر ربيع الأول سنة 1373 هـ عن سبعة وسبعين عاماً ، ونودي بسعود بن عبدالعزيز ملكاً ، وبفيصل ولياً للعهد ، وبعدما عُزل سعود عن العرش جرت البيعة لفيصل ملكاً ، ولخالد ولياً للعهد ، فلما قتل فيصل جرت البيعة لخالد بن عبدالعزيز ملكاً ، ولفهد ولياً للعهد ، وبعد موت خالد ألقيت مقاليد الملوكية بيد فهد ، وصار عبداللّه بن عبدالعزيز ولياً للعهد; وإليك لمحة خاطفة عن حياة هؤلاء إكمالا للبحث (2).

 

15 ـ سعود بن عبدالعزيز ( 1373 ـ 1384 هـ )

    ولد سعود بن عبدالعزيز عام 1320 هـ وهو الابن الثاني لعبد العزيز ، وولد فيصل عام 1324 هـ من الزوجة الثانية لعبد العزيز ، وهي من آل الشيخ ، وقد جرى بين الأخوين غير الشقيقين تنافس مستمر لم ينقطع حتّى بعد موت عبدالعزيز ، بالرغم من اليمين الّذي أقسماه ، وقد أدلى سعود في أول اجتماع لمجلس الوزراء ببيانه السياسي الأول بوصفه أنه ملك ، وأنّ من أهدافه تعزيز الجيش ومكافحة الفقر والجوع والمرض ، وتحسين الخدمات الطبية ، وتأسيس وزارات للمعارف والزراعة والمواصلات (3).

    ولكن كان لسعود وفيصل تاريخ من المنافسة حتّى دعاهما أبوهما إلى غرفة نومه الّتي أمضى فيها آخر شهور حياته ، وقال لهما : أمسكا بأيديكما وأقسما بأن

________________________________________

1 ـ الوردي ، علي : لمحات ، ص 322.

2 ـ جبران شامية : آل سعود ، ماضيهم ومستقبلهم ، ص 166.

3 ـ أمين سعيد : تاريخ المملكة السعودية ، ج 3 ص 16.

________________________________________

(408)

تعملا معاً حينما أموت ، وأن لا تتجادلا فيما بينكما بحيث لا يسمع العالم عدم توافقكما ، ولكن ما مضى شيء من موت الوالد حتّى بدأت الخلافات تظهر بسرعة ، وتزايدت الانشقاقات بأكثر مما كان يتصور (1).

    سقط الملك سعود عام 1381 هـ مريضاً بسبب قرحة في الأمعاء ، وأشار الأطباء الأمريكيون عليه بالذهاب للعلاج إلى أمريكا ، ولما عاد سعود إلى البلاد بعد بضعة أشهر استغرقت علاجه في الخارج ، وبعد أن استحوذ فيصل على كل شيء من أجهزة الدولة ، وكادت أن تقع مصادمات عنيفة بين الأخوين لولا أن تدخلت العائلة ، حيث أثمرت تسوية بين الأخوين على أن يتقاسما الوزارة.

    وفي خريف عام 1382 هـ قصد سعود أوربا للعلاج ، فأخذ فيصل يعمل بنشاط لإحكام سيطرته على السلطة ، وعيّن أخاه غير الشقيق قائداً للحرس الوطني ، وأخاً آخر حاكماً للرياض ، فلما عاد سعود فوجىء بالتغييرات الأخيرة ، فاضطر إلى الرضوخ لما أملاه عليه أخوه من الظهور بمظهر الملك ، دون صلاحية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.

    وانتهى بعد خلافات واسعة إلى خلع سعود بن عبدالعزيز عن الملك ، وحلّ فيصل بن عبدالعزيز ملكاً مطلقاً على المملكة ، وصدرت الفتوى ( الشرعية ) اللازمة من الشيخ محمد إبراهيم مفتي الديار السعودية في 16 من شهر جمادى الثانية عام 1382 هـ ، واضطر سعود إلى مغادرة البلاد والانتقال إلى مصر ، فحل في القاهرة ضيفاً على عبد الناصر أيام كانت العلاقات بين مصر والجزيرة العربية متوترة ، إلى أن مات فيها عام يراجع المصدر وقد كان ذا ثروة طائلة بذلها لاسترداد عرشه ، ولكنه خسر في هذه المحاولة.

    يقول جبران شامية : ما من رجل استطاع أن يبذل هذه الأموال في مثل هذا الوقت القصير ، وبمثل هذه النتائج الضئيلة كسعود (2).

________________________________________

1 ـ القحطاني ـ فهد : صراع الأجنحة في العائلة السعودية ، ص 80 ، ط لندن.

2 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 179 ـ 180.

________________________________________

(409)

16 ـ فيصل بن عبدالعزيز ( 1384 ـ 1395 هـ )

    قد تسنّم فيصل منصة العرش بعد خلع أخيه سعود من الحكم وهو يعلم أن الضمان الوحيد للإبقاء عليه على منصة الحكم هو إظهار الولاء للأمريكيين ، فاتصل بسفير أمريكا ورؤساء شركة آرامكو مراراً ليقنعهم بأنه أجدى لهم وأبقى لمصالحهم من سعود ، وفي عام 1385 هـ سافر إلى أمريكا ومكث مدة مبدياً للمسؤولين الأمريكان تذمره من سعود ، واجتمع بوزير خارجية أمريكا آنذاك ( جون فوستر دالاس ) وبالرئيس الأمريكي السابق ( أيزنهاور ) شاكياً لهما سوء تصرفات سعود (1).

    وقال فيصل : إنني أقول لكم بصراحة : إنّ هناك من الأمريكان المسؤولين عندما يكتب لكم ضدي ويزعم أن سعوداً أكثر إخلاصاً لأمريكا مني لكنهم على خطأ ، فإنني أصدق صديق لأمريكا (2).

    وجهت مجلة « المصور » لفيصل الأسئلة التالية التي أقحم فيها تعبيره عن حبه لأمريكا بطريقة غير مستقيمة :

    س ـ ما سبب رحلة سموكم إلى أمريكا؟

    ج ـ السبب هو أنني أصدق صديق لأمريكا ، لكن الأمريكان مع الأسف الشديد لم يقدروا هذه الصداقة حتّى الآن. ونشرت له مجلة المصور أيضاً بتاريخ ( 17/8/1958 ) تصريحاً قال فيه : يعتقد الأمريكان أني عدو لهم ، مع أنهم لو أدركوا معنى نصحي لهم لعرفوا أني أصدق صديق لهم.

    وعقد « جون فوستر دالاس » وزير خارجية أمريكا مؤتمراً صحيفاً أعلن فيه بكل صراحة عندما سئل عن رأيه بتولي فيصل لمناصبه ، قائلا : إنني مطمئن كل الإطمئنان بكل ما حدث في السعودية ، نحن قد تفاهمنا مع الأمير فيصل في ذلك عندما كان في أمريكا (3).

________________________________________

1 ـ السعيد ، ناصر : تاريخ ال سعود ، ص 661 ـ 662.

2 ـ مجلة المصور المصرية في عددها الصادر بتاريخ 13/7/1958 م.

3 ـ ناصر السعيد : تاريخ آل سعود نقلا عن مجلة المصور المصرية.

________________________________________

(410)

    قد وجه وفد مبعوث عن التلفزيون البريطاني سؤالا عن إمكان قيام نظام ديمقراطي في السعودية ، فأجاب فيصل : في اعتقادنا أن في المملكة في وقتها الحاضر أحسن وأجود نظام ديموقراطي ، ونحن في بلادنا لا نشعر بأن هناك أي فوارق أو مميزات لفئة أو لأشخاص دون أشخاص ، وإن الجميع متساوون في الحق أمام الحكم العادل ، ولذلك نعتقد أننا نمثل أعلى ديموقراطية (1).

    وفي الوقت الّذي يجيب فيه عن الأسئلة بهذه الصورة بكل صلف وشراسة ، نجد أن المملكة الواسعة صارت ملكاً لقبيلة واحدة تملك كل شيء ، وليس هناك مجلس للنواب ولا مجلس للشيوخ ، ومع ذلك فهم يمثلون أجود نظام ديموقراطي ، وأقصى ما عندهم مجلس الوزراء ، وهم الطبقة الأولى من هذه العائلة يمثلون الوزارة!

    كان فيصل يملك ويحكم إلى أن قتل بيد ابن أخيه فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز ، حيث دخل مكتبه مع الوفد النفطي الكويتي الّذي قدم للقاء فيصل ، وحين وصل دوره للسلام على الملك وانحنى لتقبيل كفه ، أخرج من معطفه مسدساً أطلق منه ثلاث رصاصات وجهت لرأس الملك وصدره ، وبذلك طويت صحيفة عمره ، وقد كثرت التعاليق السياسية على هذا القتل حتّى رمي القاتل بالجنون مع أنه أجري عليه القصاص!

 

17 ـ خالد بن عبدالعزيز ( 1395 ـ 1402 هـ )

    اجتمعت العائلة السعودية وأفراد الأُسرة المالكة وبايعوا خالداً أخاه بالملك ، وفهد كولي لعهده ، وقد جاءت المبايعة بسرعة لاستباق الأحداث ، ولكن منذ اليوم الأول لإعلان البيعة لخالد كانت الأنظار متوجة إلى فهد كملك غير متوج ، وكان خالد يملك ولا يحكم ، وهو يحكم ولا يملك ، إن الأمريكيين كانوا يرغبون في وصول فهد إلى الملك ، ففهد هو الّذي يلقي بيانات الملك خالد وكلماته وخطبه ، وهو الّذي تفرد بالزيارات الرسمية ، فزار الكويت والعراق ، ثم إيران وفرنسا ولندن وسوريا والأردن ومصر.

________________________________________

1 ـ ناصر الشمراني : فيصل القاتل والقتيل ، نقلا عن كتاب فيصل بن عبدالعزيز من خلال أقواله وأعماله ، صلاح الدين المجد ، ص 204.

(411)

زلزال جهيمان في مكة

    وفي مطلع القرن الخامس عشر الهجري في شهر محرم ، سيطرت مجموعات من الأشخاص الذين ينتمون إلى حركة « الإخوان » على الحرم المكي الشريف ، يرافقهم في ذلك نساؤهم وأطفالهم ، وحاول النظام السعودي إخفاء ما حدث ، وقام بعدة إجراءات ابتدأت بالصمت وانتهت بغلق المطارات وقطع الأتصالات الهاتفية بالخارج ، ولكن لما تسرب الخبر إلى الخارج ، اضطر آل سعود إلى إعلان النبأ مشوهاً ، ومنعوا الصحفيين من الدخول إلى البلاد ، وقال فاسيليف :

     « أعلنت منظمة حركة الثوار المسلمين في شبه الجزيرة العربية ، الّتي لم تكن معروفة آنذاك ، أنها تتولى قيادة الأنتفاضة ، وأعلن الزعيم الروحي للثوار وهو محمد القحطاني الّذي قال عن نفسه إنه المهدي المنتظر ، أن هدف الحركة يتمثل في تحرير البلد من زمرة الكفار ( العائلة المالكة ورجال الدين المرتزقة الذين لا همّ لهم سوى التمسك بمناصبهم وامتيازاتهم ) .

    أما الزعيم السياسي للحركة فهو الجهيمان العتيبي البالغ من العمر 47 عاماً ، فقد ندّد في خطبه بأن الحكومة تدعي من جهة أنها مركز الدين الحنيف في العالم ، ولكنها من الجهة الأخرى تناصر الظلم والفساد والرشوة ، وندد جهيمان بالأمراء الذين يستولون على الأراضي ويبذرون أموال الدولة ، ونعتهم بـ « السكيرين » الذين يعيشيون حياة الفسق والفجور في البيوت والقصور الفخمة.

    ولم يكن في وسع العائلة المالكة القبول بشروط المنتفضين للتفاوض إذ أنها تضمنت مطالب بإجراء تعديلات في الوزارة ، منها إقصاء كبار الأمراء عن مناصبهم ، وإعادة النظر جذرياً في سياسة استخراج وتسويق النفط ، وطلب المنتفضون بوقف بيع النفط إلى الغرب عموماً ، والعودة إلى أحكام الإسلام الخالص ، وطرد جميع المستشارين العسكريين الأجانب من البلد.

    وأضاف فاسيليف : عاد ولي العهد فهد من تونس ، وأصر على قمع الأنتفاضة بالقوة ، وقد استخدمت قوات الحكومة القنابل المسيلة للدموع

 

________________________________________

(412)

والمدافع والطائرات لإرغام المتنفضين على الأنسحاب من المسجد الحرام ، وردّ المنتفضون بإطلاق النار من السطوح والمنائر ، واستمرت المقاومة الضارية الّتي أبداها زهاء ألف شخص أسبوعين ، وأدت كما تقول السلطات ، إلى مصرع عشرات الأشخاص ، بينما يقول شهود العيان إن القتلى كانوا يعدون بالمئات ، وكان بين القتلى « المهدي » ذاته ، أما الزعيم السياسي للحركة ( جهيمان العتيبي ) فقد أعدم مع 62 شخصاً من رفاقه ، في 9 كانون الثاني ( يناير ) 1970 م ، وكان بين من أعدموا علاوة على السعوديين مصريون ويمنيون وكويتيون وعرب آخرون ... (1).

 

فتوى وعّاظ السلاطين ضد المستأمنين بحرم اللّه

    اجتمع الملك خالد مع عدد من العلماء المتواجدين في الرياض بعد وقوع الحادثة ، وأطلعهم على ما جرى ، فقدم لهم معلومات مصطنعة عن تعداد الرهائن وقتل المصلين والحجاج وغير ذلك ، فاستفتاهم في كيفية حل الأزمة ، فوافاه الجواب بالنحو التالي :

     « بسم اللّه الرحمن الرحيم » : أما بعد ، ففي يوم الثلاثاء اليوم الأول من شهر محرم عام أربعمائة وألف من الهجرة ، دعانا نحن الموقعين أدناه جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود وأخبرنا أن جماعة في فجر هذا اليوم بعد صلاة الفجر مباشرة دخلوا في المسجد الحرام مسلحين ، وأغلقوا أبواب الحرم وجعلوا عليها حراساً مسلحين ، وأعلنوا طلب البيعة لمن سموَّه المهدي ، ومنعوا الناس من الخروج من الحرم ، وقاتلوا من مانعهم ، وأطلقوا النار على أناس داخل المسجد وخارجه ، وقتلوا بعض رجال الدولة وأصابوا غيرهم ، وإنهم لا يزالون يطلقون النار على الناس والمسجد ، واستفتانا في شأنهم وما يعمل معهم فأفتيناه أن الواجب دعوتهم إلى الإستسلام ووضع السلاح ، فإن فعلوا قبل منهم وسجنوا حتّى ينظر في أمرهم شرعاً ، وإن امتنعوا وجب اتخاذ كافة الوسائل للقبض عليهم ولو أدى إلى قتالهم وقتل من لم يحصل القبض عليه

________________________________________

1 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 516 ـ 517.

________________________________________

(413)

منهم ، ولا يستسلم إلا بذلك ، لقوله تعالى :

     ( وَلا تُقاتِلُوهُم عِندَ المَسجِد الحَرام حتّى يُقاتِلوكُم فِيه فإن قاتَلوكُم فَاقتلوهم كَذلك جزاءُ الكافِرين ) .

    ولقول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « من أتاكم جمع يريد يفرق جماعتكم ويشق عصاكم فاضربوا عنقه ... ».

    هذه الفتوى أُصدرت على أساس المعلومات قدمها الخصم ، وكان من واجبهم أن يتقربوا من الحرم حتّى يطّلعوا على الأمر ، وكيف يحق للقاضي أن يصدر حكمه على أساس معلومات يقدمها أحد المتخاصمين ، وبالتالي قتل من قتل وأخذ من أخذ ، ثم قطعت رؤوس عدة من المقبوض عليهم وسجن النساء.

    وهناك سؤال يتبادر إلى الذهن وهو : لماذا التجأ هؤلاء إلى بيت اللّه الحرام؟ ولعله لما جاء في الروايات بأن المهدي حين يظهر في الحرم يأتي لقتاله جيش عرمرم يخسف اللّه به الأرض ، وهذه الفكرة هي الّتي دفعت بالجماعة إلى الحرم.

    وهناك خطأ غير مغفور ، وهو أن ما ورد فإنما هو في المهدي المنتظر ، لا في من أسمي نفسه مهدياً.

    وبذلك انتهت هذه الحركة الّتي كانت استمراراً لحركة الإخوان ، وكان الملك وأبناء العائلة فرحين مسرورين بذلك ، ولم يبرح خالد يملك ولا يحكم إلى أن وافته المنية وأخترمه الأجل المحتوم عام 1402 هـ ، وأصدر الديوان المكي بياناً آخر جاء فيه :

     « لقد قام أفراد الأسرة وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالعزيز بمبايعة ولي العهد الأمير فهد بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد ، وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير عبداللّه بن عبدالعزيز ولياً للعهد.

    وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه ... وقد تقرر أن

 

________________________________________

(414)

يقوم المواطنون ، بالبيعة لجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز ولسمو ولي العهد الأمير عبداللّه بن عبدالعزيز في قصر الحكم بالرياض صباح غد ».

    جدير ذكره أن موت الملك لم يحدث فراغاً سياسياً ، لما عرفت أنه كان يملك ولا يحكم.

 

الملك فهد واستقدامه قوى الكفر (1)

    ويكفي في مساوىء « فهد » المتسلط على مقدرات الحرمين الشريفين ، وعدم أهليته لهذا المنصب الخطير وهذه المسؤولية المقدسة ، استقدامه لقوى الفكر والشرك إلى أرض مكة والمدينة ، المحرمة على المشركين ، واستعانته بهم بحجة الدفاع عن الحجاز ، ولكن في الحقيقة للدفاع عن مطامع الأمريكان والصهاينة الطويلة في ثروات المسلمين ، من دون التفات إلى حكم المذاهب الإسلامية بحرمة دخول الكفار والمشركين مكة والمدينة وما حولهما ، بل وحكم القرآن قبل ذلك بحرمة الركون إلى الكفار وتوليهم.

    فقد قال القرآن : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (2).

    وقال : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوا قَوماً غَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ ) (3)

    وقال : ( وَلاَ تَتَوَلَّوا مُجْرِمينَ ) (4). وقال تعالى : ( إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَن الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهرُوا عَلَى إخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (5).

    وقال سبحانه : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَصَارى أَوْلِيَاء ) (6).

________________________________________

1 ـ كان تقديم الملازم الأخيرة من هذا الجزء ، مقارناً لهذه الحادثة المؤلمة فأثبتناها في هذا المقام لتبقى في ذاكرة التاريخ غير الناسي ، وإن كان الإنسان ذهولا.

2 ـ سورة هود : الآية 113.

3 ـ سورة الممتحنة : الآية 13.

4 ـ سورة هود : الآية 52.

5 ـ سورة الممتحنة : الآية 9.

6 ـ سورة المائدة : الآية 51.

________________________________________

(415)

    وقال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنين أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لَلّهِ جَمِيعاً ) (1).

    وقال تعالى : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) (2).

    وقال سبحانه : ( إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسجِدَ الحَرَامَ ) (3).

    وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْض ) (4).

    وقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في حديث متواتر : « أخرجوا اليهود من جزيرة العرب. لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » وأمر بمضايقتهم في الطرقات حتّى يضطروا إلى أضيقها (5).

    وأما الفقهاء ، فقال الإمام النووي في كتاب المنهاج : « ويُمنع كل كافر من استيطان الحجاز ، وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها ... » راجع كتاب الجزية منه.

    فكيف يجوز لفهد ، وهو يدّعي خدمة الحرمين الشريفين أن يقوم بمثل هذه الخيانة العظمى للحرمين وأهلهما ، وليستقدم جيوش الغزو الغربي الصليبي الصهيوني إلى بلاد الوحي والرسالة ، ويتكفل مؤونتهم ، ويحمّل المسلمين مليارات لاستضافتهم ، كما صرح المسؤولون السعوديون الوهابيون أنفسهم بذلك ، وصرّح به قادة الغزو الغربي ، كل ذلك بحجة الدفاع.. الدفاع عن ماذا؟ عن الحكم الوهابي الرجعي الأسود ، وليس عن الشعب الحجازي المضطهد المظلوم ، وليس عن الحرمين الشريفين ، اللَّذين يفديهما المسلمون متى

________________________________________

1 ـ سورة النساء : الآية : 139.

2 ـ سورة المائدة : الآية 57.

3 ـ سورة التوبة : الآية 28.

4 ـ سورة الأنفال : الآية 73.

5 ـ راجع صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي ومسند أحمد والموطأ والدارمي.

________________________________________

(416)

لزم الأمر بأرواحهم ، وأنفسهم ، وبأعز مالديهم من الأهل والولد.

    كل هذا بغض النظر عما يجلبه هؤلاء الكفار من فسق وفجور ، بل وأمراض وعاهات خلقية إلى شعب هذه البلاد المقدسة.

    هذه صورة إجمالية عن حياة العائلة السعودية بسلاطينها وأمرائها وملوكها ، وقد وضعناها أمام القارىء ليقف على حقيقة المذهب ، وعلى نزعات حماته وجناياتهم طيلة استيلائهم على الحكم والعرش ، وأما تفصيل حياة الملك الأخير الّذي يحكم على البلاد حالياً فنتركه إلى جهد القراء لكي يقفوا على حياته وأعماله وتحالفه مع الكفار عن كثب ، واللّه يعلم إلى متى يبقى هذا ويبقى عرشه.

    إنّ إدارة الحرمين الشريفين رهن كفاءات ومؤهلات للقائمين بها ، وقد قال سبحانه : ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُم اللّه وَهُمْ يَصُدّونَ عِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ وَمَا كَانُوا أَولِياءَهُ إنْ أَوْلِياؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لاَ يَعْلَمُونَ ) (1)

    وهل للعائلة السعودية ، التقوى اللازمة لإدراة الحرمين الشريفين؟ وهل هم متّقون حتّى يتسنموا هذه المنصة؟ لا أدري ، ولكن القراء يدرون.

     ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ ) .