قاعدة نفي العسر والحرج

قاعدة نفي العسر والحرج 

 

بيان ذلك: أن قاعدة نفي الضرر، وكذلك قاعدة نفي الحرج بناء - على ما استظهرناه من أن مفادهما نفي الأحكام الضررية والحرجية - يكون حاكمة على أدلة الأحكام الأولية، بمعنى أن الأدلة الأولية لها إطلاق أو عموم يشمل كلتا حالتي الحكم، من كونه ضرريا وغير ضرري، فالقاعدة تخرج حالة كونه ضرريا عن مفاد الإطلاق أو العموم، فنتيجة هذه الحكومة لبا تقييد ذلك الإطلاق، أو تخصيص ذلك العموم بغير حالة كون ذلك الحكم ضرريا. وأما إذا كان الحكم المجعول على موضوع ضرري دائما كوجوب الجهاد وإعطاء الخمس والزكاة مثلا، أو كان نفس الحكم دائما ضرريا كحكمه بضمان اليد في مورد التلف، فخارج عن مصب هذه القاعدة. وليس من باب التخصيص حتى يكون مستهجنا لكونه تخصيص الأكثر، نعم لو اتفق لهذه الأحكام الضررية ومن قبلها ترتب ضرر آخر غير ما يقتضي طبع نفس هذه الأحكام أو موضوعاتها، فحينئذ يكون مشمولا لهذه القاعدة، ولا محذور فيه أصلا. وذلك من جهة شمول الحكومة لمثل هذا المورد، لأنه بالنسبة إلى مثل هذا الضرر الذي اتفاقي وليس من مقتضيات طبع نفس الحكم أو موضوعه، يكون من مداليل الإطلاق أو العموم للأدلة الأولية، فالقاعدة تقيد ذلك الإطلاق، أو يخصص ذلك العموم بغير مورد ترتب هذا الضرر على ذلك الحكم، فيكون تقييدا أو تخصيصا لدليل ذلك الحكم لبا بلسان الحكومة. وبعبارة أخرى: هذه القاعدة ناظرة إلى تضييق المجعول الأولي وتخصيصه باحدى حالتيه، أي حالة عدم كونه ضرريا فلابد وأن يكون لذلك المجعول الأولي حالتان، حتى يكون داخلا في موضوع القاعدة، وإلا لو لم يكن له إلا حالة واحدة يكون خارجا عن موضوع القاعدة، وليس من باب التخصيص. وحيث أن في الموارد المذكورة للتخصيص إما يكون الموضوع موضوعا ضرريا دائما، أو نفس الحكم كذلك، فيكون خروجها بالتخصص لا بالتخصيص. التنبيه الثالث: في بيان وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلة الأولية القائمة على

 

ثبوت الأحكام الواقعية لموضوعاتها بعناوينها الأولية. أقول: لا شك في أن النسبة بين دليل هذه القاعدة وبين تلك الأدلة عموم من وجه، مثلا دليل وجوب الغسل عام من حيث كونه ضرريا أو غير ضرري، ولا ضرر أعم منه: لشموله لغير وجوب الغسل من الأحكام الضررية، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين، فبأي وجه أخذوا بدليل لا ضرر وقدموه على تلك الأدلة، مع أن مقتضى القاعدة تساقط الدليلين المتعارضين في مورد الاجتماع إذا كان بينهما عموم من وجه. وقد ذكروا لذلك وجوها نذكر منها ما هو المختار في وجه الجمع ونترك الباقي، إذ لا فائدة في ذكرها والإشكال عليها مع وضوح بطلانها. فنقول: وجه تقديم دليل لاضرر على تلك الأدلة حكومته عليها بالحكومة الواقعية بالتضييق في جانب المحمول، فدليل لا ضرر يضيق المحمول في تلك الأدلة برفعه رفعا تشريعيا في إحدى الحالتين، أي حالة كونه ضرريا سواء أكان المحمول حكما تكليفيا أو وضعيا، بلا تصرف وتضييق في النسبة التي بين الموضوع والمحمول حتي يكون تخصيصا. نعم ينتج نتيجة التخصيص، فإذا قسنا دليل لا ضرر مع دليل وجوب الغسل أو الوضوء على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر، يكون مفاد لا ضرر أن هذا الوجوب المحمول على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر، ويقال بأن المحدث بحدث كذا يجب عليه ليس مجعولا إذا كان ضرريا، فلا يمكن التعارض بين مثل هذين الدليلين، لأن التعارض بين الدليلين عبارة عن التناقض بينهما، وفي التناقض لابد وأن تكون القضيتين الموجبة والسالبة متحدتين من حيث الموضوع والمحمول، وإنما الاختلاف من حيث السلب والايجاب، فلو كانت إحدى القضيتين المختلفتين بالسلب والايجاب مفادها التصرف في موضوع القضية الأخرى، كقولهم (لا شك لكثير الشك) أو

 

التصرف في محمولها كقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا ضرر ولا ضرار) بناء على ما استظهرنا منه من أن مفاده رفع الحكم الضرري عن عالم الجعل والتشريع، فلا يتحقق تناقض وتعارض. وهذا هو السر في عدم ملاحظة النسبة بين الحاكم والمحكوم، بل يقدم الحاكم على كل حال، لأن ملاحظة النسبة فرع التعارض، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم: إذ المعارضة فرع وحدة القضيتين بحسب الموضوع والمحمول. وأما إذا كان لسان إحدى القضيتين التصرف في موضوع القضية الأخرى أو محمولها فلا تعارض حتى تلاحظ النسبة أو قوة الظهور وأما الجمع العرفي الذي ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) (1) وإن كان صحيحا ومطابقا للواقع، إلا أنه ليس بلا سبب وجزافا. ووجه الجمع العرفي هو ما ذكرنا من الحكومة في هذا المورد، وربما يكون وجهه في الموارد الاخر غير الحكومة، من قوة الظهور في أحدهما لكونه أظهر، أو كون أحدهما خاصا، أو غير ذلك. وأما بيان أقسام الحكومة الثمانية، من كونها ظاهرية أو واقعية، أو كونها في جانب الموضوع أو في جانب المحمول، كل واحد منهما بالتوسعة أو بالتضييق فقد ذكرنا وشرحناها في باب حكومة الأمارات على الأصول في كتابنا (منتهى الأصول) (2) التنبيه الرابع: في أن مفاد لا ضرر نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر واقعا، سواء علم المكلف بذلك أم لا، وذلك من جهة أن الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعية لا بقيد أنها معلومة، فالمراد من الحديث الشريف نفي الضرر الواقعي سواء فيه العلم والجهل.

 

(هامش)

 

(1) (كفاية الأصول) ص 382. (2) (منتهى الأصول) ج 2، ص 537 (*)

 

فمن هذا يتولد الإشكال في موارد: منها: قولهم بصحة الوضوء أو الغسل مع الجهل بكون استعمال الماء ضرريا ومنها: تقييدهم لخيار الغبن، وكذلك خيار العيب بجهل المغبون بالغبن وجهل المشتري بعيب المبيع. ولكن الجواب عن هذه الإشكالات: أما في مسألة الطهارة المائية فلأن حكم الشارع ببطلان الطهارة المائية في ظرف الجهل بضرر استعمال الماء خلاف الامتنان، لأنه يوجب إعادة الوضوء والغسل، بل الأعمال المتوقفة عليهما وقد سبق أن سوق الحديث في مقام الامتنان، فلا يجرى فيما هو خلاف الامتنان. لا يقال: حكمه بالبطلان في صورة العلم أيضا خلاف الامتنان: لأن العاقل لا يقدم على ضرر نفسه، خصوصا إذا علم أن هذا العمل لغو لا أثر له، وهذا المعنى لا يتطرق في حق الجاهل بالضرر، هذا أولا. وثانيا ما تقدم من أن مفاد لا ضرر نفى الحكم الذي يكون الضرر عنوانا ثانويا له. وبعبارة أخرى يكون علة تامة للضرر أو يكون هو الجزء الأخير من العلة التامة للضرر، حتى يصح أن يقال إن هذا الحكم ضرري، بحيث لو لم يكن هذا الحكم لما كان المكلف واقعا في الضرر. وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك، لأنه كان يقع في الضرر من جهة جهله، ولو لم يكن هذا الحكم مجعولا في ذلك الحال أي في حال جهله بالضرر، فليس الضرر ناشئا من الحكم المجعول في حال الجهل، وإلا لما كان واقعا في الضرر في فرض عدم ذلك الحكم في حال الجهل، مع أنه يقع قطعا لا عتقاده عدم الضرر، فهو يرى نفسه موضوعا وداخلا في الذي يجب عليه الوضوء أو الغسل وإن لم يكن الوجوب مجعولا في ذلك الحال، فتضرره مستند إلى فعله الناشئ عن اعتقاد عدم الضرر، ولعمري هذا واضح جدا.

 

وأما بطلان الوضوء والغسل بالماء الذى استعماله مضر لحرمة الإضرار بالنفس - وأن الإضرار بالنفس إلى أي حد جائز وإلى أي حد لا يجوزوما الدليل عليه - فهذا شيء خارج عن محل كلامنا، وهي مسألة فقهية يبحث عنها في محلها. وأما مسألة خيار الغبن فليس مستند إلى هذه القاعدة، بل ثبوتها بواسطة تخلف الشرط الضمنى، وهو تساوي المالين في خيار الغبن وسلامة العوضين في خيار العيب، مضافا إلى وجود أدلة خاصة في خيار العيب دالة على ثبوت الخيار حال الجهل بالعيب دون حال العلم به، وتفصيل المسألة في محله. التنبيه الخامس: قد عرفت أن مفاد لا ضرر - بناء على ما استظهرناه - رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر، سواء كان ذلك الحكم حكما تكليفا أو كان وضعيا، بل الحكم الوضعي أولى بشمول لا ضرر له، لأن الحكم التكليفي بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجبا لوقوع الضرر في الخارج، بل الضرر يقع في مرحلة الامتثال، فيتوسط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلف واختياره. وأما الحكم الوضعي كاللزوم في المعاملة الضررية، فهو بنفسه موجب لوقوع الضرر من دون توسط إرادة المكلف واختياره في البين، فيكون دليل هذه القاعدة - كما تقدم - حاكما على إطلاقات الأدلة الأولية في جانب المحمول، بمعنى تضييق القاعدة لمحمول تلك الأدلة وتقييدها بحال عدم كونها ضرريا. وهذا معنى كون مفادها رفع الحكم الضرري، فلا بد وأن يكون حسب مفاد تلك الإطلاقات حكم ثابت مجعول لولا هذه القاعدة، فشأن هذه القاعدة رفع الحكم الضرري الذي لولا هذه القاعدة كان ثابتا وموجودا. وأما وضع الحكم الذي يكون في عدمه ضرر على شخص، فهذا خارج عن المفاد ومدلول هذه القاعدة. فبناء على هذا لا يمكن إثبات الضمان بهذه القاعدة فيما إذا كان عدم الضمان ضررا

 

على شخص، بل لابد في إثباته من التمسك بأخذ أسباب الضمان، كاليد والإتلاف وسائر أسباب الضمان والحاصل أنه لا يجوز أن يقاس عدم الحكم إذا كان ضرريا فيقال برفعه حتي يكون نفي النفي إثباتا بوجود الحكم الضرري، لما ذكرنا من أن مفادها الرفع لا الوضع، لا من جهة أن العدم ليس قابلا للرفع حتى يقال إن العدم في مرحلة البقاء قابل للوضع والرفع، بل من جهة كونه ناظرا إلى الأحكام المجعولة حسب إطلاق أدلتهاأو عمومها لكلتا حالتي كونها ضررية أو غير ضررية، وتقييدها بصورة عدم كونها ضررية، فإذا لم يكن حكم مجعول من قبل الشارع فلا موضوع لهذا القاعدة. وأما كون عدم جعل الحكم في موضوع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم - كما توهم - فعجيب. فما توهم في موارد كثيرة من التمسك بهذه القاعدة لإثبات الحكم بواسطة كون عدمه ضرريا ليس كما ينبغي. كما أن بعضهم توهم جواز طلاق المرأة للحاكم إذا كان الزوج لا يقدر على نفقته، أو لا يعطي عصيانا أو لعذر، وكان غائبا زمنا طويلا ولا يعرف مكانه وليس له مال ينفق عليها منه، ففي هذه الموارد وأمثالها مما تتضرر المرأة من عدم جواز الطلاق توهموا رفع عدم جواز الطلاق إلا لمن أخذ بالساق، مستندا إلى هذه القاعدة. وأنت عرفت عدم صحة هذا التوهم. وأما البحث عن هذه المسألة وأنه هل يجوز طلاق مثل هذه المرأة ولو كان لأدلة أخر غير هذه القاعدة ؟ فهو أجنبي عن مقامنا وإن ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) استطرادا. (1) وهنا فروع كثيرة قالوا بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة، كفك الباب على دابة فشردت وتلفت، أو على طير فطار، وكحبس الحر فشردت دابته، أو طار طيره،

 

(هامش)

 

(1) (منية الطالب) ج 2، ص 221 (. *)

 

أو أبق عبده وأمثال ذلك مما يكون الحكم بعدم الضمان موجبا لضرر المالك، فكل هذه المذكورات وأمثالها إن كان للضمان وجه آخر غير هذه القاعدة فهو، وإلا فالقول بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة لاوجه له كما عرفت. التنبيه السادس: في أن المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة هل هو الضرر الشخصي أو النوعي ؟ والمراد من الضرر الشخصي هو أن المناط في رفع الحكم ترتب الضرر الشخصي الخارجي عليه، ففي كل مورد نشأ من قبل الحكم الشرعي ضررا خارجيا على شخص فذلك الحكم مرتفع في حقه دون من لا يتضرر من قبله. ومن الممكن أن يكون الحكم ضرريا في حق شخص دون شخص آخر، بل لشخص واحد في مورد دون مورد آخر. وأما الضرر النوعي فالمراد منه كون الحكم ضرريا نوعا، وإن لم ينشأ منه ضرر في بعض الأحيان أو لبعض الأشخاص. والظاهر من الحديث الشريف - بناء على ما استظهرنا منه - هو الضرر الشخصي لا النوعي: لأن معنى الحكومة على ما بيناه رفع الحكم في كل مورد نشأ منه الضرر، وأما في المورد الذي لم ينشأ من قبله ضرر فلا معنى لرفعه بل الإطلاق يشمله. وبعبارة أخرى: كون الحديث في مقام الامتنان يقتضي أن يكون الرفع بلحاظ حال كل شخص بحسب نفسه، وإلا رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخص آخر أي امتنان فيه ؟ وكذلك الأمر في قاعدة لاحرج فالحكم مرفوع فيها بلحاظ الحرج الشخصي دون النوعي، ومساق هاتين القاعدتين من هذه الجهة واحد. وأما كون الضرر أو الحرج النوعيين حكمة لجعل حكم في بعض الأحيان - كما ربما يكون كذلك في باب جعل الطهارة الترابية بدلا عن المائية عند عدم التمكن منها،

 

أو التقصير والإفطار في السفر - فلا ربط له بما نحن فيه، وهو وإن كان ممكنا بل واقعا كما ذكرنا، ولكن يحتاج إلى ورود دليل خاص على ذلك. ويظهر مما ذكرنا أنه لا يجب تدراك الضرر الوارد على الغير، بأن يتحمل خسارة ما وقع التلف عليه إلا بأحد أسباب الضمان، من اليد، أو الإتلاف، أو غيرهما كما هو مذكور في أبواب الضمانات، ولا بأن يتحمل الضرر ليدفعه عن الغير، كل ذلك من جهة أن الحديث وارد في مقام الامتنان، نعم ليس له أن يدفع الضرر عن نفسه بتوجيهه إلى الغير. التنبيه السابع: في تعارض الضررين بمعنى أنه دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يلزم من نفي أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر، وذلك كما إذا أدخل الدابة رأسها في قدر يملكه شخص آخر غير صاحب الدابة، فالقدر لشخص والدابة ملك لشخص آخر، فهاهنا يقع التعارض بين جواز كسر القدر لخلاص الدابة وجواز ذبح الدابة لبقاء سلامة القدر، فكلا الحكمين ضرريان ويلزم من نفي جواز كل واحد منهما بواسطة (لا ضرر) ثبوت الضرر للمالك الآخر، فمنع مالك القدر عن كسره ضرر على صاحب الدابة، كما أن منع صاحب الدابة عن ذبحه ضرر على صاحب القدر، فلا يجري (لاضرر) في الطرفين لمعارضتهما لو كان أحد الأمرين واجبا. وهذا فيما إذا لم يكن بتفريط من أحدهما، وإلا يجب على المفرط تخليص مال الغير ولو بتلف ماله ولا ضمان على الآخر. نعم لو قلنا بأنه يجب مراعات أكثر الضررين وأعظمهما وينفي الحكم الذي ينشأ ذلك الضرر الكثير منه، فحينئذ يجب ارتكاب ما هو أقل ضررا منهما - أي من الكسر ومن الذبح - في المفروض. ولكن لا دليل على هذا إلا ما يتوهم من أن مقتضى الامتنان على الأمة هو ذلك ولكن عرفت أن مقتضى الامتنان رفع الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر فيما إذا لم يكن الرفع موجبا لوقوع الضرر على شخص آخر، ففي هذا المورد وأمثاله لا مجال لجريان

 

لاضرر، لا من جهة المعارضة فقط لو كان هناك معارضة، بل من جهة أن جريانها خلاف الامتنان فلا يجرى لا ضرر في الطرفين. ونتيجة ذلك بقاء سلطنة كل واحد منهما على ماله، ومنع الآخر عن التصرف فيه بكسر أو ذبح أو غير ذلك من التصرفات التى للمالك حق المنع عنها. ويمكن أن يقال: إنه ليس لكل واحد من المالكين منع الآخر عن تخليص ماله ولو كان التخليص مستلزما لتلف ماله، غاية الأمر يجبر التلف أو النقص كما إذا حفر الأرض لتخليص غرسه فيما إذا كان بحق، فيجبر نقص الحاصل من الحفر بلزوم طم الحفر من طرف الحافر القالع لغرسه: وذلك من جهة عدم سلطنته على ماله ومنعه الغير عن مثل هذا التصرف الذي مقدمة لتخليص ماله. والحاصل أن المثال المذكور، أي إدخال الدابة رأسها في قدر الغير بغير تفريط من أحد المالكين، ليس من تعارض لاضرر في الطرفين، إذ الضابط فيه كما بينا أن يكون نفي أحد الحكمين الضرريين مستلزما لثبوت الحكم الضرري الآخر، لا أن يكون مستلزما لثبوت الضرر على الآخر، وما نحن فيه من الأمثلة من قبيل الثاني لا الأول. وخلاصة الكلام في المقام: أن تعارض مفاد لاضررين - أي تعارض نفي الحكمين الضرريين - هو عبارة عن عدم إمكان رفعهما في عالم التشريع، إما بأن يكون رفع أحدهما مستلزما لثبوت الآخر، فمعنى رفعهما إثباتهما أيضا لما ذكرنا من الملازمة، وهذا اجتماع النقيضين في كل واحد من الحكمين. وإما بالعلم بوجود أحد الحكمين وعدم رفعه لجهة من الجهات، كما لو أن جواز حفر البئر في داره إذا كان ضررا على جاره لو رفع بلا ضرر بواسطة كون هذا الحكم ضرريا على جاره، وحرمة حفر البئر أيضا لو رفع بواسطة كونه ضرريا على نفسه، فيقع التعارض بين لا ضررين باعتبار مؤداهما، أعني نفي جواز حفر البئر ونفي حرمة حفره.

 

وذلك من جهة أن نفي أحد الحكمين مستلزم لثبوت الآخر، فنفي جواز حفر البئر مستلزم لحرمة الحفر، كما أن نفي حرمته مستلزم لجوازه. وكما أن في مثال القدر والدابة التي أدخلت رأسها فيها لو علمنا بوجوب أحد الأمرين، أي كسر القدر أو ذبح الدابة، فيقع التعارض بين نفي جواز الكسر بلا ضرر ونفي جواز الذبح به، لعدم إمكان الجمع بينهما في عالم التشريع مع العلم بوجود أحدهما. ولا ينافي ثبوت التعارض بينهما مع كونهما - أي النفيين - مدلول دليل واحد، كما أنه لا تنافي بين تعارض الاستصحابين مع أنهما مفاد دليل واحد، أي قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك). والسر في ذلك: هو انحلال قضية (لا ضرر) وقضية (لا تنقض) وأمثالها مما كانت القضية بنحو الطبيعة السارية، أو العام الاستغراقي إلى قضايا متعددة بعدد مصاديق ذلك العام الذي جعل موضوعا للحكم. وعلى كل حال إذا تحقق التعارض بالمعنى المذكور فيتساقطان، لعدم وجود مرجح من مرجحات باب التعارض لوحدة الدليل وعدم جواز الترجيح بلا مرجح وأما مرجحات باب التزاحم فأجنبي عن هذا المقام. ومما ذكرنا ظهر لك أن كثير من المباحث التي ذكروه في المقام خارج عن محل البحث، مثلا قالوا: إذا دار الأمر بين ضررين لابد من وقوع أحدهما، فإما أن يكون الضرران على شخص واحد أو على شخصين، وإذا كانا على شخص واحد فإما يكونان مباحين أو محرمين أو مختلفين. فإذا كانا مباحين فله الخيار في ارتكاب أيهما أراد، وإن كانا مختلفين يتعين عليه إرتكاب ما ليس بحرام، وإن كانا محرمين، عليه أن يختار للارتكاب ما هو أضعف ملاكا ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك، عملا بقواعد باب التزاحم ومرجحاته. وأنت تدري أن كل ذلك خارج عن محل البحث، أعني وقوع التعارض بين

 

مفادي لا ضرر، أي نفي الحكمين الضرريين الذين يلزم من نفي كل واحد منهما ثبوت الآخر، أو نعلم بثبوت أحدهما. والحاصل: أنه إذا تعارض نفي حكم ضرري مع نفي حكم ضرري آخر، فلا محالة يسقط لا ضرر في الأثنين بالمعارضة. ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفي بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم، لأن هذا ليس من مرجحات باب التعارض، فلابد من الرجوع إلى القواعد الأخر إن كانت، وإلا فإلى الأصول العملية. نعم قد يكون البحث صغرويا بمعنى أنه هل هاهنا تعارض بين نفي هذين الحكمين الضرريين أم لا ؟ وقد يكون البحث من جهة أن المورد من موارد التزاحم أو من موارد التعارض ؟ فهذه أمور يسهل على الفقيه تشخيصها بعد معرفة ضوابطها الكلية. هذا كله في تعارض لا ضرر مع نفسه بالنسبة إلى نفي الحكمين الضرريين فيما إذا لا يمكن ولا يصح نفيهما جميعا لما تقدم من الوجهين. وأما فيما إذا تعارض لا ضرر مع لا حرج كما إذا كان تصرف المالك في ملكه ضرريا على الجار، وكان ترك تصرفه فيه حرجا على المالك وإن لم يكن ضررا عليه، فيقع التعارض بين نفي جواز التصرف بلا ضرر مع نفي حرمة التصرف بلا حرج، فالأمر كما ذكرنا في تعارض لا ضرر في مورد نفي أحد الحكمين مع نفسه في مورد نفي الحكم الآخر لوحدة المناط، وهو عدم إمكان جمع النفيين في عالم الجعل والتشريع، ووحدة لسان لا ضرر ولا حرج في الحكومة بالتضييق في جانب المحمولات التي هي الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية التي هي مفاد إطلاقات الأدلة أو عموماتها، ونتيجتها تقييد تلك الإطلاقات، وتخصيص تلك العمومات بغير ما كانت ضررية أو حرجية.

 

ويظهر مما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري حكومة قاعدة الحرج على قاعدة الضرر، (1) ولم نعرف لها وجها يمكن الاعتماد والإتكاء عليه ومما ذكرنا ظهر أن حال تعارض قاعدة الحرج مع نفسه في موردين، حال تعارض قاعدة الضرر مع نفسه في موردين من موارده فيتساقطان، والمرجع حينئذ هي القواعد الأخر لو كانت، كقاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) وإلا فالرجوع إلى الأصول العملية. التنبيه الثامن: في بيان مجرى قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) ومورد تعارض قاعدة لاضرر معها. فنقول: لاشك في أن مفاد لا ضرر - بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف - رفع الحكم الضرري ونفيه مطلقا، سواء كان حكما تكليفيا أم وضعيا، وبعبارة أخرى: مفاد قاعدة لا ضرر أنه ليس في المجعولات الشرعية وفيما هو من الدين مجعول ينشأ من قبله الضرر ويكون الضرر عنوانا ثانويا له، فالسلطنة الاعتبارية المجعولة من قبل الشارع للملاك على أموالهم إذا كان ضرريا منفي بلا ضرر، ويكون حال السلطنة حال سائر الأحكام الشرعية المجعولة على موضوعاتها، فكما تكون القاعدة حاكمة على أدلة سائر الأحكام فكذلك الحال في نسبتها مع قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) لاتحاد المناط في الجيع. ولكن الشأن في إثبات الصغرى وأنه في أي مورد يتحقق هذه المعارضة. ولتوضيح المقام نقول: إن تصرف المالك في ماله مع الإضرار بالغير على أنحاء: فقد لا يكون إلا بقصد الإضرار بالغير من دون أن يكون له نفع قي هذا التصرف، أو يكون في تركه ضرر عليه. الثاني: أن لا يكون بقصد الإضرار، ولكن ليس في ذلك التصرف نفع له ولا في

 

(هامش)

 

(1) (المكاسب) ص 375. (*)

 

تركه ضرر عليه، بل يكون عابثا بفعله. الثالث: أن يكون له نفع فيه، ولكن ليس في تركه ضرر عليه. الرابع: أن يكون في تركه ضرر عليه ولا شك في حكومة قاعدة لاضرر على قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم) في الصورة الأولى والثانية، بناء على شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير، سواء كان من قصده الإضرار أم لم يكن. وأما لو قلنا بأن التصرفات التي موجبة للإضرار بالغير إذا لم يكن للمالك نفع فيه ولا في تركه ضرر عليه خارجة عن عموم قاعدة السلطنة، فلا يبقى مجال للحكومة، بل خروج الصورتين عن تحت عموم قاعدة السلطنة يكون بالتخصص لا بالحكومة. ولكن الإنصاف أنه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين: لأن ظاهر الحديث أن لكل مالك السلطنة على أنحاء التصرفات في ماله ولو كان بقصد الإضرار، وسواء كان مستلزما للضرر على الغير أم لا، غاية الأمر يكون ضامنا للضرر الوارد على الغير لأنه بفعله وبإتلافه. ولا يخفى أن مرادنا التصرفات التي لا يكون مستلزما للتصرف في مال الغير أو في نفسه، مثل (1) أن يتصرف في معوله (2) بهدم دار الغير أو في مديته (3) بشق بطن الغير، فلا ضرر يكون حاكما على قاعدة السلطنة في تينك الصورتين. وأما في الصورة الثالثة: فأيضا مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المتقدمتين حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة، لأن سلطنة الملاك على أموالهم حكم شرعي وضعي على الأموال بعناوينها الأولية، وقد تقدم حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلة

 

(هامش)

 

(1) مثل للمنفى لا للنفي. (2) المعول ج معاول: أداة لحفر الارض. (3) المدية ج مدى ومدى ومديات ومديات: الشفرة الكبيرة.

 

الأولية المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأولية. ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري أفاد في المقام أن عدم جواز تصرف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرف ضرريا بالنسبة إلى الغير، ولم يكن تركه ضرريا على نفسه ولكن كان فيه نفع للمالك، فترك مثل هذا التصرف وحرمته حرجي للمالك: لأنه لا شك في أن عدم قدرة المالك على التصرفات النافعة حرج عليه، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج، والثانية حاكمة على الأولى. وعلى فرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط لا ضرر ولا حرج بالمعارضة. (1) وفيه: ما تقدم من أنه لم نعرف وجها يمكن الاعتماد عليه، لحكومة قاعدة الحرج على قاعدة لا ضرر، فالصحيح أن المرجع قاعدة السلطنة بعد تساقط لا حرج ولا ضرر بالمعارضة. وما أفاده شيخنا الأستاذ من عدم اجتماع مورد هاتين القاعدتين لأن مفاد قاعدة لا ضرر نفي السلطنة إذا كانت ضررية، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجيا أمر عدمي ولا يرتفع بلا حرج حتى تقول أن نفي النفي إثبات، فيرجع إلى بقاء السلطنة فيقع التعارض، وذلك من جهة أن مفاد لا حرج نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيا، لا إثبات حكم لرفع الحرج. (2) يمكن أن يجاب عنه: بأن مورد الحرج في المقام حرمة ذلك التصرف النافع للمالك الموجب للإضرار بالغير، والحرمة حكم وجودي، فارتفاعها بلا حرج مع ارتفاع جواز التصرف بلا ضرر مما لا يجتمعان، فيقع التعارض بين لا حرج ولا ضرر، وبعد تساقطهما بالمعارضة يكون المرجع قاعدة السلطنة وعلى تقدير القول بعدم إطلاق دليل السلطنة بالنسبة إلى التصرف الذي يكون

 

(هامش)

 

(1) (المكاسب) ص 375. (2) (منية الطالب) 2، ص 226. (*)

 

موجبا للإضرار فالمرجع هي الأصول العملية، وفي المقام هي البراءة. ومما ذكرنا ظهر حال الصورة الآتية. الصورة الرابعة: وهي فيما إذا كان ترك التصرف وعدم السلطنة عليه يكون موجبا لتضرر المالك، فقاعدة الضرر بالنسبة إلى ضرر الغير مع نفسه بالنسبة إلى ضرر المالك يتعارضان، وبعد تساقطهما المرجع هي قاعدة السلطنة. ولا يخفى أن جواز تصرف المالك في هاتين الصورتين - أي في صورة الثالثة والرابعة - من حيث الحكم التكليفي لا ينافي مع ثبوت الضمان وضعا لقاعدة الإتلاف. والحمد لله أولا وآخرا.

 

قاعدة نفى العسر والحرج ومن جملة القواعد الفقهية القاعدة المشهورة المعروفة بقاعدة (نفي العسر والحرج) والتكلم فيها من جهات ثلاث: الجهة الأولى في الدليل عليها فنقول: الأول: الآيات: منها: قوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج). (1)

 

(هامش)

 

(القواعد والفوائد) ج 1، ص 122 و 287، (الاقطاب الفقهية على مذهب الإمامية) ص 46، (الحق المبين) ص 154، (الأصول الأصلية والقواعد الشرعية) ص 306، (عوائد الأيام) ص 57، (قاعده لاحرج)، (عناوين الاصول) عنوان 9، (مناط الأحكام) ص، 26، (قاعده نفي العسر والحرج) الاشتيانى، (مجموعه قواعد فقه) ص 125، (اصطلاحات الأصول) ص 203، (أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة) ص 102 و 186، (القواعد) ص 304، (قواعد فقه) ص 60، (قواعد فقهى) ص 211، (قواعد فقهيه) ص 135، (القواعد الفقهيه) مكارم الشيرازي) ج 1، ص 160، (قاعده نفي عسر وحرج وكاربرد ان در قوانين ايران) محمد على خرسنديان، ماجستير، مدرسة الشهيد مطهرى العالية، 1371، (عسر وحرج ونقش ان در روابط موجر ومستأجر) عزيز الله اليميني، ماجستير، جامعة الشهيد بهشتى، 1369، (قاعده عسر و حرج واثار ان در حقوق مدنى ايران) ماجستير، جامعة طهران، 1374، (باز تاب قاعده لا حرج در اجاره) عيسى كشورى، مجلة (قضايى وحقوقي دادكسترى) العدد 10، (بحثي در عسر وحرج) للسيد على محمد المدرس الاصفهاني، (مجله كانون وكلاء) لسنتها 13، العدد 75، (قاعده لاحرج) نشرة (مقالات و بررسيها) العدد 43 - 44، (سه قاعده فقهى) مجله (حق)، الفصلية، العدد 11 و 12، العام 1366. (1) الحج (22): 7 8. (*)

 

وأيضا قوله تعالى (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج) (1) وأيضا قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (2) وأيضا قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (3) وهذه الآيات تدل دلالة واضحة على أن الله تبارك وتعالى لم يجعل في دين الإسلام أحكاما حرجية، بحيث يكون امتثال أحكامه وإطاعة أوامره ونواهيه شاقا وحرجا على المسلمين والمؤمنين بهذا الدين، سيما بملاحظة استدلال الإمام (ع) ببعض هذه الآيات على رفع الأحكام الحرجية، حيث قال عليه السلام: (هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله امسح على المرارة (ما جعل الله عليكم في الدين من حرج): وأما الروايات: فمنها: ما عن الكافي، والتهذيب، والاستبصار: أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن الحسن بن رباط، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (ع): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء ؟ قال (ع) (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: (ما جعل الله عليكم في الدين من حرج) إمسح عليه. (4) وقد روى الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: (ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق، هو واسع) (5). وقد نسب في مجمع البيان هذا المعنى إلى جميع

 

(هامش)

 

(1) المائدة (5): 6 (2) البقره (2): 185 (3) البقره (2): 286. (4) (الكافي) ج 3، ص 33، باب الجبائر والقروح والجراحات، ح 4، (تهذيب الأحكام) ج 1، ص 363، ح 1097، باب صفة الوضوء والغرض منه، ح 27، (الاستبصار) ج 1، ص 77، ح، 240 باب المسح على الجبائر، ح 3، (وسائل الشيعة) ج 1، ص 327، أبواب الوضوء، باب 39، ح 5. (5) (جامع البيان في تفسير القران) ج 17، ص 142. (*)

 

 

المفسرين. (1) وعن التهذيب عن ابن سنان، عن أبي بصير، عن أبى عبد الله (ع) قال: سألته عن الجنب يجعل الركوة (2) أو التور (3) فيدخل إصبعه فيه ؟ قال (ع): (إن كانت يده قذرة فاهرقه وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا مما قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (4) وعن التهذيب، والكافي، والاستبصار: عن ابن مسكان قال: حدثني محمد بن ميسر قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان ؟ قال (يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل، هذا مما قال الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (5). وأيضا عن التهذيب، والاستبصار عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (ع) إنا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية، فتكون فيه العذرة، ويبول فيه الصبى، وتبول فيه الدواب وتروث ؟ فقال (ع): (إن عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا: يعني افرج الماء بيدك ثم توضأ فإن الدين ليس بمضيق، فإن الله عز وجل يقول: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (6). وعن التهذيب، والكافي عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (ع) قال في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء، فقال عليه السلام (لا بأس، ما جعل الله

 

(هامش)

 

(1) مجمع البيان) ج 2، ص 167. (2) الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، والجمع: ركاء: (النهاية) ج 2، ص 261 (ركو) (3) (التور: إناء من صفر أو حجارة كالاجانة، وقد يتوضأ منه (لسان العرب) ج 6 ص 96 (تور) (4) (تهذيب الأحكام) ج 1، ص 229، ح 661، باب المياه وأحكامها..، ح 44 (5) (الكافي) ج 3 ص 4، باب الماء الذى تكون فيه قلة و..، ح 2، (تهذيب الأحكام) ج 1، ص 149، ح 425، باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها، ح 116، (الاستبصار) ج 1، ص 128، أبواب الماء المطلق، باب 8، ح 5. (6) (تهذيب الأحكام) ج 1 ص 417، ح 1316، باب المياه وأحكامها، ح 35، (الاستبصار) ج 1، ص 22، ح 55 باب الماء القليل يحصل فيه النجاسة، ح 10. (*)

 

عليكم في الدين من حرج) (1). وفي رواية حمزة بن طيار: (وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون، وكل شيء لا يسعون فهو موضوع عنهم) (2). وفي صحيحة البزنطي: أن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: (إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالة، وإن الدين أوسع من ذلك) (3) وقوله عليه السلام: (بعثت على الشريعة السمحة السهلة) (4) وهناك روايات كثيرة تدل على عدم جعل الحكم الحرجي وما يوجب العسر والضيق على الأمة، تركنا ذكرها لكفاية ما ذكرنا لإثبات هذه القاعدة. وأما الإجماع على اعتبار هذه القاعدة فمما لا اعتبار به، لأن الإجماع الذي بنينا على اعتباره هو أن لا يكون في المسألة مدرك آخر يمكن ويحتمل أن يكون اتكاء المجمعين عليه، ففي هذه المسألة التي لها هذه المدارك من الكتاب العزيز لا وجه للتمسك بالإجماع. وأما الدليل العقلي: فغاية ما يمكن أن يقال هو أن التكليف بما يوجب العسر والضيق على الأمة ويكون ذلك التكليف فوق طاقتهم قبيح، والقبيح محال صدوره من الله جل جلاله. ولكن أنت خبير بأن تكليف مالا يطاق بمعنى عدم القدرة على امتثاله وإن كان

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 3، ص 13، باب اختلاط ماء المطر بالبول و..، ح 7، (تهذيب الأحكام) ج 1، ص 86، ح 224، باب صفة الوضوء والفرض منه ح 73. (2) (الكافي) ج 1، ص 164، باب حجج الله على خلقه، ح 4 (3) (الفقيه) ج 1 ص 257، باب ما يصلي فيه وما لا يصلي فيه... ح 791 (تهذيب الأحكام) ج 2، ص 368، ح 1529، باب ما يجوز الصلاة فيه، ح 61 (وسائل الشيعة) ج 2، ص 1071، أبواب النجاسات، باب 50، ح 3 (4) (الكافي) ج 5 ص 494، باب كراهية الرهبانية وترك الباه، ح 1، (وسائل الشيعة) ج 5 ص 246، أبواب بقية الصلوات المندوبة، باب 14، ح 1، مع تفاوت في اللفظ. (*)

 

قبيحا عقلا بل يكون ممتنعا عقلا - بناء على ما حققنا في محله من أن حقيقة الأمر والنهي هو البعث إلى أحد طرفي المقدور أو الزجر عنه كذلك - فالتكليف بما لا يطاق بهذا المعنى لا يمكن، لاأنه ممكن وقبيح. ومثل هذا المعنى ليس مفاد قاعدة لاحرج: لأن ظاهر أدلة نفي الحرج - آية ورواية - أنه تبارك وتعالى في مقام الامتنان على هذه الأمة، ولا امتنان في رفع ما لا يمكن جعله ووضعه، أو يكون وضعه قبيحا، مع أنه حكيم لا يمكن أن يصدر منه فعل السفهاء. فمعنى عدم الحرج في الدين هو عدم جعل حكم يوجب الضيق على المكلفين، وبهذا المعنى فسر الحرج في جميع التفاسير من العامة والخاصة. ومثل هذا المعنى ليس دليل على امتناعه أو قبحه ولكن الله تبارك وتعالى لطفا وكرما لم يجعل الأحكام الحرجية بالنسبة إلى جميع العباد، أو بالنسبة إلى خصوص هذه الأمة المرحومة كرامة لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم). ويشهد بالمعنى الثاني - أي اختصاص رفع الأحكام الحرجية بهذه الأمة - قوله (ص) (بعثت بالحنيفية السمحة السهلة) (1) وقوله تعالى (ربنا لا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا) (2) والإصر: الجمل الثقيل الذي يحبس صاحبه مكانه لثقله، والمراد التكاليف الشاقة التي كلف الله تعالى بها الأمم السابقة من التشديدات، وقد عصم الله هذه الأمة من أمثال ذلك، وأنزل في شأنهم (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). (3) فهذه الآية الكريمة مع الحديث الشريف تدل دلالة واضحة على أن رفع الأحكام

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 5، ص 494، باب كراهية الرهبانية وترك الباه، ح 1، (وسائل الشيعة) ج 5، ص 246، أبواب بقيه الصلوات المندوبة، باب 14، ح 1، (عوالي اللئالي) ج 1، ص 381 ح 3 (2) البقره: (2): 286 (3) الأعراف (7): 157. (*)

 

الحرجية مخصوص بهذه الأمة كرامة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يمكن أن يكون المراد من الحرج عدم القدرة والطاقة والعجز عن الامتثال بمثابة يكون تكليفه في تلك الحالة قبيحا أو غير ممكن، فلا شك في أن المراد من التكاليف والأحكام الحرجية - ولو كانت وضعية - هو أن يكون الحكم المجعول من طرف الشارع موجبا للضيق والعسر على النوع أو على الشخص، لأنه قد يكون العسر النوعي موجبا لرفع الحكم ولو كان بالنسبة إلى بعض الأشخاص غير حرجي، فيكون الحرج من قبيل الحكمة لا العلة. ولعله يكون من هذا القبيل رفع وجوب الغسل ووجوب التيمم في قوله تعالي في آية التيمم: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (1) فالله تبارك وتعالى رفع وجوب الغسل وشرع التيمم ولو كان تحصيل الماء مع المشقة ممكنا. والحاصل: أنه لا شك في دلالة هذه الآيات وهذه الروايات المستفيضة على عدم جعل الأحكام الحرجية في الدين الحنيف الاسلامي، وقد ذكرنا قوله (ص): (بعث بالحنيفية السمحة السهلة) نعم هاهنا إشكال معروف، وهو أنه لا شك في وجود أحكام شاقة في هذا الدين الحنيف، كالجهاد وعدم جواز الفرار عن الزحف، والصوم في شهر رمضان خصوصا في أيام الصيف، وأمثال ذلك من الأحكام التي هي شاقة على نوع المكلفين. ولكن أنت خبير بأنه ربما تكون مصلحة فعل، أو ترك، أو مصلحة إثبات حكم وضعي، أو رفعه بمثابة من الأهمية بحيث يكون عدم جعل ذلك الحكم التكليفي أو الوضعي خلاف اللطف والامتنان، سواء أكانت تلك المصلحة شخصية أو نوعية، لأن الشارع قد يلاحظ مصلحة النوع ولو لم تكن للشخص مصلحة أصلا أو لم تكن ملزمة، ومع ذلك يكلف الشخص بذلك الفعل مراعاتا وحفظا لمصلحتهم. وبعبارة أخرى: رفع الأحكام الحرجية أو عدم جعلها، يكون من باب الامتنان

 

(هامش)

 

(1) البقرة (2): 185 (*)

 

واللطف، فإذا كان الرفع وعدم الجعل خلاف الامتنان وخلاف المصلحة الشخصية أو النوعية، فلا بد وأن يجعل ذلك الحكم ولو كان فيه ضيق وعسر، وإلا تفوت تلك المصلحة الشخصية أو النوعية، وهذا خلاف اللطف: هذا في مقام الثبوت. وأما في مقام الإثبات فلا بد وأن ينظر إلى ذلك الحكم الحرجي، فإن كان حرجيا لجميع المكلفين ودائما وفي جميع الأوقات، أو نوعيا وإن لم يكن حرجيا في حق شرذمة قليلة من الناس، فمن ذلك يستكشف أهمية الملاك بحيث لم يرض الشارع بفعله أو بتركه وطلب الفعل، كما في الجهاد، والحج أو الترك كما في الصوم وإن كانا حرجيين. وأما إذا لم يكن حرجيا إلا لبعض الأشخاص، أو في بعض الأوقات، أو في بعض الحالات ففي مثل هذه الموارد يتمسك لرفعها بقاعدة نفي الحرج. وبعبارة أخرى: الحكم المجعول بعنوان عام إذا كان بعض مصاديقها حرجيا يرتفع عن تلك المصاديق بأدلة نفي العسر والحرج، مثلا الوضوء واجب للصلاة، فإذا كان البرد شديدا قارصا وكان الوضوء في ذلك البرد حرجيا يرتفع الوجوب بأدلة نفي العسر والحرج. والمسح على للبشرة واحب، فإذا كان حرجيا بواسطة وضع المرارة عليها فيرتفع الوجوب. وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها. الجهة الثانية في مفاد هذه القاعدة ومضمونها فنقول: مفادها مضمونها رفع الحكم الذي هو حرجي، سواء أكان تكليفا أو وضعا، فيكون مساقها مساق لاضرر - بناء على ما حققنا في معناها - تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) (1) أن المرفوع والمنفي هو نفس الحكم الضررى، لا أن النفي بمعنى

 

(هامش)

 

(1) (فرائد الأصول) ج 2، ص 534 (*)

 

النهي، كما أصر عليه شيخ الشريعة الإصفهاني (قدس سره) (1) ولا أنه من قبيل رفع الحكم برفع الموضوع، كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) (2) ولا أن المنفي هو الضرر غير المتدارك، كما ذهب إليه بعض والأمر هاهنا أوضح من تلك القاعدة، لأنه في هذه القاعدة صريح القرآن العظيم عدم جعل الأحكام الحرجية في قوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (3) بخلاف قاعدة لاضرر، فإن ظاهر الحديث الشريف هو نفي الضرر لا الحكم الضرري، إلا بقرائن ذكرنا هناك. وقد ظهر مما ذكرنا أن الأدلة نفي الحرج والضرر حكومة واقعية في جانب المحمول - أي الأحكام الأولية المحمولة على موضوعاتها - بالتضييق ولذلك تقدم أدلة نفي العسر والحرج كأدلة الضرر على الأدلة الأولية ولا تلاحظ النسبة بينهما، كما هو شأن الحاكم والمحكوم. وخلاصة الكلام في المقام: أن المراد من نفي العسر والضيق والحرج في هذا الدين الحنيف مقابل السعة والسهلة والسمحة - أن الله تبارك وتعالى في هذا الدين - الذي هو عبارة عن مجموع الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين أو الموضوعات الخارجية، كبعض الأحكام الوضعية كالطهارة والنجاسة والولاية والحرية والرقية والزوجية وأمثال ذلك - لم يجعل حكما ينشأ من قبله الحرج والضيق والعسر، بل هذا الدين والشريعة سمحة سهلة، والناس أي المتدينين بهذا الدين في سعة من قبل أحكامه، ولذلك قال عليه السلام: (إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالة، وإن الدين أوسع من ذلك) (4). وبهذا المعنى وردت روايات كثيرة فوق حد الاستفاضة.

 

(هامش)

 

(1) (رسالة لاضرر ولا ضرار) ص 24 - 27. (2) (كفاية الأصول) ص 381. (3) الحج (22): 78. (4) تقدم تخريجه في ص 252، رقم (3). (*)

 

وليس المراد من نفي الحرج نفى الحكم بلسان نفى الموضوع، كما قيل ذلك في لا ضرر، وإن كان التحقيق خلافه حتى هناك، ولو كان لهذا التوهم وجه هناك - أي في قاعدة لا ضرر - ولكن لا وجه له هاهنا أصلا، لأن ذلك مفاد الآية الشريفة ابتداء وأولا وبالذات نفى جعل الحرج في الدين، ولا شك في أن المراد بالجعل الذي نفاه الله تبارك وتعالى هو الجعل التشريعي لا الجعل التكويني، والمراد من الدين هي الأحكام المجعولة من قبل الشارع المسماة بالأحكام الفقهية من الطهارات إلى الديات، فلا يبقى شك في أن المنفى هو نفس الحكم الذي ينشأ من قبله الضيق والحرج، لا أنه تعالى ينفى الحكم الحرجي بلسان نفي موضوع، ذلك الحكم، أي الموضوع الذي هو حرجي أي الوضوء في البرد الشديد مثلا، أو المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة إذا كان نزعها صعبا. والثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة إن شاء الله تعالى. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة ومواردها كثيرة لا يمكن إحصاؤها، لأن أغلب الأحكام الإلزامية سواء أكانت من الواجبات أو من المحرمات قد يصير في بعض الأحيان حرجيا، فتكون تلك الأحكام الحرجية مشمولة لقاعدة لا حرج. وقد أشرنا إلى موردين منها أحدهما: الوضوء في البرد الشديد. والثاني: المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة لوقوعه وانقطاع ظفره. ونذكر جملة أخرى: منها: فيما إذا اغتسل من الجنابة من إناء، وينضح من ماء غسله بواسطة وقوعه على الحجر الصلب أو صلب آخر في الاناء، فقال (ع): (لا بأس ما جعل عليكم في

 

الدين من حرج) (1) وجريان القاعدة في هذا المقام مبتن على عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر حتى بالنسبة إلى تلك القطرات التى تنضح في الإناء من ماء غسله. ومنها: فيما إذا كان الاحتياط بالجمع بين المحتملات فعلا أو تركا حرجيا، فيرتفع وجوبه بهذه القاعدة. وعلى هذابنى صاحب الكفاية (قدس سره) في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة التحريمية وفي جواز ترك بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة الوجوبية. (2) وبعبارة أخرى: جواز المخالفة الاحتمالية أو القطعية في الشبهة غير المحصورة، وعدم وجوب الاحتياط فيها مستند إلى هذه القاعدة. وقال بأن المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن يكون الاحتياط في أطرافها موجبا للعسر والحرج، فيما إذا كان عسر الاحتياط ناشئا من كثرة الأطراف. وإلى هذا يرجع ما ذكره في مقدمات دليل الانسداد وإنكار وجوب الإحتياط بالجمع بين المحتملات بإتيان مظنون الوجوب - مشكوكه وموهومه - وترك مظنون الحرمة ومشكوكها وموهومها بأن هذا الاحتياط يوجب العسر والحرج بل اختلال النظام فبواسطة هذه القاعدة أنكروا وجوب الاحتياط. وقد أورد هاهنا على الاستدلال بهذه القاعدة لرفع وجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات بحكم العقل، من باب لزوم القطع بالامتثال إما وجدانا وأما تعبدا، واليقين بفراغ الذمة ومفاد قاعدة الحرج كما بينا هو رفع الحكم الشرعي إذا كان حرجيا لا الأحكام العقلية. ولكن أجبنا عن هذا الإشكال في محله أنه بناء على ما اخترنا في مفاد القاعدة

 

(هامش)

 

(1) تقدم تخريه في ص 252، رقم (1) (2) (كفاية الأصول) ص 359. (*)

 

من أنه عبارة عن رفع كل حكم شرعي يكون منشأ للحرج والعسر والضيق. ولا شك في أن العسر والحرج الذي في الاحتياط آتية من قبل تلك الأحكام الواقعية المجهولة وإن كان الاحتياط بحكم العقل. نعم لو قلنا بأن مفاد هذه القاعدة رفع الحكم الحرجي برفع موضوعه، فلا مدفع لهذا الاشكال، لأنه ليس للاحتياط حكم شرعي حتى يرتفع برفع موضوعه. وهذه هي الثمرة بين القولين، أي القول بأن مفاد لا ضرر ولا حرج رفع الحكم بلسان رفع موضوعه، كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) أو رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر والحرج، كما اخترناه فبناء على الوجه الأول لا حكومة لأدلة نفى العسر والحرج، على الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي إذا كان موجبا للعسر والحرج، وأما بناء على الوجه الثاني فحيث أن الحرج والعسر بالآخرة ينتهيان إلى الحكم الشرعي وإن كان من جهة الجمع بين محتملاته بحكم العقل، فيكون مشمولا للقاعدة وهذا هو الذي قلنا إن الثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة. ثم إن هاهنا أمران يجب التنبيه عليهما. (الأمر) الأول: إنه لو تحمل المكلف باختيار نفسه الحرج والمشقة، وأتى بالعبادة التي فيها المشقة، سواء كان تمام العبادة أو جزؤها أو شرطها أو مانعها، مثلا في البرد الشديد توضأ أو في الحر الشديد في الصيف مع أن النهار طويل صام مع أنه مجبور بالعمل في الشمس، أو في البرد الشديد نزع اللباس من غير المأكول وأمثال ذلك هل تكون عبادته صحيحة، أم لا، بل تكون باطلة، لأن في الأول كانت وظيفته التيمم، وفي الثاني كانت وظيفته الإفطار، وفي الثالث كانت وظيفته الصلاة مع غير المأكول أو الحرير أو الذهب مثلا أو غيرها من الموانع ؟

 

ذهب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى بطلان العبادة وقال: كما أن الوضوء والغسل والصوم والصلاة مع نزع غير المأكول أو نزع الحرير إذا كانت ضررية تبطل، فكذلك فيما إذا كانت هذه المذكورات حرجية. وذلك من جهة أن مساق القاعدتين - أي قاعدة الضرر وقاعدة الحرج - واحد، إذ في موارد كلتيهما يكون الحكم الواقعي مرفوعا بالمرة: لأن نتيجة حكومتهما على الأدلة الأحكام الواقعية هو تخصيصها بغير موارد الضرر والحرج، كما هو الحال في جميع موارد الحكومة الواقعية، فكأن الحكم الواقعي يصير نوعين، النوع الضرري والحرجي يرتفعان عن عالم التشريع بالمرة، والنوع الآخر الذي ليس بضرري ولا هو حرجي يبقى على حاله. (وبعبارة أخرى: العمومات والإطلاقات الأولية لولا هاتان القاعدتان كانت تشمل هذه الموارد أيضا - أي موارد كونها ضرريا أو حرجيا - كسائر الموارد التى ليست كذلك، ولكن أدلة هاتين القاعدتين تخصص العمومات الأولية تخصيصا واقعيا، وكذلك تقيد الإطلاقات الأولية تقييدا واقعيا، فتكون موارد هاتين القاعدتين خارجة عن تحت حكم تلك العمومات والإطلاقات حقيقة وواقعا، لا عن تحت موضوعها حتى تكونان واردتين على الأدلة الأولية، فتكون العبادة أو جزؤها أو شرطها كأن لم يكن تعلق بها أمر ولم تكن عبادة إذا كانت حرجية، كما هي كذلك لو كانت ضررية، فالإتيان بها عبادة تشريع محرم. وفيه: أن قياس باب الحرج بباب الضرر في غير محله: لأن الضرر موجب لحرمة الفعل الضرري، فارتكاب الفعل الذي فيه الضرر لا يجوز، فلا يجتمع مع العبادة التي يجب الإتيان بها مقربا. وبعبارة أخرى: الفعل الذي ضرري مبعد، ولا يمكن أن يكون المبعد مقربا، ولا يطاع الله من حيث يعصى. وإن كان هذا الكلام - أي كون الفعل الضرري مبعدا وحراما بجميع مراتبه حتى الضرر الخفيف - لا يخلو من نظر اللهم إلا أن يقال: إن تلك المرتبة التي ليست محرمة ومبعدة لا يرفع الحكم الشرعي الإلزامي، فلا يرتفع بها

 

وجوب الغسل أو التيمم، وليس ببعيد فهو خارج عن محل الكلام لأن كلامنا الآن في الضرر الذي يرتفع به الحكم الشرعي الإلزامي: هذا في باب الضرر. وأما باب الحرج فليس كذلك، أي ارتكاب الفعل الحرجي لا حرمة فيه فليس بمبعد، فقياس أحدهما بالآخر لاوجه له: لأن مناط البطلان في العبادة الضررية كالوضوء أو الغسل الضرريين ليس في العبادة الحرجية، بل العبادة الحرجية التي يأتي بها مع المشقة تكون آكد في العبودية، ولعله يشير إلى هذا الحديث المشهور أن (أفضل العبادات أحمزها) (1) أي أشدها، ولا شك في أن تحمل المشاق في سبيل امتثال أوامر المولى ونواهيه ممدوح عند العقل والعقلاء، إلا أن يكون المولى نهى عن تحمله وإيقاع نفسه في المشقة، فحينئذ يكون عاصيا ويكون حاله حال الفعل الضرري ويكون خارجا عن مفروض الكلام: لأن كلامنا في ما إذا كان الحرج موجبا لرفع الحكم الالزامي إذا كان حرجيا، لا فيما إذا كان الفعل الحرجى منهيا كما أن الفعل الضرري يكون منهيا. والحاصل: أن قاعدة الحرج وكذلك قاعدة الضرر حكم امتناني، غاية الأمر أن الفعل الضرر حرام بدليل آخر لاربط له بالقاعدة، بخلاف قاعدة الحرج فإنه ليس هناك دليل آخر يدل على حرمة ارتكاب الفعل الحرجى. وهذا هو السر في فتوى المشهور ببطلان الوضوء والغسل الضرري دون الحرجى منهما. وأما الإشكال على صحة العبادات الحرجية بأن الحرج يرتفع به الأمر كما هو مفاد هذه القاعدة، فيكون إتيانها بقصد الأمر تشريعا محرما. ففيه: أن قصد الملاك كاف في عدم كونه تشريعا محرما، كما أنه في باب الواجبين

 

(هامش)

 

(1) راجع: (بحار الانوار) ج 67، ص 191، باب النية وشرائطها ومراتبها، ذيل ح 2، وص 237، باب الاخلاص معنى قربه تعالى، ذيل ح 6. (*)

 

الضدين الذي أحدهما أهم يسقط أمر المهم، ومع ذلك أو عصى امتثال أمر الأهم وأتى بالمهم، فالتحقيق صحة عبادته: لكفاية الملاك في التقرب بها ولايحتاج إلى الأمر: ففيما نحن أيضا كذلك. إن قلت: إن هناك - أي في باب الواجبين المتزاحمين الضدين الذي أحدهما أهم ملاكا - نعلم بوجود الملاك مع سقوط الأمر، لأن سقوط الأمر هناك من باب عدم القدرة، والقدرة العقلية نعلم بعدم دخلها في الملاك، فدليل وجوب ذلك الواجب المهم كما أنه دال على وجوبه كذلك دال على وجود الملاك فيه، والوجوب والأمر سقط بواسطة عدم القدرة، وأما الدليل على وجود الملاك فباق بحاله. قلنا: فيما نحن فيه أيضا كذلك، فإن المرفوع هو الإلزام من باب الامتنان لا الملاك، لأنه لا امتنان في رفع الملاك، بل رفعه يكون خلاف الامتنان، بل لا يمكن رفعه في عالم التشريع، لأنه أمر تكويني ورفعه لابد وأن يكون بأسبابه التكوينية، لا بمثل لا حرج ولا ضرر، بناء على ما هو التحقيق من أن مفادهما رفع الحكم الشرعي، بل ولو على القول بكون مفادهما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وأما ما يقال: من عدم الدليل على وجود الملاك بعد عدم الأمر وارتفاعه بواسطة الحرج: لأن الملاك كان يستكشف من الأمر، فإذا سقط الأمر فليس هناك دليل كاشف عن وجوده. ففيه: أن الإطلاقات وعمومات أدلة الأولية كانت دليلا على أمرين: أحدهما الوجوب، والآخر هو الملاك. ودلالتها على الوجوب سقطت عن الاعتبار بواسطة حكومة هذه القاعدة عليها، وأما دلالتها على وجود الملاك فباق على حاله. لا يقال: بأن ظهور الإطلاقات والعمومات الأولية في وجود الملاك حتى في حال كون تلك الأحكام حرجية ملازم مع ظهورها في الوجوب، فإذا سقط ظهورها في الوجوب عن الاعتبار بواسطة هذه فيسقط ظهورها في وجود الملاك أيضا عن

 

الإعتبار. ففيه: أن التفكيك بين المتلازمين في الحجية لامانع منه كما، أنه في الخبرين المتعارضين كل واحد منهما يسقط دلالته المطابقية عن الاعتبار بواسطة المعارضة، فكل واحد منهما ليس حجة في مدلوله المطابقي - أي مؤداه - ولكن كلاهما معتبران في مدلولهما الإلزامي، أي نفي الحكم الثالث الذي هو خلاف مؤدى كل واحد منهما. وأما ما يقال: من أن لازم عدم بطلان الوضوء أو الغسل مع كونهما حرجيين أن يكون مخيرا بين الوضوء أو الغسل وبين التيمم في حال كونهما حرجيين، وهذا معلوم العدم، لأن التفصيل قاطع للشركة، فإن قوله تعالى (إن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) (1) علق التيمم على عدم وجود الماء، وعند الوجدان بمعنى التمكن من استعماله لا محل للتيمم، بل إما الوضوء أو الغسل، كل في محله، كما أنه عند عدم الوجدان يتعين عليه التيمم ولا محل للوضوء ولا للغسل، وحيث أنهما نقيضان فلا ثالث غيرهما، وإلا يلزم إما اجتماع النقيضين وإما ارتفاع النقيضين، بمعنى أنه لو كان محل الاثنين - أي الوضوء مثلا والتيمم - جمعا أو تخييرا يلزم اجتماع النقيضين، وإن لم يكن الإثنين فيلزم ارتفاع النقيضين، فلابد وأن يكون الواجب عند القيام إلى الصلاة أحدهما المعين لا التخيير بينهما. وفيه: أنه من الممكن أن يكون في مقام الثبوت عدم وجدان الماء عند القيام للصلاة بمعنى عدم التمكن من استعماله عقلا أو شرعا علة منحصرة لوجوب التيمم، وأما مع التمكن وعدم مانع شرعي أو عقلي فإن لم يكن إستعماله شاقا وحرجيا فيجب الوضوء أو الغسل كل في محله ومورده. وأما إن كان شاقا وحرجيا فيكون مخيرا بين التيمم وبين الطهارة المائية أي الوضوء أو الغسل كل في محله ومورده. أما في مقام الإثبات فلو لم تكن هذه القاعدة في البين، كان مقتضى ظاهر الآية

 

(هامش)

 

(1) النساء (4): 43. (*)

 

أنه عند عدم الوجدان وظيفته التيمم، وعند الوجدان الوضوء أو الغسل، ولكن بعد ورود الدليل على عدم جعل الحكم الحرجي وعلمنا أنه تعالى في مقام الامتنان، فلابد وأن يكون المرفوع هو الوجوب والإلزام لا الصحة: لأن رفع الصحة خلاف الامتنان، فبمقتضى رفعه لابد وأن يكون التيمم صحيحا. ومن طرف آخر حيث أن الطهارة المائية أيضا صحيحة: لأن المرفوع هو الإلزام لا الصحة، فيكون مخيرا بين الطهارة المائية وبين الطهارة الترابية. وبعد التأمل فيما ذكرنا نعرف أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) في حاشيته على العروة في هذا المقام من ادعاء القطع بعدم التخيير بين الطهارتين لا يخلو من غرابة. والحق في المقام هو صحة الوضوء والغسل الحرجيين ما لم يصل إلى حد الضرر المحرم، وإن كان الاحتياط بالجمع بينهما حسن، بمعنى أنه لو توضأ أو اغتسل وتحمل الحرج والمشقة لا يترك التيمم وأما لو تيمم فلا يحتاج إلى الطهارة المائية قطعا. الأمر الثاني: في أن هذه القاعدة هل هي حاكمة على جميع العمومات وإطلاقات أدلة الأحكام الإلزامية، سواء كانت تلك الأحكام من الواجبات أو كانت من المحرمات ؟ وعلى تقدير كونها شاملة للمحرمات أيضا كالواجبات، فهل تختص حكومتها على أدلة محرمات الصغائر أو يشمل الكبائر أيضا. ؟ فنقول: ظاهر الآية الشريفة - التى هي أساس قاعدة نفي العسر والحرج، واستشهد الإمام عليه السلام في موارد عديدة بها، وجعلها كبرى كلية طبقها على صغرياتها المتعددة في أبواب مختلفة، أعني قوله تبارك وتعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) - هو العموم لكل حكم شرعي حرجي، سواء كان من الواجبات أو من المحرمات، وسواء كانت المحرمات صغيرة أو كبيرة، ولكن الظاهر أن بناء الفقهاء والأصحاب - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - ليس على العمل بذلك العموم والأخذ به، خصوصا إذا كان المراد من الحرج والضيق العرفي الذي أخذ

 

موضوعا للرفع في الآية الشريفة هو الحرج الشخصي لا النوعي، كما هو كذلك: لأنه ليس في أغلب المحرمات الكبيرة كالزناء بذات البعل وأمثاله إلا ويكون تركها لبعض الإشخاص حرجيا، ولا شك في أن الفقيه لا يرضى من نفسه أن يفتى بجواز ارتكاب ذلك المحرم. ولعل السر في ذلك أن هذا الحكم - أي رفع الحكم الحرجي - من اللطف والامتنان على العباد، وإيقاع المكلف في المفسدة العظيمة المترتبة على ذلك المحرم والذنب الكبير برفع الإلزام عنه خلاف اللطف والامتنان. مثلا الشخص الذي له عطف ورأفة على ولده الوحيد العزيز عنده، يأمره بما فيها المصالح له، وينهاه عن الأفعال التي فيها مفاسد على اختلاف تلك المصالح والمفاسد خفة وشدة، وقلة وكثرة، وصغرا وكبرا، كل تلك الأوامر والنواهي من باب اللطف والشفقة عليه، حتى أن إعمال المولوية والوعد على الامتثال، والوعيد على العصيان كل ذلك من باب اللطف والإحسان إليه، لأن لا يفوت منه المصالح، ولا يقع في المفاسد خصوصا إذا كانت المفاسد عظيمة. فإذا قال لذلك الولد: التكاليف التي وجهتها إليك إذا كان العمل على طبقها وامتثالها شاقا عليك وتقع في الضيق من ناحية العمل بها والجري على وفقها، فهي مرفوعة عنك ولا تضيق على نفسك وأنت في سعة. وعلمنا أن صدور هذا الكلام من ذلك الوالد الرؤوف من باب اللطف والامتنان على ذلك الولد، فهل نفهم منه أنه رخصة في كل ما فيه مفسدة عظيمة، أو ترك كل ما فيه مصلحة ملزمة عظيمة ؟ كلا، ثم كلا. فاللازم على الفقيه في مقام إجراء هذه القاعدة أن يعمل النظر، ويهتم غاية الاهتمام بأن يكون المورد مما لا يرضى الشارع بتركه ولو كان الفعل حرجيا شاقا على المكلف، كالواجبات التي بني الإسلام عليها، كالصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان،

 

والحج وأمثالها مما لا يرضى الشارع بتركها على كل حال. وكذلك لا يكون مما لا يرضى بفعله لا شتماله على المفسدة العظيمة، كقتل النفس المحرمة، والزنا بذات البعل، واللواط، والفرار عن الزحف وارتكاب المعاملة الربوية، والقمار، وشرب الخمر، وسائر المحرمات الكبيرة التي مذكورة في الفقه في أبواب ذكر العدالة فيها، عصمنا الله من الزلل والخطأ. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.