الأئمّة الإثني عشر


في الأئمّة الإثني عشر

 

    إنّ الشيعة الامامية هي الفرقة المعروفة بالإثني عشرية. فهم يعتقدون باثني عشر إماماً من بني هاشم وقد نصّ الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على إمامتهم وقيادتهم واحداً بعد الآخر كما نصّ كلّ إمام على إمامة من بعده نصّاً يخلو من الابهام.

    وقد عرفت فيما مضى أنّه تضافر عن الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أنّه يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل. وذكرنا هناك أن هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلاّ على أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة « وإذا كان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزائنه ، وشارع الدين وهم حفظته وصاحب الكتاب وهم حملته » (1) فيلزم علينا معرفتهم ، كيف وهم احد الثقلين اللَّذَين تركهما الرسول ، قدوة للاُمّة ونوراً على جبين الدهر.

    ونحن نعرض في هذا الفصل ، موجزاً عن أحوالهم وحياتهم حتّى يكون القارئ ملمّاً بهم عن كثب. ونعيد كلمتنا بأن الغرض هو الالمام والايجاز بل الاشارة والالماح لا التفصيل والتطويل. وإلاّ فإنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين

________________________________________

1 ـ اقتباس ممّا ذكره أمين الاسلام الطبرسي في مقدمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى 3.

________________________________________

(436)

موسوعة كبيرة. وقد قام بذلك شطر كبير من علماء الإسلام ونحن نستضيئ من أنوار كلامهم فنقول :

 

________________________________________

(437)

    الامام الأوّل :

الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )

    إنّ الامام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته ، ومناقبه ، وفضائله ، وجهاده ، وعلومه وخطبه وقصار كلماته. وسياسته وحروبه مع الناكثين والقاسطين ، فالأولى لنا الاكتفاء بهذا المقدار واحالة القارئ إلى تلك الموسوعات بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول :

    هو أميرالمؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين ، وأوّل القوم إيماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأعظمهم مزيّة ، وأقومهم بأمر اللّه ، وأعلمهم بالقضية ، وراية الهدى ، ومنار الايمان ، وباب الحكمة ، والممسوس في ذات اللّه ، خليفة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، الهاشمي ، وليد الكعبة المشرّفة ومُطهِّرها من كل صنم ووثن ، الشهيد في البيت الإلهي

 

________________________________________

(438)

( جامع الكوفة ) في محرابه حال الصلاة سنة 40.

    كل من هذه الجمل الخمس عشر ، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة (1).

    وكفى في حقّه ما قاله رسول اللّه :

    « عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب » (2).

    وقال ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « من سرّه أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً. وويل للمكذّبين بفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (3).

    وقال الامام أحمد : ما لأحمد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي ( رضي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عنه ) (4).

    وقال الامام الرازي : من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (5).

    ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، لقول النبي : « اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (6).

    وقال شبلي شميّل : « الامام علىّ بن أبي طالب ، عظيم العظماء ، مسخة مفردة ،

________________________________________

1 ـ راجع مسند أحمد 1 / 331 ، 5 / 182 ـ 189 ، حلية الأولياء 1 / 62 ـ 68 ، ولاحظ الغدير 2 / 33.

2 ـ الخطيب البغدادي التاريخ 4 / 40.

3 ـ أبو نعيم : حلية الأولياء 1 / 86.

4 ـ ابن الجوزي الحنبلي : مناقب أحمد 163.

5 و 6 الرازي : التفسير 1 / 207.

________________________________________

(439)

لم ير لها الشرق والغرب صورة طبق الأصل ، لا قديماً ولا حديثاً » (1).

    وقال جورج جرداق : « وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله ، وقلبه ، ولسانه وذي فقاره » (2).

 

    فصول حياته الخمسة :

    إنّ الامام ( عليه السلام ) ولد في الكعبة بعد مضي ثلاثين عاماً من واقعة الفيل وفي الحقيقة ولد بعشر سنين قبل البعثة وتوفّي في العام الأربعين من الهجرة فيكون عمره الشريف ثلاثة وستين عاما.

    فلو أردنا أن نقسم حياته إلى فصول نجد أنّ هناك فصولا خمسة تشكّل مجموع حياته ( عليه السلام ).

    1 ـ حياته قبل البعثة وهي لا تتجاوز عن عشر سنين ، وقد تكفّله النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهو حين ذاك لا يتجاوز عمره عن أربعة أو خمسة سنين وجاء به إلى داره وعاش في بيته ، وقد لازمه طيلة تلك الأعوام حتّى الأيام التي كان النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يعتكف فيها في غار حراء كما هو المحقق في التاريخ.

    2 ـ حياته بعد البعثة وقبل هجرة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إلى المدينة المنوّرة ، ولقد هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهي لا تزيد على ثلاثة عشر عاماً.

    3 ـ حياته بعد الهجرة وقبل وفاة النبي الأكرم وهي عشر سنوات حافلة بالجهاد والتضحيات.

    4 ـ حياته بعد رحلة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وقبل الخلافة وتبلغ

________________________________________

1 و2 ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 1 / 37 ـ 49.

________________________________________

(440)

25 سنة ولقد قدّم خدمات ثقافية عظيمة للاُمّة خلالها. ولم تكن خالية عن الحوادث المريرة.

    5 ـ حياته بعد الخلافة إلى شهادته في محراب مسجد الكوفة ، وهي حافلة بحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين. ولقد أخذ بمقاليد الخلافة. بعد أن صارت أموية. وبعد أن سلّط عثمان بني اُميّة ، على العباد والبلاد وسادت عبادة الدينار والدرهم وملأ حبّ الدنيا قلوب كثير من الناس فسعى ( عليه السلام ) في اخراج الاُمّة من هذه الأزمة وارجاعهم إلى ما كانوا عليه في عصر النبي الأكرم. ولقى في طريق اُمنيته ما لقى إلى أستشهد في محراب عبادته لشدّة عدله.

    فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيّا.

    وقد كتب حول حياة الإمام ما لا تعد ولا تحصى من الكتب والرسائل والموسوعات ، فلا محيص ، عن احالة القرّاء إليها غير انّا نشير هنا إلى بعض خصائصه.

 

    بعض خصائصه :

    يطيب لي أن اُشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة ، فنقول : إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد :

    1 ـ السابق إلى الإسلام.

    2 ـ ولد في الكعبة.

    3 ـ تربّى منذ صغره في حجر رسول اللّه.

    4 ـ مؤاخاته مع النبي.

    5 ـ إنّ النبي حمله حتّى طرح الأصنام من الكعبة.

    6 ـ إنّ ذرّية رسول اللّه منه.

    7 ـ إنّ النبي تفل في عينيه يوم خيبر ، ودعا له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.

(441)

    8 ـ إنّ حبّه إيمان ، وبغضه نفاق.

    9 ـ إنّ النبي باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.

    10 ـ بلّغ سورة براءة عن النبي.

    11 ـ إنّ النبي خصّه يوم الغدير بالولاية.

    12 ـ انّه القائل : « سلوني قبل أن تفقدوني ».

    13 ـ إنّ النبي خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

    14 ـ إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ (1).

________________________________________

1 ـ وقد استخرج هذه الخصائص الكاتب القدير محمّد جواد مغنية في كتابه : الشيعة والتشيّع 234.

________________________________________

(442)

________________________________________

(443)

    الامام الثاني

أبو محمد الحسن بن علي ( عليه السلام )

    هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر وأوّل السبطين وسيّد شباب أهل الجنّة ، ريحانة رسول اللّه ، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء اُمّه فاطمة بنت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) سيّدة نساء العالمين.

    ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة وهو أوّل أولاد علي وفاطمة ( عليهما السلام ).

نسب كان عليه من شمس الضحى                نور ومن فلق الصباح عمودا

    وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد أشبه برسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) من الحسن بن علي ( عليهما السلام ). (1)

________________________________________

1 ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ( ت 855 ) : 151 ـ 152 ، وأعيان الشيعة 1 / 562.

________________________________________

(444)

    فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعلي : سمِّه فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فجاء النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فاُخرج إليه فقال : اللّهمّ إنّي اُعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم. وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

    أشهر ألقابه : التقي والزكي والسبط.

    أمّا علمه فيكفي انّه كان يجلس في مسجد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ويجتمع الناس حوله فيتكلّم ما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الامام أبوالحسن علي بن أحمد الواحدي في تفسير الوسيط : أنّ رجلا دخل إلى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدِّث عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) والناس حوله مجتمعون فجاء إليه الرجل قال : أخبرني عن شاهد ومشهود فقال : نعم ، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة. فتجاوزه إلى آخر غيره يحدّث في المسجد ، فسأله عن شاهد ومشهود قال : أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأمّا المشهود يوم النحر. قال : فتجاوزها إلى ثالث ، غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدِّث في المسجد فسأله عن شاهد ومشهود فقال : نعم أمّا الشاهد فرسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته عزّوجلّ يقول : ( يا أيُّها النَّبِىُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (1) وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلكَ يَومٌ مَشْهُودٌ ) (2). فسأل عن الأوّل فقالوا ابن عباس ، وسأل عن الثاني فقالوا ابن عمر ، وسال عن الثالث فقالوا الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) (3).

    وأمّا زهده فيكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنّه قال

________________________________________

1 ـ الأحزاب / 45.

2 ـ هود / 103.

3 ـ الفصول المهمة : 155.

________________________________________

(445)

( عليه السلام ) : إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته فمشى عشرين مرّة من المدينة إلى مكّة على قدميه. وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته أيضاً أنّه ( عليه السلام ) خرج من ماله مرّتين ، وقاسم اللّه تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به. وكان ( عليه السلام ) من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها ، عارفاً بغرورها وآفاتها ، وكثيراً ما كان ( عليه السلام ) يتمثّل بهذا البيت شعرا :

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها               إنّ اغتراراً بظلّ زائل حَمَقُ (1)

    وأمّا حلمه فقد روى ابن خلكان عن ابن عائشة انّ رجلاً من أهل الشام قال : دخلت المدينة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه ، فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل : هذا الحسن بن علي بن أبي طالب ، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله فصرت إليه وقلت له : أأنت ابن علي بن أبي طالب ؟ قال : أنا ابنه. قلت : فعل بك وبأبيك ـ اسبهما ، فلمّا انقضى كلامي ـ قال لي : أحسبك غريباً ؟ قلت : أجل ، قال : مل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آتيناك أو إلى حاجة عاوناك قال : فانصرفت عنه وما على الأرض أحب إلىّ منه ، وما فكرت فيما صنع وصنعت إلاّ شكرته وخزيت نفسي (2).

    وأمّا إمامته. فيكفي في ذلك ما صرّح به النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا ...

    روت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال : شهدت أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) حين أوصى إلى ابنه الحسن ( عليه السلام ) وأشهد على وصيته الحسين

________________________________________

1 ـ الفصول المهمة : لابن الصباغ المالكي 156.

2 ـ وفيات الأعيان : ابن خلكان 2 / 68.

________________________________________

(446)

( عليه السلام ) ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ؟ ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له : يا بني إنّه أمرني رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أن اُوصي إليك ، وأدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إليّ ودفع إلى كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرت الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ، ثمّ أقبل على ابنه الحسين ( عليه السلام ) فقال : وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك هذا ثمّ أخذ بيد علي بن الحسين وقال : وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن علي فاقرئه من رسول اللّه ومنّي السلام (1).

    روى أبو الفرج الاصفهاني انّه خطب الحسن بن علي بعد وفاة أميرالمؤمنين علي ( عليه السلام ) وقال : قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، ولقد كان يجاهد مع رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه ، ولقد توفّي هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى وما خلف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.

    ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.

    ثم قال : أيّها الناس من عرفني ، فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى اللّه عزّوجلّ بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم

________________________________________

1 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ الطبرسي 207 ـ 208 ومن أراد الوقوف على نصوص إمامته فعليه أن يرجع إلى الكافي 1 / 297 واثبات الهداة 2 / 543 ـ 568 فقد نقل : خمسة نصوص في المقام.

________________________________________

(447)

الرجس وطهّرهم تطهيراً ، والذين افترض اللّه مودتهم في كتابه إذ يقول : ( ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) (1) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.

    قال أبو مخنف عن رجاله :

    ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له وقالوا : ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة فبايعوه (2).

    وقال المفيد : كانت بيعته يوم الجمعة 21 من شهر رمضان سنة 40 (3).

    ونقل عن أبي الفرج انّه نزل عن المنبر فرتّب العمّال وأمّر الاُمراء ونظر في الاُمور ، وأنفذ عبداللّه بن العباس إلى البصرة وأوّل شيء أحدثه انّه زاد في المقاتلة مائة مائة. وقدكان علي أبوه فعل ذلك يوم الجمل وهو فعله يوم الاستخلاف فتبعه الخلفاء بعد ذلك (4).

    قال المفيد : فلمّا بلغ معاوية وفاة أميرالمؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن ، دسَّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور ، فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحام في الكوفة فاُخرج واُمر بضرب عنقه. وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه (5).

________________________________________

1 ـ الشورى / 23.

2 ـ مقاتل الطالبيين 52.

3 ـ الإرشاد للمفيد 188.

4 ـ في رحاب أئمّة أهل البيت للأمين العاملي 15 وما نقله عن أبي الفرج ليس موجوداً في النسخة المطبوعة المحققة على يد السيد أحمد صفر ولعلّه سقط من نسخته.

5 ـ مقاتل الطالبيين : 52 ، الارشاد : للمفيد 188 ـ 189.

________________________________________

(448)

    ثمّ إنّه استمرّت المراسلات (1) بين الحسن ومعاوية وانجرّت إلى حوادث مريرة إلى أن أدّت إلى الصلح واضطرّ إلى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية. فعقدا صلحاً وإليك صورته.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

    هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه ، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

    وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا وعلى معاوية بذلك عهد اللّه وميثاقه ، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين غايلة ولا لأحد من أهل بيت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، غائلة سوء سرّاً وجهراً ولا يخيف أحداً في اُفق من الآفاق شهد عليه بذلك فلان وفلان وكفى باللّه شهيدا (2).

    ولمّا تمّ الصلح صعد معاوية المنبر وقال في خطبته : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا إنّكم لتفعلون ذلك ، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون. ألا وانّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ هاتين لا أفي به (3).

________________________________________

1 ـ ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مقاتل الطالبيين 53 إلى 72 وبالامعان فيها وما أظهر أصحابه من التخاذل ، يتضح سرّ صلح الامام وتنازله عن الخلافة فلم يطاع إلاّ أنّه أتمّ الحجة عليهم ومن أراد التفصيل فليرجع إلى صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

2 ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي 163.

3 ـ المفيد : الارشاد 191 طبع النجف.

________________________________________

(449)

    شهادته : انصرف الحسن ـ رضي اللّه عنه ـ إلى المدينة فأقام بها ، وأراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن علي فدسّ إليه السم فمات منه.

    أرسل معاوية إلى إبنة الأشعث : إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن ابن علي وبعث إليها بمائة ألف درهم فقبلت وسمّت الحسن فسوغها المال ولم يزوّجها منه (1).

    فلمّا دنى موته أوصى لأخيه الحسين ( عليه السلام ) وقال : إذا قضيت نحبي غسّلني وكفنّي واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك باللّه اُقسم عليك أن لا تهرق في أمري محجمة دم.

    فلمّا حملوه إلى روضة رسول اللّه لم يشك مروان ومن معه من بني اُميّة انّهم سيدفنونه عند جدّه رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فتجمّعوا له ولبسوا السلاح ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : مالي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا اُحب وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجاء هي خير من دعةٍ ، أيدفن عثمان في اقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبين اُمية. ولأجل وصيّة الحسن مضوا به إلى البقيع ودفنوه عند جدته فاطمة بنت أسد (2).

    توفّي الحسن وله من العمر 47 وكانت سنة وفاته سنة 50 من الهجرة النبوية.

    والعجب انّ مروان بن الحكم حمل سريره إلى البقيع فقال له الحسين : أتحمل سريره أما واللّه لقد كنت تجرّعه الغيظ فقال مروان : إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن

________________________________________

1 ـ مقاتل الطالبيين 73.

2 ـ كشف الغمة 1 / 209 ومقاتل الطالبيين 74 ـ 75.

________________________________________

(450)

حلمه الجبال (1).

    هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع إلى جوانب حياته خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تحف العقول (2) فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته.

    ولمّا بلغ معاوية موت الحسن ( عليه السلام ) سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه ، ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما.

    فقال بعض الشعراء :

أصبح اليوم ابن هند شامتايا ابن هند إن تذق كأس الردىلست بالباقي فلا تشمت به             ظاهر النخوة إذ مات الحسنتكُ في الدهر كشيء لم يكنكل حي للمنايا مرتهن (3)

________________________________________

1 ـ مقاتل الطالبيين 46.

2 ـ الحرّاني ، حسن بن شعبة تحف العقول 225 ـ 236.

3 ـ في رحاب أئمّة أهل البيت 43.

(451)

    الإمام الثالث :

الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام )

سيّد الشهداء

    هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر ، وثاني السبطين ، وأحد سيدي شباب أهل الجنّة ، وريحانتي المصطفى ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، وأحد الخمسة أصحاب الكساء ، وسيد الشهداء ، واُمّه فاطمة بنت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

    ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة 3 أو 4 من الهجرة ولمّا ولد جيئ به إلى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فاستبشر به ، وأذّن في اُذنه اليمنى واقام في اليسرى ، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسينا. وعقَّ عنه بكبش وأمر أن يحلق رأسه ويتصدّق بوزن شعره فضّة. كما فعلت بأخيه الحسن فامتثلت اُمّه ما أمرها به.

 

________________________________________

(452)

    ولقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة 61 من الهجرة وقيل يوم السبت. أدرك من حياة النبيّ الأكرم 5 أو 6 سنوات وعاش مع أبيه 36 سنة. ومع أخيه 46 سنة.

    إنّ حياة الامام الحسين من ولادته إلى شهادته حافلة بالحوادث ، والاشارة فضلا عن الاحاطة إلى كل ما يرجع إليه يحتاج إلى تأليف مفرد ، فقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون حول النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه ، وحول علمه ومناظراته ، حول خطبه وكتبه وقصار كلمه ، حول فصاحته وبلاغته ، حول مكارم أخلاقه وكرمه وجوده ، وزهده وعبادته ، ورأفته بالفقراء والمساكين ، حول أصحابه والرواة عنه ، والجيل الذي تربّى على يديه. كل ذلك ألّف حوله رسائل ومؤلّفات وموسوعات.

    غير أنّ للحسين ( عليه السلام ) وراء ذلك ، خصيصة اُخرى ، وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به ، وصار شعاراً له بل مدرسة سياسية دينية ، واُسوة وقدوة مدى أجيال وقرون ، ولم يزل منهجه يُؤثر في ضمير الاُمة ووعيها ويحرّك العقول المتفتّحة ، والقلوب المستنيرة إلى التحرّك والثورة ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.

    وها نحن نقدم إليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتّى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيارات الالحادية والانهيار الخلقي.

 

    إباؤه للضيم ومعاندة الجور :

    لمّا توفّي أخوه الحسن في العام الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله ، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون لاُمور الناس مع الحسين ( عليه السلام ) ولقد كتب مروان

 

________________________________________

(453)

ابن الحكم وهو عامل معاوية على المدينة أنّ رجالاً من أهل العراق و وجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي وأنّه لا يأمن وثوبه ، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا.

    ولمّا بلغ الكتاب إلى معاوية كتب رسالة إلى الحسين وهذه نصّها : أمّا بعد : فقد انتهت إلىّ اُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، ولعمر اللّه أنّ من أعطى اللّه عهده و ميثاقه لجدير بالوفاء وأنّ أحقَّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه لها ... (1).

    ولمّا وصل الكتاب إلى الحسين بن علي كتب إليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده ، نقتبس منه مايلي.

    « ألست قاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين ، العابدين ، الذين ينكرون الظلم ، ويستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في اللّه لومة لائم ، ثم قتلتهم ظلماً وعدوانا من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، جرأة على اللّه واستخفافاً بعهده.

    أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

    أولست المدعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنّة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) تغمّداً وتبعت هواك بغير

________________________________________

1 ـ الامامة والسياسة 1 / 163.

________________________________________

(454)

هدى من اللّه ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويُسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك.

    أولست صاحب الحضرميّين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم على دين علي ( صلوات اللّه عليه ) فكتبت إليه أن اُقتل كل من كان على دين عليّ ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف (1).

    هذا هو الحسين وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.

 

    رفضه البيعة ليزيد :

    لمّا توفّي معاوية في منتصف رجب سنة 60 كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين ( عليه السلام ) بالبيعة له فأنفذ الوليد إلى الحسين ( عليه السلام ) فاستدعاه فعرف الحسين ما أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم لحمل السلاح وقال : اجلسوا على الباب فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ وصار ( عليه السلام ) إلى الوليد فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية فقال الحسين ( عليه السلام ) : فنصبح ونرى في ذلك ، فقال الوليد : انصرف على اسم اللّه تعالى ، فقال مروان : واللّه لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا تقدر منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه

________________________________________

1 ـ الامامة والسياسة 1 / 164 وبحارالأنوار 44 / 213.

________________________________________

(455)

فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه فوثب عند ذلك الحسين ( عليه السلام ) وقال : أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو ؟ كذبت واللّه وأثمت فخرج (1).

    وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال : أبا عبداللّه إنّي لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد ، فقال : وما ذاك قل أسمع ، فقال : إنّي أرشدك لبيعة يزيد فانّها خير لك في دينك وفي دنياك ، فاسترجع الحسين وقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وعلى الإسلام السلام إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد ، ثمّ قال : يا مروان أترشدني لبيعة يزيد. ويزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللا ، ولا ألومك فانّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ومن لعنه رسول اللّه ، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد. إليك عنّي يا عدوّ اللّه. فإنّا أهل بيت رسول اللّه الحق فينا ينطق على ألسنتنا.

    وقد سمعت جدّي رسول اللّه يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء. فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما اُمروا فابتلاهم بابنه يزيد (2).

    ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة إلى مكة. ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين رسائل وينفذوا رسلاً طالبين منه مغادرته مكة إلى الكوفة وهذا نموذج من رسائلهم.

    « فقد اخضرّت الجنّات ، وأينعت الثمار فإذا شئت فاقدم على جندٍ لك مجنّدة ».

    ولمّا جاءت رسائل أهل الكوفة تترى كتب إليهم الحسين : انّه قد اجتمع رأي

________________________________________

1 ـ الشيخ المفيد : الارشاد 200 طبع النجف.

2 ـ الخوارزمي : مقتل الحسين 1 / 184 ـ 185.

________________________________________

(456)

ملائكم وذووا الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأته في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء اللّه فلعمري ما الامام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات اللّه (1).

    خرج الامام من مكة متوجّها إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله فقطع المنازل حتّى نزل بمقربة من الكوفة وعند ذاك استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيداللّه بن زياد لاستقدامه مقبوضاً إلى الكوفة ، فعند ذلك قام الامام وخطب أصحابه وأصحاب الحر بقوله : أيّها الناس! إنّ رسول اللّه قال : من راى سلطاناً جائراً مستحلاّ حرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباده بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وانّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيئ ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله ، وأنا أحق من غيري (2).

 

    الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق :

    إنّ الدافع الظاهري لهجرته إلى العراق ، وإن كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتّى أنّ الامام احتجّ بها عندما واجه الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سر مجيئه إلى العراق فقال : ما أتتني إلاّ رسل القوم ورسائلهم (3) ولكن هذا الدافع كان أمراً ظاهرياً وكان وراء ذلك سرّ آخر لهجرته

________________________________________

1 ـ الارشاد 204.

2 ـ الطبري : التاريخ ج 4 ، حوادث سنة 61 ، 304 ، وأمّا ما جرى على الامام وأهل بيته حتّى نزل أرض كربلا فراجع المقاتل.

3 ـ الارشاد 224 ـ 225.

________________________________________

(457)

يكتشفه من قرأ وتمعّن في حياته منذ ولادته إلى شهادته وعند ذلك سيتّخذ موقفاً آخرا. وهو أنّه ما هاجر من الحجاز إلى العراق إلاّ وقد وطّن نفسه للشهادة والتضحية لأجل بقاء الإسلام واصلاح أمر الاُمّة وفضح أعدائهما.

    إنّ الدافع الحقيقي للامام إلى الثورة والتضحية بالنفس والنفيس هو شعوره الديني بأنّ السلطة وسياستها العامة لاتلتزم بالمبادئ الدينية وانّها بيد من يشرب الخمر ويلعب بالكلاب ويمارس الفسق والفجور ليله ونهاره ، فلو دامت السلطة على هذه الحال لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه ولأجل ذلك لمّا طلب مروان بن الحكم مبايعة الامام ليزيد ، قال : فعلى الإسلام السلام إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد كما عرفت.

    إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : صنفان من اُمّتي إذا صلحا صلحت اُمّتي وإذا فسدا فسدت اُمّتي ، قيل : يا رسول اللّه ومن هما ؟ فقال : الفقهاء والاُمراء (1) ، فإذا كان صلاح الاُمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها فقيادة مثل يزيد لا يزيد الأمر إلاّ عيثاً وفسادا.

    إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى فلم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من اللّه سبحانه ولا بشورى من الاُمّة وقد وقف على ذلك أعلامهم ، ولأجل ذلك كتبوا إلى الحسين ( عليه السلام ) في رسالة جاء فيها : أمّا بعد فالحمدللّه الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها و استبقى شرارها (2).

    ولم يكن الولد ( يزيد ) فريداً في غصب حق الاُمّة بل سبقه والده معاوية إليه

________________________________________

1 ـ القمي : سفينة البحار 2 / 30 مادة أمر.

2 ـ الجزري الكامل 2 / 266 ـ 267 والأرشاد 203.

________________________________________

(458)

كما أشار إليه الامام في كتابه إليه وقال :

    « فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر ، من عيان الاُمور ، وقد سلك مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب ، وبانتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحق » (1).

    هذا ونظائره المذكورة في التاريخ دفع الحسين إلى الثورة ، وتقديم نفسه وأهل بيته إلى المجزرة مع العلم بأنّه لا ينجح في ثورته نجاحاً ظاهريا ولا يغلب على العدو بالسيف والقوة ، لكن كان يقف على أنّ شجرة الإسلام ستنمو بدمه الطاهر ، وأنّ مصباحه سيتوقّد بدماء أهل بيته وأصحابه ، وأنّ الاُمّة ستتّخذ من تلك الثورة دروساً وعبراً حتّى قيام الساعة. وإليك ما يدل على أنّ الإمام خاض المعركة مع العلم بأنه سيقتل ويستشهد.

    كان المعروف منذ ولادة الامام الحسين ( عليه السلام ) انّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ووصيّه لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة وإليك بعض ما يدل على ذلك ممّا يرجع إلى زمان خروجه.

    1 ـ روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره » فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين ( عليه السلام ) (2).

    2 ـ إن أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة ، قسم الكتب ، برقم 65.

2 ـ الاصابة 1 / 81 ، برقم 266.

________________________________________

(459)

إلى العراق يشكّل خطراً كبيراً على حياة الامام ( عليه السلام ) وأهل بيته ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة ، وأصروا عليه عدم الخروج ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد ابن الحنفية ، وابن عمّه ابن عباس ، ونساء بني عبدالمطلب ومع ذلك اعتذر لهم الامام وأفصح عن عزمه على الخروج (1).

    3 ـ لمّا عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال : الحمدللّه وماشاء اللّه ولا قوّة إلاّ باللّه خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي ، اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيِّر لي مصرع أنا اُلاقيه ، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوَّفاً وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه. ويوفينا اُجور الصابرين لن تشذ عن رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه ، وينجز لهم وعده ألا ومن كان فينا باذلا مهجته ، موطناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللّه (2).

    4 ـ لمّا بلغ عبدالله بن عمر ما عزم عليه الحسين ( عليه السلام ) دخل عليه فلامه في المسير ولمّا رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال : أستودعك اللّه من قتيل (3).

    5 ـ لمّا خرج الحسين ( عليه السلام ) في مكة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له : إلى أين يابن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ما أعجلك عن الموسم قال : لو لم أعجل لاًخذْتُ أخذاً فأخبرني يا فرزدق عمّا وراء فقال : تركت الناس بالعراق ،

________________________________________

1 ـ لاحظ المحاورات التي جرت بين الامام وهولاء في الارشاد 201 ـ 202 طبع النجف ومقاتل الطالبيين 109 ، اللهوف 20 طبع بغداد.

2 ـ اللهوف 41 طبع بغداد.

3 ـ تذكرة الخواص 217 ـ 218.

________________________________________

(460)

قلوبهم معك ، وسيوفهم مع بني اُمية. فاتّق اللّه في نفسك (1).

    6 ـ لمّا أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللّه بن يقطر. قال لأصحابه : لقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس معه زمام ، فتفرّق الناس عنه ، وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة نفر يسير ممّن انضمّوا إليه « ومع ذلك فلمّا أصبح سار نحو الكوفة فقال له شيخ من بني عكرمة يقال له عمر بن لوزان : أين تريد ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك لمّا انصرفت فواللّه ما تَقْدِمُ إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف فقال له الحسين : ليس يخفى عليّ الرأي وأنّ اللّه تعالى لا يغلب على أمره(2).

    وفي نفس النص دلالة على أنّ الامام كان يتفرّس ما كان يتفرسه غيره وانّ مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة التي كان المولى سبحانه كتبها إيّاه لأجل احياء الدين وهتك الأعداء ، وايقاظ الاُمة من سباتها حتّى يضحّوا في طريق الدين بكل غال ورخيص.

    إلى غير ذلك من الشواهد والقرائن المتواترة ، الدالة على أنّه كان من الواضح أنّ الامام لا ينجح في ثورته نجاحاً ظاهرياً ومع ذلك واصل طريقه إلى أن لقى عدوّه وضحّى بنفسه وأهل بيته ، كل ذلك لأجل ايقاظ ضمير الاُمّة ، وفضح أعداء الإسلام ولقد أفصح عن هدفه عندما طلب منه الحر بن يزيد ترك المخاصمة وقال : فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقْتَلنَّ فقال له الحسين : أبالموت تخوّفني وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوفه ابن عمّه.

________________________________________

1 ـ الارشاد 218 ، نفس المهموم 91.

2 ـ الارشاد 223.

(461)

سأمضي فما في الموت عار على الفتىوآسى الرجال الصالحين بنفسهوإن عشت لم اَنْدُم ، وإن مِتُّ لَمْ اُلم                إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماوفارق مثبوراً وخالف مجرماكفى بك ذلاًّ أن تعيش وترغما (1)

    ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين ( عليه السلام ) أثر كبير في ايقاظ شعور الاُمّة وتشجيعهم على الثورة ضدّ الحكومة الاموية التي اصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين ، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز ، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الاموية بعد زمان.

    ولقد أجاد من قال لولا نهضة الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ يوم الطف لما قام للاسلام عمود ولا اخضرّ له عود ، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامه إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ (2) على ذلك الموقف ، يقال فيه انّ الإسلام محمّدي الحدوث حسيني البقاء والخلود.

    وكيف يجوز لأبي الشهداء السكوت تجاه تسلّم يزيد مقاليد الخلافة وهو يقول : وعلى الإسلام السلام إذ بليت الاُمة براع مثل يزيد. ويزيد هو الذي أنشد ، حين حضر رأس الحسين بين يديه :

ليت أشياخي ببدر شهدواقد قتلنا القرم من ساداتهمفأهلّوا واستهلّوا فرحا                  جزع الخزرج من وقع الأسلوعدلنا قتيل بدر فاعتدلثمّ قالوا : يا يزيد لاتشل

________________________________________

1 ـ المفيد : الارشاد 225 والطبري في تاريخه 5 / 204.

2 ـ جنة المأوى 208 للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

________________________________________

(462)

لست من خندف إن لم أنتقملعبت هاشم بالملك فلا             من بني أحمد ما كان فعلخبر به جاء ولا وحي نزل (1)

    وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً إلى العراق والحوادث التي واجههاً في المسير إلى أن نزل بأرض كربلا ، واستشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم 72 شخصاً ، ظمآناً وعطشانا ، لهو خارج عن موضوع البحث وقد اُلّف فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات. فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيا.

________________________________________

1 ـ البيتان الأوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الأخيرة ليزيد لاحظ تذكرة الخواص 235.

________________________________________

(463)

    الإمام الرابع :

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام )

زين العابدين

    هو رابع أئمّة أهل البيت الطاهر. المشهور بزين العابدين أو سيّدهم ، والسجّاد ، وذو الثفنات. ولد في المدينة سنة 38 أو 37 وتوفّي بها عام 95 أو 94 يوم السبت 12 من محرّم.

    قال ابن خلكان : هو أحد الأئمّة الإثني عشر ومن سادات التابعين قال الزهري : ما رأيت قرشياً أفضل منه ، وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر ، ولمّا توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس ـ رضي اللّه عنه ـ (1).

    ومن أراد الاطّلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم ،

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان 3 / 267 ـ 269.

________________________________________

(464)

والحلم ، والصفح ، ومقابلة الاساءة بالاحسان ، والشجاعة ، وقوّة القلب ، وثبات الجنان ، والجرأة ، والكرم والسخاء ، وكثرة الصدقات ، وعتق العبيد ، والفصاحة والبلاغة ، والورع والتقوى والعبادة وتربية صفوة جليلة من الأعلام وايصالهم إلى القمّة في العلم والعمل من الذين يُسْتَدر بهم الغمام وكثرة البرّ باُمه والرفق بالحيوان وهيبته وعظمته في أعين الناس وغير ذلك فعليه الرجوع إلى الموسوعات.

    ونكتفي باُمور :

    1 ـ إيصاء الحسين إليه في أمر الامامة.

    2 ـ زهده وعبادته ومواساته للفقراء.

    3 ـ هيبته وعظمته.

    4 ـ ما تركه من الثروة العلمية من الأدعية والمناجاة.

    أمّا إيصاء الحسين له ، فقد تكفّل لذكره كتب الحديث والعقائد ، وأخص بالذكر ، الكافي للكليني (1) وإثبات الهداة للحر العاملي (2).

    وأمّا هيبته ومكانته في القلوب ، فاستمع ما يلي :

    لمّا حجّ هشام بن عبدالملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ، وجاء علي بن الحسين ( عليهما السلام ) فتوقّف له الناس ، وتنحّوا حتّى استلم فقال جماعة لهشام : من هذا ؟ فقال : لا أعرفه ( مع أنّه كان يعرفه انّه علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ) فسمعه الفرزدق ، فقال : لكنّي أعرفه ، هذا علي بن الحسين زين العابدين ، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات.

________________________________________

1 ـ الكافي 303.

2 ـ إثبات الهداة 3 / 1 ـ 5.

________________________________________

(465)

هذا الذي تعرف البطحاء وطأتهيكاد يمسكه عرفان راحتهإذا رأته قريش قال قائلهاإنْ عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهمهذا ابن فاطمة إن كنت جاهلهوليس قولك من هذا بضائره                والبيت يعرفه والحل والحرمركن الحطيم إذا ما جاء يستلمإلى مكارم هذا ينتهي الكرمأو قيل من خير أهل الأرض قيل همبجدّه أنبياء اللّه قد ختمواالعرب تعرف من أنكرت والعجم

    إلى آخر القصيدة التي حفظتها الاُمّة وشطرها جماعة من الشعراء وقد ثقل ذلك هشاماً فأمر بحبسه ، فحبسوه بين مكة والمدينة. فقال معترضاً على عمل هشام :

أيحبسني بين المدينة والتييقلب رأساً لم يكن رأس سيد                   إليها قلوب الناس يهوى منيبهاوعيناً له حولاء باد عيوبها

    فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عشرة آلاف درهم وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به ، فردّها الفرزدق وقال : ما قلت ما كان إلاّ للّه ، فقال له علي ( عليه السلام ) : قد راى اللّه مكانك فشكرك ، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه وأقسم عليه فقبلها.

    أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء ، وخوفه من اللّه فغني عن البيان كان علي ابن الحسين إذا توضّأ اصفّر لونه فيقال : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ قال : أتدرون بين يدي مَنْ اُريد أن أقف.

    ومن كلماته : أنّ قوماً عبدوا اللّه رياضة فتلك عبادة العبيد ، وأنّ قوماً عبدوه رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار.

    وكان إذا أتاه سائل يقول : مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة.

 

________________________________________

(466)

    وكان ينحل فلمّا مات وجدوه يعول مائة من أهل بيت المدينة. وفي رواية لا يدرون من يأتيهم بالرزق لأنّه كان يبعث به إليهم في الليل فلمّا مات علي فقدوه ، وفي رواية كان يحمل جراب الخُبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول : صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وفي رواية كان أهل المدينة يقولون : ما فقدنا صدقة السر حتّى مات علي بن الحسين ( عليه السلام ) (1).

    وقال رجل لسعيد بن المسيب : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ـ وسمّى رجلا ـ فقال له سعيد : أما رأيت علي بن الحسين ؟ فقال : لا ، فقال : ما رايت أورع منه.

    وقال الزهري : لم أر هاشمياً أفضل من علي بن الحسين ( عليه السلام ).

    وقال أبو حازم كذلك أيضا : ما رأيت هاشمياً افضل من علي بن الحسين.

    وقال طاووس : رأيت علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ساجداً في الحجر فقلت : رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول ، فأصغيت إليه فسمعته يقول : عبدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك ، فواللّه ما دعوت بهنّ في كرب إلاّ كشف عنّي.

    وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، فإذا أصبح سقط مغشياً عليه ، وكانت الريح تميله كالسنبلة ، وكان يوماً خارجا فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم علي : مهلا كفّوا ، ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ فاستحى الرجل فألقى إليه علي خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسل (2).

________________________________________

1 ـ تذكرة الخواص 294.

2 ـ كشف الغمّة 2 / 292 ـ 293.

________________________________________

(467)

    الثروة العلمية للامام :

    أمّا الثروة العلمية والعرفانية ، فهي أدعيته التي رواها المحدثون باسنادهم المتضافرة ، المعروفة بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم فهي زبور آل محمّد ، ومن الخسارة الفادحة ، أنّ اخواننا أهل السنّة إلاّ النادر القليل منهم غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.

    وفصاحة ألفاظها ، وبلاغة معانيها ، وعلو مضامينها وما فيها من أنواع التذلل للّه تعالى والثناء عليه ، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل إليه ، أقوى شاهد على صحّة نسبتها إليه ( عليه السلام ) وانّ هذا الدر من ذلك البحر ، وهذا الجوهر من ذلك المعدن ، وهذا الثمر من ذلك الشجر ، مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلى منشئها فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة ، إلى زين العابدين (1).

    وقد أرسل أحد الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( ت 1358 ) صاحب التفسير المعروف فكتب في جواب رسالته « ومن الشقاء إنّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق ، دون كلام الخالق » (2).

    والمعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاُولى التي تتضمّن على أحد وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من اللّه سبحانه وهي تعلّم الإنسان كيف يلجأ إلى ربّه في الشدائد والمهمات ، وكيف يطلب منه حوائجه ، وكيف يتذلّل ويتضرّع له وكيف يحمد ويشكر له غير أنّ لفيفا من العلماء استدركوا عليها فجمعوا

________________________________________

1 ـ في رحاب أئمّة أهل البيت 3 / 414.

2 ـ مقدمة الصحيفة بقلم العلامة المرعشي ـ قدس سره ـ 28.

________________________________________

(468)

من شوارد أدعيته صحائف خمس أخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الأمين العاملي ـ قدس سره ـ.

    ولقد قام العلاّمة الحجة السيد محمّد باقر الأبطحي ـ دام ظله ـ بجمع جميع أدعية الامام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد وقال في مقدمته :

    وحريّ بنا القول انّ أدعيته ( عليه السلام ) كانت ذات وجهين : وجهاً عبادياً ، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الامام ( عليه السلام ) في ذلك الظرف العصب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أن يمنح أدعيته ـ إلى جانب روحها التعبّدية ـ محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب ، بما حملته من مفاهيم خصبة ، وأفكار نابضة بالحياة فهو ( عليه السلام ) صاحب مدرسة إلهية ، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد اللّه ويقدّسه ، وكيف يلج باب التوبة ، وكيف يناجيه وينقطع إليه ، واُخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البر بالوالدين ، ويشرح حقوق الوالد والولد ، والأهل ، والأصدقاء ، والجيران ، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي كل ذلك باسلوب تعليمي رائع وبليغ.

    وصفوة القول انّها كانت اسلوبا مبتكراً في إيصال الفكر الاسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى ، والأفئدة التي تهوي إليها لترتزق من ثمراتها ، وتنهل من معينها ، فكانت بحق علمية تربوية نموذجية من الطراز الأوّل ، لاُسس بناها الامام السجاد ( عليه السلام ) مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين (1).

________________________________________

1 ـ الصحيفة السجادية الجامعة 13.

________________________________________

(469)

    رسالة الحقوق :

    إنّ للامام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق أوردها الصدوق في خصاله (1) بسند معتبر ، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول (2) مرسلاً ، وبين النقلين اختلاف بالزيادة والنقيصة وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق ، فيذكر الامام فيها حقوق اللّه سبحانه على الإنسان وحقوق نفسه عليه وحقوق أعضائه من اللسان والسمع ، والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج ثمّ يذكر حقوق الأفعال ، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدى ... يبلغ خمسين حقّا ، آخرها حق الذمّة.

    روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته أحاديث عنه أوردها الشيخ الحر العاملي في جامعه « وسائل الشيعة » كما انّ له ( عليه السلام ) حكماً في مختلف أبواب الفقه ، جمعها الشيخ الحسن الحراني في تحفه (3) فلاحظ.

 

    الراوون عنه :

    ذكر الشيخ في رجاله الرواة عنه ( عليه السلام ) : ورتّبها على حروف المعجم فبلغ 175 ، شخصاً (4) وهم بين صحابي وتابعي ـ رضي اللّه عنهم ـ.

    قال ابن شهر آشوب : ومن رجاله من الصحابة جابر بن عبداللّه الأنصاري ، وعامر بن واثلة الكناني وسعد بن المسيب بن حزن ، وسعيد بن جهان الكناني مولى اُم هاني ... ومن التابعين أبو محمّد سعيد بن جبير مولى بني أسد ، ومحمّد

________________________________________

1 ـ الخصال 564 ـ 570 في أبواب الخمسين.

2 ـ تحف العقول 184 ـ 195.

3 ـ تحف العقول 180 ـ 205.

4 ـ الشيخ الطوسي الرجال 81 ـ 102.

________________________________________

(470)

ابن جبير بن مطعم ، وأبو خالد الكابلي ، والقاسم بن عوف ، وإسماعيل بن عبداللّه بن جعفر ، وإبراهيم والحسن ابنا محمّد بن الحنفية ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأبو يحيى الأسدي وأبو حازم الأعرج وسلمة بن دينار المدني الاقرن القاص.

    ومن أصحابه أبو حمزة الثمالي بقي إلى أيام موسى بن جعفر ، وفرات بن أحنف بقي إلى زمان الصادق وجابر بن محمّد بن أبي بكر ، وأيوب بن الحسن ، وعلي بن رافع ، وحميد بن موسى الكوفي ، وأبان بن تغلب ، وأبو الفضل سدير ابن حكيم بن صهيب الصيرفي ، وقيس بن رمانة ، وعبداللّه البرقي ... (1).

    قال الشيخ أبو زهرة : « في بيت الامام زين العابدين نشأ زيد وتكوّنت ميوله ، ومنازعه في الحياة ، واتّجاهاته وكان زين العابدين فقيهاً كما كان محدثا ، وكان له شبه بجدّه علي بن أبي طالب في قدرته على الاحاطة بالمسائل الفقهية من كل جوانبها والتفريع عليها ، وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، وقال : مرحباً بكم أنتم ودائع العلم ، ويوشك ـ إذ أنتم صغار قوم ـ أن تكونوا كبار قوم آخرين ، وإذا جاءه طالب علم ، رحّب به وقال : أنت وصيّة رسول اللّه. إنّ طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له الأرض إلى السابعة (2).

    يقول الكاتب محمّد جواد مغنيه : « وكان يحسن إلى من يسئ إليه ، من ذلك أنّ هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة وكان يتعمّد الإساءة إلى الامام وأهل بيته ، ولمّا عزله الوليد ، أمر أن يوقف للناس : في الطريق العام ليقتصوا منه ،

________________________________________

1 ـ المناقب 4 / 174 طبع قم.

2 ـ المقرّم : الامام زيد 31.

(471)

وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الامام السجاد ، ولكن الامام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه ، وذهب إليه بنفسه ، وقال له : لا بأس عليك منّا ، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها (1).

________________________________________

1 ـ محمّد جواد مغنيه : الشيعة والتشيّع 244.

________________________________________

(472)

________________________________________

(473)

    الامام الخامس :

أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين ( عليهم السلام )

الباقر

    هو خامس أئمّة أهل البيت ، الطاهر ، المعروف بالباقر ، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب : لقّب به لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه (1) وقال ابن حجر : سمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض أي شقّها ، وإثارة مخبآتها ، ومكامنها. فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام ، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة. ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه (2)

________________________________________

1 ـ لسان العرب 4 / 74.

2 ـ الصواعق المحرقة 201.

________________________________________

(474)

    قال ابن خلكان : أبو جعفر محمّد بن زين العابدين ، الملقّب بالباقر أحد الأئمّة الاثني عشر في اعتقاد الامامية وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً وانّما قيل له الباقر لأنّه تبقّر في العلم أي توسّع وفيه يقول الشاعر :

يا باقر العلم لأهل التُّقى          وخير من لبّى على الأجبل (1)

    ولد بالمدينة غرة رجب سنة 57 وقيل 56 وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة 114 وعمره الشريف 57 سنة. عاش مع جدّه الحسين ( عليه السلام ) 4 سنين ومع أبيه ( عليه السلام ) بعد جدّه ( عليه السلام ) تسعاً وثلاثين سنة وكانت مدة إمامته ( عليه السلام ) 18 سنة (2).

    وأمّا النصوص الدالّة على إمامته من أبيه وأجداده التي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الأعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني وغيره (3).

    قال ابن سعد : محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من المدينة كان عالماً عابداً ثقة وروى عنه الأئمّة أبو حنيفة وغيره.

    قال أبو يوسف : قلت لأبي حنيفة : لقيت محمّد بن علي الباقر ؟ فقال : نعم وسألته يوماً فقلت له : أراد اللّه المعاصي ؟ فقال : أفيعصى قهراً ؟ قال أبو حنيفة : فما رأيت جوابا أفحم منه.

    وقال عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر ، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب ويعني الحكم بن عيينة ، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه.

    وذكر المدائني : عن جابر بن عبداللّه انّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي إلى

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان 4 / 1074.

2 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى 264 ـ 265.

3 ـ الكافي 1 / 305 ـ 306 ، اثبات الهداة 3 / 33 ـ 35.

________________________________________

(475)

الكتاب وهو صغير فقال له : رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يسلّم عليك ، فقيل لجابر : وكيف هذا ؟ فقال : كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال : يا جابر يولد مولود اسمه عليّ ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين فيقوم ولده ، ثمّ يولد له ولد ، اسمه محمّد ، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام.

    وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة قوله : انّ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال لجابر : وإن لاقيته فاعلم انّ بقاءك في الدنيا قليل فلم يعش جابر بعد ذلك إلاّ ثلاثة أيّام. ثمّ قال : هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام وفضيلة شهد له بها الخاص والعام (1).

    وقال عبداللّه بن عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر لقد رايت الحكم عنده كأنّه متعلّم (2).

    وقال المفيد : لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) (3).

    وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين وسارت بذكر كلامه الأخبار واُنشدت في مدائحه الأشعار ... (4).

    قال ابن حجر : صفا قلبه ، وزكاه علمه وعمله ، وطهرت نفسه ، وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة اللّه وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة

________________________________________

1 ـ تذكرة الخواص لابن الجوزي 302 ـ 303 ، الفصول المهمّة 215 ـ 216.

2 ـ كشف الغمة 2 / 329.

3 ـ الارشاد 261.

4 ـ الفصول المهمّة 210 نقله عن ارشاد الشيخ المفيد : 261 ـ 262.

________________________________________

(476)

الواصفين وله كلمات كثرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (1).

    وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنها ولا حرج فقد جمعها العلاّمة الطبرسي في كتاب الاحتجاج (2).

    قال الشيخ المفيد في الارشاد : وجاءت الأخبار : انّ نافع بن الأزرق (3) جاء إلى محمّد بن علي فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر في عرض كلامه : قل لهذه المارقة بم استحللتم فراق أميرالمؤمنين ، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى اللّه بنصرته ، فسيقولون له أنّه حكم في دين اللّه فقل لهم قد حكّم اللّه تعالى في شريعة نبيّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) رجلين من خلقه فقال : ( فَابَعثوا حَكَماً مِن أهلِهِ وحَكَماً مِن أهلِها إن يُرِيدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَينَهُما ) (4). وحكّم رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما أمضاه اللّه. أو ما علمتم انّ أميرالمؤمنين انّما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّياه ، واشترط رد ما خالف القرآن في أحكام الرجال وقال حين قالوا له حكّمت على نفسك من حكم عليك ، فقال : ما حكّمت مخلوقاً وانّما حكّمت كتاب اللّه فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن ، واشترط رد ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان ؟ فقال : نافع بن الأزرق هذا واللّه كلام ما مرّ بسمعي قط ولا خطر منّي ببال وهو الحق إن شاء اللّه (5).

________________________________________

1 ـ الصواعق المحرقة 301.

2 ـ الاحتجاج 2 / 54 ـ 69 طبع النجف.

3 ـ ولعلّ المناظر هو عبداللّه بن نافع بن الأزرق ، لأنّ نافع قتل عام 65 من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة وقد نقل ابن شهر آشوب بعض مناظرات الإمام مع عبداللّه بن نافع فلاحظ المناقب 4 / 201.

4 ـ النساء / 35.

5 ـ الارشاد : 265.

________________________________________

(477)

    الراوون عنه :

    وقد روى بعض الصحابة وأكثر التابعين عنه ( عليه السلام ) وقد نهلوا من معين علمه ، وقدجمع الشيخ الطوسي أسماء من روى عنه من العلماء والحفّاظ مبتدئاً بإبراهيم بن مناف الأسدي ومنتهيا بحبابة الوالبية بلغ عددهم 466 شخصاً.

    وقال ابن شهر آشوب بعد نقل كلام المفيد : فمن الصحابة نحو جابر بن عبداللّه الأنصاري ومن التابعين جابر بن يزيد الجعفي ، وكيسان السختياني صاحب العوفية. ومن الفقهاء نحو ابن مبارك ، والزهري ، والأوزاعي وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وزياد ابن منذر النهري. ومن المصنّفين نحو الطبري والبلاذري ... (1).

    ثمّ إنّ الشيعة الامامية أخذت كثيراً من الأحكام الشرعية عنه وعن ولده البار جعفر الصادق وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهية وأمّا ما روي عنه في الحكم والمواعظ فقد نقلها أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه (2).

    ثمّ إنّ الامام محمّد الباقر توفّي عام 114 ودفن في جنب قبر أبيه في البقيع ومن أراد البحث عن فصول حياته في شتى المجالات فليراجع الموسوعات.

________________________________________

1 ـ المناقب 4 / 195 ومن المعلوم أنّ المقصود هو الأعم ممّن روى عن الإمام مباشرة أو مع الواسطة ولاحظ حلية الأولياء 3 / 198.

2 ـ حلية الأولياء 3 / 180 ـ 235 وفي بعض ما نقل عنه تأمّل ونظر. والحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول 284 ـ 300.

________________________________________

(478)

________________________________________

(479)

    الامام السادس :

جعفر بن محمّد ( عليهما السلام )

الصادق

    هو الإمام السادس من أئمّة أهل البيت الطاهر ـ رضي اللّه عنه ـ أجمعين ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله ، وفضله أشهر من أن يذكر. ولد عام 80 وتوفّي عام 148 ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر وجدّه علىّ زين العابدين وعمّ جدّه الحسن بن عليّ ـ رضي اللّه عنهم أجمعين ـ فللّه درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه (1).

    وقال محمّد بن طلحة : هو من عظماء أهل البيت وساداتهم وذو علوم جمّة ، وعبادة موفورة ، وزهادة بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القران الكريم ،

________________________________________

1 ـ وفيات الأعيان 1 / 327 رقم الترجمة 31.

________________________________________

(480)

ويستخرج من بحره ، جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليه نفسه ، رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع كلامه يزهّد في الدنيا ، والاقتداء بهداه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّية الرسالة. نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم. مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني (1) وغيرهم وعدّوا أخذهم عنه منقبه شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها.

    وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر ، ويُحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر حتّى انّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى ، صارت الأحكام التي لا تدرك عللها ، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها ، تضاف إليها وتروى عنه (2).

    وقال ابن الصباغ المالكي : كان جعفر الصادق ( عليه السلام ) من بين اخوته ، خليفة أبيه ، ووصيّه والقائم بالامامة من بعده ، برزعلى جماعة بالفضل ، وكان أنبههم ذكراً ، وأجلّهم قدراً ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في البلدان ، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث.

    وروى عنه جماعة. من أعيان الأمّة مثل يحيى بن سعيد ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وأبو عيينة ، وأبو حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم (3).

________________________________________

1 ـ وفي الأصل أيّوب السختياني والصحيح ما ذكرناه.

2 ـ كشف الغمة 2 / 368.

3 ـ الفصول المهمة 222.

(481)

    إنّك إذا تتّبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها ، كلّها تعرب عن اتّفاق الأمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحية وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل اللّه عزّوجلّ ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها (1).

    إنّ الامام قام بهداية الاُمّة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار ، واشتعلت فيه نار الحرب بين الامويين ومعارضيهم من العباسيين ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الامام الفرصة فنشر من أحاديث جدّه ، وعلوم آبائه ما سارت إليه الركبان وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف آرائهم ومقالاتهم فكانوا أربعة آلاف رجل (2) وهذه فضيلة رابية لم تكتب لأحد من الأئمّة قبله ولا بعده.

    إنّ الامام ( عليه السلام ) قام بالتحديث عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بعد الغفلة التي استمرّت إلى عام 143 (3) وقد اختلط الصحيح بالضعيف وتسرّب إلى السنّة الاسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات بالاضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الاموي. وبالامام عرفوا الصحيح من الزائف ، والحقيقة من الباطل فأخذوا عنه الحكم والأحاديث النبويّة ولو نهلت الاُمّة من مناهل علمه وتركوا الروايات التي رواها الوضّاعون والكذّابون. لما ابتلت الاُمة بمصائب الحديث التي تركها الرواة على جبين الدهر وترى كثيراً من هذه المصائب في الصحاح والمسانيد

________________________________________

1 ـ لاحظ الكافي 1 / 306 ـ 307 وإثبات الهداة للحر العاملي 5 / 322 ـ 330.

2 ـ الارشاد 270 والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 247.

3 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، خلافة المنصور الدوانيقي فقد حدّد تاريخ التدوين بسنة 143.

________________________________________

(482)

خصوصاً في صحيح البخاري.

    والعجب انّ الامام البخاري ، احتجّ بمثل مروان بن الحكم ، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الامام الصادق ( عليه السلام ).

    أمّا الأوّل فهو الوزغ ابن الوزغ ، اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه ، وأمّا الثاني فهو الخارجي المعروف الذي أثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره ، وأمّا الثالث فكان ينتقص عليّاً وينال منه ومع ذلك لم نجد رواية للبخاري عن الامام الصادق ونعم ما قال القائل :

قضية أشبه بالمرزئةبالصادق الصدّيق ما احتجّ فيومثل عمران بن حطان أومشكلة ذات عوار إلىانّ الامام الصادق المجتبىأجلّ من في عصره رتبةقلامة من ظفر ابهامه            هذا البخاري إمام الفئةصحيحه واحتجّ بالمرجئةمروان وابن المرأة المخطئةحيرة أرباب النهى ملجئةبفضله الآي أتت منبئةلم يقترف في عمره سيّئةتعدل من مثل ... مئة (1)

    إنّ للامام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات آلاف ، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره والمتقشفين من الصوفية ضبط المحققون كثيراً منها وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الامام ( عليه السلام ) أمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روى عنه أبان بن تغلب 30 ألف حديث.

    حتّى انّ الحسن بن علي الوشاء قال : أدركت في هذا المسجد ( مسجد الكوفة )

________________________________________

1 ـ النصايح الكافية لمن يتولى معاوية ، كما في أعيان الشيعة 1 / 667.

________________________________________

(483)

تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد. ( كان ( عليه السلام ) يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وحديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ ) (1).

    وأمّا ما اثر عنه في المعارف والعقائد فحدّث عنه ولا حرج ولا يسعنا نقل حتّى القليل منه ومن اراد فليرجع إلى مظانّه (2).

    وأمّا حكمه وقصار كلمه. فلاحظ تحف العقول. وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته الي النجاشي ، والي الأهواز ، ومنها رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال ، ومنها ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر إلى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطّه (3).

    ولمّا توفّي الامام شيّعه عامّة الناس في المدينة وحمل إلى البقيع وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله :

أقول وقد راحوا به يحملونهأتدرون ماذا تحملون إلى الثرىغداة حثا الحاثون فوق ضريحه                على كاهل من حامليه وعاتقثبيراً ثوى من رأس علياء شاهقترابا وأولى كان فوق المفارق

    فسلام اللّه عليه يوم يولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.

________________________________________

1 ـ الرجال للنجاشي 139 برقم 79.

2 ـ الاحتجاج 2 / 69 ـ 155 والتوحيد للصدوق وقد بسطها على أبواب مختلفة.

3 ـ ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيد الأمين في أعيانه 1 / 668.

________________________________________

(484)

________________________________________

(485)

    الإمام السابع :

أبوالحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام )

الكاظم

    سابع أئمّة أهل البيت الطاهر. ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في 7 صفر سنة 128 واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام 183 ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.

    يعرف بالعبد الصالح ، وبالكاظم ، والصابر ، والأمين.

    هو الإمام الكبير القدر والأوحد الحجة الحبر ، الساهر ليله قائما ، القاطع نهاره صائما ، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما.

    قال الشيخ المفيد : هو الإمام بعد أبيه ، والمقدّم على جميع بنيه لاجتماع خصال الفضل فيه ، وورود صحيح النصوص وجلي الأقوال عليه من أبيه بأنّه ولي

 

________________________________________

(486)

عهده والإمام القائم من بعده (1).

    إنّ الكلام في خلقه ، وحلمه ، وكظمه الغيظ ، وفي مناقبه وفضائله ، وفي تواضعه ومكارم أخلاقه ، وكرمه وسخائه ، وشدّة خوفه من اللّه سبحانه ، وكثرة صدقاته ، وأخباره مع الرشيد وأخيراً في القاء القبض عليه من قبله ، وحبسه في ظُلم السجون قرابة سبع سنين واستشهاده ، يحتاج إلى تأليف مفرد قام به المحققون ونحن نترك البحث في جميع ذلك ونشير إلى بعض الجوانب خصوصاً في ما يتعلق بعلمه والذين تخرّجوا على يده من الشيعة والسنّة حتّى يقف القارئ على انّه إمام الكل.

    1 ـ روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال : حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) زائراً وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر ولمّا انتهى إلى القبر قال : السلام عليك يا رسول اللّه يابن عمّي ـ افتخاراً على من حوله ـ ، فدنى موسى بن جعفر فقال : السلام عليك يا أبة ، فتغيّر وجه الرشيد وقال : هذا الفخريا أبا الحسن حقّاً (2).

    2 ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكاً ـ وهو يمتنع عليه ـ ، فلمّا ألحّ عليه قال : ما آخذها إلاّ بحدودها قال : وما حدودها ؟ قال : الحد الأوّل عدن ـ فتغيّر وجه الرشيد ـ قال : والحد الثاني ؟ قال : بسمرقند ـ فأربد وجهه ـ قال : والحد الثالث ؟ قال : أفريقيا قال : والحد الرابع ؟ قال : سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينيا فقال هارون : فلم يبق لنا شيء فتحوّل من

________________________________________

1 ـ لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي 1 / 307 ـ 311 ، إثبات الهداة 3 / 156 ـ 170 فقد نقل في الأخير 60 نصّاً على إمامته.

2 ـ وفيات الأعيان 5 / 309.

________________________________________

(487)

مجلسي فقال موسى : قد أعلمتك انّي إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله واستكفى أمره (1).

    3 ـ كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيرا. فيقول : اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرّر ذلك ، وكان من دعائه ( عليه السلام ) : عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع وكان أوصل الناس لأهله ورحمه وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والادقة والتمور فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو (2).

    4 ـ في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة : قال أبو حنيفة : حججت في ايام أبي عبداللّه الصادق ( عليه السلام ) فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت : يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم ؟ قال : على رسلك. ثمّ جلس مستنداً إلى الحائط ، ثمّ قال : توقَّ شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية المساجد ، وقارعة الطريق ، وتوار خلف جدار ، وشل ثوبك ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها وضع حيث شئت ، فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له : ما اسمك ؟ فقال : أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت له : يا غلام ممّن المعصية ؟ فقال : إنّ السيّئات لاتخلو من احدى ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه وليست من العبد فلا ينبغي للرب أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب ، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي

________________________________________

1 ـ الزمخشري : ربيع الأبرار ، كما في أعيان الشيعة 2 / 8.

2 ـ المفيد : الارشاد 296.

________________________________________

(488)

للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه ، فإن عفا فكرمه وجوده وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته ، قال أبو حنيفة : فانصرفت ولم ألق أبا عبداللّه واستغنيت بما سمعت. ورواه ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلاّ أنّه قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار وقال : فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني ، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث : فقلت : ذرّية بعضها من بعض (1).

    5 ـ روى أبو الفرج الاصفهاني : حدثنا يحيى بن الحسن قال : كان موسى من جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكان صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلا.

    وقال : إنّ رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر ، ويؤذيه إذا لقيه ، فقال له بعض مواليه وشيعته : دعنا نقتله ، فقال : لا ، ثمّ مضى راكباً حتّى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره ، فصاح : لا تدس زرعنا.

    فلم يصغ إليه وأقبل حتّى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة درهم ، قال : فكم ترجو أن تربح ؟ قال : لا أدري ، قال : إنّما سألتك كم ترجو. قال : مائة اُخرى. قال : فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له فقام فقبّل رأسه ، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

    وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له. فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله : أيّما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت ؟ (2).

________________________________________

1 ـ تحف العقول 303 ، المناقب لابن شهر آشوب 4 / 314.

2 ـ مقاتل الطالبيين 499 ـ 500 ، تاريخ بغداد 13 / 28.

________________________________________

(489)

    6 ـ حكي انّ الرشيد سأله يوماً : كيف قلتم نحن ذرّية رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأنتم بنو علي وانّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لاُمّه ؟ فقال الكاظم ( عليه السلام ) : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بِسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم : ( ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهرون وَكَذلكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ * وَ زَكريّا وَ يَحْيى وَ عِيسى و إلْياسَ ... ) وليس لعيسى أب إنّما اُلحق بذريّة الأنبياء من قبل اُمّه وكذلك اُلحقنا بذريّة النبي من قبل اُمّنا فاطمة الزهراء ، وزيادة اُخرى يا أميرالمؤمنين : قال اللّه عزّوجلّ : ( فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ جاءكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأنْفُسَنا وأنفُسَكُمْ ثمَّ نَبْتَهِلْ ... ) ولم يدع ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء (1).

    7 ـ أمّا علمه واحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه (2).

    وقد ذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم مائتين واثنين وستين شخصاً وقام الزميل المتتبّع الشيخ العطاردي بجمع اسماء من رووا عنه الأحاديث في مجالات شتّى فبلغ ستمائة وثمانية وثلاثين رجلا وأسماه بمسند الامام موسى الكاظم فجاء جميع ذلك في أجزاء ثلاثة.

    ولقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّه استشهد مسموماً في سجن السندي ابن شاهك بأمر من الرشيد وكان الخليفة يخاف من أن ينتشر خبر شهادته في بغداد

________________________________________

1 ـ الفصول المهمة 238 ، والآيتان من سورتي الأنعام 84 وآل عمران 61.

2 ـ المفيد : الارشاد 298.

________________________________________

(490)

ولأجل ذلك لمّا مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن علي وغيره حتّى يشهدوا على أنّه مات بأجله ، واُخرج ووضع على الجسر ببغداد فنودي هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت (1).

    وأمّا الكلام في شهادته وأخباره ممّا يطول بنا الكلام إذا أردناه ذكره فليرجع إلى محلها.

    ومن أحسن كلماته ما وصّى به هشام بن الحكم (2).

________________________________________

1 ـ مقاتل الطالبيين 504.

2 ـ لاحظ الكافي 1 / 13 ـ 20 وتحف العقول 283 ـ 297.

(491)

    الإمام الثامن :

علي بن موسى بن جعفر ( عليهم السلام )

الرضا

    هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت القائم بالإمامة بعد أبيه موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) وقد اجتمع أهل البيت في عصره على علمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته (1).

    ولد في المدينة سنة 148 واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 وله يومئذ 55 سنة وكانت مدّة إمامته بعد أبيه 20 سنة (2).

    قال الواقدي : علي بن موسى سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم وكان ثقة يفتي بمسجد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وهو ابن نيف وعشرين سنة وهو

________________________________________

1 ـ لاحظ للوقوف على النصوص : الكافي 1 / 311 ـ 319 والارشاد 304 ـ 305 واثبات الهداة 3 / 228 ، وروي فيه 68 نصاً على إمامته.

2 ـ الارشاد 304.

________________________________________

(492)

من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة (1).

    قال الشيخ كمال الدين بن طلحة : ومن أمعن نظره وفكره ، وجده في الحقيقة وارثهما ( المراد علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين ( عليهم السلام ) ) نمى إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانته ، وكثر أعوانه ، وظهر برهانه ، حتّى أدخله الخليفة المأمون ، محل مهجته ، وأشركه في مملكته ، وفوّض إليه أمر خلافته ، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته ، وكانت مناقبه علية ، وصفاته ثنية ، ونفسه الشريفة زكية هاشمية ، وارومته النبوية كريمة (2).

    وقد عاش الامام في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم وازداد التشكيك في الاُصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود ، وبطارقة النصارى ومجسّمة أهل الحديث.

    وفي تلك الأزمة اُتيحت له ( عليه السلام ) الفرصة للمناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء (3).

    ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي :

    دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فقال : روينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى ( عليه السلام ) الكلام ولمحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) الرؤية. فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) فمن المبلِّغ عن اللّه إلى الثقلين الجنّ والإنس : انّه ( لا تدركه الأبصار ) و ( لا يحيطون به علما ) و ( ليس

________________________________________

1 ـ تذكرة الخواص ابن الحوزي 315.

2 ـ الفصول المهمة 243 نقلا عن مطالب السؤول.

3 ـ لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه الاحتجاج 2 / 170 ـ 237 طبع النجف.

________________________________________

(493)

كمثله شي ) أليس محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلف جميعا فيخبرهم انّه جاء من عنداللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لا تدركه الأبصار ) و ( ولا يحيطون به علما ) و ( ليس كمثله شئ ).

    ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني واُحطت به علما ، وهو على صورة البشر. أما تستحيون ؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عنداللّه بشيئ ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة : فانّه يقول : ( ولَقَدْ رَآهُ نزلةً اُخْرى ) فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) إنّ بعده هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤادُ ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى ) فآيات اللّه غير اللّه. وقال ( لا يُحيطون بِهِ عِلْما ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة : فتكذب الروايات ؟ فقال أبو الحسن : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه انّه لا يحاط به علما ، ولاتدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (1).

    انتشر علم الامام وفضله فأخذت الأفئدة والقلوب تشدّ إليه وفي الاُمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل ، فكانت تأتي الأخبار المرعبة إلى مركز الخلافة العباسية بمرو. فحاول المأمون الرشيد القاء القبض على الامام من خلال لعبة سياسية لقتل الثورة في مهدها ، فأنفذ رجالا إلى المدينة حتّى يحملوا الطالبيين وفيهم علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) إلى مرو. فساروا بالامام عن طريق البصرة حتّى وصلوا به إلى مرو. فأنزلوه داراً وأكرموه.

    واجتمع المأمون معه في مجلس ليس فيه غيرهما وقال له : إنّي اُريد أن أخلع

________________________________________

1 ـ الاحتجاج للطبرسي 2 / 184 ، البحراني : البرهان 4 / 228.

________________________________________

(494)

نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها فما رأيك ؟ فأنكر الرضا ( عليه السلام ) هذا الأمر وقال له : اُعيذك باللّه يا أميرالمؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد ، فرد عليه الرسالة فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي فرد عليه الرضا اباءً شديداً ، ثمّ استدعاه إليه ثانياً وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين ليس في المجلس غيرهم وقال له : إنّي قد رايت أن اُقلّدك أمر المسلمين وافسخ ما في رقبتي واضعه في رقبتك فقال له الرضا ( عليه السلام ) : اللّه اللّه يا أميرالمؤمنين انّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه قال له : فانّي موليك العهد من بعدي فقال له : اعفني من ذلك يا أميرالمؤمنين فقال له المأمون كلاما فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه : انّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) وشرط في من خالف منهم أن يضرب عنقه ولابد من قبولك ما اُريد منك فإنّي لا أجد محيصاً عنه فقال له الرضا ( عليه السلام ) : فإنّي اُجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على انّني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا اقضي ولا اُولي ولا أعزل ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه (1).

    بعد قبول علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) بولاية العهد قامَ بين يديه الخطباء والشعراء فخفقت الألوية على رأسه وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل ابن علي الخزاعي فلمّا دخل عليه قال : قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك فأمره بالجلوس حتّى خف مجلسه ثم قال له : هاتها. فأنشد قصيدته المعروفة :

ذكرت محل الربع من عرفات            فأجريت دمع العين على الوجنات

________________________________________

1 ـ الارشاد للمفيد 310.

________________________________________

(495)

وقد خانني صبري وهاجت صبابتيمدارس آيات خلت من تلاوة                  رسوم ديار اقفرت وعراتومنزل وحي مقفر العرصات

    حتّى أتى على آخرها. فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا ( عليه السلام ) فدخل إلى حجرته وأنفذ إليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه فردّها دعبل وقال : واللّه ما لهذا جئت وانّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر إلى وجهك الميمون وانّي لفي غنى فإن رأيت أن تعطيني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرة (1).

    كان الامام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الأرض وعند ذلك أحسَّ المأمون أنّ اعطاءه ولاية العهد ربّما يؤدّي إلى الاطاحة بخلافته ، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث إليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا ( عليه السلام ) : إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك ما كان من الشروط في دخول الأمر فاعفني في الصلاة بالناس فقال له المأمون : إنَّما اُريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضلك ، ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك حتّى ألحّ عليه المأمون. فارسل إليه الرضا : إن أعفيتني فهو أحبّ إلىّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) فقال له المأمون : اُخرج كيف شئت وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا قال : فعقد الناس لأبي الحسن ( عليه السلام ) في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه فاغتسل أبو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامة بيضاء من قطنٍ ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه ومسّ

________________________________________

1 ـ ابن الصباغ : الفصول المهمة 246 والمفيد : الارشاد 316 وللقصة صلة ومن أراد فليرجع إلى المصدرين المذكورين.

________________________________________

(496)

شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه : افعلوا ما فعلت فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه ، فلمّا رآه الجند والقواد سقطوا كلّهم عن الدواب إلى الأرض ثمّ كبّر وكبر الناس فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوه فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل : إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس ، وخفنا كلّنا على دمائنا ، فأنفذ إليه أن يرجع فرجع الرضا ( عليه السلام ) واختلف أمر الناس في ذلك اليوم (1).

    وقد أشار الشاعر البحتري إلى تلك القصّة بأبيات :

ذكروا بطلعتك النبي (ص) فهللواحتّى انتهيت إلى المصلى لابساًومشيت مشية خاشع متواضع           لما طلعت من الصفوف وكبروانور الهدى يبدو عليك فيظهرللّه لا يزهى ولا يتكبر (2)

    إنّ هذا وأمثاله وبالأخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون. لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا وبالتالي سيؤدي إلى خروج الأمر من بيت العباسيين ـ كل ذلك ـ دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السم على النحو المذكور في التاريخ.

    ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس انّه كان ينشد الشعر في كل جليل وطفيف ولم يمدح الامام فاعتذر عنه بالأبيات التالية.

قيل لي أنت أحسن الناس طرّاًلك من جوهر الكلام بديعفعلام تركت مدح ابن موسى           في فنون من الكلام النبيهيثمر الدر في يدي مجتنيهوالخصال التي تجمّعن فيه

________________________________________

1 ـ المفيد : الارشاد 312.

2 ـ أعيان الشيعة 2 / 21 ـ 22.

________________________________________

(497)

قلت لا أستطيع مدح إمام                 كان جبرئيل خادماً لأبيه

    ولمّا لم يقبل هذا العذر منه أنشد قصيدة مطوّلة فيها مايلي :

مطهّرون نقيّات جيوبهممن لم يكن علويا حين تنسبهاللّه لمّا برأ خلقاً فأتقنهفأنتم الملأ الأعلى وعندكم                    تجري الصلاة عليهم أينما ذكروافما له في قديم الدهر مفتخرصفاكم واصطفاكم أيّها البشرعلم الكتاب وما جاءت به السور (1)

    وأمّا من روى عن الرضا ( عليه السلام ) فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله (2) والسيد الأمين في أعيانه أسماء من رووا عنه. وقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عنه من الأحاديث والخطب والمواعظ والمناظرات وأسماه مسند الامام الرضا ( عليه السلام ) ورتّب أسماء الراوين عنه حسب حروف المعجم فجاء 312 رجلا.

    فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

________________________________________

1 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 3 / 270.

2 ـ رجال الشيخ 366 ـ 397 ذكر فيه 315 رجلا.

________________________________________

(498)

________________________________________

(499)

    الإمام التاسع :

محمّد بن علي بن موسى ( عليهم السلام )

الجواد

    هو من أئمّة أهل البيت ، تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام 195. ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

    قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا ( عليه السلام ) عام 203 واستشهد ببغداد عام 220. أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.

    أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة (1).

    لمّا توفّي الرضا ( عليه السلام ) كان الامام الجواد في المدينة وقام بأمر الامامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين غير انّ المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه ( عليه السلام ) خلافاً لأسلافه من العباسيين ،

________________________________________

1 ـ الكافي 1 / 320 ـ 323 ، اثبات الهداة 3 / 321 ـ 328.

________________________________________

(500)

حيث انّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضا للخلفاء ، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أئمة أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم ، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم إلى الامام الحادي عشر كما ستعرف.

    ولمّا جيئ بالامام الجواد إلى مركز الخلافة ، شغف به المأمون ، لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته اُم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره ، ونكتفي في المقام بذكر أمرين :

    1 ـ لمّا توفّي الامام الرضا ( عليه السلام ) وقدم المأمون بغداد. اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد وعمره آنذاك تسع سنين. فلمّا قرب منه الخليفة فقال له : يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك ؟! فقال له محمّد الجواد مسرعا : يا أميرالمؤمنين فرّ أصحابي فرقا والظن بك حسن انّه لا يفر منك من لا ذنب له ، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي. فأعجب المأمون كلامه. وحسن صورته قال : ما اسمك يا غلام ؟ قال : محمّد بن علي الرضا ( عليه السلام ) فترحّم على أبيه (1).

    2 ـ لمّا أراد المأمون تزويج ابنته اُم الفضل من الامام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له : ننشدك اللّه أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ( عليه السلام ) فانّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرا ، قد ملّكناه اللّه وينزع عنّا

________________________________________

1 ـ الفصول المهمة 266.

(501)

به عزّا. قد ألبسناه اللّه وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفى اللّه المهم من ذلك ، وأضافوا : انّه صبي لا معرفة له فامهلة حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماترى.

    قال المأمون : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى والهامه. ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله ، قالوا : رضينا فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك ، واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر ( عليه السلام ) فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟ فقال : إستأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال : سل إن شئت.

    فقال : ما تقول جعلت فداك في مُحْرم قتل صيدا ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : في حل أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا ؟ قتله عمداً أو خطأ ؟ حرّاً كان المحرم أو عبدا ؟ صغيراً كان أو كبيرا ؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيدا ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها ؟ من صغار الصيد أم كبارها ؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادما ؟ ليلا كان قتله للصيد أم نهارا ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟ فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.

    فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لأبي جعفر ( عليه السلام ) : اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وانا مزوّجك

 

________________________________________

(502)

اُم الفضل ابنتي (1).

    ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن اصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً ، فإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة ، فان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر ... (2).

 

    رجوع الجواد إلى المدينة :

    ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن اقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم ، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي

________________________________________

1 ـ الارشاد 319 ـ 321 وإعلام الورى 352 وللقصّة صلة فراجع.

2 ـ المفيد : الارشاد 322.

________________________________________

(503)

مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدمه إلى بغداد سنة 220 (1) وتوفّي في بغداد آخر ذي القعدة من تلك السنة وله من العمر 25 سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.

    وأمّا الرواة عنه فقد ذكرهم ابن شهر آشوب في مناقبه فقال : من ثقاته أيوب ابن نوح بن دراج الكوفي ، وجعفر بن محمّد بن يونس الأحول ، والحسين ابن مسلم بن الحسن ، والمختار بن زياد العبدي البصري ، ومحمّد بن الحسين أبي الخطاب الكوفي.

    ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري ، ونوح بن شعيب البغدادي ، ومحمّد بن أحمد المحمودي ، وأبو يحيى الجرجاني ، وأبوالقاسم إدريس القمّي ، وعلي بن محمّد بن هارون بن الحسن بن محبوب ، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، وأبو علي بن بلال وعبداللّه بن محمّد الحضيني ، ومحمّد بن الحسن بن شمعون البصري وقال في موضع آخر : وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ، ومحمّد بن منده بن مهربذ في كتابه (2).

    هذا فقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عن الامام الجواد ( عليه السلام ) أسماه « مسند الامام الجواد » وقد ذكر أسماء الرواة عنه من

________________________________________

1 ـ وفي الارشاد 326 وفي إعلام الهدى 304 : وكان سبب ورود الامام إلى بغداد وإشخاص المعتصم له من المدينة فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة 225 ... ثمّ يقول : وكان له يوم قبض 25 سنة.

ولا يخفى انّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة 225 يكون له يوم وفاته 30 سنة من العمر لأنّه ولد عام 195.

2 ـ ابن شهر آشوب : المناقب 4 / 258.

________________________________________

(504)

المحدّثين والفقهاء الذين يربو عددهم على 121 شخصا. شكر اللّه مساعيه.

    وسلام اللّه على إمامنا الجواد يوم ولد ويوم مات أو استشهد بالسم ويوم يبعث حيّا.

 

________________________________________

(505)

    الامام العاشر :

أبوالحسن علي بن محمّد الجواد بن علي الرضا ( عليهم السلام )

الهادي

    الامام علي الهادي ، هو الامام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام 212 هـ وتوفّي بسامراء سنة 254 هـ وهو من بيت الرسالة والامامة ومقر الوصاية والخلافة ، وثمرّة من شجرة النبوّة ، قام بأمر الامامة بعد والده الامام الجواد ، وقد عاصر خلافة المعتصم فالواثق ، فالمتوكل فالمنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، وله مع هؤلاء قضايا لا يقتضي المقام ذكر البعض فكيف الكل.

    قال ابن شهر آشوب : كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمَت ، عَلتْه هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء (1)!

________________________________________

1 ـ مناقب آل أبي طالب 4 / 401 طبع قم.

________________________________________

(506)

    وقال عماد الدين الحنبلي : كان فقيهاً إماماً متعبّداً (1).

    وقال المفيد : تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمّد ، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالامامة ، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة (2).

    وقدتضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا ، فمن اراد فليرجع إلى الكافي واثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك (3).

    وقد مارس المتوكّل نفس الاسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الاقامة في مقرّ الخلافة وجعل العيون والحرّاس عليهم حتّى يطلعوا على دقيق حياتهم وجليلها ، وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين وأشدّهم عداءً لعليّ فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعى يحيى بن هرثمة ، وقال : إذهب إلى المدينة ، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.

    قال يحيى : فذهبت إلى المدينة. فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله ، خوفاً على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنّه كان مُحْسِنا اليهم ، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى : فجعلت اُسكِّنهم وأحْلِف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه ، وانّه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد ، بدأت بإسحاق بن

________________________________________

1 ـ شذرات الذهب 2 / 128 في حوادث سنة 254.

2 ـ الارشاد 327.

3 ـ الكليني ، الكافي 1 / 323 ـ 325 ، الشيخ الحر العاملي : اثبات الهداة 3 / 355 ـ 358.

________________________________________

(507)

إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه ، والمتوكل مَنْ تَعْلَم ، فإن حرّضته عليه قتله ، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة. فقلت له : واللّه ما وقعت منه إلاّ على كلّ أمر جميل ، ثمّ صرت به إلى « سرّ من راى » ، فبدأت بـ « وصيف » التركي ، فأخبرته بوصوله ، فقال : واللّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك ، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلاّ المصاحف وكتب العلم وأنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سامراء(1).

    ومع انّ الامام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكل ، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب ، وشي إلى المتوكل بعلي بن محمّد أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم وأنّه عازم بالوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ، ووجدوه في بيت مغلق عليه وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك ، إلى المتوكل ، قالوا للمتوكل : لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشراب فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكل ، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال : واللّه ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني ، فأعفاه ، فقال له : أنشدني شعراً ، فقال علي : أنا قليل الرواية للشعر ، فقال : لابد ، فأنشده وهو جالس عنده :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهمواستنلزوا بعد عزّ من معاقلهم             غلب الرجال فما أغنتهم القللواُسْكِنُوا حُفراً يابئس ما نزلوا

________________________________________

1 ـ سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص 322.

________________________________________

(508)

ناداهم صارخ من بعد دفنهمأين الوجوه التي كانت منعّمةفأفصح القبر عنهم حين ساءلهمقد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا                   أين الأسرّة والتيجان والحللمن دونها تضرب الأستار والكلتلك الوجوه عليها الدود يقتتل (1)فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكِلوا

    فبكى المتوكّل حتّى بلّتْ لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثم ردّه إلى منزله مكرماً (2).

 

    آثاره العلمية :

    روى الحفّاظ والرواة عن الامام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة ، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم وبثّها الحرّ العاملي في وسائل الشيعة على أبواب مختلفة ، وممّا نلفت إليه النظر انّ للإمام رسائل.

    1 ـ رسالته في الرد على الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه (3).

    2 ـ أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضا أوردها في تحف العقول.

    3 ـ قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب.

    ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الامام نأتي بنموذج من تفسيره :

________________________________________

1 ـ ربما يروى « ينتقل ».

2 ـ المسعودي : مروج الذهب 4 / 11.

3 ـ تحف العقول 338 ـ 352.

________________________________________

(509)

    قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الايمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الامام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتّى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ( فَلمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعْهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بأسنا سُنَّة اللّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ في عبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ ) (1) ، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات (2).

 

    وفاته :

    توفّي أبوالحسن ( عليه السلام ) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى ، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه هو الإمام من بعده والحسين ومحمّد وجعفر وابنته عايشة ، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر ، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة (3).

    وقد ذكر المسعودي في اثبات الوصيّة ، تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري. فمن أراد فليراجع.

________________________________________

1 ـ غافر / 84 ـ 85.

2 ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب 4 / 403 ـ 405.

3 ـ الإرشاد 327.

________________________________________

(510)

    الرواة عن الامام الهادي :

    ذكر ابن شهر آشوب في المناقب مشاهير الرواة عنه (1) ، وذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم 185 شخصاً (2) ثمّ إنّ الشيخ المعاصر العطاردي قام بجمع ما روي عنه في مجالات شتى فأسماه « مسند الإمام الهادي » شكر اللّه سعيه.

________________________________________

1 ـ المناقب 4 / 402.

2 ـ رجال الشيخ الطوسي 409 ـ 427.

(511)

    الإمام الحادي عشر :

أبو محمّد الحسن بن علي الهادي ( عليهما السلام ) العسكري

    أبو محمّد : الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد ، أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر ، الملقّب بالعسكري ولد عام 232 (1) ، وقال الخطيب في تاريخه (2) وابن الجوزي في تذكرته (3) أنّه ولد عام 231 ، وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة 236 ، وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز تقدّمه

________________________________________

1 ـ الكليني : الكافي 1 / 503.

2 ـ الخطيب : تاريخ بغداد 7 / 366.

3 ـ سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص 322.

________________________________________

(512)

على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة (1) روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين ما يربو على 150 شخصاً (2) وتوفّي عام 260 ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.

    وخلّف إبنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب السلطة ، واجتهادها في البحث عن أمره ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم ، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.

    وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر ويراد به سرّ من رأى الذي بناها المعتصم ، وانتقل إليها بعسكره ، وأمّا نسبة الإمام إليه لأنّ المتوكّل أشخص اباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنسب هو وولده إليها (3).

    وقال السبط ابن الجوزي : كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.

    ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزىّ في كتابه المسمّى بتحريم الخمر ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى ابائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول : اشهد باللّه لقد سمعت محمّداً رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يقول : أشهد باللّه لقد سمعت جبرائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت ميكائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت إسرافيل يقول : أشهد باللّه على اللوح المحفوظ انّه قال : سمعت اللّه يقول « شارب الخمر كعابد الوثن » (4).

________________________________________

1 ـ المفيد : الارشاد 335.

2 ـ العطاردي : مسند الامام العسكري وقد جمع فيه كل ما روي عنه وأسند إليه.

3 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 2 / 94.

4 ـ تذكرة الخواص 324.

________________________________________

(513)

    إنّ الإمام أسند الحديث إلى النبيّ الأكرم ولعلّ السبط ابن الجوزي زعم انّه مختص بهذا المورد ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فإنّ أحاديث أئمّة أهل البيت مروية كلها عن النبىّ الأكرم ، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلاّ ما وصل إليهم عن النبىّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن طريق آبائهم وأجدادهم ، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية ، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصية وهو في قياسه خاطئ ، فهم منذ نعومة أظفار هم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبية لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.

    وهذا جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) : إذا حدّثتني بحديث فأسنده لك ؟ فقال : حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، فكل ما اُحدثك بهذا الإسناد. ثمّ قال : لحديث واحد تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها (1).

    وروى حفص ابن البختري ، قال : قلت لأبي عبداللّه الصادق ( عليه السلام ) : أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟ فقال : ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (2).

    فأئمة المسلمين على حد قول القائل :

________________________________________

1 ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة ج 18 ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي الحديث 67.

2 ـ المصدر نفسه ، الحديث 86.

________________________________________

(514)

ووال اناسا نقلهم وحديثهم                روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

    ولقد عاتب الامام الباقر ( عليه السلام ) سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : شرقّا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ أشياء خرج من عندنا أهل البيت.

    رغم أنّ الخلفاء وضعوا الامام تحت الاقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات نذكر أسماء الرواة عنه :

    قال ابن شهرآشوب : من ثقاته علي بن جعفر ، وأبو هاشم ، داود بن القاسم الجعفري وقد أدرك خمسة من الأئمّة ( عليهم السلام ) وداود بن أبي يزيد النيسابوري ، ومحمّد بن علي بن بلال ، وعبداللّه بن جعفر الحميري القمّي ، وأبو عمر عثمان ابن سعيد العمري ، وإسحاق بن ربيع الكوفي ، وأبو القاسم جابر بن اليزيد الفارسي ، وإبراهيم بن عبدة بن إبراهيم النيسابوري و ... (1).

    ثمّ إنّ الكلام في أخلاقه وأطواره ، ومناقبه وفضائله ، وكرمه وسخائه ، وهيبته ، وعظمته ، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة. وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب ، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماءنا الأبرابر بيد أنّا نشير هنا إلى لمحة من علومه :

    1 ـ لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً ويساراً وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا ، ولكن الامام ( عليه السلام ) يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.

________________________________________

1 ـ المناقب 4 / 423.

________________________________________

(515)

    فقال اللّه : ( الم ذلِك الكتابُ ) ( فقل ) يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّه لا يقدرون عليه بقوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ) ـ الإسراء / 88 ـ (1).

    وقد روي هذا المعنى عن أبيه الامام الهادي ( عليه السلام ) (2).

    2 ـ كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : ( اهدِنا الصِّراط المُسْتقيم ) أولستم فيه ؟

فما معنى هذه الدعوة ؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه ؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا ».

    ثمّ فسّر الصراط بقوله : الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة (3).

    وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الامام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة اُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركّز الامام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.

________________________________________

1 ـ الصدوق : معاني الأخبار 24 ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

2 ـ الكليني : الكافي ج 1 كتاب العقل والجهل الحديث 20 / 24 ـ 25.

3 ـ الصدوق : معاني الأخبار 33.

________________________________________

(516)

    3 ـ ربّما يغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه : ( صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كل هذا نعمة من اللّه ، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضّالِّين ) هو نعمة التوفيق والهداية.

    ولأجل ذلك نرى انّ الامام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّقينَ والشُّهَداءِ والصّالِحينَ وحَسُنَ اُولئِكَ رفيقاً ) ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة » (1).

    4 ـ لقد تفشّت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء ، قبل أن تخلق استلهاماً من بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتابِ ) (2) فقال : هل يمحو إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. إنّه لا يعلم الشيء حتّى يكون ، فنظر إلىَّ شزرا ، وقال :

    « تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه » (3).

________________________________________

1 ـ الصدوق : معاني الأخبار 36.

2 ـ الرعد / 39.

3 ـ المسعودي : اثبات الوصية 241.

________________________________________

(517)

    حصيلة البحث :

    هولاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم بل أئمة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك ؟ وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الاُمّة على التمسّك بهما وقال : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً (1).

    ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين وإنّما استعانوا في تفسيره باُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقون غبارهم ، نظراء مجاهد بن جبر ( ت 104 ) وعكرمة البربري ( ت 104 ) وطاووس بن كيسان اليماني ( ت 106 ) وعطاء بن أبي رباح ( ت 114 ) ومحمّد بن كعب القرظي ( ت 118 ) إلى غير ذلك من اُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت ـ صلوات اللّه عليهم ـ ...

    فالإسلام عقيدة وشريعة ، فالنجاة عن الضلال ـ حسب مفاد حديث الثقلين هو الرجوع إليهما وأمّا غيرهما فإن رجع إليهما فنعم المطلوب وإلاّ فلا قيمة له ـ أمّا الصحابة والتابعون ، فلا يعتد برأيهم إلاّ إذا كان مأخوذاً عن كتابه سبحانه أو سنّة نبيّه ، وليس حديث أئمّة أهل البيت إلاّ إشراقاً خالداً لحديث جدّهم الأكرم وسنّته.

________________________________________

1 ـ رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة ، ( لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث ، ترى اسنادها موصولة إلى النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).

________________________________________

(518)

________________________________________

(519)

    الإمام الثاني عشر :

الخلف الصالح

المهدي صاحب الزمان ( عجل اللّه تعالى فرجه)

    هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة ، الخلف الصالح ، ولد عليه السلام بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين ، آتاه اللّه الحكم صبيّا كما حدث ليحيى قال سبحانه : ( يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّة وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا) (1) وجعله إماماً وهو طفل ، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه : ( إنِّى عَبْدُ اللّهِ آتانِىَ الكِتابَ وَجَعَلنِى نَبِّيا ) (2) وقد تواتر النص عليه من النبيّ الأكرم وآبائه

________________________________________

1 ـ مريم / 12.

2 ـ مريم / 30.

________________________________________

(520)

الكرام.

    اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ، والجور ، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق ، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون ، فهو بإذن اللّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه ، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية ، ويمحي أسباب العداء ، والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة ، وافتراق الكلمة ، ويحقق به سبحانه بظهوره ، وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

    1 ـ ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْركُونَ بِى شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعَدَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) (1).

    2 ـ ( وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ ) (2).

    3 ـ ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ ) (3).

    ويأتي عصر ذهبي لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ ودخلته كلمة الإسلام ولا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها بشهادة « لا إله إلاّ اللّه » بكرة وعشيا.

________________________________________

1 ـ النور / 55.

2 ـ القصص / 5.

3 ـ الأنبياء / 105.

(521)

    1 ـ روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : ولو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جورا (1).

    2 ـ أخرج أبو داود عن عبداللّه بن مسعود أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : لا تنقضي الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي (2).

    3 ـ أخرج أبو داود عن اُمّ سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يقول : المهدي من عترتي من ولد فاطمة (3).

    4 ـ أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال : يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي (4).

    إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه يقول الدكتور عبدالباقي : إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين انّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريبا ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح (5).

    هذا هو المهدي الذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه ، وانّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته ، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الامام الثاني عشر الذي ولد بسامراء عام 255 هـ واختفى بعد وفاة أبيه عام 260 هـ ، وقد تضافرت

________________________________________

1 ـ مسند أحمد 1 / 99 ، 3 / 17 ـ 70.

2 ـ جامع الاُصول 11 / 48 برقم 7810.

3 ـ المصدر نفسه برقم 7812.

4 ـ المصدر نفسه برقم 7810.

5 ـ الدكتور عبدالباقي : بين يدي الساعة 123.

________________________________________

(522)

عليه النصوص من آبائه ، على وجه ماترك شكّاً ولا شبهة (1) ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة ، وقالوا بأنّه ولد وأنّه محمّد بن الحسن العسكري.

    نعم كثير منهم قالوا بأنّه سيولد في آخر الزمان ، وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، فمن رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهر له الحق ، وأنّ المولود للامام العسكري هو المهدي الموعود.

    وممّن وافق من علماء أهل السنّة بأنّ وليد بيت الحسن العسكري هو المهدي الموعود :

    1 ـ كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي الشافعي في كتابه « مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ». وقد أثنى عليه من ترجم له مثل اليافعي في « مرآة الجنان » في حوادث سنة 650. قال بعد سرد اسمه ونسبه : « المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر ، فأمّا مولده فبسرّ من رأى ، وأمّا نسبه أبا فأبوه الحسن الخالص » ثمّ أورد عدّة أخبار واردة في المهدي من طريق أبي داود ، والترمذي ، ومسلم والبخاري وغيرهم ثمّ اعترض بأنّها لا تدل على أنّه محمّد بن الحسن العسكري وأجاب بأنّ الرسول لمّا وصفه وذكر اسمه ونسبه وجدنا تلك الصفات والعلامات موجودة في محمّد بن الحسن العسكري علمنا أنّه هو المهدي.

    2 ـ أبو عبداللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابيه : « البيان في اخبار صاحب الزمان » و« كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ».

    3 ـ نور الدين علي بن محمّد بن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة في معرفة الأئمّة.

________________________________________

1 ـ اقرأ هذه النصوص في كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق 306 ـ 381 ترى فيه النصوص المتضافرة على أنّ المهدى الموعود هو ولد الامام أبو محمّد الحسن العسكري وانّ له غيبة.

________________________________________

(523)

    4 ـ الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بالسبط ابن الجوزي « في تذكرة الخواص ».

    إلى غير ذلك من علماء وحفّاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في أعيان الشيعة وأنهاه إلى ثلاثة عشر ، ثمّ قال : والقائلون بوجود المهدي من علماء أهل السنّة كثيرون وفيما ذكرناه منهم كفاية ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى كتابنا « البرهان إلى وجود صاحب الزمان » ورسالة « كشف الأستار » للشيخ حسين النوري (1).

    وقد كان الاعتقاد بظهور المهدي في عصر الأئمّة الهداة أمراً مسلّماً حتّى أنّ دعبل الخزاعي ذكره في قصيدته التي أنشدها لعلي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) فقال :

خروج إمام لا محالة قائميميز فينا كل حق وباطل                 يقوم على اسم اللّه والبركاتويجزي على النعماء والنقمات

    ولمّا وصل دعبل إلى هذين البيتين بكى الرضا ( عليه السلام ) بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه ، فقال له : يا خزاعيّ نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الامام ومتى يقوم ؟ ، فقلت : لا يا مولاي ، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ، ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً ، فقال : يا دعبل ، الامام بعدي محمّد ابني ( الجواد ) وبعد محمّد ابنه علي ( الهادي ) وبعد علي ابنه الحسن ( العسكري ) وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جورا ، وأمّا متى ؟ فاخبار عن الوقت ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن

________________________________________

1 ـ أعيان الشيعة 2 / 64 ـ 75.

________________________________________

(524)

آبائه عن علي ( عليه السلام ) إنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قيل له : يا رسول اللّه متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ هو. ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتة (1).

    ثمّ إنّ للمهدي ـ عجّل اللّه تعالى فرجه ـ غيبتين صغرى وكبرى ، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت ، أمّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء وعدم نصب غيرهم ، وقد مات السفير الأخير علي بن محمّد السمري عام 329 هـ ، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في اُمور شتّى.

    وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الاُولى إلى أن يقوم بإذن اللّه تعالى.

    وأمّا من رأى الحجّة في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتّى بعد الكبرى ، فحدّث عنه ولا حرج فقد اُلف في ذلك كتب أحسنها وأجملها : كمال الدين للصدوق والغيبة للشيخ الطوسي.

    ثمّ إنّ حول الامام المهدي أسئله وشبهات ربّما يتجاوز العشرة ، وقد ذكرها المحقّقون من علماء الإمامية في كتبهم وأجابوا عنها بوضوح (2).

________________________________________

1 ـ الصدوق : كمال الدين وتمام النعمة 2 / 372.

2 ـ لاحظ محاضراتنا : الإلهيات : بقلم الشيخ الفاضل حسن مكّي 2 / 641 ـ 653 وفي كتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر لشيخنا : لطف اللّه الصافي ـ دام ظله ـ غنى وكفاية لطالب الحق.