قاعدة التقية

47 - قاعدة التقية 

 

قاعدة التقية * ومن جملة القواعد الفقهية عند الامامية الاثنى عشرية قاعدة التقية وهي قاعدة مشهورة معروفة والبحث فيها من جهات: الجهة الاولى في المراد منها أقول: التقية اسم مصدر من تقى يتقي أو من اتقى يتقي، وعلى كل تقدير سواء كان من الثلاثي أو من المزيد أصل المادة من اللفيف المفروق، والحرف الاول واو، والثالث ياء فقلبت الواو تاء كما في تجاه وتراث، فبناء على هذا لا فرق من حيث المعنى بين التقية والاتقاء إلا ما هو من الفرق بين المصدر واسمه. هذا بناء على أن تكون التقية اسم المصدر وأما بناء على أن تكون هي المصدر الثاني لاتقى فلا فرق بينهما أصلا. وعلى أي واحد من التقديرين هي عبارة عن اظهار الموافقة مع الغير في قول أو فعل أو ترك فعل يجب عليه حذرا من شره الذي يحتمل صدوره بالنسبة إليه أو

 

(هامش)

 

. القواعد والفوائد ج 2، ص 155 - 157، الاقطاب الفقهية ص 98، الاصول الاصلية والقواعد الشرعية ص 317، الرسائل الفقهية (الشيخ الانصاري) ص 71، مناط الاحكام ص 26، اصول الاستنباط بين الكتاب والسنة ص 121، القواعد ص 93، القواعد الفقهية (مكارم الشيرازي) ج 1، ص 383، ما وراء الفقه ج 1، ص 108. (*)

 

بالنسبة إلى من يحبه مع ثبوت كون ذلك القول أو ذلك الفعل أو ذلك الترك مخالفا للحق عنده. إذا تبين المراد من التقية، فنقول: تارة نتكلم في التقية من حيث الحكم التكليفي وأنه يجوز أم لا يجوز. واخرى: من حيث ترتب آثار ما هو الواقع والحق على هذا الفعل أو الترك بواسطة إذن الشارع في الاتيان أو الترك المخالفين للواقع. وثالثة: في أنه هل تترتب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحق الاثار الشرعية التي رتبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بالاختيار وبميله من دون تقية أو صدورها تقية يوجب رفع تلك الآثار. فالتكلم في التقية في مقامات ثلاث: المقام الاول في بيان حكمها التكليفي وأنه يجوز أو لا يجوز. أقول: لا شك في جوازه بل وجوبه في بعض الاحيان وجوازه من القطعيات واليقينيات اجماعا وكتابا وسنة. أما الاجماع فوجوده وعدم حجيته معلوم لكون اعتمادهم على تلك المدارك القطعية، فليس من الاجماع المصطلح. وأما الكتاب فقوله تعالى: (لا يتخذا المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن يتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) (1) وقوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره

 

(هامش)

 

1. آل عمران (3): 28. (*)

 

وقلبه مطمئن بالايمان). (1). أما الروايات ففوق حد الاستفاضة بل لا يبعد تواترها معنى، وقد عقد في الوسائل ابوابا لها في كتاب الامر بالمعروف نذكر بعضها. منها: ما في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: ان قول الله عزوجل (اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال: بما صبروا على التقية (و يدرئون بالحسنة السيئة) (2) قال: الحسنة التقية والاسائة الاذاعة . (3) وأيضا في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عمر وعن أبي عبد الله عليه السلام قال قال لي أبو عبد الله عليه السلام يا أبا عمرو تسعة أعشار الدين التقية، ولا دين لمن لا تقية له . (4) أيضا عن الكافي عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة؟ فقال قال أبو جعفر: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له . (5) أيضا عن الكافي عن محمد بن مردان عن أبي عبد الله عليه السلام قال عليه السلام: كان أبي عليه السلام يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية إن التقية جنة المؤمن . (6) أيضا عن الكافي عن عبد الله بن ابي يعفور قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

 

(هامش)

 

1. النحل (16): 106. 2. القصص (28): 54. 3. الكافي ج 2، ص 217، باب التقية، ح 1، وسائل الشيعة ج 11، ص 459، أبواب الامر والنهى، باب 24، ح 1.، 4. الكافي ج 2، ص 217، باب التقية، ح 2، المحاسن ص 259 ح 309، وسائل الشيعة ج 11، ص 460، أبواب الامر والنهى، باب 24، ح 3. 5. الكافي ج 2، ص 219، باب التقية، ح 12، وسائل الشيعة ج 11، ص 460، أبواب الامر والنهى، باب 24، ح 3. 6. الكافي ج 2، ص 220، باب التقية، ح 14، وسائل الشيعة ج 11، ص 460، أبواب الامر والنهى، باب 24، ح 4. (*)

 

التقية ترس المؤمن والتقية حذر المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له . (1) أيضا عن الكافي عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية، فانه لا إيمان لمن لا تقية له . (2) أيضا عن الكافي عن حبيب بن بشير قال قال أبو عبد الله عليه السلام: سمعت أبي يقول لا والله ما على وجه الارض شيء أحب إلي من التقية، يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله يا حبيب إن الناس إنما هم في هدنة، فلو قد كان ذلك كان هذا . (3) أيضا عن الكافي عن حريز عمن أحبره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل (ولا تستوي الحسنة والسئة قال عليه السلام: الحسنة التقية والاساءة الاذاعة . (4) أيضا عن الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنه قال: يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا، أبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلا التقية (5). أيضا عن الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كلما تقارب هذا

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 2، ص 221، باب التقية، ح 23، وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الامر والنهى، باب 24، ح 6. 2. الكافي ج 2، ص 218، باب التقية، ح 5، وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 7. 3. الكافي ج 2، ص 217، باب التقية، ح 4، وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الامر والنهي. باب 24، ح 8. 4. الكافي ج 2، ص 218، باب التقية، ح 6، وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الامر والنهي، باب 24 ح 9. 5. الكافي ج 2، ص 217، باب التقية، ح 3، وسائل الشيعة ج 11، ص 462، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 10. (*)

 

الامر كان أشد للتقية (1). أيضا عن الكافي عن ابن مسكان عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: التقية ترس الله بينه وبين خلقه (2). ولا يحتاج دلالة هذه الاخبار على جواز التقية إلى البيان والشرح والايضاح لكونها في غاية الوضوح. نعم ذكر شيخنا الاعظم الانصاري قدس سره في رسالته المعمولة في التقية أنها تنقسم إلى الاحكام الخمسة (3). وخلاصة كلامه في تصوير انقسامها إلى الاحكام الخمسة أن الواجب ما يكون لدفع ضرر متوجه إليه من النفس أو العرض بحيث يكون دفعه واجبا ولا يدفع ذلك الضرر الواجب الدفع إلا بالتقية، فتكون واجبة. والمستحب ما كان موجبا للتحرز عن كونه معرضا للضرر، بمعنى أنه من الممكن أن يكون تركها مفضيا إلى الضرر تدريجا كترك المداراة مع المخالفين وهجرهم في المعاشرة في بلادهم فانه ينجر غالبا إلى حصول المباينة الموجبة للمعاداة التي تترتب عليها الضرر غالبا فالحضور في جماعاتهم والعمل على طبق أعمالهم تقية مستحب لاجل هذه الغاية إن لم يكن ضرر فعلا في تركها. والمباح ما كان التحرز عن الضرر بالتقية وتركه بعدم التقية متساويان في نظر الشارع لكون مصلحة التقية وتركها متساويتين كما قيل في إظهار كلمة الكفر حيث إن في فعل التقية مصلحة وفي تركها أيضا مصلحة إعلاء كلمة الاسلام وفرضنا أن

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 2، ص 220، باب التقية، ح 17، وسائل الشيعة ج 11، ص 462، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 11. 2. الكافي ج 2، ص 220، باب التقية، ح 19، وسائل الشيعة ج 11، ص 462، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 12. 3. المكاسب ص 320. (*)

 

مصلحة حفظ النفس التي في التقية مع مصلحة إعلاء كلمة الاسلام التي في تركها متساويتان. والمحرم كما في الدماء فقتل المؤمن في مورد لا يستحق القتل تقية حرام بلا كلام. والمكروه ما يكون ضده أفضل. هذا ما ذكره الشيخ الاعظم الانصاري قدس سره في انقسام التقية إلى الاحكام الخمسة. وفي بعضها خصوصا الاخير تأمل واضح، لان ترك المستحب ليس بمكروه مع أن نقيضه أفضل، فلو كانت الحركة من بلد أفضل من الوقوف فيه، فهذا لا يلازم كون الوقوف مكروها، فالاولى التمثيل للمكروه بما ذكره الشهيد قدس سره وهو التقية بإتيان ما هو مستحب عندهم، مع عدم خوف الضرر لا عاجلا ولا آجلا إذا كان ذلك الشيء مكروها واقعا، وإلا لو كان حراما فالتقية باتيانه لموافقتهم حرام. هذا ما ذكروه ولكن الذي يظهر من الاخبار المستفيضة بل المتواترة هو استحباب التقية بل وجوبها بموافقتهم عملا بل فتوى فيما إذا احتمل ترتب ضرر على نفسه أو على إخوانه المؤمنين. وهذا الذي قلنا من استحباب التقية أو وجوبها كان في الازمنة السابقة في أيام سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجر إلى قتل الامام عليه السلام أو إلى قتل جماعة من المؤمنين، وأما في هذه الازمنة بحمد الله حيث لا محذور في العمل بما هو الحق ومقتضى مذهبه في العبادات والمعاملات فلا يوجد موضوع للتقية. نعم إذا تحقق موضوع التقية في زمان أو مكان فالواجب منها لا يعارض بأدلة الواجبات والمحرمات، وذلك لحكومة دليل وجوب التقية على تلك الادلة كما هو الشأن في سائر أدلة العناوين الثانوية بالنسبة إلى أدلة العناوين الاولية، وذلك كأدلة نفي العسر والحرج والضرر بالنسبة إلى الادلة الاولية حيث إنها حاكمة على الادلة الاولية بالحكومة الواقعية إلا في حديث الرفع بالنسبة إلى خصوص ما لا يعلمون،

 

فان حكومته على الادلة الاولية حكومة ظاهرية. المقام الثاني وهو المهم في المقام وهو أنه هل تترتب آثار الواقع والحق على هذا الفعل أو الترك المخالف للحق بواسطة إذن الشارع في ذلك الفعل الذي يفعله لاجل التقية أو إذنه في ترك أمر لاجلها؟ أو لا تترتب؟ ثم التكلم في ترتب آثار الواقع وما هو الحق تارة بالنسبة إلى خصوص أثر القضاء والاعادة وأن ذلك الفعل المخالف للواقع والحق هل هو مجز ولا إعادة عليه لو ارتفعت التقية في الوقت، ولا قضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت، أم ليس بمجز بل تجب الاعادة بعد ارتفاع التقية في الوقت، بحيث يمكن إتيان ما هو الواقع في الوقت، ويجب القضاء لو ارتفعت التقية في خارج الوقت. واخرى: بالنسبة إلى سائر آثار الصحة مثل أنه لو توضأ بالوضوء تقية من الاسفل إلى الاعلى في غسل اليدين أو غسل الرجلين بدل مسحهما فهل يترتب عليه أثر الوضوء الصحيح والواقعي من رفع الحدث بحيث لو ارتفعت التقية لا يحتاج إلى الوضوء ثانيا على نهج الحق للصلوات الاخر أم لا؟ اما القسم الاول: أي ترتب الاثر عليه من حيث الاجزاء وسقوط الاعادة والقضاء. فالتحقيق فيه: أن كل فعل واجب من الواجبات إذا أتي به موافقا لمن يتقيه وكان مخالفا للحق في بعض أجزائه وشرائطه، بل وفي ايجاد بعض موانعه فان كان مأذونا من قبل الشارع في إيجاد ذلك الواجب بعنوان أنه واجب للتقية فهو مجز عن الواقع، ولا يجب عليه الاعادة إذا ارتفع الاضطرار في الوقت ولا القضاء إذا ارتفع في خارج

 

الوقت، وذلك لما حققنا في كتابنا منتهى الاصول (1) في مبحث الاجزاء أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي مجز عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الاولي، سواء كان رفع الاضطرار في الوقت، أو في خارج الوقت. ولا فرق في كونه مأذونا بين أن يكون الرخصة والاذن بعنوان ذلك الواجب بخصوصه كما أنه ورد الاذن في خصوص المسح على الخفين في صحيح أبي الورد: قلت لابي جعفر عليه السلام ان أبا ظبيان حدثني أنه رأى عليا عليه السلام أنه أراق الماء ثم مسح على الخفين فقال عليه السلام أبو ظبيان أما بلغك قول على عليه السلام فيكم: سبق الكتاب المسح على الخفين؟ فقلت: هل فيها رخصة؟ فقال عليه السلام لا إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك (2). أو كان بعنوان عام يشمل جميع الواجبات كقوله عليه السلام: التقية من ديني ودين آبائي (3) وكذلك قوله عليه السلام: التقية في كل شيء إلا في ثلاث: شرب النبيذ، والمسح على الخفين، ومتعة الحج (4). ودلالة هذه الروايات الكثيرة التي هي فوق حد الاستفاضة على الاذن والرخصة في امتثال الواجبات موافقة للمخالفين تقية منوطة بأن يكون المراد من التقية الواردة فيها هو العمل الذي يأتي به تقية، أي ما يتقى به. وظهور لفظ التقية في هذا المعنى لا يخلو من نظر، لان التقية كما تقدم مصدر أو

 

(هامش)

 

1. منتهى الاصول ج 1، ص 242. 2. تهذيب الاحكام ج 1، ص 362، ح 1092، باب صفة الوضوء والفرض منه، ح 22، الاستبصار ج 1، ص 76، ح 236، باب جواز التقية في المسح على الخفين، ح 1، وسائل الشيعة ج 1، ص 322، أبواب الوضوء، باب 38، ح 5. 3. الكافي ج 2، ص 219، باب التقية، ح 12، وسائل ا لشيعة ج 11، ص 460، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 3. 4. الكافي ج 3، ص 32، باب مسح الخف، ح 2، وسائل الشيعة ج 11، ص 469، أبواب الامر والنهي، باب 25، ح 5. (*)

 

اسم مصدر وبمعنى الاتقاء فكون الاتقاء من الدين أي يجب الاتقاء. وهكذا قوله عليه السلام: لا دين لمن لا تقية له (1) أي: لا دين لمن ترك التقية ويلقى نفسه في الهلكة وهذا غير أن يكون ما يتقى به من العمل الموافق لهم المخالف للحق من الدين. ويمكن أن يكون نظر المحقق الثاني (2) قدس سره في التفصيل الذي - ذكره بين الاذن في إتيان واجب بخصوصه تقية أي موافقا مع من يخاف منه وإن كان مخالفا للحق في نظره فيكون مجزيا فلا إعادة عليه ولا القضاء بعد رفع الخوف وبين ما إذا كان الواجب الذي يأتي به تقية لم يرد في إتيانه بذلك الوجه المخالف للحق إذن ورخصة بالخصوص بل ليس في البين إلا تلك الاخبار العامة الآمرة بلزوم التقية بقوله عليه السلام: التقية من ديني ودين آبائي (3)، ورواية المعلى بحذف من وهي رواية اخرى، والرادعة عن تركها بقوله عليه السلام لا دين لمن لا تقية له (4) إلى هذا الذي ذكرنا من كون نظر الاخبار العامة إلى لزوم الاتقاء ووجوبه وحرمة تركه وإلقاء نفسه في الهلكة وإلا فأي فرق بين أن يكون الاذن والرخصة بصورة القضية الشخصية الخارجية أو بصورة القضية الكلية الحقيقية. والانصاف: أنه لا يمكن إسناد مثل هذا إلى مثل ذلك المحقق الذي هو من أعاظم اساطين الفقه. وعلى كل حال إذا صدر إذن من قبل الشارع باتيان واجب بخصوصه أو الواجبات عموما بصورة عامة موافقا معهم، وإن كان مخالفا للحق من جهة الخوف

 

(هامش)

 

1. سبق ذكره في ص 51، رقم (4). 2. وسائل المحقق الكركي ج 2، ص 51. 3. سبق ذكره في ص 51، رقم (5). 4. الكافي ج 2، ص 223، باب الكتمان، ح 8 وسائل الشيعة ج 11، ص 485، أبواب الامر والنهي، باب 32، ح 6. (*)

 

على نفسه أو عرضه أو ماله أو الخوف على غيره كذلك يكون إتيانه مجزيا عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الاولى ثانيا لما ذكرنا. هذا كله إذا صدر الاذن بامتثال الواجب الموسع موافقا للمخالفين بمجرد تحقق التقية، وأما لو لم يصدر إذن من قبله بذلك فهل يشمل الاوامر المطلقة الاولية المتعلقة بالواجبات لمثل هذا الفرد المخالف للحق والواقع بضميمة أوامر وجوب استعمال التقية في مقام الامتثال وحرمة تركها أم لا؟ فان قلنا بالاول وشمولها لمثل ذلك الفرد فيكون ايضا مجزيا ولا يحتاج إلى القضاء والاعادة بعدم ارتفاع الخوف والاضطرار، ويكون حاله حال ما ورد الاذن بفعله موافقا لهم، بل هو هو. وأما إن قلنا بعدم شمولها له، فما أتى به تقية ليس بمجز قطعا لانه لم يأت بما هو المأمور به، وجواز التقية أو وجوبه لا أثر له في هذا المقام. نعم لورود دليل خاص على أن هذا الفاقد للشرط أو الجزء أو هذا العمل الذي وجه فيه المانع مجز عن الواقع فهو، وإلا فصرف جواز الاتيان بواسطة الخوف لا يوجب سقوط الاعادة والقضاء، إذ مقتضى اطلاق دليل ذلك الجزء أو ذلك الشرط أو ذلك المانع عدم اختصاصه بحال الاختيار بحيث إذا لم يتمكن من إتيانه في الجزء أو الشرط أو من تركه في المانع يسقط التكليف لعدم القدرة شرعا على إتيان ما هو المأمور به واقعا. نعم لو لم يكن الدليل ذلك الشرط أو الجزء أو ذلك المانع إطلاقا يثبت جزئيته أو شرطيته أو مانعيته في ذلك الحال، أو كان مفاد أدلتها تقييدها بحال التمكن، وكان لدليل ذلك العمل المركب إطلاق بالنسبة إلى حالتي وجود ذلك القيد وعدمه وتعذره وعدمه، فنفس دليل ذلك الواجب المركب يوجب صحة ذلك العمل الذي هو فاقد الجزء أو الشرط أو هو واجد للمانع

 

ولا فرق بين أن يكون تعذر القيد فعلا أو تركا من جهة التقية أو من جهة أخرى من أنواع الاضطرار إلى الفعل أو الترك لان المناط في الجميع واحد، وهو عدم القدرة على الاتيان بالمأمور به الواقعي، وقد حررنا المناط في كتابنا منتهى الاصول (1) إن شئت فراجع. نعم سنتكلم في أن أمر التعذر من جهة التقية أوسع من التعذر من الجهات الاخر، وعمدة ذلك هو أن التقية شرعت لاجل حفظ دماء المتقين ولذلك لا يعتبر فيها عدم وجود المندوحة كما سنبين إنشاء الله تعالى. وعلى كل حال الذي يسهل الخطب وثبت إجراء فاقد الشرط أو الجزء أو واجد المانع هو عمومات بعض أخبار التقية كقوله عليه السلام: التقية ديني ودين آبائي في رواية المعلى أو من دين ودين آبائي كما في سائر الطرق، بناء على أن يكون المراد من التقية هو العمل الموافق لهم المخالف للحق، أي ما يتقى به لا الاتقاء كما هو ظاهر اللفظ. وأما الاستدلال للاجزاء برواية مسعدة بن صدقة بقوله عليه السلام فيه: فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد فانه جائز (2) لا يخلو من تأمل لان ظاهر قوله عليه السلام فانه جائز هو الجواز تكليفا وهذا لا ربط له بالاجزاء، وإلا فهذا المعنى قطعي ولا كلام فيه من أحد، نعم قيد عليه السلام الجواز بما لا يؤدي إلى الفساد وإلا لو أدى إليه فلا يجوز حتى تكليفا. فالعمدة في دلالة روايات التقية على الاجزاء هو الذي قلنا من كون التقية دينا أنه يرجع إلى أنه حكم واقعي ثانوي، وقد أثبتنا كونه مجزيا في مبحث الاجزاء في

 

(هامش)

 

1. منتهى الاصول ج 1، ص 244. 2. الكافي ج 2، ص 168، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقضه، ح 1، وسائل الشيعة ج 11، ص 469، أبواب الامر والنهي، باب 25، ح 6. (*)

 

الاصول (1)، وقلنا إنه متوقف على أن يكون المراد من التقية هو العمل الذي يتقى به لا الاتقاء بالعمل، ولا يبعد ذلك، فيكون كالوصية بمعنى ما أوصى به فكما أن الوصية اسم مصدر للايصاء وقد يجئ بمعنى الموصى به، فلتكن التقية أيضا كذلك. وخلاصة الكلام أن الاخبار العامة والخاصة تدل على أن اتيان الواجبات موافقة للمخالفين وإن كانت مخالفة للحق قد أذن ورخص فيه الشارع، فلا ينبغي الشك في أنها مجزية عن الواقع الاولى، ولا يجب إعادتها ولا قضائها بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن. ولكن هذا الذي قلنا - بأن الاتيان بالواجبات موافقة لمذهبهم مع كونها مخالفة للحق للتقية مجز عن الاتيان بما هو الحق بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن - يكون فيما إذا كانت المخالفة في المذهب بمعنى أن الاختلاف يكون بين المذهبين في أجزاء الواجبات أو شرائطها أو موانعها، أو كيفية أدائها، وإن شئت قلت فيما إذا كان الاختلاف في نفس الحكم الشرعي لا فيما إذا كان الاختلاف فيما هو مصداق لموضوع الحكم الشرعي. مثلا، لا خلاف بينهما في وجوب الافطار في يوم أول شوال أي يوم عيد الفطر. فإذا وقع الاختلاف في مصداق هذا اليوم فحكم حاكمهم بأن يوم الجمعة مثلا عيد إستنادا إلى ثبوت رؤية الهلال ليلتها، فإذا علمنا بعدم مطابقة هذا الحكم للواقع وخطأ الحاكم أو الشهود فلا تشمل أدلة إجزاء التقية مثل هذا المورد. فإذا قامت حجة شرعية من علم أو علمي - وإن كان هو الاستصحاب - على أن هذا اليوم من شهر رمضان فالافطار في ذلك اليوم وإن كان جائزا إذا كان لخوف الضرر على نفسه أو ماله أو عرضه أو كان في الصوم فيه حرج، ولكن لا يكون مجزيا فيجب قضاء ذلك اليوم كما هو الظاهر من مرسلة رفاعة عن رجل عن أبي

 

(هامش)

 

1. منتهى الاصول ج 1، ص 249. (*)

 

عبد الله عليه السلام قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم فقلت ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال يا غلام علي بالمائدة فاكلت معه وأنا أعلم والله إنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله (1). وبهذا المضمون أيضا أخبار أخر (2). فعلى هذا يجب عليه القضاء وإن قلنا بالاجزاء في المأتي به تقية، وذلك لما ذكرنا أن ظاهر أدلة التقية هو أن اتيان الواجب على وفق مذهب من يتقى عنه يكون مجزيا، وفي المورد ليس الافطار موافقا لمذهبهم لان مذهبهم أيضا أنه لا يجوز الافطار في نهار رمضان، وإنما هو خطأ في التطبيق ولا ربط له بأدلة التقية. هذا مضافا إلى أنه في المورد لم يأت بالواجب تقية وإنما تركه تقية وأدلة التقية بناء على دلالتها على الاجزاء يكون فيما إذا أتى بالواجب موافقا لمذهبهم لا أنه يترك إتيان الواجب رأسا لاجل التقية. وكذلك لو حكم حاكمهم بأن يوم الجمعة مثلا هو اليوم التاسع من ذي الحجة الذي يقال له يوم عرفة وهو يوم الوقوف في عرفات وعلم المكلف بأنه ليس اليوم التاسع أو قامت حجة شرعية على أنه اليوم الثامن مثلا وهو مضطر في الوقوف في اليوم الذي يعلم بانه ليس يوم عرفة لعلمه بتقدمه على ذلك اليوم أو تأخره عنه ولا يمكنه الوقوف في اليوم الذي قامت عنده الحجة الشرعية على أنه يوم عرفة ففات عنه الوقوف في يوم عرفة فلا يمكن القول باجزاء ذلك الحج لفوت الوقوف في عرفات يوم عرفة، وإن قلنا بأن اتيان الواجب موافقا لمذهبهم مجز، لان الوقوف في

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 4، ص 83، باب اليوم الذي يشك فيه...، ح 7، وسائل الشيعة ج 7، ص 95، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح 5. 2. راجع: وسائل الشيعة ج 7، ص 94، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57: باب جواز الافطار للتقية و الخوف من القتل ونحوه. (*)

 

يوم غير عرفة ليس موافقا لمذهبهم وإنما هو خطأ في التطبيق. نعم يمكم تصحيح مثل هذا الحج بوجه آخر، وهو أن حاكمهم لو حكم بثبوت الهلال بشهادة من يكون شهادته معتبرة عندهم، وليست معتبرة بحسب الواقع لفسقه أو لنصبه أو لجهة اخرى راجعة إلى الشبهة الحكمية، بحيث يكون الحكم في مذهب الحق عدم قبول تلك الشهادة، وكان القبول في مذهب الحاكم، فحينئذ يكون عدم العمل بحكمهم قدحا في مذهبهم فترك العمل يرجع إلى الاختلاف في المذهب. فالعمل على وفق مذهبهم بالجري على طبق حكمهم للخوف من الضرر يكون كسائر موارد التقية، التي أذن الشارع ورخص فيها بعنوان ترخيص التقية، فلا فرق بين أن يأتي بالصلاة الناقصة تقية أو ياتي بالحج الناقص تقية فكما أنه في الاول يكون ذلك العمل مجزيا عن الاتيان بالواقع ثانيا بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن فكذلك الامر في الثاني. نعم يبقى الكلام في أنه هل نفوذ حكم الحاكم عندهم ولزوم الجري على طبقه وعدم جواز مخالفته مخصوص بصورة الشك والجهل بمطابقته للواقع، أو مطلق ويجب العمل على طبقه ولو كان مع العلم بمخالفته للواقع فبناء على الاول يكون إجراؤه مختصا بصورة الشك في ثبوت الهلال، ولا تشمل صورة العلم بالخلاف، وعلى الثاني يكون ذلك الحج الناقص مجزيا حتى مع العلم بالخلاف. وقد نسب إليهم نفوذ الحكم حتى مع العلم بالخلاف والقول بالموضوعية التابعة للحكم، ولكنه ينبغي أن يعد في جملة المضحكات كما أنه حكى أن أحد القضاة حكم بموت شخص كان غائبا مسافرا بشهادة الشهود، فلما رجع عن سفره رفع أمره إلى ذلك القاضي فحكم أن يدفن لانه ثبت موته وميت المسلم يجب دفنه وأنت خبير بأن أمثال هذه الحكايات بالمزاح أشبه وكيف يمكن أن يتفوه المسلم بهذا الكلام، مع

 

أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله سيد ولد آدم وخير الخلائق اجمعين أنه صلى الله عليه وآله قال إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ وفي بعض طرق الحديث ألحن بدل أبلغ، والمعنى واحد من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له، فمن قضيت له بحق مسلم فانما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها. (1) وخلاصة الكلام أن القول بالموضوعية التامة ووجوب نفوذ الحكم حتى مع العلم بالخلاف لا ينبغي أن يسند إلى فقيه، ولا بد وأن يؤول إذا كان هذا ظاهر كلامه وأما في صورة الشك، فان حكم الحاكم حجة عندنا وعندهم فإذا حكم حاكمهم بأن هذا اليوم مثلا يوم عرفة فالموافقة معهم بالوقوت في عرفات في ذلك اليوم من جهة الخوف عنهم يصدق عليه أنه الجري على طبق الحجة عندهم ولزوم الجري على طبق حكم حاكمهم هو من أحكام مذهبهم كما أنه كذلك عندنا أيضا غاية الامر أن هذا الحكم ليس واجدا لشرائط النفوذ عندنا، ولكن واجد لها عندهم فيكون كسائر موارد التقية في الحكم الشرعي. وأما الايراد عليه بأن الروايات الواردة في لزوم القضاء في مسألة الافطار تقية مع أنه في مورد حكم الحاكم بأنه يوم العيد بنفي الاجزاء، وذلك كمرسلة رفاعة عن الصادق عليه السلام قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام فقلت ذاك إلى الامام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال يا غلام علي بالمائدة فاكلت معه وانا أعلم والله انه يوم من شهر رمضان فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله (2) وروى بطرق اخر أيضا. ففيه أن قوله عليه السلام وأنا أعلم والله انه يوم شهر رمضان صريح

 

(هامش)

 

1. وسائل الشيعة ج 18، ص 149، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوي، باب 2، ح 3، مستدرك الوسائل ج 17: ص 366، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 3، ح 4. 2. الكافي ج 4، ص 83، باب اليوم الذي يشك فيه...، ح 7، وسائل الشيعة ج 7، ص 95، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح 5. (*)

 

أنه في مورد العلم بالخلاف وعدم مطابقة الحكم للواقع وهذه الصورة بينا أن الحكم ليست بحجة عندهم أيضا فلا يشمل مورد كلامنا الذي هو الشك. فالانصاف أن القول بالاجزاء في مورد الشك في مطابقة حكمهم للواقع لا يخلو عن قوة وإن كان الاحتياط ما لم يبلغ إلى درجة الحرج الشديد والعسر الاكيد حسن على كل حال. ومما استدل به على الاجزاء في مورد الشك هي السيرة المستمرة من زمان الائمة عليهم السلام إلى زماننا هذا في موافقة أصحابنا معهم في الوقوف في المشاعر العظام، مع وجود الشك في أغلب السنين، ولم يراجعوا إليهم عليهم السلام في هذه المسألة ولم يسألوا عن حكم الجرى على طبق حكمهم ولم ينقل عنهم إعادة حجهم، وهذا يدل على أن الاجزاء كان عندهم مفروغا عنه. وأما ادعاء أنهم سألوا ولكن لم يصل إلينا فقول بلا دليل، بل لو كان لبان كسائر القضايا والاحكام، والقدر المتيقن من هذه السيرة هو مورد الشك في مطابقة حكم الحاكم للواقع، فلا يشمل مورد العلم بالخلاف. ولكن في ثبوت هذه السيرة تأمل. وربما يستدل للاجزاء برواية أبي الجارود قال سألت أبا جعفر عليه السلام انا شككنا سنة في عام من تلك الاعوام في الاضحى فلما دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض أصحابنا يضحي فقال: الفطر يوم يفطر الناس والاضحى يوم يضحي الناس والصوم يوم يصوم الناس (1). وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن قوله عليه السلام الاضحى يوم يضحي الناس

 

(هامش)

 

1. تهذيب الاحكام ج 4، ص 317، ح 966، باب الزيادات، ح 34، وسائل الشيعة ج 7، ص 95، أبواب ما يمسك عنه الصائم، باب 57، ح 6. (*)

 

لا يمكن أن يكون إخبارا لان اليوم الذي يضحي الناس قد يكون أضحى وقد لا يكون مضافا إلى أنه جواب سؤال الراوي عن حكم يوم الشك فهو عليه السلام بصدد الجواب عن هذا السؤال، فلابد وأن يكون تنزيلا من قبيل الطواف بالبيت صلاة (1) فيكون مفاده أن يوم يضحي الناس يكون بمنزلة الاضحى الواقعي، يترتب عليه آثار الاضحى الواقعي، فيكون إمضاء لحكمهم فيجب ترتيب آثار الواقع على ما حكموا به. ولكن أنت خبير بأن هذه الرواية وإن كانت ظاهرة في هذا المعنى، إلا أن سنده ضعيف فان أبا الجارود زياد بن منذر زيدي ينسب إليه الجارودية وسمى سرحوبا وسماه بذلك أبو جعفر عليه السلام وسرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر وكان أبو الجارود مكفوفا أعمى القلب، هكذا ذكره العلامة قدس سره في الخلاصة (2) وقد قيل في حقه أنه كان كذابا كافرا فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية للخروج عن مقتضى القواعد الاولية. وأما القسم الثاني أي ترتيب آثار الصحة غير الاجزاء وعدم لزوم الاعادة والقضاء سواء كان في العبادات كالوضوء تقية، فهل يترتب عليه رفع الحدث وحصول الطهارة الواقعية كي لا يحتاج إلى وضوء جديد بعد رفع الخوف وحصول الامن أو كان في المعاملات فإذا أوقع معاملة لهم ومخالفة للواقع تقية فهل يترتب عليها آثار الصحة بعد ارتفاع التقية أم لا. أقول: مقتضى القواعد الاولية هو عدم ترتب آثار الصحة على تلك المعاملة أو ذلك الوضوء، وذلك لان موضوع الاثر شرعا هي العبادة أو المعاملة الصحيحتان والمفروض أنهما ليستا صحيحتين، إذ لا شك في ان الموضوع للطهارة الواقعية هو الوضوء الصحيح بحسب الواقع، والوضوء تقية ليس وضوءا صحيحا بحسب الواقع،

 

(هامش)

 

1. عوالي اللئالي ج 1، ص 214، ح 70، وج 2، ص 167، ح 3. 2. الخلاصة ص 223. (*)

 

وإنما أذن الشارع في إتيانه لاجل دفع الضرر عن نفسه أو ماله أو عرضه أو عن غيره ممن يخصه ذلك، فإذا ارتفع الخوف ولم يكن احتمال ضرر في البين فلا وجه لاحتمال وجود الاثر الذي هو للوضوء الواقعي على هذا الفعل المسمى بالوضوء عندهم، وهو ليس بالوضوء واقعا. وكذلك لو أوقع نكاحا أو طلاقا على وفق مذهبهم تقية مع بطلانهما عندنا فمع ارتفاع التقية وحصول الامن لا وجه لاحتمال وجود آثار النكاح أو الطلاق الصحيحين وهل الحكم بوجود أثرهما مع عدم صحتهما إلا من قبيل وجود الاثر بدون المؤثر وإن شئت قلت هل هذا إلا من قبيل وجود الحكم بدون الموضوع. وأما جوار التقية بل لزومها في بعض الموارد على فرض أن يكون الفعل الذي أتى به تقية مجزيا عن إتيان الواقع ثانيا بعد رفع التقية لا يثبت وجود موضوع ذلك الاثر نعم لو كان موضوع الاثر هو الاعم من الوضوء الواقعي الاولى والوضوء تقية مثلا فلا شبهه في ترتب ذلك الاثر لوجود موضوعه لكن هذا خلاف الفرض، وكذلك لو كان الموضوع للاثر امتثال ذلك الامر الثانوي. ثم إن ما ذكرنا في القسم الاول من إجزاء ما أتى به تقية عن إتيان المأمور به بالامر الواقعي ثانيا، هل يشترط فيه عدم وجود المندوحة أم لا؟ الظاهر هو الثاني بيان ذلك أن الاقوال في المسألة ثلاثة: قول بعدم الاعتبار مطلقا وذهب إليه الشهيدان في البيان (1) والروض (2)، وقول بالاعتبار مطلقا وذهب إليه صاحب المدارك (3)

 

(هامش)

 

1. البيان ص 48. 2. روض الجنان ص 37. 3. مدارك الاحكام ج 1، ص 231. (*)

 

وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الفعل الذي يتقى به مأذونا بالخصوص كالصلاة معهم أو الوضوء مع المسح على الخفين، وأمثال ذلك فقال بعدم الاعتبار وبين مال يأذن الشارع فيه بالخصوص فقال بالاعتبار. والمراد من المندوحة هو تمكن المكلف من الاتيان بالفرد التام الاجزاء والشرائط الفاقد للموانع وذلك بأن يأتي إما في زمان آخر من مجموع الوقت، وذلك لا يكون إلا في الواجب الموسع أو ياتي به في مكان آخر لا يخاف من عدو كي يتقيه أو يوهم الاتيان بشكلهم مع أنه واقعا يأتي بما هو الحق عنده. فالاول يسمى بالمندوحة الطولية والثاني والثالث بالمندوحة العرضية، والطولية والعرضية في المقام بحسب الزمان وقد عرفت أن هذا التقسيم لا يأتي إلا في الواجب الموسع. إذا عرفت هذا فنقول: أما التفصيل الذي ذهب إليه المحقق الثاني (1) قدس سره فقد تقدم أنه لا وجه له أصلا لانه أي فرق بين أن يكون إتيان الواجب موافقا لهم مأذونا بالخصوص أو كان مأذونا بعنوان عام، لان المناط في كلتا الصورتين صيرورته واقعيا ثانويا ولذلك قلنا بالاجزاء وعدم الاحتياج إلى إعادته بعد ارتفاع التقية وحصول الامن، فان كان الاذن الخاص غير مشروط بعدم المندوحة فليكن الاذن بعنوان العام ايضا كذلك. أما تعليله للفرق بأن الاذن في التقية من جهة الاطلاق لا يقتضي ازيد من إظهار الموافقة مع الحاجة ففيه أن الاذن في العمل الذي يتقى به ان كان امرا بالامتثال بتلك الصورة فيكون فردا اضطراريا لطبيعة المأمور به فيكون مجزيا عن الاعادة بعد رفع الاضطرار كما هو الشأن في الاوامر الواقعية الثانوية فلا فرق بين الاذن بالخصوص وبين الاذن بالعموم

 

(هامش)

 

1. رسائل المحقق الكركي ج 2، ص 51. (*)

 

في ذلك. وأما لو كان الاذن في العمل لاجل الفرار والخلاص من شرهم فقط، فالاذن الخاص ايضا لا يثبت به الاجزاء، وعلى كل حال الفرق بين الاذن الخاص والعام لا أثر له في هذا المقام بل المناط كل المناط في المقام بعد الفراغ على أن الامر باتيان الواجب تقية مجز عن الاعادة والقضاء وهو أن هذا الامر سواء كان بعنوان خاص أو عام هل هو مقيد بعدم المندوحة وكونه مضطرا إلى ايجاده تقية أم لا بل مطلق من هذه الجهة. فان كان هناك دليل على التقييد يؤخذ به، وإلا فمقتضى عمومات التقية والاذن فيها كقوله عليه السلام التقية ديني ودين آبائي (1) وأمثالها مما تقدم ذكرها بناء على ما ذكرنا من أن المراد من التقية هو الفعل الذي يأتي بها تقية هو عدم اعتبار عدم المندوحة. نعم لابد من صدق التقية في الامر بها وهو أن يكون إتيان الواجب الواقعي الاولى مظنة الضرر، بحيث يخاف على نفسه أو ماله أو عرضه، وذلك لعدم تحقق موضوع الامر بها بدونه ولذلك لا بأس بالقول بالتفصيل بين ما يمكن له إيجاد المأمور به الاولى، بأن يوهمهم الموافقة من دونها وبين ما لا يمكن ذلك، ففي الصورة الاولى يقال بالاعتبار دون الثانية ولكن في الحقيقة هذا ليس تقييدا في التقية، بل محقق لموضوعها. وعلى كل حال هذه المطلقات تدل على مشروعية التقية وإن كان يمكن له أن يأتي بالفرد التام بانتقاله إلى مكان آخر أو بتأجيل الاتيان به إلى زمان آخر فليس جواز التقية ولا إجزاؤها عن الاعادة والقضاء مشروطا بعدم المندوحة العرضية أي التمكن من الاتيان بالفرد التام الاجزاء والشرائط الفاقد للموانع المأمور به بالامر

 

(هامش)

 

1. تقدمت في ص 51، رقم (5). (*)

 

الواقعي الاولي في عرض التقية بان ينتقل إلى مكان آخر لا خوف عليه كما إذا انتقل من السوق إلى داره التي ليس فيها احد يخاف منه ولا مشروطا بعدم المندوحة الطولية أي التمكن من الاتيان بالمأمور به الواقعي الاولى في الزمان المتأخر الذي يرتفع التقية فيه. فظهر مما ذكرنا أن القول الاول وهو عدم اعتبار عدم المندوحة مطلقا الذي ذهب إليه الشهيدان في البيان (1) والروض (2) هو الصحيح وهو المشهور ويدل على عدم اعتبار عدم المندوحة في جواز التقية واجزائها عن اتيان الواقع الاولي بعد ارتفاع الخوف وحصول الامن بعض الروايات: منها: ما رواه العياشي بسنده عن صفوان عن أبي الحسن عليه السلام في غسل اليدين، قلت له يرد الشعر؟ قال عليه السلام إن كان عنده آخر فعل (3)، والمراد بالآخر من يتقيه. تقريب الاستدلال بهذه الرواية على عدم اعتبار عدم المندوحة هو تجويزه للتقية بصرف وجود شخص من هؤلاء الذين يخاف منهم. وإن كان يمكن أن يتستر عنه أو ينتقل إلى مكان آخر ليس هناك من يخاف منه أو يوهمه الاتيان بمثل مذهبهم مع الاتيان بما هو الحق أو يؤجل العمل إلى زمان آخر لا موضوع للتقية فيه، ولا شك في إطلاق الرواية من هذه الجهات ولا مقيد له في البين فيجب الاخذ باطلاقه. ولا يخفى أن رد الشعر كناية عن الوضوء المنكوس لان رد الشعر من لوازمه، فالسؤال عن أن له رد الشعر، معناه أن له الوضوء المنكوس؟ فيجيب عليه السلام بالجواز بدون أي تقييد، وأما قوله عليه السلام إن كان عنده آخر، هو محقق موضوع التقية الا أنه تقييد فيها.

 

(هامش)

 

1. البيان ص 48. 2. روض الجنان ص 37. 3. تفسير العياشي ج 1، ص 300، 54. (*)

 

ومنها ما رواه مسعدة بن صدقة بن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: وفيه: وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانه جائز (1). فقوله عليه السلام فانه جائز، حكم بجواز كل شيء يعمل لاجل التقية، وهو مطلق غير مقيد بعدم المندوحة، بل ظاهره جواز كل شيء يعمل لمكان التقية وإن كان الفرار والتخلص منها ممكنا بأحد الوجوه المتقدمة. ومنها ما ورد في الحث والترغيب في حضور جماعتهم في الروايات الكثيرة كرواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال من صلى معهم في الصف الاول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله في الصف الاول (2). وغيرها مما هو بهذا المضمون. ولا شك في أن الروايات المطلقة الدالة على جواز التقية وإجراء ما يأتي به تقية عن الواجب الواقعي الاولى من دون تقييدها بعدم وجود المندوحة كثيرة فلا يحتاج إلى تطويل المقام بذكر تلك الاخبار والتكلم فيها، بل لا يمكن التقييد فيها بصورة عدم التمكن من ايجاد صلاته في جميع وقتها إلا في مكان يجب فيه التقية. فالانصاف أنه ليست التقية من قبيل سائر الموارد التي ينقلب التكليف فيها بواسطة الاضطرار، بل الامر فيها أوسع للمصالح التي فيها من حفظ النفوس والاموال والاعراض لشخصه ولجميع الشيعة، بل وللامام عليه السلام ولعله ذلك أفردوها بالذكر عن سائر أقسام الاضطرار.

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 2، ص 168، باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقصه، ح 1، وسائل الشيعة ج 11، ص 469، أبواب الامر والنهي، باب 25، ح 6. 2. الفقيه ج 1، ص 382، باب الجماعة وفضلها، ح 1125، وسائل الشيعة ج 5، ص 381، أبواب صلاة الجماعة، باب 5، ح 1. (*)

 

ولكن للاخبار المذكورة معارضات ظاهرها أن جواز التقية وإجزائها عن الواقع الاولى منوط بعدم وجود المندوحة. منها رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر المعروف بالبزنطي عن إبراهيم بن شيبة قال كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن الصلاة خلف من تولى أمير المؤمنين وهو يمسح على الخفين فكتب عليه السلام لا تصل خلف من يمسح على الخفين، فان جامعك واياهم موضع لا تجد بدا من الصلاة معهم، فاذن لنفسك وأقم فان سبقك إلى القراءة فسبح. (1) ومنها رواية معمر بن يحيى: كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية. (2) ومنها المرسل المحكي عن الفقه الرضوي عن العالم لا تصل خلف أحد إلا خلف رجلين أحدهما من تثق به وبدينه وورعه، والآخر من تتقي سيفه وسوطه وشره وبوائقه وشنعته، فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة. (3) ومنها ما عن دعائم الاسلام بسنده عن أبي جعفر عليه السلام لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامة إلا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم فصلوا في بيوتكم ثم صلوا معهم، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا. (4) ودلالة هذه الروايات على أن جواز التقية واجزائها عن الاعادة والقضاء بعد

 

(هامش)

 

1. تهذيب الاحكام ج 3، ص 276، ح 807، باب فضل المساجد والصلاة فيها، ح 127، وسائل الشيعة ج 5، ص 427، أبواب صلاة الجماعة، باب 33، ح 2. 2. مستدرك الوسائل ج 12، ص 258، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 2. 3. فقه الرضا ص 14، مستدرك الوسائل ج 6، ص 457، أبواب صلاة الجماعة، باب 5، ح 2. 4. دعائم الاسلام ج 1، ص 151، مستدرك الوسائل ج 6، ص 458، أبواب صلاة الجماعة، باب 6، ح 1. (*)

 

رفع التقية وحصول الامن مشروط بعدم المندوحة في كمال الوضوح. ولكن مقتضى الجمع عرفا بين هذه الاخبار والاخبار المتقدمة هو حمل هذه الاخبار على إمكان التخلص في نفس وقت التقية بدون التأجيل وتأخير امتثال الواجب إلى زمان ارتفاع التقية أو بدون انتقاله إلى مكان آخر للفرار عن التقية بل يمكن في نفس المكان والزمان أن يأتي بالواقع الاولى ففي مثل هذا المورد لا يجوز أن يتقي باتيان الواجب موافقا لهم. فاشتراط عدم المندوحة بهذا المعنى مما لا بد منه بل هو المشهور خصوصا إذا كان من الممكن ايهامهم انه يوافقهم ويأتي بالواجب على طبق مذهبهم مع أنه لا يأتي الا على طبق ما هو الحق عنده. ويشير إلى هذا المعنى بعض الروايات كرواية عبيد بن زرارة عن أبى عبد الله عليه السلام قال قلت اني أدخل المسجد وقد صليت فاصلي معهم فلا احتسب بتلك الصلاة؟ قال لا بأس وأما أنا فاصلي معهم واريهم أني أسجد وما أسجد (1). وخلاصة الكلام هو أن الشارع اهتم بامر التقية كثيرا للمصالح المهمة في نظره ولذلك أمر المؤمنين بمعاشرتهم والحضور في مجامعهم وعيادة مرضاهم كي لا يعرفوهم بالرفض فيؤذوهم، وبين لهم ما يترتب على فعلهم الذي هو موافق معهم من الاجر العظيم والثواب الجزيل كي يرغبوا في العمل موافقا لهم في الكم والكيف لاجل حفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم. فوسع عليهم في أمر التقية بما لم يوسع في غيرها من أنواع الاضطرار بل أمرهم أن يحضروا مساجدهم ويصلون معهم في الصف الاول قال عليه السلام من حضر صلاتهم وصلى معهم في الصف الاول كان كمن صلى مع رسول الله في الصف الاول،

 

(هامش)

 

1. تهذيب الاحكام ج 3، ص 249، ح 774، باب فضل المساجد والصلاة فيها، ح 94، وسائل الشيعة ج 5، 385، أبواب صلاة الجماعة، باب 6، ح 8. (*)

 

فلا يمكن حمل الاخبار الظاهرة في اعتبار عدم المندوحة على ظاهرها. بل لابد من رفع اليد عن ظاهرها والتصرف فيها بأحد التصرفات مثل حمل أذن لنفسك وأقم في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وصلوا في بيوتكم فيما رواه دعائم الاسلام وأمثال ذلك على الاستحباب، وإلا فالقول باعتبار عدم المندوحة مطلقا في جواز التقية ينافي ذلك الاهتمام الذي ظهر من طرف الشارع في أمر التقية. ففي رواية زيد الشحام: صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وإن استطعتم أن تكونوا الائمة والمؤذنين فافعلوا الحديث. (1) وفي رواية هشام الكندي عن أبي عبد الله عليه السلام قال فيها: صلوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم الحديث. (2) نعم الذي يصح أن يقال هو أنه لو كان متمكنا حال الاشتغال بايجاد الواجب موافقا لهم من تلبيس الامر عليهم وأيها مهم أنه يفعل بمثل فعلهم وإن كان لم يفعل كفعلهم بنحو لا يكون منافيا للتقية ولا يترتب عليه ضرر لا عاجلا ولا آجلا لا على نفسه ولا على غيره من طائفته، يجب عليه ذلك، ولا يجوز له أن يأتي بما هو خلاف الواقع الاولى. فعدم المندوحة بهذا المعنى معتبر في التقية لكن تقدم أن هذا محقق موضوع التقية لا أنه تقية أو تخصيص فيها، فالحق أن عدم المندوحة ليس معتبرا وقيدا في موضوع التقية.

 

(هامش)

 

1. الفقيه ج 1، ص 383، باب الجماعة وفضلها، ح 1128، وسائل الشيعة ج 5، ص 477، أبواب صلاة الجماعة، باب 57، ح 1. 2. الكافي ج 2، ص 219، باب التقية، ح 11، وسائل الشيعة ج 11، ص 471، أبواب الامر والنهي، باب 26، ح 2. (*)

 

المقام الثالث في أنه هل تترتب على ذلك الفعل أو الترك المخالفين للحق الاثار الشرعية التي رتبها الشارع عليهما لو صدرا عنه بميله واختياره أم لا، بل صدروهما من باب التقية يوجب رفع تلك الاثار. مثلا بناء على أن الفقاع خمر استصغره الناس وأن الخمر نجس يكون الفقاع نجسا فإذا استعمله تقية أو توضأ به تقية بناء على جواز الوضوء بالمايع المضاف عندهم، فهل استعماله يوجب رفع أثر تنجيسه فبعد ارتفاع الخوف وحصول الامن لا يجب غسل موضع ملاقاته للمشروط بالطهارة، أم لا لان التقية لا يرفع الاثر الوضعي المترتب على هذا الفعل، الظاهر هو ترتب أثره عليه وعدم ارتفاع أثر ذلك الفعل بواسطة التقية فينجس ملاقي الفقاع والنبيذ، وإن كان شربهما يجوز للتقية. نعم لو جوزنا الوضوء به تقية فلا يجب إعادة الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء نعم لو شرب الفقاع أو النبيذ تقية لا يحد، وذلك من جهة أن هذا الاثر اخذ في موضوعه التعمد والاختيار. فالضابط الكلي هو أنه لو كان موضوع الاثر في الفعل الذي يتقى به هو ذلك الفعل مطلقا، سواء كان مختارا أو مضطرا فيترتب عليه ذلك الاثر، وإلا لو كان مخصوصا بحال الاختيار فيترتب عليه إذا أتى به تقية، فتعمد الاكل والشرب في نهار رمضان موجب لبطلان صوم من وجب عليه الصوم وإن صدر منه تقية، وذلك من جهة أن بطلان الصوم أثر تعمد الاكل والشرب سواء كان مختارا أو مضطرا. ثم ان هاهنا امورا يجب التنبه عليها.

 

الاول لا فرق في مشروعية التقية بين أن يكون من يتقيه من المخالفين أو من غيرهم وذلك من جهة وحدة المناط والادلة فيهما، لان الدليل على مشروعية التقية إما قاعدة الضرر أو الحرج ومعلوم أن كون امتثال الواجب موجبا للضرر أو الحرج، لا فرق بين أن يكون الضرر والحرج من ناحية المخالفين أو من ناحية غيرهم من الطوائف المسلمة أو من ناحية الكفار، لان مفاد دليل نفي الضرر والحرج هو أن الحكم الذي يأتي من ناحيته الضرر أو الحرج منفي وغير مجعول في الاسلام. وذلك لما حققنا في محله أن دليل نفي الضرر والحرج حاكم على أدلة الاحكام الاولية بالحكومة الواقعية في جانب المحمول والمسألة نقحناها في قاعدتي اللاضرر و واللاحرج مفصلا وأما الآيات كقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة (1) وقوله تعالى إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان (2) وامثال ذلك فلا فرق بين كون من يتقى منه من الفرق المسلمة أو كان من الكفار. وأما مفاد الروايات فهو مطلق من يخاف من ضرره لانه قد تقدم أن التقية هي الوقاية وأصلها وقية كالوصية فهو الاتقاء، سواء كان من يتقى منه كافرا أو مسلما. وأما حكم العقل بلزوم حفظ النفس عن الهلكة فمعلوم أنه لا فرق بين أن يكون من يخاف منه على نفسه أو عرضه أو ماله في نظر العقل من الفرق المسلمة أو الكافرة، نعم الآيات الواردة في حكم التقية غالبا تكون في مورد الكفار كما أن الاخبار الواردة في هذا الموضوع غالبا تكون في مورد الخوف من السلاطين الجائرة أو ولاتهم ولكن العبرة بعموم الدليل وخصوصية المورد لا توجب تخصيص الدليل كما

 

(هامش)

 

1. آل عمران (3): 28. 2. النحل (16): 106. (*)

 

هو المحقق في الاصول، وإن كان الاحوط تخصيصها بالمخالفين لاحتمال الانصراف. الثاني أن ما ذكرنا من أن إتيان الواجب تقية موافقا لهم مجز عن الاتيان به ثانيا موافقا لما هو الحق كما إذا صلى متكتفا أو مع المسح على الخفين أو مع غسل الرجل بدل مسحها أو بدون بسم الله في القرائة وأمثال ذلك إنما يكون فيما إذا أتى بالعمل الناقص موافقا لهم. كما إذا صلى بأحد الوجوه المذكورة أو صام وأفطر قبل ذهاب الحمرة المشرقية أو قبل انتشارها فوق الرأس، أو حج ووقف في الموقفين موافقا لهم من دون استناده إلى امارة شرعية أو عقلية على رؤية هلال ذي الحجة في يوم كذا إذا كان شاكا لا أن يكون قاطعا بعدم كون الوقوف في يوم عرفة كما ذكرنا مفصلا. وذلك لما ذكرنا أنه أتى بما هو المأمور به بالامر الواقعي الثانوي وهو مجز كما حققنا المسألة في الاصول في مبحث الاجزاء. وأما لو ترك الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الاولى ولم يكن إتيان المأمور به بالامر الواقعي الثانوي في البين بل صرف ترك للاول لاجل التقية فلا وجه للاجزاء لانه لم يأت بشئ كي يكون مجزيا وإفطار الامام الصادق عليه السلام في الحيرة لاجل الخوف 66 عن أبي العباس العباسي الذي تقدم ذكره (1) الظاهر أنه من هذا القبيل، فلا معنى لان يكون مجزيا ولعله لاجل ذلك قال عليه السلام لان أفطر يوما من رمضان فأقضيه، فالقضاء في مثل هذا المورد لابد منه، ولا يدل هذا على عدم كون التقية مجزيا. الثالث أنه لا شك في ثبوت موضوع التقية مع الخوف الشخصي بمعنى أنه يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله لو ترك الموافقة معهم، إذ هذا هو القدر المتيقن من أدلة

 

(هامش)

 

1. تقدم ذكره في ص 61، رقم (1). (*)

 

التقية، وأما لو يعلم أن من تركه التقية والموافقة معهم لا يترتب عليه ضرر على نفسه أو ماله أو عرضه ولكن يوجب فعله المخالف للتقية معرفة المخالفين مذهب الشيعة وأنهم يطعنون بعد ذلك عليهم بأن مذهبهم كذا وكذا. والظاهر أن هذا أيضا يجب فيه التقية لان هذا ربما يكون موجبا لورود الضرر على نفس الامام أو على الطائفة جميعا ولعل هذا هو المراد من الاذاعة في أخبار التقية فجعل عليه السلام الاذاعة مقابل التقية وقد تقدم في ذيل رواية عبد الله بن أبي يعفور اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية (1) وكما في ذيل رواية حريز عن أبي عبد الله عليه السلام في تفسير قول الله عزوجل ولا تستوي الحسنة ولا السيئة (2) قال عليه السلام: الحسنة التقية والاسائة الاذاعة. (3) ويظهر من هذه الروايات أن حجبهم عن معرفة الاحكام المختصة بالمذهب وسترها عنهم مطلوب ولعله إلى هذا يشير قوله عليه السلام ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره (4) والحاصل أنه يفهم من الاخبار الكثيرة أنه ليس أمر التقية دائرا مدار الخوف الفعلي. الرابع إذا خالف التقية وأتى بالفعل المخالف معهم كما أنه لو صلى مرسلا من دون التكفير أو صلى على التربة الحسينية أو غير ذلك مما ينكرونها فهل يكون ذلك العمل باطلا لانه خلاف التقية ومنهي عنه، والنهي في العبادة يوجب الفساد أم لا

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 2، ص 218، باب التقية، ح 5، وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 7. 2. فصلت (41): 34. 3. الكافي ج 2، ص 218، باب التقية، ح 6، وسائل الشيعة ج 11، ص 461، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 9. 4. الامالي للطوسي ج 1، ص 299، وسائل الشيعة ج 11، ص 466، أبواب الامر والنهي، باب 24، ح 28. (*)

 

لانه أتى بما هو المأمور به واقعا بقصد القربة فحصل الامتثال والاجزاء عقلي وإن أثم بتركه للتقية، ولكنه خارج عن الصلاة فيكون من قبيل النظر إلى الاجنبية حال الصلاة حيث إنه لا هو جزء للصلاة المأمور بها ولا مركب معها تركيبا اتحاديا، ولا الائمة المعصومون وإن صدر منهم الفتوى بعض الاحيان على خلاف الحكم الواقعي الاولى كانوا ينبهون الطرف بعد ذلك بانها كانت على خلاف الواقع إما لاجل حفظ نفسه عليه السلام أو لاجل حفظ نفس المستفتي وقضية فتوى الامام الكاظم عليه السلام لعلي بن يقطين في مسألة تثليث غسلات الوضوء صريحة فيما ذكرناه. (1) والحاصل أن الفتوى على خلاف ما انزل الله للتقية امره مشكل ويختلف كثيرا من حيث المفيت ومقبولية رأيه عند العموم وعدمها، ومن حيث إمكان اخبار الناس التابعين له أن هذه الفتوى لم تكن حكما واقعيا وإنما صدرت تقية، وعدم امكانه ومن حيث أهمية المفتى به، ومن حيث كونه موجبا لهلاك الانفس وعدمه. ففي بعض صور المسألة لا يجوز له الافتاء، وإن كان يعلم أنه يقتل لو ترك ولم

 

(هامش)

 

1. الارشاد للمفيد ص 294، وسائل الشيعة ج 1، ص 312، أبواب الوضوء، باب 32، ح 3. (*)

 

يفت ولذلك ترى في الاخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة اصرارهم عليهم السلام بان ما خالف كتاب الله أو قولهم ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف أو ب‍ اطل أو اطرحه على الجدار (1)، وأمثال ذلك أو قولهم في الخبرين المتعارضين: خذ بما خالف العامة (2) كل ذلك لاجل أن لا يتوهم أحد أن كل ما تضمنه الاخبار الصادرة عنهم عليهم السلام بصدد بيان الاحكام الواقعية، بل جملة كثيرة منها اعطيت من جراب النورة حسب اصطلاحهم وكان الرواة الفقهاء من أصحابهم عليهم السلام يعرفون أن هذا الذي قال عليه السلام لهذا الراوي هل هو حكم واقعي أولى، أو صدر تقية، ولذلك كانوا يقولون للراوي بعد ما يسمعون روايته: اعطيت من جراب النورة. هذا حال التقية في الفتوى. وأما التقية في الحكم مثل أن يحكم على خلاف ما انزل الله خوفا فهل يجوز أم لا؟ أما لو كان الحكم موجبا لقتل المسلم فلا يجوز قطعا ففي الكافي والتهذيب: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية (3). وأما فيما عداه فان كان الضرر الذي يخاف منه هو أنه يقتل لو لم يحكم فيكون حاله حال الفتوى بغير ما أنزل الله فيه. وفيه صور كثيرة من حيث أهمية ما يحكم به أو ترتب الفساد عليه، ففي بعضها أيضا لا يجوز قطعا وعلى كل حال المسألة مشكل جدا وأعاذنا الله منه، وقد قال الله

 

(هامش)

 

1. راجع: وسائل الشيعة ج 18، ص 75 أبواب صفات القاضي، باب 9 باب وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة وكيفية العمل بها. 2. الاحتجاج ص 195. 3. الكافي ج 2، ص 220، باب التقية، ح 16، تهذيب الاحكام ج 6، ص 172، ح 335، باب النوادر، ح 13، وسائل الشيعة ج 11، ص 483، أبواب الامر والنهي، باب 31، ح 1 و 2. (*)

 

عزوجل في كتابه العزيز: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون) (1) ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون) (2) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون) (3). وأما إن لم يكن الضرر الذي يخاف منه هو القتل، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع الضرر عن نفسه باضرار الغير. والله ولي التوفيق والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

 

(هامش)

 

1. المائدة (5): 44. 2. المائدة (5): 50. 3. المائدة (5): 52. (*)