الخوارج قبل عصر معاوية بن أبي سفيان

 

بداية الاختلاف بعد رحلة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم )

 

(11)

    ارتحل النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ملبّياً دعوة ربّه في العام الحادي عشر من هجرته ، بعد ما بذل كل جهده لتوحيد الاُمّة ورصّ صفوفها ، منادياً فيهم بقول سبحانه : ( إنَّ هذه اُمَّتُكُمْ اُمَّه واحِدَةً وَ أنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) وهو ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كما دعا إلى كلمة التوحيد دعا إلى توحيد الكلمة بأمر منه سبحانه في الذكر الحكيم حيث قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) وقال سبحانه : ( إنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إخْوَةٌ ... ) (3) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد كان ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يُحذِّر المجتمع الاسلامي من التفرّق و التشرذم ، وقد وصف التحزّب والتعصّب لقوم دون قوم « دعوى منتنة » (4) .

    وقد خاطب معشر الأنصار بقوله : « الله الله أبدعوى الجاهلية و أنا بين

________________________________________

    1 ـ الأنبياء : 92.

    2 ـ آل عمران : 103.

    3 ـ الحجرات : 10.

    4 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 3/303.

________________________________________

(12)

اظهركم بعد أن هداكم الله بالاسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به أمر الجاهلية و استنقذكم من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » (1) .

    ومع كل هذه الأوامر العديدة و التحذيرات الشديدة نرى ـ ياللاسف ـ أنّ المسلمين اختلفوا بعد وفاته ـ وجثمانه بَعدُ لم يُوار ـ إلى فرقتين يجمعهما الاتّفاق في سائر الاُصول و يفرّقهما الخلاف في مسألة الخلافة والولاية وهاتان الفرقتان هما :

     1 ـ فرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعيّن و قالت إنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على خلافة علي و ولايته في مواضع عديده و مناسبات كثيرة ، أعظمها و أشهرها يوم الغدير في منصرفه عن حجّة الوداع في العام العاشر ، فقال في محتشّد عظيم : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » وقد بلغ الحديث في كل عصر حدّ التواتر بل تجاوز حدّه ، ومن المتبنّين لهذه الفكرة ، أكابر بني هاشم وشخصيّاتهم البارزة كعباس بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وغيرهما ولفيف من الأصحاب ، كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبي التيهان ، وأبي أيّوب الأنصاري وغيرهم من المهاجرين و الأنصار ، الذين شايعوا علياً ، و نفّذوا ما أوصى به النبي الأكرم في حقّ وصيّه ، وهؤلاء همّ نواة الشيعة وهم جزء من المسلمين الاُول ، فقد بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول.

    2 ـ فرقة تبنّت فكرة الشورى ، وانّ لها اختيار القائد ، وانتهت تلك الفكرة بعد مشاجرات ومشاغبات بين متبنّيها إلى خلافة أبي بكر بن أبي قحافة ، و تمّت البيعة له في سقيفة بني ساعدة ، ببيعة عدّة من المهاجرين ، كعمر بن الخطاب

________________________________________

    1 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 2/250.

________________________________________

(13)

وأبي عبيدة الجراح ، وبيعة الأوسيين من الأنصار ، وهؤلاء قد نسوا أوتناسوا النصّ النبوي يوم الغدير فقدَّموا الاجتهاد على النص ، ورجّحوا المصلحة المزعومة على التعيين الإلهي ، والعجب انّ أصحاب هذه الفكرة من بين المهاجرين و الأنصار كانوا يستدلّون على مبدئهم في سقيفة بني ساعدة بأدلّة و مقاييس كانت سائدة في الجاهلية ، والتي لاصلة لها بالكتاب و السنّة :

    مثلا : إنّ الأنصار رأوا أنّهم أولى من غيرهم بالخلافة ، لأّنهم آووا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ونصروه في حروبه في زمان أخرجه قومه فيه من موطنه وخذلوه ، وقال خطيبهم الحبّاب بن المنذر بقوله : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فانّه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين.

    هذا منطق الأنصار ، وهلم معي نستمع منطق المهاجرين فقال أبوبكر ناطقاً عنهم : إنّ المهاجرين أقرباء النبي و عترته ، ودعمه عمر فقال ردّاً لمنطق الأنصار : والله لاترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ولاتمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته؟

    ترى أنّه ليس في منطق كل من المرشّحين أيّ استناد إلى الكتاب والسنّة فهذه تستدل بايوائهم رسول الله ونصرتهم إيّاه ، وتلك تستند إلى قرابته منه ، مع أنّه كان من اللازم عليهم الفحص عن قائد لائق عارف بالكتاب والسنّة ، مدير ومدبّر يملك كافّة المؤهّلات اللازمة في القيادة سواء أكان من المهاجرين أم من الأنصار أو من طائفة اُخرى

    كل ذلك يعرب عن أنّ الفكرة كانت غير ناضجة أوّلا ، وانّ الانتخاب والاختيار لم يكن صادراً عن مبدأ الاسلامي ثانياً.

 

________________________________________

(14)

    هذا و انّ طائفة من الأنصار أعنى الأوس بايعوا أبابكر بحجّة أنّهم إن لم يبايعوه ليكوننّ للخزرج عليهم فضيلة (1) .

    وهكذا ظهرت فرقتان بعد وفاة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) والمبدأ الذي اختلفتا فيه هو : مسألة الخلافة و قيادة الاُمّة ، وكان المترقّب بعد هذا الشقاق والاختلاف ، طروء حروب دامية بين الطرفين ، ولولا القيادة الحكيمة للامام علي ( عليه السَّلام ) ومساهمته مع الخلفاء في مهامّ الاُمور ، والتنازل عن حقّه لَاْنجّر الأمر في حياة الخلفاء إلى الهلاك و الدمار ، خصوصاً انّ المنافقين كانوا يترصّدون تلك الفرصة ويؤلّبون احدى الطائفتين على الاُخرى ليصطادوا في الماء العكر ، وفي التاريخ شواهد تؤيّيد ذلك وانّ القيادة الحكيمة لصاحب النص أعني الامام علياً أفشلت تلك الخطط الشيطانية نكتفي منها بما يلي :

    روى الطبري : لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبوسفيان وهو يقول : « والله إنّي لأرى عجاجة لايدفها إلاّ دمّ ، يا آل عبد مناف فيما أبوبكر من اُموركم؟ أين المستضعفان أين الاذلاّن علي والعبّاس؟ وقال : « أبا حسن أبسط يدك حتى اُبايعك » فأبى علي ( عليه السَّلام ) فجعل أبوسفيان يتمثّل بشعر المتلمّس :

ولن يقيم على خسف يراد بههذا على الخسف معكوس برمّته           إلاّ الأذلاّن غير العير و الوتدوذا يشجّ فلايبكي له أحدى (2)

    قال : فزجره علي ( عليه السَّلام ) وقال : « إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للاسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك ».

    كان الامام معتقداً بشرعية امارته وخلافته ، ويرى نفسه خليفة

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 2/ 446. ابن قتيبة : الامامة و السياسة 1/ 9.

    2 ـ الطبري : التاريخ 2/ 449. ابن الاثير : الكامل في التاريخ 2/ 220.

________________________________________

(15)

رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وقد سبقت البيعة له في يوم الغدير وغيره ، وكان يحتجّ به وبغيره من النصوص على استحقاقه لها و يعترف نفسه و أهل بيته بقوله : « ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصّية والوراثة » (1) .

    ومع ذلك رأى أنّ في مواجهة هذا الانحراف في تلك الظروف العصيبة مفسدة أعظم من فوت الولاية فتنازل عن الأمر فسدل دونه ثوباً ، وطوى عنه كشحاً ، وهو يصف الحال في بعض خطبه ويقول : « ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عن أهل بيته ، ولا انّهم منحّوه عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منهما ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمئن الدين و تنهنه » (2) .

    قام أبوبكر بأعباء الخلافة ، وحارب أصحاب الردّة ، إلى أن مضى لسبيله ، فأقام مكانه عمر بن الخطاب وهو أيضاً سار بسيرة من قبله ، وكان المسلمون يجتازون البلاد ، و يفتحون القلاع ، ويسيطرون على العالم بفضل الدين والايمان ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة من قريش وزعم أنّ رسول الله مات وهو عنهم راض وهؤلاء هم : عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف ، وقال : رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ، ثم نظر إلى كل واحد من هذه الستة إلى أن نظر إلى

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 5.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة الكتاب 62.

________________________________________

(16)

عثمان وقال : كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بني اُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس ، آثرتهم بالفيء فثارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي فإنّه كائن(1) .

    فلمّا دفن عمر ، اجتمع أصحاب الشورى في بيت فتكلّموا فتنازعوا ، غير أنّ تركيب الأعضاء منذ عيّنها الخليفة كان يعرب عن حرمان علي و نجاح غيره و لأجل ذلك تمّ الأمر لصالح عثمان ، فقام بالأفعال التي تنبّأ بها عمر بن الخطاب ، وأحدث اُمراً نقم بها عليه ، وأوجدت ضجّة بين المسلمين ومن أبرز معالمها انحرافه عن الحق وإليك صورة من أعماله التي ثارت لأجلها ثورة الأنصار والمهاجرين :

 

1 ـ تعطيل الحدود الالهية :

    شرب الوليد بن عقبة الخمر فسكر فصلّى بالنّاس الغداة ركعتين أو أربع ركعات ، فانْتُزعَ خاتمه من يده وهو لايشعر من سكر ، وقد قدم رجل المدينة وأخبر عثمان ما شهده من الوليد فضربه عثمان ، فكثرت الشكوى على عامله بالكوفة ولم ير بُداً من عزله ولم يجرِ الحد على الوليد ، فقال الناس : عطّلت الحدود وضربت الشهود (2) .

 

2 ـ عطياته الهائلة لبني اُميّة من بيت المال :

    بين ليلة وضحاها صارت جماعة من بني اُميّة بفضل خلافة عثمان ،

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1/186.

    2 ـ السيوطي : تاريخ الخلفاء 104. أبوالفرج الاصبهاني : الاغاني 4/ 188.

________________________________________

(17)

أصحاب الضياع العامرة والثروات الطائلة منهم : مروان بن الحكم ، وعبدالله بن أبي سرح ، ويعلى بن اُميّة ، والحكم بن العاص ، والوليد بن عقبة وأبى سفيان ، وقد حفظ التاريخ صورة عطيات الخليفة لهم ولغيرهم ، ومن أراد التفصيل فليرجع الى مظانه (1) .

    ويكفيك أنّه أعطى مروان بن الحكم ـ ابن عمّه و صهره ـ خمس غنائم أفريقيا ، وكانت تقدّر بمليونين و نصف مليون دينار ، وفي ذلك يقول الشاعر :

واعطيت مروان خمس العبا               دِ ظلماً لهم و حميت الحمى (2)

 

3 ـ تأسيس حكومة أموية :

    كان الخليفة يبذل غاية جهده في تأسيس حكومة أموية في العواصم الاسلامية فنرى أنّه عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة وولاّها الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لاُمّه.

    وفي سنة 27 من الهجرة عزل عمروبن العاص عن خراج مصر و استعمل عليه عبدالله بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة.

    وعزل أباموسى الأشعري فولّى مكانه على البصرة عبدالله بن عامر وهو ابن خال عثمان (3) .

    وأبقى معاوية على ولايته على الشام ، ولمّا كثرت الشكوى على عامله

________________________________________

    1 ـ الأميني : الغدير 9 / 236 ـ 290.

    2 ـ ابن قتيبة : المعارف 113 ط دار الكتب العلمية. ابن كثير : التاريخ 4/157.

    3 ـ الدينوري : الأخبار الطوال 139. ابن الاثير : الكامل 3/88 ـ 99.

________________________________________

(18)

بالكوفة ، الوليد بن عقبة ، عزله وولّى مكانه سعيد بن العاص (1) حتى قيل إنّ خمساً و سبعين من ولاته كانوا من بني اُميّة (2) .

 

4 ـ مواقفه العدائية تجاه الصحابة :

    كان للخليفة مواقف غير مرضية مع أصحاب رسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فقد سيّر أباذر إلى الربذة وهي أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا كلاء ، فهناك لفظ آخر أنفاسه غريباً فريداً (3) وأمر بضرب عبدالله بن مسعود فكسر ضلع من أضلاعه (4) كماأنّه ضرب عمّار بن ياسر حتى غشي عليه بحجّة أنّه انتقد عمل الخليفة في بيت المال (5) .

 

5 ـ ايواؤه طريد رسول الله :

    طرد رسول الله الحكم بن عاص مع ابنه مروان إلى الطائف ، فردّهما إلى المدينة أيّام خلافته.

    يقول الشهرستاني : ردّ الحكم بن اُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وكان يسمّى طريد رسول الله وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر و عمر (رضي الله عنهما) أيّام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ، نفاه عمر من

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3 / 325.

    2 ـ الندوي : المرتضى : ولا حظ للوقوف على أسماء عمال عثمان في السنة التي قتل فيها ، تاريخ الطبري 3 / 445.

    3 ـ البلاذري : الانساب 5/54. الطبري : التاريخ 3/335.

    4 ـ البلاذري : الانساب 5/36.

    5 ـ البلاذري : الانساب 5/48.

________________________________________

(19)

مقامه باليمن أربعين فرسخاً (1) .

    إلى غير ذلك من الاُمور التي أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ، حتى اجتمع المسلمون من المصريين والكوفيين والبصريين ، وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه بتبيين سوء مواقفه وأعماله وجنايات عمّاله في البلاد ، ولكن كان ردّ فعله تجاه هاتيك الاحتجاجات ، سلبياً فلم يستجب لطلباتهم ، بل غضب على كل من احتجّ عليه بسوء فعله أو فعل ولاته ، ولكن كثرة السخط والنقد على الخليفة ، شحنت النفوس نقمة وغضباً ، فانفجرت ثورة عارمة لم تجمد إلاّ بقتله في عقرداره.

 

قتل الخليفة عثمان :

    والمهاجرون والأنصار ومن تبعهم باحسان بين مجهز عليه ، أو مؤلَّب ضدّه ، أو مستبشر بمقتله ، أو صامت رهين بيته ، محايد عن الطرفين (2) .

    إنّ هذه الأحداث الكبيرة لو اتّفقت في أيّ عصر من العصور التي يسود فيها الحكم الاسلامي لأثّرت نفسَ الأثر الذي خلَّفْته في عهد عثمان ولقلبت الاُمور رأساً على عقب.

    ومع ذلك ترى أنّ بعض المؤرخين يريدون تبرير عمل الخليفة وانّ الثورة ضدّ الخليفة لم تكن ثورة شعبية دينية نابعة من أوساط المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في مصر والعراق ، ويزعمون انّ عبدالله بن سبأ هو الذي جهّز المصريين وكدّر الصفو على الخليفة ، وانّه وأتباعه كانوا وراء قتل الخليفة

________________________________________

    1 ـ الشهرستاني : الملل والنحل 1/26.

    2 ـ الطبري : التاريخ 3/399.

________________________________________

(20)

ولكن هذا من مختلقات بعض المؤرّخين (1) الذين جرّهم حبّهم واخلاصهم للخلافة والخليفة الى اسناد هذه الثورة الى رجل مزعوم (عبدالله بن سبأ) لم يثبت وجوده أوّلا ، وعلى فرض وجوده لم تثبت له تلك المقدرة الهائلة التي تثير الحواضر الاسلامية وعقلية المهاجرين والأنصار على الخليفة المفترض طاعته (2) .

    فلو كان لعبدالله بن سبأ تلك المقدرة وانّه كان يجول في البلاد لتحريض الناس على الخليفة فلماذا لم يتمكّن الخليفة ولا عمّاله من القبض عليه ليسجنوه أو يطردوه من الحواضر الاسلامية الى نقطة لا ماء فيها ولا كلاء كما طردوا أباذر إلى الربذة ، وسيّروا صلحاء الكوفة إلى أمكنة اُخرى.

    قال الأميني : لوكان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره الى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يُلْقَ القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة ، والتأديب بالضرب والاهانة ، والزجّ الى أعماق السجون؟ ولا آل أمره الى الاعدام ، المريح للأمّة من شرّه و فساده ، كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهتاف القرآن الكريم يرنّ في مسامع الملأ الديني : ( إنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ الله وَرَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَساداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِم و أرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌّ في الدُّنْيا وَ لَهُمْ في الآخِرَة عَذابٌ عَظيمٌ ) (المائدة : 33) (3) .

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/378.

    2 ـ لا حظ عبدالله بن سبأ لمرتضى العسكري فقد اغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعا.

    3 ـ الأميني : الغدير 9/219.

(21)

اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعة علي :

    قتل الخليفة بمرأى و مشهد من الصحابة ، وتركت جنازته في بيته ، واجتمع المهاجرون والأنصار في بيت علىّ ، وطلبوا منه بإصرار بالغ قبول الخلافة ، إذ لم يكن يوم ذاك رجل يوازيه ويدانيه في السبق الى الاسلام ، والزهد في الدنيا ، والقرابة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، والعلم الوافر بالقرآن والسنّة ، والامام يصف اجتماعهم في بيته ويقول : « فتداكوا علىّ تداكّ الابل الهيم ، يوم وردها ، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي » (1) .

    وفي كلمة اُخرى له ( عليه السَّلام ) يقول واصفاً هجوم المهاجرين والأنصار على بيته لبيعته : « وبسطتم يدي فكففتها ، ومدد تموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الهيم على حياضها يوم وِرْدها حتى انقطعت النعل ، وسقط الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم ايّاي ، أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت اليها الكعاب » (2) .

    فلمّا عرضوا عليه مسألة الخلافة و القيادة الاسلامية أجابهم بجدَ وحماس : « دعوني فالتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لاتقوم له القلوب ، ولا تثبت له العقول » (3) .

    فلمّا أحسّ منهم الإلحاح و الإصرار المؤكّد وانّه لابدّ من البيعة ورفع علم الخلافة قال ( عليه السَّلام ) : إذا كان لابدّ من البيعة فلنخرج إلى المسجد حتى تكون بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار ، وجاء الى المسجد فبايعه

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 54.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 229.

    3 ـ الطبري : التاريخ 3/156.

________________________________________

(22)

المهاجرون والأنصار وفي مقّدمتهم الزبير بن العوام و طلحة بن عبيدالله ولم يتخلّف من البيعة إلاّ قليل لايتجاوز عدد الأنامل كاُسامة بن زيد ، و عبدالله بن عمر ، وسعد بن أبيوقاص ونظائرهم (1) .

    وقد عرفه التاريخ بأنّه كان رجلا زاهداً غير راغب في الدنيا ولامقبلا على الرئاسة وانّما قبل البيعة لأنّه تمّت الحجّة عليه وكان المسلمون يومذاك بحاجة الى قيادته وخلافته وهو يصف أمره : « والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها » (2) .

    كلّ ذلك صار سبباً لقيام علي بالزعامة والخلافة وتدبير الأمور ، ولم يكن هدف المبايعين إلاّ ارجاع الاُمّة الى عصر الرسول ، ليقضي على الترف والبذخ ، ويرفع راية العدل والقسط ، ويهدم التفاضل المفروض على الاُمّة بالقهر والغلبة ، وينجي المضطهدين والمقهورين من الفقر المدقع ، ولمّا تمّت البيعة خطبهم في اليوم التالي وبين الخطوط العريضة للسياسة التي ينوي الالتزام بها طيلة ممارسته للخلافة فعلى الصعيد المالي قال في قطايع عثمان التي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته : « والله لو وجدته قد تزّوج به النساء و ملك به الاماء لرددته فانّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (3) .

    قال الكلبي : ثم أمر علي ( عليه السَّلام ) بكل سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقّوى به على المسلمين ، فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من ابل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/156.

    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 205.

    3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 15.

________________________________________

(23)

داره ، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو اُصيب أصحابها.

    فبلغ ذلك عمروبن العاص ، وكان بـ « ايلة » في أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، فنزلها فكتب الى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع اذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تُقشر عن العصا لحاها (1) .

    ما مارسه الامام لتحقيق المساواة من خلال ردّ قطائع عثمان كان جرس الانذار في أسماع عبَدة الدنيا وأصحاب الأموال المكدّسة ، أيّام خلافة الخليفة الثالث ، فوقفوا على انّ علياً لايساومهم بالباطل ، على الباطل ولايتنازل عن الحق لصالح خلافته.

    وعند ذلك بدأوا يتآمرون على خلافته الفتية في نفس المدينة المنورة وفي مكة المكرمة والشامات ، وقد كان هؤلاء متفرّقين في تلك البلاد.

    وهذا هوالموضوع الذي نطرحه في الفصل التالي ، وستعرف أنّ ظهور الخوارج في الساحة الاسلامية من مخلّفات هذا التآمر الذي رفع راياته الناكثون والقاسطون.

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1/270.

________________________________________

(24)

________________________________________

(25)

الفصل الثاني

حوادث وطوارئ مريرة في عصر الخلافة العلوية

 

________________________________________

(26)

________________________________________

(27)

    نهض الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالأمر ، بعد قتل الخليفة عثمان ، وقد عمّت الفتن والتمزّق والاضطراب الاُمّة الإسلامية ، وحاق بهم البلاء ، وصاروا شيعاً ، المعنّيون منهم ذوو أهواء وميول.

    فمن مسلم واع يرى بنور الإيمان خروج القياده الإسلامية عن الجادّة المستقيمة ، وليس لها جمالها الموجود في العهد النبوي ، ولا بعده إلى وفاة الشيخين ، وهم الذين ثاروا على السلطة ، وقتلوا الخليفة ، ولمّ يدفنوه ، حتى راحوا إلى رجل ليقوم بالأمر ويقيم الاود ، ويصلح ما فسد ، ولم يكن هذا الرجل إلاّ الإمام المعروف بالورع والّتقى ، وقوّة القلب ، ورباطة الجأش.

    إلى متوغّل في لذائذ الدنيا وزخارفها ، ادّخر من غنائمها وفراً ، وجمع من بيضائها وصفرائها ثروة طائلة ، واقتنى ضياعاً عامرة ، ودوراً فخمة ، وقصوراً شاهقة ، يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع ، كأنّ الدنيا خلقت لأجلهم ، فهؤلاء ـ بعد قتل الخليفة ـ لايرضون خروج الأمر من أيديهم ووقوعه في يد رجل لاتأخذه في الله لومة لائم والاُمّة الإسلاميّة عنده سواسية.

 

________________________________________

(28)

    إلى انتهازىّ لايهمّه شيء سوى طعمته في الملك والمال ، كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها.

    فقام الإمام بالأمر ، وهذا وصف مجتمعه ، وهم إلى الشدة والقسوة أقرب إلى الصلاح والفلاح. وأوّل من جهر بالخلاف وألَّب المخالفين على علىّ ، هو معاوية بن أبي سفيان فقد كان واقفاً على أنّ عليّاً لايساومه بأيّة قيمة ولايبقيه في مقامه الذي كان عليه من عصر الخليفة الثاني إلى يوم بويع علىّ بالخلافة ، فقام بتأليب بعض الصحابة على الامام وإغرائهم على الخلاف ، بحجّة أنّه أخذ البيعة لهم من أهل الشام ، وهذا نص رسالته إلى الزبير بن العوام وقد وقف على أنّه بايع عليّاً بملأ من الناس ، وفيها : « بسم الله الرحمن الرحيم ، فانّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لايسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لاشيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعتُ لطلحة بن عبيدالله من بعدك فاظهر الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما ».

    ولّما وصل هذا الكتاب إلى الزبير ، أعلم به طلحة فلم يشكّا في انّ معاوية ناصح لهما واجمعا عند ذلك على خلاف عليّ ( عليه السَّلام ) (1) .

    كانت الغاية الوحيدة من أخذ البيعة من رعاع الناس في الشام للزبير وطلحة وإعلامهما لذلك ، هو تشجيعهما على مخالفة الإمام ( عليه السَّلام ) بحجّة أنّهما خليفتان مترتبان ، وأنّه يجب على علىّ أن يترك الخلافة جانباً ، وبذلك أراد أن يحدث صدعاً في صفّ الذين بايعوا الإمام ، ويفتح باب الخلاف ونكث البيعة ، أمام الآخرين.

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1/231.

________________________________________

(29)

    كانت تلك الرسالة تحمل شروراً إلى الاُمّة الإسلامية وقد اغتر الشيخان بكلام ابن أبي سفيان فتآمرا على الخلاف ونكث البيعة على وجه يأتي شرحه.

    ولم يكن نكث البيعة منهما نهاية الخلاف ، بل كانت فاتحة لشرّ ثان وهو تجرّؤ معاوية على عليّ وبغيه على الإمام المفترض طاعته ، بالحرب الطاحنة ، وكان الإمام على أعتاب النصر و الظفر حتى نجم شرّ ثالت وهو خروج طائفة من أصحاب الامام عليه بحجة واهية تحكي عن سذاجة القوم وقلّة وعيهم : وهي مسألة التحكيم ، وبذلك خاض الإمام في خلافته القصيرة التي لاتتجاوز عن خمسة أعوام ، حروباً دامية ، يحارب الناكثين تارة ، والقاسطين اُخرى ، والمارقين ثالثة ، وفي ذلك يقول الإمام : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدارُ الآخرِة نَجْعَلُها لِلّذِينَ لايُريدونَ عِلُوّاً فِي الأرْضِ ولافَساداً وَ العاقِبَةُ للمتّقين ) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حَلِيَت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها (1) .

    قام الإمام بفقأ عين الفتنة بعد انتهاء حرب صفّين ـ وياللأسف ـ ولم يمض زمن إلى أن اُغْتِيل بيد أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود (2) ـ حسب تعبير النبي الأكرم ـ ، وبذلك طويت صحيفة عمره ولقى الله تعالى بنفس مطمئنة ، وقلب سليم ، وقد تنبّأ النبي الأكرم بحروبه الثلاثة ، وأنّه سيقاتل طوائف ثلاثة وهم بين ناكث وقاسط ومارق من الدين.

    روت اُمّ سلمة أنّ علياً ( عليه السَّلام ) دخل على النبي الأكرم في بيتها فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) مشيراً إلى علي : هذا والله قاتل الناكثين

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 3.

    2 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا 297.

________________________________________

(30)

والقاسطين والمارقين من بعدي (1) .

    وروى علي ( عليه السَّلام ) ، عن النبي الأكرم : أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (2) .

    هذا مجمل تلك الحوادث المريرة في خلافته ، وكانت فتنة الخوارج نتيجة الحربين الطاحنتين : الجمل وصفّين ، فلأجل اجلاء الحقيقة ورفع السترعن وجهها نعرضهما على القارىء ، على وجه خاطف ، والتفصيل على عاتق التاريخ.

________________________________________

    1 ـ ابن كثير الشامي : البداية والنهاية 7/305 ، وقد جمع أسانيد الحديث ومتونه.

    2 ـ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 4/340.

(31)

قتال الناكثين (1)

حرب الجمل

    النكث في اللغة هو نقض البيعة والمراد من قتال الناكثين : قتال الشيخين : الزبير وطلحة اللّذين نكثا بيعة الإمام وتبعهما طوائف من الناس ، بترغيب وترهيب ، وكان بدأ الخلاف انّ طلحة والزبير جاءا إلى عليّ وقالا له : يا أميرَ المؤمنين قد رأيتَ ما كنّا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلّها ، وعلمت رأي عثمان في بني اُميّة ، وقد ولاّك الله الخلافة من بعده ، فوّلنا بعضَ أعمالك ، فقال لهما : إرضيا بقَسم الله لكم. حتى أرى رأيي ، واعْلما أنَّي لا أشرك في أمانتي إلاّ مَن أرضى بدينه ، وأمانته من أصحابي ، ومن قد عرفت دخيلتَه.

    فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة (1) .

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 1/231 ـ 232.

________________________________________

(32)

    خرجا من عنده وهما غاضبان ويحتالان للخروج عن بيعته ونكثها ، وفي ذلك الظرف القاسي ، وصل إليهما كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة وأن أهلَ الشام بايعوا لهما إمامين مترتبين ، فاغترّا بالكتاب (1) وعزما النكث بجد.

    ثم دخلا على علىّ فاستاذناه في العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، فحلفا له بالله انّهما ما يريدان غير العمرة ، فقال لهما : ماالعمرة تريدان ، وانّما تريدان الغدرة ، ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولانكثَ بيعته يريدان وما رأيهما غير العمرة ، فقال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشدّ مايكون من الأيمان والمواثيق ، فأذنَ لهما فلمّا خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً : والله لاترونهما إلاّ في فتنة يقتتلان فيها. قالوا : يا أميرالمؤمنين فمُرْ بردِّهما عليك.

    قال : ليقضي الله أمراً كان مفعولا (2) .

 

خروج عائشة إلى مكة :

    غادرت عائشة المدينة المنوّرة عندما حاصر الثوار بيت عثمان ، ونزلت في مكة ، ووصل خبر قتل الخليفة إليها وهي فيها ، وكانت على تطلُّع إلى أين انتهت الثورة وإلى من آلت إليه الخلافة ، فغادرت مكة إلى المدينة فلمّا نزلت « سرف » لقيها عبد ابن اُمّ كلاب فقالت له : « مهيم »؟ قال : قَتَلوا عثمان فمكثوا ثمانياً ، قال : ثم صنعوا ماذا؟ قال : إجتمعوا على علىّ بن أبي طالب ، فقالت : و الله إنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك ، رُدّوني رُدّوني ، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدمه ، فقال لها ابن اُمّ كلاب : ولم؟ فوالله إنّ أوّلَ من اَمالَ حرفه لأنت ، ولقد كنت

________________________________________

    1 ـ تقدم نص الكتاب.

    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 1/231 ـ 232.

________________________________________

(33)

تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت : إنّهم استتابوه ، ثم قتلوه ، ولقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل ، فقال لها : ابن اُمّ كلاب :

منك البداء و منك الغيرو انتِ أمرتِ بقتل الإمامفهبنا اطعناكَ في قتلهو لم يسقط السيف من فوقنا                و منكَ الرياح و منكِ المطرو قلتِ لنا أنّه قد كفرو قاتلُه عندنا مَنْ اَمَرولم تنكسف شمسنا و القمر

    فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت الحِجْرَ وسترت ، واجتمع إليها الناس فقالت : يا أيّها النّاس انّ عثمان قد قتل مظلوماً والله لأطلبّن بدمه (1) .

    ثم إنّ طلحة والزبير بعدما استأذنا عليّاً غادرا المدينة ونزلا مكة ، وكانت بينهما وبين عائشة صلة وثيقة يتآمرون ضد عليّ فلمّا بلغ عليّاً مؤامرة الزبير وطلحة وانّهما نكثا ايمانهما وعلى أهبة المكافحة معه ، أشار بعض أصحابه أن لايتبعهما فأجاب علي بقوله : « والله لاأكون كالضبع تَنام على طول اللّدم ، حتى يصلَ إليها طالبها ، ويختلها راصدها ، ولكن أضرب بالمقبل إلى الحق ، المدبَر عنه ، وبالسامع المطيع ، العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي عليّ يومي » (2) .

 

مغادرة الشيخين وعائشة مكة :

    اتّفق المؤامرون ومعهم جماعة من أعداء الامام ، على أن يرتحلو إلى البصرة ، ويّتخذوها مقرّاً للمعارضة المسلّحة.

________________________________________

    1 ـ ابن قتيبة : الإمامة والسياسة 1/49. الطبري : التاريخ 3/477.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، خطبة 6.

________________________________________

(34)

    وقد كان عبدالله بن عامر ، عامل عثمان على البصرة ، هربَ منها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس ، جاريةُ بن قدامة السعدي ، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قِبَلِ علىّ.

    وانصرف عن اليمن عاملُ عثمان وهو يعلى بن متيه فأتى مكّة وصادف بها عائشه وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني اُميّة ، فكان ممّن حرّض على الطلب بدم عثمان وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى « عسكرا ». وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار فأرادوا الشام فصدَّهم ابن عامر ، وقال لهم : إنّ معاوية لا ينقاد اليكم ولايعطيكم من نفسه النصفة ، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد.

    فجهّزهم بألف ألف درهم ، ومائة من الابل وغير ذلك ، فسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فانتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب ، يعرف بـ« الحوأب » عليه اُناس من بني كلاب فعوت كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها : « الحوأب » ، فاسترجعتْ ، وذكرت ما قيل لها في ذلك (1) وقالت : رُدّوني إلى حرم رسول الله ، لاحاجة لي في المسير ، فقال الزبير : تالله ما هذا « الحوأب » ، ولقد غلط في ما أخبرك به ، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم بالله إنّ ذلك ليس بالحوأب وشهد معهما خمسون رجلا ممّن كان معهم.

    فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال ، ثم إنّهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى قدوم علىّ ، فلمّا كان في

________________________________________

    1 ـ ورد في حديث روته عائشة ، قالت : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول وعنده نساؤه : ليت شعري ايتكنّ تنبحُها كلابُ الحوأب سائرة إلى الشرق في كتيبة!

________________________________________

(35)

بعض الليالي ، بيّتوا عثمانَ بن حنيف فأسَروَه وضربوه ونتفوا لحيته ، ثم إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه : سهل بن حنيف وغيره من الأنصار ، فخلوا عنه وأرادوا بيت المال فمانعهم الخُزّان والموكّلون به فقتل منهم سبعون رجلا من غير جرح ، وخمسون من السبعين ضربت أعناقهم صبراً من بعد الأسر ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي وكان من سادات عبد القيس ، وزهّاد ربيعة ونُسّاكها و تشاح طلحة والزبير في الصلاة بالنّاس ، ثمّ اتّفقوا على أن يصلّي بالناس عبدالله بن الزبير يوماً ومحمّد بن طلحة يوماً في خطب طويل كان بين طلحة والزبير.

 

مسير علي إلى جانب البصرة :

    وقف الامام على أنّ المتآمرين خرجوا من مكّة قاصدين البصرة ، فاهتم الامام بايقافهم في الطريق قبل الدخول إليها فسار من المدينة بعد أربعة أشهر من بيعته في سبعمائة راكب ، منهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار ، منهم سبعون بدريّاً وباقيهم من الصحابة ، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري ، فانتهى إلى الربذة بين مكّة والكوفة ، وكان يترقّب إلقاء القبض على رؤوس الفتنة قبل الدخول الى البصرة ، لكن فاته ما يترقّب لأنّهم سبقوا الامام في الطريق ولحق بعلي من أهل المدينة ، جماعة من الأنصار ، فيهم خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وأتاه من طىّ ستمائة راكب (1) .

    خرج عثمان بن حنيف من البصرة ، وقدم على علي ( عليه السَّلام ) بالربذة ، وقد نتفوا رأسه ولحيته وحاجبيه ، فقال : يا أميرالمؤمنين بعثتني ذا لحية ،

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/103 ـ 104 طبعة بيروت. الطبري : التاريخ 3/485. واللفظ للأوّل ، وفي لفظ الطبري زيادات تركناها روماً للاختصار.

________________________________________

(36)

وجئتك أمرد ، فقال : أصبتَ خيراً وأجراً (1) .

    واتصلت بيعة علي بالكوفة : وغيرها من الأنصار ، وكانت الكوفة أسرعها إجابة إلى بيعته ، وأخذ له البيعة على أهلها ـ على كره ـ أبوموسى الأشعري حين تكاثر الناس عليه ، وكان عاملا لعثمان عليها (2) .

    لمّا وقف الامام على ماجرى على عثمان بن حنيف وحَرَسِه ، بعثَ بعض أصحابه بكتاب إلى أبي موسى الأشعري يطلب منه استنهاضه للناس ، ولكنّه تهاون في الأمر ولم يَقُم بواجبه بعدما أخذ البيعة له ، واعترف بإمامته ، وقال للناس : إنّها فتنة صمّاء ، النائم فيها خير من اليقضان ، واليقظان فيها خير من القاعد ، والقاعد خير من القائم ، والقائم خير من الراكب ، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، فاغمدوا السيوف ، وانصلوا الأسنَّة ، واقطعوا الأوتار ، وآووا المظلوم و المضطهد حتى يلتئم هذا الأمر ، وتتجلّى هذه الفتنة.

    ولّما بلغ عليّاً خذلان أبي موسى الأشعري ، وانّه يصف محاربة الناكثين بالفتنة ، بعث هاشم بن هاشم المرقال وكتب الى أبي موسى : « إنّي لم اُولِّك الذي أنت به إلاّ لتكونَ من أعواني على الحق .... »

    وكان أبوموسى من أوّل الأمر عثمانّي الهوى وقد أخذ البيعة لعلي على الناس بعد اكثار الناس عليه ـ كما تقدم ـ فلأجل ذلك بقى على ما كان عليه من الحياد ، ولم يُنهِض الناس ، واستشار السائب بن مالك الأشعري فأشار هو باتباع الإمام ومع ذلك لم يقدم عليه (3) .

    فكتب هاشم إلى علىّ ، امتناع أبي موسى من الاستنفار.

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/495.

    2 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/97.

    3 ـ الطبري : التاريخ 3/503.

________________________________________

(37)

    ولمّا تمّت الحجة عند الإمام انّ الرجل ليس على وتيرة صحيحة ، عزله عن منصبه فولّى على الكوفة قرظة بن كعب الأنصاري و كتب إلى أبي موسى اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحوراً ، فما هذا أوّلُ يومنا منك و انّ لك فينا لهنات وهنات.

    وسار علي فيمن معه حتى نزل بذي قار وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس ، فسارا عنها و معهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف ، وقيل ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا منهم الأشتر.

    فانتهى علي إلى البصرة وراسل القوم وناشدهم فأبوا إلاّ قتاله (1) .

    قد وصلنا إلى أعتاب الحرب الطاحنةِ المعروفة بحرب « الجمل » وقبل الخوض في تفصيلها نشير إلى نكات تستفاد فيما سردناه من المقدمات ، ثم نخوض في صلب الموضوع حسب اقتضاء المقام.

    1 ـ إنّ الزبير و طلحة بايعا عن طوع ورغبة ولكن بايعا لبغية دنيوية وطمعاً في المال و المقام ، ولم يمض زمان من بيعتهما إلاّ وقد أتيا عليّاً يسألانه اشتراكهما في بعض أعماله ، وكان لهما هوى في ولاية الكوفة والبصرة ، وكانت ديانة علي ( عليه السَّلام ) تصدّه عن الاجابة ، إذ لم يكونا صالحين لما يطلبانه ، وقد أثبتا ذلك ـ قبل اشعال نار الحرب ـ بنكثهما وتحريضهما الناس على النكث وقتلهم الأبرياء من الموكّلين وحرس بيت المال ، وقد انتهى الأمر بسفك دماء آلاف من المسلمين.

    كل ذلك يعرب عن أنّ مقاومة علي ، تجاه طلبهما كانت أمراً صحيحاً يرضي به الربّ ورسوله ، ولم يكن لعلي هوى إلاّ رضى الله سبحانه ورضى رسوله.

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/104.

________________________________________

(38)

2 ـ إنّ أباموسى الأشعري الذي قلَّب الاُمور على علىّ في قضية التحكيم

    كان من أوّل الأمر غير راض ببيعة الإمام ولم يأخذ البيعة له إلاّ بعد اكثار الناس ، ولمّا أمره الإمام باستنهاض الناس و استنفارهم خذَّل الناس عن علي.

    والعجب انّه كان يتمسّك في نفس الواقعة برواية سمعها من النبي أنّه قال : ستكون فتنة : القاعد فيها خير من النائم ، والنائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب (1) .

    نحن نفترض أنّه سمع من النبي ذلك الكلام ، ولكّنه هل يمكن له تسمية مبايعة المهاجرين و الأنصار فتنة ، فلو صحّ ذلك ـ ولن يصحّ حتى لو صحّت الأحلام ـ لماذا لاتكون مبايعتهم السابقين من الخلفاء فتنة ، يكون القاعد فيها خيراً من القائم ، مع أنّ أبي موسي كان فيها من القائمين ، وقد قبل الولاية في عصر الخليفتين ، الثاني والثالث ، حتى اعتنق بيعة الإمام بعد اكثار الناس.

    ومن بايع رجلا على الإمامة والقيادة ، كان عليه الذبّ عن إمامه و حياض سلطته.

    3 ـ إنّ الإمام ( عليه السَّلام ) أشار بقوله : « فما هذا أوّل يومنا منك و أنّ لك فينا لهنات و هنات » إلى الجناية التي سوف يرتكبها أبوموسى في قضية التحكيم حيث يخلع عليّاً عن الإمامة والخلافة كما سيوافيك تفصيله.

    4 ـ إنّ في منازعة الشيخين : الزبير وطلحة في أمر جزئي كالإمامة في الطلاة ، يعرب عن طويتهما وما جبّلا عليه من التفاني في الرئاسة ، انظر إلى الرجلين يريدان أن يقودا أمر الجماعة ويكونا امامان للمسلمين وهذه نزعتهما.

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/498.

________________________________________

(39)

على أعتاب حرب الجمل :

    سار عليّ حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية ، فصلّى أربع ركعات ، وعفر خدّيه على التراب وقد خالط ذلك بدموعه ثم رفع يديه يقول : اللّهمّ ربَّ السماوات وما أظلّتْ ، وربّ العرش العظيم ، هذه البصرة ، أسألك من خيرها ، وأعوذبك من شرّها ، اللّهمّ انزلنا فيها خير منزل ، وأنت خير المنزلين ، اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم قد بغوا علىّ وخلعوا طاعتي ونكثوا بيعتي ، اللّهمّ أحقن دماء المسلمين.

    ثمّ بعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء ، وقال : « علام تقاتلونني؟ » فأبوا إلاّ الحرب ، فبعث إليهم رجلا من أصحابه يقال له مسلم ، معه مصحف يدعوهم إلى الله تعالى فرموه بسهم فقتلوه ، فحمل إلى علي قتيلا.

    فأمر عليّ أصحابه أن يصافوهم ولايبدؤهم بقتال ولايرموهم بسهم ، ولايضربوهم بسيف ، ولايطعنوهم برمح. حتى جاء عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول ، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل ، فقال عليّ : اللّهمّ اشهد. أعذروا إلى القوم ، ثم قام عمّار بن ياسر بين الصفّين فقال : أيّها القوم ما أنصفتم نبيّكم حين كفقتم عقائلكم في الخدور ، وأبرزتم عقيلته للسيوف ، وعائشة على الجمل في هودج من دفوف الخشب ، قد ألبسوه المسوحَ وجلودَ البقر ، وجعلوا دونه اللبود ، وقدغشى على ذلك بالدروع ، فدنا عمّار من موضعها فناداها : إلى ماذا تدعين؟ قالت : إلى الطلب بدم عثمان ، فقال : قاتل الله في هذا اليوم الباغيَ و الطالبَ لغير الحق ، ثم قال : أيّها النّاس إنّكم لتعلمون أيّنا الممالى في قتل عثمان ، ثم أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبال :

فمنكِ البكاء و منكِ العويل               و منكِ الرياح و منكِ المطر

 

 

________________________________________

(40)

و أنت امرتَ بقتل الإمام                   و قاتله عندنا من امر

    وتواتر عليه الرمي فاتصل فحّرك فرسه ، وزال عن موضعه وأتى عليّاً ( عليه السَّلام ) فقال : ما تنظر يا أمير المؤمنين وليس عند القوم إلاّ الحرب.

 

خطبة علي يوم الجمل :

    فقام علي في الناس خطيباً ورافعاً صوته يقول : أيّها النّاس إذا هَزَمتموهم فلا تُجْهِزوا على جريح ولاتَقْتلوا أسيراً ، ولاتتبعوا مولّياً ، ولاتطلبوا مُدْبراً ، ولاتكشفوا عورة ولاتمثلوا بقتيل ، ولاتهتكوا ستراً ، ولاتقربوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما تجدونه في عسكرهم من سلاح ، أوكراع ، أوعبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث ورثتهم على كتاب الله.

    ثمّ إنّ عليّاً نادى كلاّ من الزبير وطلحة وكلّمهما وأتمّ عليهما الحجة فقال للأوّل : أما تذكر قول رسول الله عندما قلت له : اِنّي أحبُّ عليّاً ، فأجابك إنّك والله ستقاتله وأنت له ظالم ، وقال للثاني : أما سمعت قول رسول الله يقول : الّلهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأنت أوّل من بايعتني ثم نكثت ، وقد قال الله عزوجل : ( فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكِثُ عَلى نَفْسِهِ ).

    ثمّ رجع علي إلى موضعه ، وبعث إلى والده محمّد بن الحنفية وكان صاحب رايته وقال : « احمل على القوم » فلم يرمنه النجاح والظفر فأخذ الراية من يده ، فحمل و حمل الناس معه فما كان القوم إلاّ كرماد اشتدَّت به الريح في يوم عاصف وأطاف بنوضبّة بجمل عائشة وأقبلوا يرتجزون.

نحن بنوضبَّة اصحابَ الجملننعي ابن عفان باطراف الأسل                 رُدّوا علينا شيخنا ثم بجلوالموت أحلى عندنا من العسل

 

(41)

    وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ظبّة ، منهم : كعب بن سور القاضي ، كلّما قطعت يد واحد منهم فصرع ، قام آخر فأخذ الخطام ، ورمي الهودج بالنبل ، حتى صار كأنّه قنفذ ، وعُرْقبَ الجمل ولمّا سقط ووقع الهودج ، جاء محمّد بن أبي بكر فأدخل يده ، فقالت : « من أنت؟ » فقال : أخوك ، يقول أمير المؤمنين هل أصابك شيء ، قالت : « ما أصابني إلاّ سهم لم يضرَّني » فجاء علي حتى وقف عليها و ضرب الهودج بقضيب وقال : « يا حميراءُ أرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أمركِ بهذا ، ألم يأمركِ أن تقرّي في بيتكِ ، والله ما أنصفكِ الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم ، وأبرزوك » وأمر أخاها محمداً ، فأنزلها دار صفيّة بنت الحارث بن طلحة.

    ولمّا وضعت الحرب أوزارها جهّز علي ( عليه السَّلام ) عائشة للخروج إلى المدينة فقالت له : « إنّي اُحبّ أن اُقيم معك فأسير إلى قتال عدوّك عند مسيرك » فقال : « ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله » فسألته أن يؤمّن ابن اختها عبدالله بن الزبير ، فأمَّنه ، وتكلّم الحسن و الحسين في مروان ، فأمَّنه ، وأمّن الوليد بن عقبة ، وولد عثمان و غيرهم من بني اُميّة و أمّن الناس جميعاً ، وقد كان نادى يوم الوقعة « مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن ، و من دخل داره فهو آمن ».

    وكانت الوقعة في الموضع المعروف بالخريبة و ذلك يوم الخميس لعشر خلون من جُمادى الآخرة سنة 36 وخطب على الناس بالبصرة بخطبة ، وقد قتل فيها ، من أصحاب علي ( عليه السَّلام ) خمسة آلاف و من أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألف رجل ، وكان بين خلافة علي ووقعة الجمل خمسة أشهر وواحد وعشرون يوماً.

    وولّى على البصرة ، عبدالله بن عباس ، وسار إلى الكوفة فدخل إليها في

 

________________________________________

(42)

الثاني عشر من رجب شهور سنه 36 (1) .

    ولكن الإمام عبده ، نقل انّه قتل سبعة عشر ألفاً من أصحاب الجمل و قتل من أصحاب علي ألف و سبعون (2) .

    وعلى كل تقدير فهذه الضحايا كانت خسارة عظيمة في الإسلام ، وقد عرقلت خطاه ، وشلّت الزحوف الإسلامية في أوّل عهدها في الفتوح ، ولولا هذه الحروب الداخلية ، لكان للعالم حديث غير هذا ، ولو كان الإمام هو القابض لزمام القيادة في جو هادىء ، لكان الوضع السائد على الإسلام ، غيرما هو المشاهد ـ وياللأسف ـ.

    « ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ».

    وقد حفظ التاريخ من الامام يوم ذاك عواطف سامية وسماحة ورحب صدر على حدّ لم يسبق إليه أحد ، غير النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عندما فتح مكّة ، فلم يأخذ من أهل البصرة شيئاً سوى ما حواه العسكر. و كان هناك جماعة يصرّون على أن يأخذ الامام منهم ، عبيداً وإماءً فاسكتهم الإمام بقول : أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنّين في سهمه (3) . وقد علّم الامام بسيرته كيفيّة القتال مع البغاة من أهل القبلة.

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/107 ـ 117. بتلخيص : لاحظ الطبري : التاريخ 3/543.

    2 ـ الإمام عبده : شرح نهج البلاغة 40.

    3 ـ وسائل الشيعة 11/59 ـ 60.

________________________________________

(43)

قتال القاسطين (2)

حرب صفّين

    قد تعرفت على أنّ النبي الأكرم أخبر عليّاً بأنّه سيقاتل القاسطين بعد الناكثين ، وقد وقفت على مأساة حرب الناكثين وعرفت نواياهم وجناياتهم عن كثب ، التي ارتكبوها في طريق ألتسنُّم على عرش القيادة ، وأراقوا دماء بريئة حتى يُسمُّوا أمير المؤمنين وما أجرأهم على حرمات الله وماأشقاهم.

    هلم معي نقرأ مأساة قتال القاسطين الذين حادوا عن الحق ، والطريق المهيع ، وحاربوا الإمام المفترض طاعته ، يقودهم معاوية بن أبي سفيان ابن آكلة الأكباد ، ولاغرو فإنّ أباه هو العدوّ الأوّل للنبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) الذي حزّب الأحزاب على الإسلام و المسلمين.

 

________________________________________

(44)

الخلافة كانت الامنية القصوى لمعاوية :

    إنّ الخلافة كانت اُمنية في نفس معاوية ، ولكن تقلُّدَ الإمام للخلافة ، أفسد عليه الأمر ، ولم يكن باستطاعته منافسة الإمام علي ( عليه السَّلام ) ولأجل ذلك حاول إحداث الصدع في صفِّ الاُمّة ، فأطمع الشيخين في طلب الخلافة ، وقد قُتِلا خائبين فلم يَجد مناصاً إلاّ أن يقوم في وجه الامام تحت ستار أخذ ثأر الخليفة المظلوم.

    كان معاوية ـ يطلب من الإمام ـ طول محاربته ـ اقراره على ولاية الشام كاقرار الخليفتين له حتى يُسلِّم له الأمر و يعترف بخلافته ، ولكن الإمام عليّاً لم يرض ببقائه في الحكم لعلمه بسوء عمله خلال ولايته.

    وقد أشار إلى ابقائه المغيرة بن شعبة ، وقال : واترك معاوية ، فإنّ لمعاوية جرأة فهو في أهل الشام يُسمع منه ولك حجة في اثباته لأنّ عمر بن الخطاب ولاّه الشام كلّها ، ولكن الإمام لم يقبل اقتراحه ، وقال : « لا و الله لا استعمل معاوية يومين أبداً » (1) .

    بعث الإمام جريراً إلى ولاية الشام ليأخذ منه البيعة ، فأتى معاويةُ جريراً في بيته فقال : يا جرير إنّي قد رأيت رُؤياً ، فقال : هات ، قال : اكْتُب إلى صاحبك ليجعل لي الشام و مصر ، جباية ، فإذا أحضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي ، واُسلِّم له هذا الأمر واكْتُبُ إليه بالخلافة ، فقال جرير : اكتب بما أردت ، فكتب معاوية بذلك إلى علي ، فلمّا وصل كتاب جرير مع كتاب معاوية ، فكتب علي إلى جرير : أمّا بعد فإنّما أراد معاوية أن لا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحبَّ (2) ، وأراد أنْ يريّثك حتى يذوق أهل الشام ،

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/461.

    2 ـ سيأتي التصريح بذلك في كتاب معاوية إلى الإمام قرب ليلة الهرير ، والامام تفطّن بذلك بنور الله الذي ينظر به المؤمن.

________________________________________

(45)

وأنّ المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله يراني أتّخذ المضلّين عضداً ، فإن بايعك الرجل ، وإلاّ فاقبل (1) .

    كتب معاوية إلى علي مرة اُخرى قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة يسأله اقراره على الشام ، وذلك انّ عليّاً قال : لاُناجزنَّهم مصبحاً ، و تناقل الناس كلمته ، ففزع أهلُ الشام لذلك ، فقال معاوية : قد رأيت أن اعاوِدَ عليّاً وأسأله اقراري على الشام ، فقد كنت كتبت إليه ذلك ، فلم يجب إليه ولاُكْتُبنّ ثانية ، فألقي في نفسه الشك و الرقّة ، فكتب إليه :

    « أمّا بعد ... وقد كنت سألتك الشام على الاّ تلزمني لك بيعة و طاعة ، فأبيت ذلك عليّ فأعطاني الله مامنعت وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ... ».

    فكتب في جوابه : « ... وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك اليوم مامنعتك أمس » (2) .

    هذه الكتب وغيرهما من القرائن والشواهد ، تعرب عن أنّ الغاية الوحيدة لابن أبي سفيان ، هو الولاية على الشام وبقاؤه في الحكم ، مادام عليّ على قيد الحياة ، ثم السيطرة على جميع البلاد الاسلامية ، وأمّا طلب ثأر عثمان ، والقصاص من قتلته ، فكلّها كانت واجهة لما كان يضمره ويخفيه ، ولأجل ذلك نرى أنّه لمّا تمّ الأمر لصالحه ، تناسى قتلة عثمان وتناسى الأخذ بثأره ، وليس هذا ببعيد من الساسة الذين لا يتحلون بالمبدئية في سلوكهم ، ويرفعون عقيرتهم بشعارات خادعة من أجل تحقيق أطماعهم الشخصية.

________________________________________

    1 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفين 52.

    2 ـ ابن قتيبة : الإمامة و السياسة 1/109. ابن مزاحم : وقعة صفين 470.

________________________________________

(46)

    وبذلك تقف على مؤامراته وخططه الشيطانية ، حيث كان شعاره منذ أن خالف : يالثارت عثمان.

    وقد ردّ الإمام عليه في بعض كتبه إليه وفي بعضها مانصّه :

    « قد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل الناس ، ثم حاكم القوم إليّ ، أحْمِلُك وإيّاهم على كتاب الله » (1) .

    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة أنّ الاُمنية الكبرى لمعاوية من تسعير نار الحرب ، هو البقاء على السلطة ، وتقلّد الخلافة العامة بعد علي ، ولم يكن له أيّ إربة في مايدعيه ، وينشره من أخذ الثأر وغيره ، فلزم عندئذ أن نتعرّف على خططه في تلك الحرب الطاحنة التي سعّرها بأنانّية.

 

مخططات معاوية :

    كانت صحابة النبي الأكرم من أوّل يوم تُقلِّد الإمام علي الخلافة ، وراءه يؤّيدونه بألسنتهم وأيديهم ، إلانفر قليل لم يبايعوه وهم لايتجاوزن عدد الأصابع (2) ولم يكن لمعاوية ما كان لعلي من السبق في الإسلام ، والجهاد في سبيل الله ، والقرابة الوثيقة من النبي الأكرم ، فلم يكن له بدّ من التخطيطات الشيطانية حتى يقف سدّاً في وجه علي ، وإليك تخطيطاته :

 

1ـ الاتصال بعمرو بن العاص :

    أنّ عمروبن العاص ، كان داهية العرب ، وقد اتّصل به معاوية وكان منحرفاً عن عثمان لأنّه عزله عن ولاية مصر ، وولاّها غيره ، فلمّا بلغ إليه خبر

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الكتب برقم 64. المبرّد : الكامل 1/194.

    2 ـ ابن الأثير : الكامل 3/98 وقد ذكر أسماءهم.

________________________________________

(47)

بيعة الناس لعلي ، كتب إلى معاوية يهزِّه ويشير إليه بالمطالبة بدم عثمان ، وكان فيما يكتب به إليه : « ما كت صانعاً إذا قُشِرْتَ من كل شيء تملكه؟ فاصنَع ما أنت صانع » فبعث إليه معاوية فسار إليه ، فقال له معاوية : بايعني ، قال : « لا والله لا اُعطيك من ديني (1) حتى أنال من دنياك ». فقال : « سل » ، قال : « مصر طعمة » ، فأجابه إلى ذلك وكتب له به كتاباً ، فقال عمروبن العاص في ذلك :

معاوي لا اُعطيك ديني ولم أنلفإن تعطني مصراً فأربح بصفقة            به منك دنياً فانظرن كيف تصنعأخذت بها شيخاً يضرّ وينفع (2)

 

2 ـ قميص عثمان المخضَّب بالدم :

    قدم النعمان بن بشير بكتاب زوجة عثمان وقميصه المخضَّب بالدم ، إلى معاوية فلمّا قرأ معاوية الكتاب صعد المنبر وجمع الناس ، ونشر عليهم القميص ، وذكر ماصنعوا بعثمان ، فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق ، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه ، فقام إليه أهل الشام ، فقالوا : هو ابنُ عمِّك وأنت وليّه ، ونحن الطالبون معك بدمه ... فبايعوه أميراً وبعث الرسل إلى كور الشام ، حتى بايعه الشاميون قاطبةً إلاّ من عصمه الله (3) .

 

3 ـ الاستنصار بالشخصيات المرموقة :

    وجّه عليّ عند مغادرته البصرة إلى الكوفة كتاباً إلى معاوية يدعوه إلى

________________________________________

    1 ـ اظن انّ الرجل باع مالا يملك ولم يكن له أيّ دين في ذاك اليوم ، وقد نهى رسول الله عن بيع مالا يملكه الرجل. و قال : لاتبع ماليس عندك.

    2 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/98. الطبري : التاريخ 3/560.

    3 ـ ابن الاثير : الكامل 3/141 ـ ذكر ابتداء وقعة صفّين.

________________________________________

(48)

بيعته ويذكر فيه اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ، ونكث طلحة والزبير ، وماكان من حربه إيّاهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته (1) .

    ولمّا قرأ معاوية كتاب علي استشار عمروبن العاص ، فأشار إليه بقوله : « إنّ رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكنديّ ، وهو عدو لجرير المرسَل إليك ، فارسل إليه و وطّن له ثقاتك فليفشوا في الناس أنّ علياً قتل عثمان وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل فإنّها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلّقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبداً ».

    فكتب معاوية إلى شرحبيل انّ جرير بن عبدالله قدِم علينا من عند عليّ بن أبي طالب بأمر فظيع ، فاقبل.

    فلمّا قدم كتابُ معاوية على شرحبيل وهو بحمص ، استشار أهلَ اليمن (المتواجدين في حمص) فاختلفوا فيه ولكن عبدالرحمن بن غنم الأزدي أشار إليه بقوله : « إنّ الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم ، وانّه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من النّاس ، ( و لايُغيِّر الله ما بِقَوْم حتّى يُغَيّروا ما بِاَنْفُسِهِم ) ، إنّه قد اُلقِىَ إلينا قتل عثمان وانّ عليّاً قتل عثمان ، فإن يك قَتَله فقد بايعه المهاجرون والأنصار وهم الحُكّام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصُدِّق معاوية عليه ، لا تُهْلِك نفسك وقومك ، فان كرهت أن يذهب بحظِّها جرير ، فسر إلى عليّ ، فبايعه على شامك وقومك ، فأبى شرحبيل إلاّ أن يسير إلى معاوية.

    لم يكن عبدالرّحمن بن غنم الأزدي الرجل الوحيد الذي نصحه بل اجتمع هو مع جرير ، فقال له جرير أمّا قولك إنّ عليّاً قتل عثمان ، فوالله ما في

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/560 ـ 561.

________________________________________

(49)

يديك من ذلك إلاّ القذف بالغيب من مكان بعيد ولكنّك مِلْتَ إلى الدنيا (1) .

    كان مبعوث الإمام يحاول أن يرد شرحبيل عن دَعْم فكرة معاوية ، فكتب إليه أيضاً كتاباً ضمَّنه قصيدة ، فلمّا قرأه شرحبيل ذعر وفكَّر وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي ، والله لاأعجل في هذا الأمر بشيء.

    فلمّا بلغ معاوية تردّد زاهد الشام وناسكه لفَّف له الرجال ، يدخلون إليه ويخرجون ويُعظِّمون عنده قتل عثمان ، ويرمون به عليّاً ويقيمون الشهادة الباطلة ، والكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه وشحَّذُوا عزمه ، وصار معاوية يملك قلوب الشاميين بواسطة هذا الرجل المتخّبط ، ولمّا استنهضهم للقتال قاموا جملة واحدة.

 

4 ـ رسائل معاوية إلى الشخصيات :

    قام معاوية بإرسال رسائل إلى شخصيات إسلامية كانوا محايدين ، فكتب إلى عبدالله بن عمر ، وسعد بن أبي وقّاص ، ومحمّد بن مسْلمة ، يدعوهم إلى الثورة على علي ، فكتب إلى ابن عمر بقوله : « لم يكن أحد من قريش أحبَّ إليّ أن يجتمع عليه الأُمّة بعد قتل عثمان منك ، ثم ذكرتُ خَذْلك إياه ، وطعنَك على أنصاره ، فتغيّرتُ لك ، وقد هوَّن ذلك عليَّ خلافُك على عليّ ، ومَحا عنك بعض ما كان مَنك ، فأعِنَّا يرحمك الله ـ على حق هذا الخليفة المظلوم ، فإنّي لست اُريد الإمارة عليك ، ولكنّي اُريدها لك ، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين.(2)

    وكتب إلى سعد بن أبي وقّاص : أمّا بعد فإنّ أحق الناس بنصرة عثمان ، أهل الشام والذين أثبتوا حقَّه واختاروه على غيره (3) وقد نصره طلحة والزبير ،

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 45 ـ 48.

    2 ـ نفس المصدر : 80.

    3 ـ يريد بذلك سعد بن أبي وقاص حيث نصر عثمان في الشورى المعقوده لتعيين الخليفة بعد قتل عمر ، بأمره.

________________________________________

(50)

وهما شريكاك في الأمر والشورى ، وناظراك في الاسلام ...

    وكتب إلى محمّد بن مسلمة يتّهمه بخذلان عثمان ويقول « .... فهّلا نهيتَ أهلَ الصلاة عن قتل بعضهم بعضاً أوترى أنّ عثمان وأهل الدار ليسوا بمسلمين .... » (1) .

    فهذه الاُمور تعرب عن تخطيطاته الخادعة التي حفظ التاريخ بعضها فكان يُعْمِي الأبصار والقلوب بأكاذيبه ورسائله ، فتارة يبايع الزبير وطلحة ، ولمّا فشل أمرهما ، صار يُقدِّم عبدالله بن عمر في أمر الخلافة لولا أنّه خذل عثمان ولم ينصره ، كل ذلك لعكر الصفو وإحداث الصدع.

    إنّ ابن عمر ـ مع سذاجته ـ وقف على نوايا معاوية ، فكتب إليه بكلمة صادقة ، و قال : ما أنا كعلي في الإسلام ، والهجرة ، ومكانه من رسول الله.

    ويجيب سعد بن أبي وقّاص رسالة معاوية بقوله : إن أهل الشورى ليس منهم أحقُّ بها من صاحبه غير أنّ عليّاً كان من السابقة ، ولم يكن فينا مافيه ، فشاركنا في محاسننا ، ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقَّنا كلّنا بالخلافة.

    ويجيب محمّد بن مسلمة ، كتاب معاوية ويفشي سرّه ويقول بعد كلام : « ولئن نصرتَ (يا معاوية) عثمان ميّتاً ، لقد خذَلْته حيّاً » (2) .

 

جهود علي ومساعيه لإخماد الفتنة :

    بلغ عليّاً سعي معاوية لإثارة الفتنة بنشر الأكاذيب بين الشاميين وتعمية القلوب ، فعمد إلى إخمادها قبل اشتعالها وكان الإمام على بيّنة من ربّه ، وكيف لا وهو الإمام المنتخب ببيعة الأنصار والمهاجرين ، والخارج عليه ، خارج على

________________________________________

    1 ـ ابن قتيبة الدينوري : الإمامة والسياسة 1/92 ـ 93.

    2 ـ ابن قتيبة الدينوري : الإمامة والسياسة 1/93 ـ 94.

(51)

الإمام المفترض الطاعة (1) فلمّا أراد المسير إلى الشام جمع من كان حوله من المهاجرين والأنصار فحمدالله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعدُ : فإنّكم ميامين الرأي ، ومراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوّكم فأشيروا علينا برأيكم ، فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص ، وعمّار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري يحثّون عليّاً ( عليه السَّلام ) على قطع جذور الفتنة.

    فقال عمّار : يا أمير المؤمنين ، إن استطعت أن لا تُقيم يوماً واحداً فافعل. اشخص قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة ، وادْعهم إلى رشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلاّ ضربَنا ، فوالله إنّ سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وهو كرامة فيه.

    وقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمتَ وحرب لمن حاربتَ ورأينا رأيك ونحن كف يمينك.

    إلى كلمات محرّضة وجمل حاثّة إلى الكفاح واخماد النار قبل اشتعالها. فلمّا سمع الإمام هذه الكلم النابعة من صميم الإيمان والنصح للإسلام ، قام خطيباً على منبره فحمدالله وأثنى عليه ثم قال : سيروا الى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار (2) .

    يقول المسعودي : كان مسير علي ( عليه السَّلام ) من الكوفة إلى صفّين

________________________________________

    1 ـ أين الذين يقولون « ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ، وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لايقاتلوا في الفتن » لا حظ مقالات الاسلاميين 323 ، للامام الأشعريّ.

    2 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 92 ـ 93.

________________________________________

(52)

لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين ، واستخلف على الكوفة أبا مسعود ، عُقْبة بن عمرو الأنصاري ، فاجتاز في مسيره بالمدائن ، ثمّ أتى الأنبار حتى نزل الرقة فعقدله هنالك جسر فعبر إلى جانب الشام ، وقد اختلف في مقدار من كان معه من الجيش ، والمتّفق عليه من قول الجميع تسعون ألفاً.

    وسار معاوية من الشام إلى جانب صفّين ، وقد اختلف من كان معه ، والمتّفق عليه من قول الجميع خمسة وثمانون ألفاً (1) .

 

خروج معاوية إلى صفّين :

    خرج معاوية من الشام وقدم صفّين وغلب على الماء ، ووكّل أبا الأعور السلمي بالشريعة في أربعين ألفاً ، وبات علي وجيشه في البرّ عطاشى ، قد حيل بينهم وبين الورود ، فقال عمروبن العاص لمعاوية : إنّ عليّاً لا يموت عطشاً ومعه تسعون ألفاً من أهل العراق دعهم يشربون ونشرب ، فقال معاوية : لا والله أويموت عطشاً كما مات عثمان.

 

استعادة الشريعة من جيش معاوية :

    دعا علي بالأشتر فبعثه في أربعة آلاف من الخيل والرجالة ، ثمّ سار عليّ وراء الأشتر بباقي الجيش ، فما ردّ وجهه أحد حتى هجم على عسكر معاوية ، فأزال أبا الأعور عن الشريعة ، وغرق منهم بشراً وخيلا. وتراجع جيش معاوية عن الموضع الذي كان فيه ، فقال معاوية لعمروبن العاص : أترانا ليمنعنا الماء كمنعنا إيّاه ، فقال له عمرو : لا ، لأنّ الرجل جاء لغير هذا ، فأرسل إليه معاوية يستأذنه في ورود مشرعته واستقائه الماء في طريقه ، ودخول رُسُله في عسكره ،

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/121.

________________________________________

(53)

فأجاب علي إلى كل ما سأل وطلب منه (1) .

    نزل الإمام علي منطقة صفّين في أوّليات ذي الحجة عام 36 ، والشهر من الأشهر الحرم ، وبعث إلى معاوية يدعوه إلى إجتماع الكلمة والدخول في جماعة المسلمين ، فطالت المراسلة بينهما فاتّفقوا على الموادعة إلى آخر محرّم سنة سبع وثلاثين.

    ولمّا انقضى شهر محرّم ، بعث علي إلى أهل الشام إنّي قد احتججت عليكم بكتاب الله تعالى ، ودعوتكم إليه ، وإنّي قد نبذت إليكم على سواء ، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين. فما كان جوابهم إلاّ قولهم : السيف بيننا وبينك حتى يهلك الأعْجزُ منّا.

    أصبح عليّ يوم الأربعاء وكان أوّلَ يوم من شهر صفر ، فعبّأ الجيش وأخرج الأشتر أمام الجيش ، فأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وكان بينهم قتال شديد وأسفر عن قتلى بين الفريقين جمعياً.

    امتدت الحرب كل يوم إلى عاشر ربيع الأوّل عام سبع وثلاثين وكان النصر حليفه في كل يوم إلى أن لم يبق للعدو إلاّ النفس الأخير ، فعنذاك قام علي ينادي :

    ياالله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا الله ، يا الله ، اللّهُمّ إليك نقلتِ الأقدام ، وأفضتِ القلوب ، ورفعت الأيدي ، وامتدّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وطلبت الحوائج ، اللّهُمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا ، وكثرة عدوّنا وتشّتت أهوائنا ، ربّنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ، ثم قال :

    سيروا على بركة الله ، ثم لا إله إلاّ الله ، و الله أكبر ، كلمة التقوى.

________________________________________

    1 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 157 ـ 162.

________________________________________

(54)

قال الراوي : لا والله الذي بعث محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بالحق ماسمعنا برئيس قدم منذ خلق الله السموات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب. إنّه قتل فيما ذكره العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب (1) .

    ثمّ قام علي خطيباً وقال : أيّها النّاس قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإنّ الاُمور إذا اقْبلت اعتُبر آخرُها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين ، حتّى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا عاد عليهم بالغداة ، أحاكمهم الى الله عزّوجل.

    فبلغ ذلك معاوية فدعا عمروبن العاص فقال : يا عمرو انّما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل ، فمّا ترى؟ قال : إنّ رجالك لا يقومون لرجاله ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على غيره. أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردّوه اختلفوا ، ادْعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم ، فإنّك بالغ به حاجتك في القوم فإنّي لم أزل اُأخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه ، فعرف ذلك معاوية ، فقال صدقت (2) .

    يقول تميم بن حذيم : لمّا أصبحنا من ليلة الهرير ، نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام فلمّا أسفرنا فإذا هي مصاحف قد ربطت أطراف الرماح ، وهي عِظامُ مصاحِف العسكر ، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً ، وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم ، يُمسكه عشرة رهط ، وقال أبوجعفر وأبوالطفيل : استقبلوا عليّاً بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مُجَنَّبة مائتي مصحف ، وكان

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 477.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 544 ـ 548.

________________________________________

(55)

جميعها خمسمائة مصحف. قال أبوجعفر : ثمّ قام الطفيل بن أدهم حِيالَ علي وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثمّ نادوا : .... يا معشر العرب ، الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟ الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال علي : اللّهُمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنّك أنت الحكيم الحق المبين. فاختلف أصحاب عليّ في الرأي. فطائفة قالت : القتال ، وطائفة قالت : المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعِينا إلى حكم الكتاب. فعند ذلك بطلت الحروب ووضعت أوزارها ، فقال محمّد بن علي : فعند ذلك حكم الحكمان.

    وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش علي ( عليه السَّلام ) حيث زعموا أنّ اللجوء إلى القرآن لأجل طلب الحق ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان ، وأنّها كلمة حق يراد بها باطل وانّ الغاية القصوى منها ، هو إيجاد الشقاق والنفاق في جيش علي وتثبيط هممهم حتى تخمد نار الحرب التي كادت أن تنتهي لصالح علي وجيشه ، وهزيمة معاوية وناصريه.

    ولكن الخديعة كانت قد وجدت لها طريقاً في جيش العراق حتى سمع من كل جانب : الموادعة إلى الصلح والنازل لحكم القرآن ، فلمّا رأى علي ( عليه السَّلام ) تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال : « أيّها الناس إنّي أحقُّ مَنْ اجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمروبن العاص ، وابن أبي معيط وحبيب ابن مسْلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، إنّها كلمة حق يراد بها باطل : إنّهم والله ما رفعوها لأنّهم

 

________________________________________

(56)

يعرفونها ويعلمون بها ، ولكنّها الخديعة والمكيدة. أعيروني سواعِدَكم وجَماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا » (1) .

    وقد كان لخطاب علي أثر إيجابي في قلوب المؤمنين الواعين حيث أدركوا ماذا خلف الكواليس من مؤامرات وفتن ، وحجبت البساطة فهم ذلك على قلوب القشريين من أهل البادية ، الذين ينخدعون بظواهر الاُمور ، ولا يتعمّقون ببواطنها ، ففوجىء علي ( عليه السَّلام ) بمجييء زهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد شاكي سيوفهم وقد اسودَّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه بإسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا : يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيتَ وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم.

    فقال الإمام لهم : « ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فانّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون » قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتينّك ، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله.

    فلم يجد علي ( عليه السَّلام ) بداً من بعث رسول إلى الأشتر ليأتيه ، فأرسل إليه علي ، يزيد بن هاني أن ائتني ، فأتاه ، فأبلغه ، فقال الأشتر : ائته فقل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي ، أنّي قد رجوت الفتح فلا تعجلني ، فرجع يزيد بن هاني إلى علي ( عليه السَّلام ) فاخبره ، فما هو إلاّ أن

________________________________________

    1 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 560.الطبري : التاريخ 4/34 ـ 35.

________________________________________

(57)

علت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والادبار لأهل الشام فقال القوم لعلي ( عليه السَّلام ) : والله ما نراك أمرته إلاّ بالقتال ، قال علي ( عليه السَّلام ) : أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلاّ فوالله اعتزلناك ، فقال الإمام : ويحك يا يزيد قل له اقبل فإنّ الفتنة قد وقعت ، فأتاه فأخبره.

    فقال الأشتر : أبرفع هذه المصاحف؟ قال : نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة أنّها من مشورة ابن النابغة ، ثم قال ليزيد بن هاني : ويحك ألاترى إلى الفتح؟ ألاترى إلى مايلقون؟ ألاترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف له؟.

    فقال له يزيد أتحبّ أنّك ظفرت ها هنا وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ، ويسلّم إلى عدوّه؟ قال : سبحان الله ، لاوالله الا أحبّ ذلك ، قال : فانّهم قد قالوا له وحلفوا عليه لتُرسِلن إلى الاشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا عثمان ، أو لنسلّمنّك إلى عدوّك.

    فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم ، فصاح : يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم وظنّوا أنّكم قاهرون ، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها ، وتركوا سنّة من أنزلت عليه ، امهلوني فواقاً ، فإنّي قد أحسست بالفتح؟ قالوا : لا نُمْهلك ، فقال : أمهلوني عدوة الفرس ، فإنّي قد طمعت في النصر؟ قالوا : إذاً ندخل معك في خطيئتك.

    فسّبوه وسبّهم ، وضربوا بسياطهم وجه دابّته ، وضرب بسوطه وجوه دوابهم وصاح عليّ ( عليه السَّلام ) بهم فكفّوا ، وقال الأشتر يا أميرالمؤمنين احمل الصف على الصف ، يصرَع القوم ، فتصايحوا : إنّ أمير المؤمنين قد قبل الحكومة

 

________________________________________

(58)

ورضي بحكم القرآن ، فقال الأشتر : إن كان أميرالمؤمنين قد قبل ورضى ، فقد رضيت بما رضي به أميرالمؤمنين.

    فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أميرالمؤمنين ، وهو ساكت لا يبضُّ بكلمة ، مطرق إلى الأرض (1) .

    ثم قام فسكت الناس كلّهم فقال : « أيّها الناس إنّ أمري لم يزل معكم على ما أحبُّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، إلاّ انّي قد كنت أمس أمير المؤمنين فصرت مأموراً ، وكنت ناهياً فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (2) .

    قال نصر بن مزاحم : ثمّ تكلّم رؤساء القبائل فكل قال مايراه ويهواه ، فقام كردوس بن هاني البكري يدعوا الناس إلى تسليم الأمر إلى عليّ ، كما قام شقيق بن ثور البكري يدعوا الناس إلى الصلح والموادعة ويقول : وقد أكلتنا هذه الحرب ولا نرى البقاء إلاّ في الموادعة (3) .

    هذه الحوادث المؤلمة التي أسفرت عن مؤامرة خبيثة يراد منها ايقاع الفتنة والخلاف في جيش علي ( عليه السَّلام ) إلى النزول إلى حكم القوم كرهاً بلا اختيار ، واضطراراً لا عن طيب نفس.

    فبعث علي قرّاء أهل العراق ، وبعث معاوية قرّاء أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفّين فنظروا فيه وتدراسوه واجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن ، ثم رجع كل فريق إلى أصحابه ، وقال الناس : « قد رضينا

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 560 ـ 564.

    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/219 ـ 220. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 553.

    3 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفيّن 554.

________________________________________

(59)

بحكم القرآن ».

 

فرض التحكيم أوّلا ، وفرض المحكّم ثانياً :

    ولقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ أنّهم فرضوا نفس التحكيم على الإمام المفترض طاعته ببيعة المهاجرين والأنصار ، ولم يبق بينه وبين الفتح والظفر على العدو إلاٌّ قاب قوسين أوأدنى أوبمقدار عدوة الفرس كمّا قاله الأشتر.

    إنّهم ـ قبّح الله وجوههم ـ لم يكتفوا بهذا الحد في قلّة الأدب ، بل فرضوا عليه المحكّم ، فإن الإمام لمّا لَم يَر بدّاً من قبول التحكيم فاقترح عليهم أن يكون المحكّم من جانبه أحد الرجلين : ابن عمّه ـ عبدالله بن عباس ـ أو الأشتر.

    ولكنّهم رفضوا كل ذلك وأبوا إلاّ نيابة أبي موسى الأشعري الذي خذل عليّاً ( عليه السَّلام ) في بداية خلافته ، ولم يبايعه إلاّ باكثار الناس ولم يشجّع أهل الكوفة على نصره بل سكت.

    يقول ابن مزاحم : قال اهل الشام : فإنّا قد رضينا واخترنا عمروبن العاص ، فقال الأشعث والقرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد : فانّا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري ، فقال لهم علي ( عليه السَّلام ) : « إنّي لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أولِّيه » فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القرّاء : انّا لا نرضى إلاّ به ، فإنّه قد حذّرنا ما وقعنا فيه ، قال علي ( عليه السَّلام ) : « فإنّه ليس لي برضى ولكن هذا ابن عباس اُوّليه ذلك ، قالوا : والله ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ولا نريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، قال علي : فإنّي أجعل الأشتر ، فقال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر.

 

________________________________________

(60)

    حتى انّ عليّاً اقترح عليهم الأحنف بن قيس فأبوا أن يقبلوه ، وقالوا : لايكون ألاّ أبا موسى ، وقد كان معروفاً بأنّه قريب القعر ، كليل الشفرة ، فلم ير علي ( عليه السَّلام ) بداً من قبول أبي موسى ، وقد كان الإمام عارفاً ببساطته وسذاجته ، وكانت في ذلك خسارة عظمى لحزب علي ( عليه السَّلام ) وأشياعه إلى حدّ وصفها الشاعر بقوله :

لو كان للقوم رأي يُعْصمونَ بهلله درُّ أبيه أيُّما رجللكن رموكم بشيخ من ذوي يمنأن يخلُ عمروبه ، يقذفه في لججابلغ لديك عليّاً غير عاتِبِه             من الظلال رَمَوكم بابن عباسما مثله لفصال الخطب في الناسلم يدر ما ضرب أخماس لأسداسيَهوي به النجمُ تَيْساً بين أتياسقول امرىء لا يرى بالحقِّ من بأس (1)

    لقد كان عليّ ( عليه السَّلام ) واقفاً على انحراف أبي موسى عنه ، وانّ هواه مع غيره ، ومع ذلك لم يجد بدّاً عن الرضا بما فرض عليه البسطاء من جيشه ، وهذا هو الأحنف بن قيس من أصدقاء علي ( عليه السَّلام ) وخُلّصِ شيعته ، فقد امتحن أبا موسى بعد ما نُصِبَ حكماً من قبل علي ( عليه السَّلام ) فقال له ممتحناً : « فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي ، فخّيره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا فإنّهم يولّونا الخيار فنختار من نريد ، وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا ، فإن فعلوا كان الأمر فينا ، فقال أبو موسى : قد سمعت ما قلت ، ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن علي ( عليه السَّلام ) فرجع الأحنف إلى علي ( عليه السَّلام ) فقال له : أخرج أبو موسى والله زبدة سقائه في أوّل مخضة. لا أرانا إلاّ بعثنا رجلا لا ينكر خلعك ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : الله

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 575 ـ 576.

(61)

غالب على أمره (1) .

    إنّ الإمام خاطب أبا موسى ـ عندما بعثه إلى دُومَةِ الجندل حكماً ـ بقوله : احكم بكتاب الله ولا تجاوزه ، ولمّا ودّع أبا موسى وغادر المجلس ، قال الإمام : كأنّي به وقد خدع ، فقال عبيدالله بن أبي رافع : لماذا تبعثه وهو على هذه الفكرة؟ فقال الإمام ( عليه السَّلام ) لو عمل الله في خلقه بعلمه ، ما احتجّ عليهم بالرسل (2) .

 

صياغة اتفاقية الصلح :

    إنّ القوم فرضوا على الإمام التحكيم والمحكّم ، ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا عليه ما كان الخصم يطلبه في تحرير وصياغة اتفاقية الصلح ، ولمّا اتفق الطرفان على كتابة الصلح وايقاف الحرب إلى أن يحكم الحكمان دعا علي ( عليه السَّلام ) كاتبه ليكتب صحيفة الصلح على النحو الذي يمليه الإمام ، فقال الإمام : اكتب : « هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين » فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت أنّه أمير المؤمنين ثمّ قاتلته ، وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنّما هو أميركم ، وأمّا أميرنا فلا. فلمّا اُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمح اسم امرة المؤمنين عنك ، فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لا تمحها ، وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها ، ثمّ إنّ الأشعث بن قيس جاء ، فقال : امح هذا الاسم. فقال علي : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، سنّة بسنّة ، أما والله لعلى يدي ، دار هذه الأمر يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « هذا ما تصالح عليه

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 617. ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/249.

    2 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب 2/261.

________________________________________

(62)

محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وسهيل بن عمرو » فقال سهيل : لا أجيبك إلى كتاب تسمّي (فيه) رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ولو أعلم أنّك رسول الله لم اُقاتلك إنّي إذاً ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ولكن اكتب « محمّد بن عبدالله » أجبك ، فقال محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يا علي إنّي لرسول الله ، إنّي لمحمّد بن عبدالله ، ولن يمحو عنّي الرسالة كتابي إليهم« محمّد بن عبدالله » ، فاكتب : محمّد بن عبدالله ، فراجعني المشركون في هذا إلى مدّة ، فاليوم اكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إلى آبائهم سنّة ومثلا. فقال عمروبن العاص : « سبحان الله ، ومثل هذا شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟ » فقال له علي ( عليه السَّلام ) : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً وهل تشبه إلاّ اُمّك التي وضعت بك. فقام عمرو فقال : والله لايجمع بيني وبينِك مجلس أبداً بعد هذا اليوم ، فقال علي : والله إنّي لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك (1) .

 

اتفاقية الصلح أو وثيقة التحكيم :

    تنازل عليّ ( عليه السَّلام ) عن حقّه المشروع ورضى ، كما رضي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أن يكتب اسمه مجرّداً عن توصيفه بامرة المؤمنين فأملى عليّ صحيفة الصلح بالنحو التالي وفيها عبر ونكات وتشتمل على بنود ربّما نرجع إليها في المستقبل :

    1 ـ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب وقضية

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 582 ـ 583.

________________________________________

(63)

معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب. إنّا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وانّه لا يجمع بيننا إلاّ ذلك ، وانّا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكماً فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات ، على ذلك تقاظيا ، وبه تراضيا.

    2 ـ إنّ علياً وشيعته رضوا أن يبعثوا عبدالله بن قيس (1) ناضراً ومحاكماً ، ورضى معاوية وشيعته أن يبعثوا عمروبن العاص ناضراً ومحاكماً.

    3 ـ على أنّهما أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد في خلقه ، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثا له ، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً. ومالم يجداه مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) الجامعة ، لايتعمّدان لهما خلافاً ، ولا يتّبعان في ذلك لهما هوى ، ولا يدخلان في شبهة.

    4 ـ وأخذ عبدالله بن قيس وعمروبن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وانّهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق ، رضى بذلك راض أو أنكره منكر وانّ الاُمّة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل.

    5 ـ فإن توفّى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا ، لايألون عن أهل المعدلة والاقساط ، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق ، والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وله مثل شرط صاحبه ، وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه يرضون عدله. وقد وقعت القضية

________________________________________

    1 ـ هو أبو موسى الأشعري.

________________________________________

(64)

ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة.

    6 ـ وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألاّ يألوا اجتهاداً ، ولا يتعمّدا جوراً ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ). فإن لم يفعلا برئت الاُمّة من حكمهما ، ولا عهد لهما ولاذمّة. وقد وجبت القضية على ما قد سُمِّي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين ، والله أقرب شهيداً ، وأدنى حفيظاً ، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل والسلاح موضوع والسبل مخلاة والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن.

    7 ـ وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل الطرق وأهل الشام ولا يحضر هما فيه إلاّ من أحبّا ، عن ملأ منهما وتراض. وانّ المسلمين قد اَجّلوا القاضيّين إلى انسلاخ رمضان (1) ، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجّلاها ، وإن أراداتا خيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإنّ ذلك إليهما.

    8 ـ فإن هما لم يحكمابكتاب الله وسنّة نبّيه ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب. ولا شرط بين واحد من الفريقين. وعلى الاُمّة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد فيه إلحاداً وظلماً أوحاول له نقضاً. ثمّ إنّه شهد بما في الكتاب من أصحاب الطرفين أكابرهما فمن أصحاب علي ، عبدالله بن عباس ، والأشعث بن قيس ، والأشتر مالك بن الحارث ، والحسن والحسين ابنا عليّ وطائفة اُخرى يبلغ عدد الشهود سبعاً وعشرين شخصاً وفيهم من الصحابة الكبار ، نظير خبّاب بن الارث وسهل بن حنيف وعمروبن الحمق الخزاعي ، وحجر بن عدي ، كما شهد من أصحاب معاويه أبوالأعور

________________________________________

    1 ـ أي رمضان سنة تحرير الاتفاقية وهي سنة 37 ، وقد كتب الكتاب في صفر هذه السنة كما سيوافيك.

________________________________________

(65)

وبسر بن أرطاة وعبدالله بن عمروبن العاص ، وكتبت لثلاث عشر ليلة بقيت من صفر سنة 37 (1) .

    ونلاحظ أنّ في الميثاق تصريحاً بأنّه من اللازم على الحكمين الإدلأ برأيهما إلى انقضاء موسم الحج من عام 37 وهما أدليا برأيهما في شعبان تلك السنة كما سيوافيك.

    وما نقله الطبري عن الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة غير صحيح (2) .

 

صورة اُخرى لوثيقة التحكيم :

    ثمّ إنّ ابن مزاحم نقل صورة اُخرى لوثيقة التحكيم يتّحد مع ماسبق لبّاً ويختلف في بعض الموارد عبارة فمن أراد فليرجع إلى مصدره وفي ذيلها : « وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين واتَّعد الحكمان (اذرح) » (3) وأن يجيء علي بأربعمائة من أصحابه ، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه فيشهدون الحكومة.

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 582.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/52.

    3 ـ اذرح ـ بضم الراء ـ بلد في أطراف الشام مجاور لأرض الروم.

________________________________________

(66)

________________________________________

(67)

االفصل الثالث

نشوء الخوارج عند مخالفتهم لمبدأ التحكيم

 

________________________________________

(68)

________________________________________

(69)

    إنّ الذين حملوا عليّاً ( عليه السَّلام ) على الموادعة والرضوخ للتحكيم ، رجعوا عن فكرتهم وزعموا أنّ أمر التحكيم على خلاف الذكر الحكيم حيث يقول ( ان الحُكْم إلاّ لِلِّه ) (1) فحاولوا أن يفرضوا على علىّ ( عليه السَّلام ) أمراً رابعاً وهو القيام بنقض الميثاق ورفض كتاب الصلح بينه وبين معاوية ، فجاء هؤلاء قائلين : « لا حكم إلاّلله ، الحكملله يا علي لالك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله. إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا وأن يدخلوا في حكمنا عليهم وقد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين ، فرجعنا وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا ، وإلاّ برئنا منك. فقال علي : وَيْحكم ، أبعد الرضا(والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله تعالى قال : ( اُوفوا بالعقود ) وقال : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ) : فأبى علي أن يرجع ، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه ، وبرئت من علي ( عليه السَّلام ) ، وبري

________________________________________

    1 ـ الأنعام : 57. وقد ورد في سورة يوسف أيضاً مرّتين ، لا حظ الآية 40 و 67 من هذه السورة.

________________________________________

(70)

منهم (1) .

    وقال الطبري : لمّا أراد عليّ أن يبعث أبا موسى إلى الحكومة أتاه رجلان من الخوارج : زرعة بن برج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي (2) ، فدخلا عليه فقالا له : لا حكم إلاّ لله ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : لا حكم إلاّ لله ، فقال له حرقوص : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا ، فقال لهم علي : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا ، وقد قال الله عزّوجل : ( واُوفوا بَعَهْدِ الله اِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاَيمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفيلا انّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون ). فقال له حرقوص : ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه ، فقال علي : ما هو ذنب ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل وقد تقدّمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه ، فقال له زرعة بن البرج : أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عزوجل قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه ، فقال له علي : بؤسا لك ما أشقاك كأنّي بك قتيلا تسفى عليك الريح. قال : وددت أن قد كان ذلك ، فقال له علي : لو كنت محقَاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا. إنّ الشيطان قد استهواكم فاتّقوا الله عزّوجلّ إنّه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها فخرجا من عنده يُحكِّمان (3) .

    روى ابن مزاحم عن شقيق بن سلمة قال : جاءت عصابة من القرّاء قد

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 589 ـ 590.

    2 ـ إنّ الاباضية ـ الفرقة الباقية من الخوارج ـ يقولون المحكمة الاُولى نظراء : زرعة ، وحرقوص ، والراسبي مُحِقوُن بحجة أنّهم أرادوا أن لا يحكم الرجال فيما حكم فيه سبحانه وهو قتال أهل البغي حتى يفيئوا ، ولكنّهم لا يذكرون شيئاً من أنّهم كانوا هم الأساس لمسألة التحكيم ، وهم الذين فرضوا على الإمام ، هذا الأمر. فلتكن على ذكر من هذا النقل حتى يحين وقت دراسة الموضوع.

    3 ـ الطبري : التاريخ 4/52 ـ 53.

(71)

سلّوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ما تنظر بهؤلاء القوم إن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق؟ فقال لهم عليّ : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ولا يحلّ قتالهم حتى ننظر بِمَ يحكم القرآن. (1)

    وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت مصّرة على التصالح وانّ عصابة منهم ، كانوا متوقّفين في بدء الأمر ، ثمّ بدا لهم أن ينصروا الإمام في وقت ، تمّت الإتفاقية بين الطرفين وأعطى الإمام العهد بالعمل بها.

    هذه الكلمة الجارحة التي صدرت من زرعة الطائي وحرقوص بن زهير السعدي ونظائرها كانت تصدر من الخوارج آونة بعد اُخرى ، وذلك لأنّهم يتّهمون عليّاً بارتكاب الإثم ولزوم التوبة بنقض الصحيفة ، وفي مقابل ذلك سطّر التاريخ مواقفاً جريئة وحرّةً صدرت عن ثلّة من أصحاب علي ( عليه السَّلام ).

    هذا هو سليمان بن صرد من أصحاب علي أتاه بعد كتابة الصحيفة ووجهه مضروب بالسيف فلمّا نظر إليه علي ( عليه السَّلام ) قال : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدل ، فقال يا أمير المؤمنين : أما لو وجدتُ أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً. أما والله لقد مشيتُ في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأوّل فما وجدت أحداً عنده خير إلاّ قليلا. وقام إلى علي ( عليه السَّلام ) محرز بن جريش بن ضليع ، فقال : يا أمير المؤمنين : ما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل؟ فإنّي لأخاف أن يُورث ذلاّ ، فقال علي ( عليه السَّلام ) أبعد أن كتبناه ننقضه؟ إنّ هذا لا يحلّ.

    وقام فضيل بن خديج مخاطباً عليّاً لمّا كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي ( عليه السَّلام ) :

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 569.

________________________________________

(72)

بلى إنّ الأشتر ليرضى إذا رضيت ، وقد رضيت ورضيتم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلاّ أن يعصى الله ويتعدّى ما فيه كتابه.

    فلمّا رآى علي ( عليه السَّلام ) تكرّر تلك المواقف قام خطيباً ليزيل الشكوك والأوهام عن قلوب شيعته فخطب وقال : « إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ، ولاليجيبوا إلى كلمة السواء ، حتى يُرْمَوا بالمناسر ، تتبعها العساكر ، وحتى يُرجَموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس ، يتلوه الخميس ، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم ، وبأحناء مساربهم ومسارحهم وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صُدُق صُبُر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلاّ جداً في طاعة الله ، وحرصاً على لقاء الله ، ولقد كنّا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومُضيّاً على اللقم وصبراً على مضَضَ الألم ، وجداً في جهاد العدو ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان متصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيَّهما يسقي صاحبه كأس المنون مرّة لنا من عدوّنا ومرة لعدّونا منّا ، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتى استقّر الإسلام ملقياً جِرَآنه ، ومتبوَّئاً أو طانه ، ولعمري لوكنّا نأتي ما أتيتم ، ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم الله لتحتلبنّها دماً ولتُتَبِعنَّها ندماً (1) .

    وقد أعرب الإمام في خطبته هذه عن السبب الحقيقي للفصل والوهن الذي واجه جيشه مع كثرة عددهم وعدّتهم ، وما هذا إلاّ لأنّهم عصوا إمامهم ، واغترّوا بظواهر الاُمور ، وحسبوا أنّ اللجوء إلى كتاب الله شيء يدين به الخصم ،

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 56. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 597 ـ 598 وبين المنقول في المصدرين اختلاف في اللفظ ، ورجحّنا نقل الرضي.

________________________________________

(73)

ففرضوا على علي ( عليه السَّلام ) التحكيم والحّكم ، إلى غير ذلك من الاُمور التي ذكرناها آنفاً ، فصار القائد مقوداً والإمام مأموماً والمطاع مطيعاً.

 

تنبّؤ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بفتنة الخوارج :

    روى ابن هشام عن عبدالله بن عمروبن العاص أنّه قال : جاء رجل من بني تميم ـ في غزوة هوازن ـ يقال له ذوالخويصرة فوقف عليه وهو يعطي النّاس فقال : يا محمّد ، قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أجل ، فكيف رأيت؟ فقال : لم أرك عدلت ، قال : فغضب النبي ، ثم قال : ويحك ، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمربن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال : لا دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون (1) في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (2)

________________________________________

    1 ـ المراد من التعمق كثرة السؤال والاعتراض على الأوامر الصادرة من القيادة ويؤيّد ذلك الحديث المشهور : سأل رجل الإمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام )وقال : رجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء ، ولا يدري أذكية هي أم غير ذكية؟ أيصلّي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة. انّ أباجعفر ( عليه السَّلام ) كان يقول : إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، انّ الدين أوسع من ذلك. (الصدوق : من لا يحضر الفقيه 1/167 ، الباب 39 ، الحديث 38). ويظهر ذلك ممّا روي عن علي من قصار الكلمات قال : الكفر على أربع دعائم : على التعمّق ، والتنازع ، والزيغ ، والشقاق ، فمن تعمّق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ، نهج البلاغة قسم الحكم 31 ـ فمعنى التعمّق هنا لا يتنافى مع ما سنذكره من أنّ البساطة والسذاجة و الظاهرية كانت سمة من سماتهم.

    2 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 4/496. ابن الاثير : الكامل 2/184. ورواه البخاري في باب « المؤلفة قلوبهم على وجه التفصيل ، فمن أراد فليرجع إلى صحيحه ».

________________________________________

(74)

تحليل لكارثة التحكيم :

    إنّ هناك أسئلة تطرح نفسها ونحن نجيب عنها مستندين إلى متون الروايات الواردة حولها :

    الأوّل : لماذا اغتر المحكّمة بظواهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على رؤوس الأسنّة لأجل اللجوء إلى القرآن ، واجراء حكمه بين الطرفين ، مع أنّ عليّاً وكثيراً من أصحابه نبّههم على أنّ ذلك خدعة ومكيدة. والجواب : انّ الذي حملهم على قبول التحكيم في بادىء ذي بدء أمران :

    1 ـ إنّ الخسارة البشرية الفادحة التي ألحقتها الحرب بالعراقيين (مع أنّ خسائر الشاميين كانت أكثر) كانت عاملا نفسيّاً مهمّاً لقبول التحكيم ودافعاً لهم إليه وفي كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ) اشارة إلى ذلك :

    قال ابن مزاحم : ذكروا أنّ الناس ماجوا وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال ، وقال قوم : نقاتل القوم على ما قاتلنا هم عليه أمس ، ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس ، ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة وثارت الجماعة بالموادعة فقام علي أميرالمؤمنين فقال : « إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، لقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوّكم فلم تترك ، وانّها فيكم أنكى وأنهك .... وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » (1) .

    ولعل النجاشي يشير إلى ذلك العامل في قصيدته إذ يقول :

غشيناهم يومَ الهرير بِعُصبةفأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا               يمانيّة كالسيل سيل عِرانِعليها كتاب الله خير قرآن

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 553 ـ 554.

________________________________________

(75)

ونادوا (1) : عليّاً ، يا ابن عمّ محمّدفمن للذراري بعدها ونسائنا                   أما تتقي أن يهلك الثقلانومن للحريم أيّها الفَتَيانِ (2)

    2 ـ إنّ البساطة والسذاجة من الاُمور التي تسود أهل البادية حيث لا يملكون الوعي الفكري والتجربة الإجتماعية ، وجلّ القبائل التي كانت تحارب تحت لواء عليّ من القاطنين في البادية غير متمدّنين ، فطبيعة عيشهم هو الصدق والصفاء والإيمان بظواهر الاُمور دون أن يتعمّقوا فيها لمعرفة ما يدور خلف الستار من خفايا ، ولأجل ذلك اغتّروا بظاهر الأمر وزعموا أنّ رفع المصاحف على الأسنّة لأجل الاستظلال في ظلّه والعيش تحت رايته.

    غير أنّ الإمام والواعين من قادة جيشه علموا أنّ خلف هذا العمل مؤامرات وتفرّسوا بأنّ وارء هذا ليس إلاّ الفتنة ، ولأجل ذلك لمّا بعث علي ( عليه السَّلام ) أحد النخعيين إلى الأشتر لإيقاف الحرب ورجوعه إلى معسكر الإمام ، فسأله الأشتر عن سبب الفتنة ، وقال : « ألِرَفع هذه المصاحف؟ » قال نعم ، قال : أما والله لقد ظننت أنّها حين رفعت ستوقد اختلافاً وفرقة (3) .

    3 ـ إنّ عيشة القوم كانت عيشة قبيلة والنظام القبلي يفرض على كافة أفراد القبيلة ، الطاعة العمياء لرئيسها فإذا أصحر الرئيس بالرأي ، فالباقون بحكم الأغنام يتبعونه من دون تفكّر ووعي ، ولمّا كان في جيش علي ( عليه السَّلام ) رؤوس البطون ، وخضعوا للتحكيم ، لم يبق مجال لغيرهم في القبول والرفض ، ولأجل ذلك صار التحكيم فرضاً من جانب عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد ، ومن البعيد جداً أن يكون حكم كلّ واحد من هؤلاء صادراً عن وعي و إمعان.

________________________________________

    1 ـ يعني أهل العراق.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 602.

    3 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 562.

________________________________________

(76)

الثاني : لماذا رجعوا عن التحكيم بعد فرضه على علي ( عليه السَّلام ) ؟ :

    إنّ القوم لم يكونوا أهل فكر واجتهاد ، وماكانوا يصدرون عن مبدأ عقلي في المواقف الصعبة والحَرِجةِ ، فكما أنّهم اغتّروا برفع المصاحف على الأسنّة ، اغترّ الكثير برأي بعض القرّاء حيث ردّ التحكيم بقوله سبحانه : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلّه ).

    قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ويمرّ به على صفوف أهل الشام ، وراياتهم ، حتى مرّ برايات عنزة فقرأه عليهم. قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أوّل من حكم (أي أنكر مبدأ التحكيم) ثم مرّ بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :

ما لعلي في الدماء قد حكم               لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

 

    لا حكم إلاّ لله ولو كره المشركون.

    ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقالوا : لا حكم إلاّ لله ولا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : « لا حكم إلاّ لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » وخرج عروة بن اُديَّة فقال : أتحكّمون الرجال في أمر الله؟ لا حكم إلاّ لله : فأين قتلانا يا أشعث؟ (1) .

    فزعموا أوّلا : أنّ حكم الله مضى في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أويدخلوا في حكمهم وانّ إيقاف الحرب والتنازل إلى الموادعة خلاف حكم الله

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 558. وجاء في ذيل كلامه انّ هؤلاء المخالفين أوبعضهم كانوا من المصرّين على التحكيم في بدء الأمر وانّما رجعوا عن فكرتهم عند عرض الكتاب.

________________________________________

(77)

سبحانه.

    ثانياً : انّ هذا تحكيم للرجال في دين الله ، وهو يضادّ النصّ الصريح في الذكر الحكيم أعني قوله تعالى : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلِّه ) وكلا الوجهين موجود ان في كلامهم يوم حاولوا فرض نقض الميثاق وطلبوه من علي ( عليه السَّلام ) يقول ابن مزاحم : فنادت الخوارج في كلّ ناحية :

    لا حكم إلاّ لله ، لا نرضى بأن يحكّم الرجال في دين الله.

    قد أمضى الله حكمه في معاوية و أصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حكمنا عليهم (1) .

    ثالثاً : زعموا أنّ قبول التحكيم يستلزم أنّهم كانوا ضالّين في نضالهم وجهادهم ضد معاوية طيلة شهور ، ونتيجة ذلك أنّ ما ارُيقت منهم من الدماء ، وما قدموا في ذلك الطريق من الشهداء كانت على غير وجه الحق ولأجل ذلك لمّا قرأ الأشعث صحيفة الصلح على تميم ، قالوا : أتحكّمون الرجال في أمر الله لا حكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث (2) .

    رابعاً : قالوا : إنّك نهيت عن الحكومة أوّلا ثم أمرت بها ثانياً ، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيباً ، وبأمرك مخطئاً ، وإن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً ، فلابد من خطئك على كلّ حال.

    هذه الوجوه الأربعة ممّا اغترّ به القوم ، وأرادوا فرض نقض التحكيم والميثاق على علي ( عليه السَّلام ) وهي تكشف عن بساطة القوم في المقام ، وإليك تحليل كل واحد من هذه الوجوه :

    أمّا الوجه الأوّل :فإنّه وإن كان قد مضى حكم الله في معاوية وأصحابه أن

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 594.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 588.

________________________________________

(78)

يقتلوا أو يدخلوا في حكم الإمام المفترض طاعته ، وكان الواجب على الإمام محاربتهم حتى تتحقّق احدى الغايتين ولكن التكليف بالمحاربة ، مرهون بالقدرة وعدم المانع من تحقيق التكليف ، والقوم سلبوا القدرة عن الإمام القائد ، حيث جاءوا إليه في عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد ، شاكي سيوفهم على عواتقهم يدعونه باسمه ويقولون : أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

    أفي هذا الموقف الحرج يتصوّر أن تكون المحاربة تكليفاً شرعيّاً على الإمام أو يكون الحكم مرفوعاً بارتفاع قدرته على مواصلة الحرب ، إذ كانت نتيجة مواصلة الحرب هو قتل الإمام أوتسليمه إلى العدّو مكفوف اليدين ، ولكان الذل والوهن عندئذ أكبر وأفدح.

    نعم ، رجعت القدرة إلى الإمام بعد ندامتهم على التحكيم واستعدادهم لمواصلة الحرب بعد الصلح وأخذ المواثيق ، ولكن كانت الندامة في غير محلّها وندموا ولم ينفعهم الندم حيث ضاعت الفرصة الذهبية ، إذ كما أنّ من حكمه سبحانه مواصلة حرب الطغاة وقد نطق بها الذكر الحكيم ، كذلك الايفاء بالمواثيق ، واحترام العقود والعهود من أحكام القرآن والسنّة المطهرّة. ولأجل ذلك أجاب علي عن اصرارهم على مواصلة الحرب بقوله : « ويحكم ، أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أوليس الله تعالى قال : ( اُوفُوا بالعقودِ ) وقال : ( وَ أوفُوا بِعَهْدِ اللهِ اِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الأيمانَ بَعْدَ تَوْكيدَها وَ قَدْجَعَلْتُمْ الله عَلَيْكُمْ كفيلا انّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونْ ) (1) .

    ولكن القوم كانوا بعيدين عن المنطق ، قريبي القعر ، سمعوا أدلّة الإمام ولم يجيبوا عنها بشيء إلاّ بتضليله والبراءة منه.وسوف نرجع إلى تحليل هذا

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 589.

________________________________________

(79)

الوجه عند البحث عن الاباضيّة.

    وأمَا الوجه الثاني : أعني كون هذا تحكيماً للرجال في دين الله : وهو خطأ. إنّ الإمام وأصحابه لم يحكّموا الرجال في دين الله بل حكّموا القرآن والذكر الحكيم فيما اختلفوا فيه ولكن القرآن شجرة يانعة وحجة صامتة لا تجتني ثمرته ولا يعلم مقاصده إلاّ بمن ينطقه وإلى ذلك يشير الإمام في بعض خطبه :

    « إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن ، هذا القرآن انّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان ، وانّما ينطق عنه الرجال ، ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله سبحانه : ( فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرِدُّهُ إلى اللهِ وَ الرسول ) فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق النّاس وأولاهم بها » (1) .

    وفي كلام آخر له :

    « فانّه حكم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه ، فإن جرّنا القرآن إليهم ، اتبعناهم ، وإن جرّهم إلينا اتبعونا ، فلم آت ـ لا أباً لكم ـ بُجراً ولا خَتلْتكم عن أمركم ، ولا لبّستُه عليكم ، انّما اجتمع رأي مَلَئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدَّيا القرآن (2) .

    وقد جاء في نفس الميثاق الذي أملاه على التصريح بأنّ الحكم هوالقرآن ، وانّ دور الحكمين هو انطاق القرآن في محلّ النزاع وقد جاء في

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 125.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.

________________________________________

(80)

الميثاق قوله :

    « وان كتاب الله سبحانه وتعالى بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله اتّبعناه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرقة » (1) .

    وبعد هذه الكلم الواضحة ، المعربة عن حقيقة الحال ، كان اصرارهم على نقض الميثاق صادراً عن جهل وعجز في الرأي.

    وأمَا الوجه الثالث : أي أنّه يستلزم من قبول التحكيم كونهم ضالّين في نضالهم وجهادهم طيلة شهور ، وانّ الدماء التي اُريقت ، انّما اُريقت في غير وجه الحق ، فهو أوهن من الوجهين السابقين ، وذلك لأنّه سبحانه كما أمر بالقتال والنضال في كتابه وقال : ( قاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُوْمِنُونَ بِالله وَ لا بِالْيَوْمِ الآخِرِ .... ) (2) .

    وقال سبحانه : ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةُّ وَيَكُونَ الدِينُ كَلُّهُ للهِ ... ) (3)

    كذلك أمر بالصلح والسلم في غير واحد من آياته ، وقال : ( وَاِن جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاْجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ .... ) (4)

    وقال سبحانه : ( وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوْا فَاَصْلِحُوْا بَيْنَهُما فَاِنْ بَغَتْ إحْديهُما عَلى الاُخْرى فَقاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتّى تَفِىء إلَى أمْرِ الله فَإنْ فَآتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالْعَدْلِ

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/38.

    2 ـ التوبة : 29.

    3 ـ الأنفال : 39.

    4 ـ الأنفال : 61.

(81)

وَأَقْسِطُواْ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1)

    الصلح والايقاف ليسا دليلا على أنّ الدماء الّتي اُرقيت إنّما اُرقيت في غير وجه الحقِ ، وعلى ذلك فكل من الحرب والصلح ، والنضال والموادعة حكم من أحكام القرآن ، يطبّق كل في مورده وذلك حسب مايراه الحاكم الإسلامي وعلى ذلك جرت سيرة الرسول الأكرم ، فقد ناضل قريشاً في بدر واُحد وقاتلهم في الأحزاب ، وقد اُريقت من دماء المسلمين مالايستهان بها ، ومع ذلك فقد صالح قريشاً في الحديبية ، وكتب بينه وبينهم ميثاق الصلح على ما مرّ الإيعاز إليه في كلام علي ( عليه السَّلام ) حتّى انّ قريشاً أبوا أن يكتب « رسول الله » إلى جانب اسمه ، وألزموه بتجريد اسمه عن الرسالة كما أبى معاوية وعمروبن العاص إلاّ أن يكتب اسم عليّ مجرّداً عن الإمارة ، فكان في ذلك اقتداء بالنبي ، فالدماء التي اُرقيت في ساحات القتال إذا كانت لوجه الله فلا تنقلب عمّا عليه ، وأصحابها شهداء ، أحياء عند ربهم يُرزقون ، ولا يأبى ذلك أن يصالح القائد الإسلامي إذا اقتضت المصلحة لظروف مختلفة ، مع العدو وكلا الحكمين حكم الله.

    وأمّا الوجه الرابع : فقد أجاب عنه الإمام بعد ما قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فلم ندر أىّ الأمرين أرشد؟ فصفق ( عليه السَّلام ) إحدى يديه على الاُخرى ثم قال :

    « هذا جزاء من ترك العُقْدة (2) أما والله لو انّي حين أمرتكم به ، حملْتُكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً ، فان استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن ابيتم تداركتم ، لكانت الوثقى ، ولكن بِمَنْ وإلى مَنْ؟ اُريد أن

________________________________________

    1 ـ الحجرات : 9.

    2 ـ العقدة : الرأي الوثيق.

________________________________________

(82)

اُدواي بكم وأنتم دائي » (1) .

    أقول : إنّ القوم كانوا بُعَداء عن التفكير الصحيح فزعموا أنّ هنا تناقضاً في الرأي ، مع أنّه لا منافاة بينهما بعد فرض اختلاف ظرف الحكمين ، ففيما كان الإمام قائداً مُطاعاً ، كان الحق هو مواصلة الحرب ، ولذاك كان يصرّ على المواصلة ، وعند ما عُصِيَ ، وخُولِفَ ، لم يكن بدّ من التنازل إلى الحكم ألآخر ، فلا الإيقاف يبطل حكم القتال وأجر الشهداء ولا الحكم بالقتال يلازم بطلان الهدنة وعدم صحّته إذا اقتضت المصلحة ذلك وفقاً لا ختلاف الظروف.

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 121.

________________________________________

(83)

الفصل الرابع

تحرّكاتهم السياسيّة بعد مبدأ التحكيم

 

________________________________________

(84)

________________________________________

(85)

    لمّا تمّت الإتفاقية ، وشهد عليها شهود ، وقُرِأت على الناس ، انسحب معاوية إلى جانب الشام ، وتوجّه الإمام نحو الكوفة مع جيشه وأصحابه ورافقه المعترضون على التحكيم الذين عرفوا بالمحكِّمة ، فدخل الإمام الكوفة دار هجرته وامتنعت المحكِّمة عن الدخول ، وذهبوا إلى قرية « حروراء » كما ذهب قسم منهم إلى معسكر نخيلة اعتراضاً على عليّ وحكْمهِ. وقد أعربوا بعملهم هذا أنّهم متخلِّفون عنه ، وعن أوامره ، وخارجون عن طاعته ، ولقد كان لهم ألوان متفاوتة في مخالفتهم ولكن الجميع يشتركون في كونها ردود فعل لما آل له التحكيم ونذكر أبرزها :

    1 ـ التظاهر ضد علي ( عليه السَّلام ) بقولهم « لا حكم إلاّ لله » في المسجد وخارجه خصوصاً عند قيام الإمام بالقاء الخطب.

    2 ـ تكفير عليّ ( عليه السَّلام ) وأصحابه الذين وفوا بالميثاق.

    3 ـ تأمين أهل الكتاب وارهاب المسلمين وقتل الأبرياء.

    وأمّا ما قام به الإمام في مقابل هذه المواقف فكلّها ينبع عن عطفه وحنانِه على الأعداء وصبره الجميل تجاه المآسي ، وإليك بيانه :

 

________________________________________

(86)

    1 ـ قام عليّ ( عليه السَّلام ) بتبيين موقفه من كتاب الصلح وانّه ما أمضاه إلاّ باصرار منهم وإرهاب ضدّه.

    2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين في الجوائز والعطايا.

    3 ـ بعث شخصيات كبيرة لهدايتم ، وارجاعهم عن غيّهم.

    4 ـ محاولة أخذ الثأر من قتلة عبدالله بن خباب بن الارت وزوجته عندما قتلا بايدي سفلة الخوارج وإليك بيان الجميع :

 

الف ـ التظاهر ضدّ عليّ ( عليه السَّلام ) :

    روى الطبري : « لمّا وقع التحكيم ورجع عليّ من صفيّن ، رجعوا متباينين له ، فلمّا انتهوا إلى النهر أقاموا به ، فدخل عليّ في الناس الكوفة ونزلوا بحروراء وبعث إليهم عبدالله بن عباس فرجع ولم يصنع شيئاً ، فخرج إليهم عليّ فكلّمهم (1) حتى وقع الرضى بينه و بينهم ، فدخلوا الكوفة ، فأتاه رجل فقال ، إنّ النّاس قد تحدّثوا أنّك رجعت لهم عن كفرك ، فخطب الناس في صلاة الظهر فذكر أمرهم فعابه ، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون : لا حكم إلاّ لله ، و استقبله رجل منهم واضعاً إصبعه في اذنيه ، فقال : « وَلَقَدْ أوحى إلَيْكَ وإلى الَذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيُحْبِطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُوننَّ مِنَ الخاسِرين ». فقال عليّ : « فاصْبِر إنَّ وَعَدالله حقُّ ولا يَستَخفنّك الذين لا يوُقِنون » (2) .

    وببالي ورد في بعض المصادر : انّ الرجل صاح بالآية و الإمام في اثناء الصلاة ، فأجابه الإمام بتلاوة الآية التي عرفتها.

________________________________________

    1 ـ سيوافيك ما تكلم به معهم في خاتمة المطاف.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/54.

________________________________________

(87)

ب ـ تكفير عليّ و أصحابه :

    أكبر كلمة كانت تصدر من أفواه الخوارج هو تكفير عليّ لأجل قبول التحكيم وكأنّه خطيئة وارتكاب الخطيئة عندهم كفر ، كما هو أحد اُصولهم التي نبحث عنها عند عرض عقائدهم ، ويكفي في ذلك ما نقله الطبري في مذاكرة علي مع حرقوص بن زهير السعدي ، وزرعة بن برج الطائي ومرّ النصّ في أوّل الفصل السابق.

    وإلى هذا يشير الإمام في بعض كلامه حيث قال لهم :

    « أصابكم حاصِب (1) ولابقى منكم آبِر (2) ، أبعد إيماني بالله ، وجهادي مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أشْهَدُ على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت اِذاً وما أنا من المهتدين ، فاوبوا شرّمآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما انّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا و سيفاً قاطعاً وإثرة (3) يتخذها الظالمون فيكم سنّة » (4) .

 

ج ـ قتل الأبرياء :

    و المدهش من أخبارهم انّهم كانوا يقتلون المسلمين ويجيرون المشركين و أهل الكتاب.

    روى المبّرد في كامله : إنّ القوم مضوا إلى النهروان ، وقد كانوا أرادوا المضي إلى المدائن فأصابوا في طريقهم مسلماً و نصرانياً ، فقتلوا المسلم ، لأنّه عندهم كافر ، إذكان على خلاف معتقدهم ، واستوصوا بالنصراني وقالوا :

________________________________________

    1 ـ الحاصب : الريح الشديدة التي تثير الحصباء.

    2 ـ الآبر : الذي يأبّر النخل أي يصلحه.

    3 ـ الاثرة : الاستبداد عليهم بالفئ و الغنائم ، قال : النبي للأنصار : « ستلقون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني ».

    4 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 58.

________________________________________

(88)

احفظوا ذمّة نبيّكم.

    قال المبّرد : وحدثت أنّ واصلَ بن عطاء أقبل في رفقة فاحسُّوا بالخوارج ، فقال واصل لأهل الرفقة : إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإيّاهم ، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا : شأنّك ، فخرج إليهم ، فقالوا : ما أنت و أصحابك فقال : قوم مشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلام الله ، ويفهموا حدوده. قالوا : قد أجرناكم ، قال : فعلِّمُونا ، فجعلوا يعلِّمُونَهم أحكامَهم ، ويقول واصل : قد قبلت أنا ومن معي. قالوا : فامضوا مصاحبين فقد صرتم اخواننا. فقال : بل تبلغوننا مأمننا. لأنّ الله تعالى يقول : « و إنْ إحدٌ مِنَ المُشْرِكُينَ استَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتى يَسمَعَ كلامَ الله ثُمَّ اَبْلِغْه مأْمَنَهُ »(1) فنظر بعضم إلى بعض ، ثم قالوا : ذاك لكم ، فصاروا معهم بجمعهم حتّى ابلغوهم المأمن (2) .

    ومع ذلك قتلوا عبدالله بن خباب بن الارت ـ كما سوافيك بيانه في الفصل القادم ـ وبقروا بطن زوجته المتم.

    وأمّا السياسة الحكيمة التي مارسها الإمام ازاء أعمالهم قبل تحركاتهم العسكرية فقد وقفت على رؤوسها ، وإليك الإيعاز إليها ثانياً ليقع مقدمة للشرح والتبيين.

    1 ـ تبيين موقفه في مسألة التحكيم ، وانّه لم يكن راضياً به وفرض عليه بارهاب.

    2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين.

________________________________________

    1 ـ التوبة : 6.

    2 ـ المبرّد : الكامل 2/122 مكتبة المعارف بيروت ، و ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/281 ، و المبرد متهم ـ عند ابن أبي الحديد ـ بالميل إليهم ، و لكنا سبرناكامله ، فلم نر شيئاً يدلّ عليه ، غير انّه سرد تاريخهم و في بعض الموارد طعن بهم.

________________________________________

(89)

    3 ـ بعث الشخصيات لارجاعهم عن غيّهم.

    و إليك بيان كل ذلك.

 

1 ـ الإمام يبيّن موفقه من التحكيم :

    قام الإمام بتبيين موقفه في مسألة التحكيم وانّه لم يكن ضلالا في نفسه ولا كان الإمام مخادعاً ، فقال في بعض كلماته :

    « فلم آت لا أباً لكم بُجْراً ، ولا خَتَلْتُكم عن أمركم ، ولا لبَّستُه عليكم ، و إِنّما اجتمع رأي مَلَئِكُم على اختيار رجلين ... » (1) .

    هذا نموذج من كلماته حول التحكيم حيث بيّن فيها موقفه في هذه المسألة و انّه كان طبق الكتاب و السنّة فلنكتف بذلك و لنرجع الى ما بقى من السياسة الحكيمة التي مارسها معهم.

 

2 ـ التعامل معهم كسائر المسلمين :

    تعامل الإمام مع الخوارج كسائر المسلمين ولم ينقص من حقوقهم شيئاً مادام لم يشنّوا الحرب عليه ، روى الطبري عن كثير الحضرمي قال : قام عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم ، فقال رجل من جانب المسجد : لا حكم إلاّ لله ، و قام آخر فقال مثل ذلك ، ثم توالى عدّة رجال يحكمون ، فقال عليّ : الله أكبر كلمة حقّ يراد بها باطل أما انّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، و لانمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا ، ولانقاتلكم حتّى تبدؤنا ، ثمّ رجع إلى مكانه الذي كان من خطبته (2)

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/53.

________________________________________

(90)

3 ـ بعث الشخصيات لإرجاعهم عن غيّهم :

    قام الإمام بإرسال أكابر أصحابه رجاء هداية بعضهم ، فبعث عبدالله بن عبّاس الى معسكرهم فجرى بينه و بينهم مفاوضات ذكرها المؤرّخون ، قال المبرّد : إنّ أميرالمؤمنين لمّا وجّه إليهم عبدالله بن عبّاس ليناظرهم قال لهم : ما الذي نقمتم على أميرالمؤمنين ، قالوا له : قد كان للمؤمنين أمير ، فلمّا حكم في دين الله خرج من الإيمان ، فليتب بعد اقراره بالكفر نَعُدْ إليه ، قال ابن عباس : ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك ان يقر على نفسه بالكفر ، قالوا : إنّه حكّم ، قال : إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدَل مِنْكُمْ ) (1) فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا إنّه حكم عليه فلم يرض ، فقال : إنّ الحكومة كالإمامة ، متى فسق الإمام وجبت معصيته ، و كذلك الحكمان لمّا خالفا نبذت أقاويلهما ، فقال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم ( بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ ) (2) وقال جلّ ثناءه : ( وَلتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ) (3) .

    إنّ حوار ابن عباس معهم كان حجّة دامغة فقد احتجّ عليهم بالقرآن فما أجابوه بشيء.

    والعجب انّهم كانوا يرون التحكيم على خلاف الكتاب و السنّة وانّ الرضا به بمنزلة الكفر ، و مع ذلك كانوا يصرّون على انّه يجب على الإمام أن يخضع لنتيجة التحكيم ، فإنّ الحكمين لمّا عزلاه عن مقام الحكومة يجب عليه التنازل. فما هذا التناقض بين المبدأ والنتيجة ، والتحكيم عندهم كفر وزندقة ولكن

________________________________________

    1 ـ المائدة : 95.

    2 ـ الزخرف : 58.

    3 ـ مريم : 97.

(91)

الأخذ بنتيجته عين التوحيد و التديّن ، كل ذلك يعرب عن وجود العمى في القلوب و الصمم في الأسماع.

    ثمّ انّ الإمام لم يكتف ببعث ابن عمه بل قام بنفسه بهذا الأمر الخطير ، فركب علي ( عليه السَّلام ) إلى حروراء ، فخاطبهم بقوله : ألا تعلمون أنّ هؤلاء القوم لمّا رفعوا المصاحف ، قلت لكم إنّ هذه مكيدة ووهن ، و انّهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لآتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أنّ أحداً كان أكره للتحكيم منّي؟ قالوا : صدقت ، قال : فهل تعلمون أنّكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه ، فاشترطت أنّ حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله ، فمتى خالفاه ، فأنا و أنتم من ذلك براء ، و أنتم تعلمون أنّ حكم الله لايعدوني ، قالوا : الّلهم نعم ، قال : و كان معهم في ذلك الوقت ابن الكواء (قال : و هذا من قبل أن يذبحوا عبدالله بن خباب ، وانّما ذبحوه في الفرقة الثانية بـ « كسكره ») فقالوا له : حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرّون بأنّا كنّا كفرنا ، و لكنّا الآن تائبون فَأَقِرّ بمثل ما أقررنا به ، وتب ننهض معك إلى الشام ، فقال : « أما تعلمون أنّ الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته » ، فقال سبحانه : ( فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أهْلِهِ وحَكَمَاً مِنْ أهلِهآ ) وفي صيد اصيب كأرنب يساوي نصف درهم فقال ( يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْل مِنْكُمْ ).

    فقالوا له : فإنّ عمراً لمّا أبى عليك أن تقول في كتابك : « هذا ما كتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين » محوت اسمك من الخلافة و كتبت « علي بن أبي طالب » فقد خلعت نفسك ، فقال : لي في رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أسوة حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب : « هذا كتاب كتبه محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و سهيل بن عمرو » وقال له : لو أقررت بأنّك رسول الله ما خالفتك ، ولكنّي اُقدمّك لفضلك ، فاكتب « محمّد بن عبدالله »

 

________________________________________

(92)

فقال لي : يا علي ، امح « رسول الله » فقلت : يا رسول الله لا تسخو نفسي على محو اسمك في النبوّة فقال : قفني عليه ، فمحاه بيده ، ثم قال : « اكتب محمّد بن عبدالله » ثم تبسّم إليّ وقال : يا عليّ ، أما أنّك ستسامُ مثلها فتعطي ، فرجع معه منهم ألفان من حروراء وقد كانوا تجمّعوا بها فقال لهم علي ( عليه السَّلام ) مانسميّكم؟ ثم قال : أنتم الحرورية ، لاجتماعكم بحروراء (1) .

    وللامام خطبة اُخرى بيّن فيها شبهة الخوارج و أجاب عنها بشكل واضح ، فمن أراد فليرجع إلى « نهج البلاغة » (2)

    هذا بعض ما مارَسَه الإمام تجاه غيّهم و كلّها تكشف عن سعة صدره ، وقوّة صبره ، واخلاصه في الدين ، و لكّن القوم تمادوا في طغيانهم و أعادوا في خواتيم أمرهم ، ما تظاهروا به في بدء غوايتهم ، غير انّهم لم يكتفوا به فأراقوا دماء طاهرة ، فلم يكن بدّ للامام من قطع مادة الفساد ، فما قام بالمواجهة المسلَّحة إلاّ بعدما بذل كل ما في وسعه من النصح و الإرشاد ، و بعد أن بلغ السيل الزبى ، فردّ الحجر من حيث جاء.

________________________________________

    1 ـ المبرّد : الكامل 2/135 ـ 136 ط مكتبة المعارف و له كلام معهم ذكره المبرّد أيضاً في 2/156. نأتي به عند محاكمة الأشعث فانتظر ، ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/274 ـ 275.

    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 127.

________________________________________

(93)

الفصل الخامس

موقف الإمام من رأي الحكمين

 

________________________________________

(94)

________________________________________

(95)

    لقد صالح الامام معاوية و أوكل الأمر الى الحكمين في ثلاثة عشر خلت من شهر صفر عام 37 من الهجرة ، و اتّفقا على أنّ الحكمين يجتمعان بدومة الجندل ليرفعا ما رفع القرآن ، و يُخَفِضّا ما خفّض القرآن ، وقد اجتمعا هناك في شعبان ذلك العام ، و كانت النتيجة أن خلع أبو موسى الإمام عن الخلافة ، و نصب عمروبن العاص معاوية بن أبي سفيان إماماً للمسلمين ، كل ذلك بخداع معروف في التاريخ ، حيث اتّفقا سرّاً على أن يخلعا علياً و معاوية عن الحكم حتى يوليّ المسلمون لأنفسهم والياً ، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما خدع عمروبن العاص أباموسى الأشعري فقال له : تقدَّم وأدل برأيك ، فقال : يا أيّها الناس إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة فلم نرأصلح لأمرها ، و لا ألمّ لشعثها من أمر قد جمع رأيي ورأي عمروعليه ، و هو أن نخلع علياً ومعاوية و تستقبل هذه الاُمة الأمر فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم ، وانّي قد خلعت علياً و معاوية فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ، ثم تنحّى و أقبل عمروبن العاص فقام مقامه فحمدالله و أثنى عليه و قال : إنّ هذا قد قال ما سمتعم و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و اُثبِتُ صاحبي معاوية فإنّه ولي عثمان بن عفان (رضي الله عنه)

 

________________________________________

(96)

والطالب بدمه و أحقّ الناس بمقامه ، فقال أبو موسى : مالك لا وفّقك الله غدرتَ و فجرت (1) إنّما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، قال عمرو : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، و حمل شريح بن هاني على عمرو فقنعه بالسوط و حمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط ، و قام الناس فحجزوا بينهم ، وكان شريح بعد ذلك يقول : ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ماأتى ، و التمس أهل الشام أباموسى فركب راحلته و لحق بمكّة ، قال ابن عباس : قبّح الله رأي أبي موسى حذّرته و أمرته بالرأي فما عقل ، فكان أبوموسى يقول : حذِّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكنّي إطمأننت اليه و ظننت أنّه لن يؤثِرَ شيئاً على نصيحة الاُمّة ، ثم انصرف عمرو وأهل الشام الى معاوية وسلّموا عليه بالخلافة ، ورجع ابن عباس و شريح بن هاني الى علي ( عليه السَّلام ) و كان إذا صلّى الغداة يَقْنُتُ فيقول : الّلهمّ إلعن معاوية و عمراً و أباالأعور السلمي و حبيباً و عبدالرحمن بن خالد و الضحاكَ بن قيس و الوليد ، فبلغ ذلك معاوية فكان اذا قنتَ لعن علياً و ابن عباس و الأشتر و حسناً و حسيناً.

    وزعم الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة (2) . لمّا بلغ علياً ماجرى بين الحكمين من الحكم على خلاف كتاب الله و سنّة رسوله و غدر عمروبن العاص و انخداع أبي موسى قام خطيباً ، رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران ، وقال :

________________________________________

    1 ـ هذا من الصحابة العدول عند القوم ، فاقض ما أنت قاض فهذا الصحابي يصف زميله بالفجور و الغدر ، و الجمهور يصفون الجميع بالتقى و العدل.

    2 ـ الطبري : 4/51 ـ 52 ـ و ما نقله عن الواقدي غير صحيح لما عرفت سابقاً : انّه كان اللازم على الحكمين الإدلاء برأيهما قبل انقضاء موسم الحج و قد اتفق الطرفان في صفر عام 37. فكيف يكون الاجتماع عام 38؟.

________________________________________

(97)

    « الحمدلله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح ، و الحدث الجليل ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس معه إله غيره ، و أنّ محمّداً عبده و رسوله ، صلّى الله عليه ».

    أمّا بعد : فإنّ معصية الناصح ، الشفيق العالم ، المجرَّب ، تورث الحسرةَ ، وتَعْقِبْ الندامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ، و نخلت لكم مخزون رأيي ، لوكان يطاعُ لقصير أمر ، فأبيتم عليّ اباء المخالفين الجفاة ، و المنابذين العصاة ، حتّى ارتاب الناصُح بِنُصحه ، و ضنَّ الزنْدُ بقَدْحِه ، فكنت أنا و إياكم كما قال أخو هوازن :

أمرتكم أمري بمنعَرَج اللّوى              فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد (1)

    صدق الإمام ، انّ من الخطب الفادح ، و الحدث الجليل ، خلع صدّيق الاُمّة و أوّل من آمن برسالة النبي الأكرم و صدّق به و بات في فراشه ، دفعاً لريب المنون ، وجاهد في سبيل الله بنفسه و نفيسه و شهد المعارك كلها إلاّ تبوك ، (و كان ذلك بأمر النبي) ، الى غير ذلك من فضائل و مناقب و مآثر جمّة اعترف بها الصديق و العدّو و القريب و النائي.

    إنّه من المصائب العظام نصب معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق ، ابن آكلة الأكباد ، للخلافة و الزعامة الإسلامية ، و أنّى هو من الإسلام ، و هو ثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن ، أو ليس هذا من أدهى الدواهي؟ ولإجل ذلك نرى انّ الإمام يصف تلك الحادثة المريرة ، بالخطب الفادح و الحديث الجليل.

    هذا ما يرجع الى نفس الخلع و النصب وأمّا ما كان يرجع الى الحكمين فكان عليهما قبل ادلاء الرأي في حقّ عليّ و معاوية ، دراسة الأسباب التي أدّت

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 35.

________________________________________

(98)

الى إشعال نار الفتنة و اراقة الدماء الطاهرة حيث أسفرت حرب صفين عن مقتل خمسة وأربعين ألف نفر من جيش معاوية ، و شهادة خمسة و عشرين ألف نفر من جيش الإمام علي بن أبي طالب (1) كلّ ذلك لأجل الأخذ بثأر شخص واحد ، أفيصح في ميزان العدل و النصفة أن تزهق هذه النفوس كلّها مقابل ذلك؟ فهل كان الأساس لشنّ الحروب على عليّ ( عليه السَّلام ) هو حكم القرآن الكريم و السنّة النبويّة؟ وهل هما يسوّغان لأخذ ثأر انسان واحد ، ارتكاب تلك الجنايات الهائلة؟ أو أنه كان أخذ الثأر واجهة لما يطمح إليه معاوية من دفع الإمام عن مقامه و ركوبه منصّة الخلافة ، أو إلجاء عليّ إلى ابقاء ابن الطلقاء في المقام الذي كان يُشْغِلُه طيلة خلافة الخليفتين كما طلبه من الإمام قبل الحرب و خلالها؟

    كان على الحكمين دراسة المواضيع التالية حتى يتبين من له الحق عمّن عليه و هي :

    1 ـ دراسة الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة عثمان ، وهل كان هناك مبّرر لقتله أو لا؟

    2 ـ إنّ قيادة الإمام بعد قتل عثمان هل كانت قيادة قانونية و شرعية ، حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و تمت البيعة له في مسجد النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بمرأى و مسمع من الناس من دون أيّ جبر و إكراه؟! و لم تكن هناك بيعة أصلا ، أو كانت البيعة عن إكراه لاعن اختيار؟

    3 ـ اذا خرج الباحث من دراسة الأمر الثاني بأنّ قيادة الإمام كانت قيادة شرعية هل كان هناك مبّرر لمعاوية لرفض بيعة المهاجرين و الأنصار ، و تأخير بيعته الى أن يقوم بأخذ الثأر ، ويدفع الإمام إليه قتلة الخليفة و كأنّه هو الخليفة

________________________________________

    1 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين 643.

________________________________________

(99)

ـ معاوية ـ؟ و هل يكون معاوية بعمله و رفضه و خروجه باغياً على الإمام المفترض طاعته و قد جاء حكم الباغي في الذكر الحكيم (1) .

    أو كان على معاوية أن يدخل في جماعة المسلمين و لايشُق عصاهم بالتقاعس عنه ، ثم يرفع الخصومة الى صاحب البيعة فيرى رأيه.

    4 ـ اذا ثبت أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره و انّه يجب أخذ ثاره من قتلته ، فعندئذ يقع الكلام في أنّ أخذ الثار هل هو وظيفة الخليفة أو وظيفة معاوية أو لا هذا ولا ذاك ، و إنّما هو راجع الى ولد عثمان؟

    5 ـ نفترض أنّ أخذ الثار وظيفة الإمام ، فهل كان ـ صلوات الله عليه ـ قادراً على تنفيذ حكم القصاص أو كانت الظروف السائدة لا تسمح بذلك؟

    6 ـ اذا كان طلحة و الزبير في نكث البيعة ، و في اخراج زوجة الرسول من بيتها ـ وقد امرت بالمكث فيه ـ وفي اخراج عامل الإمام من البصرة و قتل حرسه الى غير ذلك من الاُمور التي أدّت الى حرب الجمل ، اذا كانا في هذه الاُمور معذورين ، مجتهدين ، و ان كانا مخطئين ، فهل يصحّ تبرير عمل قتلة عثمان بالخطأ في الاجتهاد أولا؟

    7 ـ و على فرض لزوم الاقتصاص و رفض اجتهادهم فهل لخليفة العصر ، العفو عن القصاص و ابداله بالديّة كما فعله عثمان في حقّ عبيدالله بن عمر حين قتل هرمزان ، و جفينة بنت أبي لؤلؤ بلا ذنب؟ (2) .

    هذه هي المواضع الهامّة التي كانت دراستها أمراً مفروضاً على الحكمين حتّى يخرجا مرفوعي الرأس محيين ما أحياه القرآن و مميتين ما أمات ، غير أنّ الحكمين ـ ياللأسف ـ لم يَنْبَسا فيها ببنت شفة ومرّا عليها مرور اللئام و لكن

________________________________________

    1 ـ الحجرات : 9.

    2 ـ الطبري : التاريخ 3/305.

________________________________________

(100)

لا محيص للباحث المحقق عن قيمة رأي الحكمين من دراستها ، ولأجل ذلك نبحث عنها بإيجاز ، حتّى يقف القارىء على أنّ رأي الحكمين كما وصف أمير المؤمنين كان خطباً فادحاً و اليك دراستها :

    إنّ دراستها على وجه التحقيق تحوجنا الى تأليف مفرد لايناسب وضع الكتاب ، غير انّا نشير إليها إشارة عابرة ، و نلمع إليها إلماعاً بسيطاً.

    أوّلا : قد تعرّفت على بعض الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة و الفتك به ، و انّ الاستبداد بالرأي ، و تسليط بني أميّة على رقاب الناس ، و تخصيص كميّة هائلة من بيت المال لأصحاب الترف و البذخ من أبناء بيته ، و تسيير صلحاء الاُمّة من الصحابة و التابعين عن المدينة المنوّرة إلى منافيهم ، و أخيراً تعدّي عمّاله و ولاته في العراق و مصر على الطبقات الوسطى ، و الفقيرة من المجتمع و .... كل هذه أدّت إلى انتشار السخط و الغضب على الخليفة و عُمّاله إلى أن جنى ثمرة عمله فقتل في عقر داره وبين أبنائه و نسائه بمرأى و مسمع من المهاجرين و الأنصار ، و هم بين مجهز عليه ، و مؤلّب وراض و محايد. و القضاء في مثل هذه المسألة من صلاحية لجنة عارفة بالكتاب و السنّة ، واقفة على حياة الخليفة و ما قام به من الأعمال ، و ما نقم عليه من الأفعال حتى تصدر ـ بعد سماع حجج الثائرين ـ عن مصدر قويم و مثل هذه المشكلة لا تحل عقدتها في ساحة الحرب ، بل في جوّ هادئ ، يكون القاضي فيه مستقّلا في الرأي ، و حرّاً في التفكير و التعبير ، و نحن لاندخل في هذه المعركة الخطيرة ، نترك القضاء فيها إلى تلك اللجنة الخبيرة و نعطف عنان البحث إلى الموضوع الثاني.

    ثانياً : إنّ من سبر التاريخ يقف على أنّ بيعة الإمام كانت بيعة شعبية جماهيرية ، ولم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة الإسلامية ، فاذا قلت :

    لم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة فإنّما اقولها عن بيّنة و دليل فإنّ الخليفة

(101)

الأوّل قد خرج عن السقيفة ببيعة لفيف من المهاجرين من الأنصار و تخلّف عن بيعته بنو هاشم و الخزرجيون عامة.

    كما انّ عمر بن الخطاب تسنّم منصة الخلافة بإيصاء من الخليفة و لم يكن هناك للناس أيّ رأي ولااختيار.

    و قد كانت خلافة عثمان بانتخاب الشورى التي عَيَّنَ أعضاءها الخليفة الثاني ولم يكن للمهاجرين و الأنصار أيّ نظر في تعيين تلك الشورى.

    فإذا كان كلّ ذلك معطياً للخلافة ، الصبغة القانونية ، فبيعة المهاجرين و الأنصار عليّاً هاتفين بأنّهم لايختارون غيره و فيهم الرعيل الأول من صحابة الرسول و التابعين لهم بإحسان ، أولى بأن تكون شرعية و قانونية. و اتّفق الباحثون عن كيفية انعقاد الامامة لرجل ، على انّ بيعة أهل الحل و العقد من أهل المدينة حجّة على عامّة المسلمين.

    يروي الطبري عن محمّد بن الحنيفة قال : كنت مع أبي حين قتل عثمان (رضي الله عنه) فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولانجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك ، ولاأقدمَ سابقة ولاأقرب من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فقال : لا تفعلوا ، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك ، قال : ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّة ، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين ، قال : سالم بن أبي الجعد : فقال عبدالله بن عبّاس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، فأبى هو الاّ المسجد ، فلمّا دخل ، دخل عليه المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس (1) .

    وقد حفظ التاريخ أسماء المتخلّفين عن بيعة علي وهم نفر يسير لا يتجاوز

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/450.

________________________________________

(102)

العشرة و هذا يدل على أنّ جوّ البيعة كان هادئاً حراً ، ولم يكن هناك أيّ ضغط و إجبار ، فبايعت الجماهير ، و تخلّفت عدة قليلة كانت عثمانية الهوى كحسان بن ثابت ، و كعب بن مالك ، و مسلمة بن مخلد ، وزيد بن ثابت ، و النعمان بن البشير ، و محمّد بن مسلمة ، و رافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، و كعب بن عجرة.

    يقول الطبري : أمّا حسّان فقد كان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان و بيت المال فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار الله مرتين ، فقال أبو أيّوب : ما تنصره إلا انّه أكثر لك من العضدات ، فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة المدينة و ترك ماأخذ منهم له (1)

    ولاأظن انّه يوجد على أديم الأرض انتخاب جماهيري لقائد ، لايوجد فيه مخالف شاذ يأبى عن البيعة لدوافع شخصيّة.

    وقد تعرفت فيما سبق على كلمات الإمام و نزيد في المقام قوله مخاطباً طلحتة و الزبير : والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني إليها و حمّلتموني عليها (2) .

    ثالثاً : إذا خرجنا بهذه النتيجة : إنَّ بيعة الإمام كانت بيعة شرعية قانونية أطبق عليها المهاجرون و الأنصار ، فلأيّ مبّرر يرفض معاوية عليّ و يؤخّر البيعة و يرفع قميص عثمان مطالباً بالثار؟ ولأجل ذلك نرى الإمام يُنَدِّده و يبيّن موقفه من بيعته ويكتب اليه قائلا : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولاللغائب أن يرد ، انّما الشورى للمهاجرين و الأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه ،

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/452.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 200.

________________________________________

(103)

فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولّى (1) .

    رابعاً : لو خرج الباحث بهذه النتيجة و هو أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره ، وأنّه يجب أخذ ثأره من قَتَلِته ، فلاشك انّ ذلك حقّ ولىّ الدم ، قال سبحانه : ( وَ منْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلطَاناً فَلا يُسْرِف فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (2) فهل كان معاوية وليّ الدم ، أو أنّ وليّ الدم أولاد المقتول و إن نزلوا. إِنَّ معاوية حسب المقاييس الشرعية لم يكن وليّ الدم و إنّما أولياؤه ولده فلهم حق القصاص ، ولكن لا ينالون حقّهم إلاّ برفع الأمر الى المحكمة الصالحة لتنظر في أمرهم. ولو عجزت المحكمة ، فلهم الاستنجاد بغيرهم ، لا في بدء الأمر ، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يُندّد بقيامه بأخذ الثأر ولايراه صالحاً لهذا الأمر ويكتب الى معاوية : « زعمت أنّك انّما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان » : ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوْرَدْتُ كما أوردوا ، وأصدرتُ كما أصدروا ، و ما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى و بَعْد فما أنت و عثمان ، إنّما أنت رجل من بني أميّة ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه ، فإن زعمت أنّك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إليّ (3) .

    وفي لفظ ابن قتيبة : أمّا قولك ادفع إليَّ قتلة عثمان ، فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان ، و هم أولى بذلك منك ، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع الى البيعة التي لزمتك و حاكم القوم إليَّ (4) .

    خامساً : إذا خرجنا بهذه النتيجة ، أنّ أخذ الثأر و إن كان حقّاً ثابتاً لأولياء

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الكتب برقم 6 وفي ذيل الكتاب إشارة الى قوله سبحانه ( و من يشاقق الرسول ... ) النساء : 115.

    2 ـ الاسراء : 33.

    3 ـ المبرّد : الكامل 1/194 مكتبة المعارف بيروت.

    4 ـ ابن قتيبة : الامامة و السياسة 1/88.

________________________________________

(104)

الدم ، لكنّهم لايقومون بأخذ حقّهم مباشرة ، بل اللازم عليهم رفع الشكوى الى المحاكم الصالحة التي أقامها وليّ المسلمين أعني الخليفة المفترض طاعته ، وإلا فلو قام وليّ الدم بالقصاص و أخذ الحق مباشرة ، لزم الفوضى في المجتمع ، كما هو واضح لكلّ من له إلمام بالمسائل الاجتماعية ، فإذا كان هذا حقّاً ثابتاً للإمام ، فهل كان الإمام قادراً على تنفيذ حكم القصاص في حق اولئك الثائرين ، أو كانت الظروف لاتساعد إجراء الحكم ، ولا تعلم حقيقة الحال إلاّ بدراسة الموضوع تاريخياً ، فإنّه يشهد على أنّ الثائرين لم يكونوا أشخاصاً معيّنين ، بل كانت هناك انتفاضة شعبية مختلطة من الكوفيين والبصريين والمصريين ، والمدنيين ، وقد حاصروا بيت الخليفة قرابة أربعين يوماً ، ولم يكن في وسع أصحاب النبي رفع هذا الحصار أو تقويضه إلى أن حدثت حوادث مريرة أدّت إلى الهجوم العنيف على داره ، وقد بلغ المهاجمون من الكثرة مالايحصيه أحد ، ويعلم صحّة ذلك من الأمر التالي :

    إنّ أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية في اُناس من قرّاء أهل الشام قبل مسير أمير المؤمنين إلى صفين فقالوا له : يا معاوية علامَ تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته؟ قال معاوية لهم : مااُقاتل علياً وأنا أدعّي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته ولكن خبّروني عنكم : ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوماً؟ قالوا : بلى. قال : فلْيَدَعْ إلينا قتلته ، فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا و بينه. قالوا : فاكتب إليه كتاباً يأتيه به بعضنا ، فكتب إلى عليّ هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني فقدم به على عليّ ثم قام أبومسلم خطيباً فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد فإنّك قد قمت بأمر وتولّيته ، والله ما أحبُ أنّه لغيرك ، أن أعطيت الحق من نفسك ، إنّ عثمان قتل مسلماً ، محرماً ، مظلوماً ، فادفع إلينا قتلته ، و أنت أميرنا ، فإن خالفك أحد من

 

 

________________________________________

(105)

الناس كانت أيدينا لك ناصراً ، وألسنتنا لك شاهداً ، و كنت ذا عذر وحجة.

    فقال له علي : اغدُ عَليّ غداً ، فخذ جواب كتابك ، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعةُ أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد و أخذوا ينادون : كلنّا قتل ابن عفان ، وأكثروا من النداء بذلك ، واُذن لأبي مسلم فدخل على عليّ أميرالمؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية ، فقال له أبومسلم : قد رأيت قوماً مالك معهم أمر. قال : وما ذاك؟ قال : بلغ القوم انّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان ، فضجّوا و اجتمعوا و لبسوا السلاح و زعموا أنّهم كلّهم قتلة عثمان ، فقال علي : والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينيه ، مارأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولاإلى غيرك. (1)

    نحن نفترض انّ بعض من لبس السلاح في هذه الواقعة لم يكونوا من المهاجمين ، أوالمؤلّبين ، أوالمجهزين ، لكن تواجد هذه الكميّة الهائلة من المتبنّين لهذه الفكرة في الكوفة ، فضلا عن أبناء جلدتهم في البصرة و المدينة ، المؤيّدين المتفرقين في بلادهم ، يدلّ على أنّ المسألة صارت أزمة اجتماعيةً معقّدةً ، ولم يكن الإمام متمكّناً من دفع من قام بالقتل إلى وليّ الدم.

    ويعرب عن ذلك كلام الإمام للناكثين ، فقد دخل طلحة و الزبير في عدة من الصحابة ، فقال : يا عليّ إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود ، و إنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم ، فقال لهم : يا اخوتاه ، إنّي لست أجهل ما تعلمون ، ولكّني كيف أصنع بقوم يملكونا ، ولا نملكهم ، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، وثابت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم ، يسومونكم ما شاءوا ، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء ممّا تريدون؟ قالوا : لا. قال : فلا ،

________________________________________

    1 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين 95 ـ 97.

________________________________________

(106)

والله لا أرى إلاّ رأياً ترونه إن شاء الله (1) .

    فعلى هذا فلم تكن للامام يوم بويع ولابعده ولا بعد شهور ، أيّة مقدرة على القاء القبض على القاتلين ، وإلاّ لثارت تلك الجماهير على عليّ وخلافته الفتَّية ، وكانت المصيبة أعظم.

    سادساً : لاشكّ انّ طلحة و الزبير نكثا البيعة و أخرجا زوجة رسول الله من بيتها ، وقد دخلوا البصرة بعنف وقتلوا حرس القصر ، إلى غير ذلك من الاُمور التي لايشكّ فيها أيّ ملمّ بالتاريخ ، ولكن القوم يذكرون الرجلين بخير و صلاح و يسترحمون عليهما و يرونهما من العشرة المبشّرة بالجنّة ولا يرون أعمالهم الإجرامية مخالفة لطهارتهما ، ويبّررون أعمالهم بالاجتهاد كما يبرّرون به عمل معاوية و غيرهم من المجرمين الطغاة حتى عمل مسلم بن عقبة ذلك الطاغي الذي أباح أعراض نساء المدينة لجيشه ثلاثة أيّام.

    فلو صحّ ذلك التبرير فلماذا لايصحّ في حقّ هؤلاء الذين هاجموا بيت الخليفة و أجهزوا عليه؟ فكانوا مجتهدين في الرأي ، مخطئين في النتيجة ، فلهم اُجر واحد ، كما أنّ للمصيب أجرين؟. ولكن لانرى أيّة كلمة حول هؤلاء يبرّر بها عملهم ، فما هذا التفريق بين المتماثلين؟ ولماذا تُقيَّمُ الاُمور بمكيالين.

    سابعاً : نقل المؤرّخون انّه لمّا قتل عمر ، وثب عبيدالله بن عمر فقتل الهرمزان و ابنة أبي لؤلؤ ، فلمّا بلغ الخبر عمر ، قال : إذا أنا متّ فاسألوا عبيدالله البيّنة على الهرمزان ، هل هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي ، و إن لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيدالله من الهرمزان ، فلمّا ولي عثمان (رضي الله عنه) قيل له : ألا تمضي وصيّة عمر (رضي الله عنه) في عبيدالله؟ قال : و من وليّ الهرمزان؟ قالوا :

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/458

________________________________________

(107)

أنت يا أميرالمؤمنين قال : قد عفوت عن عبيدالله بن عمر (1) .

    إنّي لا اُريد أن أحوم حول هذه القصّة ، كيف وقد نقم به على الخليفة حيث عطّل القصاص إذ قتل عبيدالله رجلا يصلّي وصبية صغيرة ، ومع ذلك عفى عنه الخليفة لسبب عاطفي أو غيره ، فَلِمَ لا يجوز ذلك للامام علي ( عليه السَّلام ) وقد رأى انّ في القَوَد مفسدةً عظمى على الاسلام و المسلمين؟ وانّ جبر دم الخليفة بالدية أصلح من القصاص و القود.

    هذه هي المواضيع الهامّة التي كانت من المفترض دراستها و القضاء فيها ، ثم الخروج بنتيجة صحيحة عن الحكومة ، غير انّ الحَكَمين جعلاها وراء ظهورهما ، ولم ينبسا فيها ببنت شفة ، بل كان هوى أبي موسى الأشعري مع عبدالله بن عمر ، و كان هوى عمرو بن العاص مع معاوية ، فلنتعرف على عبدالله بن عمر ، ثم عمروبن العاص :

    أمّا عبدالله بن عمر فكفى في ضعف نفسه انّه لمّا ولّي الحجاج الحجاز من قبل عبدالملك بن مروان جاءه ليلا ليبايعه ، فقال له الحجّاج ما أعجلك؟ فقال : سمعت رسول الله يقول : من مات بغير امام مات ميتة جاهلية (2) فقال له : إنّ يدي مشغولة عنك ، و كان يكتب ، فدونك رجلي ، فمسح على رجله و خرج ، فقال الحجاج : يا أحمق. تترك بيعة علي بن أبي طالب و تأتيني مبايعاً في ليلة؟ و ما هذا إلاّ انّ الخوف من السيف جاءك إلى هنا (3) .

    وأمّا عمرو ، و ما أدراك ما عمرو؟ ذلك الانسان الذي عرّفه الامام بقوله :

________________________________________

    1 ـ البيهقي : السنن الكبرى 8/61 ـ ولاحظ الطبري : التاريخ 3/303.

    2 ـ الهيثمي : مجمع الزوائد 5/218. الطيالسي : المسند 259 وللحديث صور اُخرى.

    3 ـ أبو جعفر الاسكافي : المعيار و الموازنة 24. و ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 13/242 ـ عبدالله المامقاني : تنقيح المقال برقم 6989.

________________________________________

(108)

متى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً (1) ، فكان هواه مع معاوية لموعدة وعدها إيّهاه وهي ولاية مصر و قد تحدّث عنها المؤرّخون في قصّة طويلة حيث قال معاوية له : وهلّم فبايعني ، فقال عمرو : لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك. قال معاوية : سل ، تعط ، قال : مصر طعمة(2) .

    وروى ابن مزاحم قال : قال معاوية لعمرو : إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه ، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم.

    قال عمرو : إلى من؟ قال : إلى جهاد عليّ ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير ، مالك هجرته ولاسابقته ، ولاطول جهاده ، ولا فقهه ، ولا علمه ، والله إنّ له ذلك حدّاً وجدّاً و حظّاً و حُظوةً ، وبلاءاً من الله حسناً ، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر؟ قال : حكمك. قال : مصر طعمة ، قال : فتلكّأ عليه معاوية.

    قال نصر : وفي حديث آخر ، قال : قال له معاوية : يا أباعبدالله ، إنّي أكره أن يتحدّث العرب عنك انّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال : دعني عنك. قال معاوية : إنّي لو شئت أن اُمنّيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو : لا لعَمرالله ، ما مثلي يخْدَع ، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية : اُدن منِّي برأسك اُسارّك. قال : فدنامنه عمرو يسارُّه. فعضَّ معاوية اُذنه و قال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك؟ (3) .

    قال ابن أبي الحديد بعد هذا : « قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي (رحمهم الله) : قال عمرو : « دعنا عنك » كناية عن الإلحاد بل تصريح

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 583.

    2 ـ ابن قتيبة : الامامة و السياسة 1/91 ـ مضى النص فلاحظ تعليقتنا عليه.

    3 ـ نصربن مزاحم : وقعة صفّين 43.

________________________________________

(109)

به ، أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإنّ الاعتقاد بالآخرة وأنّها لاتباع بعرض من الدنيا ، من الخرافات. قال (رحمهم الله) : و ما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قط في الإلحاد و الزندقة ، و كان معاوية مثله و يكفي في تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي (1) وانّ معاوية عضَّ اُذن عمرو ، أين هذا من أخلاق علي ( عليه السَّلام ) و شدّته في ذات الله ، و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة (2) .

    خلاصة البحث :

    ما كانت دراسة جميع هذه المواضيع أمراً صعباً على الحكمين ، بل في دراسة الموضوع الأوّل من المواضيع السبعة كفاية للإدلاء بالحق ، وذلك إنّه إذا كانت خلافة الإمام خلافة قانونية شرعية ، فالخارج عليها باغ على الإمام يجري عليه حكم البغاة أوّلا و تابع لغير سبيل المؤمنين ، وخارق للإجماع ثانياً ، وقد قال سبحانه في حقّ هؤلاء : ( وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَ يَتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيرا ) (3) ( و ان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احديهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفىء الى امر الله ) (4)

    ولا عجب بعد ذلك أنا نرى أنّ الإمام يصف حكم الحكمين بقوله : « فقد خالفا كتاب الله و اتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنّة ولم ينفّذا للقرآن حكماً ». (5)

________________________________________

    1 ـ المراد ما سبق في كلام ابن مزاحم.

    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/64 ـ 65.

    3 ـ النساء : 115

    4 ـ الحجرات : 9.

    5 ـ الطبري : التاريخ 4/57.

(111)

الفصل السادس

تحرّكاتهم العسكرية بعد صدور رأي الحكمين

 

________________________________________

(112)

________________________________________

(113)

    ولمّا بلغ الإمام ما حكم به الحكمان من الحكم الجائر ، قام خطيباً وقال ألا أنّ هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين ، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن ، واتّبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجّة بيّنة ، ولا سنّة ماضية ، و اختلفا في حكمهما ، و كلاهما لم يرشدا ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام ، واصبحوا في معسكركم إن شاء الله ، ثم نزل وكتب إلى الخوارج بالنهر : « بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى زيد بن حصين (1) وعبدالله بن وهب و من معهما من الناس. أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما ، قد خالفا كتاب الله ، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنّة ، ولم ينّفذا للقرآن حكماً ، فبرىء الله ورسوله

________________________________________

    1 ـ وهذا الرجل من الذين فرضوا التحكيم على الإمام و جاء هو مع مسعر بن فدكي بزهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد ، شاكّي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم وقد اسودّت جباههم من السجود ... نادوا الامام باسمه لابإمرة المؤمنين : يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت إليه ... لاحظ : وقعة صفّين 560 وقد مرّ النصُّ أيضاً.

________________________________________

(114)

منهما والمؤمنون. فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا ، فإنّا صائرون إلى عدوّنا وعدوّكم ، ونحن على الأمر الذي كنّا عليه ، والسلام » (1) .

    كان المترقّب من الخوارج إجابة علي ( عليه السَّلام ) والخروج معه إلى قتال معاوية لأّنهم هم الذين كانوا يقولون لعلي ( عليه السَّلام ) : « تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك ، واخرِج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا » (2) .

    ولكنّهم ـ يا للأسف ـ لم يستجيبوا إلى دعوة علي ( عليه السَّلام ) و كتبوا إليه : « أمّا بعد فإنّك لم تغضب لربّك ، إنّما غضبت لنفسك ، فإن شهدت على نفسك بالكفر ، واستقبلت التوبة ، نظرنا بيننا و بينك وإلاّ فقد نابذناك على سواء. إنّ الله لايحبّ الخائنين ». فلمّا قرأكتابهم آيس منهم فرأى أن يدعهم و يمضي بالناس إلى أهل الشام حتّى يلقاهم فيناجزهم ، فنزل بالنخيلة ، وقام فحمدالله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد فإنّه من ترك الجهاد في الله ، وادهن في أمره كان على شفا هلكة ، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة ، فاتّقوا الله وقاتلوا من حادّ الله وحاول أن يطفىء نور الله. قاتلوا الخاطئين ، الضالّين ، القاسطين ، المجرمين ، الذين ليسوا بقرّاء للقرآن ، ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام ، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهّيؤا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب ، وقد بعثنا إلى اخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله (3) .

    ثمّ إنّه لّبى دعوته من البصرة وحوالي الكوفة جمع كبير وقد اجتمع تحت

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/57.

    2 ـ المصدر نفسه 52.

    3 ـ المصدر نفسه 58.

________________________________________

(115)

رايته ثماني وستّين ألفاً ومائتي رجل ، واستعدّ للمسير إلى الشام.

    إستعدّ الإمام لمواجهة العدّو بالشام ، لكنّه فوجىء بما بلغ إليه من الناس أنّهم يقولون : لو سار الإمام بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم. فقام في الناس وحمدالله وأثنى عليه ، فأجاب دعوتهم خصوصاً بعد ما بلغ إليه أنّهم ذبحوا عبدالله بن خباب على ضفة النهر ، وبقروا بطن اُمّ ولده ، وهم على اُهْبَة الخروج ، وإليك تفصيله :

    إنّ الخوارج اجتمعوا في منزل عبدالله بن وهب الراسبي ، فقال في خطبة له : أمّا بعد فوالله ماينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن ، و ينيبون إلى حكم القرآن ، أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها و الركون إليها والايثار إيّاها عناءً وتباراً (1) آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقول بالحق و ... فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال ، أو إلى بعض هذه المدائن ، منكرين لهذه البدع المضرّة. ثمّ خطب بعده ، حرقوص بن زهير و قال بمثل ماقال : وقال حمزة بن سنان الأسدي : يا قوم : إنّ الرأي ما رأيتم ، فولّوا أمركم رجلا منكم ، فإنّه لابدّ لكم من عماد و سناد ، وراية تحفّون بها ، وترجعون إليها ، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان و شريح بن أوفى العبسي فأبيا ، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال : هاتوها ، أما والله لاآخذها رغبة في الدنيا ، ولاادعها فرقاً من الموت ، فبايعوه لعشر خلون من شوّال و كان يقال له ذوالثفنات.

    ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب : اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنّكم أهل الحق. قال شريح : نخرج

________________________________________

    1 ـ التبار : الهلاك.

________________________________________

(116)

إلى المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكّانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة ، فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين : إنّكم إن خرجتم مجتمعين اُتْبِعْتُم ولكن اخرجوا وحداناً مستخفّين ، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم ، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسر النهروان وتكاتبوا اخوانكم من أهل البصرة ، قالوا : هذا هو الرأي.

    وكتب عبدالله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم مااجتمعوا عليه ، ويحثّهم على اللحاق بهم وأرسل الكتاب إليهم ، فأجابوه أنّهم على اللحاق به.

    فلمّا عزموا على المسير (1) ، تعبّدوا ليلتهم وكان ليلة الجمعة ، ويوم الجمعة ، وساروا يوم السبت فخرج شريح بن أوفى العبسي ، وهو يتلو قول الله : ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبْ قالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقآءَ مَدْيَنَ قالَ عَسَى رَبِّي أن يَهْدِيَنِي سَوآءَ السَبِيلِ ) (2) .

    ثمّ إنّ الخوارج تقاطرت من البصرة والكوفة حتى نزلوا جسر نهروان ، فصاروا جيشاً عظيم العدد والعُدَّة ، وكانت الأخبار عن أفعالهم الشنيعة تصل إلى الناس ففشى الرعب فيهم ، ولأجل ذلك ألحّ الواعون من ضباط علي على مناجزة هؤلاء ثم المسير إلى الشام ، فأجابهم الإمام ، وإليك بيان ما ارتكبوا من الجرائم.

    روى الطبري عن أبي مخنف عن حميد بن هلال : انّ الخارجة التي أقبلت من البصرة جاءت حتى دنت من اخوانها بالنهر فخرجت عصابة منهم ، فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار ، فعبروا إليه فدعوه فتهدّدوه وافزعوه وقالوا له من أنت؟ قال : أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم )

________________________________________

    1 ـ المقصود الخوارج المتواجدون في الكوفة وأطرافها أعني الحرورية.

    2 ـ القصص : 21ـ22 ـ الطبري : التاريخ 4/54 ـ 55.

________________________________________

(117)

ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لمّا افزعوه ، فقالوا له : افزعناك؟ قال : نعم. قالوا له : لاروع عليك ، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لعلّ الله ينفعنا به. قال : حدثني أبي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ فتنة تكون ، يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه ، يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً ، ويُصْبح كافراً ، ويمسي فيها مؤمناً. فقالوا : لهذا الحديث سألناك.

    فما تقول في أبي بكر و عمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا : ما تقول في عثمان في أوّل خلافته وفي آخرها؟ قال : إنّه كان محقّاً في أوّلها وفي آخرها. قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنّه أعلم بالله منكم ، وأشدّ توقّياً على دينه ، وأنفذ بصيرة. فقالوا : إِنّك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لاعلى أفعالها. والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحداً ، فأخذوه فكتّفوه ثمّ أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى متمٌّ ، حتى نزلوا تحت نخلة مواقر ، فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه ، فقال أحدهم : بغير حلّها وبغير ثمن؟ فلفضها وألقاها من فمه ، ثمّ أخذ سيفه فأخذ يمينه ، فمرّ به خنزير لأهل الذمّة فضربه بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض ، فأتى صاحب الخزير فأرضاه من خنزيره.

    فلمّا رأى ذلك منهم ابن خباب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى ، فما عَلَيَّ منكم بأس إنّي لمسلم ما أحدثت في الاسلام حدثاً ولقد آمنتموني. قلتم : لاروع عليك. فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه ، وسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة ، فقالت : إنّما أنا أمراة ألاتتّقون الله؟ فبقروا بطنها.

    وقتلوا ثلاث نسوة من طىّ وقتلوا اُمّ سنان الصيداوية ، فبلغ ذلك عليّاً و من معه من المسلمين من قتلهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس ، فبعث

 

________________________________________

(118)

إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغ عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولايكتمه ، فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسألهم ، فخرج القوم إليه فقتلوه ، وأتى الخبر أمير المؤمنين والناس ، فقام إليه الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين عَلامَ تدع هؤلاء يخلفوننا في أموالنا وعيالنا؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا ممّا بيننا و بينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام ، فقبل علي فنادى بالرحيل ، ولمّا أراد علي المسير إلى أهل النهر من الأنبار ، قدم قيس بن سعد بن عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره ، ثمّ جاء مقبلا إليهم ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر وبعث إلى أهل النهر : ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ، ثمّ أنا تارككم وكاف عنكم حتى نلقى أهل الشام ، فلعلّ الله يقلب قلوبكم ، ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم ، فبعثوا إليه وقالوا : كلّنا قتلناهم وكلّنا نستحلّ دماءهم ودماءكم. ولمّا وصل على جانب النهر وقف عليهم فقال :

    أيّتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوى ... إنّي نذيركم ان تصبحوا تلفيكم الاُمّة غداً صرعى بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولابرهان بيّن ، ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة ، وأخبرتكم أنّ طلب القوم إيّاها منكم دهن ومكيدة لكم ، ونبّأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وانّي أعرف بهم منكم ، عرفتهم أطفالا ورجالا ، فهم أهل المكر والغدر ، وانّكم إن فارقتم رأيي ، جانبتم الحزم ، فعصيتموني حتى إذا أقررت بأن حكمت ، فلمّا فعلت شرطت واستوثقت ، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن و أن يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنّة ، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأوّل فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم؟ قالوا : إنّا حكمنا فلمّا حكمنا أثمنا وكنّا بذلك

 

________________________________________

(119)

كافرين ، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك وإن أبيت فاعتزلنا ، فانّا منابذوك على سواء ، إنّ الله لايحب الخائنين ، فقال عليّ : أصابكم حاصب ، ولابقي منكم وابر. اَبَعْد إيماني برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، ثمّ انصرف عنهم (1) .

    ولم يكتف الإمام بهذا الأمر ، بل كلّمهم في معسكرهم بما يلي : « أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : منّا من شهد ومنّا من لم يشهد. قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفّين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة ، حتى اُكَلِّم كّلا منكم بكلامه ، ونادى الناس ، فقال :

    امسكوا عن الكلام ، انصتوا لقولي ، واقبلوا بأفئدتكم إلىّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها.

    ثمّ كلّمهم ( عليه السَّلام ) بكلام طويل ، من جملته : ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلةً وغيلةً ومكراً وخديعةً : اخواننا وأهل دعوتنا ، استقالونا واستراموا إلى كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم ، والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان ، وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة ، وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم ، وألزموا طريقتكم وعضّوا على الجهاد ، بنواجذكم ، ولاتلتفتوا إلى ناعق نعق ، إن اُجيب أضلّ وإن ترك ذلّ (2) .

    ولمّا أتمّ الإمام الحجة عليهم ، ورأى أنّ آخر الدواء الكي ، فعبّأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي ، وعلى ميسرته شبث بن ربعي ، أو

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/60 ـ 63. المسعودي : مروج الذهب : 3/156. الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 36.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 121.

________________________________________

(120)

معقل بن قياس الرياحي ، وعلى الخيل أبا أيّوب الأنصاري ، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري ، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل ، قيس بن سعد بن عبادة.

    وعبّأت الخوراج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، و على خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجّالة حرقوص بن زهير السعدي.

 

الحرص على صيانة نفوسهم :

    ثمّ إنّ الإمام توخّياً لحفظ الدماء وصيانة الأنفس ، بعث الأسود بن يزيد في ألفي فارس حتى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلاثمائة فارس من خيلهم ورفع عليّ راية أمان ، مع ابي أيوب فناداهم أبو أيوب : من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن و خرج من هذه الجماعة فهو آمن ـ انّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة اخواننا منكم في سفك دمائكم.

    لقد كان هذا التخطيط و السياسة الحكيمة مؤثّراً في تفرّق القوم وصيانة دمائهم فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي (1) في خمسائة فارس ، وخرجت طائفة اُخرى متفرّقين ، فنزلت الكوفة ، وخرج إلى علي ( عليه السَّلام ) منهم نحو من مائة ، وكانوا أربعة آلاف وكان الذين بقوا مع عبدالله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة ، وزحفوا إلى علي ( عليه السَّلام ).

    وقدم على الخيل دون الرجال وصفّ الناس وراء الخيل صفّين ، وصفّ

________________________________________

    1 ـ سيأتي خروجه على معاوية في الفصل الثامن فانتظر.

(121)

المرامية أمام الصفّ الأوّل ، وقال لأصحابه : كفّوا عنهم حتى يبدأوكم (1) .

    قال المبرّد : لمّا وافقهم عليّ ( عليه السَّلام ) بالنهروان ، قال : لاتبدوهم بقتال حتى يبدأوكم. فحمل منهم رجل على صف عليّ ( عليه السَّلام ) فقتل منهم ثلاثة ، فخرج إليه عليّ ( عليه السَّلام ) فضربه فقتله ... ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري ، وكان على ميمنة عليّ ، فقال عليّ ( عليه السَّلام ) لأصحابه : احملوا عليهم ، فوالله لايقتل منكم عشرة ، ولايسلم منهم عشرة. فحمل عليهم فطحنهم طحناً قتل من أصحابه ( عليه السَّلام ) تسعة ، وأفلت من الخوارج ثمانية (2) .

    قال ابن الأثير : لمّا قال عليّ لأصحابه « كفّوا عنهم حتى يبدأوكم » نادت الخوارج : الرواح إلى الجنة ، وحملوا على الناس ، وافترقت خيل (3) علي فرقتين ، فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل ، وعطفت عليهم الخيل. من الميمنة و الميسرة ، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف ، فمالبثوا أن أناموهم. (4)

    ثمّ إنّ علياً يحدّث أصحابه قبل ظهور الخوارج انّ قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، علامتهم رجل مُخدج اليد ، سمعوا ذلك منه مراراً ، فلمّا فرغ من قتالهم ، أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج ، فوجدوه في حفرة على شاطئ النهر في خمسين قتيلا ، فلمّا استخرجوه نظروا إلى عضده

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4/64.

    2 ـ المبرّد : الكامل 2/139 ـ 140. الطبري : التاريخ 4/63 ـ 64 والمسعودي : مروج الذهب 3/157 وقال : وكان من جملة من قتل من أصحاب عليّ ، سبعة ، ولم يفلت من الخوارج إلا عشرة وأتى على القوم وهم أربعة آلاف ، ولعل لفظة « إلاّ » زائدة.

    3 ـ هكذا في الأصل وقد سقط لفظ « علىّ ».

    4 ـ كلّ مشوه الخلق في أحد أعضائه فهو مخدج.

________________________________________

(122)

فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة ، وحلمة عليها شعرات سود ... فلمّا رآه قال : الله أكبر لاكَذِبْتُ ولاكذّبت.

    وقال حينما مرّ بهم وهم صرعى : بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم ، قالوا : يا أميرالمؤمنين : من غرّهم ، قال : الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء ، غرّتهم بالأماني ، وزينت لهم المعاصي ، نبّأتهم أنّهم ظاهرون (1) قال علي : خذوا ما في عسكرهم من شيء ، قال : فأمّا السلاح والدواب و ما شهدوا به عليه الحرب فقسمة بين المسلمين ، وأمّا المتاع والعبيد والاماء فإنّه حين قدم ، ردّه على أهله ، ونقل الطبري أيضاً : انّ علياً أمر بطلب من به رمق منهم ، فكانوا أربعمائة ، فأمر بهم عليّ ، ودفعوا إلى عشائرهم ، وقال : احملوهم معكم فداووهم ، فاذا برأوا ، فوافوا بهم الكوفة (2) .

 

فَقْاُ عينِ الفتنة :

    كانت الخوارج من أهل القبلة وأهل الصلاة والعبادة ، و كان الناس يستصغرون عبادتهم عند صلواتهم ، فلم يكن قتالهم واستئصالهم أمراً هيّناً ، ولم يكن يجترئ عليه غير عليّ ( عليه السَّلام ) ولأجل ذلك قام بعد قتالهم ، فقال : أمّا بعد حمدا لله والثناء عليه ، أيّها الناس فإنّي فَقَأتُ عين الفتنة ، ولم يكن ليجترىءَ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلَبُهُا (3) . (4)

    قال ابن أبي الحديد : إنّ الناس كلّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة ،

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/158. ابن الأثير : الكامل 3/175 ـ 176.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/66.

    3 ـ الغيهب : الظليمة والمراد بعد ما عمّ ظلالها فشمل فكّنى عن الشمول بالتموّج ، لأن الظلمة إذا تموّجت شملت أماكن كثيرة ، كما أنّ المراد من قوله واشتّد كلبها ، أي شرّها وأذاها.

    4 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 93.

________________________________________

(123)

ولايعلمون كيف يقاتلونهم ، هل يتبعون مولِّيهم أم لا؟ وهل يجهّزون على جريحهم أم لا؟ وهل يقسمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا ، ويصلّي كصلاتنا ، واستعظموا أيضاً حرب عائشة وحرب طلحة و الزبير لمكانتهم في الاسلام ، وتوقّف جماعة منهم عن الدخول في تلك الحرب ، كالأحنف بن قيس وغيره ، فلو لا أنّ عليّاً اجترأ على سلّ السيف فيها ما أقدم أحد عليها (1) .

 

تنّبؤ للإمام بعد استئصال الخوارج :

    لمّا قتل الخوارج وأفلت منهم من أفلت ، قال بعض أصحاب الإمام : يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم ، فقال :

    « كلاّ والله انّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء ، كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين » (2) .

    ذكر المؤرّخون قضايا وحوادث تعرب عن أنّ القوم صاروا بعد ذلك لصوصاً سلاّبين ، فإن دعوة الخوارج اضمحلّت ، ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض ، وإليك نماذج :

    خرج في أيام المتوكّل ، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة ، فقطع الطريق وأخاف السبيل ، فحاربه أبو سعيد الصامتي فقتل كثيراً من أصحابه ، وأسر كثيراًمنهم ، فمدحه أبو عبادة البحتري وقال :

كنّا نكفر عن اُمية عصبةً                   طلبوا الخلافة فجرةً وفسوقاً

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 7/46.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 59.

________________________________________

(124)

ونلوم طلحة والزبير كليهماونقول تيم أقربت وعديّهاوهم قريش الأبطحون إذا انتمواحتّى غدت جشم بن بكر تبتغيجاءوا براعيهم ليتّخذوا به                ونعنّف الصديق والفاروقاأمراً بعيداً حيث كان صعيقاطابوا اُصولا في العلا وعروقاارث النبي وتدعيه حقوقاعمداً إلى قطع الطريق طريقا (1)

    ثمّ ذكر أنّه خرج بأعمال كرمان وجماعة اُخرى من أهل عمان لانباهة لهم ، وقد ذكرهم أبوإسحاق الصابي في الكتاب « التاجي » وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وانّما وكدهم ، وقصدهم ، إخافة السبيل والفساد في الأرض ، واكتساب الأموال من غير حلّها.

    ثمّ أتى يذكر المشهورين بنظر الخوارج الذين تمّ بهم صدق قول أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) : « إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء » وأشهرهم :

    1 ـ عكرمة مولى ابن عباس.

    2 ـ مالك بن أنس الأصبحي.

    3 ـ المنذر بن الجارود العبدي.

    4 ـ يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج.

    5 ـ صالح بن عبدالرحمن صاحب ديوان العراق.

    6 ـ جابر بن زيد (2) .

    7 ـ عمرو بن دينار.

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5/74 ـ لاحظ بقيّة الأبيات.

    2 ـ كونه منهم موضع تأمّل وإن كانت الاباضية ترى أنّه الأصل لهم في الحديث والفقه ، تولّد بين عامي 18 ـ 22 وتوفّي في العقد الأخير من القرن الأوّل أو أوائل الثاني ، تقرأ ترجمته في فصل خاص.

________________________________________

(125)

    8 ـ مجاهد.

    9 ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي.

    10 ـ اليمان بن رباب.

    11 ـ عبدالله بن يزيد.

    12 ـ محمّد بن حرب.

    13 ـ يحيى بن كامل.

    وهؤلاء الثلاثة الأخيرة كانوا من الأباضية ، كما أنّ اليمان كان من البيهسيّة ، وأبو عبيدة من الصفريّة ، وسيوافيك أسماء مشاهيرهم (1) في فصل خاص.

 

كلمة أخيرة للإمام في حقّ الخوارج :

    وللإمام عليّ كلمة في حق الخوارج ألقاها بعد القضاء عليهم وقال :

    « لاتقاتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه » (2) .

    هذه الكلمة تعرب عن أنّ انحراف الخوارج عن الحق لم يكن شيئاً مدبّراً من ذي قبل ، وإنّما سذاجة القوم وقرب قعرهم ، جرّهم إلى تلك الساحة ، وكانوا جاحدين للحق عن جهل ممزوج بالعناد ، فكانوا يطلبون الحق من أوّل الأمر ، لكن أخطأوا في طلبه ودخلوا في حبائل الشيطان والنفس الأمّارة ، وهذا بخلاف معاوية وجيشه ، فإنّهم كانوا يطلبون الباطل ويركبون الغيّ عن تقصير وعلم ، وقد عرفت أنّه لم يكن لمعاوية مرمى من أوّل الأمر سوى إزاحة عليّ عن منصبه وغصب الخلافة ، و انّ دم عثمان وقميصه وكونه قتل مظلوماًفي

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5/74 ـ 76.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 60.

________________________________________

(126)

عقرداره كانت واجهة استخدمها لجلب العواطف ، يطلب بها إغواء رعاع الناس ، ولأجل ذلك لمّا قتل عليّ وصالحه الحسن وأخذ بزمام الأمر ، لم يبحث عن قتلة عثمان.

    قال ابن أبي الحديد في شرحه :

    « مراده أنّ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم ، و كانوا يطلبون الحق ، ولهم في الجملة تمسّك بالدين ، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها ، وإن اخطأوا فيها ، وأمّا معاوية فلم يكن يطلب الحق ، وإنّما كان ذا باطل لايحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة ، وأحواله كانت تدلّ على ذلك ، فإنّه لم يكن من أرباب الدين ، ولاظهر عنه نسك ، ولاصلاح حال ، وكان مترفاً يذهب مال الفئ فى مآربه ، وتمهيد ملكه ، ويصانع به عن سلطانه ، وكانت أحواله كلّها موذنة بانسلاخه عن العدالة ، وإصراره على الباطل ، و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه ، وتحارب الخوارج عليه ، وإن كانوا أهل ضلال ، لأنّهم أحسن حالا منه ، فإنّهم كانوا ينهون عن المنكر ويرون الخروج على أئمّة الجور واجباً (1) .

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5/78.

________________________________________

(127)

الفصل السّابع

انتفاضات الخوارج بعد حرب النهروان

في العهد العلوي

 

________________________________________

(128)

________________________________________

(129)

    كانت حرب الإمام في النهروان ، حرباً طاحنةً ، قتل رجال العيث والفساد ، واستأصل شافتهم ، وقضى على رؤوسهم ، ولكن لم يكن الخوارج كلّهم متواجدين فيها ، بل كانوا متفرّقين في البصرة ، والنقاط المختلفة من العراق ، فقاموا بانتفاضات ضدّ عليّ وعمّاله ، وكانت الحسرة والخيبة نصيبهم ، وإليك ما وقعت منها في العهد العلوي صلوات الله عليه.

 

1 ـ خروج الخريت بن راشد الناجي (1) :

    جاء الخريت بن راشد الناجي إلى عليّ فقال له ـ وقد جرّده من إمارة المؤمنين ـ : « يا عليّ ، والله لااُطيع أمرك ولااُصلّي خلفك ، وإنّي غداً مفارق لك ، وذلك بعد تحكيم الحكمين ». فناظره علي وحاول اقناعه ، فلم

________________________________________

    1 ـ ذكر خروج الخريت الناجي ، الطبري في تاريخه 4/86 ـ 100 ، وابن هلال الثقفي في غاراته 21 ، والمسعودي في مروجه 3/159 ، والجزري في تاريخه 3/183 ـ 187 ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3/128 ـ 148 ، ولمّا كانت القصة طويلة لاتناسب بحث الملل والنحل نقلناها ملخّصاً وقد لخّصها الدكتور نايف معروف في كتابه : الخوارج في العصر الأموي 100 ـ 101 ، وأتبعنا تلخيصه.

________________________________________

(130)

يرتدع. وسار بجمع من أصحابه فالتقى في طريقه رجلا مسلماً فسأله عمّا يقوله في علي ، فأثنى عليه وقدّمه. فحملت عليه عصابة من أصحاب الخريت فقطّعوه بأسيافهم ، بينما التقوا يهودياً فخلّوا سبيله. أرسل عليّ في أثرهم زياد بن خضعة البكري في عدد قليل من العساكر فأدركهم في أرض المذار ، فدعا زياد صاحبهم الخريت ، فسأله عمّا نقمه من أمير المؤمنين ، فأخبره بأنّه لايرضى بعليّ إماماً ، فطلب إليه تسليمه قتلة الرجل المسلم ، فأبى عليه ذلك. فاقتتلوا قتالا شديداً دون أن يتمكّن أحدهما من الآخر ، حتى جاء الليل فحجز بينهما ، و تحت جنح الظلام تنكّر الخريت وأصحابه واتّجهوا صوب الأهواز ، وكتب زياد إلى عليّ بما جرى بينهما. فانتدب عليّ معقل بن قيس الرياحي في جيش قوامه أربعة آلاف رجل ، وبعث به في طلب الخريت الذي كان قد اجتمع إليه كثير من قطّاع الطرق والخارجين على النظام ممّن كسروا الخراج كما انضمّت إليه طائفة من الأعراب كانت ترى رأيه ، وتمكّنوا من بعض مناطق فارس وأخرجوا عاملها لعلي سهل بن حنيف ، ثم كان اللقاء بين الفريقين قرب جبل من جبال رامهرمز ، فخرج الخريت من المعركة منهزماً حتى لحق بساحل بحر فارس.

    ولكنّ الخريت لم يلق سلاحه ، بل استمرّ بجمع الناس حوله ، فكان يأتي من يرى رأي الخوارج فيسر إليهم : « إنّي أرى رأيكم ، وانّ عليّاً ماكان ينبغي له أن يحكّم الرجال في دين الله » ثم يأتي لمن يرى رأي عثمان وأصحابه ، فيقول لهم : « أنا على رأيكم ، وانّ عثمان قتل مظلوماً معقولا » كما كان يجيء مانعي الصدقة فيقول : « شدّوا على صدقاتكم ثم صلوا بها أرحامكم ، وعودوا إن شئتم على فقرائكم ، وهكذا كان يعمل على إرضاء كلّ طائفة من الناس بضرب من القول يتّفق وهواهم. وبذلك استطاع أن يستهوي كثيراً من الأقوام من مختلف الميول والاتجاهات. ولمّا علم معقل بموقعه بساحل البحر بفارس ، عبّأ جنده وزحف

(131)

نحو الخريت وأصحابه ، وهزمهم هزيمة منكرة قتل فيها الخريت ، وتقرّق من بقي من أتباعه هنا وهناك.

    هكذا ، انتهت حياة الخريت الناجي الذي لم تعرف هويّته الفكرية على حقيقتها ، إذ وجدناه تارة يحارب إلى جانب علي ( عليه السَّلام ) وطوراً يخرج على إمامته ويشدّد النكير عليه ، ومرّة يزعم أنّه من الخوارج واُخرى يتآمر على حياة زعمائهم فيستعدي عليّاً على عبدالله بن وهب الراسبي وزيد بن حصين ليقتلهما ، ويقول المسعودي : إنّ الخريت ارتدّ مع أصحابه إلى النصرانية (1) .

    2 ـ لمّا خرج أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على عليّ « بالدسكرة » في مائتين ثمّ سار إلى الأنبار ، فوجّه إليه علي ( عليه السَّلام ) الأبرش بن حسان في ثلاثمائة وواقعه فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين.

    3 ـ ثم خرج هلال بن علفة ومعه أخوه مجالد فأتى « ماسبذان » ووجّه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين ، وكان قتلهم في جمادى الاُولى سنة ثمان وثلاثين.

    4 ـ ثم خرج الأشهب بن بشر و قيل الأشعث وهو من « بجيلة » في مائة وثمانين رجلا ، فأتى المعركة التي اُصيب فيها هلال وأصحابه فصلّى عليهم و دفن من قدر عليه منهم ، فوجّه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي وقيل حجربن عدي ، فأقبل إليهم الأشهب فاقتتلا بـ « جرجرايا » من أرض « جوخا »

________________________________________

    1 ـ المسعودي : مروج الذهب; المطبوع في سبعة أجزاء 3/59. ويظهر منه أنّه كان من أصحاب عليّ ولم يكن من الخوارج وإنّما انفصل عنه ، عندما عسكر الإمام بالنخيلة ليذهب بالناس إلى حرب معاوية ثانيا فعند ذلك جعل أصحابه يتسلّلون و يلحقون بأوطانهم فلم يبق منهم إلاّ نفريسير ، ومضى الخريت بن راشد الناجي في ثلاثمائة من الناس فارتدّوا إلى دين النصرانية .... .

________________________________________

(132)

فقتل الأشهب و أصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.

    5 ـ ثم خرج سعيد بن قفل التميمي في رجب بـ « البندجين » و معه مائتا رجل فأتى « درزنجان » وهي من المدائن على فرسخين ، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان و ثلاثين.

    6 ـ ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى « شهرزور » وأكثر من معه من الموالي ، وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم ، واجتمع معه مائتا رجل وقيل أربعمائة ، وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة ، فأرسل اليه عليّ يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة ، فلم يفعل ، قال : ليس بيننا غير الحرب ، فبعث إليه عليّ شريح بن هاني في سبعمائة ، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا ، وبقي شريح في مائتين فانحاز إلى قرية ، فتراجع بعض أصحابه ، ودخل الباقون الكوفة ، فخرج عليّ بنفسه و قدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي ، فدعاهم جارية إلى طاعة عليّ ، وحذّرهم القتل فلم يجيبوا ، ولحقهم عليّ أيضاً فدعاهم فأبوا عليه و على أصحابه ، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمنهم ، وكان في الخوارج أربعون رجلا جرحى فأمر عليّ بادخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برئوا ، وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين ، وكانوا من أشجع من قاتل من الخوارج ولجرأتهم قاربوا الكوفة (1) .

 

جريمتهم الكبرى أو آخر سهم في كنانة الخوارج :

    قتل الإمام رؤوس الخوارج واستأصلهم ، وقد نجت فئة منهم وتواروا في البلاد كما انّ من كان به رمق منهم ، دفعهم الإمام إلى عشائرهم ليداووهم ، ولكن

________________________________________

    1 ـ ابن الأثير : الكامل 3/187 ـ 188.

________________________________________

(133)

كان للقوم في البصرة ونواحيها أنصار وموالون في الطريقة وكان للهالكين في ساحة القتال من ينتمي إليهم بشيء من النسب والسبب ، فكانوا ينتهزون الفرصة لأخذ ثأرهم من الإمام عليّ ( عليه السَّلام ) قال : المبرّد : فلمّاقتل عليّ أهل النهروان وكان بالكوفة زهاء ألفين ممّن لم يخرج مع عبدالله بن وهب وقوم ممّن استأمن إلى أبي أيّوب الأنصاري ، فتجمّعوا وأمروا عليهم رجلا من طي ، فوجّه إليهم علي ( عليه السَّلام ) رجلا وهم بالنخيلة فدعاهم ورفق بهم ، فأبوا فعاودهم ، فأبوا فقتلوا جميعاً ، فخرجت طائفة منهم نحو مكة فوجّه معاوية من يقيم للناس حجّهم فناوشه هؤلاء الخوارج فبلغ ذلك معاوية ، فوجّه بسر بن أرطاة أحد بني عامر بن لؤي ، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بان يصلّي بالناس رجل من بني شيبة لئلاّ يفوت الناس الحج ، فلمّا انقضى نظرت الخوارج في أمرها ، فقالوا : إنّ عليّاً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الاُمّة ، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقّه ، وقال رجل من أشجع : والله ما عمرو دونهما ، وانّه لأصل هذا الفساد ، فقال عبدالرحمن بن ملجم : أنا أقتل عليّاً ، فقالوا : وكيف لك به؟ قال : أغتاله. فقال الحجاج بن عبدالله الصريمي وهو البرك : وأنا أقتل معاوية ، وقال زادويه مولى عمروبن تميم : وأنا اقتل عمرو ، فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة فجعلوا تلك الليلة ليلة احدى وعشرين (1) من شهر رمضان ، وخرج كل واحد إلى ناحية ، فأتى ابن ملجم الكوفة ، فأخفى نفسه وتزوّج إمراةً يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب وكانت ترى رأي الخوارج ، ويروى أنّها قالت : لاأقنع منك إلاّ بصداق اُسمّيه لك ، وهو ثلاث آلاف درهم وعبدٌ وأمة ، وأن تقتل علياً ، فقال لها : لك ما سألت. فكيف لي به؟. قالت : تروم ذلك غيلة ، فإن سلمت أرحت الناس من شرّ وأقمتَ مع أهلك ، وإن أصبتَ صرتَ إلى

________________________________________

    1 ـ تفرّد المبرد بنقله ، والصحيح ليلة التاسعة عشر.

________________________________________

(134)

الجنة ونعيم لايزول فانعم لها وفي ذلك يقول :

ثلاثة آلاف وعبد وقَيْنَةٌفلا مهر أغلى من عليّ وإن غلى           وضرب عليّ بالحسام المصمِّمولافتك إلاّ فتك ابن ملجم

    ويروى أنّ الأشعث نظر إلى عبدالرحمن متقلّداً سيفاً في بني كندة فقال : يا عبدالرحمن أرني سيفك. فأراه فرأى سيفاً حديداً ، فقال : ما تقلّدك السيف وليس بأوان حرب؟ قال : فقال : إنّي أردت أن أنحر به جزور القرية. فركب الأشعث بغلته و أتى عليّاً فخبّره ، فقال له : قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه ، فقال علي : ما قتلني بعد.

    ويروى انّ عليّا ـ رضوان الله عليه ـ كان يخطب مرّة ويذكر أصحابه ، وابن ملجم تلقاء المنبر ، فسمع وهو يقول : والله لأريحنّهم منك ، فلمّا انصرف علي ـ صلوات الله عليه ـ إلى بيته أتى به ملبباً (1) فأشرف عليه ، فقال علي : ماتريدون؟ فخبّروه بما سمعوا ، فقال : ما قتلني بعد فخلّوا عنه.

    ويروى أنّ علياً كان يتمثّل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي :

اُريد حياته ويريد قتلي           عَذِيرَك من خليلكَ من مراد

    فقيل لعليّ : كأنّك قد عرفته و عرفت ما يريد بك. أفلا تقتله؟ فقال : كيف اقتل قاتلي؟.

    فلمّا كان ليلة احدى و عشرين من شهر رمضان خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي فاعتورا الباب الذي يدخل منه عليّ ـ رضي الله عنه ـ وكان مُغَلِّساً ويُوقظ الناس للصلاة ، فخرج كما كان يفعل فضربه شبيب فأخطاه

________________________________________

    1 ـ أي مأخوذا بتلابيه.

________________________________________

(135)

وأصاب سيفه الباب ، وضربه ابن ملجم على صَلْعَتِه (1) فقال علي : فزت ورب الكعبة ، شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان بالمسجد من الأنصار ، قال : سمعت كلمة عليّ ورأيت بريق السيف ، فأمّا ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له وتلقّاه المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب بقطيفة فرمى بها عليه ، واحتمله فضرب به الأرض ، فقعد على صدره ، وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت وصرعه وقعد على صدره وكثر الناس فجعلوا يصيحون : عليكم صاحب السيف ، فخاف الحضرميّ أن يكنُّوا عليه ولايسمعوا عذره فرمى بالسيف ، وانسلّ شبيب بين الناس فَدُخِلَ على عليّ فاومر فيه ، فاختلف الناس في جوابه فقال علي : « إن أعش فالأمر إليّ ، وان اُصب فالأمر لكم ، فإن آثرتم أن تقتصّوا فضربة بضربة وإن تعفوا أقرب للتقوى » .... ومات عليّ ـ صلوات الله ورضوانه عليه و رحمته ـ في آخر اليوم الثالث [ واتّفقوا على القصاص ] فدعا به الحسن ـ رضي الله عنه ـ [ فقال ابن ملجم له ] : إنّ لك عندي سرّاً فقال الحسن ـ رضوان الله عليه ـ : أتدرون ما يريد؟ يريد أن يقرب من وجهي فيعضّ اُذني فيقطعها. فقال : أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها. فقال الحسن : كلاّ والله لأضربنّك ضربة تؤدّيك إلى النار(2) .

    هذا ما ذكره المبرّد في كامله ووافقه عدّة من المؤرّخين غير أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، والصحيح أنّه قتل في المحراب وهو يصلّي الفجر وانّه ضرب في ليلة التاسعة عشر من شهر رمضان واستشهد في ليلة الحادية و العشرين منه : وإليك كلمة عن الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) في ذلك المجال

________________________________________

    1 ـ العبارة تعرب عن كونه مقتولا في باب المسجد ولكنّه مردود بقول أئمة أهل البيت على أنّه قتل في محراب عبادته.

    2 ـ المبرّد : الكامل 2/148. الطبري : التاريخ 4/110 ـ 112 ـ ابن الأثير : الكامل 3/194 ـ 195. الدينوري : الأخبار الطوال 214. المسعودي : مروج الذهب 4/166.

________________________________________

(136)

لمّا ضرب ابن ملجم ـ لعنه الله ـ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان معه آخر فوقعت ضربته على الحائط ، وأمّا ابن ملجم فضربه فوقعت الضربة وهو ساجد على رأسه (1) .

________________________________________

    1 ـ الطوسي : الأمالي 233. المجلسي : البحار 42/205 ـ 206.

________________________________________

(137)

خاتمة المطاف :

ماهي أسباب النكسة في أعقاب حرب صفّين

    لم يختلف اثنان في أنّ النصر كان حليف الإمام طوال مدّة الحرب ، ولكن لمّا طرأت فتنة التحكيم واغترّبها بعض قادة جيشه وخاصة قرّاؤهم ، بدأ الضعف يدبّ في معسكر الإمام ، واختلفوا إلى فرقتين ، فرقة تنادي بالصلح والموادعة ، وفرقة أخرى ـ وكانت في الظاهر قليلة ـ تصرّ على مواصلة الحرب ، ولاجرم أنّ الغلبة كانت للطائفة الاُولى ، ثمّ إنّ نفس تلك الطائفة تراجعت عن فكرتها وحاولت أن تفرض على علي ( عليه السَّلام ) نقض ميثاق التحكيم ، ولكنّها لم تنجح وانتهى إلى ما عرفت من خروج المحكِّمة بصورة قوّة معارضة للإمام إلاّ أنّ الإمام استأصل شأفتهم ، وقطع جذورهم ، فلم يبق في القوم إلاّ حشاشات شكّلت نواة للانتفاضات والأعمال الاجرامية حيث استطاعت اغتيال الإمام واعطاء الفرصة لمعاوية ، لتحقيق طموحاته التي طالما راودته في

 

________________________________________

(138)

حياته السياسية.

    وكان من نتائج تلك الفتنة ، أنّ الإمام لم يتمكّن من عزل معاوية عن سلطته في الشام ، وضمّ الشامات إلى حكومته ، بل خرجت بعض المناطق التي كانت تحت يده عن سلطته ، فاستولى عمرو بن العاص على مصر ، وقتل عامل الإمام محمّد بن أبي بكر فيها حتى أصبح العراق مطمعاً لمعاوية من خلال الغارات التي قامت بها كتائبه.

    كلّ ذلك ، مانصفه بالنكسة تارة ، والهزيمة اُخرى ، ويطيب لنا بيان أسبابه في خاتمتنا هذه ، وربّما يتخيّل القارئ أنّ هذا البحث خارج عن موضوع هذا الجزء (الخوارج) ، ولكنّه إذا اطّلع عليه يقف على أنّ له الصلة التامّة بالموضوع وإليك البيان.

    إنّ السبب الحقيقي لوقوع النكسة كان أمرين :

 

الأوّل : سيادة نزعة الاعتراض على قرّاء الكوفة :

    كان جيش الإمام خليطاً من طائفتين طائفة صالحة مطيعة لأمر القيادة إلى حدّ التضحية بكلّ ما تملك لتنفيذ أوامرها من دون أيّ اعتراض ، و من نماذج تلك الطائفة مالك الأشتر ، وعدي بن حاتم وعبدالله بن عباس ، وعماربن ياسر ، وعمروبن الحمق الخزاعي ، وحجر بن عدي الكندي ، وسهل بن حنيف ، وسليمان بن صرد ، إلى غير هؤلاء من صلحاء الاُمّة وأتقيائها التابعين للإمام تبعية الضل لذي الضل.

    وطائفه تطغى عليها نزعةُ الاعتداد بالرأي والاستبداد في الأمر ، والتدخّل في شؤون القيادة ، وكانوا يتصوّرون أنّه ليس بينهم و بين القائد ، فرق حتى بقدر الأنملة ، وهذا الشعور كان ظاهراً منهم في جميع مواقفهم من

 

________________________________________

(139)

حين انضمامهم لراية الإمام إلى خروجهم عليه ، ومن نماذج هؤلاء ، حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية ، ومِسْعر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي ، ونافع بن الأزرق ، وعبدالله بن وهب الراسبي إلى غير ذلك من رؤوس تلك الطائفة الذين صاروا خوارج من بعد.

    وبما أنّ أصحاب هذه الطائفة كانوا يكثرون قراءة القرآن والصّلاة والتهجّد في الليل حتى اسودّت جباههم من السجود ، وأصبحت لهم ثفنات كثفنات البعير ، فكان لكلامهم نفوذ وتأثير كبير في جيش الإمام ، خاصّة اُولئك الذين كانوا من قبائلهم و كتائبهم و هم كثيرون.

    والذي يدلّنا على سيادة تلك النزعة فيهم (نزعة الاعتراض على القيادة والمتولّين لشؤون الحكومة) مانقرأه في تاريخ حياتهم وإليك بيانه :

    1 ـ ما سمعت من حديث النبي في حقّ رأس الخوارج (ذي الخويصرة) حيث وقف على رسول الله وهو يقسّم غنائم خيبر فقال له : ما عدلت منذ اليوم ، فقال رسول الله : ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟! فقال عمر : ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال رسول الله : إنّه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ ، وقال : تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم ، وصوم أحدكم في جنب صيامهم ، ولكن لايجاوز إيمانهم تراقيهم ، وقال سيخرج من ضئضىء هذا الرجل ، قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (1) .

    2 ـ ما رواه الطبري عن محمّد بن راشد عن أبيه في حرب الجمل قال : كان من سيرة عليّ : أن لايقتل مدبراً ولايذفف على جريح ولايكشف ستراً ولايأخذ مالا ، فقال قوم يومئذ : ما يحلّ لنا دماءهم ويحرّم علينا أموالهم؟ فقال

________________________________________

    1 ـ نقله أهل السير ونقله أصحاب الصحاح و المسانيد ، ورواه البخاري أيضاً في صحيحه لاحظ الجزء 6 تفسير سورة البراءة تفسير قوله سبحانه : والمؤلّفة قلوبهم ص 67.

________________________________________

(140)

عليّ : القوم أمثالكم من صفح عنّا فهو منّا و نحن منه ، ومن لجَّ حتى يصاب ، فقتاله منّي على الصدر والنحر ، وإنّ لكم في خمسه لغنى ، فيومئذ تكلّمت الخوارج (1) .

    وقد ذكر الطبري قصّة الاعتراض على وجه الإجمال ولكن غيره ذكره على وجه التفصيل ، قالوا : نقمت الخوارج على عليّ عندما قرب منهم في النهروان وأرسل إليهم أن سلّموا قاتل عبدالله بن خباب ، فأجابوه بأنّا كلّنا قتله ، ولئن ظفرنا بك قتلناك ، فأتاهم عليّ في جيشه ، وبرزوا إليه بجمعهم ، فقال لهم قبل القتال : ماذا نقمتم منىّ؟ فقالوا له : أوّل ما نقمنا منك انّا قاتلنا بين يديك يوم الجمل ، فلمّا انهزم أصحاب الجمل ، أبَحْتَ لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال ، ومنعتنا من سبي نسائهم و ذراريهم ، فكيف استحللت مالهم دون النساء والذريّة؟ فقال : إنّما أبحتُ لكم أموالهم بدلا عمّا كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي عليهم ، والنساء والذرية لم يقاتلونا ، وكان لهم حكم الإسلام ، بحكم دار الإسلام ، ولم يكن منهم ردّة عن الإسلام ولا يجوز استرقاق من لم يكفر ، وبعد لو أبحت لكم النساء ، أيّكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فخجل القوم من هذا (2) .

    وما ذكره الطبري ، وإن وقع في سنده سيف بن عمر ، وهو ضعيف في الرواية ، ولكن مانقله البغدادي نقىّ السند مضافاً إلى أنّه تضافرت الروايات على نقله من الفريقين.

    روى الشيخ الطوسي في تهذيبه عن مروان بن الحكم قال : لمّا هزّمنا عليّ بالبصرة ردّ على الناس أموالهم ، من أقام بيّنة أعطاه ، ومن لم يقم بيّنة أحلفه ،

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 3/545.

    2 ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق : 78.

(141)

قال : فقال له قائل : يا أمير المؤمنين اقسم الفي بيننا والسبي ، قال : فلمّا أكثروا عليه ، قال : أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه؟ فكفّوا (1) .

    3 ـ روى الطبري أيضاً : لمّا فرغ عليّ من بيعة أهل البصرة ، نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة ، فقسّمها على من شهد معه ، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة وقال : لكم إن أظفركم الله عزّوجلّ بالشام مثلها إلى اعطياتكم ، وخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء (2) .

    كل ذلك يعرب عن طغيان نزعة الاعتراض على القوم ، وأنّهم كانوا يرون لأنفسهم حق التدخل في شؤون القيادة.

    4 ـ إنّا نرى أنّ الأشعث لمّا قرأ وثيقة التحكيم على الشاميين ، استقبلوه برضى ولمّا عرضها على رايات عنزة وغيرهم من العراقيين ، قابلوه بالاعتراض والسيف.

    قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ، ويمرّ به على صفوف أهل الشام وراياتهم ، فرضوا بذلك ، ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مرّ برايات عنزة ـ وكان مع عليّ من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف ـ فلمّا مرّ بهم الأشعث فقرأه عليهم ، قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله. ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أوّل من حكم ، واسماهما معدان وجعد ، اخوان ، ثم مرّ بها على مراد ، فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :

ما لعليّ في الدماء قد حكم               لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

________________________________________

    1 ـ الحرّ العاملي : وسائل الشيعة 11 الباب 25 الحديث 5 و 7 ص 58.

    2 ـ الطبري : التاريخ 3/544. والمراد من السبائيّة : الخوارج ، فإنّه كثيراً مايطلقها عليهم.

________________________________________

(142)

    لاحكم إلاّ لله ولو كره المشركون. ثم مرّ على رايات بني راسب فقرأه عليهم فقالوا : لاحكم إلاّ لله ، لانرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم : لاحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين ، فقال رجل منهم لآخر : أمّا هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن اديّة أخو مرداس بن اديّة التميمي ، فقال : أتحكّمون الرجال في أمرالله ، لاحكم إلاّ لله ، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شدّ بسيفه ليضرب به الأشعث ، فأخطأه وضرب به عجز دابّته ضربة خفيفة فاندفعت به الدابة وصاح به الناس : أن امسك يدك. فكفّ ورجع الأشعث إلى قومه(1) .

    5 ـ إنّ بعض من صار من الخوارج كانوا متواجدين في الكوفة أيّام خلافة عثمان ، وكانوا يعترضون على عمّاله مثل سعيد بن العاص ، فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان فأمر بتسييرهم من الكوفة ، ونرى بين المعترضين ، حرقوص بن زهير السعدي ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي ، وزيد بن حصين الطائي وهم رؤوس الخوارج وكانوا ملتفّين حول الأشتر النخعي ، وكانوا يعدّون من أصحابه ، حتى كتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال : إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القرّاء ـ وهم السفهاء ـ شيئاً فكتب إليه : أن سيّرهم إلى الشام (2) .

    نعم اجتمع مع الأشتر غيرهم ، من الرجال الصالحين والعّباد الناسكين كزيد وصعصعة بن صوحان وكعب بن عبده وعدي بن حاتم الطائي ، ويزيد بن قيس الأرحبي (الذي كان له مواقف مشكورة في حرب صفّين) ، وعمرو بن الحمق ، وكميل بن زياد النخعي ، وحارث بن عبدالله الأعور الهمداني ،

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 587 ـ 588.

    2 ـ الغدير : 5 / 31 نقلاً عن الأنساب للبلاذري : 5/39.

________________________________________

(143)

وغيرهم من الصلحاء ، وذلك يكشف عن وجود نزعة الاعتراض في قرّاء الكوفة ورؤسائهم ، نعم كون هؤلاء محّقين في اعتراضهم على عامل الخليفة الثالث وحتى الخليفة نفسه لايكون دليلا على أنّهم محقّون كذلك في مسألة التحكيم وما خلّف من الآثار السيّئة ، ولا دليل على تلك الملازمة ، فرّب انسان يكون محقّاً في دعوى ومبطلا في دعوى اُخرى ، والامعان في حقيقة الاعتراضين ـ الاعتراض على عامل الخليفة الثالث والاعتراض على أميرالمؤمنين عليـ يكفي في تصديق ماذكرنا.

    نعم إنّ الإسلام لا يخالف سياسة الانتقاد وحرية التعبير عن الرأي ، ولايريد للاُمّة أن تكون كقطيع من الماشية بل انّه يدعو إلى النقد إذا كان لأجل طلب الحق ، مثلا إذا بدا للانسان أنّ قول القائد لا يماثل عمله فله السؤال والنقاش ولكن باسلوب بنّاء ، لغاية الوصول إلى الحق ، وهذا ما يدعو إليه الإسلام خصوصاً فيما إذا كان القائد انساناً غير معصوم ، بل نجد ذلك في عصر المعصوم أيضاً ، روى أصحاب السيرة لمّا توفّي عبدالله ولد النبي بكى عليه وجرت دموعه على خدّيه ، فاستظهر بعض الصحابة أنّ عمل النبي هذا ينافي ما أوصى به من عدم البكاء على المّيت ، فاجابه النبي وأرشده إلى الحق وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : لا ، ولكنّي نهيت عن صوتين احمقين وآخرين : صوت عند مصيبة ، وخمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شيطان ، وصوت عند نعمة لهو ، وهذه رحمة ومن لايَرْحَم لايُرْحَم (1) .

    نعم إذا كانت الغاية مجرّد إبداء الرأي ، وحبّ الاعتراض ، فهذا ما يعدّه الكتاب والسنّة من المجادلة بالباطل ( ما يُجادِلُ فِى آياتِ اللهِ إلاّ الَّذِيْنَ كَفَروا فَلا

________________________________________

    1 ـ برهان الدين الحلبي : السيرة الحلبية 3/395.

________________________________________

(144)

يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البِلادِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَ يُجادِلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ). (2)

    نحن نرى تلكما النزعتين متجسّدتين في الأشتر والملتفّين حوله من الصلحاء من جهة ، وحرقوص وزملائه من جهه اُخرى ، وإن اشتركوا في حقبة من الزمن في صبغة الاعتراض.

    فالنزعة الاُولى : كانت نابعة عن روح صادقة لاعن هوى نفسي ، ولأجل ذلك بقوا على اعتراضهم ومخالفتهم لعامل الخليفة إلى أن قُتِلَ عثمان ، لأنّهم أدركوا أنّ عمل الخليفة وعمّاله يفارق مبادىء الإسلام ، وتحمّلوا التسيير والتبعيد عن الوطن ، ولكن لمّا واجهوا عليّاً ووجدوا فيه ضالّتهم المنشودة من أنّه القائد الإلهي الذي يعمل لأجل الله ، سلّموا إليه مقاليد امورهم.

    والنزعة الثانية : كانت نابعة عن روح مكابرة تريد فرض ما تحبّ وترى ، سواء أكان حقّاً أم باطلا ، ونذكر هنا نموذجاً للقسمين :

    قال ابن مزاحم : قيل لعلي لمّا كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم ، فقال علي : بلى إنّ الأشتر ليرضى اِذا رَضيْتُ ، وقد رضيتُ ورضيتُم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار ، إلاّ ان يُعْصى الله ويتعدّى ما في كتابه (3) .

    وإي تسليم أعلى وأنبل من تسليم الأشتر لأمر القيادة ، فقد كان النصر حليفاً له ولم يبق بينه وبين تحقّقه الاّ عدوة الفرس ، أو قاب قوسين او أدنى ، فلمّا وقف على أنّ مواصلة الحرب ولو فترة قليلة سيؤدّي إلى القضاء

________________________________________

    1 ـ غافر : 4.

    2 ـ الكهف : 56.

    3 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 598.

________________________________________

(145)

على حياة الإمام ، تراجع عن ساحة القتال ، ورجع طائعاً مذعناً لما أمره به الإمام ( عليه السَّلام ) وخاطب اُولئك الذين وقفوا بوجه الإمام ، وقال خُدِعَتم والله فانخدعتم ، ودُعِيْتُم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباة السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا ، وشوقاً إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة ، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون (1) .

    هذا هو الأشتر وهذه طاعته للامام الحق ، وأمّا الخوارج فسَلْ عن عنادهم ولجاجهم في وجه الحق ، فقد احتجّ عبدالله بن عباس على صحّة مبدأ التحكيم بقوله : « إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد » فقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذوا عَدْل مِنْكُمْ ) فكيف في الامامة ... ، فلمّا سمعت الخوارج تلك المعارضة قال بعضهم لبعض : اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم ، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم : ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون ) وقال عزّوجلّ : ( و تُنْذِرَ به قَوْماً لدّا ) (2) .

    إلى هنا وقفت على العامل الأوّل لظهور هذه النكسة ، وإليك بيان العامل الثاني :

 

الثاني : وجود العملاء في جيش الإمام :

    كان في جيش الإمام عملاء لمعاوية يعملون لصالحه ، حيث كانوا يضمرون العداء لعليّ ، ويتحّينون الفُرصَ للقضاء على حكومته وحياته ، كأمثال الأشعث بن قيس ، وقد عرفت أنّه خطب في أوان طلوع فكرة إنهاء الحرب وقال : من لذرارينا ونسائنا إن قُتِلْنا؟ يقول هذا والخوارج بمرأى

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 563.

    2 ـ المبرّد : الكامل 2/122 طبع مطبعة المعارف بمصر.

________________________________________

(146)

ومسمع منه ، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد : « كلّ فساد كان في خلافة عليّ ( عليه السَّلام ) وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث » (1) .

    وإليك الشواهد على صحّة تلك النظرية :

    1 ـ كان الأشعث عاملا لعثمان على آذربايجان ، وقد كان عمروبن عثمان تزوّج ابنة الأشعث بن قيس ، ولمّا بويع عليّ ( عليه السَّلام ) كتب إليه مع زياد ابن مرحب الهمداني رسالة ذكر فيها بيعة طلحة والزبير ونقضهما البيعة وقال : « وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه أمانة ، وفي يديك مال من مال الله ، وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ ». فلمّا قرأ كتاب علي قال لبعض أصحابه : « إنّه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربايجان » وأراد اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على عليّ ، وهو معزول عن الولاية (2) .

    قال المسعوديّ : وبعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن آذربايجان وأرمينية وكان عاملا لعثمان عليها ، وكان في نفس الأشعث على عليّ ما ذكرنا من العزل وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من الأموال (3) .

    2 ـ كانت رئاسة قبيلتي كندة وربيعة للأشعث فانتزعها عليّ ( عليه السَّلام ) منه وولّى حسان بن مخدوع عليهما ، ثمّ بعد هن وهنات أشركه في الرئاسة (4) وقد أثار ذلك حفيظة الأشعث على علىّ وإن لم يظهر ذلك.

    3 ـ كان الأشعث متّهماً بالتنسيق مع معاوية خلال فترة الحرب ، يقول ابن مزاحم : إنّ ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث رسولا فقال له : « إنّ ابن عمّك

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/279.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 29.

    3 ـ المسعودي : مروج الذهب 3/117.

    4 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 153.

________________________________________

(147)

ذي الكلاع يقرئك السّلام ورحمة الله ، وإن كان ذوالكلاع قد اُصيب وهو في الميسرة ، فتأذن لنا فيه » فقال له الأشعث : اقرأ صاحبك السّلام ورحمة الله ، وقل له : إنّي أخاف أن يتهمني علي ، فاطلبه إلى سعيد بن قيس فإنّه في الميمنة ، فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم ، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون (1) .

    4 ـ أرسل معاوية بن ابي سفيان أخاه عتبة بن أبي سفيان ، فقال : الق الأشعث ، فإنّه إن رضي رضيت العامّة ، فخرج عتبة فنادي الأشعث بن قيس ، فقال الناس : هذا الرجل يدعوك ، فقال الأشعث : سلوه من هو؟ فقال : أنا عتبة بن أبي سفيان ، فقال الأشعث : غلام مترف ولابدّ من لقائه ، فخرج إليه ، فأبلغه دعوة معاوية (2) .

    وهذا يعرب أنّ معاوية كان يحاول ايجاد موطأ قدم له في ساحة علي ( عليه السَّلام ) من خلال كسب رضا الأشعث ، وقد نجح الرجل في ذلك بعض النجاح وقد كانت نتيجة هذه الدعوة أنّه قال في جواب معاوية : أمّا البقية فلستم بأحوج إليها منّا ، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله.

    فلمّا بلغ معاوية كلام الأشعث ، أيقن بأنّ الأشعث قد جنج للسلم ، وشاعت نتيجة المفاوضة في صفوف الجيشين ، إلى أن اجترأ الأشعث على ابداء رأيه في الحرب والطلب من عليّ أنهائها رحمة بالذراري والنساء وهذا ماتقرأه فيما يلي :

    5 ـ إنّ الأشعث قام ليلة الهرير في أصحابه من كندة ، فألقى خطاباً يتوخّى منه تثبيط العزائم وايقاف الحرب لصالح معاوية ، وكانت امارات النصر لعلي

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 341.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 465.

________________________________________

(148)

ظاهرة ، وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الأسنّة في نهار تلك الليلة ، فقال في خطابه : « قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فني فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط ، إلاّ فليبلّغ الشاهد الغائب ، انّا إن نحن توافقنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات ، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ولكنّي رجل مسنّ اخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا.

    قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث ، فقال : أصاب وربّ الكعبة ، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا ، ولتميلنّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم ، وأنّما يبصر هذا ذووا الأحلام والنهى ، اربطوا المصاحف على أطراف القنا.

    فصار أهل الشام فنادوا في سواد الليل : يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ، الله الله في البقية. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلَّدوها الخيل ... (1) .

    6 ـ إنّ رفع المصاحف أوجد الفوضى في جيش علي ( عليه السَّلام ) وفرّقهم إلى فرقتين ، فمنهم من يطلب مواصلة الحرب كعمروبن الحمق وغيره ، ومنهم من يصرّ على إنهائها ، ومنهم الأشعث فقام خطيباً مغضباً فقال : يا أمير المؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله فإنّك أحقّ به منهم ، وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال (2) .

    7 ـ وبعدما رضي الإمام بالتصالح لاُمور تقدّمت ، وتوافق الطرفان على أن يبعث كلّ واحد حكماً ، اختار الإمام أن يكون الحكم من قِبَلِه ، ابن عباس ،

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 549 ـ 550.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 551.

________________________________________

(149)

فلم يقبله الأشعث ، وقال : والله ما نبالي أكنتَ أنت أو ابن عباس ولانريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر ، قال علي : إنّي اجعل الأشتر ، قال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر (1) .

    8 ـ كان الأشعث يتبجّح بكتاب الصلح ولمّا تمّت كتابته وشهد عليه شهود من الطرفين أخذ به ومرّ به على صفوف أهل الشام والعراق يعرضه عليهم ، واستقبله أهل الشام بالرضا ، وأمّا أهل العراق فقد أوجد فيهم فوضى فمنهم من رضى ومنهم من حمل عليه هاتفاً بقوله : لا حكم إلاّ لله (2) .

    وممّا ذكرنا يظهر أنّ الرجل وإن لم يكن من الخوارج لكنّه إمّا كان عميلا لمعاوية ، كما هو الظاهر ممّا سردناه عليك ، أوكان في نفسه شيء يجرّه إلى أن يتّخذ موقفاً خاصّاً مناوئاً لعليّ ( عليه السَّلام ) ولأجل ذلك كان ما ألقاه من كلام حول ايقاف الحرب فرصة لما يرومه معاوية من انهاء الحرب وايجاد الفوضى ، وبذلك تقف على صحّة ماذكره ابن أبي الحديد : من أنّ كل فساد كان في خلافة عليّ فأصله الأشعث.

    يقول اليعقوبي : لمّا رفعوا المصاحف وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله ، فقال علي : إنّها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن ، فاعترض الأشعث بن قيس الكندي ، ـ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسهـ فقال : قد دعوا القوم إلى الحقّ ، فقال علىّ ( عليه السَّلام ) إنّهم إنّما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم ، فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهم انصرفتُ عنك ، ومالت اليمانية مع الأشعث ، فقال الأشعث : والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنِّك إليهم

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 572.

    2 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 588.

________________________________________

(150)

برمّتك. (1) .

    ويؤيّد ذلك ما ذكره المبرّد في كامله : لمّا استقرّت الخوارج في حروراء بعث علي ( عليه السَّلام ) إليهم صعصعة بن صوحان العبدي وزياد بن النضير الحارثي مع عبدالله بن عباس فقال لصعصعة : بأي القوم رأيتهم أشدَّ إطاقة؟ فقال : يزيد بن قيس الأرحبّي ، فركب علي إليهم إلى حروراء ، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى مَضْرب يزيد بن قيس ، فصلّى فيه ركعتين ، ثم خرج فاتّكأ على قوسه ، وأقبل على الناس ، فقال : هذا مقام من فلج (2) فيه فلج يوم القيامة ، ثمّ كلّمهم وناشدهم ، فقالوا : أنّا أذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم ، وقد تبنا ، فتب إلى الله كما تبنا نعدلك ، فقال علي ( عليه السَّلام ) : أنا استغفر الله من كلّ ذنب ، فرجعوا معه وهم ستّة آلاف ، فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّاً ( عليه السَّلام ) رجع عن التحكيم ، ورآه ظلالا وقالوا : إنّما ينتظر أميرالمؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجنى الأموال ، ثمّ ينهض بنا إلى الشام ، فأتى الأشعث عليّاً ( عليه السَّلام ) فقال : يا أميرالمؤمنين ، إنّ الناس قد تحدّثوا أنّك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها كفراً ، فقام عليّ ( عليه السَّلام ) يخطب ، فقال : من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب ، ومن رآها ضلالا فقد ضلّ ، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكَّمت (4) .

    قال ابن أبي الحديد : إنّ الخوارج لمّا قالوا لعليّ : تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا ، ننهض معك إلى حرب الشام ، فقال لهم عليّ : كلمة مجملة مرسلة

________________________________________

    1 ـ اليعقوبي : التاريخ 2/178 طبعة النجف.

    2 ـ فلج فيه ، من الفلج : وهو الظفر.

    3 ـ الكراع : اسم للخيل.

    4 ـ المبرّد : الكامل 2/155 ، وفي المصدر : فقال الصعصعة والصحيح ما أثبتناه.

(151)

يقولها الأنبياء و المعصومين وهي قوله :

    « استغفرالله من كلّ ذنب » فرضوا بها وعدّوها اجابة لهم إلى سؤالهم ، وصفت له ( عليه السَّلام ) نيّاتهم ، واستخلص بها ضمائرهم ، من غير أن تتضمّن تلك الكلمة اعترافاً بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث ، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية ، فانتقض ما دبّره ، وعاد الخوارج إلى شبهتهم الاُولى ، وراجعوا التحكيم والمروق (1) .

 

هل العصبية القبلية دفعت الأشعث إلى المخالفة؟ :

    من هذا البحث انصافاً تقف على قيمة مايذكره البعض وهو أنّ العصبية القبلية أثّرت في انحراف الأشعث عن علي ، بل مهّدت لنشوء الخوارج وظهورهم في الساحة ، وذلك بحجة أنّ الأشعث اعترض على ترشيح عبدالله بن عباس ممثّلا لعليّ ، وقال : لا والله لا يحكم فيها مُضريّان حتى تقوم الساعة ، ولكن اجعله من أهل اليمن ، إذا جعلوا (أهل الشام) رجلا من مضر. فقال علي : إنّي أخاف أن يُخْدَع يَمَنَيِّكُم ، فإنّ عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في امر هوى ، فقال الأشعث : والله لأن يحكماببعض ما نكرهه وأحدهما من أهل اليمن أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ في حكمهما وهما مضريان (2) .

    إنّ تحليل انحراف الأشعث عن عليّ ( عليه السَّلام ) وايجاده الفوضى في قسم كبير من جيشه بهذا العامل النفسي ضعيف جداً ، ولاننكر أن يكون لهذا العامل أيضاً رصيداً في ما كان يضمره ويعمله.

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 2/280.

    2 ـ الدكتور نايف معروف : الخوارج في العصر الاُموي 25 وما نقله عن الأشعث ، ذكره ابن مزاحم في وقعة صفّين 500.

________________________________________

(152)

    وأبعد من ذلك تحليل نشوء الخوارج في ساحة القتال بالعصبية القبلية ، انّها أنجبت حركة الخوارج فصارت عصبيتهم الموجّهة ضدّ قريش وسلطانها المتجسّد في الحكومة العلوية يومذاك ، سبباً لتلك الحركة الهدّامة بشهادة أنّا لانجد في صفوف الخوارج قرشياً واحداً بل على العكس من ذلك فإنّهم كانوا يحملون لواء التمرّد على قيادتها (1) .

    إنّ تحليل هذه الحركة الكبيرة من بدئها إلى نهايتها بهذا العامل النفسي أشبه بتعليل الهزّة الكبيرة الموجبة لانهدام المدن والقرى ، بسقوط صخرة من أعلى الجبل إلى هّوة سحيقة ، نعم لايمكن انكار العصبية القبلية بين جميع القبائل العربية ، خصوصاً بين قبيلتي تميم وقريش ، ولكنّه ليس بمعنى أنّه الباعث والعامل المحدِث لهذه الضجّة الكبيرة التي شغلت بال المسلمين والخلفاء طوال قرون ، بل العامل لحدوث هذه الحركة هو ما عرفته في المقام وفي الفصل الثالث عند البحث عن نشوء الخوارج.

________________________________________

    1 ـ الدكتور نايف معروف : الخوارج في العصر الاُموي 28.