في عقائد فرق الخوارج ومخطّطاتهم


في عقائد فرق الخوارج ومخطّطاتهم في الحياة

 

    ظهرت الخوارج في الساحة الإسلامية بصورة تيار سياسي لايتبنّون إلاّ تطبيق الحكم الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة في أمر البغاة(الشاميين) وكان الجميع يحملون شعار« لاحكم إلاّ لله » يريدون بذلك انّ حكم الله في حق البغاة هو القتال ، لاتحكيم الرجال ، ولم يكن لهم يومذاك منهج كلامي ، ولمّا قضى عليّ ( عليه السَّلام ) نحبه ، ركّز الخوارج جهدهم على مكافحة الحكّام الظالمين كمعاوية وآله ، ومروان بن الحكم وأولاده ، وقد حفظ التاريخ انتفاضاتهم في وجه خلفاء بني اُميّة وعمّالهم كما تعرّفت على لفيف منها.

    فلا عجب عندئذ إذا رأينا أنّ خارجياً يقتفي أصحاب الحديث في العقائد ، أو يتبنّى عقيدة المعتزلة في غير مورد من الاُصول وما هذا إلاّ لأنّ القوم في القرنين الأوّلين كانوا مقاتلين ، قبل أن يكونوا أصحاب فكر ، وكانوا ثوّاراً في وجه الحكومات ، قبل أن يكونوا فرقة دينية تتبنّى اُصولا عقائدية ، والامعان في المبدأ الذي اتّخذوه كحجر زاوية (تخطئة التحكيم) أو الاُسس التي تبنّوها في العهد الاموي ، أي بعد استيلاء معاوية على الحكم ، إلى عهد عبدالملك بن مروان (ت 75) إلى آخر الدولة المروانية (132 هـ) يعرب عن أنّ

 

________________________________________

(360)

القوم لم يكن لهم يوم ذاك فكر كلامي ولا فقهي ، وأنّ الغاية من تبنّي الاُسس المذكورة في هذا الفصل (تكفير مرتكبي الكبيرة وحرمة مناكحتهم ولزوم الخروج على الطغاة و ... ) إنّما هو تمهيد لأساليب توصلهم إلى القضاء على الخلفاء وحكّام الجور ، والاستيلاء على منصَّة الحكم. ولذلك لم يورثوا سوى الشغب والثورة والأخذ بزمام الحكم.

    نعم الفرقة الباقية منهم ـ كالاباضية ـ لمّا استشعروا أنّه لايصحّ بفريق سياسي أن يعيش بلا مبدأ كلامي أو فقهي ، تداولوا بعض الموضوعات الكلامية والفقهية بالبحث والتمحيص. ويبدو من خلال الرجوع إلى آثار تلك الفرقة أنّ أكثر ما يتبنّونه في مجال العقائد إنّما هو نتاج متأخّر لم يفكّر به مؤسّس الفرقة كعبدالله بن اباض ولاالتابعي الآخر كجابر بن زيد ، وأكثر ماورثوا من الأوّل شجاعته الروحية ، وصراحته في بيان الحقائق ، ومن الثاني أحاديث موقوفة ، نقلها جابر عن عدّة من الصحابة ، وأين هذا من منهج كلامي منسجم ، وفقه واسع يتكفّل بيان تكاليف العباد في الحياة في عامّة المجالات. وهذا يؤيّد أنّ الخوارج ـ ظهرت يوم ظهرت ـ كفرقة سياسية ثم آلت إلى فرقة دينية.

    ونحن نمّر في هذا الفصل على عقائدهم واُسسهم التي تعرّفت على سماتها والغايات المتوخّاة منها.

(361)

1 ـ حكم التحكيم في حرب صفّين

    إنّ تخطئة التحكيم هو الحجر الأساس لقاطبة الخوارج ، وقد اتّخذوه شعاراً أيّام حياة الامام علي ( عليه السَّلام ) وبعده ، والخوارج كلّهم ، المتطرّف منهم و غيره ، أصفقوا على أنّ قبول التحكيم في حرب صفّين كان أمراً مخالفاً للكتاب ، وما كان لعلي ( عليه السَّلام ) أن يُحكِّم الرجال في موضوع ورد فيه حكم إلهي في مصدرين رئيسيين ـ أعني الكتاب والسنّة ـ ، وبما أنّا ألمحنا إلى الموضوع وأوضحنا حاله في الفصل الثالث تحت عنوان « تحليل لكارثة التحكيم » فنحيل القارئ الكريم إلى ذاك الفصل وقد ذكرنا هناك وجوهاً مختلفة يحتملها ذلك الشعار ، إلاّ أنّ الإمعان في كتب القوم يعرب عن أنّهم لايهدفون منه إلاّ احد الوجهين :

 

________________________________________

(362)

الف ـ تحكيم الرجال فيما نزل فيه حكم الله ، كفر (1) .

ب ـ لا إمرة إلاّ لله تبارك وتعالى.

    أمّا الأوّل فيشترك فيه جميع فرقهم ، وأمّا الثاني فإنّما يعود إلى بعض فرقهم كما سنذكر ، وبما أنّه اعتمد على الوجه الأوّل جميع مفكّريهم ومشايخهم ، وبالغ القوم في توضيحه وتنقيحه وتثبيته ، فنأتي في المقام ببعض نصوصهم ثمّ نقوم بتحليله حتى يتبيّن الحق بأجلى مظاهره.

 

التحكيم والتدخّل في موضوع له حكم سماوي :

    إنّ للكاتب المعاصر : علي يحيى معمّر ، مؤلف كتاب « الاباضية في موكب التاريخ » بياناً مفصّلا حول الموضوع وقد بذل جهده في اثبات أنّ التحكيم كان تدخّلا في موضوع فيه حكم الله ، وهو مواصلة الحرب والقتال ومكافحة أهل البغي ، وأنّ ايقاف القتال وإدلاء الأمر إلى الحكمين كان مخالفاً للتشريع السماوي ، يقول :

    « بايع المسلمون علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين ، وكان أوّل من بايع طلحة بن عبيدالله ، والزبير بن العوام ، ولكن ماكادت تتّم البيعة ، حتى كان طلحة والزبير يحملان لواء الثورة مع جماعة من كبار الصحابة ، وقد استظهروا باُمّ المؤمنين عائشة ، ووقف الخليفة في وجه الثائرين موقفاً حازماً صلباً ، وقتل في هذه الثورة الطاحنة عدد غير قليل من المسلمين ذهب فيمن ذهب فيها

________________________________________

    1 ـ هذا هو الوجه الأوّل من بين الوجوه المذكورة في الفصل الثالث وَوَعدنا هناك القارىء أن نرجع إلى تفصيله وتحليله وما نذكره هنا إنجاز له.

________________________________________

(363)

طلحة والزبير ، ورجع بقيّة الثائرين إلى حظيرة الإمامة والاُمّة.

    لم تكد تنتهي هذه الحرب الطاحنة ، ويعود إلى البلاد الهدوء والاستقرار ، ويَعْرفَ معاوية أنّ الثورة فشلت ، وأنّه معزول عن ولاية الشام لامحالة ، حتّى أعلن الثورة في الشام و هو حينئذ عامل من عمّال الخليفة ، وأظهر أنّه يطالب بدم عثمان وقد استعدّ أمير المؤمنين لإطفاء هذه الثورة كما أطفأ الثورة التي سبقتها و جهّز جيشه القوي وسار به نحو الشام حيث التقى بالجند الثائر في الموضع المعروف بـ « صفّين » ، وبدأت المعركة ثم استمرّ القتال حتى ظهرت طلائع النصر وأشرف جيش الخليفة على امتلاك زمام المعركة ، ولم يبق للقضاء على هذه الثورة الجامحة إلاّ لحظات عبّر عنها الأشتر « بفواق الناقة » ، إلتجأ الثائرون إلى الحيلة والخدعة ، ولجأوا إلى المكر والمكيدة ورفعوا المصاحف وهم يصيحون يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.

    طلب الثائرون هدنة ، ودعوا الخليفة الشرعي وجيشه إلى تحكيم حكمين ، وقد فطن أمير المؤمنين وبعض من جيشه إلى هذه الخدعة ، وعرفوا القصد من هذه الهدنة ، ولكّنه بدلا من أن يقف موقفه الحازم ، ويوالي حربه ضد الثائرين ، حتّى يتحققّ النصر ، وقد تحقّقت بشائره ، ويُلقي البغاةُ أسلحتَهم ، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه ، وبغوا عليه ـ بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك ـ استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة وأكثرهم موعود من معاوية أو من عمروبن العاص ، ورضى بالتحكيم وَ قَبِلَ الهدنة وأمر بايِقاف القتال في الحال.

    وهكذا انتهت هذه الثورة إلى هذا الموقف المائع الذي جعل حقّ عليّ في الخلافة ، يتساوى مع حقّ معاوية ، وجعل نصيب البغاة الثائرين من الثواب ، يساوي نصيب جيش الاُمّة الذي يدافع عن خلافة شرعية تمّت بالشورى

 

________________________________________

(364)

وانعقدت بالبيعة.

    وتداعى الذين فطنوا إلى خدعة الهدنة من أصحاب عليّ وحذَّروه من قبولها ، وأخبروه أنّ قبولها يعني الشكّ في خلافته ، والتنازل عنها ، وكانوا مصرّين انّ الخلافة الشرعية حقّ لايتطرّق إليه الشكّ ، ولايجوز فيها الرجوع ولا تقبل فيها المساومة.

    وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة من جيشه ، والماكرين من عدوّه ، وأن يشكّ في نفسه والحقّ الذي بيده ، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، ويساوي بينه و بين أحد عمّاله ، في قضية أخذ فيها عهداً من الاُمّة وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ، ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله.

    حين فعل عليّ ذلك ، تداعى اُولئك الذين لم يرتضوا التحكيم وحذّروا عليّاً من قبوله ، وهم يرون أنّ معاوية باغ لاحقّ له ، وأنّ بيعة علي قد انفسخت بموافقته على الهدنة ، ورضاؤه بالتحكيم جبراً ، فلم تبق لأحد في أعناقهم بيعة ، وليس لأحد عليهم ميثاق ، تداعوا إلى أن يعتزلوا جيش عليّ ، وركنوا إلى موقع يسمّى حروراء ، فانعزلوا فيه ينتظرون تجدّد الحوادث ، واتّجاه الاُمّة في قضية الخلافة ، وقد جرت الاُمور بأسرع ممّا يتوقّع لها ، فما بلغ الموعد الذي حدّده الطرفان لانتهاء الهدنة ، حتى اجتمع الناس وأعلن أبو موسى الأشعري مندوب علي ، عزلَ عليّ عن الخلافة وترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاؤون.

    كان هؤلاء المحايدون ينظرون إلى معاوية نظرتهم إلى باغ ، يحاول أن يفرض نفسه بالمكر والحيلة ، ولذلك فهم لايقيمون أيّ وزن لدعوى عزله ، فهو لم يتولّ أمر الخلافة إلى ذلك الحين ، لابالإكراه ، ولابالشورى ، فلامعنى لعزله من منصب ليس هو فيه ، كما لايقيمون أيّ وزن لتولية عمروبن العاص له ، لأنّ

 

________________________________________

(365)

عمراً لم يفوّضه المسلمون في تولية أميرالمؤمنين ، أمّا نظرتهم إلى علي فقد كانوا يتوقّعون أن يتّفق الحكمان على إقراره في الحكم ، وحينئذ ترجع إلى علي الصبغة الشرعية التي تنازل عنها لإثباتها ، ويجب على المسلمين حينئذ أن يوحّدوا صفوفهم ، تحت طاعته ، ما قام فيهم بكتاب الله ، ولكنّ المندوب الذي اختاره علي ليمثّله في هذه القضية الظالمة ، أعلن أنّه عزل عليّاً عن أمر المسلمين ، وأنّ الأمر أصبح للشورى والاختيار ، وتأيّد موقف هؤلاء المحايدين وانضمّ إليهم عدد آخر ممّن كانوا يقفون إلى جانب عليّ حتى ذلك الحين ، وبحثوا الأمر فيما بينهم على أساس أنّ المسلمين أصبحوا دون خليفة.

    فهذا معاوية باغ ظالم لايمكن أن يتولّى أمر المسلمين ، وهذا عليّ عزله المندوب الذي اختاره للتحكيم ، واذن فليختاروا ، واختاروا عبدالله بن وهب الراسبي ، فبايعوه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين بعد علي بن أبي طالب ، فهو الخليفة الشرعي الخامس في نظرهم » (1) .

 

غيري جنى وأنا المعاقبُ فيكم! :

    لم أجد عنواناً يعرب عن مظلوميّة الإمام أمير المؤمنين في مسألة التحكيم الذي فرضه عليه الخوارج ، ثم جاءوا يطالبونه بالجريمة ، أحسن من هذا المصراع ، وبما أنّا فرضنا على أنفسنا في بدء الكتاب ألاّ نقضي على قوم بماكتبه غيرهم في حقّهم ، فقد نقلنا هذا الكلام بتفصيله والإمعان في أوّله وثناياه وآخره يدل على أنّ الكاتب أخذ موقفاً مسبقاً في مسألة التحكيم ، فأخذ من التاريخ فقرات متناثرة تلائم موقفه ، وترك كل ما يخالفه.وإليك تحليل ماذكره.

    1 ـ كان من واجبه ـ قبل كلّ شيء ـ التعريف بالذين فرضوا التحكيم على

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 21 ـ 34.

________________________________________

(366)

عليّ ( عليه السَّلام ) وأجبروه على قبوله ، فمن هم الذين أجبروه على التحكيم وعلى التنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، وبالتالي ساووا بينه وبين أحد عمّاله؟ فإنّ التعرّف عليهم أساس القضاء الحق فيما رسمه الكاتب وحررّه. الذين فرضوا التحكيم على علي ( عليه السَّلام ) لم يكونوا إلاّ رؤوس المحكّمة الاُولى الذين اتّخذهم الكاتب أئمّة وأولياء ، فإنّ الإمام علي ( عليه السَّلام ) ، فوجىء بمجئ زهاء عشرين ألفاً ، مقنّعين في الحديد ، شاكين سيوفَهم ، وقد اسودّت جباههم من السجود يتقدّمهم مِسْعَر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعدُ ، فنادون باسمه ، لابإمرة المؤمنين ، وقالوا : يا عليّ أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيِتَ ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم ، فقال الإمام لهم : ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولايَسَعُني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، فإنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا إليه فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكّني قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون (1) .

    إنّ حرقوص بن زهير السعدي الذي يُعدّ من الطبقة العليا للمحكّمة الاُولى وكان مرشَّحاً للبيعة في بيت عبدالله بن وهب الراسبي قبله ، كان من المصرّين على قبول التحكيم ، لكنّه رجع عن رأيه وتاب عن كفره بزعمه ، ولمّا دخل على عليّ ( عليه السَّلام ) ومعه زرعة بن برج الطائي ، فقال له : اُخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم ، فعاتبه الإمام وقال : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كُتِبَ بيننا وبينهم كتاب ... (2) .

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين 560 ـ 564 وغيرها.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4/53.

________________________________________

(367)

    وقد وصل اصرار القوم إلى حدّ هدّدوا حياة الإمام بأنّهم يقضون عليها كما قضوا على حياة عثمان ، فلم يجد الإمام بُدّاً من قبول التحكيم ، وقد بلغ القوم في قلّة الحياء وشكاسة الخلق إلى حدّ فرضوا التحكيم على الإمام أوّلا ، ثمّ فرضوا عليه صيغة الحكم ، ولم يرضوا بمن كان هوى علي ( عليه السَّلام ) معه ، وقد كان الإمام يصرّ على بعث عبدالله بن عباس أو الأشتر ، ولكنّهم ما رضوا إلاّ بأبي موسى الأشعري الذي كان يَكنّ عداء عليّ في خُلْده لمّا عزله من ولايته.

    أبعد هذا يصحّ للكاتب أن يقول« ولكنّه ـ الإمام ـ بدلَ أن يقف موقفه الحازم ويوالي حربه ضد الثائرين حتى يتحقّق النصر ، وقد تحقّقت بشائره ، ويُلْقي البغاةُ أسلحتهم ، ويعودوا إلى صفّ الاُمّة ... بدلا من أن يقف موقفه الحازم ذلك ، استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصحية طلاّب الخدعة ... ».

    إنّ رؤوس الخوارج هم الذين كانوا يشكِّلون دعاة الهزيمة ، وطلاّب الخدعة ، فلوكان التحكيم جناية فهم أولى بأن يجتنوا ثماره ، ويحملوا أوزاره ، لا الإمام الذي أعطى لهم نصحة الخالص ، ونبّههم على أنّها خديعة ، ظاهره الصلاح وباطنه الفساد و ... أو ليس عاراً على جماعة ، فرضوا على إمامهم التحكيم ، وإدلاءالأمر إلى الحكمين وكتابة ميثاق بين الطرفين ، أن يجيئوا شاهرين سيوفهم ، يطلبون منه نقض الميثاق ورفض العهد الذي كان عنه مسؤولا ، وكأنَّ الخلافة آلة طّيعة بأيديهم يلعبون بها كيف شاءوا.

    هؤلاء لم يقدّروا عليّاً ، ولاعرفوا مكانته وصموده في طريق العهد والميثاق ، فما دام الحكمان لم يخرجا عن الطريق المستقيم ، لاينقضُ قوله وعهده ، وإن بلغ ما بلغ ، وإن شهرت الخوارج سيوفهم عليه وعلى الخُلَّص من جيشه.

    2 ـ إنّ عليّاً لم يستجب لدعاة الهزيمة ولم يأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة ،

 

________________________________________

(368)

إلا بعد ما تحقّق عجزه عن القيام بمواصلة الحرب ، وتطبيق حكم الله على البغاة ـ أعني معاوية وأتباعه ـ ... لاشكّ انّ حكم الله في حق البغاة هو قتالهم إلى أن يرجعوا إلى صفّ الاُمّة الذي انشقّوا عنه ، وبغوا عليه ، إلاّ أنّ التكليف فرع القدرة وهي فرع طاعة الجيش لرأي قائده الحازم الباسل ، الذي عرفه التاريخ بالبطولة والبسالة والصمود والوقوف في وجه الظالمين ، ولكن يا للأسف انّ أغلبية الجيش انخَدَعُوا بخدعة معاوية ، وأخذوا بمخالفته على حسب ما عرفت ، وعندئذ لاتثريب على الإمام أن يُسلِّم الأمر إلى الحكمين ويقف عن القتال قائلا : ( لاَيُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وسْعَهَا ) ، (ولايُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ ما آتاها ) ويقول : « لقد كنت أمس أميراً ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت أمس ناهياً ، فأصبحت اليوم منهيّاً » (1) .

    إنّ بعض الكُتّاب الجدد من الاباضية يصرّح بأنّ عليّاً قَبِلَ التحكيم مضطرّاً ويقول : « إنّ هذه الخدعة لم تكن لتجوز على علي بن أبي طالب ، وقد أدركها وأدرك حقيقة ماوراءها من الوهلة الاُولى ، وأعلن على الفور رفضه لها وعدم قبوله للتحكيم. إنّ علي بن أبي طالب إنّما قبل التحكيم مضطرّاً ورضي به مكرهاً ازاء ضغط من ضعف أفراد جماعته ، ومن نهضوا بينهم يدعون إلى قبول التحكيم ، وانّ الدعوة التي دعا بها معاوية أحدثت أثرها في خداع الجند ، كما أنّها كانت نكأة لبعض من ضعفت أنفسهم للجهر بها والدعوة إلى الكفّ عن القتال ، وازاء ذلك كلّه لم يكن في وسع عليّ إلاّ أن يرضى بالتحكيم وإن لم يقتنع به ولم تخف نتائجه » (2) .

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الخطب ، الخطبة 208.

    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 100.

________________________________________

(369)

    وقال علي يحيى معمّر :

    « كان التحكيم خدعة سياسية يراد بها تفريغ جيش أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) وانّه أولّ من أوائل من تفطّنوا للمكيدة ، ولم يقبل التحكيم إلاّ مكرهاً ، وأنّه أنكره بشدّة وأبان لجيشه ـ الذي عمل فيه الطابور الخامس عمله ـ عواقب تلك المكيدة وأنّه لم يقبل التحكيم إلاّ مضطرّاً عندما وجد جيشه معرّضاً للتفرّق والتمزّق وربّما للتناحر ، وكان على رأي الامام علي ( عليه السَّلام ) وعلى رأي أصحابه في اعتبار التحكيم مكيدة لاينبغي قبولها ، أكثر أئمة المسلمين منهم الإمامان العظيمان الحسن البصري ومالك بن أنس حسب ما أورده المبّرد في كامله وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بل أستطيع أن أزعم أنّنا اليوم وفي هذا العصرـ وقد مضى على تلك الأحداث ثلاثة عشر قرناً ونصف ـ عندما نقرأ أخبارها نشعر بالأسف والحسرة ، لأنّ تلك الخدعة الجريئة قد انطلت على أكثرّية جيش عليّ حتى اضطرّ للاستجابة لها ، رغم معرفته القصد منها وتقديره لنتائجها وعلمه علم اليقين أنّ القصد من تلك العملية لم يكن مراعاة للمصلحة العامّة ولانظراً لخير الاُمّة ، ولاتحكّماً للكتاب في شيء جهل فيه حكم الكتاب » (1) .

    وقال أيضاً : « واختلف أصحاب علي اختلافاً شديداً بين موافق على الطلب ، ومعارض له ، واضطرّ الإمام إلى الموافقة نزولا عند رأي الأغلبية وإن كان رأيه هو خلاف ذلك » (2) .

    نحن نسأل الكاتبين عن مسألة التحكيم المفروض على عليّ من جانب جيشه ، فقد اعترفا بأنّ الإمام قبله بعدما عرفه ، دفعاً للتفرقة والتخرّق ، بل

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/190 ـ 191.

    2 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 2/166.

________________________________________

(370)

للتناحر وانّه لولا قبوله لثاروا على الإمام وقضوا على حياته ، وعندئذ يصبح ابن أبي سفيان مالكاً لأزمّة الاُمور ومتسنّماً على عرش الخلافة من دون منازع ، ويصير الطريق لبسط سلطته وسيطرته مُعَبَّداً ومذلّلا بأيدي خصمائه وأعدائه ـ أعني الّذين قبلوا التحكيم وفرضوه على إمامه ـ.

    وأين ذلك الفرض من فرض قبول التحكيم حتى يرجع الطرفان إلى كتاب الله فيما اختلفا فيه .... وإن كان حكم الكتاب في ذلك واضحاً ـ والخصم وأنصاره الأغبياء كانوا يتخيّلون أنّهم جاهلون بحكمه فيجب أن يرجع إليه بحكمين من الطرفين.

    فإذا كان هذا موقف عليّ والمسلمين فلم يكن بُدّ من قبول التحكيم دفعاً للأفسد بالفاسد وهو ليس شيئاً خفيّاً على الكاتبين ، وعند ذلك فلماذا يؤاخذان عليّاً بقبول التحكيم وعدّه ذنباً يحتاج إلى التوبة والاستغفار.

    إذا كان قبول التحكيم عن اكراه واضطرار ، وقد قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغ وَلا عاد فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيِمٌ ) (1) أفيصحّ للمغفّلين الّذين انتبهوا عن غفلتهم ، وضيّعوا الفرص الذهبيّة للقضاء على الطغمة الأموية ، أن يصرّوا على عليّ بالتوبة والاستغفار وإلاّ فبالانعزال والخروج عن تحت رايته بعد ما أخبر سبحانه أنّه غفور رحيم لكلّ مضطّر ارتكب عملا لاعادياً ولاباغياً؟

    أفيصحّ لهؤلاء وفي رأسهم المحكِّمة الاُولى الذين كانوا أداة طيّعة ـ بلاوعي ـ بيد رأس الطابور الخامس الأشعث بن قيس ، أن يحتفلوا في الكوفة ويختاروا لأنفسهم أميراً وخليفة ، ويتّهموا عليّاً بأنّه عزل نفسه عن الخلافة ، ثمّ يخرجوا عن الكوفة وينزلوا ضفة النهر مُرْهبين ومرعبين ونار الفتنة بعد لم تطفأ والعدّو الغاشم ـ معاوية بن أبي سفيان ـ على اُهْبَة الهجوم وبسط السيطرة

________________________________________

    1 ـ الأنعام : 145.

(371)

والقضاء على الخلافة الشرعية.

    إنّ النصوص التاريخية تضافرت على أنّ عليّاً أتمّ عليهم الحجّة قبل نشوب نار الحرب ، وقد كان رؤساء المحكّمة أعني عبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي ومن في رتبتهما من المحكّمة ، يسمعون كلام عليّ وهو يخاطبهم بأنّهم هم الذين فرضوا على عليّ التحكيم ، فلمّا ندموا طلبوا منه نقض العهد والميثاق المحرّم بنص الذكر الحكيم ، وقد ذكرنا نص علي عند عرض التاريخ.

    يقول صالح بن أحمد الصوافي : إنّ علي بن أبي طالب قد مضى بنفسه إلى اُولئك الخارجين عنه وقال لهم : من زعيمكم؟! قالوا : ابن الكواء. قال علي : فما أخرجكم عنّا؟ قال : حكومتكم يوم صفّين. قال : أنشدكم بالله أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم إلى كتاب الله ، قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إنّي صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال. اُمْضُوا على حقّكم وصدقكم ، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهناً ومكيدة ، فرددّتم عَلَيّ ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم ، فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن ، فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم به بما في القرآن. وإن أبيا فنحن من حكمهما براء ، قالوا له : فخبرنا ، أتراه عدلا تحكيم الرجل في الدماء؟ .... فقال : إنّا لم نُحكِّم الرجال ، إنّما حكَّمنا القرآن ، وهذا القرآن هو خط مسطور بين دفّتين لاينطق ، إنّما يتكلّم به الرجل ... قالوا : فخبرنا عن الأجل لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال : ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعلّ الله ـ عزّوجلّ ـ يصلح في هذه الهدنة هذه الاُمّة ... ادخلوا مصركم ، رحمكم الله ...

 

________________________________________

(372)

    قالوا : صدقت ، قد كنّا كما ذكرت ... وفعلنا ما وصفت ، ولكن ذلك كان منّا خلاف القرآن ، فقد تبنا إلى الله عزّوجلّ منه ، فتب كما تبنا ، نبايعك ، وإلاّ فنحن مخالفين. فقال علي : ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى يجيء المال ، ويسمن الكراع ، ثمّ نخرج إلى عدوّنا ولسنا نأخذ بقولهم وقد كذبوا ...(1) .

    فهذا الكلام سواء اُلقي في الحروراء أو في ضفة النهر يعرب عن أنّ الأكثرية السّاحقة من الخارجين عن طاعة علي ـ لولا كلّهم ـ كانوا هم الذين فرضوا التحكيم على عليّ ( عليه السَّلام ) وألجأوه إلى الرضوخ لمكيدتهم ، فماذا يطلبون من عليّ بعد ذلك؟

    3 ـ إنّ ابن أبي سفيان قام لأجل أخذ الثأر من قتلة عثمان ولم يبايع عليّاً بحجّة أنّه كان يحمي الخارجين على عثمان ، والثائرين عليه ، وكان الإمام يصّر عليه أن يدخل أوّلا فيما دخل فيه المسلمون ، ثم يعرض المسألة عليه (2) وبما أنّ معاوية اتّخذ جانباً سلبيّاً في هذا الموضع ، قام الإمام بتأديب الباغي ، وارجاعه إلى صفوف المسلمين وانتهى الأمر إلى نشوب الحرب بين الطرفين ، ولجوء معاوية إلى الخدعة والمكر ، وتحكيم الرجلين في الموضوع الذي اختلف فيه الفريقان ، فلم تكن الغاية من اتفاقية الصلح إلاّ تحكيم الكتاب في الموضوع الذي تنازع فيه الطرفان ، وأمّا عزل الإمام عن الخلافة ونصب معاوية مكانه فلم يكن في صلاحية الحكمين وإنّما دخلا في موضوع لم يُفَوَّض إليهما أمره. فرأيهما فيها بالعزل والنصب رأي ساقط.

    4 ـ إنّ الإمام لمّا رأى لجاج العدو وعناده في صياغة اتفاقية الصلح حيث لم يرض به إلاّ بمحو لقب إمرة المؤمنين عن جنب اسمه ، رضى بذلك اقتداءً

________________________________________

    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 110 ـ 111.

    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم 64.

________________________________________

(373)

بالنبيّ الأكرم في صلح الحديبية حيث رضى أن يكتب اسمه ويمحى لفظ رسول الله ، ولم يسمع لقول الأحنف حيث قال : « لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك فإنّي أتخوّف إن محوتها ألاّ ترجع إليك أبداً لاتمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبى مليّاً من النهار أن يمحوها » (1) ولكنّه ( عليه السَّلام ) لم يَرَ بدّاً من القبول ورضى بالمحو تحت ضعظ الأشعث والمنخدعين من جيشه ، والمقنّعين في الحديد.

    وبذلك تقف على قيمة قوله : « وإذ خطر لعلي أن يستجيب لدعاة الهزيمة في جيشه ، والماكرين من عدوّه أن يشكّ في نفسه ، والحق الذي بيده ، ويتنازل عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، ليساوى بينه وبين أحد عمّاله في قضيّة أخذ فيها عهداً من الاُمّة ، وأخذت منه فيها موثقاً وعهداً ورضخ إلى تحكيم رجال فيما نزل فيه حكم الله ».

    إن فرض التحكيم على علي وقبوله ومحو لقبه ، تحت ضغط قسم كبير من جيشه ، لايعني شكّه في نفسه والحق الذي بيده ، والتنازل الاختياري عن الشرف الذي أولاه المسلمون ، بل يعني فسح المجال للتفكّر والتدبر فيما كان يدّعيه معاوية على الإمام من تقدّم أخذ الثأر على البيعة ، حتى يقضيا الحكمان فيه برأي بات ، ولو دلّ محو اللقب على الشك في الإمرة ، فهل يظنّ الكاتب أنّ رسول الله شكّ في رسالته عندما رضى بمحو لقبه عن جنب اسمه؟ نعم توّهم ذلك بعض أصحابه وتصوّر أنّ ذلك يساوي اعطاء الدنية في أمر الدين (2) ولكن رسول الله استقبل الحادث بصدر رحب ، وقبل الصلح على النحو الذي كان المشركون يطلوبونه ، وقد أثبت مرور الزمان صواب رأيه في الصلح ، وأنّه كان

________________________________________

    1 ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين : 582.

    2 ـ لاحظ السيرة النبوية لابن هشام 3/331.

________________________________________

(374)

لصالح المسلمين كما هو المحقّق في السيرة النبوية.

    والحاصل : لم يكن قبول التحكيم والموافقة على الهدنة لغاية عزل الإمام نفسه عن الخلافة وإدلاء الأمر إلى الحكمين حتى يُخْتار للاُمّة الإسلامية خليفة بل كانت الغاية من قبوله هو فسح المجال للحكمين حتّى يقضوا في ضوء الكتاب والسنّة في حقّ الباغي الوارد في الكتاب العزير (1) وفيما يدّعيه ابن أبي سفيان في حقّ علي ، حيث كان يقول لايبايع الاّ بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان كما صرّح به في بعض رسائله إلى الإمام ، يقول الإمام :

    « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله ، وأمّا تلك التي تريد فإنّها خدعة الصبي عن اللبن في أوّل الفصال ».

    وقد جاء في رسالة معاوية إلى الإمام قوله : « وادفع إليّ قتلة عثمان ، فإنّهم خاصّتك وخلصاؤك والمحدقون بك » (2) .

    فإنّ ابن أبي سفيان كان يطلب في الظاهر قتلة عثمان ، ولكنّه في الباطن كان يمهدّ الطريق إلى الخلافة ، وربّما كان قانعاً لأن يقرّه الإمام على الشام (3) .

    وبذلك ظهر بطلان قوله : « إنّ بيعة الإمام قد انفسخت بموافقته على الهدنة ، ورضاؤه بالتحكيم جبراً ، فلم يبق لأحد في عنقه بيعته » فإنّه تفسير لموقف الإمام بما يتجاوب هوى الكاتب ، فإنّ الإمام لم يخلع نفسه عن الخلافة أبداً ولا تردّد في كونه الخليفة الشرعي والقانوني للاُمّة ، ولو صحّ ما ذكره الكاتب وأنّ الإمام خلع نفسه عن الخلافة بمرأى ومسمع من جيشه وجيش عدوّه ، لما

________________________________________

    1 ـ الحجرات : 9.

    2 ـ ابن أبي الحديد ، شرح النهج 17 / 253.

    3 ـ المصدر نفسه ، ومرّ تفصيله.

________________________________________

(375)

قام أبو موسى بخلعه عن الخلافة ، إذ لامعنى لخلع المخلوع لاسيمّا من خلع نفسه واعترف به.

    ولو كان قبول التحكيم ملازماً للخلع عن الإمامة فلماذا كتب الإمام ـ عندما وصل إليه نبأ الحكمين وخيانتهما في مورد الوكالة ـ إلى زعماء الخوارج : زيد بن حصين وعبد الله بن وهب الراسبي ومن معهما من الناس وقال : أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما ، قد خالفا كتاب الله واتّبعا هواهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنّة ولم يُنفَّذا للقرآن حكماً ، فبرأ الله ورسوله منهما والمؤمنون ، فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا فإنّا صائرون إلى عدوّنا و عدوّكم ، ونحن على الأمر الّذي كنّا عليه (1) .

    الحقّ إنّ من قرأ تاريخ مأساة التحكيم يقف على مدى الضغط الوارد عليه من جانب أصدقائه الحمقاء ، ثم يرجع ويترحّم على الإمام ويبكي عليه ببكاء عال ويقول : « رحم الله الإمام عاش بين عدوّ غادر ، وصديق انوك ».

    5 ـ والعجب العجاب أن يصبح عبدالله بن وهب الراسبي الخليفة الشرعي والقانوني للمسلمين فيجب على الاُمّة في جميع الأقطار و الأصقاع ، إطاعة أمره ، بحجة أن نفراً من الخوارج اجتمعوا في منزله فبايعوه ، ولعلّ عدد المبايعين لا يتجاوز عن عدد الأصابع أو يزيد بقليل (2) .

    إنّ البيعة الشرعيّة وانعقاد الإمامة لواحد من المسلمين رهن شروط وصلاحيات ، ذكرها المعنّيون من علماء علم الكلام في كتبهم ، ولم يذكر أحد أنّه إذا بايع عدّة من المسلمين شخصاً في صقع من الأصقاع يجب على عامّتهم الاعتراف بإمامته وخلافته.

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 57.

    2 ـ نفس المصدر.

________________________________________

(376)

    إنّ معنى ذلك انّه يجوز لاّحاد من المسلمين في البدو والقرى ، أن يختاروا رجلاً فيبايعوه على الخلافة وإن كان المبايعون بُعَداء عن العاصمة الإسلامية الّتي فيها أهل الحل و العقد.

    لو صحّ أنّ الإمام خلع نفسه ـ ولن يصحّ حتى ولو صحّت الأحلام ـ فالواجب على المسلمين طرح الخلافة في شورى إسلامية عالميّة تضمّ إليها أكابر العلماء والفقهاء ، وأهل الحل و العقد من المهاجرين والأنصار ، و من اتّبعهما بإحسان ، حتى يختاروا لأنفسهم إماماً ، لاطرحها في بيت مسدود ليس فيه إلاّ اُناس خرجوا على إمامهم الّذي تمّت البيعة له في مثل تلك الشورى ، لأنّ تصحيح ذلك بمعنى تصحيح الفوضى في صفوف المسلمين ، وشقّ عصاهم ، وفصم عراهم ، وغير ذلك ممّا لايخفى على القارئ الكريم بطلانه.

    6 ـ والعجب انّ الكاتب نقض ما كتبه هنا بما ذكره في الحلقة الثالثة من ذلك الكتاب ، فإذا وصف الإمام في المقام ، بأنّه استجاب لدعاة الهزيمة وأخذ بنصيحة طلاّب الخدعة ، فقد صرّح في المقام الآخر بأنّ الإمام « عرف أنّها احدى المكائد الّتي تفطّن إليها ذهن عمرو بن العاص ، وأصرَّ هو و أصحابه على الجهاد ، وكان الإمام والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية » وإن كنت في شكٍّ ممّا نقلناه عنه فاقرأ نصّه :

    خالف معاوية بن أبي سفيان اجماع الاُمّة و أشعل نار الفتنة وجهّز جيشاً لمحاربة الخليفة الشرعي الّذي اختاره المسلمون ، و قابله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بما يقابل به خليفة شرعي فئة باغية ، فجهّز جيشاً من أبطال الإسلام وقاده بنفسه ، و التقى الجيشان في صفّين ، وابتدأ القتال وعرف معاوية أنّه إذا لم يكن يلجأ إلى الحيلة فإنّه سوف يخسر القضية في

 

________________________________________

(377)

أقرب ممّا يتوقّع ، ومهّد لذلك بتكوين طابور خامس في جيش علي ثم دعا إلى التحكيم.

    وعرف علي وعرف أصحابه مقصد معاوية من التحكيم ، وأنّها احدى المكائد الّتي تفتق عنها ذهن عمرو بن العاص ، ولذلك قال علي : إنّما قاتلناهم بكتاب الله ، وأصرّ هو و أصحابه على الجهاد ، ولكن الطابور الخامس الّذي كان يقوده أكبر صنايع معاوية : الأشعث بن قيس ، كان قد عمل في الجيش ، ومالت الأغلبية إلى قبول التحكيم ، وحينما كان علي والمخلصون من أصحابه يكافحون لإقناع بقيّة الجيش بصواب موقفهم (مواصلة الحرب) ونبذ الاستماع إلى هذه الخدعة الحربية الّتي لجأ إليها الفريق الباغي ، لخّص أحد أصحابه موقفهم هذا في هذه الكلمة المشهورة « لاحكم إلاّ لله » وكانوا يصيحون بها في جوانب الجيش و يرددها أنصار علي في كل موقف وكان علي يستمع إليها راضياً بها وهو يناقش الناس ويدعوهم إلى التمسّك بمضمون هذه الكلمة وعدم الانخداع بحيل معاوية لأنّ قضيتهم واضحة وقد حكم فيها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات ...

    وشاءت إرادة المولى سبحانه وتعالى ـ لحكمة يعلمها ـ أن لاتستجيب الإغلبية لعلي وأن تميل أكثريّة الجيش إلى دعاة الهزيمة ، وأن يتغلّب الأشعث ابن قيس صنيعة معاوية على المناضلين من أجل الحق ، فيجد الإمام نفسه مضطرّاً إلى التخلّي ، وترك الصفوة من أصحابه ليحافظ على الأغلبية ويسير معها ، فرضى بالتحكيم مرغماً ، وإذا هذه اللحظة الّتي رضى علي فيها بالتحكيم ، وموافقة الأغلبية ، كانت كلمة « لاحكم إلاّلله » تعبيراً عن موقفه و شعاراً لمبدئه بل انها تعبير وشعار لكّل مؤمن يحكّم كتاب الله فيما شجر بينه خلاف وبين

 

________________________________________

(378)

الناس (1) .

    7 ـ إنّ التعبير عن الخروج على الإمام المفترض طاعته بـ « الخلافة » ، كما أنّ التعبير عن التمرّد والشغب بـ« تشكيل الدولة » مصادرة على المطلوب والمشي على الدعوى المسبقة بلا برهان ، فيطيب لي أن أذكر نصّ الكاتب الّذي يصوَّر أنَّه كان للخوارج دولة بعد رفض التحكيم. قال :

    « أصبحت الاُمّة الإسلامية منقسمة إلى ثلاث دول : دولة أسّسها معاوية وإن لم يبايعه عليها أحد إلى ذلك الحين ، ودولة يرأسها علي بن أبي طالب بعد أن فشلت في نظره حكومة الحكمين ، عاد فاستمسك بالبيعة الاُولى (2) دون أن يعترف بعزل أبي موسى الأشعري له مندوبه في قضيّة التحكيم ، و دولة يرأسها عبد الله بن وهب الراسبي بعد أن بايعه جمع كبير من الذين انفصلوا عن علي ، عند قبول التحكيم ، ثم عند اعلان الحكم بعزل علي عن الخلافة ، ومع كلّ فرقة من هذه الفرق جمع غير قليل من كبار الصحابة وفيهم بعض المشهود لهم بالجنّة.

    على أنّ هناك فريقاً رابعاً اعتزلوا هذا النقاش الّذي وقع بين المسلمين وبعدوا عن قضية الخلافة فلم يطلبوها لأنفسهم ، ولم يؤيّدوا واحداً من طالبيها ، و من هذا الفريق السادة سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر ، و محمّد بن مسلمة الأنصاري واُسامة بن زيد » (3) .

    إنّ الكاتب ادّعى لابن وهب مقاماً ليس له أثر في التاريخ ولا في كلمات الخوارج حتى في نفس المجلس الّذي بايعوه ، فإنّ البيعة لم تكن إلاّ لأن يكون

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الثالثة : 283 ـ 283.

    2 ـ فأي معنى للاستمساك بالبيعة الاُولى إذا خلع نفسه بمرأى ومنظر من الناس ياترى ، أو ليس هذا دليلاً على أنّ الإمام لم يخلع نفسه في وجدان الكاتب؟

    3 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الأولى : 24.

________________________________________

(379)

الرجل أميراً للجهاد وقائداً عسكرياً في القتال لاخليفة شرعية يملأ الفراغ الحاصل من العزل المزعوم ، والشاهد على ذلك انّ حمزة بن سنان الأسدي أوّل من اقترح هذه الفكرة وقال : « فولّوا أمركم رجلاً منكم فإنّه لابدّ لكم من عماد وسناد وراية تحفّون بها وترجعون إليها ... ».

    ولمّا قبلها عبد الله بن وهب ، قال : أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت (1) .

    8 ـ لم يكن محاربة الإمام للخوارج وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي إلاّ لأجل أعمالهم إلارهابيّة الّتي بلغت الإمام ، فقال بعض المخلصين له : على ما ندع هؤلاء يخلّفوننا في أموالنا و عيالنا؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام ، فقبل علي ، فنادى بالرحيل.

    كان من المظنون جداً أن يقوم عبد الله بن وهب الراسبي بسبي النساء وقتل الذراري ، إذا رأوا أنّ العاصمة الإسلامية (الكوفة) خالية من زعيمها وجيشها خصوصاً انّ علياً و مواليه كانوا عندهم مشركين كافرين تحلّ أموالهم وتجوز إراقة دمائهم وسبي نسائهم ، فلأجل ذلك قلع الإمام عين الفتنة قبل أن يبادر بمحاربة عدوّ الله في الشام.

    كلّ ذلك يدلّ على بطلان قول الكاتب « بعد أن جمع الإمام علي جيشه ومن بقي تحت طاعته من الجند ، فكّر في اعادة الكّرة على معاوية واخماد ثورته ومحاولة اخضاعه من جديد ، ولكن بعض أصحابه أشاروا عليه بمحاربة عبدالله ابن وهب الراسبي هذا الخليفة الجديد الّذي وصل إلى منصب الخلافة عن طريق البيعة ، وهو الطريق الشرعي للخلافة. واقتنع علي بصواب هذا الرأي و عدل عن محاربة معاوية إلى محاربة عبد الله بن وهب ، وكان أتباع عبدالله

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 55.

________________________________________

(380)

يعتقدون أنّ إمامهم هو الإمام الحق وانّ كّلاً من علي ـ بعد التحكيم والعزل ـ ومعاوية ، ثائران يجب عليهما الرجوع إلى حظيرة الإمامة » (1) .

 

9 ـ روايات شاذة في أمر التحكيم :

    الف ـ اعتمد الدكتور صالح الصوافي في تحليله مسألة التحكيم على رواية شاذّة ذكرها ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء وقال : « لمّا لم يبق إلاّ الكتاب ، قال الأحنف بن قيس لعلي : يا أمير المؤمنين انّ أبا موسى رجل يماني وقومه مع معاوية فابعثني معه فو الله لا يُحِلّ لك عقدة إلاّعقدت لك أشدّ منها ، فإن قلت انّي لست من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فابعث ابن عباس وابعثني معه ، فقال علي : إنّ الأنصار أتوني بأبي موسى فقالوا : ابعث هذا فقد رضيناه ولا نريد سواه والله بالغ أمره » (2) .

    إنّ هذه الرواية شاذّة غير معروفة وقد اتّفق المؤرّخون على أنّ عليّاً كان يصرّ على بعث ابن عباس أو الاشتر و لم يكن له أيّ هوى مع أبي موسى الأشعري ، لما كان يستشف منه أنّ هواه مع غيره وكيف لا وهو الّذي خذل الناس عن مساعدة الإمام القائم يوم كان واليا على الكوفة ، وتقاعد عن نصرته ، ولم ينفّر الناس إلى ساحة قتال الناكثين بل دعاهم إلى البقاء في منازلهم بحجّة أنّها فتنة ، القاعد فيها خير من القائم (3) .

    كيف يعتمد على تلك الرواية الشاذّة مع أنّ ابن قتيبة ، نقل خلافها في موضع آخر عند البحث عن ظهور المحكّمة ، ونقلها الدكتور أيضاً في كتابه ،

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى : 24 ـ 25.

    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 99 نقلاً عن الإمامة والسياسة : 114.

    3 ـ الطبري : التاريخ 3 / 497.

(381)

قال : اتّضحت معالم المسألة واضحة ، و بدا لكل ذي عينين أنّ التحكيم لم يكن سوى خديعة لم يبغ من طلبها سوى العدول عن الطريق السوي ، وصحّ كل ما توقّعه علي بن أبي طالب حتى حقّ له أن يقول وقد وقع ما وقع : « أما أنّي قد أخبرتكم أنّ هذا يكون بالأمس ، و جهدت أن تبعثوا غير أبي موسى فأبيتم عَلَيّ » (1) .

    أفيصحّ بعد هذا ، قوله إنّ الأنصار أتوني بأبي موسى فقالوا : ابعث هذا فقد رضيناه ولا نريد سواه؟! مع أنّه لم يرده أبداً وإنّما فرض عليه من فرض.

    ب ـ إنّ الكّتاب الجدد لمّا واجهوا أنّ التحكيم سيّئة من سيّئات المحكّمة واّنّهم هم المسؤولون عن عواقبه الوبيلة ، عمدوا إلى الروايات الشاذّة ومخالقات أعداء الإمام. قالوا : إنّ عليّاً ظلّ يكاتب معاوية سرّاً من دون المسلمين ، فكتب إلى معاوية : من عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية ، فكتب إليه معاوية : لو أعلم أنّك أمير المؤمنين لم اُقاتلك ، فامح اسم أمير المؤمنين ، ففعل علي ذلك فبلغ ذلك المسلمين ، فقالوا له : يا علي ما حملك أن تخلع نفسك من اسم سمّاك به المسلمون؟ ألست أمير المؤمنين ومعاوية أمير المخالفين؟ فتب عمّا صنعت ... ، ثمّ إنّهم يذكرون أنّه بعد أن تاب عدل عن توبته و أمضى الحكومة أي التحكيم (2) .

    إنّ ما ذكره من المكاتبة السرّية ليس له مسحة من الحقّ ولا لمسة من الصدق ولا يوجد في كتب القصاصين فضلاً عن التواريخ والسير ، وما ذكره ليس إلاّ قصة التحكيم الّذي شهد عليه الطرفان على وجه التفصيل ، والإمام امتنع عن

________________________________________

    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 102 نقلاً عن الإمامة و السياسة لابن قتيبة 119.

    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 112 نقلاً عن القلهاتي : الكشف والبيان : 2 / 237.

________________________________________

(382)

محو إمرة المؤمنين عن نفسه ، وقد أمضى مليّاً من النهار ، وهو يدفع ذلك الاقتراح غير أنّ المحكّمة والطابور الخامس الذين فرضوا على عليّ نفس التحكيم ، فرضوا عليه صيغته أيضاً ، ولم يكن شيئاً خفيّاً من الناس بل كان على مشهد منهم ، وقد ذكر الإمام ما جرى على النبي الاكرم في صلح الحديبية وأنّه سيبتلى بما اُبتلي به رسول الله ، وأمّا قصة التوبة فقد مضى الكلام فيها.

    ج ـ رووا عن علي ـ عليه السلام ـ أنّه بعد ما قتل الخوارج جعل يمرّ عليهم وهو يستغفر لهم و يقول : بئس ما صنعنا قتلنا خيارنا وفقهاءنا ... فقال له بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين قتلنا المشركين. قال : من الشرك فرّوا. قال : أمن المنافقين؟ قال إنّ المنافقين لايذكرون الله إلاّ قليلاً و هؤلاء يذكرون الله كثيراً (1) .

    إنّ ما ذكره اّنما هو من مخاريق الخوارج ، حاولوا أن يبرّروا أعمال أسلافهم فالقوم كانوا بغاة على الإمام المفترض طاعته ، ومَنْ حبّه إيمان وبغضه كفر (2) والقوم لم يكونوا مشركين ولا منافقين ، ولكن كانوا بغاة ، ولم يكونوا خيار القوم ولا فقهاءهم بل كانوا من أهل البادية الذين تسيطر عليهم السذاجة ويغترّون بالظواهر من دون التعمّق في البواطن. وأسوأ من ذلك ما نقله في ذيل كلامه ونحن نطهر قلمنا عن ذكره والردّ عليه ، فلم يكن الإمام نادماً من عمله لأنّه حقّق ما تنبّأ به النبي الأكرم في حقّه وأنّه سيقاتل الناكثين والقاسطين و المارقين (3) وآية ذلك انّه كانت للخوارج انتفاضات بعد وقعة النهروان ، فلم يزل علي ـ عليه السلام ـ يبعث السرايا لإطفاء فتنتهم ، و اخماد ثائرتهم إلى أن اُغتيل

________________________________________

    1 ـ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد : 125 ، نقلاً عن القلهاتي في الكشف والبيان : 2 / 252 ـ 254.

    2 ـ مرَ مصدره.

    3 ـ مرّ مصدره.

________________________________________

(383)

بيد أشقاهم شقيق عاقر ناقة ثمود (1) .

    10 ـ لا إمرة إلاّ لله :

    هذا هو الوجه الثاني لتفسير شعارهم « لاحكم إلاّ لله » ولكن الخوارج رفضوه عملاً واختاروا عبد الله بن وهب خليفة لهم إلاّ أنّه كانت توجد بين المتطرّفين منهم تلك النظرية. يقول الكاتب المعاصر علي يحيى معمر :

    « انعزل معارضوا التحكيم إلى جانب ، واستمسكوا بموفقهم الّذي كانت تعبرّ عنه هذه الكلمة أصدق تعبير ، ونشأ عن هذا الموقف موقف آخر متطرّف كل التطرّف ، فإنّ الكلمة حينما اطلقت وقصد منها أنّه لا يجوز للناس أن يحكِّموا فيما نزل فيه حكم الله ، وذلك ما فهمه الإمام علي ورضى به ، وفهمه المعارضون وعملوا به ».

    ولكن اُناساً من المتطرّفين فيما بعد زعموا أنّه لا حاجة إلى الإمارة وأنّه لا داعي لأن يكون للمسلمين حكومة وحملوا كلمة « لاحكم إلاّ لله » هذا المقصد الهدّام ، وهذا التطرّف هو ما سخطته الاُمّة وردّته عنهم ، وتولى الإمام علي شرحه باسهاب وايضاح لايبقى بعده اشكال.

    قال الإمام علي وهو يردّ على اُولئك المتطرّفين الذين خرجوا بكلمة « لاحكم إلاّ لله » عن معناها الّذي وضعت له : « كلمة حق يراد بها الباطل ، نعم لاحكم إلاّ لله ، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ لله ، و انّه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر ، يعمل في امرته المؤمن ، و يستمتع فيها الكافر ، يبلّغ الله فيها الأجل ، ويجمع بها الفيء ، ويقاتل العدو ، وتؤمن به السبل ، و يؤخذ به للضعيف من

________________________________________

    1 ـ مرّ مصدره.

________________________________________

(384)

القويّ حتى يستريح برّ و يستراح من فاجر » (1) .

 

الخوارج أنصار عليّ وشيعته؟!

    إنّ الخوارج يعدّون أنفسهم شيعة الإمام علي ـ عليه السلام ـ وأنصاره وانّهم كانوا سواعده القويّة في قتال الناكثين والقاسطين ، و انّهم هم الذين أعاروا جَماجمَهم لعليّ في القتالين ثم يشكون عليّاً بأنّه ما أنصف في حقّ أنصاره وأعوانه ، حيث قتلهم وهم براء من الذنب.

    وممّن صبّ الشكوى في قالب الشعر ، هو أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديم الرواحي يقول في قصيدة له :

ارقتَ دماء المؤمنين بريئةعليّاً أمير المؤمنين بقيّة!سمعناك تنفي شركهم و نفاقهموما الناس إلاّ مؤمن أو منافقوقد قلت ما فيهم نفاق ولا بهمفهل أوجب الإيمان سفك دمائهم ؟تركتَهم جزر السباع ، عليهممصاحفهم مصبوغة بدمائهموكنتَ حفياً يا بن عمّ محمّد                  لهن بزيزاء (2) الحراء (3) خرير (4)كأنّ دماء المؤمنين خمورفأنت على أيّ الذنوب نكير ؟!ومنهم جحود بالإله كفورجحود و هذا الحكم منك شهيروأنت بأحكام الدماء بصير!لفايف من إيمانهم و ستورعليهن من كتب السهام سطوربحفظ دماء مالهن خطير

________________________________________

    1 ـ علي يحيى معمّر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الثالثة : 284.

    2 ـ الزيزاء : الاكمة الصغيرة.

    3 ـ الحراء : الحرّة : أرض ذات حجارة سود كأنها اُحرقت بالنار.

    4 ـ صوت الماء.

________________________________________

(385)

وكنتَ حفياً أن يكونوا بقيّةأما و الّذي لاحكم من فوق حكمهتنادي : أعيروني الجماجم كرّةلَقِدْماً أعاروك الجماجم خشّعاًفقصعتها إذ حَكَّمت حكم ربّها                 لنصرك حيث الدائرات تدورعلى خلقه ورد به و صدورفقد قدموها و الوطيس سعيرعليهنّ من قرع الصفاح فتورفما بقَّيْتَ عارية و معير (1)

    والحقّ إنّ هذه الأبيات تثير العواطف العمياء ضدّ الإمام ، ويتخيّل صاحبها أنّ الإمام قد جحد حقّهم و تساهل ، و لكنّه إذا رجع إلى غضون التاريخ ، سرعان ما يرجع عن قضائه و يلوم نفسه على التسرّع ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما ذكرناه من تاريخهم و أعمالهم الإجرامية حين التحكّيم وبعده ، وهنا نشير إلى نكات :

    1 ـ إنّ قوله : سمعناك تنفي شركهم ونفاقهم يشير إلى ما رواه عن علي أنّه قال له بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين قتلنا المشركين. قال : من الشرك فرّوا. قال : أمن المنافقين؟ قال إنّ المنافقين لايذكرون الله إلاّ قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً (2) .

    يلاحظ عليه أوّلاً : انّ المروي عن علي ـ عليه السلام ـ في حقّ هؤلاء هو ما ذكره الطبري بقوله : بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين من غرّهم؟ قال : الشيطان ، وأنفس بالسوء أمّارة ، غرّتهم بالأماني ، وزيّنت لهم المعاصي ونّبأتهم أنّهم ظاهرون (3) .

________________________________________

    1 ـ صالح بن اُحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 127 ـ 128.

    2 ـ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 125 ، نقلاً عن القلهاتي في الكشف والبيان : 2 / 251 ـ 254.

    3 ـ الطبري 4 / 66.

________________________________________

(386)

    ثانياً : نفترض صحّة الحديث ولكن القوم كانوا عصاة وبغاة ، خارجين على الإمام المفترض عليهم طاعته ، والعصاة عندكم كفّار ، وعندنا فسّاق ولا حرمة للكافر ، والفاسق يقتل في ظروف خاصّة ، خصوصاً إذا بغى على الإمام الّذي أصفقت الاُمّة على إمامته وخلافته ، قال سبحانه : ( وَ إِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلَى الاُخْرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (1) .

    فقد برّر سفك دمائهم بغيهم و خروجهم على الإمام المفترض طاعته ، و على ضوء ذلك فلا معنى لقوله : « فهل أوجب الإيمان سفك دمائهم؟ ... ».

    2 ـ إنّ الشاعر في قوله : تركتهم جزر السباع ... » يشير إلى أنّ الإمام قتلهم ثمّ تركهم مثل من تفتكه السباع وتتركه ، ولكن التاريخ يشهد على خلافه. يقول الطبري :

    « طلب عديّ بن حاتم ابنه طرفة فوجده فدفنه ، ثمّ قال : الحمد لله الّذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك ، و دفن رجال من الناس قتلاهم ... »

    بل الإمام قام بعطف إنساني قدير. يقول الطبري :

    « و طلب من به رمق منهم فوجدوهم أربعمائة رجل ، فأمر بهم عليّ فدفعوا إلى عشائرهم ، وقالوا : احملوهم معكم ، فداووهم ، فإذا برأوا فوافوا بهم الكوفة ، وخذوا ما في عسكرهم من شيء ، قال : وأمّا السلاح والدواب وما شهدوا عليه الحرب فقسّمه بين المسلمين ، وأمّا المتاع و العبيد و الإماء فإنّه حين قدم ردّه على أهله » (2) .

________________________________________

    1 ـ الحجرات : 9.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4 / 66.

________________________________________

(387)

    3 ـ يشير الشاعر بقوله : « تنادي اعيروني الجماجم كرّة ـ فقد قدّموها والوطيس سعير » إلى ما خدموا عليّاً ـ عليه السلام ـ في الجمل وفي صفّين قبل رفع المصاحف وهو صادق في هذا العزو و النسبة ، ولكنّهم يا للأسف بخلوا بها في الموقف الحاسم الّذي كان بينه وبين النصر خطوة ، وذلك عندما رفع أهل الشام المصاحف. قال الإمام : « عباد الله ، إنّي أحق من اجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط و حبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، و صحبتهم رجالاً ، فكانوا شرّ أطفال و شرّ رجال. إنّها كلمة حق يرادبها باطل. انّهم و الله ما رفعوها انّهم يعرفونها و يعملون بها ، و لكنّها الخديعة والوهن و المكيدة. أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعة ، ولم يبق إلآ أن يقطع دابر الذين ظلموا » فجاء زهاء عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد شاكي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودّت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لابإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ، و إلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان ، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم فقال لهم : ويحكم ، أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله و أوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن اُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي انّما اُقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون. قالوا : فابعث إلى الأشترليأتيك وقد كان الأشتر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله ...

    وقد بلغ بخلهم وضنتهم باعارة جماجمهم إلى حد طلب منهم الأشتر أن

 

________________________________________

(388)

يمهلوه فواقَ ناقة أو عدوة الفرس فما أمهلوه. قال لهم : امهلوني فواقاً فإنّي قد أحسست بالفتح. قالوا : لا. قال : فامهلوني عدوة الفرس ، فإنّي قد طمعت في النصر ، قالوا : اذن ندخل معك في خطيئتك. قال : وحدثوني عنكم ـ وقد قتل أماثلكم وبقي أرذالكم (1) .

    فالحقّ إنّ الخوارج كانوا أنصار عليّ في البداية وإلى أثناء حرب صفّين ثمّ انقلبوا.

    وممّا يندي الجبين انّ زيد بن حصين الطائي قد قدم إلى عليّ و معه عصابة من القرّاء فنادوه كما عرفت (2) لا بإمرة المؤمنين بل باسمه وفرضوا عليه قبول التحكيم ، وهو بعد أيّام قلائل كان المرشّح الأوّل في أخذ البيعة لواحد من المحكّمة في الحروراء ، يقول الطبري :

    قال حمزة بن سنان الأسدي : إنّ الرأي ما رأيتم ، فولّوا أمركم رجلاً منكم فإنّه لابدّ لكم من عماد وسنان ، وراية تحفّون بها وترجعون إليها ، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى ، و عرضوها على حرقوص بن الزهير فأبى ، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا ، وعرضوها على عبد الله بن وهب ، فقال : هاتوها ... (3)

    فالرجل ذو طبيعة متسرّعة في القضاء ، فيوماً يفرض التحكيم على علي ويوماً آخر يستنكر التحكيم و يُرشَّح لقيادة الثورة على علي لأجل قبول التحكيم!!

    4 ـ قد جادت قريحة العلاّمة الفقيه الشيخ محمود البغدادي ـ دامت معاليه ـ بقصيدة ضافية فنّد فيها ما جاء في الأبيات السابقة نقتطف منها مايلي :

________________________________________

    1 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 499.

    2 ـ ابن مزاحم : وقعة صفّين 499.

    3 ـ تاريخ الطبري : 4 / 55.

________________________________________

(389)

تراءت (1) فقلتُ الشمسُ حيثُ تنيرُولستَ ترى في الخلق مثلَ عقيدةادافع عنها من أراد مساءةًوليس محبّاً من يُخلّي عداتَهأَمثْل ُ عليّ في عدالةِ حكمهعليٌّ عليٌّ بابُ علمِ محمّدأ إنْ زار بالجيش العرمرم ثُلَّةوقد فارقوه بعد نصر مؤَزَّروقِدماً أعاروه الجماجم خُشّعاًوهل ينفع النصر القديم إذا امّحىهمُ قد أثاروا الحرب حين تنكّبواو هم مرقوا كالسهم من دين أحمدلَعَمري لَنعمَ الصحْبُ كانوا لصاحبإذا هُمُ بعد الحبّ لُدّاً تأَلّبواأ إِنْ رفع القرآنُ خدعةَ خادعفقال علي لا تجيبوه للتيأ إن قد حملتم حملة حيدريّةيُرِدْكُمُ للإذلال بعد تعزّزأعيروني لله الجماجم ساعةألا تمهلوني ـ يا رفاقَ مسيرة ـإذا كنتُ بالأحكام أبصرَ باصر                          ففي القلب منها لوعةٌ و سعيرُجمالاً يرد الطرفَ و هو حسيرُواقمع من قد صدَّ و هو جَسورُتشنُّ على أحبابه وتُغيريُردُّ ... و عشّاقُ الجمالِ حضورو ذاك حديث كالبدور شهيريُعَبْ زائر أوْ يُمدَحنَّ مَزورُولم يُلفَ منهم بعد ذاك ظهيرو ماكلُّ من وافى الحروب يعيربحقد ، و فارت بالعداء قدورسلاحاً كثيفاً والسلاحُ يثيرو ذلك أمرٌ ما عليه ستورُولكنّما الدنيا الفتون غرورو دارت رحاهم و الزمانُ يدورأُجيب صغيرٌ واسْتُضِلَّ كبيرُأراد فدعوى من دعاكمُ زورو رفرف لي نصر و قام بشير؟!وهل عزّة كالنصر حين يمورفإنّ عدوّي حين ذاك فَرورفُواقَ انتصار و الفواقُ يسير؟دعوني و ما قد أرتاي و أُشير

________________________________________

    1 ـ ضمير التأنيث يرجع إلى العقيدة المعلومة من سياق القصيدة.

________________________________________

(390)

ولا خيرَ في نسك بغير بصيرةفقالوا أجبهم للّتي قد دعوا لهاوإلاّ تجبهم يا عليُّ فإنّناو ساروا إلى أرض الحروراء واَغْتَدوافقال لهم هيّا أنيبوا إلى الهدىأطيعوني ما كنت التبيع لأحمدفقالوا له أنت الكَفورُ فتُبْ وثُبْوحجّوني بالقرآن إنْ كنُتُم علىولمّا تنادوا للقتال تقدّموافأَرداهُم صُنْو النبي محمّدفياعجبا كيف ابن وهب (1) يثيرهاوكان قؤولاً : خمّروا الرأي تُفلحوافإن له في عتبة بن ربيعةالاّ أنّها الأَقدارُ إنْ حانَ حينهاويا ربَّ علم مثل جهل مركبويا ربَّ علم يُحمَدُ الجهلُ عندَهُ                          وأجدر من خاض الحروب بصيرفَثمَّ كتابٌ حاكم و أميرعداةٌ اشداءٌ عليك نسورلحرب عليّ والزمان غَدوروهيّا معي نحو العداة فسيروافإن أنا لم اتبع خُطاه فثوروافما قادنا نحو الجهاد كفورمقاطع حقّ فالحقيقةُ نوركآساد خفان لهنّ زئيربلا ندم والعزمُ منه مريمولم تختصر و الرأي منه أسيرفأكرم آراء الرجال خمير (2)مشابه حال تلتقي و تجور (3)يُغلَّب فِكِّيرٌ (4) بها و خطيرُقليلٌ به الإنسان و هو كثيرو تُعزى له تمجِيدَةٌ وشُكورُ

________________________________________

    1 ـ المراد : عبد الله بن وهب الراسبي رأس المحكّمة.

    2 ـ اشارة إلى ما اثر عنه : دعوا الرأي حتى يختمر فلا خير في الرأي الفطير.

    3 ـ تميل.

    4 ـ فكّير : كثر التفكير. خطير : عظيم الشأن.

(391)

2 ـ حكم مرتكب الكبيرة من الجهات الثلاث

    إنّ أوّل مسألة ـ بعد الإمامة ـ أثارت ضجّة كبرى بين المسلمين وفرّقتهم إلى فرقتين بل إلى فرق : مسألة حكم مرتكب الكبيرة ، فقد وقع البحث فيها في جهات ثلاث :

    الجهة الاُولى : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو مشرك؟

    الجهة الثانية : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو كافر؟

    الجهة الثالثة : هل مرتكب الكبيرة محكوم بالخلود في النار أو لا؟

    و أساس المسألة هو أنّ العمل هل هو جزء من الإيمان أو لا؟ : فعلى الأوّل فإذا أخلَّ بحكم من أحكام الإسلام كما إذا ارتكب الحرام أو ترك الواجب لا جاحداً لحرمته أو وجوبه ، بل لغلبة هواه على عقله ، يخرج عن دائرة الإيمان ، و على الثاني يبقى مؤمناً و يوصف بالفسق و الخروج عن الطاعة ، ولأجل ايضاح المقام نشير إلى الآراء المختلفة في هذا الباب :

    ذهبت الأزارقة إلى أنّ مرتكب المعاصي مشرك فضلاً عن كونه كافراً من

 

________________________________________

(392)

غير فرق بين الكبيرة والصغيرة ، وذهبت النجدية إلى أنّ مرتكب الكبيرة مشرك ، وأمّا الصغائر فلا ، فهاتان الطائفتان من متطرّفة الخوارج ، تتّفقان في كون ارتكاب الكبائر موجباً للشرك و الكفر ، ويختلفان في الصغائر ، فتراها الأزارقة مثل الكبائر دون النجدية.

    و ذهبت الاباضية إلى كون الارتكاب كفراً لاشركاً ، و الكفر عندهم أعم ، من كفر الجحود و كفر النعم ، فمرتكبها من المؤمنين كافر كفر النعمة لاكفر الجحود.

    و ذهبت المعتزلة إلى أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر فضلاً عن كونه مشركاً. نعم اتّفقت المعتزلة و الخوارج على كونه مخلَّداً في النار إذا مات غير تائب ، وذهبت الإمامية والأشاعرة و أهل الحديث إلى كون مرتكب الكبيرة مؤمناً فاسقاً غير مخلّد في النار.

    هذه هي الأقوال و الاّراء البارزة في المقام ، ولنركّز البحث في الجهات الثلاثة ونجعل الجميع مسألة واحدة ، فإنّ كلّ واحدة ، وجه لعملة واحدة ، وإن كان للعملة الرائجة وجهان :

 

الجهة الاُولى ـ هل مرتكب المعاصي مشرك ؟

    قد عرفت أنّ الأزارقة ذهبت إلى أنّ المعاصي كلّها شرك و مرتكبها مشرك (1) ولأجل تحليل هذا القول نذكر ما هو حدّ الشرك و محقّقه ، فنقول : لو افترضنا أنّ مرتكب الكبيرة كافر ، لا يصحّ لنا توصيفه بالشرك ، فإنّ للشرك معنىً محدّداً لا ينطبق على مرتكب الكبيرة إلاّ في ظروف خاصّة و هي خارجة عن موضوع البحث ، وتوضيح ذلك بوجهين :

________________________________________

    1 ـ صالح أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 252.

________________________________________

(393)

    1 ـ إنّه سبحانه قسّم الكافر إلى مشرك و غيره و قال : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وَ المُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الَبَيِّنَةُ ) (1) وقال سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ اَشَدَّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُو اليَهُودَ وَالَّذِينَ اَشْرَكُوا ) (2) كلّ ذلك يدلّ على أنّ للمشرك معنىً محدداً لاينطبق على الكافرين من أهل الكتاب فضلاً على المسلم المعتقد بكل ما جاء به الرسول ، إذا ارتكب كبيرة لا لاستهانة بالدين بل لغلبة الهوى على العقل ، فكيف يمكن أن نعدّ كلّ كافر مشركاً ، فضلاً أن نعدّ المسلم المرتكب للكبيرة مشركاً؟

    ثمّ لو افترضنا صحّة كون أهل الكتاب مشركين في الحقيقة و في الواقع ، كما هو غير بعيد لقوله سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالّوا إِنَّ اللهَ ثاِلثُ ثَلاثَة وَ ما مِنْ إِله إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ ) (3) ولكنّه اصطلاح ثانوي لايكون منافياً لما جرى عليه القرآن من عدّ أهل الكتاب في مقابل المشركين.

    و يظهر ذلك من الروايات الواردة حول الرياء فإنّ المرائي ، قد وصف بالشرك ، ولكنّه شرك خفي لاصلة له بالشرك المصطلح في القرآن الكريم.

    روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر الباقر قال : سئل رسول الله عن تفسير قوله الله عزّوجل : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ اَحَدَاً ) (4) فقال من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك ـ إلى أن قال ـ ومن عمل عملاً ممّا أمر الله به مراءاة الناس ، فهو مشرك ، ولا يقبل الله عمل مراء (5) .

________________________________________

    1 ـ البينة : 1.

    2 ـ المائدة : 82.

    3 ـ المائدة : 73.

    4 ـ الكهف : 110.

    5 ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة 1 ، الباب الحادي عشر من أبواب مقدمات العبادات 13 ـ 50.

________________________________________

(394)

    ولكن ذلك مصطلح آخر ، أو استعارة له للمورد لتأكيد الأمر لما عرفت من أنّ المشرك في القرآن الكريم يطلق على غير المعتنقين لاحدى الشرائع السماوية ، من غير فرق بين اليهود والنصارى و غيرهم.

    2 ـ إنّ الشرك عبارة عن تصوّر ندٍّ وثان لله سبحانه في ذاته أو صفاته أو أفعاله ، قال سبحانه : ( فَلا تَجْعَلُوا لله اَنْدَاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1) وقال سبحانه : ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ) (2) وقال تعالى : ( وَ جَعَلُوا لله أنْدَاداً لِيُضلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) (3) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تشرح لنا حقيقة الشرك و خصوصياته (4) .

    ولأجل تصوّر الندِّ و المثل لله سبحانه في الذات أو الصفات أو الأفعال ، كانوا يعبدون الأصنام بحكم انّها أنداد لله تبارك و تعالى ، فكانوا يساوونها بالله تعالى في العقيدة و العبادة ، قال تعالى : ( تَالله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالِ مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ ) (5) .

    فعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا توصيف إنسان بالشرك و عدّه من المشركين إلاّ إذا اعتقد بندٍّ لله تبارك و تعالى و لو في مرحلة من المراحل ، ولأجل هذه العقيدة كان المشركون يفرّون من كلمة ( لا إله إلاّ الله ) لكونها على جانب النقيض من عقيدتهم ، قال سبحانه : ( إنَّهُمْ كَانوا اِذا قيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إلاَّ الله يَسْتَكْبْرُونَ * وَ يَقُولُونَ أئِنَا لَتارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِر مَجْنُون ) (6) .

________________________________________

    1 ـ البقرة : 22.

    2 ـ البقرة : 165.

    3 ـ إبراهيم : 30.

    4 ـ لاحظ : سورة سبأ / 33 ، الزمر / 8 ، فصلّت / 9.

    5 ـ الشعراء : 97 ـ 98.

    6 ـ الصافّات 35 ـ 36.

________________________________________

(395)

    وقال تعالى : ( وَ اِذَا ذُكِر الله وَحْدَهْ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بالآخِرَةِ وَ اِذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنَ دُوِنِهِ اِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (1) وقال تعالى : ( ذلِكُمْ بِأنَّهُ اِذَا دُعِىَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنوا فَالحُكْمُ للهِ العَلِىِّ الكَبِير ) (2) .

    فهذه الآيات تحدّد حقيقة الشرك و تُعرِّف المشرك بمضامينها ، فهل يمكن توصيف المسلم المؤمن الموحّد ، بالشرك مع أنّه لم يتّخذ أي ندٍّ و مثل في مجال الذات و الصفات و الأفعال ، ولم يعبد غيره ، وإنّما وحّده في الذات ، والصفات ، والأفعال ، و في مقام القيام بوظائف العبوديّة لم يعبد إلاّ الله سبحانه. نعم غلبت عليه ـ أحياناً ـ شقوته ، وسيطرت عليه نفسه الأمّارة فركب الحرام مع وجل و خوف.

    وبذلك ظهر أنّ الكفر أعم من الشرك ، فمن لم يتّخذ ندّاً و مثلاً لله سبحانه ، و لكنّه كفر برسله و كتبه و ما نزّل الله سبحانه ، فهو كافر لامشرك ، و أوضح منه من آمن بالله ولم يكفر بشيء ممّا أنزله و أرسله غير أنّه صار مقهوراً فارتكب شيئاً حرّمه الله أو ترك فريضة أوجبها الله سبحانه.

    فاتضح بذلك بطلان قول الأزارقة من أنّ المعاصي كلّها شرك كبطلان قول النجدية بأنّ الكبائر كلّها شرك وأمّا الصغائر فلا ، إذ لاينطبق معيار الشرك على مجرّد ارتكاب المعصية ، صغيرة كانت أو كبيرة.

 

أدلّة الأزارقة على أنّ المعاصي شرك :

    استدلّت الأزارقة على أنّ المعاصي كلّها شرك بآيات و المهم فيها آيتان وإليك البيان :

________________________________________

    1 ـ الزمر : 45.

    2 ـ غافر : 12.

________________________________________

(396)

    1 ـ ( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ظَلّ ضَلالاًبَعِيداً ) (1) .

    يلاحظ عليه : أنّ ظاهر الاّية انّ المشرك ممّن « ضلّ ضلالاً بعيداً » ، فلو فرضنا أنّ مرتكب الكبيرة من مصاديق تلك الضبابطة فلا تدلّ الآية على أنّه مشرك لأنّ ظاهر الآية أنّ المشرك من مصاديق « فَقَدْ ضل ضَلالاً بعيداً » لا أنّ « كلّ من ضلّ ضلالاً بعيداً فهو مشرك » إذ من المحتمل أن تكون الضابطة أعم من الشرك ، فمثل الآية مثل قولنا : « كل جوز مدوّر لا أنَّ كل مدوّر جوز ».

    أضف إلى ذلك : انّ مرتكب الكبيرة إذا كان موحّداً مؤمناً بما أنزل الله تعالى ، ليس من جزئيات قوله : « ضلّ ضلالاً بعيداً » لأنّ القرآن إنّما يستعمله في المشرك والكافر الجاحد ، لا المؤمن المعتقد الّذي غلبه هواه ، و يعلم ذلك بالتتبع في موارد وروده في الذكر الحكيم.

    قال سبحانه ( وَ وَيْلٌ للْكافِرِينَ مِنْ عَذَاب شَديد * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيا عَلَى الاّخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجَاً اُولئكَ فِي ضَلال بَعِيد ) (2) .

    وقال سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمَاد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْم عَاصِف لاَيَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْء ذَلكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ ) (3) .

    وقال تعالى : ( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَالا يَضُرُّهُ وَ مَالاَ يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ ) (4)

    وقال تعالى : ( بَلِ الَّذينَ لايُؤْمِنُونَ بالآخِرِة فِي العَذَابِ و الضَّلال البَعِيدِ ) (5) .

________________________________________

    1 ـ النساء : 116.

    2 ـ إبراهيم : 2 ـ 3.

    3 ـ إبراهيم : 18.

    4 ـ الحج : 12.

    5 ـ سبأ : 8.

________________________________________

(397)

    و قال تعالى : ( إنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلال بَعِيد ) (1) .

    و قال ( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إلهاً آخر ... وَلكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيِد ) (2) .

    فظهر من ذلك أنّ الضلال البعيد مفهوم ينطبق على الجاحد مشركاً كان أم كافراً غير مشرك ، ولا ينطبق على المؤمن بكل ما أنزل الله غير أنَّه غلب عليه هواه فركب الكبيرة.

    2 ـ قال سبحانه : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَ إنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إنْ أَطَعْتُمُوهَمْ إنَّكُمْ لمُشْرِكُونَ ) (3) .

    قالوا : إنّ معنى الآية انّكم إن أطعتموهم بأكل الميتة فأنتم أيضاً مشركون.

    يلاحظ عليه : أنّ المراد هو الإطاعة في استحلال الميتة لا في أكلها ، ولا شك انّ المستحلّ لما حرّم الله مشرك و ذلك لما قرّرنا في محلّه انّ التقنين والتشريع من فعله سبحانه و ليس في عالم التشريع مشرّع سواه ، فالمستحلُّ للميتة يصوّر ندّاً لله سبحانه ، لا في الذات و الصفات بل في الأفعال و يشرك الغير معه في اعطاء فعله لغيره.

    ويوضحه قوله سبحانه : ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أرْباباً مِن دُون اللهِ وَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) (4) فقد ورد في تفسيره انّهم ما صلّوا ولا صاموا للأحبار والرهبان ، بل أطاعوهم في تحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال (5) .

________________________________________

    1 ـ الشورى : 18.

    2 ـ ق : 26 ـ 27.

    3 ـ الأنعام : 121.

    4 ـ التوبة : 31.

    5 ـ الطبرسي : مجمع البيان 3 / 23.

________________________________________

(398)

الجهة الثانية ـ هل مرتكب المعاصي مؤمن أو كافر؟ :

    قد عرفت أنّ الأزارقة و النجدية قالوا إنّ المعاصي شرك ، و خالفهم الاباضية ، فوصفوها بالكفر ، و مرتكبها بالكافر ، و يقع الكلام في الجهة الثانية في هذا الجانب ، و قبل الخوض في تحليل دلائلهم نذكر ما هو حقيقة الإيمان و الكفر ، فنقول :

    إنّ حقيقة الإيمان هو التصديق القلبي ، والقلب هو مرتكز لوائه ، و أمّا العمل فهو من مظاهره لامن مقوّماته و يظهر ذلك من غير واحد من الآيات. قال سبحانه : ( أُولِئِك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ ) (1) ، و قال سبحانه : ( وَلمّا يَدْخُلِ الإيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (2) ، و قال تعالى : ( وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ ) (3) .

    وتؤكّد آيات الطبع و الختم على أنّ محلّ الإيمان هو القلب ، قال سبحانه : ( اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أبْصَارِهِمْ وَ أُلئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (4) ، وقال سبحانه ( وَ خَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلَى بَصَرِهَ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (5) والختم على السمع و البصر لكونهما من أدوات المعرفة الّتي يستخدمها القلب.

    نعم كون القلب مركزاً للإيمان و خروج العمل عن كونه عنصراً مقوّماً للإيمان ، لايعني أنّ التصديق القلبي يكفي في نجاة الإنسان في الحياة الأُخروية بل يعني أنّه يكفي في خروج الإنسان عن زمرة الكافرين ـ الذين لهم خصائص

________________________________________

    1 ـ المجادلة : 22.

    2 ـ الحجرات : 14.

    3 ـ النحل : 106.

    4 ـ النحل : 108.

    5 ـ الجاثية : 23.

________________________________________

(399)

وأحكام ـ التصديق القلبي ، فيحرم دمه وماله و تحلّ ذبيحته و تصحّ مناكحته إلى غير ذلك من الأحكام الّتي تترتّب على التصديق القلبي إذا أظهره بلسانه أو وقف عليه الغير بطريق من الطرق ، و أمّا كون ذلك موجباً للنجاة يوم الحساب فلا ، فإنّ للنجاة في الحياة الاُخروية شرائط اُخرى تكفّل ببيانها الذكر الحكيم و السنّة الكريمة.

    وبذلك يفترق عن قول المرجئة الذين اكتفوا بالتصديق القلبي أو اللساني واستغنوا عن العمل ، وبعبارة اُخرى قدَّموا الإيمان و أخَّروا العمل ، فهذه الطائفة من أكثر الطوائف خطراً على الإسلام و أهله ، لأنّهم بإذاعة هذا التفكير بين الشباب ، يدعونهم إلى الإباحية و التجرّد عن الأخلاق و المثل الاسلامية ، ويعتقدون أنّ الوعيد خاص بالكفّار دون المؤمنين ، فالجحيم و نارها و لهيبها لهم دون المسلمين ، ومعنى هذا أنّه يكفي في النجاة الإيمان المجرّد عن العمل ، وأيّ خطر أعظم من ذلك؟

    و على ضوء ذلك يظهر المراد ممّا رواه البخاري عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، و اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة والحج و صوم رمضان (1) فإنّ المراد من الإسلام ، ليس هو الإسلام المقابل للإيمان في قوله سبحانه : ( قَألتِ الأعرابُ آمَنَّا قُل لَمْ تَؤْمِنوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُل الإيمانّ فِي قُلُوبِكُمْ ) (2) ولا الإسلام و الإيمان بأقل درجاتهما الّذي له أحكام خاصّة ، بل الإيمان المنجي لصاحبه من العذاب الأليم. وهذا لايضر بما قلنا من أنّ مقوّم الإيمان ، هو العقيدة القلبية. وإليه ينظر ما روي عن الإمام الصادق من

________________________________________

    1 ـ البخاري : الصحيح 1 / 14 كتاب الإيمان.

    2 ـ الحجرات : 14.

________________________________________

(400)

أنّ الإسلام يحقن به الدم و تؤدّى به الأمانة ، و يستحلّ به الفرج ، والثواب على الإيمان (1) .

    و بالجملة انّ كون التصديق القلبي مقياساً للإيمان غير القول بأنَ التصديق القولي أو القلبي المجرّدين عن العمل كاف للنجاة ، ولأجل ذلك تركّز الآيات على العمل بعد الإيمان و تقول : ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ ) (2) وقال تعالى : ( وَ مَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤمِنٌ ) (3) و قال تعالى : ( يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (4) فلو كان العمل عنصراً مقوّماً لحقيقة الإيمان فما معنى الامر بالتقوى بعد فرض الإيمان لأنّه يكون أشبه بطلب الأمر الموجود و تحصيل الحاصل.

 

أدلّة الخوارج على أنّ ارتكاب المعاصي كفر :

    هناك آيات تتمسّك بها الخوارج على أنّ العمل عنصر مقوّم لحقيقة الإيمان حّتى المرتبة الضعيفة ، نشير إلى بعضها :

    1 ـ ( وَ لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) (5) فسمّى سبحانه تارك الحج كافراً.

    يلاحظ عليه : أنّ المراد كفر النعمة ، حيث إنّ ترك فريضة الحج مع الاستطاعة كفران لنعمته سبحانه وقد استعمل الكفر في مقابل شكر النعم إذ قال

________________________________________

    1 ـ البرقي : المحاسن 1 / 285.

    2 ـ البيّنة : 7.

    3 ـ طه : 112.

    4 ـ التوبة : 119.

    5 ـ آل عمران : 97.

(401)

سبحانه : ( وَ إذْ تَأَذَّنَ رَبُّكمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (1) .

    على أنّه يحتمل أن يكون المراد من توصيف تارك الحج بالكفر ، هو كونه كافراً لجحد وجوبه ، فيرجع الأمر إلى جحد الرسالة و يؤيّده صدر الآية ( وَ لِلّهِ عَلّى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ ) فأنبأ عن اللزوم ثمّ قال : ( وَ مَنْ كَفَرَ ) بلزوم ذلك و من المعلوم أنّ من أنكر لزومه فهو كافر.

    2 ـ ( فَلا وَ رَبِّكَ لايُؤْمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسّلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) قيل : إنّه سبحانه أقسم بنفسه انّهم لايؤمنون إلاّ بتحكيم النبي و التسليم بحكمه ، و عدم وجدان الحرج في قضائه ، والتحكيم غير التصديق بل هو عمل خارجي (3) .

    يلاحظ عليه : أنّ الآية وردت في شأن المنافقين ، فإنّهم كانوا يتركون النبي و يرجعون في دعاويهم إلى الأحبار ، و هم مع ذلك يدّعون الإيمان بالنبي و الإذعان والتسليم له ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فنزلت الآية بأنّه لايقبل منهم ذلك الإدّعاء حتى يُرى أثر الإيمان في حياتهم ، و هو تحكيم النبي ، في المرافعات و المنازعات و التسليم المحض أمام قضائه ، و عدم احساسهم بالحرج ، و هذا هو الظاهر من الآية ، لا أن التحكيم بما أنّه عمل ، جزء من الإيمان و هذا نظير ما إذا ادّعى إنسان حبّاً لرجل فيقال له : إن كنت صادقاً فيجب أن يرى أثر الحبُ في حياتك ، فاعمل له كذا وكذا.

    3 ـ ( إنَّهُ لاييْأسُ مِن رَوْحِ اللهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ ) (4) بادّعاء أن الفاسق بفسقه

________________________________________

    1 ـ إبراهيم : 7.

    2 ـ النساء : 65.

    3 ـ ابن حزم الظاهري : الفصل 3 / 195.

    4 ـ يوسف : 87.

________________________________________

(402)

واصراره عليه ، آيس من روح الله فكان كافراً.

    والجواب : انّ المدعى ممنوع : فإنّ فسّاق المؤمنين ليسوا بآيسين بل يرجون رحمة ربّهم بالتوبة أو الشفاعة ، أضف إليه : المراد من « الروح » هذا ، الفرج بعد الشدّة ، ومثل هذا اليأس من الكبائر الموبقة ، ولكنّه لا يوجب كفراً ، وذلك لأنّ النهي في الآية نهي تشريعي و معناه أنّ اليأس من روح الله شأن الكافر دون المؤمن ، نظير قوله سبحانه : ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أن يَقْتُلَ مَؤْمِناً إلاّ خَطَأً ) (1) أي ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ عن خطأ خارجاً عن اختياره لا أنّ المؤمن لايقتل المؤمن عمداً أبداً ، و على ضوء ذلك فلو حصل اليأس من مؤمن فهو ركب الكبيرة الموبقة ، و مع ذلك فليس بكافر.

    4 ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون ) (2) .

    يلاحظ عليه : أنّه سبحانه وصف من لم يحكم بما أنزل الله بأوصاف ثلاثة :

    أ ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكافرون ) (3) .

    ب ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ ) (4) .

    ج ـ ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ) (5) .

    والآيتان الأوّليتان نزلتا في حق اليهود ، كما هو لائح من صدريهما.

    والآية الثالثة في مورد النصارى و مع ذلك لايكون المورد مخصّصاً للآيات بهما و المقصود هو أنّ من لم يحكم بما أنزل الله سواء أكان من أهل الكتاب أو غيرهم ، فهو ظالم و فاسق و كافر ، أمّا كونه ظالماً ، فلأنّه تعدّى عن

________________________________________

    1 ـ النساء : 92.

    2 ـ المائدة : 44.

    3 ـ المائدة : 44.

    4 ـ المائدة : 45.

    5 ـ المائدة : 47.

________________________________________

(403)

الحقّ ، فترك حكم الله ، و حكم بحكم الجاهلية ، فإنّ الحكم حكمان امّا إلهّي وامّا جاهلي ، فإذا ترك الأوّل يكون من قبيل الثاني ، قال سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ ) (1) .

    و أما كونه فاسقاً ، فإنّ الفسق هو الخروج عن طاعة الله ، يقال : فسقت التمرة : إذا خرجت قشرتها ، فالحاكم بغير ما أنزل الله خرج عن طاعة الله.

    وأمّا كونه كافراً ، فلأنّ الآية حسب شأن نزولها وردت في قوم ينكرون الرجم في توراتهم ، و لأجله يحكمون بغير ما أنزل الله ، فيكون هذا قرينة على أنّ الكفر لأجل انكار ما أنزل الله في الكتب السماوية ، وإلى ذلك ينظر ما نقله الرازي عن بعضهم : انّ قوله ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أنْزَلَ الله ) إنّما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أمّا مَن عرف بقلبه كونه حكم الله ، وأقرّ به بلسانه ، إلاّ أنّه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى و لكنّه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية (2) .

    وعلى ضوء ذلك فالآية تختصّ بالجاحد لحكم الله الوارد في كتابه ، المستلزم لانكار رسوله الّذي أتى به في الكتاب.

    5 ـ ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَـهَا إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) (3) .

    وجه الاستدلال ، انّ الآية تحصر الداخل في النار في الكافر ، حيث يقول : ( إلاّ الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ تَوَلَّى ) فبما أنّ المسلمين اتّفقوا على دخول الفاسق في النار ، يلزم أن يكون الفاسق كافراً.

    يلاحظ عليه : أنّ الآية تحصر الخلود في النار و المقيم فيها في المكذّب

________________________________________

    1 ـ المائدة : 50.

    2 ـ الرازي : مفاتيح الغيب 3 / 421.

    3 ـ اللّيل : 14 ـ 16.

________________________________________

(404)

المتولّي لامجرّد الداخل فيها و تقول : ( لا يصلاها إلاّ الأشقى * الَذِي كذّب وتولّى ) وذلك لأن قوله ( لاَيَصْلاها ) ، من قوله صلى الرجل النار ، يصلاها أي لزمها (1) وهي عبارة اُخرى عن الخلود في النار فالآية لاتدل إلاّ على أنّ الخلود في النار من خصائص الكافر المكذّب المتولّي وأمّا المؤمن الفاسق فخارج عن حدود و دلالة الآية.

    هذا و ربّما يستدلّ بالآية على قول المرجئة القائلة بالنار للكافرين دون المؤمنين ، وذلك لأنّه سبحانه يقول : لا يدخل النار إلاّ الكافر ، والمؤمن الفاسق ليس كافراً ، وأجاب عنه القاضي المعتزلي على ما نقل عنه : بأنّ (ناراً) نكرة في سياق الاثبات ، و إنّما تعمّ النكرة في سياق النفي نحو قولك : ما في الدار رجل ، و غير ممتنع أن تكون في الآخرة نار مخصوصة لايصلاها إلاّ الذين كذبوا و تولّوا ويكون للفسّاق نار اُخرى غيرها (2) .

    وأوضحه الطبرسي في مجمعه و قال : إنّه سبحانه نكّر النار المذكورة ولم يُعرّفْها ، فالمراد بذلك انّ ناراً من جملة النيران لايصلاها إلاّ من هذه حاله ، والنيران درجات على ما بينّه سبحانه في سورة النساء (3) ، فمن أين عرف أنّ غير هذه النار لايصلاها قوم آخرون (4) .

    و لكن الاستدلال و الجواب مبنيان على أنّ « الصلي » بمعنى الدخول و لكنه غير صحيح لما عرفت من أنّه الدخول الملازم للبقاء.

    أضف إلى ذلك : انّه لودلّ على أنّ النار مختصّة بالكافرين يلزم منه الاغراء بالمعاصي لأنّه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدّق بالله و رسوله ولم يكذّب

________________________________________

    1 ـ يقال صلى فلاناً النار : أدخله إيّاها و أثواه فيها.

    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 8 / 115.

    3 ـ النساء : 145 : ( إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ فِي الدَّرَكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ).

    4 ـ الطبرسي : مجمع البيان 5 / 502.

________________________________________

(405)

ولم يتولّ : أي معصية اقدمتَ عليها فلن يضرّك. و هذا هو الاغراء الّذي لايصدر من الحكيم.

    على أنّه سبحانه يقول بعدها ( وَ سَيُجَنَّبُها الأتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) (1) و يحصر المجنّب عن النار في الأتقى ، و معلوم أنّ الفاسق ليس بأتقى لأنّ « أتقى » مبالغة في التقوى و من يرتكب عظائم الكبائر لايوصف بأنّه أتقى.

    6 ـ ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمـُحيطَةٌ بِالْكَـفِرِينَ ) (2) .

    قالوا : و الفاسق تحيط به جهنّم فوجب أن يكون كافراً.

    يلاحظ عليه : أنّه من غرائب الاستدلالات ، فإنّه لم يقل سبحانه : و انّ جهنّم لاتحيط إلاّ بالكافرين ، حتّى يلزم أن يكون الفاسق من أقسام الكافر ، باعتبار كونها محيطة به أيضاً ولا يلزم من كونها محيطة بقوم ، ألاّ تحيط بقوم سواهم.

    7 ـ ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) (3) .

    وجه الاستدلال : انّ الفاسق لايجوز أن يكون ممّن ابيضّت وجوههم ، فوجب أن يكون ممّن اسودّت و إذا دخل فيه يكون كافراً لقوله : ( بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ).

    يلاحظ عليه : أنّ الآية تخبر عن وجود صنفين : صنف تبيضّ وجوههم ، وصنف تسودّ وجوههم ، فالاوّل من سمات المؤمن الّذي لم يخالط إيمانه بإثم ، والثاني من سمات الكافر الّذي لم يؤمن بالله أو صفاته أو أفعاله ، في النبوّة

________________________________________

    1 ـ الليل : 17 ـ 18.

    2 ـ التوبة : 49.

    3 ـ آل عمران : 106.

________________________________________

(406)

والخاتميّة. و أمّا انّه ليس هنا صنف ثالث و يحشرون بغير هاتين السمتين ، فلا تدلّ الآية عليه ، والمؤمن الّذي ركب الكبيرة هو من هذا القسم الثالث الّذي لم تتكفّل الآية ببيان حكمه.

    والحاصل انّ الآية تبحث عن المؤمن الخاص ، و الكافر المطلق ، وتذكر سماتهما وحالاتهما ، و أمّا القسم الثالث فهو خارج عن تقسيم الآية و لعلّ له سمة و علامة اُخرى غير بياض الوجه و سواده لم تذكرها الآية.

    قال الطبرسي : استدلّت الخوارج بذلك على أنّ من ليس بمؤمن فلابد أن يكون كافراً فإنّ الله سبحانه قسّم الوجوه إلى هذين القسمين.

    ولا تعلّق لهم به ، لأنّه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين ، وجوه المؤمنين (غير العاصين) و وجوه الكفّار ، ولم يذكر وجوه الفسّاق من أهل الصلاة ، فيجوز أن يكون لها صفة اُخرى بأن يكون عليها غبرة لاتغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أو لون آخر (1) .

    8 ـ ( فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَيْء مِّن سِدْر قَلِيل * ذَلِـكَ جَزَيْنَـهُم بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَـزِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) (2) .

    والفاسق لابد أن يجازى ، فوجب أن يكون كفوراً.

    يلاحظ عليه : أنّ المراد من قوله ( وَ هَلْ نُجزِي ) ليس مطلق المجازاة ، بل مجازاة الاستئصال ، والآية وردت في قصة أهل سبأ و هم استؤصلوا بالعقوبة ، فالمجازاة المقترنة بالاستئصال من خصائص الكفّار ، لاكل مجازاة.

________________________________________

    1 ـ الطبرسي : مجمع البيان 5 / 441.

    2 ـ سبأ : 16 ـ 17.

________________________________________

(407)

    9 ـ ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (1) .

    وفسّر الغاوون في آية اُخرى بالمشركين قال سبحانه ( إِنَّمَا سُلْطَـنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) (2) .

    وعلى ضوء هذا فمرتكب الكبائر من الغاوين لأجل سلطة الشيطان عليه و هو حسب تعبير الآية الثانية من المشركين فينتج أنّ مرتكب الكبيرة مشرك

    يلاحظ عليه : أنّ الآية فسّرت الغاوين بصنفين : صنف يتولّونه ، و صنف به مشركون ، ومرتكب الكبيرة داخل في الصنف الأوّل لافي الصنف الثاني.

    10 ـ ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَيـهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (3) .

    وجه الدّلالة انّه سبحانه جعل الفاسق مكذّباً.

    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على تفسير الفاسق بالمعنى الرائج في أعصارنا أي المؤمن بالله و صفاته و رسالاته المرتكب لكبيرة ، و هو غير صحيح إذ ليس كل فاسق بهذا المعنى مكذّباً ، فتعيّن أن يكون المراد من الفاسق في الآية من خرج عن الطاعة بتكذيبه ، ومن المعلوم أنّ مثله كافر ، قال سبحانه ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) (4) وبالجملة : المقصود من الفاسق في الآية من عصى عن طريق التكذيب الّذي يساوق الكفر ، لا من فسق ـ و هو مؤمن بقلبه ولسانه ـ بالخروج عن الطاعة لارتكابه المعاصي.

 

________________________________________

    1 ـ الحجر : 42.

    2 ـ النحل : 100.

    3 ـ السجدة : 20.

    4 ـ السجدة : 18.

________________________________________

(408)

    11 ـ ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ) (1) .

    وجه الدلالة انّ من لم يكن مؤمنا فهو كافر ، والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافراً.

    يلاحظ عليه : أنّ الفاسق ، أي المسلم المعتقد بالله سبحانه ورسله وكتبه ، المرتكب لبعض المحّرمات ، مؤمن ليس بكافر ، فقوله : الفاسق ليس بمؤمن ، ممنوع ، فإنّ الفاسق على قسمين ، قسم يخرج عن طاعة الله سبحانه بالتكذيب والانكار ، وقسم يؤمن به ، ولكن لا يقوم في مقام العمل ببعض الوظائف ، فالأوّل كافر دون الثاني.

    وأمّا الشارح ابن أبي الحديد فبما أنّه من المعتزلة ، و مرتكب الكبيرة عندهم لامؤمن ولا كافر بل في منزلة بين المنزلتين ، أجاب بأنّ (من) هاهنا للتبعيض وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث (ولعلّ هنا من ليس بمؤمن ولاكافر) (2) وهو كماترى ، لأنّ الآية في مقام الحصر.

    12 ـ ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُون فَإِنَّهُمْ لاَيُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّـلِمِينَ بَـاَيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (3) .

    وجه الدلالة انّ مرتكب الكبائر ظالم ، والظالم بحكم الآية جاحد والجاحد كافر ، وإلى ذلك يرجع استدلالهم حيث يقولون :

________________________________________

    1 ـ التغابن : 2.

    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح النهج 8 / 118.

    3 ـ الأنعام : 33.

________________________________________

(409)

    13 ـ الفاسق ظالم لغيره ، أو لنفسه ، وكلّ ظالم كافر ، قال تعالى : ( أَن لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّـلِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُوَنَها عِوَجاً وَهُم بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ ) (الأعراف / 44 ـ 45) (1) .

    يلاحظ عليه : أنّ الكبرى ممنوعة و هي انّ كل ظالم جاحد بآيات الله كما استظهره المستدل من الآية الاُولى أو أن كلّ ظالم كافر كما استظهره من الآية الثانية ، وذلك لأنّ المراد من الظالمين في كلتا الآيتين ليس هو مطلق الظالم ولو بمجرّد ارتكاب الكبيرة فقط ، بل المراد هو المكذّب بلقاء الآخرة.

    أمّا الآية الاُولى : فيشهد على ذلك سياق الآية : قبلها وبعدها حيث جاء في الآية المتقدّمة قوله ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللهِ ... ) وجاء في الآية المتأخّرة عنها : ( وَ لَقَدْ كُذِّبت رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ ).

    وأمّا الآية الثانية : فذيلها شاهد على أنّ المراد هو الجاحد بالآخرة.

    أضف إلى ذلك : انّه كيف يمكن أن يعدّ كل ظالم و لو ظلم نفسه كافراً؟

    هذا هو نبيّنا آدم يقول : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَأ أنفُسَنَا ) (2) وقال تعالى حكاية عن موسى : ( إنّى ظَلَمْتُ نَفْسِي ) (3) وقال حكاية عن يونس : ( إنِّي كُنتُ مِنَ الظَالِمِينَ ) (4) .

    14 ـ ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ) (5) ... إلى قوله ( إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) (6) والفاسق لايؤتى كتابه بيمينه بل يؤتى بشماله ، إذ لا ثالث فيدخل تحت قوله ( إِنَّهُ كَانَ

________________________________________

    1 ـ صالح أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 253.

    2 ـ الأعراف : 23.

    3 ـ القصص : 16.

    4 ـ الأنبياء : 87.

    5 ـ الحاقة : 25 ـ 26.

    6 ـ الحاقّة : 33.

________________________________________

(410)

لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) الّذي هو وصف عامّ لكل من اُوتي كتابه بشماله ، ولو أردنا صوغ الاستدلال في قالب علمي نقول : مرتكب الكبيرة يؤتى كتابه بشماله ، و كلّ من كان كذلك فهو ممّن لا يؤمن بالله العظيم ، فينتج : انّ مرتكب الكبيرة ممّن لا يؤمن بالله العظيم.

    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الموصول في قوله : ( و أمّا من ... ) كل من يؤتى كتابه بشماله سواء كان جاحداً أو غير جاحد ليشمل المسلم المؤمن المرتكب للكبيرة ، ولكن المراد منه القسم الخاص من هذه الطائفة أعني الجاحد بالله العظيم ، أي من لم يوحّد الله سبحانه في دار التكليف ، والدليل على ذلك هو التعليل الوارد في الآية الاُخرى أعني قوله : ( إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) فذيل الآية قرينة على اختصاص الموصول مع صلته ، بالجاحد ، لا المؤمن المذعن بكل الشرائع ، لوضوح انّه ليس كل مرتكب الكبيرة غير مؤمن بالله العظيم وليس ارتكاب الكبيرة دليلاً على عدم الإيمان به لقضاء الضرورة على بطلانه.

    ويؤيّد ذلك انّه علّل دفع الكتاب إلى الظهر في بعض الآيات الّذي هو بمنزلة دفعه إلى شماله بأنّه كان غير مؤمن بالآخرة قال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً ... إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ) (1) ومعنى قوله « لن يحور » إنّه لا يرجع إلى الحياة في الآخرة.

    15 ـ ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـلِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) (2) .

________________________________________

    1 ـ الانشقاق : 10 ـ 11 و 14.

    2 ـ المؤمنون : 102 ـ 105.

(411)

    وجه الاستدلال انّ الفاسق ممّن خفّت موازينه ، و من خفّت موازينه فهو مكذّب حسب ظاهر الآية ، و المكذّب كافر بالاتّفاق.

    يلاحظ عليه : أنّ المراد من الموصول في قوله « ومن خفَّت موازينه » ليس كل من خفّت موازينه سواء كان مكذّباً بآيات الله أم مصدّقاً بها حتى يعمّ المؤمن الفاسق ، بل المراد هو القسم الخاص أعني الذين خفّت موازينهم لأجل التكذيب ، لالأجل أمر آخر ، أعني ارتكاب الكبيرة مع التصديق ، و يوضّح هذا الجواب ، ما ذكرناه في الآية المتقدّمة ، فلاحظ (1) .

    16 ـ ( وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ ) (2) .

    يلاحظ عليه : أنّ الآية ، دليل على أنّ كل كافر فاسق ، ولا تدلّ على العكس كما هو واضح.

    ثم إنّ الإمام علي ( عليه السَّلام ) ردّ على قول الخوارج بأنّ المسلم بارتكاب المعصية يصير كافراً بكلام منه موضع الحاجة :

    قال مخاطباً الخوارج : « فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأتُ وضللتُ ، فلم تُضَلِّون عامّة امّة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، بِضَلالي ، وتأخذونهم بخطئي ، وتكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم ، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) رجم الزاني المحصن ، ثمّ صلّى عليه ، ثم ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع السارق ، وجلد الزاني غير المحصن ، ثم قسم عليهما من الفيء ، ونكحا المسلمات ، فأخذهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بذنوبهم ، وأقام حقّ الله فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من

________________________________________

    1 ـ راجع الآية 9 ـ 11 من سورة القارعة.

    2 ـ النور : 55.

________________________________________

(412)

بين أهله » (1) .

    و حاصل كلام الإمام : انّه لو كان صاحب الكبيرة كافراً لما صلّى عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ولا ورّثه من المسلم ، ولا مكّنه من نكاح المسلمات ، ولا قسَّم عليه من الفيء ولأ خرجه عن لفظ الإسلام (2) .

    إلى هنا تمّ البحث عن كون مرتكب الكبيرة مؤمناً أو كافراً ، فحان الآن البحث عن الجهة الثالثة و هي : انّ مرتكب الكبيرة هل هو مخلّد في النار ـ إن لم يتب ـ أو أنّه يخرج منها بعد دخوله فيها وإنّما التأبيد للكافرين؟

 

الجهة الثالثة ـ صاحب الكبيرة و خلوده في النار :

    ذهب جمهور المسلمين إلى أن الخلود يختصّ بالكافر دون المسلم وإن أثم وركب الكبيرة ، وذهبت الخوارج و المعتزلة د إلى خلوده في النار إذامات بلا توبة. وبما أنّ المقام مختصّ بدراسة أدلّة الخوارج في ا لمسألة ، نكتفي ببيان أدلّتهم وأمّا ما استدلّ به جمهور المسلمين على عدم الخلود فيطلب من محلّه. فنقول : استدلّوا بآيات :

    1 ـ قوله سبحانه : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (3) ولا شكّ انّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض وإرتكاب المعاصي.

    يلاحظ عليه : أنّ الموضوع ليس مطلق العصيان ، بل العصيان المنضم إليه

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.

    2 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 8 / 113 ـ 114.

    3 ـ النساء : 14.

________________________________________

(413)

التعدّي عن حدود الله ، و من المحتمل جدّاً أن يكون المراد من التعدّي ، رفض أحكامه سبحانه و عدم قبولها.

    بل يمكن أن يقال : إنّ قوله ( وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله و هذه صفة الكفّار ، فالآية خاصّة بهم لا بمرتكب الكبيرة. وأمّا المؤمن الفاسق فإنّما يتعدّى بعض الحدود.

    2 ـ ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَـلِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (1) فعدّ قاتل المؤمن من المخلّدين في النار من غير فرق بين أن يكون القاتل مسلماً أو كافراً.

    يلاحظ عليه : أنّ الآية ناظرة إلى القاتل المستحل قتل المؤمن أو قتله لأجل ايمانه و مثله كافر و يدلّ عليه ما قبلها ، قال سبحانه : ( سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيْهَا فَإِنْ لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَــِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـناً مُّبِيناً ) (2) .

    ثمّ يقول : ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً إلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة ... ) (3) .

    ثمّ يقول : ( وَ مَن يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤهُ جَهَنَّمُ ... ) فالآية حسب السياق تختصّ بالمستحلّ الكافر ، خصوصاً بالنظر إلى قوله ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤمِناً ) والنفي وإن كان نفياً تشريعياً (ليس شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ) لاتكوينّياً(لايصدر من المؤمن قتل المؤمن) ولكّنه يصحّ أن يقع قرينة

________________________________________

    1 ـ النساء : 93.

    2 ـ النساء : 91.

    3 ـ السناء : 92.

________________________________________

(414)

على اختصاص الآية الثالثة بالكافر.

    3 ـ ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فأُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ ) (1) .

    يلاحظ عليه : أنّ الموضوع للحكم بالخلود ليس مطلق من كسب السيّئة ، بل من اكتسب السيّئة و أحاطت به خطيئته ، والمسلم المؤمن مهما كان عاصياً لاتحيط به خطيئته ، فإنّ في قلبه نقاطاً بيضاء يشع منها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه وكتبه.

    4 ـ ( إِنَّ الْمـُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّـلِمِينَ ) (2) . بحجّة أنّ المجرم أعم من الكافر و المؤمن الفاسق ، وقد حكم عليه على وجه الاطلاق ، بالخلود في النار.

    يلاحظ عليه : أنّ الآية واردة في حقّ الكفّار بشهادة سياقها ، قال سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِـَايَـتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ثم يقول ( إِنَّ الْمـُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُون ) فبحكم المقابلة مع قوله ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) فالمقصود من المجرمين هو الكفّار.

    هذه هي الآيات استدلّت بها الخوارج ثمّ المعتزلة على تأبيد صاحب الكبيرة في النار.

    فلنكتف بهذا المقدار ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا الكلاميّة (3) .

________________________________________

    1 ـ البقرة : 81.

    2 ـ الزخرف : 74 ـ 76.

    3 ـ محاضرات الاستاذ العلاّمة جعفر السبحاني بقلم الشيخ حسن محمد مكي : الالهيات 2 / 910 ـ 912.

________________________________________

(415)

المخالفون عند الخوارج :

    إنّ الخوارج يعدّون جميع المسلمين كفاراً ، لارتكابهم الكبائر و لا أقل لتصويبهم مبداً التحكيم ، و أكثرهم على أنّ الكفر كفر الملّة ، أي الخروج عن الدين إلاّ القليل منهم ، كالاباضية فإنّهم يعدّونه كفراً لنعمه مثلما مرّ في قوله سبحانه في مورد الحجّ : ( وَ مَنْ كَفَرَ فَإنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالمِين ) (1) .

    فإذا كانت سائر الفرق محكومة بالكفر ، فتكون دارهم دار الكفر ، لا دار الإسلام وقد أوجبت بعض الفرق منهم (كالأزارقة) لزوم الهجرة عنها ، للمعتنقين لمبادئ الخوارج. و على كلّ تقديره فهذه المسألة من شعب المسألة الثانية و هي أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق ، أو كافر ، ولمّا ذهبت الخوارج إلى كونه كافراً فيكون جميع المسلمين المخالفين لهم في المبادئ ، كفّاراً.

    و بما أنّك عرفت أنّ مقوّم الإيمان عنصر قلبي ، فلا يضرّ ارتكاب الكبيرة بالايمان ، لا بمعنى أنّ الإيمان القلبي و إن لم يقترن بالعمل موجب للنجاة في الآخرة ، بل بمعنى أنّه يكفي في خروج الانسان من عداد الكافرين والدخول في عداد المسلمين : الإيمان القلبي بوحدانية الله سبحانه ، وكتبه ، ورسله ، ولهذا الإيمان آثار في الدنيا و الآخرة ، وكان النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يكتفي بالحكم في ايمان الرجل باظهار الشهادتين و هناك روايات متواترة بل متضافرة تدل على ذلك.

    قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السَّلام ) : « قاتل أهل خيبر حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك ، فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم ، إلاّ بحقّها و حسابهم على الله » (2) .

________________________________________

    1 ـ آل عمران : 97.

    2 ـ مسلم : الصحيح 7 / 121 ، ابن عساكر : ترجمة الإمام علي 1 / 159 ح 222 ، النسائي : خصائص أمير المؤمنين : 57.

________________________________________

(416)

    روى الشافعي في كتاب الأم عن ابي هريرة : أن رسول الله قال : « لا أزال اُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوا : لا إله إلاّ الله فقد عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على الله ».

    ثم قال : فأعلم رسول الله انّ فرض الله أن يقاتلهم حتى يظهروا أن لا إله إلاّ الله ، فاذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها يعني بما يحكم الله عليهم فيها ، و حسابهم على الله بصدقهم و كذبهم و سرائرهم ، الله العالم بسرائرهم ، المتولّي الحكم عليهم ، دون أنبيائه و حكّام خلقه ، وبذلك مضت أحكام رسول الله فيما بين العباد من الحدود و جميع الحقوق ، و أعلمهم أنّ جميع أحكامه على ما يظهرون ، وأنّ الله يدين بالسرائر (1) .

    نعم ورد في بعض الروايات ، اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة والحجّ و صوم رمضان : روى البخاري عن عبد الله بن عمر : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلاّ الله ، و أنّ محمّداً رسول الله واقام الصلاة ، و ايتاء الزكاة ، والحجّ ، و صوم رمضان » (2) ولكنّها من مظاهر العلم بالإيمان لامن مقوّماته لأنّ إيمان الانسان يتوقّف على مظهر له في حياته ، و الواجبات الواردة فيها مظاهر لهذا الإيمان.

 

الإيمان يزيد و ينقص :

    ثم إنّه مع القول بأنّ العنصر المقوّم للايمان هو الاعتقاد القلبي ـ نقول : الإيمان يزيد و ينقص في كلا الجانبين : العقيدة ، و العمل ، أمّا من جانب العقيدة : فأين إيمان الأولياء و الأنبياء بالله و رسله من إيمان سائر الناس ، وأمّا

________________________________________

    1 ـ الشافعي : الأم : 6 / 4 انظر موسوعة الإمام الشافعي : 7 / 241.

    2 ـ البخاري : الصحيح 1 ، كتاب الإيمان : 9.

________________________________________

(417)

من جانب العمل ، فأين إيمان من لايعصي الله سبحانه طرفة عين بل لايخطر بباله العصيان ، من المؤمن التارك للفرائض والمرتكب للكبائر.

    نعم لاننكر انّه ربّما يؤدّي ترك الفرائض ، و ركوب المعاصي ، مدّة طويلة إلى الالحاد و الانكار و التكذيب و الجحد قال سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَـقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـئُواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِئَايَـتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ ) (1) .

 

    إنّ وزان « العقيدة و العمل الصالح » وزان الجذور و السيقان في الشجرة فكما أنّ تقوية الجذور مؤثّرة في قوّة السيقان ، و كمال الشجرة وجود ثمرتها ، فكذلك تهذيب السيقان و رعايتها بقطع الزوائد عنها و تشذيبها ، و تعرّضها لنور الشمس ، مؤثّرة في قوّة الجذور ، إنّها علاقة تبادليّة بين العمل و العقيدة كالعلاقة التبادليّة بين الجذور و السيقان.

    أجل ذلك هو الحال بالنسبة إلى تأثير الإيمان في العمل ، و هكذا الحال بالنسبة إلى تأثير العمل في الاعتقاد ، فإنّ الّذي ينطلق في ميدان الشهوة بلاقيد ، ويمضي في اشباع غرائزه إلى أبعد الحدود ، يستحيل عليه أن يبقى محافظاً على أفكاره و اعتقاداته الدينية و قيمه الروحية.

    إنّه كلّما ازداد توغّلاً في المفاسد ازداد بعداً عن قيم الدين لأنّها تمنعه عن المضي في سبيله و التمادي في عصيانه ، و هكذا يتحرّر عن تلك المعتقدات شيئاً فشيئاً و ينسلخ منها و ينبذها وراءه ظهرياً.

    و قد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

    و بهذا يعتبر الفصل بين العمل ، والكفر ، بين العقيدة و السلوك ، نظرية خاطئة ناشئة من الغفلة عن التأثير المتقابل بين هذين البعدين.

________________________________________

    1 ـ الروم : 10.

________________________________________

(418)

    ولهذا يسعى المستعمرون دائماً إلى افساد الأجواء الاجتماعية بهدف افساد الأخلاق والسلوك تمهيداً لتغيير الأفكار والقضاء على المعتقدات (1) .

________________________________________

    1 ـ محاضرات الاستاذ جعفر السبحاني بقلم جعفر الهادي : الله خالق الكون 636 ـ 637.

________________________________________

(419)

3 ـ في الخروج على الحاكم الجائر

    اتّفقت الخروج على لزوم الخوارج على الحاكم الجائر ، و جعلوه فرعاً من الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر ، بشرط القدرة و المنعة عليه ، و يظهر ذلك من خطبهم و رسائلهم أوان قيامهم ، و هذا عبد الله بن وهب الراسبي عندما غارد مع جماعته الحروريّة ، متواجّهاً إلى النهروان ، خطب قومه و قال « أمّا بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن ، و ينيبون إلى حكم القرآن ، أن تكون هذه الدنيا ـ الّتي الرضا بها و الركون إليها و الإيثار إيّاها عناء وتبارـ آثر عندهم من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، والقول بالحقّ ، إلى أن قال : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكِرين لهذه البدع ».

    و قال حرقوص بن زهير : « إنّ المتاع بهذه الدنيا قليل ، و إنّ الفراق لها وشيك ، فلا تدعونّكم زينتها و بهجتها إلى المقام بها ، و لا تُلفتنكم عن طلب

 

________________________________________

(420)

الحق وإنكار الظلم ، فإنّ الله مع الَّذين اتّقَوْا و الّذين هم محسنون » (1) .

    و هذا نافع بن الأزرق يقول لأصحابه عند خروجه : « إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم ، بصّركم عمّا عمي عنه غيركم ، ألستم تعلمون أنّما خرجتم تطلبون شريعته و أمره ، فأمره لكم قائد ، والكتاب لكم إمام ، و إنّما تتبعون سننه و أثره ... » (2) . إلى غير ذلك من كتب القوم و رسائلهم و خطبهم الّتي يرون فيها الخروج على الإمام غير العادل واجباً.

    أقول : الكلام في الإمام الجائر يقع في مقامين :

    الأوّل : في لزوم إطاعته و عدمه.

    الثاني : في وجوب الخروج عليه وعدمه.

    أمّا الأول : لاشكّ أنّ إطاعة الإمام العادل من صميم الدين فلا يشكّ في وجوب إطاعته اثنان ، إنّما الكلام في إطاعة الحاكم الجائر ، فقد ذهب أهل السنّة إلى وجوب طاعته مطلقاً سواء أمر بالمعروف أو أمر بالمنكر ، أو في خصوص ما لم يأمر بالمعصية ، ولكلٍّ من القولين قائل ونذكر بعض كلماتهم في المقام :

    1 ـ قال أحمد بن حنبل في رسالة ألّفها لبيان عقائد أهل السنة : « السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر ، ومَنْ ولي الخلافة ، فأجمع الناس و رضوا به ، و من غلبهم بالسيف ، ويُسمّى أمير المؤمنين » (3) .

    2 ـ و قال الشيخ أبو جعفر الطحاوي الحنفي (م ـ 321) في رسالته المسمّاة بيان السنّة و الجماعة ، المشهورة بالعقيدة الطحاوية : « و نرى الصلاة

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 54 ـ 55.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4 / 439.

    3 ـ أبو زهرة : تاريخ المذاهب الإسلامية 2 / 322 نقلاً عن إحدى رسائل إمام الحنابلة ، و كلامه مطلق يعم ما إذا أمر بالطاعة أو بالمعصية.

(421)

خلف كل برّ و فاجر من أهل القبلة.. إلى أن قال : ولا ننزع يداً من طاعتهم ، و نرى طاعتهم من طاعات الله عزّوجلّ فريضة علينا مالم يأمروا بمعصية » (1) .

    3 ـ و قال أبو اليُسر محمّد بن عبد الكريم البزدوي : « الإمام إذا جار أو فسق لاينعزل عند أصحاب أبي حنيفة و أجمعهم ، و هو المذهب المروي » (2) .

    إلى غير ذلك من الكلمات الّتي وقفت على بعضها في الجزء الأوّل ـ من هذه الموسوعة ـ عند البحث عن طاعة السلطان الجائر و هي بين مطلق و مقيّد فيما إذا لم يأمر بمعصية.

    وهذه النظرية حيكت على طبق الروايات الواردة في الصحاح والمسانيد ، و إليك بعضها :

    أ ـ روى مسلم في صحيحه : بسنده عن حذيفة بن اليمان قال : قلت : « يا رسول الله ، إنّا كنّا بشرٍّ فجاء الله بخير فنحن فيه ، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال : نعم قلت : هل وارء ذلك الشرّ خير؟ قال : نعم قلت : فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال : نعم قلت : كيف؟ قال : يكون بعدي أئمّة لايهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع و تطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع » (3) .

    ب ـ روى أيضاً عن سلمة بن يزيد الجعفي ، أنّه سأل رسول الله ، فقال : « يا نبيّ الله ، أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم و يمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ، ثمّ سأله فأعرض عنه ، ثمّ سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه

________________________________________

    1 ـ أبو جعفر الطحاوي : شرح العقيدة الطحاوية 110 طبع دمشق.

    2 ـ الإمام البزدوي (إمام الفرقة الماتريدية) : اُصول الدين 190 طبع القاهرة.

    3 ـ مسلم : الصحيح 3 / 1476 ، كتاب الإمارة ، الباب 13 ، الحديث 1847.

________________________________________

(422)

الأشعث بن قيس و قال : « اسمعوا و أطيعوا ، فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم » (1) .

    و في رواية اُخرى فيه : « فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « اسمعوا و أطيعوا ، فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم » (2) .

    ج ـ و روى عن عبادة بن الصامت « قال : دعانا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فبايعناه ، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا و عسرنا و يسرنا و اثره علينا و أن لاننازع الأمر أهله. قال : « إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان » (3).

 

تحليل هذه النظرية :

    إنّ هذه النظرية لايصدّقها الكتاب العزيز و لا السنّة النبويّة ولا سيرة أئمّة المسلمين ، كيف يجوز إطاعة أمر الجائر مطلقاً ، أو فيما إذا لم يأمر بمعصيته ، و قال سبحانه : ( وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمـُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ) (4) وقد نقل سبحانه اعتذار بعض أهل النار بقوله : ( وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَْ ) (5) وقد تضافر عن رسول الله أنّه قال : « لا طاعة

________________________________________

    1 ـ مسلم الصحيح 3 / 1474 ، كتاب الامارة ، الباب 12 ، الحديث 1846.

    2 ـ مسلم : الصحيح 3 / 1475 ، كتاب الامارة ، الباب 12 ، ذيل حديث 1846.

    3 ـ مسلم الصحيح 3 / 1470 ، كتاب الامارة ، الباب 8 ذيل حديث 1840 (الرقم 42). ولاحظ في الوقوف على سائر الروايات في هذا المجال كتاب دراسات في فقه الدورة الإسلامية 1 / 580 ـ 587 فإنّه بلغ النهاية في جمع الروايات و الكلمات الصادرة عن الفقهاء في المقام.

    4 ـ الشعراء : 151 ـ 152.

    5 ـ الأحزاب : 67.

________________________________________

(423)

لمخلوق في معصية الخالق » (1) .

    و روى الإمام الرضا عن آبائه قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « من أرضى سلطاناً بما أسخط الله خرج عن دين الله » (2) .

    و روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر أنّه قال : « على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحبّ و كره إلاّ أن يؤمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة » (3) .

    إلى غير ذلك من الروايات الناهية عن إطاعة الإمام الجائر مطلقاً أو فيما يأمر بمعصية. و الإمعان فيها و في غيرها يعرب عن حرمة الاطاعة مطلقاً ، كيف و روى المتّقي الهندي في كنز العمّال عن أَنس قال : « لا طاعة لمن لم يطع الله » (4) نعم كل ما ذكرنا من حرمة الطاعة ، مشروط بالقدرة و المنعة ، وإلاّ ففيه كلام آخر ليس المقام محل تفصيله.

    و أمّا السيرة فتظهر حالها عند الكلام في المقام الثاني :

 

الثاني : في لزوم الخروج على الحاكم الجائر :

    1 ـ ذهب أكثر أهل السنّة إلى حرمة الخروج ، وهذا هو إمام الحنابلة يقول في رسالته السابقة : « و الغزو ماض مع الاُمراء إلى يوم القيامة ، البرّ و الفاجر ، وإقامة الحدود إلى الأئمة ، وليس لأحد أن يطعن عليهم و ينازعهم » (5) .

    2 ـ و قال الشيخ أبو جعفر الطحاوي : « ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولا

________________________________________

    1 ـ الحر العاملي : الوسائل 11 ، الباب الحادي عشر من أبواب الأمر بالمعروف 7 ، و نقله الرضي في نهج البلاغة قسم الحكمة برقم 165.

    2 ـ المصدر نفسه برقم 9.

    3 ـ مسلم : الصحيح 3 ، كتاب الامارة ، الباب الثامن ، الحديث 1839.

    4 ـ المتقي الهندي : كنز العمال 6 / 67 ، الباب 1 من كتاب الامارة ، الحديث 14872.

    5 ـ تقدم مصدره.

________________________________________

(424)

ولاة أمرنا و إن جاروا » (1) .

    3 ـ و قال الإمام الأشعري عند بيان عقيدة أهل السنّة : « و يرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح و أن لايخرجوا عليهم بالسيف » (2) .

    4 ـ وقال الإمام البزدوي : « إذا فسق الإمام يجب الدعاء له بالتوبة ، ولا يجوز الخروج عليه لأنّ في الخروج إثارة الفتن و الفساد في العالم » (3) .

    5 ـ و قال الباقلاني بعدما ذكر فسق الإمام و ظلمه بغصب الأموال ، و ضرب الأبشار ، و تناول النفوس المحرّمة ، و تضييع الحقوق ، و تعطيل الحدود : « لاينخلع بهذه الامور ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب و عظه و تخويفه ، و ترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله » (4).

    إلى غير ذلك من الكلمات الّتي فيما ذكرنا غنىً عنها.

    نعم هناك شخصيات لامعة أصحروا بالحقيقة و جاءوا بكلام حاسم ، وإليك بعض من ذهب إلى وجوب الخروج على الحاكم الجائر :

    1 ـ قال أبو بكر الجصّاص في أحكام القرآن : « كان مذهب أبي حنيفة مشهوراً في قتال الظلمة وأئمّة الجور ، ولذلك قال الأوزاعي : احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف ـ يعني قتال الظلمة ـ فلم نحتمله ، وكان من قوله : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول ، فإن لم يؤتمرله فبالسيف على ما روي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ).

    وسأله إبراهيم الصائغ و كان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار

________________________________________

    1 ـ أشرنا إلى مصدره.

    2 ـ أبو الحسن الأشعري : مقالات الإسلاميين 323.

    3 ـ الامام البزدوي : اُصول الدين 190.

    4 ـ الباقلاني : التمهيد 186 طبع القاهرة.

________________________________________

(425)

ونسّاكهم عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فقال : هو فرض ، وحدّثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف و نهاه عن المنكر فقتل » (1) .

    2 ـ و قال ابن حزم : « والواجب إن وقع شيء من الجور و إن قلّ ، أن يكلّم الإمام في ذلك ويمنع منه ، فإن امتنع و راجع الحقّ وأذعن للقود من البشرة أو من الاعضاء ، و لإقامة حدّ الزنا و القذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه ، و هو إمام كما كان ، لا يحلّ خلعه. فإن امتنع من انفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع ، وجب خلعه و اقامة غيره ممّن يقوم بالحقّ ، لقوله تعالى : ( تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوُاْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدوَنِ ) ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع » (2) .

    3 ـ و قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح قول أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « لا تقاتلوا الخوارج بعدي » قال :

    « و عند أصحابنا انّ الخروج على أئمّة الجور واجب ، و عند أصحابنا أيضاً انّ الفاسق المتغلّب بغير شبهة يعتمد عليها ، لايجوز أن يُنْصَر على من يخرح عليه ممّن ينتمي إلى الدين ، و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، بل يجب أن ينصر الخارجون عليه ، وإن كانوا ضالّين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم ، لأنّهم أعدل منه و أقرب إلى الحقّ ، و لاريب في تلّزم الخوارج بالدين ، كما لاريب في أنّ معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك » (3) .

________________________________________

    1 ـ الجصّاص : أحكام القرآن 1 / 81.

    2 ـ ابن حزم الأندلسي : الفصل في الملل و الاهواء و النحل 4 / 175.

    3 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5 / 78.

________________________________________

(426)

    4 ـ و قال إمام الحرمين : « إنّ الامام إذا جار ، وظهر ظلمه و غيّه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعة فلأهل الحل و العقد ، التواطؤ على ردعه و لو بشهر السلاح ونصب الحروب » (1) .

    إذا و قفت على هذه النقول ، فالحقّ هو وجوب الخروج على الحاكم الجائر إذا كان في ركوبه منصّةَ الحكم خطراً على الإسلام و المسلمين.

    و يكفي في ذلك ما ورد حول الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، فإنّ الخروج على السلطان الجائر من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقوم به إلاّ أصحاب القدرة و المنعة ، الذين لديهم امكانية الكفاح المسلّح.

    وأمّا الروايات فيكفي في ذلك ما نذكر :

    1 ـ روى الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال ، إنّي سمعت علياً ( عليه السَّلام ) يقول ـ يوم لقينا أهل الشام ـ : « أيّها المؤمنون ، إنّه من رأى عدواناً يُعمل به و منكراً يُدعى إليه ، فأنكره بقلبه فقد سلم و برئ ، و من أنكره بلسانه فقد اُجر ، و هو أفضل من صاحبه ، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين » (2) .

    2 ـ و في مسند أحمد عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « إنّ الله عزّوجلّ لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة و العامّة » (3) .

________________________________________

    1 ـ التفتازاني : شرح المقاصد 2 / 272 نقلاً عن امام الحرمين.

    2 ـ الحر العاملي : الوسائل 11 / 405 ، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و ... ، الحديث 8 ، و رواه أيضاً في نهج البلاغة : فيض 1262 ، عبدة 3 / 243 ، صالح 541 ، الحكمة 373.

    3 ـ أحمد المسند 4 / 192.

________________________________________

(427)

    والقدرة ، فمنطق القوة يستعان به إذا لم تثمر المراتب السابقة ، وفي بعض الروايات إلماعات إليه ، و هي بين كونها نقيّة السند و ضعيفته ، و لكن المجموع يفيد اليقين بالمقصود.

    3 ـ قال أبو جعفر الباقر ( عليه السَّلام ) : « فانكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم » (1) .

    4 ـ إنّ الحسين خطب أصحابه و أصحاب الحرّ ، فحمد الله و أثنى عليه ثم قال :

    « أيّها الناس إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحّلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالاثم و العدوان ، فلم يُغَيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن ، و أظهرو الفساد و عطّلوا الحدود ، و استأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيّر » (2) .

    5 ـ روى الصدوق باسناده عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمّد ( عليه السَّلام ) قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « إنّ الله لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّاً من غير أن تعلم العامّة ، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامة ، استوجب الفريقان العقوبة من الله ـ عزّ وجلّ ـ » قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم يُضّرَّ إلاّ عاملها ، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامة ». و قال جعفر بن محمّد ( عليه السَّلام ) : « و ذلك انّه يذلّ

________________________________________

    1 ـ الحرّ العاملي : الوسائل 11 / 403 ، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف 1.

    2 ـ الطبري : التاريخ 4 / 304.

________________________________________

(428)

بعمله دين الله و يقتدي به اهل عداوة الله » (1) .

    و فيما ذكرنا من الروايات كفاية.

    أمّا السيرة فحدّث عنها ولا حرج ، ففي ثورة الإمام الطاهر الحسين سيّد الشهداء ، و ثورة أهل المدينة على زيد الطاغية ، و ثورة أهل البيت في فترات خاصة ، كفاية لطالب الحق و كلّها تؤيّد نظرية لزوم الخروج على الحاكم الجائر بشروط خاصة مبيّنة في الفقه.

    و نكتفي في المقام بما ذكره صاحب المنار قال :

    « و من المسائل المجمع عليها قولاً و اعتقاداً : « إنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإنّما الطاعة في المعروف » ، و إنّ الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتدّ عن الإسلام واجب ، وإنّ اباحة المجمع على تحريمه كالزنا و السكر واستباحة ابطال الحدود و شرع مالم يأذن به الله ، كفر وردّة ، وانّه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع ، وحكومة جائرة تعطله ، وجب على كلّ مسلم نصر الاُولى ما استطاع ، و انّه إذا بغت طائفة من المسلمين على اُخرى ، وجرّدت عليها السيف ، و تعذّر الصلح بينهما ، فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتى تفيء إلى أمر الله.

    و ما ورد في الصبر على أئمّة الجور إلاّ إذا كفروا ، معارض بنصوص اُخرى ، والمراد به اتّقاء الفتنة و تفريق الكلمة المجتمعة ، وأقواها حديث : « و أن لاتنازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحا ». قال النووي : المراد بالكفر هنا المعصية. و مثله كثير. و ظاهر الحديث انّ منازعة الامام الحق في إمامته ننزعها منه لا يجب إلاّ إذا كفر كفراً ظاهرا و كذا عمّاله و ولاته.

    و أمّا الظلم و المعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء امامته و طاعته في

________________________________________

    1 ـ الحرّ العاملي : الوسائل 11 / 407 ، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي و ... ، الحديث 1.

________________________________________

(429)

المعروف دون المنكر ، وإلاّ خلع و نصب غيره.

    و من هذا الباب خروج الحسين سبط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) على امام الجور و البغي ، الّذي وليَّ أمر المسلمين بالقوّة والمكر : يزيد بن معاوية خذله الله ، وخذل من انتصر له من الكرامية و النواصب الذين لايزالون يستحبون عبادة الملوك و الظالمين ، على مجاهدتهم لإقامة العدل و الدين. وقد صار رأي الاُمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدّين المفسدين. وقد خرجت الاُمة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان فسلبت السلطة منه و خلعته بفتوى من شيخ الإسلام » (1) .

________________________________________

    1 ـ السيد محمّد رشيد رضا : تفسير المنار 6 / 367 ، وياليت صاحب المنار (ت 1354) يمشي على هذا الخطّ إلى آخر عمره والقصة ذو شجون ، و من أراد التفصيل فليرجع إلى المناظرات الّتي دارت بينه و بين السيد محسن الأمين (ت 1371) فقد أماط الستر عن حياته و تلوّنه فيها ، ولاحظ أيضاً كشف الارتياب 64 ـ 77.

(431)

4 ـ التقية قولاً و عملاً

    ذهبت الأزارقة إلى حرمة التقيّة في القول و العمل ، بينما ذهبت النجدية إلى جوازها (1) وربّما تنسب حرمة التقيّة إلى جميع الخوارج وإن اُكره المؤمن و خاف القتل (2) .

    يلاحظ عليه : أنّ التقيّة تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى خمسة ، فمنها واجب ، و منها حرام ، فإنّها تجب لحفظ النفوس ، و الأعراض ، و الأموال الطائلة ، كما إنّها تحرم إذا ترتّبت عليها مفسدة أعظم كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الأجيال الآتية.

    قال الشيخ المفيد : التقيّة جائزة في الدين عند الخوف على النفس ، وقد يجوز في حال دون حال للخوف على المال ، و لضروب من الاستصلاح.

________________________________________

    1 ـ لاحظ فصل عقائد الخوارج و آرائهم.

    2 ـ الامام عبده : المنار 3 / 280 ، بقلم تلميذه السيد محمّد رشيد رضا ، و ما ذكره إنّما هو مذهب الأزارقة لا النجدية و ستعرف أنّ التقيّة من تعاليم الاباضية وكانت هي السبب في بقائهم.

________________________________________

(432)

    و أقول : إنّها قد تجب أحياناً و يكون فرضاً ، و تجوز أحياناً من غير وجوب ، و تكون في وقت أفضل من تركها ، و يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً و معفوّاً عنه ، متفضّلاً عليه بترك اللوم عليها.

    و أقول : إنّها جائزة في الأقوال كلّها عند الضرورة ، و ربّما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح و ليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يُعْلَم أو يُغْلَب انّه استفساد في الدين ، و هذا مذهب يخرج عن اُصول أهل العدل و أهل الامامة خاصّة دون المعتزلة و الزيدية و الخوارج و العامة المتسمّية بأصحاب الحديث (1) .

    و يكفي في جواز ذلك :

    1 ـ قوله سبحانه : ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءْ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (2) .

    فقوله : ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ ) استثناء من أهم الأحوال ، أي أنّ ترك موالاة الكافرين حتم على المؤمنين في كلّ حال ، إلاّ في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم ، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

 

    والاستثناء منقطع ، فإنّ التقرّب من الغير خوفاً ، بإظهار آثار التولّي ، ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية ، ليس من التولّي في شيء ، لأنّ الخوف

________________________________________

    1 ـ الشيخ المفيد : أوئل المقالات 96 ـ 97. قوله « و العامة المتسمّية بأصحاب الحديث » يعرب عن أنّ غير المعتزلة من أهل السنّة كانوا معروفين في عصر الشيخ (326 ـ 413) بأصحاب الحديث ، وأمّا تسمية طائفة منهم بالأشاعرة فإنّما حدث بعد ذلك العصر.

    2 ـ آل عمران : 28.

________________________________________

(433)

والحب أمران قلبيّان و متنافيان أثراً في القلب ، فكيف يمكن اجتماعهما ، فاستثناء الاّتقاء استثناء منقطع.

    2 ـ قوله سبحانه : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَـنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالاِْيمَـنِ * وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1) فترى انّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً و مجاراة الكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئنّاً بالايمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف حراماً ، فلماذا رخّصه الإسلام و أباحه ، وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في جماعة اُكرهوا على الكفر ، و هم عمّار و أبوه « ياسر » واُمّه « سميّة » ، و قتل أبو عمّار و اُمّه ، و أعطاهم عمّار بلسانه ، ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « كّلا ، إنّ عمّاراً مُلِئ ايماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ». وجاء عمّار إلى رسول الله و هو يبكي ، فقال : « ماوراءك »؟ فقال : « شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك ، و ذكرت آلهتم بخير ». فجعل رسول الله يمسح عينيه و يقول : « إن عادوا فعدلهم بما قلت » فنزلت الآية (2) .

    وبذلك يظهر ، أنّ تحريم التقيّة على وجه الاطلاق اجتهاد في مقابل النصّ ، فإنّ الآية تصرّح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مُكْرَهاً و قاية لنفسه من الهلاك ، لاشارحاً بالكفر صدراً ، ولا مستحسناً للحياة الدنيا على الآخرة ، لا يكون كافراً ، بل يعذر.

    3 ـ ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَـذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً

________________________________________

    1 ـ النحل : 106.

    2 ـ الطبرسي : مجمع البيان 3 / 388 و نقله غير واحد من المفسرين.

________________________________________

(434)

يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (1) ويقول أيضاً : ( وَجَآءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَـمُوسَى إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ ) (2) .

    نعم لوجوب التقيّة أو جوازها شروط و أحكام ذكرها العلماء في كتبهم الفقهية و لأجل ذلك حرّموا التقيّة في موارد ، كقتل المؤمن تقيّة ، أو ارتكاب محرّم يوجب الفساد الكثير ، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من عظماء الشيعة و أكابرهم رفضوا التقيّة في بعض الأحايين و تهيّأ وللشنق على حبال الجور ، والصلب على أخشاب الظلم. وكلّ من استعمل التقيّة أو رفضها ، له الحسنى ، وكلّ عمل بوظيفته الّتي عيّنتها ظروفه.

    إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين تركوا التقيّة و قدَّموا نفوسهم المقدَّسة قرابين للحقّ ، و منهم شهداء « مرج العذراء » و قائدهم الصحابّي العظيم الّذي أنهكته العبادة و الورع ، حجر بن عدي الكندي ، الّذي كان من قادة الجيوش الاسلامية الفاتحة للشام.

    و منهم ميثم التمّار ، و رشيد الهجري ، و عبد الله بن يقطر الذين شَنَقهم ابن زياد في كناسة الكوفة ، هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحقّ ، ونطحوا صخرة الباطل ، بل وجدوا العمل بالتقيّة حراماً ، ولو سكتوا وعملوا بها وأصبح دين الإسلام دينَ معاوية و يزيد و زياد و ابن زياد ، دينَ المكر ، ودينَ الغدر ، ودينَ النفاق ، ودينَ الخداع ، دين كل رذيلة ، و أين هو من دين الإسلام الحقّ ، الّذي هو دين كل فضيلة ، اُولئك هم أضاحي الإسلام و قرابين الحق.

________________________________________

    1 ـ غافر : 28.

    2 ـ القصص : 20.

________________________________________

(435)

    و فوق اُولئك ، امام الشيعة ، أبو الشهداء الحسين و أصحابه الذين هم سادة الشهداء و قادة أهل الإباء.

    وبذلك ظهر أنّ ايجاب التقيّة على الاطلاق و تحريمها كذلك ، بين الافراط والتفريط. والقول الفصل هو تقسيم التقيّة إلى الواجب والحرام ، أو إلى الجائز ـ بالمعنى الأعم ـ والحرام.

    و بما أنّ الشيعة اشتهرت بالتقيّة بين سائر الفرق ، و ربّما تُزرى بها و تُتَّهم بالنفاق فقد أشبعنا الكلام فيها ، و بيّنا ، الفرق بين التقيّة و النفاق في أبحاثنا الكلامية (1) .

    و هناك كلمة للعلاّمة المحقّق السيد الشهرستاني نأتي بها هنا :

    قال : المراد من التقيّة إخفاء امر ديني لخوف الضرر من إظهاره ، و التقيّة بهذا المعنى ، شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية ، إلاّ أنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقيّة أكثر من غيرها ، لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أيّ اُمّة اُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأمويّة كلِّه ، و في عهد العباسيين على طوله و في أكثر أيام الدولة العثمانية ولأجله استشعروا شعار التقيّة أكثر من أيّ قوم ، ولمّا كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في اُصول الدين ، و في كثير من المسائل الفقهية ، و تستجلب المخالفة (بالطبع) رقابة و حزازة في النفوس ، و قد يجرّ إلى اضطهاد أقوى الحزبين لأضعفه ، أو اخراج الأعزّ منهما الأذلّ كما يتلوه علينا التاريخ و تصدّقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت تضطرّ في أكثر الأحيان إلى الكتمان لصيانة النفس و النفيس ، والمحافظة على الوداد و الاُخوّة مع سائر اخوانهم المسلمين ،

________________________________________

    1 ـ لاحظ الإلهيّات 2 / 925 ـ 933 بقلم حسن محمد مكي العاملي.

________________________________________

(436)

لئلاّ تنشق عصا الطاعة ، و لكيلا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلامية فيوسّعوا الخلاف بين الاُمّة المحمّدية (1) .

________________________________________

    1 ـ محمّد علي الشهرستاني (ت 1386) : تعاليق أوائل المقالات 96 نقلاً عن مجلّة المرشد 252 ـ 256.

________________________________________

(437)

5 ـ ما تجب معرفته بالتفصيل

    إنّ هذه المسألة تفترق عن المسألة الثانية أعني تحديد حقيقة الإيمان و انّ العمل هل هو مقوّم لأقلّ مراتب الإيمان أو لا (وجه الفرق)؟ انّ روح البحث في المقام عن تحديد ما تجب معرفته في مجالي العقيدة و الشريعة ، بخلاف المسألة السابقة فإنّ موضوعه تحديد مفهوم الإيمان و انّه هل هو متقوّم بالعقيدة فقط ، أو مركّب منها و من العمل؟ فالمسألتان مختلفتان جوهراً فنقول :

    الإسلام عقيدة و شريعة ، و المطلوب من الاُولى ، المعرفة ثم الالتزام القلبي ، كما انّ المطلوب من الثانية المعرفة ثم الالتزام العملي ، و هذا ممّا لم يختلف فيه اثنان ، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في تحديد المقدار الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام القلبي ، كما وقع الخلاف في المقدار الأدنى الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام العملي ، و نحن نبحث عن كلا الأمرين.

 

________________________________________

(438)

الأمر الأول : ما تجب معرفته في مجال العقيدة :

    الّذي يظهر من الطائفة البيهسيّة من الخوارج ، لزوم معرفة جميع العقائد الاسلامية تفصيلاً و انّه لولا هذه المعرفة لما دخل الانسان في عداد المسلمين ، قالوا : لاُيسلِم أحد حتى يُقر بمعرفة الله ، و بمعرفة رسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و بمعرفة ما جاء به محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) جملة ، و الولاية لأولياء الله سبحانه ، والبراءة من أعداء الله ـ جلّ وعلا ـ و ما حرّم الله سبحانه ممّا جاء فيه الوعيد فلا يسع الانسان إلاّ علمه و معرفته بعينه وتفصيله (1) .

    ويظهر هذا القول من بعض علمائنا الامامية. قال العلاّمة الحلّي : أجمع العلماء على وجوب معرفة الله و صفاته الثبوتية و ما يصحّ عليه و ما يمتنع عنه و النبوّة و الامامة و المعاد بالدليل لا بالتقليد (2) .

    وفي الوقت نفسه هناك من قال منهم بكفاية الاقرار (الا المعرفة) بما جاء من عند الله جملة (3) .

    و يظهر هذا القول من الاباضية ، قال محمّد بن سعد الكدمي ـ وهو من علماء الاباضية في القرن الرابع ـ : « اعلموا أنّ الجملة الّتي دعا إليها محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وكذلك من دعا إلى دين الله بعد موت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، ممّا لايسع الناس جهله ، و هو الاقرار بالله ، انّه واحد ، و انّه ليس كمثله شيء ، وانّ محمّداً عبده و رسوله ، وانّ جميع ماجاء

________________________________________

    1 ـ يراجع الفصل التاسع : الفرقة الثالثة : البيهسية.

    2 ـ العلاّمة الحلي : الباب الحادي عشر 2.

    3 ـ لاحظ عقائد الفرقة البيهسية المنسوبة لأبي بيهس في هذا الفصل و يحتمل أن يكون المراد من « جملة » هو الاعتقاد الاجمالي بما جاء به الرسول فلا يدل على لزوم المعرفة التفصيلية و لكن يخالفه ذيله الصريح في لزومها.

________________________________________

(439)

به محمّد عن الله فهو الحق ، فهذا الّذي لايسع جهله في حال من الاحوال (1) .

    و أضاف البعض الآخر من الاباضية تبعاً لأهل الحديث ثم الأشاعرة ، الإيمان بالقدر خيره وشرّه (فيجب معرفتهما) قال ابن سلام : الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و البعث و اليوم الآخر و الموت و القدر خيره و شرّه من الله عزّوجلّ (2) .

    ولأجل وجود التطرّف في القول الأوّل قال شيخنا المرتضى الأنصاري عند البحث عن حجّية الظن في اُصول الدين :

    « لقد ذكر العلامة (قدس سره) في الباب الحادي عشر في ما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد و النبوّة و الامامة و المعاد اُموراً لا دليل على وجوبها مطلقاً ، مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحقّ للعقاب الدائم و هو في غاية الاشكال » (3) .

    و لأجل تحقيق الحال نبحث عن الموضوع على وجه الايجاز فنقول : إنّ المسائل الاُصولية الّتي لا يطلب فيها أوّلاً و بالذات إلاّ الاعتقاد ، على قسمين :

    الأوّل : ما وجب على المكلّف الاعتقاد و التدّين به غير مشروط بحصول العلم ، فيكون تحصيل العلم من مقدّمات ذلك الواجب المطلق فيجب تحصيل مقدّمته (المعرفة).

    الثاني : ما يجب الاعتقاد و الالتزام إذا اتّفق حصول العلم به ، و هذا كبعض تفاصيل المعارف الاسلامية الراجعة إلى المبدأ والمعاد.

    أمّا القسم الأوّل : أعني ما يجب الاعتقاد به مطلقاً ولأجل كون وجوبه غير

________________________________________

    1 ـ أبو سعيد الكدمي : المعتبر 1 / 145 من منشورات وزارة التراث القومي و الثقافة لسلطنة عمان.

    2 ـ ابن سلام (ت 273) : بدء الإسلام و شرائع الدين 60.

    3 ـ مرتضى الأنصاري : الرسائل 170.

________________________________________

(440)

مشروط بشيء يجب تحصيل مقدّمته. فهذا لا يتجاوز عن الاعتقاد بالشهادتين : بشهادة أن لا إله إلاّ الله و شهادة أنّ محمّداً رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و هذه الشهادة تتضمّن الاعتقاد الاجمالي بصحّة كلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة.

    والدليل على كفاية ذلك مايلي :

    إنّ النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كان يقبل إسلام من أقرَّ بالشهادتين لفظاً حاكياً عن الاعتقاد به ، و هذا يدلّ على أنّه يكفي في دخول الانسان في عداد المسلمين ، الاقرار بهما و لا تجب معرفة تفاصيل المعارف و العقائد.

    قال أبو جعفر الباقر ( عليه السَّلام ) :

    إنّ الله عزّوجل بعث محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و هو بمكة عشر سنين (1) ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا اله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ أدخله الله الجنة باقراره و هو إيمان التصديق (2) .

    فهذا الاستدلال يعطي أنّ حقيقة الإيمان الّتي يخرج الانسان بها عن حدّ الكفر ، الموجب للخلود في النار ، لم تتغّير بعد إنتشار الشريعة ، و بعد هجرة النبيّ إلى المدينة المنوّرة.

    نعم ظهرت في الشريعة اُمور صارت ضرورية الثبوت من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فيعتبر في تحقّق الإسلام عدم انكارها (لا لزوم التصديق بها تفصيلاً) و لكن هذا لا يوجب التغيّر في ما يقوم الإيمان به ، فإنّ المقصود انّه لا يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد و التصديق

________________________________________

    1 ـ يريد الدعوة العلنية فإنّها كانت عشر سنين و كانت في السنين الثلاثة الاُولى سرّية.

    2 ـ الكليني : الكافي 2 / 29 برقم 1510.

(441)

بالنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و انّه كان رسولاً صادقاً فيها يبلّغ ، ولا تلزم معرفة تفاصيل ذلك و إلاّ لزم أحد الأمرين :

    1 ـ أن لا يكون من آمن بمكة من أهل الجنّة لعدم إيمانهم.

    2 ـ أن تكون حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة تختلف عن صدر الإسلام و كلا الأمرين كما ترى.

    نعم لمّا كان الاعتقاد بالمعاد و الحياة الآخرة بمثل البُنْية التحتية للدعوة الاسلامية بل لجميع الشرائع السماوية على وجه لا تتّصف الدعوة بالالهية بدون الاعتقاد بها. لابدّ من الاعتقاد بها في إطار الشهادتين فإنّه ينطوي في طيّاتهما يوم بعث النبيّ الأكرم بالهداية.

    و يؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في ذلك المجال وإليك نصّه :

    قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يوم خيبر : لاُعطينّ غداً هذه الراية رجلاً يحبّ الله و رسوله يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الامارة إلاّ يومئذ ، قال : فتساورت لها رجاء أن اُدعى لها ، قال : فدعا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) علي بن أبي طالب فأعطاه إيّاها و قال :

    امش و لا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئاً ثم وقف و لم يلتفت و صرخ : يا رسول الله على ماذا اُقاتل الناس؟

    قال ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها ، و حسابهم على الله (1) .

    فإذا كان الاقرار بالشهادتين كافياً في توصيف المقر مسلماً و مؤمناً ، فيدل

________________________________________

    1 ـ مسلم : الصحيح 7 / 121 ، ابن عساكر : ترجمة الإمام علي 1 / 159 ح 222 ، النسائي : خصائص أمير المؤمنين 57.

________________________________________

(442)

بالملازمة على عدم لزوم معرفة ما سواهما.

    و يوضّح ذلك أيضاً ما رواه الامام الرضا ( عليه السَّلام ) عن آبائه عن علي ( عليه السَّلام ) : قال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : اُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله ن فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماءهم و أموالهم (1) .

    و روى أبو هريرة : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوا لا الاّ الله عصموامنّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على الله (2) . و الاستدلال بالروايتين حسب مامرّ في غيرهما من الدلالة الالتزامية على عدم لزوم معرفة غيرهما.

    وأمّا معرفة ما عدا ذلك من المعارف فلم يدلّ دليل على وجوب معرفتها بل الأصل المحكم عدم الوجوب إلاّ مادلّ الدليل الثانوي على وجوبه (3) .

    هذا كلّه في المعارف الّتي تجب معرفتها بلا قيد ، ولأجل ذلك يجب تحصيل معرفتها.

    أمّا القسم الثاني : أعني ما يجب الاعتقاد به لو وصل العلم به ، فهذا كمعرفة صفات الربّ و أوصافه و المعرفة التفصيلية للمعاد و الحياة الاُخروية ، كلّ ذلك يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم و المعرفة و لكن لا يكون ذلك دليلاً على اعتباره في الإسلام أو الإيمان بأدنى مراتبه.

________________________________________

    1 ـ المجلسي : البحار 68 / 242.

    2 ـ المجلسي : البحار 68 / 242 نقله عن مشكاة المصابيح في التعليقة.

    3 ـ كمعرفة الامام الّتي دلّت الأدلّة على وجوب معرفته. نعم إنّ ما رواه البخاري : الصحيح : 1 / 14 كتاب الإيمان عن النبي الأكرم من بناء الإسلام على خمس و أضاف بعد الشهادتين : اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج ، و صوم شهر رمضان ، فهو خارج عن موضوع البحث و داخل في البحث الآتي : « ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة ».

________________________________________

(443)

ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة :

    هذا كلّه في مجال العقيدة و أمّا مجال الشريعة فتجب معرفة ما يبتلى به المكلّف في حياته من الأحكام الفرعية.

    فالحق ، التفصيل بين ما تعم البلوى بها و غيره ، أمّا الأوّل فتجب معرفة أحكامه فلا يجوز للمكلّف الدخول في العمل مع الظن بالابتلاء بما لايعلم حكمه كأحكام الخلل ، الشائع وقوعه في الصلاة. و أمّا الثاني أعني ما لا يتّفق الابتلاء به إلاّ نادراً فلا يجب تعلّم حكمه قبل الابتلاء للوثوق بعدم الابتلاء به غالباً و على ذلك جرت السيرة بين المسلمين مضافاً إلى أنّ إيجاب معرفة جميع الأحكام تفصيلاً ممّا يوجب العسر و الحرج و يوجد الفوضى في الحياة.

    و هذا هو الظاهر أيضاً من بعض علماء الاباضية : قال : إذا لزمه شيء من ذلك ممّا يفوت مثل الصلاة ، و الصوم ، أو ممّا يفوت وقته من جميع الفرائض اللازمة له ، ممّا يفوت وقته ويبطل و حضر وقته و وجب العمل به ، فمعنى انّه قيل إنّ عليه طلب العلم ، من جميع ما جهل من ذلك (1) .

    فما ورد في الشريعة الاسلامية من الحق الأكيد على تحصيل العلم كآية أهل الذكر (النحل : 46). و الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم و التفقّه كلّها منصرفه إلى الموارد المبتلى بها ، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه (2) .

________________________________________

    1 ـ أبو سعيد الكدمي : المعتبر1 / 70.

    2 ـ لاحظ الرسائل للشيخ مرتضى الأنصاري 400 آخر مبحث الاشتغال.

________________________________________

(444)

________________________________________

(445)

6 ـ حكم الدار

    وصف الدار بكونها دار اسلام أو إيمان ، أو داركفر ، هو من جهة لحوق بعض الأحكام الشرعية بالمقيمين فيها ، مثل جواز المناكحة و التوارث إذ لم يعرف حاله ، و الصلاة خلفه أو عليه إذا مات ، و الدفن في مقابر المسلمين ، و موالاته و معاداته ، إلى غير ذلك من الأحكام ، و قد اختلفت الآراء في الأمر الّذي يصير سبباً لوصف الدار بكونها دار إسلام أو كفر.

    منهم من اعتبر الكثرة ، فإذا كان الأكثر من أهل الدار على دين الإسلام فهي دار إسلام و إلاّ فدار كفر.

    و منهم من اعتبر مع الكثرة ، الغلبة أيضاً ، بأن يكون غالبين قاهرين على الاُمور.

    و منهم من اعتبر زوال التقية ، فمتى لم يكن أهل الدار في تقيّة من السلطان في اظهار شعائر الدين فهي دار إسلام.

    و منهم (كثير من الزيدية و المعتزلة) ذهب إلى أنّ المناط في ذلك ، بما

 

________________________________________

(446)

يظهر في الدار و يوجد المقيم بها من الحال ، فإذا كانت الدار بحيث يظهر فيها الشهادتان ظهوراً ، لايمكن المقام فيها إلاّ بإظهارهما أو الكون في ذمّة و جوار من مظهرهما ، ولا يتمكّن المقيم من اظهار خصلة من خصال الكفر فهي دار إسلام ، و إن لم تكن الدار بهذا الوصف الّذي ذكرناه فهي دار كفر. ولا اعتبار عندهم مع ذلك بما يكون عليه أهلها من المذاهب المختلفة بعد تحقّق ما ذكرناه (1) .

    و قال شيخنا المفيد : إنّ الحكم في الدار على الأغلب فيها ، و كلّ موضع غلب فيه الكفر فهو دار كفر ، وكلّ موضع غلب فيه الإيمان فهو دار إيمان ، وكلّ موضع غلب فيه الإسلام فهو دار إسلام ، قال الله تعالى في وصف الجنّة : ( وَ لَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِين ) (2) وإن كان فيها أطفال و مجانين (3) .

    وقال في وصف النار : ( سَاُريكُمْ دَارَ الفَاسِقِين ) (4) و إن كان فيها ملائكة الله مطيعون. فحكم على كلتا الدارين حكم الأغلب فيها (5) .

    هذه هي الأقوال الدارجة في حكم الدار ، و المعروف عن الخوارج رأيان :

    1 ـ كلّ بلد ظهر فيه الحكم بغير ما أنزل الله فهو دار كفر.

    2 ـ إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعيّة ، الغائب منهم و الشاهد (6) .

    و في الرأي الثاني تطرّف واضح ، إذ كيف يكون كفر الإمام سبباً لكفر الرعيّة ، أما سمعوا قول الله سبحانه : ( ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى ) (7) . وكان يقول

________________________________________

    1 ـ العلاّمة الزنجاني : التعليقة على أوائل المقالات 70.

    2 ـ النحل : 30.

    3 ـ فيه و ما بعده تأمّل واضح.

    4 ـ الأعراف : 145.

    5 ـ المفيد : أوائل المقالات 70 ـ 71.

    6 ـ لاحظ ماذكرناه في حقّ البيهسيّة.

    7 ـ النجم : 38.

________________________________________

(447)

علي ( عليه السَّلام ) في هذا الشأن مخاطباً الخوارج : فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أنّي أخطأت ، وضللت ، فلم تُضلِّلون عامّة اُمّة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بضلالي و تأخذونهم بخطئي ، و تكفّرونهم بذنوبي (1) .

________________________________________

    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 127.

________________________________________

(449)

7 ـ في حكم الزاني المحصن

    قد عرفت أنّ الأزارقة لاتقول برجم الزاني إذا كان محصناً بحجّة أنّه ليس في ظاهر القرآن ، و لا في السنّة المتواترة ، و لكن المسألة من المسائل الفقهية ، و اتّفق الفقهاء ، على رجم الزاني المحصن بلا فرق بين الرجل و المرأة ، و إنّما اختلفوا من جهة اُخرى.

    1 ـ قال داود و أهل الظاهر عليهما الجلد والرجم من غير فرق بين الشابِّ والشيخ ، والشابّة و الشيخة ، و هو احدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ، كما في « المغني » لابن قدامة.

    2 ـ قالت الإمامية ـ بالتفصيل و هو أنّه ـ : إذا كان المحصن شيخاً أو شيخة فعليهما الجلد و الرجم ، وإن كانا شابّين فعليهما الرجم بلا جلد.

    3 ـ قال فقهاء أهل السنّة : ليس عليهما إلاّ الرجم دون الجلد ، و به قال بعض الامامية (1) .

________________________________________

    1 ـ الشيخ الطوسي : الخلاف ج 3 ، كتاب الحدود ، المسألة 1 و 2 ، ابن قدامة : المغني 9 / 5 كتاب الحدود.

________________________________________

(450)

    ولسنا بصدد تحقيق المسألة من حيث السعة و الضيق و إنّما نبحث عن ثبوت الرجم في الإسلام على وجه الاجمال ، و ذلك لثبوته بفعل النبي و الخلفاء و الصحابة ، أمّا النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فقد زنى ماعز فرجمه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، و رجم العامرية ، كما رجم يهوديين زنيا (1) ، و روي عن عمر ، أنّه قال : « إنّ الله بعث محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأتها و عقلتها و وعيتها ، و رجم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و رجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، فالرجم حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال و النساء إذا قامت البيّنة ، أو كان الحبل أو الاعتراف و قد قرأ بها « الشيخ و الشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالاً من الله و الله عزيز حكيم » (2) .

    نحن لا نوافق الخليفة على كون آية الرجم من كتاب الله العزيز ، فكيف يمكن لنا أن نعدّ كلاماً تعلو عليه الصناعة البشرية ـ و قد سرق جزءاً من الذكر الحكيم الوارد في حد السرقة و ركّبه مع كلامه فعاد كلاماً مغسولاً عن الفصاحة ـ من كلام الله العزيز ، لكنّا نوافق الخليفة على ثبوت الرجم في الإسلام ، هذا هو الامام علي بن أبي طالب جلد سراجة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة و قال : جلدتها بكتاب الله ، و رجمتها بسنّة رسول الله.

    وأمّا قوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة ) (3) .

________________________________________

    1 ـ لاحظ تفسير قوله سبحانه : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَيـةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ) ـ المائدة : 43 ـ.

    2 ـ ابن قدامة : المغني 9 / 4.

    3 ـ النور : 2.

(451)

فلا ينافي ثبوت الرجم مع الجلد في بعض الموارد ، فإنّه لاينفي غير الجلد من سائر العقوبات ، هذا إذا قلنا بثبوت الجلد و الرجم مطلقاً على المحصن ، و أمّا إذا خصصنا الجمع بالشيخ و الشيخة ، و أخرجنا الشاب والشابة ، فتكون السنّة مخصصّاً لاّية الجلد ، فإنّ عموم القرآن يخصّص بالدليل القطعي ، و ليس هذا نسخاً بل تخصيصاً ، وكم من فرق بين التخصيص و النسخ يقف عليه المعنّيون بعلم الاُصول.

    وأمّا الخوارج فقالوا بالجلد دون الرجم و احتجّوا بالوجهين التاليين :

    1 ـ قوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة ) قالوا : لايجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع و اليقين لأخبار آحاد يجوز الكذب فيها.

    2 ـ إنّ هذا يفضي إلى نسخ الكتاب و السنّة و هو غير جائز (1) .

    يلاحظ على كلا الوجهين : أمّا الأوّل : فلأنّ القول بالرجم مضافاً إلى الجلد لايستلزم ترك كتاب الله ، لأنّ اثبات الشيء أي الجلد لايكون دليلاً على نفي غيره ، فأيّ مانع من أن تكون العقوبة في مطلق الزنا هي الجلد ، و في خصوص المحصن ، الجلد مع الرجم؟

    هذا إذا قلنا بجلد المحصن مطلقاً ، و أمّا إذا خصصنا الجمع بالشيخ والشيخة ، و قلنا بكفاية الرجم في غير الشاب و الشابّة ، فأقصى ما يلزم تخصيص الكتاب بالسنّة القطعية و هو ليس بأمر شاذ ، كيف لايكون كذلك و قد اشتهر « و ما من عام إلاّ و قد خصّ ».

    أمّا الثاني : فلأنّه خلط بين نسخ حكم الكتاب و تخصيصه ، و الفرق بينهما واضح لايخفى.

________________________________________

    1 ـ ابن قدامة : المغني 9 / 4.

________________________________________

(452)

    هذا وقد نقل ابن قدامة : انّ رسل الخوارج جاءوا عمر بن عبد العزيز فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم و قالوا : ليس في كتاب الله إلاّ الجلد ، و قالوا : الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون الصلاة ، و الصلاة أوكد. فقال لهم عمر : وأنتم لا تأخذون إلاّ بما في كتاب الله؟ قالوا : نعم ، قال : فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات و عدد أركانها ، و ركعاتها ، و مواقيتها ، أين تجدونه في كتاب الله تعالى؟ و أخبروني عمّا تجب الزكاة فيه و مقاديرها و نُصُبها؟ فقالوا : انظرنا ، فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئاً ممّا سألهم عنه في القرآن ، فقالوا : لم نجده في القرآن. قال : فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا : لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فعله ، و فعله المسلمون بعده ، فقال لهم : فكذلك الرجم و قضاء الصوم فإنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) رجم و رجم خلفاؤه بعده والمسلمون ، وأمر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بقضاء الصوم دون الصلاة ، و فعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه (1) .

________________________________________

    1 ـ ابن قدامة : المغنى 9 / 5.

________________________________________

(453)

خاتمة المطاف

    إلى هنا قد تعرّفت على عقائد الخوارج معتدليهم و متطرّفيهم ، غير أنّ هناك مسائل فقهيّة ثلاث نطرحها في المقام :

    1 ـ حكم أولاد المشركين.

    2 ـ حكم تزويج المشركات.

    3 ـ حكم تزويج الكافرة غير المشركة.

    و لعل القارئ الكريم يتعجّب من طرح هذه المسائل في الموسوعة التاريخية للعقائد قائلاً بأنّ البحث عن مثل هذه الموضوعات من واجبات الفقيه لا مؤرّخ العقائد ، ولكنّه يزول تعجبّه إذا وقف على أنّ الخوارج المتطرّفين ، يزعمون أنّ مخالفيهم من المسلمين مشركون أو كافرون ، لا رتكاب الكبيرة من المعاصي ، وبما أنّ للمشرك و الكافر الواقعيين أحكاماً خاصّة في الفقه الإسلامي من حيث صيانة الدماء وإراقتها و جواز تزويجهم و حرمته ، فهؤلاء كانوا يرتّبون على المسلمين و أولادهم ، أحكام المشركين و الكافرين و أولادهم ، فيبيحون

 

________________________________________

(454)

قتل أولاد المخالفين ، و يحرّمون مناكحتهم بحجّة أنّهم مشركون ، فناسب البحث عن هذه الأحكام الكليّة مع غضّ النظر عن عدم الموضوع في المقام لأنّ أهل القبلة والقرآن كلّهم موحدون لامشركون ، مؤمنون لاكافرون ، إلاّ من قام الدليل على شركه و كفره كالغلاة والنواصب.

    و بما أنّ الأزارقة و أمثالهم أخطأوا في حكم المسألة حتى في مواردها الواقعيّة فجوزوا قتل أولاد المشركين و حرّموا انكاح الكافر غير المشرك ، فلأجل ايقاف القارئ على مظان خطأهم في هذه المسائل نوالي البحث فيها واحدة بعد اُخرى و نقول :

 

1 ـ أولاد المشركين :

    إنّ الأصل الرصين في الدماء هو الحرمة ، و لزوم صيانتها من الاراقة ، فالانسان ـ على وجه الاطلاق ـ هو خليفة الله في أرضه يحرم دمه و عرضه و ماله للغير ، فلا يجوز التعدّي على شيء منها إلاّ بدليل ، ولأجل ذلك يقول سبحانه حاكياً عن نبيّه موسى : ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةَ بِغَيْرِ نَفْس لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ) (1) وقال سبحانه : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـسِرِينَ ) (2) وقال تعالى : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم ) (3) و قال سبحانه : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَـدَكُم مِنْ إِمْلَـق نَحْنُ نَرْزُقُكُـمْ وَإِيَّاهُمْ ) (4) و قال تعالى : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) (5)و : ( مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ

________________________________________

    1 ـ الكهف : 74.

    2 ـ المائدة : 30.

    3 ـ الأنعام : 140.

    4 ـ الأنعام 151.

    5 ـ الأنعام : 151.

________________________________________

(455)

النَّاسَ جَمِيعاً ) (1) ، إلى غير ذلك من الاّيات الناصّة على أنّ الأصل القويم والمرجع ، في الدماء هو الحرمة ، فلا يجوز قتل الانسان على الاطلاق إلاّ بمسوّغ شرعي ورد النص بجواز قتله في الذكر الحكيم والسنّة النبوية.

    و على ضوء ذلك فالاسلام حرّم دم المسلم ، و دم الذمّي ، و الكافر المهادن ، و من يمتُّ إليهم بصلة ، فإنّ أولادهم و إن كانوا غير محكومين بشيء من التكاليف إلاّ أنّ الولد يتبع الوالدين في الأحكام ، و هذا ممّا لايختلف فيه اثنان من الفقهاء.

    وأمّا الكافر الحربي فهو مهدور الدم لا دم أطفاله و ذراريه ، إلاّ في مواضع خاصّة.

    قال ابن قدامة : إنّ من اُسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب : النساء و الصبيان ، فلا يجوز قتلهم و يصيرون رقيقاً للمسلمين بنفس السبي ، لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) نهى عن قتل النساء ، والولدان ، (متّفق عليه) و كان ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يسترقّهم إذا سباهم (2) .

    هذا فقيه أهل السنّة ، و أمّا الشيعة ، فقال الشيخ الطوسي : الآدميون على ثلاثة أضرب : نساء و ذريّة و مشكل و بالغ غير مشكل ، فأمّا النساء و الذرية فإنّهم يصيرون مماليك بنفس السبي (3) .

    و قال المحقّق الحلي : الطرف الرابع في الاُسارى و هم ذكور و اناث ، فالاناث يملكن بالسبي و لو كانت الحرب قائمة ، وكذا الذراري (4) .

________________________________________

    1 ـ المائدة : 32.

    2 ـ ابن قدامة الحنبلي : المغني 10 / 400.

    3 ـ الطوسي : المبسوط 2 / 19.

    4 ـ المحقق : شرائع الإسلام 1 / 317.

________________________________________

(456)

    إلى غير ذلك من الفتاوى المستفيضة من فقهاء الإسلام ، وهم يتبعون في ذلك ، النصوص الواردة عن النبي و خلفائه.

    روى الكليني عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله قال : كان رسول الله إذا أراد أن يبعث سريّة ، دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول : سيروا بسم الله و بالله وفي سبيل الله و على ملّة رسول الله ، لاتغلوا ، و لا تُمثِّلوا و لا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأة ، و لا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضظرّوا إليها (1) .

    وقد تضافرت الروايات عن أئمة الشيعة في ذلك.

    روى البيهقي بسنده عن ابن عمر : أجلى رسول الله بني النضير ، وأقرّ قريظة ومنَّ عليهم حتّى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم ، و قسم نساءهم ، و أولادهم ، و أموالهم بين المسلمين ، إلاّ بعضهم لحقوا برسول الله فآمنهم وأسلموا (2) .

    و روى أيضاً النافع أنّ عبد الله بن عمر أخبره أنّ أمرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله مقتولة ، فانكر رسول الله قتل النساء والصبيان (3) .

    هذا هو حكم الإسلام في صبيان الكفّار و المشركين و نسائهم ، فهلم معي ندرس فتوى الأزارقة في نساء الكفّار و أولادهم فقد استحلّ زعيمهم قتل الأطفال ... قائلاً : إنّ نوحاً نبيّ الله كان أعلم بأحكام الله قال : ( رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَـفِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) (4) فسمّاهم بالكفّار و هم أطفال ، و قبل أن يولدوا ، فكيف ذلك في قوم

________________________________________

    1 ـ الحر العاملي : الوسائل 11 ، الباب 15 من أبواب جهاد العدو ، الحديث 2.

    2 ـ البيهقي : السنن 6 / 323 ، كتاب قسم الفي والغنيمة.

    3 ـ المصدر نفسه : 9 / 77 كتاب السير.

    4 ـ نوح : 26 ـ 27.

________________________________________

(457)

ولا في قومنا؟ والله تعالى يقول : ( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ ) (1) وهؤلاء كمشركي العرب ، لا يقبل منهم جزية و ليس بيننا و بينهم إلاّ السيف أو الإسلام (2) .

    عزب عن المسكين ، أوّلاً : إنّ تسميتهم بالكفّار ليس باعتبار أنّهم في حال كونهم معدومين كفّاراً فإنّ ذلك باطل بالاتّفاق ، إذ كيف يوصف الشيء المعدوم بوصف من الأوصاف الوجودية ، بل المراد انّ الأبناء بعد خروجهم إلى عالم الوجود سيصيرون كفّاراً لنشوئهم في أحضان آبائهم الكافرين و أمّهاتهم الكافرات ، فللوراثة و البيئة تأثيرهما في الأولاد ، فلا يلدون في المستقبل إلاّ اُناساً يصيرون كفّاراً نظير توصيف الأشجار بالمثمرة في فصل الشتاء ، والمراد : المثمرة في فصل الثمر.

    و ثانياً : إنّ الذراري و النساء و إن كانت محكومات بالكفر و لكن علمت أنّ النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) حرّم دماءهم وانّما سوّغ سبيهم و استرقاقهم ، فليس كلّ كافر يجوز قتله. فما ذكره من الاستدلال أوهن من بيت العنكبوت.

    و ثالثاً : إنّ كلّ ذلك في حق المشركين و الكّفار الحقيقيين ، فما معنى تسرية هذه الأحكام إلى أهل القبلة و المسلمين الذين يشهدون بتوحيده و رسالة نبيّه و يقيمون الصّلاة و يعطون الزكاة و يصومون شهر رمضان و يحجّون البيت. أفيصحّ لنا تسمية هؤلاء كفّاراً ، بحجّة ارتكابهم معصية كبيرة؟!

________________________________________

    1 ـ القمر : 43.

    2 ـ لاحظ رسالة ابن الأزرق في جواب رسالة نجدة بن عامر ، وقد مرّت في الفصل التاسع.

________________________________________

(458)

2 ـ في نكاح المشركات :

    قد تعرّفت على أنّ الخوارج يعدّون مخالفيهم مشركين و كافرين ، فعلى قول الأزارقة جماهير المسلمين رجالاً و نساءً مشركون و مشركات ، و على قول غيرهم فهم كافرون و كافرات ، فحكم تزويج حرائرهم حكم تزويج الوثنيات و الكتابيات ، ولأجل ذلك نذكر بعض كلماتهم ثم نعرض المسألة على الكتاب والسنّة.

    كتب ابن الأزرق إلى عبد الله بن صفار و عبد الله بن اباص كتاباً جاء فيه :

    و قال تعالى ( لاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) فقد حرّم الله ولايتهم و المقام بين أظهرهم واجازة شهادتهم و أكل ذبائحهم و قبول علم الدين عنهم و مناكحتهم و مواريثهم (1) .

    و قد تقدّم في بيان عقائد الصفريه أنّه نقل عن الضحاك الّذي هو منهم أنّه جوّز تزويج المسلمات من كفّار قومهم في دار التقيّة دون دار العلانية. و يريد من المسلمات : الحرائر من الخوارج. ومن « كفّار قومهم » : رجال سائر الفرق الاسلامية.

    و يظهر من الخلاف الّذي حدث بين الابراهيمية و الميمونية أنّه يجوز بيع الجارية المؤمنة (الخارجية) من الكفرة أي المسلمون من سائر الفرق.

    هذا ما وقفنا عليه من كلماتهم و نبحث عن المسألة بكلتي صورتيها :

 

الاُولى ـ نكاح المشركة :

    اتّفق علماء الإسلام على تحريم تزويج المشركات. قال ابن رشد : « و اتّفقوا على أنّه لايجوز للمسلم أن ينكح الوثنية لقوله تعالى : ( وَلاَ تُمْسِكُواْ

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ 4 / 438 ـ 440.

________________________________________

(459)

بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) (1) واختلفوا في نكاحها بالملك » (2) .

    و قال الشيخ الطوسي في المبسوط : « الضرب الثاني ، الذين لاكتاب لهم ولا شبهة كتاب ، و هم عبدة أوثان فلا يحلّ نكاحهم و لا أكل ذبائحهم و لا يقرّون على أديانهم ببذل الجزية و لا يعاملون بغير السيف أو الإسلام بلا خلاف » (3) .

    هذا كلّه حول المشركات ، فلو صحّ كون جماهير المسلمات من الفرق الاسلامية مشركات عند الأزارقة ، لصحّ ما قال و لكنّه لم يصح ـ وإن صحّت الأحلام ـ لما عرفت أنّ للشرك حدّاً منطقياً في القرآن الكريم ، و ابن الأزرق و أتباعه و إن كانوا قرّاء و لكنّه لم يتجاوز القرآن ـ حسب تنصيص النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عن تراقيهم ولم يصل إلى دماغهم و مراكز أفكارهم ، فكيف يصحّ تسمية من ارتكب الكبيرة مشركاً و لو صحّ لما و جد في أديم الأرض مسلماً إلاّ إذا كان معصوماً.

 

3 ـ نكاح الكافرة غير المشركة :

    اختلف كلمة فقهاء الإسلام في نكاح الكافرة غير المشركة و يراد منها الكتابية لأنّها كافرة غير مشركة ، قال ابن رشد : اتّفقوا على أنّه يجوز أن ينكح الكتابية الحرّة (4) .

    هذا مالدى السنّة و أمّا ما لدى الشيعة فالمشهور عدم الجواز دواماً. قال الشيخ الطوسي : عند المحصّلين من أصحابنا لايحلّ أكل ذبائح أهل الكتاب

________________________________________

    1 ـ الممتحنة : 10 ، و الأولى أن يستدل بآية صريحة أعني قوله سبحانه : ( وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... ) ـ البقرة : 221 ـ.

    2 ـ ابن رشد : بداية المجتهد 2 / 43.

    3 ـ الطوسي : المبسوط 4 / 210.

    4 ـ ابن رشد : بداية المجتهد 2 / 43.

________________________________________

(460)

كاليهود و النصارى ، و لا تزوّج حرائرهم ، بل يقرّون على أديانهم إذا بذلوا الجزية ، وفيه خلاف بين أصحابنا ، و قال جميع الفقهاء (أهل السنّة) : يجوز أكل ذبائحهم و نكاح حرائرهم (1) .

    و قال في الخلاف : المحصّلون من أصحابنا يقولون لا يحلّ نكاح من خالف الإسلام ، لا اليهود ، و لا النصارى ، و قال قوم من أصحاب الحديث من أصحابنا : يجوز ذلك ، و أجاز جميع الفقهاء التزويج بالكتابيات و هو المروي عن عمر و عثمان و طلحة و حذيفة ، و جابر ، و روي أنّ عمّاراً نكح نصرانية ، و نكح حذيفة يهودية ، و روي عن ابن عمر كراهة ذلك و إليه ذهب الشافعي (2) .

    قال ابن قدامة : ليس بين أهل العلم ـ بحمد الله ـ اختلاف في حلّ حرائر نساء أهل الكتاب ، و ممّن روى عنه ذلك ، عمر و عثمان و طلحة و حذيفة و سلمان و جابر و غيرهم (3) .

    و على ضوء ذلك انّ فقهاء أهل السنّة ذهبوا إلى الجواز ، وأمّا الشيعة فهم بين مانع و مجوّز ، و نحن نعرض المسألة على الكتاب.

    استدلّ المانع بآيات :

    1 ـ قال تعالى : ( وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُّشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلى الْنَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ ءَايَـتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (4) .

________________________________________

    1 ـ الطوسي : المبسوط 4 / 210.

    2 ـ الطوسي : الخلاف 2 / 282 ، المسألة 84 من كتاب النكاح ، و قد نسب إلى فقهاء الشيعة أقوال اُخرى ذكرناها في محاضراتنا الفقهية في النكاح ، لاحظ : الحلّي ، مختلف الشيعة : 82.

    3 ـ ابن قدامة : المغني 5 / 52.

    4 ـ البقرة : 221.

(461)

    2 ـ قال تعالى : ( وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُْمحْصَنَـتِ الْمُؤْمِنَـتِ فَمِن مَّا مَـلَكَتْ أَيمَـنُكُمِ مِّنْ فَتَيَـتِـكُمُ الْـمُؤْمِنَـتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّنْ بَعْض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (1) .

    استدّل بالآية على المنع بوجهين :

    أ ـ إنّ الآية تأمر من لم يجد ما يتزوّج به الحرائر المؤمنات من المهر و النفقة ، أن ينكح الإماء المؤمنات فإنّ مهور الإماء أقلّ و معونتهنّ أخف عادة ، فلو جاز نكاح الكافرة في هذه الحالة لزم جواز نكاح الأمة المؤمنة مع الحرّة الكافرة ، و لم يقل به أحد ، لأنّه من قبيل الجمع بين الحرّة و الأمة.

    ب ـ إنّ التوصيف بالمؤمنات في قوله : ( مِّنْ فَتَيَـتِـكُمُ الْـمُؤْمِنَـتِ ) يقتضي أن لا يجوز نكاح الفتيات الكافرات مع انتفاء الطول ، و ليس إلاّ لامتناع نكاحهنّ مطلقاً ، للاجماع على انتفاء الخصوصية بهذا الوجه (2) .

    يلاحظ على الوجه الأوّل : أنّ أقصى ما يستفاد من الآية على القول بمفهوم الوصف أنّه لا يجوز عند عدم الطول ، نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة ، و أمّا عدم جواز تزويج الحرّة الكافرة مع الطول أو عدمه ، فلا تدلّ عليه الآية ، لأنّ المفهوم ينفي الحكم عن الموضوع الفاقد للوصف لا عن موضوع آخر ، والموضوع للجواز هو ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، فمقتضى المفهوم عدم جواز نكاح الأمة الكافرة في هذه الحال ، و أمّا الحرّة الكافرة ، فهو خارج عن موضوع البحث نفياً و اثباتاً.

    و يلاحظ على الوجه الثاني : أنّ التوصيف بالمؤمنات يقتضي أن لايجوز نكاح الكافرة من الاماء مع انتفاء الطول و لكن لم يعلم انّ وجه حرمتها هو امتناع

________________________________________

    1 ـ النساء : 25.

    2 ـ الشيخ محمّد حسن النجفي : جواهر الكلام 3 / 28.

________________________________________

(462)

نكاحها مطلقاً ، سواء كانت أمة أم حرّة ، و من أين يدعى الاجماع على انتفاء خصوصية في الأمة؟ إذ من الممكن أن لا يجوز نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة دون الكافرة الحرّة فيجوز نكاحها حتى مع التمكّن من الأمة المسلمة.

    3 ـ قال تعالى : ( لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَ نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الاِْيمَـنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ ) (1) .

    يلاحظ عليه : أنّ الآية واردة في حقّ الضعفاء من المسلمين ، و لا صلة لها بالكفرة ، فهؤلاء كانوا يوالون اليهود و يفشون إليهم أسرار المؤمنين ، و يجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي وأصحابه ، ففي هذه الظروف نزل قوله سبحانه : ( لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) أي لا تجتمع موالاة الكفّار مع الإيمان ، اي موالاتهم بما هم كفّار ، وأمّا حبّهم لأجل اُمور اُخرى فلاصلة له بالآية ، و لا يتزوّج المسلم من الكافرة لأجل موالاة الكافرة ، بل لأجل دفع الشهوة أو تعبئة وسائل الحياة.

    و أضعف منه الا ستدلال بقوله سبحانه :

    4 ـ قال تعالى : ( لاَ يَسْتَوِي أَصْحَـبُ النَّارِ وَأَصْحَـبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ ) (2) إذ لاصلة بين الآية و موضوع البحث فإنّها تنفي كون المؤمن و الكافر عند الله سيّان ، وأمّا عدم جواز المعاملة و المناكحة فلا تدلّ عليه.

    5 ـ استدلَّ أيضاً : انّ أهل الكتاب مشركون لقوله سبحانه : ( وَقَالَتِ

________________________________________

    1 ـ المجادلة : 22.

    2 ـ الحشر : 20.

________________________________________

(463)

الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَـرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) (1) حيث جعلوا الإبن المزعوم شريكاً للأب في الالوهية ، و قال سبحانه : ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَـثَة ) (2) .

    و قال : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَ حِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (3) فهذه الآيات تثبت الصغرى ، أي كونهم مشركين ، وأمّا ما يدلّ على الكبرى أي عدم جواز نكاح المشركات ، فقد مرّ في كلام المانع.

    يلاحظ عليه أنّ هنا أمرين :

    أ ـ كون النصارى و اليهود مشركين في عقيدتهم ، و هذا لاكلام فيه.

    ب ـ كون المشرك الوارد في قوله ( وَلا تَنْكحُوا المُشْرِكات ) عامّاً يعمّ الوثنّيين و غيرهم ، و لكنّ هذا غير ثابت فإنّ عنوان المشرك في القرآن يختصّ بغير أهل الكتاب بشهادة المقابلة في كثير من الآيات بينهم وبين أهل الكتاب ، وإليك بعضها : ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِّنْ رَبِّكُمْ ) (4) ، وقد عرفت تحقيق ذلك عند البحث عن حدّ الشرك و الإيمان ، فلانعيد (5) .

    فهذه الآية و غيرها تثبت أنّ الشرك المتّخذ موضوعاً لكثير من الأحكام

________________________________________

    1 ـ التوبة : 30.

    2 ـ المائدة : 73.

    3 ـ التوبة : 31.

    4 ـ البقرة : 105.

    5 ـ لاحظ الآيات : آل عمران 186. المائدة 82 و غيرهما أيضاً.

________________________________________

(464)

لايشمل أهل الكتاب في مصطلح القرآن و إن كانوا مشركين حسب الواقع ، فالكلام في سعة موضوع الحكم (تحريم نكاح المشركات) وضيقه حسب اصطلاح القرآن.

    6 ـ قال تعالى : ( يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمـُؤْمِنَـتُ مُهَـجِرَ ت فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـت فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَ لِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1) .

    وجه الاستدلال انّ الكوافر جمع كافرة ، و العصمة المنع ، وسمّي النكاح عصمة لأنّ المنكوحة تكون في حبال الزوج و عصمته ، و يكون اطلاقها دليلاً على حرمة عقد الكافرة مشركة أو ذمية.

    يلاحظ عليه : أنّ الآية ظاهرة في الوثنية بشهادة سياق الآيات ، و سبب نزولها فإنّها نزلت بعد التصالح في الحديبية حيث تصالح رسول الله أن يردّ كل من أتى من قريش إلى جانب المسلمين من دون عكس ، و بعد ما ختم الكتاب جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية و قد أسلمت ، فأقبل زوجها في طلبها و كان كافراً ، فنزلت الآية ، فكان رسول الله يردّ من جاءه من قريش من الرجال ، ولا يردّ من جاءته من النساء قائلاً بأنّ التصالح لايشمل إلاّ الرجال.

    على أنّ ظاهر الآية هو المنع من الاقامة مع الزوجة الكافرة و هذا لايتمّ في الذمّية لصحّة نكاحهنّ استدامة إذا أسلم أحد الزوجين ، اجماعاً و إن لم نقل بالصحّة ابتداء ، و هذا قرينة على انصراف الآية عن الذمّية إلى الوثنية ، و بذلك يظهر ضعف ما أفاده الطبرسي حيث ادّعى دلالة الآية على عدم جواز العقد

________________________________________

    1 ـ الممتحنة : 10.

________________________________________

(465)

على الكافرة مطلقاً ، بحجّة أنّ الآية عامّ و ليس لأحد أن يخصّ الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن ، لأنّ المعتبر عموم اللفظ ، لاالسبب (1) .

    إلى هنا تمّ ما يمكن الاستدلال به من الآيات على تحريم نكاح الكافرات ، وإليك ما استدلّ به القائل بالجواز من الذكر الحكيم أعني قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـتِ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكَتِـبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَان ) (2) .

    الآية صريحة في جواز نكاح المحصنات من أهل الكتاب ، والمتيقّن منها هو الذمّية أو من هو في حكمها كالمهادنة ، لا الحربية.

    و حمل الآية على النكاح الموقّت بقرينة ورود لفظ « الاُجور » في الآية مكان « المهور » ليس بتام لأنّها وردت في غير موضع من القرآن ، و اُريد منه المهر في النكاح الدائم. قال سبحانه في تزويج الاماء عند عدم الطول : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (3) و قال تعالى و هو يخاطب النبي : ( إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَ جَكَ الَّـتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) (4) ومن المعلوم أنّ المراد هو التزويج الدائم إذ لم يكن بين أزواج النبي من تزوّج بها متعة. نعم المراد من قوله سبحانه : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَــاَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (5) هو النكاح الموقّت ، بقرينة قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) مضافاً إلى الروايات المتضافرة في المقام.

    و ربّما يحتمل كون الآية منسوخة لما ورد من النهي في آيتي البقرة

________________________________________

    1 ـ الطبرسي : مجمع البيان 5 / 274.

    2 ـ المائدة : 5.

    3 ـ النساء : 25.

    4 ـ الأحزاب : 50.

    5 ـ النساء : 24.

________________________________________

(466)

و الممتحنة ، و لكن قد عرفت عدم دلالة الآيتين على مورد البحث فضلاً عن كونهما ناسختين.

    على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول الله ، فهي تنسخ ما قبلها ، و لا تُنسخ ، روى العياشي عن علي قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً و إنّما يؤخذ من أمر رسول الله بآخره ، و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء (1) .

    إلى هنا تمّ ما يرجع إلى المسألة من القرآن الكريم ، و أمّا البحث عنها من جانب السنّة فهو موكول إلى محلّه ، و قد أوضحنا الكلام فيها في مسفوراتنا الفقهية.

    هذا آخر الكلام في عقائد الخوارج و اُصولهم. بقى الكلام في التعرّف على شخصيّاتهم في العصور الأولى و هذا ما يوافيك في البحث الآتي الّذي عقدناه بعنوان « خاتمة المطاف ».

________________________________________

    1 ـ الحويزي : نور الثقلين 1 / 483.

________________________________________

(467)

خاتمة المطاف :

رجال الخوارج في العصور الاُولى

    قد تعرّفت فيما سبق على الشخصيات البارزة للاباضيّة ، ولا بد من التطرّق إلى رجال الخوارج من غيرهم ، و نذكر في المقام المعروفين منهم ، و إن كان الحكم بكونهم من الخوارج يحتاج الى تتبّع وافر ، فإنّ الشهرة في المقام لاتفيد إلاّ الظن. و ربّما يكون رميهم بأنّهم منهم صدر من غير أهله تعنّتاً و حقداً ، و على كل تقدير فقد ذكر ابن ابي الحديد لفيفاً ممّن كان يرى رأي الخوارج ، و نذكر بعض ما ذكر (1) :

 

1 ـ عكرمة البربري (ت / 105) :

    و صفه الذهبي بقوله « أحد أوعية العلم ، تُكلّم فيه لرأيه لالحفظه ، فاتّهم

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 5 / 76.

________________________________________

(468)

برأي الخوارج ، وقد وثّقه جماعة و اعتمده البخاري ، و أمّا مسلم فتجنّبه و روى له قليلاً مقروناً بغيره ، و أعرض عنه مالك ، و تحايده إلاّ في حديث أو حديثين. و عن عمرو بن دينار ، قال : رُفع إلى جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة ، فجعل جابر بن زيد يقول : هذا مولى ابن عباس ، هذا البحر فَسَلوه. و قد وصفه شهر بن حوشب و جابر بن زيد بأنّه حبر هذه الاُمة و أعلم الناس ، و مع ذلك فقد ضعّفه يحيى بن سعيد الأنصاري و أيّوب و ذكرا عكرمة ، فقال يحيى : كذّاب ، و قال أيّوب ، لم يكن بكذّاب. و عن زيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث قال : دخلت على علي بن عبد الله فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش ، فقلت له : ألا تتّق الله ، فقال : إنّ هذا الخبيث يَكذِب على أبي. و قال محمّد بن سيرين عن عكرمة ، فقال : ما يسوءني أن يكون من أهل الجنّة و لكنّه كذّاب. و قال ابن أبي ذئب : رأيت عكرمة ، و كان غير ثقة. و قال محمّد بن سعد : كان عكرمة كثير العلم و الحديث ، بحراً من البحور ، و ليس يُحتَجّ بحديثه ، و يتكلّم الناس فيه.

    هذه أقوال الناس في حقّه ، وإليك قول نفسه في حقّه :

    قال : كان ابن عباس يضع في رجلي الكَبْلَ على تعليم القرآن و الفقه ، و قال : طلبت العلم أربعين سنة ، وكنت اُفتي بالباب و ابن عباس في الدار.

    و هذا قوله في حقّ نفسه ، و لا يحتجّ بقول الإنسان في حقّه إذا كان مدحاً ، و يؤيّد كون الرجل خارجيّاً ما رواه خالد ابن أبي عمران قال : كنّا بالمغرب و عندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أنّ بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً ، و عن يقعوب الحضرمي عن جدّه قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر ، قال : وكان يرى رأي الاباضيّة. و عن يحيى بن بكير قال : قدم عكرمة مصر و هو يريد المغرب ، قال : فالخوارج

 

________________________________________

(469)

الذين هم بالمغرب عنه أخذوا.

    قال ابن المديني : كان يرى رأي نجدة الحروري. و قال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج. قال : وادّعى على بن عباس أنّه كان يرى رأي الخوارج.

    و عن خالد بن نزار : حدثنا عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : انّ عكرمة كان اباضياً ، و عن أبي طالب : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ، ولكنّه كان يرى رأي الصفريّة ، ولم يدع موضعاً إلا خرج إليه : خراسان و الشام و اليمن و مصر و إفريقيا ، كان يأتي الاُمراء فيطلب جوائزهم ، وأتى الجَنَدَ إلى طاوس ، فأعطاه ناقةً.

    و قال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه متولّي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده. و روى سليمان بن معبد السّنجي قال : مات عكرمة وكُثير عَزَّة في يوم ، فشهد الناس جنازة كُثير ، و تركوا جنازة عكرمة. و قال عبد العزيز الدراوردي : مات عكرمة و كثير عَزَّة في يوم ، فما شهدهما إلاّ سُودان المدينة. و عن إسماعيل بن أبي اُويس ، عن مالك ، عن أبيه ، قال : اُتي بجنازة عكرمة مولى ابن عباس و كثير عزّة بعد العصر ، فما علمت أنّ أحداً من أهل المسجد حلّ حبوته إليهما. و قال جماعة : مات سنة خمس و مائة ، و قال الهيثم و غيره : سنة ست ، و قال جماعة : سنة سبع و مائة. و عن ابن المسيب أنّه قال لمولاه بُرْد : لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. و يروى ذلك عن ابن عمر قاله لنافع (1) .

    وقد روي شيء كثير منه في التفاسير و هي مليئة بأقواله ، و يظهر ممّا نقل عنه أنّه يرى الحلف بالطلاق باطلاً ، روى الذهبي عن عاصم الأحول ، عن عكرمة

________________________________________

    1 ـ الذهبي : ميزان الاعتدال 3 / 93 ـ 97 برقم 5714.

________________________________________

(470)

في رجل قال لغلامه : إن لم اجلدك مائة سوط فامرأتي طالق. قال : لايجلد غلامه و لاتطّلق امرأته ، هذه من خطوات الشيطان (1) .

    و ترجمه أبو حاتم الرازي في الجرح و التعديل بذكر نقول مختلفة عنه (2) .

    و قد ترجمه ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب مفصّلاً ، و ذكر أيضاً الأقوال المتضاربة في حقّه (3) . و ممّا قال فيه ، قال علي بن المديني : كان عكرمة يرى رأي نجدة ، و قال يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة ، و قال عطاء : كان اباضياً ، و قال الجوزجاني : قلت لأحمد : عكرمة كان اباضياً؟ فقال : يقال إنّه كان صفريّاً. و قال خلاد بن سليمان ، عن خالد بن أبي عمران : دخل علينا عكرمة أفريقيا وقت الموسم فقال : وددت أنّي اليوم بالموسم بيدي حربة أضرب بها يميناً و شمالاً. قال : فمن يومئذ رفضه أهل أفريقيا ، و قال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج وزعم أنّ مولاه كان كذلك ، و قال أبو خلف الخزاز عن يحيى البكّاء : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتّق الله ويحك يا نافع ، و لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (4) .

 

2 ـ قطري بن الفجاءة (ت / 78) :

    أبو نعامة : قطري بن الفجاءة ، واسمه جعونة ، المازني الخارجي ، خرج

________________________________________

    1 ـ الذهبي : ميزان الاعتدال 3 / 97 برقم 5714 ، اشارة إلى قوله تعالى ( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الْشَّيْطَانِ ) ـ البقرة : 208 ـ.

    2 ـ أبو حاتم الرازي : الجرح و التعديل 7 / 6 ـ 11.

    3 ـ ابن حجر العسقلاني : تهذيب التهذيب 7 / 234 ـ 242 برقم 476 ، و لكنّه لم يترجمه في لسان الميزان مع وروده في الميزان للذهبي كما عرفت.

    4 ـ المصدر نفسه : 7 / 237.

(471)

في زمن مصعب بن الزبير لمّا ولي العراق نيابة عن أخيه : عبد الله بن الزبير ، و كانت ولاية مصعب في سنة ست و ستين للهجرة ، قيل : بقى قطري عشرين سنة يقاتِل و يسلم عليه بالخلافة و هو يستظهر عليهم. و لم يزل إلى أن توجّه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي فظهر عليه و قتله في سنة ثمان و سبعين للهجرة.

    و هو معدود في جملة الخطباء العرب المشهورين بالبلاغة و الفصاحة (1) .

    نقل الجاحظ خطبة واحدة منه ، و التأمّل فيها يعرب أنّه كان منطيقاً ذلق اللسان ، قال فيها : أمّا بعد فإنّي اُحذّركم الدنيا ، فإنّها حلوة خضرة ، حُفَّت بالشهوات ، و راقت بالقليل ، و تحبّبت بالعاجلة ، و حُلِيتْ بالآمال ، و تزيّنت بالغرور ، لاتدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، خوَّانة غدّارة (2) .

    روي أنّ الحجاج قال لأخيه : لأقتلنّك ، فقال : لم ذلك؟ قال : لخروج أخيك ، قال فإنّ معي كتاب أمير المؤمنين (يريد عبد الملك) أن لا تأخذني بذنب أخي ، قال : هاته ، قال : فمعي ما هو أوكد منه ، قال : ما هو؟ قال : كتاب الله عزّوجل يقول : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (3) فعجب منه و خلّى سبيله (4) .

    و ترجمه خير الدين الزركلي في الأعلام (5) و يظهر فيما نقله من تاريخ الطبري أنّه توفّي سنة 77 هـ. و الله العالم.

 

3 ـ عمران بن حطّان السدوسي البصري (ت / 84) :

    عمران بن حطّان السدوسي البصري الخارجي ، روى عن عائشة ، و عنه

________________________________________

    1 ـ ابن خلكان : و فيات الأعيان 4 / 94 ـ 95.

    2 ـ الجاحظ : البيان والتبيين 2 / 112.

    3 ـ الأنعام : 164.

    4 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 4 / 94 ـ 95.

    5 ـ الاعلام : 5 / 200.

________________________________________

(472)

صالح بن سَرج ، لايتابع على حديثه ، قاله العقيلي ، قال : و كان خارجياً. روى موسى بن إسماعيل عن عمرو بن العلاء ولقيه جرز ، حدثنا صالح بن سرج ، عن عمران بن حطّان ، عن عائشة في حساب القاضي العادل. قلت كان الأولى أن يلحق الضعف في هذا الحديث بصالح أو بمن بعده ، فإنّ عمران صدوق في نفسه ، قد روى عنه يحيى بن ابي كثير ، و قتادة ، و محارب بن دثار. و قال العجلي : تابعي ثقة. و قال أبو داود : ليس في أهل الأهواء ، أصحّ حديثاً من الخوارج ، فذكر عمران بن حطان و أبا حسان الأعرج. و قال قتادة كان لاّيتهم في الحديث. و روى يعقوب بن شيبة أنّه بلغه أنّ عمران بن حطّان كانت له بنت عم كانت ترى رأي الخوارج فتزوّجها ليردّها عن ذلك فصرفته الى مذهبها. وكان عمران من نظراء جرير و الفرزدق في الشعر ، و هو القائل :

حتى متى تُسقى النفوس بكأسها                       ريب المنون وأنت لاه ترتع

    الأبيات.

    مات سنة أربع و ثمانين (1) .

    و ترجمه ابن حجر في تهذيب التهذيب و قال : ذكر أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل عن محمّد بن بشر العبدي الموصلي قال : لم يمت عمران بن حطّان حتى رجع عن رأي الخوارج انتهى ، هذا أحسن ما يعتذر به عن تخريج البخاري له ، و أمّا قول من قال : إنّه خرج ما حمل عنه قبل أن يرى ما رأى ففيه نظر ، لأنّه اخرج له من رواية يحيى بن أبي كثير عنه ، و يحيى إنّما سمع منه في حال هربه من الحجاج و كان الحجاج يطلبه ليقتله من أجل المذهب ، و قصته في هربه مشهورة. و قال العقيلي : عمران بن حطّان لايتابع و كان يرى رأي الخوارج يحدّث عن عائشة و لم يتبّين سماعه منها.

________________________________________

    1 ـ الذهبي : ميزان الاعتدال 3 / 235 ـ 236 برقم 6277.

________________________________________

(473)

    و قال ابن حبّان في الثقات : كان يميل إلى مذهب الشراة. و قال ابن البرقي : كان حرورياً. و قال الدارقطني : متروك لسوء اعتقاده و خبث مذهبه. و قال المبرد في الكامل : كان رأس القعد من الصفرية و فقيههم و خطيبهم و شاعرهم ، و القعدة : الخوارج ، كانوا لايرون بالحرب بل ينكرون امراء الجور حسب الطاقة و يدعون إلى رأيهم و يزيّنون مع ذلك الخروج و يحسّنونه. لكن ذكر أبو الفرج الاصبهاني انّه إنّما صار قعدياً لما عجز عن الحرب والله أعلم ، قلت : وكان من المعروفين في مذهب الخوارج ، و كان قبل ذلك مشهوراً بطلب العلم و الحديث ثم ابتلي ، و أنشد له من شعره :

لا يعجز الموت شيء دون خالقهو كل كرب أمام الموت منقشع                               و الموت يفني إذا ما ناله الأجلو الكرب و الموت ممّا بعده جلل (1)

    و في الأغاني إنّما صار ابن حطّان من القعدية لأنّ عمره طال وكبر و عجز عن الحرب و حضورها ، فاقتصر على الدعوة و التحريض بلسانه ، و كان أوّلاً مشمّراً بطلب العلم والحديث ثمّ بلي بذلك المذهب ، وقد أدرك صدراً من الصحابة و روى عنهم و روى عنه أصحاب الحديث. وله شعر في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ قاتل أمير المؤمنين و قائد الغر المحجّلين زوج البتول و صهر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) :

لله در المرادي الّذي سفكتأمسى عشية غشاه بضربتهيا ضربة من تقي ما أراد بهاإنّي لأذكره حيناً فأحسبه                               كفّاه مهجة شر الخلق إنسانامعطى مناه من الآثام عرياناإلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناأوفى البريّة عند الله ميزانا

________________________________________

    1 ـ ابن حجر العسقلاني : تهذيب التهذيب 8 / 113 ـ 114 برقم 223. راجع الاصابة 3 / 178.

________________________________________

(474)

    و قد أجابه عنها السيد الحميري الشيعي و هي :

قل لابن ملجم والأقدار غالبةقتلت أفضل من يمشي على قدمو أعلم الناس بالإيمان ثمّ بماصهر الرسول و مولاه و ناصره                          هدّمت و يلك للإسلام أركاناو أوّل الناس إسلاماً وإيماناسنّ الرسول لنا شرعاً و تبياناأضحت مناقبه نوراً و برهانا

الابيات (1) .

    و قد ناضله أصحاب الولاء لآل الرسول باشعار كثيرة مضت بعضها فلا حظ.

    و في الختام : من أراد التبسّط في ترجمة الرجال فليرجع إلى « الخوارج في العصر الأموي » للدكتور نايف معروف فقد ذكر قسماً كثيراً من أشعاره و حياته قبل أن يلحق بالخوارج فلاحظ.

 

4 ـ الطرماح بن حكيم (ت 125) :

    الطرماح بن حكيم الطائيّ الخارجي. و صفه الجاحظ في البيان و التبيين أنّه كان خارجيّاً من الصفرية ، ولد ونشأ في الشام ، و انتقل إلى الكوفة ، فكان معلّماً فيها. و اتصل بخالد بن عبد الله القصري فكان يكرمه و يستجيد شعره ، و كان هجّاءً ، معاصراً للكميت صديقاً له لايكادان يفترقان ، و ذكر شيخنا في الذريعة أنّ المرزباني عمل كتاباً باسم « أخبار الطرمّاح » كما عمل كتاباً آخر باسم « أخبار ابي تمام » (2) .

________________________________________

    1 ـ البغدادي : خزانة الأدب 2 / 436 ـ 437.

    2 ـ الزركلي : الأعلام 3 / 225 ، و آغا بزرك الطهراني : الذريعة 1 / 238 برقم 1764.

________________________________________

(475)

5 ـ الضحّاك بن قيس :

    الضحاك بن قيس مذكور في التاريخ بما أنّه قائد عسكري قد دوّخ الدولة الأموية في عصره ، ولم يوصف بشيء من العلم والشعر والأدب سوى القيادة ، و قد نقل ابن الأثير حروبه مع الأمويين و إليك خلاصة ما ذكره في تاريخه على نحو يوقفه على ترجمة الرجل على نحو الاجمال :

    أرسل مروان بن محمد ـ آخر الخلفاء الأمويين ـ جيشاً لحرب الضحاك سنة سبع و عشرين و مائة ، فالتقوا بالنخيلة فاقتتلوا قتالاً شديداً و انتصر الضحاك عليهم ، و دخل ضحاك الكوفة مستولياً عليها (1) .

    ثم سار الضحاك من الكوفة إلى واسط يريد حرب فلول المنهزمين ، و كانوا قد استعدّوا لحربه ، فتحاربوا شعبان و شهر رمضان و شوال و القتال بينهم متواصل.

    ثمّ اصطلحوا و ذهب الضحاك إلى الكوفة (2) ، و كاتب أهل الموصل ليقدم عليهم ليمكّنوه منها فسار بجماعة من جنوده بعد عشرين شهراً حتى انتهى إليها ففتح أهل البلد ، فدخلها الضحاك و قتل الوالي عليها من قبل مروان و عدّة يسيرة كانوا معه و ذلك بعد أن حاربوه.

    و بلغ مروان خبره و هو محاصر حمص ، مشتغل بقتال أهلها ، فكتب إلى ابنه عبد الله و هو خليفته في الجزيرة ، يأمره أن يسير إلى نصيبين في من معه يمنع الضحاك من توسّط الجزيرة ، فسار إليها في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف ، و سار الضحّاك و معه ما يزيد على مائة ألف. و وجّه قائدين من قواده إلى السرقة في أربعة آلاف أو خمسة آلاف ، فقاتله بها ، فوجّه إليهم مروان من أبعدهم عن

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل 5 / 332 ـ 336.

    2 ـ ابن الاثير : الكامل 5 / 349.

________________________________________

(476)

السرقة.

    و سار مروان إلى الضحاك فالتقوا بنواحي كفر قوتا من اعمال ماردين فقاتله يومه أجمع ، فلمّا كان عند المساء ترجّل الضحاك و معه من ذوي الثبات والبصائر نحو من ستّة آلاف ، ولم يعلم أكثر أهل عسكره بما كان ، فأحدقت بهم خيول مروان و ألحوا عليهم في القتال حتى قتلوهم عند العتمة.

    و انصرف من بقي من أصحاب الضحاك عند العتمة إلى معسكرهم و لم يعلموا بقتل الضحاك و لم يعلم به مروان يضاً ، و جاء بعض من عاينه من أصحابه فبكوا وناحوا عليه ، و جاء قائد من قواده إلى مروان فأخبره بقتله فأرسل معه النيران و الشمع ، فطافوا عليه فوجدوه قتيلاً و في وجهه و رأسه أكثر من عشرين ضربة فكّبروا فعرف عسكر الضحاك انّهم قد علموا بقتله.

    و بعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها (1) .

 

6 ـ معمر بن المثنى (110 ـ 213) :

    أبو عبيدة ، التيمي (2) البصري ، يصفه الخطيب في تاريخه بالنحويّ العلاّمة ، يقال : إنّه ولد سنة 110 في الليلة الّتي ولد فيها الحسن البصري ، و نقل عن الجاحظ أنّه قال : لم يكن في الأرض خارجي و لاجماعيّ أعلم بجميع العلوم منه (3) .

    قال ابن قتيية : كان الغريب (4) أغلب عليه و اخبار العرب و أيّامها ، وكان

________________________________________

    1 ـ ابن الاثير : الكامل 5 / 349.

    2 ـ كان تيميّاً بالولاء.

    3 ـ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 13 / 252 برقم 7210.

    4 ـ المراد غريب اللغة أو غريب القرآن و الحديث.

________________________________________

(477)

مع معرفته ربّما لايقم البيت إذا أنشده ، حتى يكسره ، و كان يخطأ إذا قرأ القرآن الكريم نظراً ، و كان يبغض العرب ، و ألّف في مثالبها كتباً ، و كان يرى رأي الخوارج (1) .

    و نقل ابن خلكان عن بعضهم : أنّ هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة 188 ، و قرأ عليه بها أشياءً من كتبه ، و أسند الحديث إلى هشام بن عروة و غيره و روى عنه علي بن المغيرة الأثرم ، و أبو عبيد القاسم بن سلام ، و أبو عثمان المازني ، و أبو حاتم السجستاني و عمر بن شبة و غيرهم.

    و لأجل إلمام القارئ على نموذج من تفسيره نأتي بما يلي :

    سأله رجل عن قوله سبحانه : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَـهَا فِتْنَةً لِّلظَّـلِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى  أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ * فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (2) .

    سأله عن قوله : ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ ) و قال : إنّما يقع الوعد و الايعاد بما عرف مثله ، وهذا لم يعرف فأجاب : إنّما كلّم الله العرب على قدر كلامهم. أما سمعت قول أمرئ القيس :

أيقتلني و المشرفّي مُضاجعي                           و مسنونة زرقٌ كأنياب أغوال

    و هم لم يروا الغول قطّ ، و لكنّه لمّا كان أمر الغول يهولهم ، أو عدوا به.

    ثم يقول : و أزمعت منذ ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا و أشباهه و لما يحتاج إليه من علمه ، ولمّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الّذي سمّيته المجاز (3) .

________________________________________

    1 ـ ابن قتيية : المعارف 243.

    2 ـ الصافات : 62 ـ 66.

    3 ـ ابن خلكان : و فيات الاعيان 5 / 236 تحقيق الدكتور احسان عباس. ولا حظ : مجاز القرآن لأبي عبيدة ج2.

________________________________________

(478)

    و قد ذكر ابن خلّكان أنّه لم يزل يصنّف حتّى مات ، و تصانيفه تقارب مائتي تصنيف ، ، فمنها كتاب « مجاز القرآن الكريم » و كتاب « غريب القرآن » و كتاب « معاني القرآن » و كتاب « غريب الحديث » ... (1) و يبدو من فهرس تصانيفه أن أكثرها يدور بين اللغة و الشعر و التاريخ و ما يشابهها ، و الّذي أثار عواطف الاُمّة العربية ضدّه أنّه ألّف كتاب « لصوص العرب » و كتاب « فضائل الفرس » ، و من المعلوم أنّ العصبية العمياء لاتحبّ كلا التأليفين.

    يقول ابن خلكان : لمّا جمع كتاب المثالب ، و لعلّ مراده هو « لصوص العرب » ، قال له رجلٌ مطعون النسب : بلغني أنّك عبت العرب جميعها ، فقال : « و ما يضّرك ، أنت من ذلك بريء »! يعني أنّه ليس منهم ، و يذكر ابن خلكان أيضاً : أنّه لايقبل أحد من الحكّام شهادته لأنه كان يتّهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي : دخلت أنا و أبو عبيدة يوماً المسجد فإذا على الاسطوانة الّتي يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب على نحو من سبعة أذرع.

صلّى الإله على لوط و شيعته                            أبا عبيدة قل بالله آمينا

    فقال لي : يا أصمعي! امحُ هذا ، فركبت على ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال : أثقلتني و قطعت ظهري ، فقلت له : قد بقي الطاء. فقال : هي شرّ حروف هذا البيت! (2) .

    أقول : إنّ الأصمعي كان ممّن ينصب العداء على عليّ ، و أبا عبيدة كان من الخوارج ، و الجنس إلى الجنس يميل « والمرء على دين خليله و قرينه » و قال سبحانه حاكياً عن المجرمين ( يَـوَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ) (3) و قال

________________________________________

    1 ـ ابن خلكان : و فيات الاعيان 5 / 238 تحقيق الدكتور احسان عباس.

    2 ـ المصدر نفسه : 242.

    3 ـ الفرقان : 28.

________________________________________

(479)

سبحانه : ( الاَْخِلاَّ ءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمـُتَّقِينَ ) (1) ، و مع ذلك كلّه فيحتمل أن تكون القصّة مختلقة من جانب الأعداء لأنّهم كانوا يرون أمثال أبي عبيدة من المبتدعة الذين تجوز مباهتتهم إبعاداً للناس عن ضلالهم.

 

مجاز القرآن لأبي عبيدة :

    لم يصل إلينا من كتب أبي عبيدة مع كثرتها غير كتاب مجاز القرآن ، و قد عرفت أنّ ابن خلّكان ذكر له أسماء كتب ثلاثة حول القرآن و زاد ابن النديم كتاب « اعراب القرآن » و هل ألّف أبو عبيدة كتباً بهذه الأسماء أو هي أسماء متعدّدة و المسمّى واحدٌ؟ فقد رجّح محقّق كتاب مجاز القرآن الثاني و قال : « و الّذي نظنّه أن ليس هناك لأبي عبيدة غير كتاب المجاز » ، و أنّ هذه الأسماء اُخذت من الموضوعات الّتي تناولها « المجاز » فهو يتكلّم في معاني القرآن ، و يفسّر غريبه ، و في أثناء هذا يعرض لاعرابه ، و يشرح أوجه تعبيره ، و ذلك ما عبّر عنه أبو عبيدة بمجاز القرآن ، فكلّ سمّى الكتاب بحسب أوضح الجوانب الّتي تولّى الكتاب تناولها ، و لفتت نظره أكثر من غيرها ، ولعلّ ابن النديم لم ير الكتاب ، و سمع هذه الأسماء من أشخاص متعدّدين فذكر لأبي عبيدة في موضوع القرآن هذه الكتب المختلفة الأسماء.

    ثمّ إنّ التأليف في غريب القرآن كثير ، و ربّما يعبّر عن بعضه بمعاني القرآن ، كما هو الحال في كتاب الفرّاء ، و ربما يعبّر عنه بمجازات القرآن كما هو الحال في تأليف الشريف الرضي ، و أمّا الفرق بين كتاب أبي عبيدة و كتاب الرضيّ و قد اشتهر الأوّل بمجاز القرآن ، و الثاني بمجازات القرآن ، هو أنّ الأوّل يستعمل لفظ المجاز بمعنى مفهوم الكلمة و الآية ، بخلاف الثاني فإنّه يستعمله في الجامع بين

________________________________________

    1 ـ الزخرف : 67.

________________________________________

(480)

المجاز اللغويّ و الكناية و الاستعارة ، و لكل مزية ، و على كلّ تقدير فأثر أبي عبيدة أثر متقن مفيد جدّاً ، و قد قام بتحقيقه الدكتور محمّد فؤاد سزگين في جزئين ، و قد طبع للمرّة الثانية في سنة 1401 هـ.

    و قد اختلفت الأقوال في تاريخ و فاته ، فنقل الخطيب عن بعضهم أنّه مات سنة 209 هـ ، و عن آخر سنة 211 هـ ، و عن ثالث 210 هـ و قيل سنة 213 ، و الله العالم.

    و لنكتف بما ذكر من رجال الخوارج في العصور الأولى و قد تعرّفت على عدّة من رجالهم في ثنايا الكتاب لاسيّما القادة العسكريين.

    بقيت هنا كلمة و هي أن نعطف نظر القارئ إلى ما روي عن النبي الأكرم في حقّ المحكّمة الاُولى و أثر في حقّهم عن الصحابة و التابعين لهم باحسان ، و قد جميعها إمام الحنابلة أحمد بن حنبل و رواه عنه ابنه عبد الله في كتاب « السنّة » (1) واليك متونها مع أسانيدها :

    بما أنّ الاباضية لايرون أنفسهم خوارج و نحن أيضاً نربئ بهم عن كونهم منهم على الشروط الّتي قدّمناها في الكتاب ، فلا أراهم متضايقين من هذه الآثار الّتي لو تدّبر فيها القارئ يراها من قسم المتواتر المعنوي و لا يحقّ لأحد أن يشكّ في ما يهدف إليه جمعها :

 

المأثور حول الخوارج :

    1 ـ حدثني أبي ، حدثنا وكيع جرير بن حازم و أبو عمرو بن العلاء ، عن ابن سيرين سمعاه عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد ، و لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان نبيّه » قال عبيدة : قلت لعلي :

________________________________________

    1 ـ عبد الله بن أحمد بن حنبل : السنّة 267 ـ 286.

(481)

أنت سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة.

    2 ـ حدثني أبو محمّد بن عبد الرحيم البزار ، قال : و أنا شبابة أخبرني أبو عمرو بن العلاء ، حدثنا ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، قال : و الله لولا أن تبطروا لحدّثتكم على لسان نبيّكم ، الذين يقتلونهم علامتهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد ، قال : فقلت : أنت سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : نعم سمعته من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) غير مرّة و لا مرّتين و لا ثلاث و لا أربع.

    3 ـ حدثني عبيدالله بن عمر القواريري ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن محمّد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال ذكر علي أهل النهروان فقال : فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد ، أو مخدج اليد ، لولا أن تبطروا لنبّأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال قلت : أنت سمعته منه؟ قال : أي وربّ الكعبة.

    4 ـ حدثني إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، حدثنا وكيع ، حدثنا جرير بن حازم ، عن أبن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : (إنّه سيخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد ، و لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الذين يقتلونهم على لسان نبيّه ، قال عبيدة : قمت إلى علي فقلت : أنت سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة. قال وكيع : مودن اليد : ناقص اليد ، و المخدج : ضامره ، و مثدون اليد : فيها شعرات زائدة.

    5 ـ حدثني أبي و أبو خيثمة قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ،

 

________________________________________

(482)

حدثنا أيّوب ، عن محمّد ، عن عبيدة ، عن علي قال : ذكر الخوارج فقال : فيهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد ، لولا أن تبطروا لحدّثتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمّد ، قلت : أنت سمعته من محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة.

    6 ـ حدثني أبي ، حدثني وكيع ، حدثنا جرير بن حازم وأبو عمرو بن العلاء سمعاه من ابن سيرين ، فذكر الحديث إلاّ أنّه قال : مثدون.

    7 ـ حدثني سويد بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن أيوب ، عن محمّد ، عن عبيدة ، عن علي قال : لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما أعدّالله لمن قتلهم ، فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد ، قال عبيدة : أنت سمعتها من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة ثلاثاً.

    8 ـ حدثني محمّد بن أبي بكر بن علي المقدمي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب و هشام ، عن محمّد ، عن عبيدة : انّ عليّاً ذكر أهل النهروان فقال : فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد ، لولا أن تبطروا لنبّأتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمّد ، فقلت لعلي : أنت سمعته؟ قال : أي وربّ الكعبة.

    9 ـ حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سويد بن غفلة ، عن علي قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يكون في آخر الزمان قوم يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة ، قتالهم حقّ على كل مسلم ».

    10 ـ حدثني أبي ، حدثنا محمّد بن أبي عدي أبو عمرو دكين من الرجال ما أشبهه بالشيوخ ، عن ابن عون ، عن محمّد قال : قال عبيدة : لا اُحدّثك إلاّما

 

________________________________________

(483)

سمعته منه ، قال محمّد : فحلف لي عبيدة ثلاث مرار و حلف له علي قال : لولا أن تبطروا لنبّأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمّد. قلت أنت سمعته منه؟ قال : أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة ، أي ورب الكعبة ، فيهم رجل مخدج اليد أو مثدون اليد ، قال : قال محمّد : فطلب ذاك الرجل فوجدوه في القتلى رجل عند أحد منكبيه كهيئة الثدي عليه شعرات.

    11 ـ حدثني محمّد بن أبي بكر المقدمي : قال حماد بن يحيى ـ يعني الأبح ـ قال : حدثنا ابن عون ، عن محمّد ، عن عبيدة ، قال : لمّا قتل علي أهل النهروان ، قال : التمسوا في القتلى رجلاً مخدج اليد ، فالتمسوه فوجدوه في حفرة تحت القتلى فاستخرجوه ، فأقبل علي على أصحابه ، فقال : لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما وعد الله من يقتل هؤلاء على لسان محمّد ، قلت : أنت سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : أي وربّ الكعبة ، أي وربّ الكعبة ثلاث مرات.

    12 ـ حدثني أبي ، حدثنا محمّد بن أبي عدي ، عن سليمان ، عن التيمي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : انّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ذكر قوماً يكونون في اُمّته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق و هم شرّ الخلق أو من شرّ الخلق يقتلهم أذى الطائفتين من الحق ، قال : فضرب لهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) مثلاً أو قال قولاً : الرجل يرمي الرميّة أو الغرض فينظر في الفصل فلا يرى بصيرة ، و ينظر في النضي فلا يرى بصيرة ، و ينظر في الفوق فلا يرى بصيرة قال : قال أبو سعيد : و أنتم قتلتموهم يا أهل العراق.

    13 ـ حدثني أبو معمّر الهذلي إسماعيل بن إبراهيم بن معمّر الهروي ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، انا عاصم بن كليب ، عن أبيه ، قال كنت جالساً عن علي إذ جاء رجل عليه ثياب السفر فاستأذن على علي و هو يكلّم الناس فشغل

 

________________________________________

(484)

عنه ، فأقبلنا فسألناه من أين قدمت؟ ما خبرك؟ قال : خرجت معتمراً فلقيت عائشة ، فقالت ما هؤلاء الذين خرجوا من بلادكم يسمّون حروراً؟ قال : قلت : خرجوا من أرضنا إلى مكان يسمّى حروراء به يدعون ، قالت طوبى لمن قتلهم ، أما و الله لوشاء ابن أبي طالب لخبرهم خبرهم ، قال : فأهلّ علي و كّبر ثمّ أهلّ وكّبر ثم أهل وكّبر ، فقال لي : إني دخلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وعنده عائشة فقال لي « كيف أنت و قوم كذا وكذا » قال عبد الله بن ادريس : وصف صفتهم ، قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : « قوم يخرجون من قبل المشرق يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فيهم رجل مخدج اليد كأنّ يده ثدي حبشيّة ، أنشدكم الله هل أخبرتكم أنّه فيهم فاتيتموني فأخبرتموني أنّه ليس فيهم ، فحلفت بالله لكم إنّه فيهم ، فأتيتموني تسحبونه كما نعت لكم؟ قالوا : اللّهمّ نعم ، قال : فأهلّ علي و كّبر.

    14 ـ حدثني أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمّد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، قال : كنت جالساً عن علي و هو في بعض أمر الناس إذ جاء رجل عليه ثياب السفر ، ثمّ قال علي : كنت عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وليس عنده إلا عائشة فقال : « ياعلي » كيف ، مرتين أو ثلاثة ، فذكر الحديث بطوله.

    15 ـ حدثني زهير بن حرب أبو خيثمة ، حدثنا القاسم بن مالك المزني ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، قال : كنت جالساً عند علي فقال : إنّي دخلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وليس عنده أحد إلاّ عائشة ، فقال : « يا ابن أبي طالب كيف أنت و قوم كذا وكذا » قال : قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : « قوم يخرجون من المشرق يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فيهم رجل مخدج اليد كأنّ يده ثدي حبشية ».

 

________________________________________

(485)

    16 ـ حدثني علي بن حكيم الأودي ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن سويد بن غفلة ، قال : خطبنا علي ، فقال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يخرج في آخر الزمان شباب أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرّية ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فمن لقيهم فليقتلهم فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله يوم القيامة ».

    17 ـ حدثني أبي و أبو خيثمة قالا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن خيثمة ، عن سويد بن غفلة قال : قال علي : ما حدّثتكم عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) حديثاً فلأن أخرّ من السماء أحب إليّ من أن أكذب عليه و إذا حدّثتك عن غيره فإنّما أنا محارب و الحرب خدعة سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البريّة ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ».

    18 ـ حدّثني محمّد بن عبد الله بن نمير الهمداني ، حدثنا يعلى و وكيع ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن سويد بن غفلة ، عن علي ، قال : إذا حدّثتكم عن رسول الله حديثاً ، سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « سيخرج قوم في آخر الزمان قوم أحداث الاسنان » ، فذكر الحديث.

    19 ـ حدّثني أبو كامل الجحدري فضيل بن الحسين بن كامل ، حدثنا إبراهيم بن حميد الكوفي الرواسي بالبصرة جاء إلى عبادان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن سويد بن غفلة قال : علي : إذا حدّثتكم فيما بيني و بينكم فإنّ الحرب خدعة ، و إذا حدّثتكم عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فإنّي و الله لأن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبّ إليّ من أن أكذب عليه ، وإنّي سمعته يقول : « سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث

 

________________________________________

(486)

الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البريّة ثم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فمن لقيهم فليقتلهم فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة.

    20 ـ حدثني أبو كريب محمّد بن العلاء الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق عن أبي قيس الأودي ، عن سويد بن غفلة ، عن علي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « يخرج في آخر الزمان قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة قتالهم حقّ على كلّ مسلم ».

    21 ـ حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سويد بن غفلة ، عن علي قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يكون في آخر الزمان قوم يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة ، قتالهم حقّ على كلّ مسلم ».

    22 ـ حدّثني أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش : قال أبي و عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن سويد بن غفلة قال : قال علي : إذا حدّثتكم عن رسول الله حديثاً فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه و إذا حدّثتكم فيما بيني و بينكم فإنّ الحرب خدعة ، سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء » ، و قال عبد الرحمن في آخر حديثه : أسفاه الأحلام ، فذكر الحديث بطوله إلى آخره.

    23 ـ حدثنا أحمد بن جميل أبو يوسف ، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سلمة بن كهيل ، عن زيد بن وهب قال : لمّا خرجت الخوارج بالنهروان قام علي في أصحابه فقال : إنّ هؤلاء القوم قد سفكوا الدم الحرام ، و أغاروا في سرح الناس ، و هم أقرب العدو

 

________________________________________

(487)

إليكم و إن تسيروا إلى عدوّكم فأنا أخاف أن يخلفكم هؤلاء في أعقابكم أنّي سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : يخرج خارجة من اُمّتي ليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، و لا قرآنكم إلى قرآنهم بشيء ، يقرأون القرآن يحسبون أنّه لهم و هو عليهم ، لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمّية ، و آية ذلك إنّ فيهم رجلاً له عضد و ليس له ذراع عليها مثل حلمة الثدي عليها شعرات بيض ، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم مالهم على لسان نبيّهم ، لاتّكلوا عن العمل فسيروا على اسم الله و الله إنّي لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم ، قال : فما زال أبو سليمان يسيّرنا منازل على منزلاً منزلاً حتى قال : أخذنا على قنطرة الديزجان ، قال فلمّا التقينا قام فيهم أميرهم عبد الله بن وهب الراسبي قال : إنّي اُذكّركم بالله الاّ القيتم رماحكم و أشرعتم السيوف و حملتم حملة رجل واحد لا تناشدوا كما تناشدتم يوم حروراء فترجعوا ، قال : فحملوا علينا حلمة رجل واحد فشجرهم الناس برماحهم فقتلوا بعضهم قريباً من بعض و لم يقتل من الناس يومئذ إلاّ رجلان ، فقال علي : التمسوا هذا الرجل ، قال فالتمسوه فلم يجدوه ، قال : فقام علي وأنّا لنرى على وجهه كآبة حتى أتى كبكبة منهم قد ركب بعضهم بعضاً ، فأمر بهم ففرجوا يميناً و شمالاً فوجدوه ممّا يلي الأرض فقال : الله أكبر ، صدق الله و بلّغ رسوله ، فقام إليه عبيدة السلمان فاستحلفه ثلاثة ايمان : أنت سمعت هذا الحديث من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ و كل ذلك يحلف له علي.

    24 ـ حدثني محمّد بن عبيد بن محمّد المحاربي بالكوفة ، حدثنا أبو مالك الختلي عمرو بن هاشم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، حدثني عمرو بن قيس ، عن المنهال بن عمرو ، عن زر بن حبيش أنّه سمع علياً يقول : أنا فقأت عين الفتنة ، و لولا أنا ما قوتل أهل النهر و لا أهل الجمل ، و لولا أنّي أخشى أن

 

________________________________________

(488)

تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على لسان نبيّكم لمن قاتلهم مبصراً لضلالتهم عارفاً للهدى الّذي نحن فيه.

    25 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا أسود بن عامر ، حدّثنا حماد بن سلمة ، عن معاوية بن قرة ، قال : هلكت الخوارج و الأهواء.

    26 ـ حدّثني أبي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب قال : لمّا كان يوم النهر لعن علي الخوارج ، فلم يبرحوا حتى شجروا بالرماح ، فقتلوا جميعاً ، فقال علي : ما كذّبت و لا كذّبت اُطلبوا ذا الثدية ، قال : فطلبوه فلم يجدوه ، فقال علي : ما كذبت و لا كذّبت اطلبوه ، فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناس من القتلى ، فإذا رجل على ثديه مثل سبلة السنور ، قال : فكبّر علي و أعجبه ذلك و الناس. و قال أبو معاوية مرة : وكّبر علي و كّبر الناس.

    27 ـ حدّثني عباد بن زياد بن موسى الأسدي ، حدثنا شريك ، عن محمّد بن قيس ، عن أبي موسى شيخ لهم شهد مع علي قال : قال علي يوم النهر : اطلبوا ذا الثدية ، فطلبوه فلم يجدوه ، فجعل يعرق جبينه و يقول : و الله ما كذبت و لا كّذبت ، قال : فوجد فاستخرج من ساقية من تحت قتلى فسجد سجدة الشكر.

    28 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا القاسم بن الوليد الهمداني ، حدّثنا إسرائيل ، حدّثنا إبراهيم ـ يعني ابن عبد الأعلى ـ عن طارق بن زياد قال : خرجنا مع علي إلى الخوارج فقتلهم ، ثم قال : انظروا فإنّ نبي الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : سيخرج قوم يتكلّمون بالحق ولا يجوز حلقهم ، يخرجون من الحق كما يخرج السهم من الرميّة ، سيماهم انّ منهم رجلاً أسود مخدج اليد ، في يده شعرات سود ، إن كان هو فقد قتلتم شرّ الناس ، و إن لم يكن هو فقد قتلتم خير الناس ، فبكينا ، ثمّ قال : اطلبوا ، فوجدنا المخدج فخررنا سجوداً و خرّ علي معنا

 

________________________________________

(489)

ساجداً غير أنّه قال : يتكلّمون بكلمة الحقّ.

    29 ـ حدّثني عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا عبد الرحمن بن العريان الحارثي ، حدثنا الأزرق بن قيس ، عن رجل من عبد القيس قال : شهدت علياً يوم قتل أهل النهروان قال : قال علي حين قتلوا : عليَّ بذي الثدية أو المخدوج ، ذكر شيئاً من ذلك لا أحفظه قال : فطلبوه فإذا هم بحبشي مثل البعير في منكبه مثل ثدي المرأة عليه. قال عبد الرحمن : أراه شعراً و لو تخرج روح انسان من الفرح لخرج روح علي يومئذ ، قال : صدق الله و رسوله من حدّثني من الناس أنّه رآه قبل مصرعه هذا فإنّه كذّاب.

    30 ـ حدّثني علي بن حكيم الأودي ، حدّثنا شريك ، عن عثمان بن أبي زرعة ، عن زيد بن وهب ، قال قدم علي على قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقاله له الجعد بن بعجة ، فقال له : أتّق الله يا علي فإنّك ميّت ، فقال علي : بل مقتول قتلاً ضربة على هذا يخضّب هذه ـ يعني لحيته من رأسه ـ عهد معهود و قضاء مقضي و قد خاب من افترى ، و عاتبه في لباسه ، فقال : مالكم و للباسي هو أبعد من الكبر و أجدر أن يقتدي بي المسلم.

    31 ـ حدّثني أبي حدثنا يزيد بن هارون ، أنا هشام عن محمّد ، عن عبيدة ، قال : قال علي لأهل النهر : فيهم رجل مثدون اليد ، أو مخدج اليد ، و لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما قضى الله على لسان نبيّه لمن قتلهم ، قال عبيدة : فقلت لعلي : أنت سمعته؟ قال : نعم وربّ الكعبة ، يحلف عليها ثلاثاً.

    32 ـ حدّثني أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن عاصم الأحول ، عن عون بن عبد الله ، قال : بعثني عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج اُكلّمهم فقلت لهم : هل تدرون ما علامتكم في وليّكم الّتي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم و كان بها ولّيكم ، و ما علامتكم في عدوّكم الّتي إذا لقيكم بها خاف عندكم و كان بها

 

________________________________________

(490)

عدوّكم؟ قالوا : ما ندري ما تقول؟ قلت : فإنّ علامتكم عند وليّكم الّتي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم و كان بها وليكم أن يقول : أنا نصراني أو يهودي أو مجوسي ، و علامتكم عند عدوّكم الّتي إذا لقيكم بها خاف بها عندكم و كان بها عدوّكم أن يقول : أنا مسلم.

    33 ـ حدثني وهب بن بقية الواسطي ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن ميسرة ، قال : قال أبو جحيفة : إنّ عليّاً حين فرغ من الحرورية قال : إنّ فيهم رجلاً مخدج اليد ليس على عضده عظم ، في عضده حلمة كحلمة الثدي عليها شعرات طوال عقف ، فالتمس فلم يوجد ، ثمّ التمس فلم يوجد ، قال : و أنا فيمن يلتمس فما رأيت عليّاً جزع قط أشدّ من جزعه يومئذ ، قالوا : ما نجده يا أمير المؤمنين. قال : ما اسم هذا المكان؟ قالوا : النهروان. قال كذبتم انّه فيهم فالتمسوه ، قال : فثورنا القتلى فلم نجده ، فعدنا إليه فقلنا : يا أمير المؤمنين ما نجده ، فسأل عن المكان ، فاُخبر ، فقال : صدق الله و رسوله و كذبتم انّه لفيهم فالتمسوه ، فالتمسناه فوجدناه في ساقية فجئنا به فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم عليها حلمة كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف.

    34 ـ حدّثني أبي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني أبو عبيدة بن محمّد بن عمار بن ياسر ، عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال خرجت أنا و تليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص و هو يطوف بالبيت معلّقاً نعله بيده فسألته : هل حضرت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) حين كلّمه التميمي يوم حنين؟ قال : نعم ، أقبل رجل من بني تميم يقال له ذي الخويصرة فوقف على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) و هو يعظ الناس ، فقال : يا محمّد قد رأيت ما

(491)

صنعت في هذا اليوم. فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « و كيف رأيت؟ » قال : لم أرك عدلت. قال : فغضب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ثمّ قال : « ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ » فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ألا نقتله؟ قال : « لا ، دعوه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة ، فينظر في النصل فلا يوجد شيء ، ثمّ في القدح فلا يوجد شيء ، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث الدم ».

    35 ـ حدّثني أبي ، حدثني يعقوب ، حدثنا ابي ، عن ابن إسحاق ، قال : و حدثني محمّد بن علي بن الحسين ابو جعفر مثل حديث أبي عبيدة و سمّاه ذا الخويصرة.

    36 ـ حدّثني أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي إسحاق ، عن رجل : انّ عائشة لمّا بلغها قتل المخدج ، قالت : لقد قتل شيطان جان الردهة. قال و قال سعد ابن أبي وقاص : لقد قتل جان الردهة.

    37 ـ حدثني أبو الربيع الزهراني سليمان بن داود ، حدثنا داود العطار المكّي ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع ، قال : خرج ابن عمر من المدينة يريد الحج ، فقيل له : إنّ الحرورية قد خرجت ، فقال : أشهدكم أنّي قد جعلتها عمرة ، فلمّا انتهى إلى البيداء ، قال : أشهدكم أنّي قد كنت جعلتها عمرة و أنّي قد أضفت إليها حجّة.

    38 ـ حدّثني ابي ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا حرام بن إسماعيل العامري ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن يسير بن عمرو ، قال : دخلت على سهل بن حنيف بالمدينة فقلت : حدثني بما سمعت من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) في الحرورية ، فقال : اُحدّثك ما سمعت من رسول الله في الحرورية لا أزيدك عليه : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم )

 

________________________________________

(492)

يذكر قوماً يخرجون من هاهنا : و أشار بيده نحو العراق ـ يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، قال : قلت : هل ذكر لهم علامة؟ قال : هذا ما سمعته لا أزيدك.

    39 ـ حدّثني أبي ، حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد ـ يعني ابن سلمة ـ حدّثني سعيد ابن جمهان ، قال : كانت الخوارج تدعوني حتى كدت أن أدخل معهم ، فرأت اُخت بلال في النوم أنّ أبا بلال كلب أسود عيناه تذرفان ، فقالت : بابي أنت يا أبا بلال ما شأنك أراك هكذا؟ قال : جعلنا بعدكم كلاب النار ، و كان أبو بلال من رؤوس الخوارج.

    40 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن عكرمة بن عمار ، حدّثني عاصم بن شميخ الغيلاني ، قال : رأيت أبا سعيد الخدري يصلّي عند الزوال و هو معتمد على جريدة إذا قام اعتمد عليها و إذا ركع أسندها إلى الحائط و إذا سجد اعتمد عليها.

    41 ـ حدّثنا هدبة بن خالد الأزدي ، حدّثنا ديلم أبو غالب ، عن ميمون الكردي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : تمرق مارقة من فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق.

    42 ـ حدّثني أبي حدّثنا وكيع ، حدّثنا عكرمة بن عمّار ، عن عاصم بن شميخ ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إذا حلف باليمين قال : « و الّذي نفس أبي القاسم بيده ليخرجنّ قوم تحقّرون أعمالكم عند أعمالهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة » قالوا : فهل من علامة يعرفون بها؟ قال : « فيهم رجل ذو ثدية محلقي رؤوسهم » قال أبو سعيد : فحدّثني عشرون أو بضع و عشرون من

 

________________________________________

(493)

أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : أنّ علياً ولي قتلهم ، قال فرأيت أبا سعيد بعد ما كّبر و يداه ترتعشان يقول : إنّ قتالهم أجلّ عندي من قتال عدّتهم من الترك.

    43 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا إسحاق بن يوسف ـ يعني الأزرق ـ عن الأعمش ، عن ابن أبي أوفى ، قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « الخوارج هم كلاب النار ».

    44 ـ حدّثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، انا معمر ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ـ أو قال : سمعت انا سعيد الخدري يحدّث ـ أنّه سمع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما في الدين واحدة ، تمرق بينهما مارقة ، يقتلهما أولاهما بالحق ».

    45 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع ، حدّثني سويد بن عبيد العجلي ، عن أبي مؤمن الواثلي ، قال : شهدت عليّاً حين فرغ من قتالهم ، قال : انظروا فإنّ فيهم رجلاً مخدج اليد ، فطلبوه فلم يجدوه ، فقال علي : ما كذبت ولا كذّبت ، قال : فقام علي فأخرجه من تحت ساقية ، فخّر علي ساجداً.

    46 ـ حدّثني أبي حدّثنا وكيع ، حدّثنا بسام ، عن أبي الطفيل ، قال : سأل ابن الكواء عليّاً (رضي الله عنه) عن الأخسرين أعمالاً ، قال : منهم أهل حروراء.

    47 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع حدّثنا حسن ـ يعني ابن صالح ـ عن أبي نعامة الأسدي ، عن خال له ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إنّ نجدة و أصحابه عرضوا لعيرلنا و لوكنت فيهم لجاهدتهم.

    48 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا عبد الرزاق ، انا معمر ، عن أيوب ، عن نافع : أخبرني ابن عمر أنّ نجدة لاقاه فحلّ شرج سيفه فأشرجته ، ثمَ مرّ به فحلّه أيضاً

 

________________________________________

(494)

فأشرجته ، ثم مرّ به الثالثة ، فقال : من أشرج هذا كأنّه ليس في أنفسكم ما في أنفسنا؟

    49 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع ، حدّثنا عثمان الشحام أبو سلمة ، حدّثني مسلم ابن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « سيخرج قوم أحدّاء أشدّاء ، ذلقة ألسنتهم بالقرآن ، يقرأونه لايجاوز تراقيهم ، إذ ليقتموهم فاقتلوهم ، فإنّه يؤجر قاتلهم ».

    50 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا بهز و عفّان قالا : حدّثنا حماد ـ يعني ابن سلمة ـ حدّثني سعيد بن جمهان ، قال : كنّا مع عبد الله بن أبي أوفى نقاتل الخوارج و قد لحق غلام لابن أبي أوفى بالخوارج فناديناه يا فيروز هذا ابن أبي أوفى فقال : نعم الرجل لو هاجر ، قال : ما يقول عدوّ الله؟ قال : يقول : نعم الرجل لو هاجر ، فقال : أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال بهز في حديثه ، يردّدها ثلاثاً : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) (يقول) : « طوبى لمن قتلهم » ، و قال عفان و يونس : « لمن قتلهم و قتلوه » ثلاثاً.

    51 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا روح بن عبادة ، حدّثني عثمان الشحّام ، حدّثنا مسلم بن أبي بكرة : و سألته هل سمعت في الخوارج شيئاً ، فقال : سمعت والدي أبا بكرة يقول عن نبي الله : « ألا انّه سيخرج من اُمّتي أقوام أشدّاء أحدّاء ، ذليقة ألسنتهم بالقرآن لا يجاوز تراقيهم ، ألا فإذا رأيتموهم ثمّ إذا رأيتموهم فأنيموهم فالمأجور قاتلهم.

    52 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع ، حدّثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن عبد الأعلى ، عن زياد بن طارق ، قال : رأيت عليّاً حين أخرج المخدج ـ على يده ثلاث شعرات ـ خرّساجداً ، قال عبد الله بن طارق بن زياد : و لكن كذا قال وكيع.

 

________________________________________

(495)

    53 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع ، حدّثنا سفيان ، عن محمّد بن قيس الهمداني ، عن شيخ لهم يكّنى أبا موسى قال : رايت علياً سجد حين اُتي بالمخدج.

    54 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا يزيد بن هارون ، انا حماد بن سلمة ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب ، قال : الّذي يقتله الخوارج له عشرة أنور ، فضّل ثمانية أنور على غيره من الشهداء.

    55 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع ، حدثنا ابن أبي خالد ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : ذكر عنده الخوارج قال : هم قد زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.

    56 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا حماد بن مسعدة ، عن يزيد ـ يعني ابن أبي عبيد ـ قال : لمّا ظهر نجدة الحروري أخذ صدقات ، قيل لسلمة : ألا تباعد منهم؟ قال : فقال : و الله لا اُبايعه و لا أتبعه أبداً ، قال : و دفع صدقته إليهم.

    57 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا عفان ، حدّثنا جويرية بن أسماء ، قال : زعم نافع أنّ ابن عمر كان يرى قتال الحرورية حقّاً واجباً على المسلمين.

    58 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا محمّد بن بشر ، حدّثنا عبيدالله ، عن نافع : انّ ابن عمر أراد أن نقاتل نجدة حين أتى المدينة يغير على ذراريهم ، فقيل له : إنّ الناس لا يبايعونك على هذا ، قال : فتركه.

    59 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا محبوب بن الحسن ، حدّثنا خالد ـ يعني الحذّاء ـ عن أبي اياس معاوية بن قرّة ، قال : خرج حروري محكّم ، فخرج إليه ناس من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) من مزينة بأسيافهم منهم عائذ بن عمرو.

    60 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا عفان ، حدّثنا يزيد بن زريع ، حدّثنا خالد الحذاء ، عن معاوية بن قرّة : خرج محكّم في زمان أصحاب

 

________________________________________

(496)

رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فخرجوا عليه بالسيف رهط من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) منهم عائذ بن عمرو.

    61 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا عفان ، حدّثنا سلام أبو المنذر ، عن عاصم بن بهدلة قال : خرج خارجي بالكوفة ، فقيل : يا أبا وائل هذا خارجي خرج فقتل ، فقال : و الله ما أعزّ هذا لله من دين و لا دفع عن مظلوم ، هذا و أبيك الخير.

    62 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا أبو كامل مظفر بن مدرك ، حدّثنا حماد بن سملة ، عن الأزرق بن قيس ، قال : كنّا بالأهواز نقاتل الخوارج و فينا أبو برزة الأسلمي فجاء إلى نهر فتوضّأ ثمّ قام يصلّي.

    63 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا يزيد بن هارون ، انا ابن إسحاق ، عن أبي الزبير ، عن أبي العباس مولى بني الديل ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : ذكر عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قوم يجتهدون في العبادة اجتهاداً شديداً ، فقال : « تلك ضراوة في الإسلام و شرّه و لكلّ شرّه فترة ، فمن كانت فترته إلى الاقتصاد فلاوم (1) ما هو و من كانت فترته إلى غير ذلك فاُولئك هم الهالكون ».

    64 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا هشيم ، انا حصين ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد في قوله : ( يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (2) قال : قلت له : أهم الخوارج؟ قال : لا ، و لكنّهم أصحاب الصوامع ، و الخوارج الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.

    65 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا هشيم ، انا العوام ، حدّثنا أبو غالب ، عن أبي أمامة : زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. قال : هم الخوارج.

    66 ـ حدّثني أبي ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن حصين ـ و كان صاحب شرطة علي ـ قال : قال علي : قاتلهم الله أي حديث

________________________________________

    1 ـ كذا في الأصل ، و في أصل آخر : فلا ذم ، و لعلّه : لازم.

    2 ـ الكهف : 104.

________________________________________

(497)

شانوا ، يعني الخوارج.

    67 ـ حدّثني أبي ، حدثنا ابن نمير ، انا عبيدالله ، عن نافع ، قال : لمّا سمع ابن عمر بنجدة قد أقبل و أنّه يريد المدينة و أنّه يسبي السباء و يقتل الولدان ، قال : إذاً لا ندعه و ذاك ، وهمّ بقتاله و حرّض الناس ، فقيل له : إنّ الناس لا يقاتلون معك و تخاف أن تترك فتقتل ، فتركه.

    68 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا أبو بكر بن عياش ، قال : سمعت أبا إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : خرج خوارج فخرج إليهم ، فقتلوه.

    69 ـ حدّثني أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، أخبرني عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس : انّ عليّاً أخرجه إلى الخوارج فكلّمهم ، ففرّق بينهم ، فقالت الخوارج : بل هم قوم خصمون.

    70 ـ حدّثني أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدء ، أخبرني عاصم الأحول ، عن عون بن عبدالله : انّ عمر بن عبد العزيز أخرجه إلى الخوارج فكلّمهم.

    71 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا يزيد ـ يعني ابن هارون ـ ، انا هشام بن حسان ، حدّثني أبو الوضي القيسي ، قال كنت في أصحاب علي لمّا فرغ من أهل النهر ، قال : اطلبوا فيهم ذا الثدية ، فطلبوه فلم يجدوه ، فأتوه فقالوا : لم نجده. قال : اطلبوه فإنّه فيهم. قال فطلبوه فوجدوه فاُتي به فإنّي لأنظر إليه وله في أحد منكبيه مثل ثدي المرأة ليس له يد غيرها عليها شعرات.

    72 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي غالب ، عن أبي اُمامة : أنّه رأى رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق ، فقال أبو اُمامة : كلاب النار ـ ثلاثاً ـ شر قتيل تحت أديم السماء ، خير قتل من قتلوه ، ثمّ

 

________________________________________

(498)

قرأ : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) (1) قلت لأبي اُمامة : أنت سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : لو لم أسمعه إلاّ مرّتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستّاً أو سبعاً ما حدّثتكم به.

    73 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، قال : سمعت أبا غالب يقول : لمّا اُتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق ، جاء أبو اُمامة فلمّا رآهم دمعت عينه ، قال : كلاب النار ، كلاب النار ، كلاب النار ـ ثلاث مرّات ـ هؤلاء شرّ قتلى قتلوا تحت أديم السماء ، و خير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء ، قلت : فما شأنك دمعت عينك؟ قال : رحمة لهم لأنّهم كانوا من أهل الإسلام قلت : أبرأيك قلت هم كلاب النار أو شيئاً سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : إنّي إذاً لجري بل سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) غير مرّة ولا مرّتين ولا ثلاثة ، قال : فعدّ مراراً قال ثمّ تلا هذه الآية ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) حتى بلغ ( هُمْ فِيها خَالِدُونَ ) ثم ذكر الحديث إلى آخره.

    74 ـ حدّثني أبو خيثمة ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي غالب سمع أبا اُمامة قال : خرجت معه فرأى رؤوساً من هؤلاء الخوارج على درج دمشق ، فقال كلاب النار ، كلاب النار ، شرّ قتلى ، و خير قتلى من قتلوه ، فقلت : يا أبا اُمامة سمعت هذا من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : نعم غير مرّة.

    75 ـ حدّثني أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدّثنا عمّار بن يونس الحنفي ، حدّثنا عكرمة بن عمّار ، حدثنا شداد بن عبد الله ، قال : وقف أبو اُمامة و أنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب مسجد حمص أو دمشق ، فقال لهم : كلاب النار ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ شرّ قتلى تظل السماء ، و خير قتلى من قتلوهم

________________________________________

    1 ـ آل عمران : 106.

________________________________________

(499)

ـ و دمعت عينا أبي اُمامة ـ قال رجل : أرأيت قولك لهؤلاء القوم شرّ قتلى تظلّ السماء ، و خير قتلى قتلوهم ، أشيء من قبل رأيك أو شيء سمعته من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : من قبل رأيي إنّي إذاً لجري لولم أسمعه من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ مرّة أو مرّتين ـ حتى عدّ سبع مرار ـ ما حدّثتكم ، فقال له رجل : رأيتك دمعت عيناك؟ فقال : رحمة رحمتهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ، ثمّ قرأ هذه الآية : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـتُ وَأُوْلَــِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) (1) الآية.

    76 ـ حدّثنا أبي ، حدّثنا أنس بن عياض و هو أبو ضمرة المديني ، قال : سمعت صفوان بن سليم يقول : دخل أبو اُمامة الباهلي دمشق فرأى رؤوس حروراء قد نصبت فقال : كلاب النار ـ ثلاثاً ـ شرّ قتلى تحت ظلّ السماء من خير قتلى من قتلوه ، ثمّ بكى ، فقام إليه رجل فقال : يا أبا اُمامة هذا الّذي تقول من رأيك أو سمعته؟ فقال : إنّي إذا لجري كيف أقول هذا عن رأيي و لكن قد سمعته غير مرّة و لا مرّتين. قال : فما يبكيك؟ قال أبكي لخروجهم من الإسلام هؤلاء الذين تفرّقوا و اتّخذوا دينهم شيعاً.

    77 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا إسماعيل ـ يعني ابن علية ـ انا سليمان التيمي ، حدّثنا أنس بن مالك ، قال : ذكر لي أنّ نبي الله قال : إنّ فيكم قوماً يعبدون و يدينون حتّى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة.

    78 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا إبراهيم بن خالد ، حدّثنا رباح ، عن معمّر ، عن قتادة عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « يكون

________________________________________

    1 ـ آل عمران : 105 ـ 106.

________________________________________

(500)

في اُمتي اختلاف و فرقة يخرجون فيهم قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، سيماهم الحلق و التسبيت ، فإذا رأيتموهم فأنيموهم » ـ قوله التسبيت يعني استئصال الشعر ـ.

    79 ـ حدّثني أبو بشر بكر بن خلف ختن أبي عبد الرحمن المقرئ و سأله محمّد بن غيلان ، عن هذا الحديث بمكّة قال : حدّثنا عبد الرزاق ، أنا معمّر ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « يكون في آخر اُمّتي قوم يقرأون القرآن لايجاز تراقيهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ».

    80 ـ حدّثني أبي حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : بينا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله. فقال : « و يلك و من يعدل إذا لم أعدل؟ » فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله أتأذن لي أن أضرب عنقه ، فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « دعه فإنّ له أصحاباً يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته ، و صيامه مع صيامه ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثمّ ينظر في نصيبه فلا يوجد فيه شيء ، ثمّ ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء ، و قد سبق الفرث و الدم ، آيتهم رجل أسود في إحدى يديه أو قال احدى ثدييه كثدي المرأة ، و مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فترة من الناس ، فنزلت فيهم : ( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَـتِ ) الآية (1) قال أبو سعيد : فأشهد أنّي سمعت هذامن رسول الله ، و أشهد أنّ عليّاً حين قتلهم و أنا معه جيئ بالرجل على النعت الّذي نعت رسول الله.

________________________________________

    1 ـ التوبة : 58.

(501)

    81 ـ حدّثني أفطر بن حماد بن واقد ، حدّثنا مهدي بن ميمون ، عن محمّد بن سيرين ، عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري : أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « ليخرج قوم بالمشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، ثمّ لا يعودون فيه حتى يعود السهم على فوقه » قال : قيل : ما سيماهم؟ قال : « سيماهم الحلق أو التسبيت ».

    82 ـ حدّثني نصر بن علي ، حدّثنا غسار بن مضر حدّثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « تمرق مارقة من هذه الاُمّة مروق السهم من الرميّة ، انّ الرجل ليرمي رميّته فينفذها سهمه فتنطلق الرميّة حائطة ، قال : فيتحرك هنيهة ثم يقع فيه فيتبع سهمه فينظر في النصل فلا يجد بيّنة قال : فيحدّث نفسه لئن كنت أصبت لأجدنّ بيّنة في القذذ و الفوقتين ، قال : فينظر في القذذ و الفوقتين فلا يجد بيّنة ، قال : فلا يعلقون من الإسلام إلاّ كما يعلق ذلك السهم من رميّته ، قال : و لا يعودون فيه ، ثم يقرأون كتاب الله لا يعدو تراقيهم ، قال : يحتقر أو يزدري عمله عند عملهم ، سيماهم التحليق ، هم شرّ الخلق و الخليقة ـ مرّتين ـ يتولّى قتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق ـ يعني أصحاب النهروان ـ فقال أبو سعيد : الحمد لله الّذي ولّى قتلهم أهل العراق.

    83 ـ حدّثني أبي ، حدّثنا هشام بن القاسم ، حدّثنا حشرج بن نباتة العبسي ، حدّثني سعيد ين جمهان ، قال : لقيت عبد الله بن أبي أوفى و هو محجوب البصر فسلّمت عليه ، فقال لي : من أنت؟ قال : قلت : أنا سعيد بن جمهان. قال : فما فعل والدك؟ قال : قلت : قتلته الأزارقة. قال لعن الله الأزارقة ، لعن الله الأزارقة.