قاعدة البينة على المدعى واليمين على من أنكر

28 - قاعدة البينة على المدعى واليمين على من أنكر 

 

قاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر (*) ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة البينة على المدعي واليمين على من انكر . وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الاولى في مدركها وهو أمران: الاول: قوله صلى الله عليه وآله: البينة على المدعي واليمين على من انكر (1). واشتهار هذا الحديث بين طوائف المسلمين يوجب الوثوق والاطمينان بصدوره عنه صلى الله عليه وآله فلا ريب في حجيته واعتباره. وروى في دعائم الاسلام عن أبي عبد الله عن ابيه عن آبائه عن امير المؤمنين (ع) ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: البينة في الاموال على المدعي واليمين على

 

(هامش)

 

: (*): القواعد والفوائد ج 1، ص 405، الحق المبين ص 48 و 65، عناوين الاصول عنوان 76، خزائن الاحكام العدد 38، بلغة الفقيه ج 36، ص 376 و 388، قواعد فقهي ص 21، القواعد الفقهية (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 335. 1 - عوالي اللئالي ج 2، ص 345، ح 11، مستدرك الوسائل ج 17، ص 368، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ح 4. (*).

 

المدعى عليه الحديث (1). عوالي اللئالى عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: البينة على المدعي واليمين على من انكر (2) وفي كتاب الاستغاثة في كلام له في قصة فدك مع قول الرسول صلى الله عليه وآله باجماع الامة: البينة على من ادعى واليمين على من انكر (3). محمد بن يعقوب الكليني (قده) في الكافي باسناده عن هشام بن الحكم عن ابي عبد الله (ع) (قال (ع): قال رسول الله صلى الله عليه وآله انما اقضي بينكم بالبينات والايمان (4). وايضا محمد بن يعقوب في الكافي باسناده عن جميل وهشام عن ابي عبد

 

الله (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله البينة على من ادعى واليمين على من ادعى عليه (5). وفيما ذكرنا في مدرك هذه القاعدة غنى وكفاية وان كان هناك روايات من طرقنا وطرق مخالفينا تركناها لعدم الاحتياج إليها. الثاني: الاجماع من جميع علماء الاسلام قاطبة ومن جميع الطوائف منهم، وهذا الاجماع المحقق من جميع طوائف المسلمين وان لم يكن من الاجماع المصطلح - كما نبهنا

 

(هامش)

 

: 1 - دعائم الاسلام ج 2، ص 520 ح 1859، مستدر الوسائل ج 17، ص 367، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ح 1. 2 - عوالي اللئالي ج 1، ص 244، ح 172، وص 453، ح 188، وج 2، ص 258، ح 10، وص 345، ح 11، و ج 3، ص 523، ح 22. 3 - الاستغاثة ص 16، مستدر الوسائل ج 17، ص 368، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ح 5. 4 - الكافي ج 7، ص 414، باب أن القضاء بالبينات والايمان، ح 1، تهذيب الاحكام ج 6، ص 229، ح 552، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 3، معاني الاخبار ص 279، وسائل الشيعة ج 18، ص 69، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح 1. 5 - الكافي ج 7، ص 415، باب أن البينة على المدعي و...، ح 1، تهذيب الاحكام ج 6، ص 229، ح 53، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 4، وسائل الشيعة ج 18، ص 170، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ح 1. (*).

 

عليه مرارا إلا انه يوجب الوثوق بل القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله فلا اشكال في هذه القاعدة من حيث المدرك [ الجهة ] الثانية وهي العمدة هو بيان المراد من هذا الحديث وتوضيح ما يفهمه العرف منه. فنقول في مقام شرح مفهوم العرفي لالفاظ هذا الحديث اما (البينة) فهي عبارة عن شاهدين ذوي عدل من المؤمنين حسب المتفاهم العرفي وقد تكلمنا في ظهورها عرفا في هذا المعنى في قاعدة حجية البينة وهذا لا ينافي كون هذه الكلمة لغة بل وعرفا ايضا بمعنى مطلق الحجة الواضحة والبرهان كما انها استعملت في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعا بهذا المعنى أي الدليل والبرهان والحجة الواضحة. وذلك من جهة ان المنكر - كما سنذكر - من كان قوله مطابقا للحجة الفعلية ككونه ذا اليد فلا بد وان يكون المراد من البينة التي جعلها صلى الله عليه وآله وظيفة المدعي دون المنكر معنى آخر غير مطلق الحجة وليس معنى آخر في البين يحتمل ان يكون هو المراد إلا هذه الحجة الخاصة اعني شهادة عدلين هذا مضافا إلى ورود روايات كثيرة في الموارد الخاصة بمطالبة الشهود من المدعي والحكم له على طبق شهادتها مضافا إلى ان احدا من الفقهاء لم يحتمل غير هذا المعنى لها في هذا الحديث. وأما كلمة على فباعتبار ان هذه الوظيفة - اي كون اقامة البينة على ثبوت ما يدعيه - موجها إليه تكون كلفة عليه. واما (اليمين) فهو الحلف والقسم وهذا واضح معلوم لا يحتاج إلى شرح وايضاح.

 

وأما المدعي فقيل في تعريفه وجوه: [ الوجه ] الاول: هو ان المدعي عبارة عمن يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية وان كان موافقا مع الحجة غير الفعلية اي كان مثلا موافقا مع الاصل ولكن هناك امارة على خلافه فحيث ان الامارة حاكمة على ذلك الاصل - لذهاب موضوعه بها تعبدا - كانت الحجة الفعلية هي الامارة دون الاصل فيكون مدعيا بناء على هذا التعريف مثلا لو ادعى ان هذا اللحم الذي في السوق غير مذكي ويريد بذلك ابطال المعاملة فقول هذا الشخص وان كان مطابقا مع الاصل اي: اصالة عدم التذكية - ولكن حيث ان سوق المسلم ويده كذلك امارة على التذكية فاصالة عدم التذكية محكومة بتلك الامارة فتكون تلك الامارة هي الحجة الفعلية فيكون قول ذلك الشخص مخالفا للحجة الفعلية اعني تلك الامارة وان كان موافقا مع الاصل اي اصالة عدم التذكية فيكون مدعيا. وكذلك مدعي الفساد في باب المعاملات يكون مدعيا مع ان قوله موافق لاصالة عدم النقل والانتقال، وذلك لما ذكرنا من ان المدار في تشخيص المدعي هو ان يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية وان كان مطابقا مع اصل محكوم أو امارة كذلك وفيما ذكرنا من الفرع اي دعوى الفساد في ابواب المعلاملات - قوله مخالف للحجة الفعلية أي: اصالة الصحة وان كان موافقا لاصالة عدم النقل والانتقال. وبناء على هذا التعريف للمدعي فقد يختلف في كونه مدعيا أو منكرا لاختلاف كلامه، مثلا لو قال في مقام - دعوى الطرف دينا عليه أو عينا عنده امانة أو غصبا: ليس لك في ذمتي أو عندي شيء يكون منكرا لكون قوله موافقا مع الحجة الفعلية أي اصالة عدم اشتغال ذمته له بشئ وكذلك في ادعاء العين الاصل عدم كونه عنده. واما لو قال في الاول أديته وفي الثاني رددته يكون مدعيا لان قوله يكون

 

مخالفا للحجة الفعلية وهي اصالة عدم ادائه في الاول واصالة عدم رده في الثاني. وكذلك الامر في الدعوى على ذي اليد بما هو تحت يده فلو قال ان هذا ليس لك أو قال لنفسي يكون منكرا لان قوله موافق للحجة الفعلية أي: كونه ذا اليد. وأما لو قال بأنك وهبتني أو اشتريت منك أو ادعى الانتقال إليه بناقل آخر بعد اقراره بأنه كان له فيكون مدعيا لانه اسقط يده عن الاعتبار باقراره الضمني أو الصريح. الوجه الثاني: هو ان المدعي من لو ترك دعواه ترك، وبيانه ان المدعي عند العرف عبارة عمن يدعي بثبوت دين أو عين أو حق على خصمه. وبعبارة اخرى: يريد الزامه بأحد الامور المذكورة والمنكر في مقابله يرد دعواه وينكر كونه ملزما بأحد هذه الامور فانكاره - في قبال ادعاء المدعي - يكون من قبيل القبول في مقابل الايجاب ورتبته متأخرة عن الدعوى ويكون متفرعا عليها فكونه منكرا متفرع على وجود مدع يدعي شيئا عليه فإذا ترك دعواه فلا مدعى ولا منكر في البين، وهذا هو المراد من قولهم لو ترك ترك ومن تعريفهم المدعي بتلك الجملة. وهذا المعنى للمدعي موافق لما يفهمه العرف من هذه الكلمة لان المدعي عندهم من يريد الزام خصمه بثبوت امر عليه فهو المتعرض لطرفه فلو ترك التعرض ولم يطالب خصمه بشئ لا يتعرض الخصم له من ناحية هذه المخاصمة. نعم يمكن ان يكون للخصم دعوى آخر عليه فلا يتركه بل يطالبه ولكن من جهة ادعاء آخر من طرف المنكر. وأما باب التداعي ففي الحقيقة هناك دعويان في احديهما يكون هذا مدع و الآخر منكر وفي الاخرى بالعكس اي يكون المدعي في الدعوى الاولى منكرا في الاخرى والمنكر فيها مدعيا في هذه الدعوى وفي كل واحدة من الدعويين لو ترك

 

المدعي دعواه يترك من ناحية تلك الدعوى ولا يتعرض له خصمه من ناحية هذه الدعوى وان كان يتعرض له من ناحية دعوى اخرى مثلا لو كان مال مطروحا على الارض ووقع عليه التلف وكل واحد من المتخاصمين لا بد له عليه ويدعي انه له فكل واحد منهما يدعي على الآخر انك اتلفت مالي فلو ترك احدهما دعواه يترك من ناحية هذه ولا يتعرض له الآخر من ناحية هذه الدعوى وان كان يتعرض له من ناحية دعوى اخرى. وكذلك لو كان المال في يدهما معا فكل واحد منها بالنسبة إلى نصفه مدع، وبالنسبة إلى النصف الآخر منكر، وذلك من جهة ان يد كل واحد منهما على الكل غير تامة لان معنى التمامية وعدم النقصان في اليد ان يكون له جميع التصرفات المباحة ومنع جميع الاغيار وحيث انه مع الشريك ليس له منعه فهذه اليد الناقصة على الكل تعتبر يدا تامة على النصف عند العرف والعقلاء ان كان الشريك واحدا، وعلى الثلت ان كانا اثنين وعلى الربع ان كان شركائه ثلاثة وهكذا فإذا كان المال في يد اثنين مثلا فتعتبر يد كل واحد منهما على المجموع يدا تامة على النصف عند العرف والعقلاء فبالنسبة إلى النصف الذي تحت يد كل واحد منهما يكون ذو اليد منكرا وبالنسبة إلى النصف الآخر مدعيا، فكل واحد منهما منكر بالنسبة لما في يده ومدع بالنسية لما في يد الآخر فيدخل في باب التداعي والتحالف، ولكن كل واحد لو ترك المخاصمة بالنسبة لما في يد الآخر يترك من حيث هذه الدعوى، ولا يتعرض له الآخر من هذه الجهة وان كان له تعرض من ناحية النصف الآخر في يده. فلا يرد النقض على هذا التعريف بمسألة التداعي وان المدعي فيها لو ترك لا يترك. الوجه الثالث: هو ان المدعي عبارة: عمن يكون قوله مخالفا للظاهر، ومقابله المنكر: وهو الذي يوافق قوله الظاهر، كما انه إذا ادعى ان هذه الدار التي تسكنها هي داري، أو الزوجة التي تحتك هي زوجتي فهذا القول خلاف ظاهر الحال، فيكون من

 

يدعيه مدعيا ومن تكون الدار تحت يده وينكر كونها للمدعي منكرا، وكذلك الامر في مثال الزوجة. وفيه: ان هذا الظاهر الذي يكون قوله مطابقا معه ان كان حجة معتبرة بالفعل - أي: كان أصلا معتبرا أو امارة معتبرة - فيرجع إلى الوجه الاول أي: من يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية من وجوه تعريف المدعي وان كان من الظنون غير المعتبرة، فكونه موافقا معه لا ينافي مع كونه مدعيا، كما انه لو ادعى شخص من الصلحاء واهل الشرف على ذي اليد المتهم بالسرقات ان هذا الذي تحت يده هو لي وملكي وانه سرقه مني. ولعل من يعرف المدعي بأنه عبارة: عمن يدعي أمرا خفيا والمنكر من يقابله - أي: ينكر ثبوت مثل هذا الامر الخفي - مراده من هذا التعريف هو هذا الوجه الثالث، لان الامر الخفي هو ما لا يكون ظاهرا. ثم ان المراد من هذه الكلمة - أي: كلمة الظاهر في قوله: ان المدعي هو من يخالف قوله الظاهر - هل هو الظهور الشخصي أو الظهور النوعي ؟ والحق في هذا المقام هو ان مرادهم من الظاهر ان كان هي الحجة المعتبرة فالمراد لا محالة يكون هو الظهور النوعي لا الشخصي، وذلك لان الحجج والامارات بل مطلق الادلة - وان كانت من الاصول حجيتها باعتبار ظهورها النوعية، وليست دائرة مدار الظن الشخصي. وأما ان كان المراد منه هو الظهور العرفي - وان لم يكن حجة - فقابل لكلا الامرين أي: الظهور النوعي والشخصي ولكن الظاهر ان مرادهم في هذا التعريف هو الظهور العرفي الشخصي. وعلى كل حال هذا التعريف لا يخلو عن الخلل لان من يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية - كما إذا ادعى على ذي اليد بما في يده - يكون مدعيا ولو لم يكن قوله

 

مخالفا للظاهر. اللهم إلا ان يقال ان المراد من الظاهر في التعريف هي الحجة الفعلية فيرجع إلى الوجه الاول من وجوه تعريفه. الوجه الرابع: هو ان المدعي من يريد اثبات أمر على خصمه، سواء أكان ذلك الامر اشتغال ذمة طرفه وخصمه له أو تفريغ ذمة نفسه عما اشتغلت به لخصمه. فالاول كما إذا ادعى عليه انه مديون بكذا، والثاني كما إذا ادعى اداء ما كان عليه من دين له ؟ وانت خبير بأن هذا التعريف ايضا يرجع إلى بعض المذكورات الوجه الخامس: ان المرجع في فهم هذه اللفظة هو العرف فهو يعين ويشخص ما هو المراد منها. وفيه: ان هذا الكلام صحيح ولا مناص منه، لان المرجع في باب مفاهيم الالفاظ هو العرف، إذ لم يخترع الشارع طريقا خاصا في باب القاء الاحكام إلى المكلفين، بل طريق الافادة عنده ما هو الطريق عند العرف في محاوراتهم في مقام الافادة والاستفادة، فإذا قال (ع) (البينة على المدعي واليمين على من انكر) (1) فلا بد في فهم الفاظ هذا الحديث من المراجعة إلى العرف، لان الخطابات الشرعية في محاوراته على طريقة العرف وعلى طبق محاوراتهم. ولكن جميع التعاريف السابقة والوجوه المذكورة كانت بنظر من ذكرها وعرف المدعي بها ما هو المتفاهم العرفي من هذه اللفظة لا انها من جهة اصطلاح جديد من قبل الشارع وانه صلى الله عليه وآله استعمل هذه اللفظة بذلك الاصطلاح. الوجه السادس: ان المدعي من يكون قوله مخالفا لاحد الامرين: إما الاصل أو

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم ذكره في ص 71، رقم (1). (*).

 

الظاهر، وقد عرفت الحال وكذلك المراد من كليهما. هذه هي جملة الوجوه التي ذكروها في بيان معنى المدعي والمراد منه. ولكن الظاهر من لفظة المدعي في مقام الخصومة وفي مقابل المنكر حسب المتفاهم العرفي الذي هو المناط في باب تعيين مراد المتكلم - هو ان يكون ما يدعيه مما ليس عليه حجة فعلية، إذ لو كان على ما يدعيه على خصمه من عين أو دين أو حق حجة فعلية فيعمل على طبق تلك الحجة. وبعبارة اخرى: المدعي يريد في مقام المخاصمة ان يثبت ما يدعيه، ولذلك يطالب بالبينة. وأما إذا كان ثابتا لكونه على طبق الحجة الفعلية فلا معنى لان يكون في مقام اثبات ما يدعيه لانه يكون من قبيل تحصيل الحاصل، وأيضا لا معنى لان يطالب بالبينة، فالذي تحت يده مال ويتصرف فيه كيف ما يشاء، فبعد الاعتراف بأن اليد امارة الملكية فمالكية ذي اليد لذلك المال الذي تحت يده ثابتة لا تحتاج إلى دليل الاثبات، فلا معنى لاطلاق المدعي عليه. نعم لو ادعى شخص اخر - الذي ليس له يد على المال - انه له، يطالب بالدليل على ما يدعيه، ولا بد له في اثبات ما يدعيه ان يأتي بدليل حاكم على اليد وهي البينة على ما قرره الشارع، وإلا لو لم يكن اقوى من اليد بالحكومة أو التخصيص يتعارضان ويتساقطان. وخلاصة الكلام ان قوله صلى الله عليه وآله: البينة على المدعي واليمين على من انكر بيان لوظيفة المتخاصمين وعبر عن أحد المتخاصمين بالمدعي وعن الآخر بالمنكر، فجعل البينة وظيفة المدعي واليمين وظيفة المنكر. وحيث انه صلى الله عليه وآله لم يخترع طريقا خاصا في محاوراته لتبليغ الاحكام بل كان صلى الله عليه وآله يتكلم بما هو طريقة العرف - فلا بد في فهم مراده صلى الله عليه وآله من الرجوع إلى ما يفهمه العرف

 

من كلامه صلى الله عليه وآله إلا ان يثبت نقل من المعنى العرفي إلى معنى آخر عند الشارع كي يكون حقيقة شرعية أو استعمله في ذلك المعنى الآخر مجازا، وذلك يحتاج اثباته إلى دليل، وإلا فبحسب الطبع الاولى لا بد في فهم مراده صلى الله عليه وآله من مراجعة العرف. وقد عرفت ان لفظة المدعي حسب المتفاهم العرفي هو من يحتاج في اثبات ما يدعيه إلى مثبت خارجي ولا يكون ثابتا في نفسه، فبناء على هذا يكون الوجه الاول من الوجوه التي ذكرناها لمعني المدعي - أي: من يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية - هو الصحيح في معناه. ثم ان تقييد الحجة بالفعلية - من جهة انها لو لم تكن فعلية بل كانت محكومة بحجة الخصم وكانت حجة الخصم هي الفعلية - فموافقة قوله لمثل هذه الحجة المحكومة لا يخرجه عن كونه مدعيا، مثلا لو ادعي فساد المعاملة الواقعة بينهما، فقوله وان كان موافقا مع أصالة عدم النقل والانتقال - الذي قيل بأنه الاصل في باب المعاملات - الا حيث انها محكومة باصالة الصحة يكون مدعيا لمخالفة قوله للحجة الفعلية التي هي أصالة الصحة فيما إذا كان المورد مما يجري فيه هذا الاصل. وبعد ما عرفت من هو المدعي فالمنكر هو مقابل المدعي، بمعنى ان هذين المفهومين متقابلان لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في مخاصمة واحدة من جهة واحدة في زمان واحد، وذلك من جهة ان مفاد قول المدعي بثبوت أمر - من دين أو عين أو حق - على خصمه، ومفاد قول المنكر نفى ذلك الامر، فهما متقابلان نفيا واثباتا، فبأي معنى من المعاني المذكورة فسرت المدعي يكون معنى المنكر عدم ذلك المعنى. مثلا بناء على ما اخترنا من ان المدعي من كان قوله مخالفا للحجة الفعلية فالمنكر عبارة: عمن لا يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية، وهكذا الامر بالنسبة إلى سائر المعاني المذكورة.

 

فإذا قلنا بأن المدعي: هو من لو ترك ترك، فالمنكر هو الذي لو ترك لم يترك. وكذلك ان قلنا بأنه عبارة: عمن يكون قوله خلاف الظاهر، فالمنكر من يكون قوله موافقا للظاهر وان قلنا ان المدعي هو من يكون مفاد قوله اثبات امر على خصمه، فالمنكر هو الذي مفاد قوله نفي ذلك الامر. وان قلنا ان المرجع في تعيين المراد من المدعي والمنكر هو العرف فالعرف يرى المنكر من ينفي ما يدعيه المدعي وان قلنا ان المدعي من يكون قوله مخالفا لاحد الامرين أي: الظاهر أو الاصل، فالمنكر من لا يخالف قوله أحدهما. وإذا ظهر لك معنى المدعي والمنكر والبينة واليمين فلا يبقى اجمال في المراد من هذه القاعدة وفي مضمون الحديث الشريف. نعم ينبغي التكلم عن أمور: الاول: فيما إذا شك في تشخيص المدعي عن المنكر لاجل عدم احراز كون قوله مخالفا للحجة الفعلية أو موافقا لها سواء أكان منشأ الشك هو الشك في حجية ما هو مخالف له يقينا أو كان الشك في مخالفته له مع حجيته يقينا - فهل يمكن التمسك لاثبات ما يدعيه بالبينة أم لا ؟ فيه اشكال لا من جهة الشك في عموم حجية البينة - وذلك لما أثبتنا عموم حجيتها في جميع الموضوعات - بل من جهة ان قوله صلى الله عليه وآله: البينة على المدعي واليمين على من انكر (1) خصص ميزانية البينة في مقام القضاء بالمدعي، فإذا شك في كونه

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم ذكره في ص 71. (*).

 

مدعيا يشك في تأثير البينة في حقه فلا يصح ولا يجوز الحكم له مستندا إلى قيام البينة على ما يدعيه، لعدم احراز ميزانيتها للحكم لمثل هذا الشخص نعم لو طلب منه الخصم أن يحلف فحلف وجب الحكم له مع طلبه من الحاكم للعلم اجمالا بوجود الميزان إما البينة لو كان هو المدعي واقعا، وإما الحلف لو كان هو المنكر بحسب الواقع، والواقع لا يخلو منهما وإلا يلزم ارتفاع النقيضين. نعم لو انفرد كل واحد منهما بأحد الامرين - أي البينة والحلف - فلا يجوز الحكم له لعدم احراز وجود الميزان في حقه، كما انه لو اجتمع الاثنان - أي الحلف والبينة - لاي واحد من المتخاصمين في المفروض جاز أو وجب الحكم له للعلم الاجمالي المذكور بوجود الميزان في حقه. ولكن انت خبير بأن الشك في كونه مدعيا إذا كان منشأه الشبهة الحكمية - اي الشك في حجية ما هو قوله مخالف له يقينا فبأصالة عدم حجية ذلك المشكوك الحجية يثبت عدم حجيته، فيثبت عدم كونه مدعيا فلا يكون وظيفته البينة قطعا. واما إذا كان منشأه الشبهة المصداقية - أي: كانت حجيته معلومة ولكن الشك في مخالفة قوله لذلك المعلوم الحجية فحيث ان أصالة عدم المخالفة لا تجري، لان عدم المخالفة عدم نعتي ليس له حالة سابقة بناء على ما حققناه في كتابنا (منتهى الاصول) (1) فلا يمكن احراز انه ليس بمدع وان قلنا بأن المدعي موضوع مركب من قول يكون مفاده اثبات أمر على طرفه ومن مخالفة ذلك القول للحجة الفعلية، فيكون الامر في هذه الصورة كما ذكرنا من عدم جواز الحكم بالبينة فقط أو الحلف وحده. وأما توهم ان عموم فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله (2) بضميمة عموم حجية البينة بالنسبة إلى كل

 

(هامش)

 

: 1 - منتهى الاصول ج 2، ص 497. 2 - الكافي ج 7، ص 412، باب كراهية الارتفاع الى قضاة الجور، ح 5، تهذيب الاحكام ج 6، ص 218، (*).

 

موضوع - يشمل المقام - لانه بعد قيام البينة يكون ما حكم طبق البينة حكمهم عليهم السلام بحسب الظاهر. ففيه: انه بعد الفراغ عن ان مطلق الحجة ليس ميزانا للقضاء، بل الميزان في باب القضاء هي البينة والايمان لقوله صلى الله عليه وآله (انما اقضي بينكم بالبينات والايمان) (1) وقطعه صلى الله عليه وآله الشركة بالتفصيل بقوله صلى الله عليه وآله (البينة على المدعي واليمين على من انكر) (2) فالحكم على طبق البينة يكون حكمهم (ع) ان كان قيامها على ما يدعيه المدعي. وكذلك الحكم على طبق الحلف ان كان صدر الحلف من المنكر فلا بد من احراز المدعي والمنكر، وإلا يكون من التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية لنفس العام الذي لم يقل به احد ولا ينبغي ان يقال به. الثاني: انه يعتبر في سماع الدعوى عن المدعي امور: وقبل بيان هذه الامور يجب ان نبين ان حقيقة الدعوى والمخاصمة لا يتحقق الا بأن تكون على نحو يوجب الزام الخصم على تقدير ثبوت ما يدعيه في الواقع أو بالحجة - بالخروج عن عهدة ما ثبت عليه، سواء أكان ذلك الامر الثابت عليه عينا أو دينا أو حقا. وبعبارة اخرى: تكون الدعوى ملزمة على الخصم امرا حتى يستحق المطالبة عنه، ولذلك قالوا: لو ادعى انه وهبني الشيء الفلاني - مع اعترافه بعدم قبضه، فمثل هذه الدعوى لا تسمع، لانها ليست بملزمة على الخصم شيئا، لان انكاره يعد رجوعا وان كان المدعي صادقا في دعواه.

 

(هامش)

 

: ... ح 514، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة، ح 6، وص 301، ح 845، باب من الزيادات في القضايا و الاحكام، ح 52، الاحتجاج ص 355، وسائل الشيعة ج 18، ص 98، أبواب صفات القاضي، باب 11، ح 1. 1 - تقدم ذكره في ص 72، رقم (4). 2 - تقدم ذكره في ص 71، رقم (1). (*).

 

وكذلك الامر في كل ما يشترط صحته بالقبض والاقباض، كبيع الصرف والسلم، ففي جميع هذه الموارد وما يشبهها لا تسمع الدعوى لانه على تقدير ثبوت ما يدعيه واقعا، أو في مقام الظاهر بحسب الدليل والحجة لا يكون من قبل دعواه الزام على الخصم ولا يستحق مطالبة شيء عنه، فيكون سماع مثل هذه الدعوى ومطالبة البينة عن المدعي لغوا وبلا فائدة. إذا عرفت هذا فاعلم ان جملة من هذه الامور التي سنذكر اعتبارها في سماع الدعوى مبني على هذا الاساس. فمنها: كونه واجدا لشرائط التكليف، مثل البلوغ والعقل، وقد ادعى بعضهم عليه الاجماع ونفى الخلاف بعض آخر، فلا تسمع دعوى المجنون ولا الصبي وان كان مراهقا مميزا وبلغ من العقل والعلم ما بلغ لوجوه: الاول: الادلة الدالة على عدم اعتبار كلامه وانه مسلوب العبارة، وللادلة الدالة على رفع القلم عنه وعدم جواز امره. وفيه: ان المراد من تلك الادلة عدم الاعتبار بكلامه وعدم جواز امره في المعاملات مستقلا، وعدم نفوذ تصرفاته في أمواله فيما إذا لم تكن باذن الولي، لما ورد من قبول قوله وترتيب الاثر في بعض المقامات والموارد كباب الوصية إذا بلغ عشرا، ولما اخترناه من شرعية عباداته. وأما أدلة رفع القلم قلنا في محله ان المراد قلم الالزام أي: الوجوب والحرمة، وهذا من جهة الارفاق به. وأما ادعاء الاجماع فممنوع صغرى وكبرى. أما الصغرى فلذهاب جماعة إلى سماع دعوى الصبي المميز المراهق في غير الماليات، كما إذا ادعى جناية عليه، أو أخذ شيء منه قهرا وبالقوة وله شهود على ذلك.

 

وأما الكبرى فلان المظنون - بل المقطوع - ان مدرك المتفقين على فرض وجود الاتفاق وتحققه هو ما ذكرنا من ادلة رفع القلم وعدم جواز أمره وغير ذلك مما تقدم، فليس من الاجماع المصطلح. الثاني: أصالة عدم ترتب آثار الدعوى - من وجوب السماع وقبول البينة والاقرار وسقوطها أي: الدعوى بحلف المنكر وغير ذلك - على دعواه. وفيه: ان عموم (البينة على المدعي واليمين على من انكر) واف بلزوم ترتيب تلك الآثار. الثالث: عدم سلطنة الصبي على المطالبة بذلك الشيء الذي يدعي ثبوته على الطرف، فلا يمكن أن يكون له السلطنة على الزام الطرف بأمر الذي من شؤونه السلطنة على مطالبته بذلك الامر، وإلا يلزم انفكاك اللازم عن الملزوم. بيانه: ان حقيقة الدعوى المسموعة: هي ان يكون المدعي له السلطنة على الزام خصمه بثبوت أمر، من عين أو مال أو حق عليه وان كان بتوسط اقامة البينة على ذلك الامر، ولازم هذه السلطنة هو ان يكون له السلطنة على مطالبة ذلك الامر، فإذا جاء الدليل على نفي الاخيرة عن الصبي لصغره وعدم بلوغه إلى مرتبة الكمال فلازم نفي اللازم نفي الملزوم بالدلالة الالتزامية. هذا ما أفاده استاذنا المحقق قده في هذا المقام. وفيه: انه لا ملازمة بين سلطنتة على الزام الخصم واثبات امر عليه وسلطنة نفسه على مطالبة ذلك الامر، بل تكون سلطنة المطالبة بذلك الامر لوليه، وذلك كما انه لو اشترى لو الولي شيئا يصير ملكا له، ومن شؤون الملكية سلطنة المالك على ملكه بأن له انحاء التصرفات المشروعة، ولكن بالنسبة إلى الصبي ليس له هذه التصرفات مباشرة، بل تكون هذه السلطنة لوليه. فالانصاف انه لو لم يكن اجماع الكل واتفاقهم في البين لكان مقتضى القواعد الاولية سماع قوله، خصوصا في غير الماليات، كادعائه جناية عليه إذا كان مراهقا

 

ذكيا فطنا عاقلا عالما. وأما حديث انصراف الادلة - مثل قوله صلى الله عليه وآله: البينة على المدعي واليمين على من انكر - عن الصبي وان كان مراهقا فدعوى بلا بينة ولا برهان. ومنها: ان يكون ما يدعيه على خصمه لنفسه أو لموكله أو لمن له الولاية عليه بأحد انحاء الولايات، وأما لو لم يكن لما يدعيه تعلق به أصلا وكان اجنبيا عنه فلا يصدق عليه المدعي في مقابل المنكر وفي مقام المخاصمة وان كان يطلق عليه المدعي بالمعنى الاعم، لانه بذلك المعنى الاعم يصدق على كل من ادعى أمرا حتى على المنكر لانه ايضا يدعي عدم ثبوت حق عليه من جانب المدعي، وذلك من جهة ان المدعي في مقام المخاصمة يطالب الطرف بأمر يدعي ثبوته عليه، فلا يصدق بهذا المعنى على من هو اجنبي عن ذلك الامر، وليس له ان يطالب الطرف به وان كان بعد ثبوته بالبينة. نعم لا بأس بأن يقال بسماع دعوى من له حق التصدي في الحسبيات إذا كان ذلك الحق الذي يدعيه راجعا إلى من له حق التصدي في أموره وشؤونه، وذلك كأموال الغيب والقصر أو حقوقهم. فإذا كان لاحد هؤلاء عين أو دين أو حق على شخص آخر فيكون لمن يجوز له التصدي في امورهم ان يدعي على ذلك الشخص ويثبت عليه ذلك الامر بالبينة ثم يطالبه بما ثبت عليه حسبة، وأما من هو اجنبي محض عما يدعيه فليس له ان يدعي، وإن ادعى تكون دعواه لغوا لا يترتب على قوله اثر من الآثار، من وجوب احضار المدعى عليه ووجوب الحلف أو الرد ان لم يكن للمدعي بينة وطلب الحلف من خصمه. نعم لو أقام بينة في المفروض يجب ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه البينة، ولكن من جهة عموم حجية البينة لا من جهة فصل الخصومة.

 

ومنها: أن يكون ما يدعيه مما يصح تملكه شرعا، فلا تسمع دعوى من يدعي على خصمه كذا مقدار من الخمر، أو عدد كذا من الخنزير ولو كانت الدعوى على كافر، ولكن هذا فيما إذا كان محط الدعوى هي ملكية أحدهما، وأما لو كان محط الدعوى هو حق الاختصاص للانتفاعات المحللة المباحة - مثلا الخمر الذي في يد كافر أو مسلم يدعي ان له حق الاختصاص به لان يخلله أو ينتفع به منفعة محللة اخرى - فلا وجه لعدم سماع مثل هذه الدعوى. ومنها: أن يكون ما يدعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة وجائزا شرعا، فلو ادعى انه سرق هذا مني قبل اربعين سنة الشيء الفلاني وعمره اقل من عشرين سنة مثلا، أو ادعى انه مديون لي بمبلغ فلان واستقرض مني والمبلغ كثير والمدعي فقير بحيث انه غير ممكن عادة اقراض هذا المبلغ الكثير، أو يدعي عليه مبلغا من باب الربا أو القمار مما لا يجوز شرعا ولا يمكن ان يكون مديونا شرعا من تلك الجهة - ففي جميع هذه الموارد وما يماثلها لا تسمع الدعوى، لان حقيقة الدعوى عبارة: عن ادعاء ثبوت أمر - من مال أو حق - على من هو خصمه، وفي هذه الموارد يكون مثل هذه الدعوى باطلا لعدم امكان ثبوته إما عقلا أو عادة أو شرعا. ومنها: ان يكون ما يدعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر، وأما لو كان مجهولا من هذه الجهاة فلا فائدة ولا ثمرة لمثل هذه الدعوى. فلو ادعى ان لي عليه مالا أو ثوبا أو فرسا فلا تسمع، وعللوا عدم سماع الدعوى بأنه لو اعترف المدعي عليه لا يثبت عليه شيئا لان المجهول لا يثبت - بما هو مجهول، لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار. وفيه: انه لو اعترف المدعي عليه بذلك المجهول أو أقام البينة عليه يلزم بالتفسير والتعيين نوعا ووصفا وقدرا، كما انه لو أقر ابتداء من دون سبق دعوى بالتفسير، فان قبل المقر له فهو والا يحلف المقر على نفي الزائد، فليكن الامر فيما نحن فيه أيضا

 

كذلك، فان أقر المدعي عليه به يكون الامر كما ذكرنا وإلا فيلزم المدعي بالتفسير، فان فسر يعمل معه ومع المدعي عليه بقانون القضاء، ويطبق عليه ضوابط وموازين باب المدعي والمنكر، وان لم يفسر فان انكر المدعى عليه يحلف ان لم يقم البينة على ذلك المجهول وطلب الحلف منه، وان أقر يلزم بالتفسير ويكون الامر كما تقدم في الاقرار الابتدائي. وعلى كل حال لا وجه لعدم سماع هذه الدعوى مع بنائهم على نفوذ الاقرار بالمجهول والوصية به. نعم لو ادعى ما يكون مجهولا مطلقا مرددا بين ما له قيمة وما ليس له قيمة - كما إذا قال: لي عليه شيء - يمكن ان يقال بعدم سماع هذه الدعوى. والفرق بين الصورتين هو انه في الصورة الاولى لو أقر المدعي بما ادعاه يثبت عليه شيء وهو القدر المتيقن مما ادعاه، وفي الصورة الثانية ليس قدر متيقن مالي في البين لانه من الممكن بل المحتمل ان لا يكون ذلك المردد مالا، فلا يثبت عليه شيء ولو أقر به أو اقيمت البينة عليه. هذا مع انه يلزم في باب الدعوى ان يكون ملزما على المدعى عليه شيئا لو أقر به أو اقيمت البينة على ما يدعيه. ومنها: ما قيل بأن من شرائط قبول دعوى المدعي ان تكون الدعوى صريحة في استحاق المدعي عينا أو مالا أو حقا على المدعى عليه، فلا تسمع دعواه إن قال: ان هذا التمر من نخلي، أو هذا العجل من بقرتي، أو هذا الغزل من صوفي وامثال ذلك لانه لا منافاة بين كون المذكورات كما قال وعدم كونها له، إذ من الممكن انتقالها إليه بناقل شرعي، فأمثال هذه الدعاوى لا تدل على استحقاق المدعي شيئا حتى ولو أقر المدعى عليه بما ادعاه المدعي أو اقام المدعي بينة على ما ادعاه. وأما حديث تبعية الفرع للاصل في الملكية - بمعنى: انه لو أقر بأن هذا العجل من

 

بقرة فلان، أو هذا التمر من نخلة فلان، فلازم هذا الاقرار اقراره بان العجل لصاحب البقرة والتمر لصاحب النخلة - فلا اساس له في مقابل اليد التي هي امارة الملكية. وأما الفرق بين ان يقر بأن هذا الغزل من قطنك - أو هدا الدقيق من حنطتك - وبين أن يقر بأن هذا العجل من بقرتك أو هذا الغلام من أمتك بانه في الصورة الاولى اقرار بأن هذا الغزل لصاحب القطن وان هذا الدقيق لصاحب الحنطة، بخلاف الصورة الثانية فانه ليس إقرارا بان العجل لصاحب البقرة والغلام لصاحب الامة. وذلك لان الدقيق والغزل عين الحنطة والقطن، بخلاف العجل فانه ليس عين البقرة وكذلك الغلام ليس عين الامة. فلا يخلو من تأمل واشكال وذلك لانه وان كان الدقيق عين الحنطة والغزل عين القطن خارجا بخلاف العجل والغلام الا ان هذا المقدار من الفرق لا يؤثر في المقام، إذ المقر مأخوذ بظاهر كلامه، وصرف الاحتمال على خلاف ما هو ظاهر الكلام لا يضر بحجية ظهوره في كونه كاشفا عن مراده، فلا بد وان ينظر إلى ظاهر هذه الدعاوى، وهل لها ظهور في استحقاق المدعى شيئا على المدعى عليه أم لا ؟ فنقول: أما الصورة الثانية أي: ما كان لهما وجودان وملكية احدهما لا يلازم ملكية الآخر، بل يمكن ان يكون الاصل له دون الفرع وكذلك العكس، فقوله هذا الغلام متولد من جاريتي، أو هذا العجل من بقرتي ظاهر في ان الاصل له في حال انشاء الدعوى، ولا ظهور لهذا الكلام ان الفرع ايضا له، لا أن ينضم إلى قوله ولم ينتقل الفرع إلى غيري بناقل شرعي مطلقا وهو لي. ومنها: ما قيل ان من شرائط سماع دعوى المدعي ان يكون له خصم في مقابله ينازعه ويخاصمه وينكر ما يدعيه، وإلا لو لم يكن له خصم في البين ويريد اصدار الحكم فعلا ليقطع النزاع المحتمل فيما سيأتي - لانه لو وقع النزاع فيما بعد ربما لا يتمكن من اثبات دعواه في ذلك الزمان لفقد البينة الموجودة عنده الآن في ذلك الوقت أو

 

لجهة اخرى - فلا تسمع. وأما تمسك القائل بهذا الشرط ولزوم وجود الخصم حين سماع الدعوى بان ادلة القضاء والحكم وكذلك تعيين الوظيفة لكل واحد من المدعي والمنكر كل ذلك في مورد المخاصمة ووقوع النزاع ولقطع النزاع والمخاصمة بين الطرفين فان لم يكن نزاع ومخاصمة لا يبقى مورد لسماع دعوى المدعي والحكم له على طبق بينته، لان هذه الامور شرعت لدفع المخاصمة وقطع النزغ. وفيه: انه بعد الفراغ عن عموم حجية البينة وجعل المجتهد العادل المتصف بكذا وكذا حاكما، وعدم تقييد حكومته بمورد المخاصمة وقطع النزاع وان كان ذلك حكمة جعله، فالبينة امارة شرعية بالنسبة إلى ما يدعيه المدعي وكذلك الحكم، فيثبت ما حكم به الحاكم حتى في الازمنة المتأخرة. نعم لا يجب على الحاكم سماع مثل تلك الدعوى والحكم بتلك البينة لان وجوبها في موارد المخاصمة كما قال. ومنها: انه يشترط في وجوب سماع دعوى المدعي كون دعواه عن بت وجزم، فلو كان ادعائه بصرف الاحتمال وهما أو شكا بل ولو ظنا لا يقبل، وحكى في الجواهر عن الكفاية نسبة القول - باشتراط وجوب سماع الدعوى بهذا الشرط - إلى الشهرة (1)، وقيل في وجهه وجوه: الاول: عدم صدق المدعي عرفا على من لم تكن دعواه عن بت وجزم، وذلك لما ذكرنا في تعريف المدعي بأنه من يدعي ثبوت أمر على خصمه، ومعلوم ان ادعاء الثبوت غير احتمال الثبوت وان كان الاحتمال ظنيا. الثاني: انه لو ادعى وهما أو شكا أو ظنا وقلنا بوجوب السماع فيجب الحكم

 

(هامش)

 

: 1 - جواهر الكلام ج 40، ص 153، كفاية الاحكام ص 266 (*).

 

بنكول المنكر عليه أو مع يمين المدعي، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك. أما بناء على وجوب الحكم على المنكر بصرف نكوله وعدم حلفه، فمن جهة ان المدعي يشك في استحقاقه على الفرض، فلا يجوز له الاخذ بعد الحكم فيكون الحكم لغوا فيكون السماع لا فائدة فيه بل لا معنى له. وأما بناء على ان الحكم بثبوت الحق على المنكر بعد عدم البينة ونكوله عن الحلف متوقف على يمين المدعي، ففيه مضافا إلى عدم جواز الاخذ عدم جواز حلفه، لانه لا حلف إلا عن بت، ففي كلا الشقين يكون الحكم لغوا. الثالث: انه في الدعاوى الصحيحة المنكر له الخيار بين ان يحلف أو يرد إلى المدعي، وفي المقام لا يمكن الرد لعدم علم المدعي بثبوت الحق فلا يجوز له ان يحلف فلا وجه للرد. والعمدة فيما ذهب إليه المشهور - من اشتراط سماع الدعوى إلى كونها عن بت وجزم - هو الوجه الاول أي: عدم كونه مدعيا عرفا إلا مع الجزم في دعواه، وإلا فبصرف أن يقول: احتمل ان يكون فلان مديون لي بكذا - أو احتمل ان يكون عين مالي الفلاني عنده - لا يصدق عند العرف انه مدع وطرفه منكرا ويكون مدعى عليه. وأما الوجه الثاني والثالث فضعفهما واضح، إذ عدم امكان ترتب بعض آثار الدعاوى الصحيحة على الدعوى غير الجزمي لا يوجب عدم سماعها وعدم ترتيب الآثار الممكنة. وأما التفاصيل المنقولة في هذه المسألة عن جماعة من الاساطين (قدهم) من وجوب السماع في مورد التهمة دون غيره، أو في صورة الظن دون الوهم والشك، أو السماع فيما يعسر الاطلاع عليه دون غيره، أو السماع في صورة احتمال صدور الاقرار من الطرف، أو وجوب البينة للمدعي دون غيرها، فكلها مما لا وجه لها، وما ذكروها في وجه هذه التفاصيل لا يمكن الركون إليها.

 

نعم ذكر صاحب الجواهر قده (1) في وجه التفصيل بين مورد التهمة وبين غيره أي فيما إذا اتهم المدعي المنكر - اخبارا مؤيدا لما ذهب إليه من الاحالة إلى العرف في وجوب السماع، بمعنى: ان العرف هل يرون مثل هذه الدعوى من الدعاوى المقبولة عندهم أم لا يعتنون بها ؟ وهذه الاخبار هي خبر حبيب بن بكر قلت لابي عبد الله (ع) اعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه قال (ع) ان إتهمته فاستحلفه، وان لم تتهمه فليس عليه شيء (2) وايضا خبره الآخر عنه (ع) لا يضمن القصار إلا ما جنت يده وان اتهمته احلفته (3) وخبر ابى بصير عنه (ع) ايضا لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك الا ان يكونوا متهمين، فيخوف بالبينة ويستحلف، لعله يستخرج منه شيئا (4). ولكن انت خبير بأن هذه الاخبار مفادها استحلاف المدعى لا المنكر الذى هو محل كلامنا وان شئت قلت: يد القصار والحائك والصائغ يد امانة، والتلف عندهم لا يوجب الضمان ألا إذا اتهمهم بالاتلاف أو بالتعدي والتفريط في حفظه فله ان يستحلفهم، وهذا المعنى اجنبي عن محل كلامنا الذي هو عبارة: عن احلاف المنكر مع

 

(هامش)

 

: 1 - جواهر الكلام ج 40، ص 154. 2 - تهذيب الاحكام ج 7، ص 221، ح 966، باب الاجارات، ح 48، وسائل الشيعة ج 13، ص 275، أبواب كتاب الاجارة، باب 29، ح 16. 3 - تهذيب الاحكام ج 7، ص 221، ح 967، باب الاجارات، ح 49، الاستبصار ج 3، ص 133، ح 481، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه...، ح 12، وسائل الشيعة ج 13، ص 275، أبواب كتاب الاجارة، باب 29، ح 17. 4 - تهذيب الاحكام ج 7، ص 218، ح 951، أبواب كتاب الاجارات، ح 33، الفقيه ج 3، ص 257، ح 3928، باب ضمان من حمل شيئا...، وسائل الشيعة ج 13، ص 274، أبواب كتاب الاجارات، باب 29، ح 11. (*).

 

كون الدعوى غير جزمية وعدم البينة لذلك المدعي. وأما ما اختاره صاحب الجواهر (قده) خلافا للمشهور في هذه المسألة من احالته إلى العرف، وانهم إذا رأوها من الدعاوى المقبولة تقبل ويجب سماعها. ففيه انه بعد ما حكم الشارع بأن البينة وظيفة المدعي والحلف وظيفة المنكر ففى تشخيص المدعي والمنكر المرجع هو العرف. وبعد ما عرفنا ان المدعي عند العرف عبارة: عمن يخبر جزما بثبوت أمر له على خصمه وطرفه، فان لم يكن اخباره عن بت وجرم، بل قال: أحتمل أن يكون لى على فلان كذا، فلا يكون مشمولا لقوله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعي واليمين على من انكر). ففى مثل هذه الصورة قول العرف - بأنها من الدعاوى المقبولة - لا اثر له ولا يوجب وجود موضوع وظيفة البينة واليمين. وأما ما أفاده استاذنا المحقق (قده) في كتاب قضائه من سماع الدعوى الاحتمالى إذا قام امارة على تهمة المدعى عليه، إذ العرف يسمعون مثلها وبناؤهم متبع ما لم يردعهم الشارع ولم يثبت ذلك، بل ثبت خلافه لخبري حبيب بن بكر وخبر ابى بصير الذين تقدما. ففيه: ان بناء العرف على سماع الدعوى غير الجزمى في مورد اتهام المدعي عليه ليس متبعا شرعا ان لم ينطبق عليها موازين القضاء، وقد عرفت عدم انطباقها عليها. وأما امضاء الشارع لبنائهم بتلك الاخبار فقد عرفت انها اجنبية عن مقامنا، إذ انها تدل على استحلاف مدعي التلف مع اتهامه، ولا ربط لها باتهام المدعى عليه الذى هو محل الكلام. ومنها: تعيين المدعى عليه، فلو قال: أحد هذين أو احد هؤلاء الاشخاص مديون لى بكذا لا تسمع، لانه لا اثر لهذه الدعوى لو قامت البينة، أو أقرا بما ادعى عليهما بنحو الترديد، إذ ثبوت الحق عليهما بنحو الترديد لا يمنع عن البراءة في حق كل

 

واحد منهما، لشك كل واحد منهما في اشتغال ذمته. ولا يقاس بما إذا علم أو أقام الدليل المعتبر على كونه مديونا لاحد شخصين أو لاحد الاشخاص، لانه هناك يعلم باشتغال ذمته، فيجب عليه بحكم العقل تفريغ ذمته بالجمع بين المحتملات، ولكن حيث انه ضرر فاما ان يقرع أو يقسم بينهما ثنائيا ان كانا اثنين وثلاثيا ان كانوا ثلاثة وهكذا بقاعدة العدل والانصاف التى هي قاعدة معتبرة عند العقلاء، وأما فيما نحن فيه فليس إلا الشك في اشتغال الذمة بالنسبة إلى كل واحد منهما، ومعلوم انه مجرى البراءة. وأما ما يقال من اجرائهما يكون ضررا على ذلك الشخص الذى يكون له الحق على احدهما المردد، فلا بد من أن يقرع بينهما أو يقسم كما قلنا فيما إذا يعلم باشتغال ذمته لاحدهما. ففيه انه كل واحد منهما يجرى البراءة مستقلا وليست براءته وتكليفه مربوطا بتكليف الآخر وبراءته، ولا يلزم من اجراء براءة كل واحد منهما العلم بضرر ذلك الشخص. نعم يحتمل ذلك ولكن هذا المعنى - أي: احتمال ضرر الغير من اجراء البراءة في الماليات والحقوق - موجود في جميع موارد الشبهة البدوية، ولم يحتمل أحد عدم جريان البراءة في الحقوق والماليات في الشبهات البدوية لاجل هذا الاحتمال. والانصاف ان هذه الدعوى مرجعها إلى دعويين احتماليتين كل واحدة منهما متجهة إلى احدهما، وقد عرفت الحال في الدعوى غير الجزمى أي: الاحتمالية. ومنها: انه لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدعى عليه، بل تسمع وان كان غائبا، بأن يكون في خارج البلد أو كان مسافرا على المشهور وادعى بعضهم عليه الاجماع، وتدل عليه اخبار.

 

منها مرسل جميل الغائب يقضى عليه إذا اقامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب عليه حجته إذا قدم قال ولا يدفع المال إلى الذى اقام البينة إلا بكفلاء (1) ومثله خبر محمد بن مسلم وزاد إذا لم يكن مليا (2). ومنها: قوله صلى الله عليه وآله لهند زوجة أبى سفيان بعد ما ادعت ان أبا سفيان رجل شحيح وانه لا يعطيها ما يكفيها وولدها: خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف (3) ومنها: خبر أبى موسى الاشعري كان النبي صلى الله عليه وآله إذا حضر عند خصمان فتواعد الموعد فوفى احدهما ولم يف الآخر، قضى للذى وفى على الذى لم يف أي: مع البينة (4). ومقتضى الاصل الاولى وان كان عدم نفوذ الحكم فيما شك في نفوذه سواء أكان منشأ الشك من ناحية المدعى لفقد ما يحتمل اعتباره فيه وجودا أو عدما، أو من ناحية المنكر لما ذكر أو من ناحية ما يدعيه المدعي. ولكن مقتضى اطلاق قوله (ع) رجل قضى بالحق وهو يعلم، (5) وقوله صلى الله عليه وآله: البينة على المدعي واليمين على من انكر (6) هو نفوذ الحكم إذا صدق عليهما عرفا المدعي والمنكر وكان الحكم حقا ومما انزل الله، فالعمدة في نفوذ الحكم هو صدق

 

(هامش)

 

: 1 - تهذيب الاحكام ج 6، ص 296، ح 827، باب من الزيادات في القضايا والاحكام، ح 34، وسائل الشيعة ج 18، ص 216، أبواب كيفية الحكم، باب 26، ح 1. 2 - تهذيب الاحكام ج 6، ص 191، ح 413، باب الديون وأحكامها، ح 38، وسائل الشيعة ج 18، ص 216، أبواب كيفية الحكم، باب 26، ح 1. 3 - صحيح مسلم ج 3، ص 549، كتاب الاقضية، باب 4، ح 7، سنن ابن ماجه ج 2، ص 769، ح 2293، عوالي اللئالي ج 1، ص 403، ح 59. 4 - الفقيه ج 3، ص 4، ح 3221، باب أصناف القضاة. 5 - الكافي ج 7، ص 407، باب أصناف القضاة، ح 1، تهذيب الاحكام ج 6، ص 218، ح 53، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة، ح 5، وسائل الشيعة ج 18، ص 11، أبواب صفات القاضي، باب 4، ح 6. 6 - تقدم تخريجه في ص 71. (*).

 

المدعي والمنكر على المتخاصمين عرفا، وان يكون الحاكم أي: المجتهد الجامع للشرائط حكم بحكمهم عليهم السلام، إلا ان يدل دليل خاص على اعتبار أمر آخر من حضور المدعى عليه في مجلس الحكم وعدم غيابه، أو السؤال عنه بعد اقامة المدعي للبينة وأمثال ذلك. وفيما نحن فيه - أي: جواز الحكم على الغائب - لا دليل على اعتبار الحضور، بل ظاهر الاخبار المتقدمة صحة الحكم ونفوذه على الغائب، ولا ينافى النفوذ قوله (ع) في ذيل مرسل جميل وخبر محمد بن مسلم ويكون الغائب على حجته إذا قدم (1) لان المراد من النفوذ هو لزوم العمل على طبقه ما لم ينهدم بحجة اخرى، كما لو أقام بينة على اداء دينه أو على انتقاله إليه بناقل شرعى مثلا. نعم يبقى الكلام في ان مفاد هذه الاخبار هل هو جواز الحكم على الغائب مطلقا بصرف غيابه عن مجلس الحكم ولو كان في البلد وكان متمكنا عن الحضور امتنع أو لم يمتنع أو في خصوص ما إذا امتنع عن الحضور ؟ أو في خصوص الغائب الذى لم يتمكن من الحضور ؟ أو في خصوص الغائب عن البلد سواء أكان مسافرا بالسفر الشرعي أو لم يكن كذلك ؟ أو في خصوص ما إذا كان مسافرا شرعا سواء أكان متمكنا من الحضور أو لم يكن ؟ أو في خصوص ما إذا لم يتمكن ؟ بمعنى انه يكون مسافرا ولا يكون متمكنا من الحضور، وفى جميع هذه الشقوق هل جواز الحكم فيما قلنا بجوازه مقيد باعلامه وامتناعه عن الحضور أو مطلقا ؟ احتمالات بل أقوال: القدر المتيقن من جواز الحكم عليه ونفوذه هو عدم حضوره بعد اعلامه وتمكنه من الحضور مع كونه في البلد أو كان مسافرا واعلم لكن كان غير متمكن من الحضور، وظاهر خبر محمد بن مسلم ومرسل جميل هو ان يكون الغائب الذى يقضى عليه مسافرا لقوله (ع) ويكون الغائب على حجته إذا قدم لكنهما مطلقان من

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم تخريجه في ص 95 رقم (1 و 2) (*).

 

جهات اخر أي: من حيث التمكن من الحضور وعدمه، ومن حيث الاعلام وعدمه، ومن حيث كونه مسافرا شرعيا أو ولم يكن بالغا مسافرته إلى حد المسافة الشرعية. وأما في قضية هند زوجة أبى سفيان فقوله صلى الله عليه وآله: خذى ما يكفيك وولدك فالظاهر انه صلى الله عليه وآله كان في مقام بيان الحكم الشرعي وانه يجوز لها الاخذ بقدر كفايتها وكفاية ولدها لا في مقام الحكم بين المتخاصمين. وأما خبر ابى موسى الاشعري فظاهرها الحكم على الممتنع المتخلف عن موعده لا ان يكون غائبا عن البلد. وخلاصة الكلام ان مفاد هذه الاخبار جواز الحكم أما على المسافر الخارج عن البلد أو على الممتنع عن الحضور المتخلف عن موعده. وأما الاستدلال على جواز الحكم على الغائب بأنه عدم الجواز مع قيام البينة ربما يوجب الضرر الكثير على المدعي فهذا وأمثاله من الاستحسانيات لا يمكن ان يكون مدركا ولا ملاكا للحكم الشرعي، لان دين الله لا يصاب بالعقول، فالعمدة هي الروايات وقد عرفت حالها ومفادها وانه يجوز الحكم على الغائب في موردين الممتنع المتمكن ولو كان في البلد والمسافر مطلقا نعم يظهر من مرسل جميل وخبر محمد بن مسلم ان المال الذى يؤخذ من الغائب لا يعطى للمدعي إلا بكفلاء إذا لم يكن مليا، وذلك من جهة انه من الممكن انه بعد قدومه يثبت بالبينة أو بامارة اخرى عدم اشتغال ذمته بشئ، فإذا لم يكن مليا فربما يضيع ماله. ثم انه قد يستدل لعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا برواية أبى البخترى: لا يقضي على غائب (1).

 

(هامش)

 

: 1 - قرب الاسناد ص 66 وسائل الشيعة ج 18، ص 217، أبواب كيفية الحكم 7 باب 26، ح 4. (*).

 

وفيه ان هذه الرواية باطلاقها معرض عنها عند الجميع، مع انه من المحتمل جدا ان يكون المراد من عدم القضاء للغائب ونفيها هو ان يكون القضاء بنحو البت، بحيث لا يكون الغائب على حجته. مضافا إلى ما في سنده من الضعف، لان راويه أبو البخترى وهب ابن وهب كان كذابا، بل قيل في حقه انه من اكذب البرية. والمراد من ان الغائب على حجته هو ان له إذا قدم أو حضر الاعتراض على الحاكم بعدم كونه اهلا للحكم، أو جرح شهود الحكم، أو اقامة بينة معارضة لبينة المدعي وأمثال ذلك مما يوجب عدم تأثير الحكم الصادر حال غيابه. ثم انه هل جواز الحكم على الغائب مخصوص بحقوق الناس أو يجوز الحكم عليه في حقوق الله ايضا ؟ كاقامة البينة على انه شرب الخمر أو زنى أو لاط مثلا ؟ ذهب المشهور إلى الاختصاص لقاعدة درء الحدود بالشبهات فمن الممكن ان يكون للغائب ما يدرء عنه الحد. نعم لو كانت الدعوى ذات جهتين - كالسرقة - فهل يجوز مطلقا أو لا كذلك أو التفصيل والتفكيك بين الجهتين ؟ فالجواز بالنسبة إلى جهة حق الناس والعدم بالنسبة إلى حق الله احتمالات: والحق هو الاخير أي التفكيك بين حق الناس وحق الله في عالم الاثبات، ففى مثل السرقة لو شهدت البينة على انه سرق المال الفلاني مع كونه غائبا فجواز الحكم عليه بالنسبة إلى غرمه للمال، وأما بالنسبة إلى القطع فلا أما الجواز بالنسبة إلى الغرم فللادلة الدالة على جواز الحكم على الغائب وأما العدم بالنسبة إلى القطع فلما قلنا من أن الحدود تدرء بالشبهات، وان حق الله مبني على التخفيف لغنائه تعالى عن استيفائه.

 

ولكن تردد في هذا التفكيك في الشرائع (1) لاجل كون الحقين معلولين لعلة واحدة وهى قيام البينة على السرقة، فلا يمكن التفكيك بينهما. وفيه: ان كونهما معلولين لعلة واحدة ممنوع، فانه من الممكن كون الغرم معلولا لقيام البينة على السرقة مطلقا سواء أكان المشهود عليه حاضرا أو كان غائبا، وأما القطع فمعلول له بشرط حضور المشهود عليه فلا يلزم التفكيك بين معلولي علة واحدة كما توهم. هذا مع انه يمكن ان يقال: ان الملازمة بينهما في مقام الثبوت وان كانت ثابتة ولا ينكر ولكن في مقام الاثبات لا مانع من التفكيك بينهما، لانه ربما يكون دليل الاثبات وافيا لاثبات احدى الجهتين دون الجهة الاخرى، وله نظائر كثيرة في الفقه، كما انه في نفس هذا المورد أي: السرقة لو اقر مرة يثبت الغرم دون القطع، لان اثبات السرقة من حيث موضوعيتها للقطع لا يكون إلا بالبينة أو الاقرار مرتين، ولكن اثباتها من حيث الغرم يكفي فيه الاقرار مرة واحدة. الجهة الثالثة في موارد تخصيص هذه القاعدة وحيث انها مركبة من كليتين: احديهما جملة كل من هو مدع في مقام المخاصمة فعليه البينة لاثبات دعواه ثانيهما: كل منكر وظيفته اليمين فقد ذكروا لكل واحدة من الجملتين مخصصات. فللجملة الاولى ذكروا مخصصات:

 

(هامش)

 

1 - شرائع الاسلام ج 4، ص 73. (*).

 

 

 

منها: ان الامين مطلقا - سواء أكانت أمانته شرعية أو مالكية - إذا ادعى التلف لما في يده ليس عليه البينة، بل يقبل قوله وليس عليه إلا اليمين إذا ادعى عليه الاتلاف، ويكون مخصصا لقاعدة البينة على المدعي واليمين على من انكر بالنسبة إلى جملتها الاولى. وفيه: انه قد تقدم في الجزء الثاني من هذا الكتاب في شرح قاعدة عدم ضمان الامين (1) نفى ضمان اليد عن الامين مطلقا سواء أكانت الامانة شرعية أو مالكية، لان يده يد المأذون من قبل المالك أو من قبل الشارع فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلا مع التعدي والتفريط، أو يكون اتلافا من قبل ذى اليد من دون اذن المالك في الاتلاف، فالموجب لضمان الامين أحد الامرين: أما اتلافه لما في يده أو التعدي والتفريط منه، والاصل عدمهما، فلا بد للمالك المدعي لضمانه من اثبات أحد الامرين، فيكون المالك مدعيا للضمان والامين منكر. وان شئت قلت ان المالك يدعى أحد الامرين: إما التعدي والتفريط وإما الاتلاف فعليه البينة على ذلك، وان لم يكن له بينة فله ان يحلف الامين المنكر على عدم صدور كلا الامرين منه على قول، وعلى القول الآخر لا شيء على الامين إلا ان يقيم المالك البينة على صدور احد الامرين منه، فلا تخصيص في هذا المورد لكلتا الجملتين، بل الحكم في الامين على طبق كلتاهما. ومنها: دعوى الودعى رد الوديعة إلى مالكها مع انكار المالك، فالمشهور قائلون بقبول قوله من غير ان تكون عليه البينة، مع انهم لا يقولون بذلك في سائر الامانات المالكية، وإذا ادعى المستعير رد ما استعاره لا يقبل قوله بدون البينة، وكذلك المستأجر لو ادعى رد ما أستأجره، أو المرتهن ادعى رد العين المرهونة، أو الوكيل لو ادعى رد ما وكل في بيعه مثلا، لا تقبل دعوى جميعهم إلا بالبينة، فيكون قبول قول الودعى بدون

 

(هامش)

 

: 1 - القواعد الفقهية ج 2، ص 7 (*).

 

البينة مخصصا لهذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الاولى. والدليل على قبول قول الودعي - في رده الوديعة إلى مالكه بدون البينة - الاجماع كما ادعاه صاحب الجواهر (قده) (1) والاخبار (2). منها: ان المالك لو ادعى الابدال في اثناء الحول بالنسبة لما عنده من المال الزكوى فيما يعتبر فيه مضي الحول في تعلق الزكاة بها للفرار عن تعلق الزكاة بها أو لغرض آخر، فيقبل قوله من دون ان تكون عليه البينة فلو ادعى صاحب الدراهم والدنانير أو صاحب الانعام - وهى الاجناس التى اعتبر في تعلق الزكاة بها مضي الحول عليها في ملكه واجدة لجميع شرائط وجوب الزكاة وتعلقها بها - انه ابدلها بغيرها في اثناء الحول - فهذا الموجود لم يمض عليه الحول فلم يتعلق به زكاة - يقبل قوله اجماعا ولا يطالب بالبينة بل ولا يمين عليه لقاعدة (من ملك شيئا ملك الاقرار به). وقد تكلمنا في مدرك هذه القاعدة والمراد منها في الجزء الاول من هذا الكتاب (3)، وللروايات الخاصة الواردة في هذا المقام. منها: صحيحة بريد بن معاوية (سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: بعث أمير المؤمنين (ع) مصدقا وفيها انه (ع) قال: ثم قل لهم يا عباد الله أرسلني اليكم ولي الله لآخذ منكم حق الله تعالى في اموالكم فهل لله تعالى في اموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه ؟ فان قال لك قائل لا فلا تراجعه) (4) وفى خبر غياث بن ابراهيم:

 

(هامش)

 

: 1 - جواهر الكلام ج 27، ص 148. 2 - وسائل الشيعة ج 6، ص 111، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 12. 3 - القواعد الفقهية ج 1، ص 7. 4 - الكافي ج 3، ص 536، باب آداب المصدق، ح 1، تهذيب الاحكام ج 4، ص 96، ح 274، باب الزيادات في الزكاة، ح 8، وسائل الشيعة ج 6، ص 88، أبواب زكاة الانعام، باب 14، ح 1. (*).

 

فان ولى عنك فلا تراجعه (1). ويظهر من هذه الروايات قبول قول المالك في نفى تعلق الزكاة بماله الموجود عنده، سواء أكان من جهة عدم مضى الحول عليه - وان كان عدم المضي من جهة تبديله في اثناء الحول - أو من جهة اخرى، أو كان عدم وجوب الزكاة في ذلك المال من جهة دفعه زكاته إلى المستحق، ففى جميع ذلك يقبل قوله بلا بينة عليه ولا يمين ايضا عليه، كل ذلك إرفاقا بالمالك. فإذا كان مدعي التبديل ومدعي الدفع إلى المستحق يقبل قوله من دون ان تكون بينة عليه، فيكون هذا تخصيصا للجملة الاولى من القاعدة، وكذلك يقبل قول المالك في دعوى نقصان ما خرصه المصدق عليه. هذا ولكن يمكن أن يقال: ان المذكورات ليس من باب تخصيص تلك القاعدة، بل قول المالك مطابق للحجة الفعلية، وقد تقدم في تشخيص المدعي والمنكر ان المدعي من يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية، والمنكر من يكون قوله موافقا لها. وأما ان قول المالك هاهنا موافق لها فمن جهة أصالة عدم تعلق الزكاة بهذا المال الموجود عنده، وكذلك عدم مضى الحول عليه نعم لو كان اثر شرعى مترتبا على عنوان التبديل فينفي بأصالة عدم وقوع التبديل ولكنه اجنبي عن محل البحث. وأما بالنسبة إلى الدفع إلى المستحق فربما يقال بأنه بعد اعترافه بتعلق الزكاة ووجوبها عليه، مقتضى الاصل عدم الدفع وبقاء الاشتغال، وايضا حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني بعد ثبوت الاشتغال اليقيني يقتضى لزوم ادائه والاخذ عنه. وفيه: ان هذا صحيح لو كان مصب الدعوى هو اداء ما كان واجبا عليه ودفع الحق إلى مستحقه، وأما لو كان مصب الدعوى هو انه هل في هذا المال الموجود زكاة

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 3، ص 538، باب آداب المصدق، ح 4، وسائل الشيعة ج 6، ص 90، أبواب زكاة الانعام، باب 14، ح 5، وص 217، أبواب المستحقين للزكاة 7 باب 55، ح 1. (*).

 

أم لا ؟ فلا أصل يثبت وجود الزكاة فيه، لان هذا المال االموجود لم يكن في زمان من الازمنة كون الزكاة فيه معلوم الوجود حتى يستصحب في ظرف الشك، لانه من الممكن ان يكون هذا ما عدا مقدار الزكاة. وهذا إذا كانت من قبيل الكلي في المعين واضح، وهكذا لو كانت من قبيل حق الرهانة، أو من قبيل منذور الصدقة نعم لو كانت الزكاة من قبيل الاشاعة في المال الزكوي فللاستصحاب مجال ولكنه خلاف التحقيق كما بين في محله. هذا ولكن الانصاف انه لو كانت الدعوى في الدفع وعدمه، فلا فرق بين ان يكون مصب الدعوى هو الدفع أو يكون في ان هذا المال الموجود فيه الزكاة ام لا ؟ وذلك من جهة انه بعد القطع بتعلق الزكاة بهذا المال الشخصي، فاحتمال اداء الزكاة أو احتمال اخراج مقدار الزكاة عنه لا يخرج القضية المشكوكة عن الوحدة العرفية مع المتيقنة. ولكن الروايات والاجماع المدعي في المقام حاكمان على هذا الاستصحاب على تقدير شمول اطلاقهما لمورد دعوى الدفع. ثم انهم ذكروا موارد اخر لعدم كون البينة على المدعي وتخصيص هذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الاولى، كدعوى الذمي اسلامه قبل حلول وقت الجزية للتخلص عنها، وكدعوى الحربي الذى نبت الشعر على عانته ان انباته بعلاج حتى لا يكون امارة البلوغ فيقتل، وكدعوى البلوغ لصحة معاملاته أو لغرض اخر، وكدعوى الاعسار في بعض صور المسألة، فقالوا بقبول قولهم ودعواهم بدون البينة، غاية الامر في بعضها مع اليمين، وفى بعضها الاخر بغير اليمين ايضا. وقالوا ايضا في موارد اخر بقبول قول المدعي من دون ان يكون عليه البينة تركنا ذكرها خوفا من الاطالة. وعلى كل التحقيق في هذه الموارد، وانه هل هي من موارد سماع قول المدعى من

 

دون ان يكون عليه البينة أو ليست كذلك ؟ يحتاج إلى بحث طويل. وقد وقع الكلام والبحث والنقض والابرام عن كل منها في محله وبابه والغرض هاهنا الاشارة إلى تلك الموارد لا تحقيق الحال فيها، فانه خارج عن طور هذا الكتاب. هذا كله كان في تخصيص الجملة الاولى من هذه القاعدة، واما التخصيصات الواردة على الجملة الثانية: فمنها: يمين الاستظهار وهو عبارة: عن يمين المدعي في الدعوى على الميت، وادعى الشهيد الثاني (قده) عليه الاجماع (1)، بانه من كان له دعوى على الميت إما ان يكون له بينة على ما يدعيه أم لا، فان لم تكن له بينة فدعواه ساقطة، وإن كانت له البينة على ذلك فعليه اليمين استظهارا. اما كون هذا اليمين تخصيصا للقاعدة فوجهه واضح، أما أولا فلانهم ذكروا ان المبتدأ المعرف باللام محصور في الخبر، كقولهم: الكرم والفصاحة في العرب، والصنعة في الصين، فبناء على هذا يكون مفاد هذه القاعدة - التى هي عين مضمون الحديث الشريف - ان البينة محصورة في المدعي وليست لغيره، وهذا مضمون الجملة الاولى من هذه القاعدة - وقد ذكرنا موارد تخصيصها أو الموارد التى توهم انها كذلك - وان اليمين محصور في المنكر، فكون اليمين على المدعي وان كان من باب الاستظهار تخصيص لهذه الكلية أي: الجملة الثانية. وأما ثانيا: فمن جهة ان التفصيل قاطع للشركة، فبحكم هذه القاعدة تكون البينة مختصة بالمدعي، واليمين مختص بالمنكر ولا شركه بينهما في شيء منهما، فيكون الحكم على المدعى على الميت باليمين استظهارا مخصصا للجملة الثانية.

 

(هامش)

 

: 1 - الروضة البهية ج 3، ص 104. (*).

 

وأما الاعتذار عن ذلك وتوجيهه - بان كون هذا اليمين على المدعى على الميت باعتبار كونه منكرا لدعوى المتوهمة من قبل الميت، بمعنى: ان الميت لو كان حيا فلربما يدعي عليه الوفاء لدينه وحقه، فيكون المدعي على الميت بالنسبة إلى هذه الدعوى المحتملة الفرضية منكرا، فمن هذه الجهة يكون عليه اليمين - لا يخلو من غرابة. وأما مدرك هذا الحكم - أي: يمين المدعي على الميت مضافا إلى الاجماع الاخبار المروية عن أهل بيت العصمة (ع). منها: موثقة عبد الرحمن التى رواها المشائخ الثلاث قال: قلت للشيخ (1) (ع)... وفيها: فان كان المطلوب بالحق قد مات، فاقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين بالله الذى لا اله الا هو لقد مات فلان وان حقه لعليه، فان حلف والا فلا حق له، لانا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها، أو غير بينة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه اليمين مع البينة فان إدعى بلا بينة فلا حق له، لان المدعى عليه ليس بحي، ولو كان اليمين عليه، فمن ثم لم يثبت الحق (2). ومنها: صحيح الصفار، كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبى محمد الحسن بن علي: هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد اخر عدل ؟ فوقع: إذا شهد معه اخر عدل فعلى المدعي يمين . وكتب: أيجوز للوصي ان يشهد لوارث الميت صغيرا أو كبيرا وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض ؟ فوقع (ع): نعم، وينبغى للوصي ان يشهد بالحق ولا يكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل شهادة الوصي على الميت مع شاهد اخر عدل ؟ فوقع: نعم من بعد يمين (3).

 

(هامش)

 

: 1 - يعني أبا الحسن الاول عليه السلام. 2 - الكافي ج 7، 415، باب من ادعى على ميت، ح 1، الفقيه ج 3، ص 63، ح 3343، باب الحكم باليمين على المدعى....، تهذيب الاحكام ج 6، ص 229، ح 555، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 6، وسائل الشيعد ج 18، ص 172، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 4، ح 1. 3 - الكافي ج 7، ص 394، باب شهادة الشريك والاجير والوصي، ح 3، الفقيه ج 3، ص 73، ح 3362، (*).

 

والمراد بقوله (ع): من بعد يمين ظاهر في يمين المدعي. واحتمال كون المراد منه يمين الوصي بعيد لا يعتنى به، بل لا مجال له، لان الحلف على مال الغير لا مورد له أولا وثانيا: لا حلف الا عن بت، ولا يمكن حصول البت للوصي ولو كان لاحتمال ان المدعي برء ذمة الميت بعد موته ثم ندم ويدعي. فالانصاف ان دلالة الروايتين على هذا الحكم - أي: يمين المدعي على الميت على بقاء حقه عليه، وانه لم يوفه وهو أي: المدعي لم يبرئه بعد قيام البينة من طرف المدعي على حقه على الميت - واضحة لا ارتياب فيه. وأما ضعف السند في موثقة عبد الرحمن البصري - لو كان - فمنجبر بعمل الاصحاب، وقد حققنا هذه المسألة في كتابنا: (منتهى الاصول) (1) مضافا إلى ان رواية الصفار صحيحة فلا اشكال لا من ناحية السند ولا من ناحية الدلالة. نعم هاهنا فروع في هذه المسألة بحث الفقهاء عنها في كتاب القضاء: منها: انه هل هذا الحكم - أي: الاحتياج إلى ضم يمين المدعي إلى البينة لاثبات ما يدعيه - مختص بالديون أو يجرى في الاعيان أيضا ؟ ومنها: ان اثر الحلف نفى احتمال الوفاء واداء الميت في حال حياته فقط أو ان اثره نفى جميع الاحتمالات حتى احتمال الاسقاط والابراء بعد الموت ؟ ومنها: انه لو أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يحصل له شاهد اخر فهل هذا اليمين يكفي لانضمامه إلى ذلك الشاهد الواحد أو يحتاج إلى يمين آخر ؟ لان هذا اليمين يمين استظهار ؟ ومنها: ان هذا الحكم مختص بالدعوى على الميت، أو يتعدي إلى المجنون

 

(هامش)

 

: ... باب شهادة الوصي للميت و...، تهذيب الاحكام ج 6، ص 247، ح 26، باب البينات، ح 31، وسائل الشيعة ج 18، ص 273، أبواب كتاب الشهادات، باب 28، ح 1. 1 - منتهى الاصول ج 2، ص 91. (*).

 

والغائب ؟ ومنها: انه هل هذا الحكم مختص بما إذا كان نفس المدعي صاحب الحق الذى يدعيه، أو يجرى وان كان المدعى وليا أو وصيا أو وكيلا عن صاحب الحق. فهذه امور بحث عنها الفقهاء في كتاب القضاء، ونحن تركناها خوفا من التطويل ولخروجها عن وضع هذا الكتاب. ومنها: اليمين المردودة من طرف المنكر إلى المدعي، فإذا حلف المدعي بعد ان المنكر رد اليمين إليه يثبت حقه كما كان يثبت بالبينة، وظاهر الحصر في هذه القاعدة - كما بيناه - ان ميزان الحكم للمدعى واثبات حقه هي البينة وان اليمين وظيفة المنكر وميزان له. فاليمين المردودة ان كان ميزان للمدعي فيكون مخصصا للجملة الثانية من هذه القاعدة أي: كون اليمين مختصا بالمنكر وعدم كونه ميزانا الا له. وربما يقال: بان الحصر في هذه القاعدة باعتبار الوظيفة الابتدائية، وأما اليمين المردودة فليست كذلك، بل بعد عجز المدعى عما هو وظيفته أي: البينة وتوجه اليمين إلى المنكر ونكوله عن الحلف ورده إلى المدعى يكون ميزانا للمدعى لا أولا وبالذات. وفيه: انه ليس مفاد القاعدة هو ان البينة وظيفة المدعى اولا وبالذات، واليمين وظيفة المنكر كذلك، بل ظاهرها انحصار ميزان المدعى في البينة وميزان المنكر في اليمين ولكن الحصر ليس حصرا عقليا كى لا يكون قابلا للتخصيص، وانما هو بحكم الشارع فقابل لان يخصصه بدليل اخر وهو الاجماع والنص. كصحيحة محمد بن مسلم في الرجل يدعي ولا بينة له، قال: يستحلفه، فان رد

 

اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له (1) وصحيحة عبيد بن زرارة في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعى، قال: يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق، فان لم يفعل فلا حق له (2) وصحيحة هشام قال: ترد اليمين على المدعى (3) وروايات اخر بهذا المضمون مذكورة في كتاب القضاء (4). هذا اخر ما كتبناه في هذه القاعدة. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 7، ص 416، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين، ح 1، تهذيب الاحكام ج 6، ص 230، ح 557، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 8، وسائل الشيعة ج 18، ص 176، ابواب كيفية الحكم، باب 7، ح 1، 2 - الكافي ج 7، ص 416، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين، ح 2، تهذيب الاحكام ج 6، ص 230، ح 556، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 7، وسائل الشيعة ج 18، ص 176، ابواب كيفية الحكم، باب 7، ح 2، 3 - الكافي ج 7، ص 417، باب من لم تكن له بينة فيرد عليه اليمين، ح 5، تهذيب الاحكام ج 6، ص 230، ح 560، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 11، وسائل الشيعة ج 18، ص 176، ابواب كيفية الحكم، باب 7، ح 3. 4 - وسائل الشيعة ج 18، ص 176، ابواب كيفية الحكم، باب 7. (*).