قاعدة الإحسان

36 - قاعدة الإحسان 

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد واهل بيته الطيبين لطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين. قاعدة الاحسان [ * ] ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة (قاعدة الاحسان). وفيها جهات من البحث: الجهة الاولى في مدركها وهو امور: الاول: قوله تعالى: * (ما على المحسنين من سبيل) * (1) والآية وان كانت واردة في مورد قعود العاجزين عن الجهاد لفقرهم وعدم تمكنهم من تحصيل الزاد والراحلة

 

(هامش)

 

[ * ] (الحق المبين) ص 125 ; (عناوين الاصول) عنوان 64 ; (مجموعه رسائل) ص 479 ; (دلائل السداد و قواعد فقه واجتهاد) ص 170 ; (مجموعه قواعد فقه) ص 9 (قواعد فقه) ص 264 ; (القواعد) ص 27 ; (قواعد فقه) ج 2، ص 264 ; (قواعد فقهى) ص 41 ; (قواعد فقهيه) ص 273 ; (القواعد الفقهية) (فاضل اللنكرانى) ج 1، ص 281 ; (القواعد الفقهية) (مكارم الشيرازي) ج 4 (1). التوبة (9): 91. (*)

 

للسفر مع رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك، حتى ان بعضهم لم يجدوا نعلا، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله ان يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال صلى الله عليه وآله: (لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وهم يبكون، وهم ثلاثة إخوة: معقل، وسويد، والنعمان بنو مقرن، فأنزل الله تعالى في حقهم: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) * (1). فظاهر الآية بناء على هذا نفى السبيل، أي: العقاب الاخروي، والعتاب من المجاهدين عليهم لتخلفهم عن الجهاد عن هؤلاء المتخلفين العاجزين، مقيدا بنصحهم لله ورسوله، ولكن العبرة بعموم الآية من حيث المفاد لفظا، ولا اعتبار بخصوصية المورد. وكثير من الآيات القرآنية واردة في موارد خاصة، ولكن الفقهاء يستدلون بعمومها فيما هو خارج عن المورد. نعم لابد وأن يكون العموم يشمل المورد، لان تخصيص المورد مستهجن. فلا بد لنا من شرح هذا الكلام الشريف والجملة المباركة، أي قوله تعالى: * (ما على المحسنين من سبيل) * وانه ما هو الظاهر والمتفاهم العرفي منها. فنقول: أما كلمة (المحسنين) فهو جمع معرف باللام يفيد العموم، وأما (الاحسان) هو صدور الجميل من قول أو فعل بالنسبة إلى غيره، وذلك قد يكون بايصال نفع إليه مالي أو اعتباري، وقد يكون بدفع ضرر مالي أو اعتباري عنه. والسبيل المنفي حيث أنه نكرة واقعة في سياق النفي يفيد العموم، لان انتفاء الطبيعة لا يتحقق إلا بانتفاء جميع أفرادها، وإلا يلزم اجتماع النقيضين. فإذا كان مفاد الآية عموم النفي، أي كون السبيل منفيا بطور العموم، ويكون السلب كليا لا

 

(هامش)

 

(1) التوبة (9): 91. (*)

 

المسلوب فقط، فوجوده ولو كان في مورد واحد نقيضه، لان الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية. فالآية بظاهرها تدل على نفي كل ما يصدق عليه أنه سبيل عن كل من هو محسن، فهذه كبرى ثابتة من الآية الشريفة تكون دليلا وحجة لجميع مواردها في الفقه، ولا يزال الفقهاء يستدلون بها على نفي الضمان في موارد الاحسان. والسبيل جاء بمعنى: السب، والشتم، والحرج، والحجة، والطريق والظاهر انه في الآية بمعنى الحجة والحرج. وإن شئت قلت بمعنى المؤاخذة، أي ليس على المحسن مؤاخذة فيما تسبب عن إحسانه. ولا شك في أن الضمان سبيل بأي معنى كان من المعاني المذكورة، فتدل الآية على أن الفعل الذي صدر من المحسن وان كان ذلك الفعل في حد نفسه سبب وموجب للضمان، ولكن إذا كان محسنا فلا يوجب الضمان. مثلا لو كان حيوانا جائعا صاحبه غائب، وليس من يعلفه، فأخذه وعلفه، فصار سببا لتلفه من باب الاتفاق، فلا ضمان على المحسن. أو أدخله في اصطبله لحفظه عن البرد أو السبع، ثم وقع عليه البناء وتلف فليس عليه سبيل، لانه محسن. أو الطبيب الذى أخذ المريض الفقير إلى داره ليعالجه ويعطيه الدواء والغذاء، ولكن من باب اتفاق لدغته حية أو عقرب فمات فلا سبيل عليه، لانه محسن. وخلاصة الكلام أن هذه الجملة كبرى كلية تنطبق على جميع موارده، إلا أن يأتي دليل مخصص ويخصصه، فهو عام شرعي كسائر العمومات الشرعية قابلة لورود التخصيص عليه، وما لم يكن مخصصا في البين يؤخذ بعمومه. وان شئت قلت: إن هذه الجملة تنحل من ناحية الموضوع إلى قضايا متعددة بعد أفراد الموضوع، فيكون مفادها أن كل واحد من أفراد المحسنين ليس عليه كل ما ص 12

 

يصدق عليه السبيل. نعم بقى شيء: وهو أنه موضوع الحكم هل هو الاحسان في قصده واعتقاده وإن كان اساءة في الواقع ؟ أو هو الاحسان واقعا وإن لم يعلم أنه إحسان، بل وإن قصد به الاساءة، أو كلاهما ؟ أي: يكون إحسانا واقعا وهو أيضا يكون قاصدا للاحسان ؟ وجوه. والظاهر أنه دائر مدار الاحسان الواقعي وإن لم يقصد به الاحسان، لان الظاهر من العناوين والمفاهيم - الذي أخذ موضوعا للحكم الشرعي - هو واقعها والمعنى الحقيقي لها، إلا أن يكون المتفاهم العرفي معنى آخر غير المعنى الحقيقي، ولا شك في أن العرف لا يفهم من لفظ (الاحسان) غير ما هو المعنى الحقيقي له. نعم هذا بحسب ما يستفاد من هذه الجملة. وأما الدليل العقلي والاجماع فسترى ما يكون مفادهما. الثاني: حكم العقل بقبح مؤاخذة المحسن على إحسانه ولعل إلى هذا يشير بطور الاستفهام الانكاري قوله تعالى: * (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) (1) أي مكافاة الاحسان يكون بالاحسان إلى المحسن، لا الاساءة إليه. وبعبارة أخرى: شكر المنعم حسن بحكم العقل وعند العقلاء، ولا شك في أن المحسن منعم، فشكره أي جزاءه بالاحسان إليه قولا أو عملا حسن، كما أن كفران نعمته قبيح. ومعلوم أن تغريم المحسن وتضمينه فيما أحسن إليه كفران لما أنعم عليه وذلك كما في المثال الذي ذكرنا أنه لو رأى غنم شخص صاحبه غائب عنه فأدخله في داره للحفظ عن التلف وأن لا يفترسه السباع، فانهدم البناء وتلف، فتغريم هذا الشخص وتضمينه قبيح بحكم العقل ويكون إساءة في مقابل جميله وإحسانه، لانه وإن وضع

 

(هامش)

 

(1) الرحمن (55): 60. (*)

 

يده عليه بدون إذن صاحبه، إلا أنه كان بقصد الاحسان وحفظ ذلك الحيوان عن التلف، وفي الواقع كان إحسانا من جهة حفظه عن السباع، لا أنه صرف قصد الاحسان، وإنما وقع عليه التلف بجهة أخرى غير جهة إحسانه، وهو انهدام البناء من باب الاتفاق. فتغريمه في مثل هذه الصورة قبيح، فيستكشف من هذا الحكم العقلي ملاك حرمة تغريم المحسن وتضمينه في الفعل الذي صدر عنه بقصد الاحسان وكان واقعا إحسانا، وإن تضرر صاحب الحيوان من ناحية أخرى وتلف ماله. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حكم العقل بقبح تغريم المحسن وتضمينه. ولكن أنت خبير بأن هذا صرف استحسان، وإثبات الحكم الشرعي أو نفيه عن موضوعه لا يجوز بالظنون الاستحسانية، بل لابد من قيام دليل وحجة ثبت حجيته بالحجة القطعية على ثبوته أو نفيه، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف، أو يد غير مأذونة، أو تعد، أو تفريط من الامين، أو غير ذلك من أسباب الضمان لا يصح الحكم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان. الثالث: من أدلة هذه القاعدة هو الاجماع، فإن الفقهاء يستدلون بها في كتبهم وفتاويهم على عدم ضمان المحسن من نكير منهم، مثلا إذا كان المال الذي أودعه المودع عند شخص، وكان ذلك الشخص غير مكان الوديعة لاعتقاده أنه أحفظ، وكان ذلك المكان واقعا أحفظ، وكانت الوديعة من الاحجار الكريمة فانكسر فلا ضمان على الودعى، لانه محسن في هذا النقل، وإن كان بغير إذن المودع. حتى قال بعضهم: أنه يجوز النقل إلى مكان أحرز ولو مع نهي المالك المودع عن النقل، بل ادعى الاجماع على عدم الضمان فيما نقل مع خوف التلف، معللا بأنه محسن في هذا الفعل و (ما على المحسنين من سبيل). والحاصل: أن استدلالهم على عدم الضمان بهذه القاعدة وإن كان من المسلمات،

 

فهذا صاحب الجواهر - قدس سره - يستدل على قبول قول الودعي إن ادعى التلف بالاجماع، وبأنه محسن قابض لمصلحة المالك (1). ولكن استدلالهم بهذه القاعدة في عدم الضمان لعله مستند إلى الآية الشريفة، بل الظاهر أنه كذلك، لا أنه صرف الاحتمال ومع هذا كيف يمكن أن يكون من الاجماع المصطلح الذي بنينا في الاصول على حجيته. فظهر من جميع ما ذكرنا أن عمدة المدرك لهذه القاعدة هو عموم الآية الشريفة (2) بناء على إلقاء خصوصية المورد كما بينا وتقدم مفصلا. الجهة الثانية في بيان المراد من هذه القاعدة فنقول: المراد منها - وإن ظهر مما بينا في شرح أدلتها، خصوصا ما ذكرنا في شرح الآية المباركة، ولكن نبين توضيحا لما سبق - أن الذي يفعل فعلا يكون موجبا للضمان والتغريم في حد نفسه، كما أن الولي أو القيم على الصغير لو صدر فعل عنه في مال الصغير من باب الاحسان إليه، وكان ذلك الفعل في الواقع إحسانا، لا أنه اعتقد أنه إحسان وفي الواقع لم يكن إحسانا، لان موضوع القاعدة هو الاحسان الواقعي لا تخيل الاحسان، ولكن اتفق أنه ترتب على ذلك الفعل ضرر. كما أنه لو نقل متاعه في البحر لانتفاع أكثر فغرق، أو في البر فسرق، فليس عليه الضمان، لانه كان محسنا في هذا الفعل، وهذا الفعل في حد نفسه إحسان إليه، والغرق والحرق والسرقة أمر اتفاقي. ووجود هذه الامور من باب الاتفاق لا يمنع التجار عن تجاراتهم ومكاسبهم، كما أنه لا يمنع عن صدق الاحسان إلى القصر إذا صدر عن الاولياء.

 

(هامش)

 

(1) (جواهر الكلام) ج 27، ص 147. (2) التوبة (9): 91. (*)

 

وخلاصة الكلام: أن مفاد هذه القاعدة ففي السبيل مطلقا على كل واحد من أفراد المحسنين: فهذه قضية حقيقية تنحل إلى قضايا متعددة، مثل قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (1) حيث أنه تنحل إلى قضايا متعددة بعدد أفراد الموضوع، أي اجتنبوا عن هذا الخمر وذاك وهكذا. وحاصل معناها: أن كل ما وجد في الخارج وصدق عليه أنه خمر يجب الاجتناب عنه، وهذا هو معنى الانحلال، وفيما نحن فيه أيضا معنى الانحلال هو أن كل من وجد في الخارج وكان محسنا فلا سبيل عليه، ولا شك أن الضمان والتغريم سبيل عليه، فيرجع المعنى إلى أنه لا ضمان ولا غرامة في الفعل الذي صدر عن كل محسن بجهة الاحسان وكان في الواقع إحسانا، لا ما تخيل أنه إحسان مع أنه ليس بإحسان. وبعبارة أخرى: نفى السبيل على المحسن باعتبار إحسانه، فإن تعليق الحكم على الوصف وجعله موضوعا مشعر بهذا المعنى، فيفيد أن الفعل الذي صدر بعنوان الاحسان وكان إحسانا واقعا، ولكن من باب الاتفاق ترتب عليه ما يوجب الضمان لا يضمن ولا يغرم، لانه محسن. ثم إنه لا فرق في صدق الاحسان بين أن يكون فعل المحسن لجلب المنفعة لذلك الذي يريد الاحسان إليه، أو يكون لدفع المضرة عنه، فكلاهما إحسان، فكما أن جلب المنفعة له إحسان إليه كذلك دفع الضرر عن نفسه أو عن ماله إحسان إليه، وربما يكون صدق الاحسان على دفع الضرر في بعض المصاديق والموارد أولى بنظر العرف من صدقه على جلب المنفعة، خصوصا إذا كان دفع الضرر لحفظ النفس عن الهلاك، فأي إحسان أعظم من هذا.

 

(هامش)

 

(1) المائدة (5): 90. (*)

 

الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة فنقول: تارة: يكون إحسانه إلى صاحب المال باعتبار دفع الضرر المالي أو النفسي عنه، وأخرى: باعتبار جلب المنفعة له. فمن الاول: لو رأى اشتعال النار في لباسه بحيث لا طريق إلى حفظ نفس ذلك الشخص عن الاحتراق إلا بتمزيق ألبسته، فمزقها، فحيث أنه محسن إليه في هذا الفعل فلا يضمن. وكذلك لو كان البزاز اشتعل النار في دكانه، فهو لدفع الضرر عنه وعدم احتراق أجناسه الغالية القيمة هدم مقدارا من الدكان، لعدم وصول النار إلى تلك الاجناس، فلا ضمان عليه، لاجل أنه محسن إليه في هذا الفعل فلا سبيل عليه. أو أخرج الاجناس من دكانه مع العجلة والسرعة خوفا من احتراقها في أثناء اشتغاله بتفريق المحل عن الاجناس، ووقع التلف على بعضها فلا يضمن، لانه محسن في هذا الفعل. وكذلك الامر لو أشرف شخص على الغرق، ولم يمكن نجاته إلا بأن يتلف بعض ما معه من الاموال من الالبسة وغيرها، فأتلفها لاستخلاصه فلا ضمان عليه، لانه محسن في هذا الفعل الذي صدر عنه لدفع الضرر عن صاحب المال التالف. وكذلك لو رأى ربان السفينة أن السفينة مع الاموال الكثيرة التي فيها أشرفت على الغرق لثقلها، والمفروض أن السفينة وجميع الاموال لمالك واحد، فألقى مقدارا من تلك الاموال في البحر لحفظ السفينة وباقى الاموال فلا يضمن، لانه محسن في هذا الفعل. وكذلك لو كان السيل متوجها إلى داره، أو خانه الذي محل تجارته وفيهما أموال كثيرة، فسد السيل عنهما ببعض فروش داره أو أثاث بيته من الاجناس والانواع

 

الآخر، أو غير مجرى السيل منهما إلى مزرعته، فوقع التلف على فروشه وأثاث بيته أو على زرعه فلا يضمن، لانه محسن في هذا الفعل. ولا يخفى أن ما قلنا من عدم الضمان، يصح فيما إذا كان الضرر الذي يرد عليه أقل من الضرر الذي يدفع عنه إذا كان الذي يدفع عنه ماليا، لانه لو كان أكثر بل ولو كان مساويا لا يعد هذا الفعل إحسانا إليه، بل إذا كان الضرر الذي يدفع عنه أقل من الضرر الذي يرد عليه يكون هذا إساءة لا إحسانا، وإذا كان مساويا يكون لغوا لا إحسانا، إلا أن يكون جهة أخرى غير المالية، فيخرج عن اللغوية، بل ربما يوجب صيرورته إحسانا وإن كان مساويا مع الضرر الذي يدفعه عنه من حيث المالية. وكذلك الودعى لو أراد المسافرة التى لا يمكن له تركها، ولا يمكن له الوصول إلى مالك الوديعة كي يردها، فيجوز له دفنها في محل الامن إن لم يأمن - مع كونه ظاهرا بارزا - عن سرقته أو غصبه أو تلفه بشكل. فلو دفنه مع هذا الخوف، فوقع عليه التلف من باب الاتفاق فلا يضمن، لانه محسن في هذا الفعل. قال في الجواهر: كما أنه لو خشى المعالجة، أو خاف عليها من معاجلة السارق أو الظالم لم يضمن حينئذ بالدفن المراعى مقدار ما يتمكن منه من الحرزية والاعلام ونحوهما، لانحصار طريق حفظها حينئذ بذلك وكذا لو كان السفر ضروريا له، وخاف معاجلة الرفقة فدفنها مراعيا ما سمعت بعد تعذر ما وجب عليه من الرد على الوجه المزبور (1). انتهى كلامه. والحاصل أن موارد تطبيق على قاعدة الاحسان في هذا القسم - أي: فيما إذا كان الاحسان باعتبار دفع الضرر عمن يحسن إليه - كثيرة لا يمكن في هذا المختصر استيفاؤها واستقصاؤها. وأما موارد تطبيق هذه القاعدة في القسم الثاني، أي فيما إذا كان الاحسان باعتبار

 

(هامش)

 

(1) (جواهر الكلام)) ج 27، ص 145. (*)

 

جلب المنفعة وإيصالها إلى الذي يريد أن يحسن إليه فكثيرة أيضا. فمنها: الافعال الكثيرة التي تصدر من الاولياء لايصال النفع إلى المولين عليهم، فاتفق ترتب الضرر على تلك الافعال، فلا ضمان لهم، لانهم محسنون في تلك الافعال إليهم. مثلا أحد الاولياء هو الحاكم، فلو تصرف في مال المولى عليه لايصال النفع إليه، كما أنه اشتغل في قناة له بالحفر والاصلاح لازدياد الماء، فصار سببا لانهدام القناة، فلا ضمان عليه، لانه كان محسنا إليه. أو فتح طريق السيل إلى مزرعته أو بستانه لشرب الماء ونمو زرعها، أو نمو أشجار البستان فاتفق أن ذلك السيل أفسد تلك المزرعة وذلك البستان، فلا ضمان عليه. وكذلك لو أعطى الحاكم النقود التي عنده لاجرة العبادات للاجير الذي ثقة عنده فاتفق أنه لم يأت بتلك العبادة ومرض ومات ولم يترك مالا كي يؤخذ ما أعطاه الحاكم عن تركته فلا ضمان على الحاكم، لانه محسن إلى صاحب المال. وكذلك الحال في الاب والجد من طرف الاب بالنسبة إلى أموال صغيرهما، فلو حبسوا طعامه ومتاعه ولم يبيعاه التماس زيادة الثمن، فنزل السعر أو فسد الطعام والمتاع، فلا ضمان عليهما، لانهما محسنان في تأخير البيع. وهذا فيما إذا كان نزول السعر أو فساد المتاع من باب الاتفاق، وإلا لو كان النزول أو فساد المتاع غالبيا، فتأخير البيع ليس إحسانا، بل ربما يكون إساءة، وذلك كالمنسوجات التي مادتها صوف أو وبر، فإبقاءوها وتأخير بيعها خصوصا في الصيف يوجب غالبا فسادها وإتلافها، بواسطة أنه غالبا تلك المنسوجات في الصيف في معرض أكل العثة. وهكذا تأخير بيع الفواكه التماس زيادة الثمن، لان إبقاء الفواكه وتأخير بيعها غالبا مما يوجب فسادها، فالتأخير في أمثال هذه لطلب زيادة الثمن وإيصال النفع ليس إحسانا، بل يكون في بعض الصور إساءة.

 

وكذلك الامر فيما لو زرع زرعا للمولى عليه لايصال النفع إليه، ولكن من باب الاتفاق بواسطة حوادث الجو فسد ذلك الزرع، أو صار حاصل ذلك الزرع رخيصا وقليل الفائدة بحيث لم يف بنصف ما صرف في ذلك الزرع، فلا ضمان على الولي، لانه كان محسنا في ذلك الفعل. وكذلك لو أجر سفينته أو أباعره وجماله للركوب أو للحمل ونقل المتاع من مكان إلى مكان آخر، فغرقت السفينة، أو تلفت الاباعر والجمال، فلا ضمان على الولى، كما ذكرنا من أنه محسن في هذا الفعل، وقد نفى الله سبحانه وتعالى السبيل على المحسنين، وقد تقدم أن موارد تطبيق هذه القاعدة كثيرة، ولا يمكن استقصاءوها واستيفاؤها تماما. وقد أورد بعضهم هاهنا إيرادا، وهو أن الفقهاء - قدس الله اسرارهم - ذكروا في باب اللقطة أن الملتقط بعد اليأس عن إيصال المال إلى صاحبه يتصدق بذلك المال عن طرف صاحبه المجهول، لان هذا أيضا نحو إيصال إلى المالك وإحسان إليه، ومع ذلك حكموا بانه ضامن للمالك إن ظهر وعلم به بعد أن تصدق، وهذا الحكم منهم مناف لعموم هذه القاعدة. ولكن يمكن أن يجاب عنه بأن الشارع حكم بجواز التصدق مع الضمان إن ظهر صاحبه، والتصدق إحسان بهذا القيد، وإلا فصرف التصدق بدون أن يكون في البين ضمان - على تقدير ظهور صاحبه وتبينه - يكون إحسانا مشكل. وهذا الحكم ليس مختصا باللقطة، بل قالوا به في كل ما هو مجهول المالك، كما لو وقعت في يده الاموال المسروقة أو المغصوبة التي لا يعلم صاحبها، فبعد الياس عن الايصال إلى صاحبها يجب عليه أن يعطيها صدقة بشرط ضمانها لو ظهر صاحبها أو أصحابها. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.