قاعدة الزعيم غارم

57 - قاعدة الزعيم غارم 

 

قاعدة الزعيم غارم * ومن جملة القواعد الفقهية قاعدة الزعيم غارم . وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الأولى في مدركها وهو أمور: الأول: قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) (1) ولا شك في أن ظاهر الآية الشريفة أن الزعيم والمتعهد بمال، عليه أن يعطى ذلك المال للذي تعهد له. وأيضا قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم) (2) فإن ظاهر الآية هو الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله بالسؤال عنهم أن أيهم زعيم بإثبات ما يدعون من تساوي حال المشركين مع المسلمين في الدنيا والآخرة، فإنهم كانوا يدعون أنه على فرض صحة ما يدعي محمد صلى الله عليه وآله من أنا نبعث، لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، أي إنا أعزاء وهم أذلاء، فردهم الله تعالى بقوله مخاطبا إلى النبي صلى الله عليه وآله (سلهم أيهم بذلك زعيم) أي كفيل بإثبات صحة ذلك، أي إدعائهم ادعاء باطل لا يقدر أحد منهم إثبات

 

(هامش)

 

. الحق المبين ص 85، خزائن الاحكام ش 17، قوائد فقه (شهابي) ص 93، القواعد ص 137، قواعد فقه (محقق داماد) ج 2، ص 155، قواعد فقهى ص 67. 1. يوسف (12): 72. 2. القم (68): 40. (*)

 

ذلك، فتدل الآية بالالتزام على أن الزعيم والكفيل أن يخرج من عهدة ما تعهد به ويفى به، فتأمل. الثاني: قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم في خطبته يوم فتح مكة حيث قال: العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم . (1) ول ينافى ذلك ما رواه حسين بن خالد عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام جعلت فداك قول الناس: الضامن غارم، قال فقال عليه السلام: ليس على الضامن غرم، الغرم على من أكل المال (2). وذلك لأن المراد منه أن الخسارة الواقعية بالأخرة على من أكل المال والضمان ينتهي إليه، لأن الضامن وإن كان ذمته تشتغل بالمال للمضمون له، ولكن ليس اشتغال ذمته بلا عوض ومجانا، بل يكون بعوض اشتغال ذمة المضمون عنه له بذلك المقدار، فالغرم والخسارة الواقعية يكون على المضمون عنه ومن هو المديون واقعا وعبر عنه عليه السلام بمن أكل المال. الثالث: الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام، وهي كثيرة: منها: ما رواه فضيل وعبيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما حضر محمد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم، فقال لهم: قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعلى دين فأحب أن تقضوه عني. فقال على بن الحسين عليه السلام: ثلث دينك على. ثم سكت وسكتوا، فقال على بن الحسين عليه السلام: علي دينك كله. ثم قال علي بن الحسين عليه السلام: أم

 

(هامش)

 

1. سنن الترمذي ج 2، ص 368، باب 39، ح 1285، سنن أبي داود ج 3، ص 297، باب تضمين العارية، ح 3565، سنن ابن ماجه ج 2، ص 802، باب العارية، ح 2398، مستدرك الوسائل ج 13، ص 435، أبواب الضمان، باب 1، ح 2. 2. الكافي ج 5، ص 140، باب اللقطة والضالة، ح 5، الفقيه ج 3، ص 96، باب الكفالة، ح 3402، تهذيب الأحكام ج 6، ص 209، ح 485، باب الكفالات والضمانات، ح 2، وسائل الشيعة ج 13، ص 149، أبواب الضمان، باب 1، ح 1. (*)

 

أنه لم يمنعني أن أضمنه أولا إلا كراهة أن يقولوا: سبقن (1) إلى غير ذلك من الأخبار التي سنذكر بعضها في القسم الأول من أقسام الضمان بالمعنى الأعم، وهو الضمان بالمعنى الأخص إن شاء الله تعالى. الرابع: الإجماع على أن من تعهد بمال أو بنفس يجب عليه الوفاء بما تعهد، وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الإجماع والإشكال عليه، فلا نعيد. الخامس: ما ذكرنا في قاعدة وجوب الوفاء بما التزم به، وأن بناء العقلاء على لؤم من يخالف التزامه وتوبيخ من لم يعمل بما تعهد، والشارع أيضا ألزم في عالم التشريع لزوم العمل ووجوب الوفاء بالتزاماته، وقد أقمنا على ذلك البرهان من الأدلة الشرعية. ولا شك في أن الزعامة والكفالة لا تحصل إلا بالتعهد والالتزام بمال أو نفس، فإذا حصل مثل هذا التعهد والالتزام يكون مشمولا لأدلة وجوب الوفاء، فالشرع والعقل يحكمان بلزوم العمل على طبق تعهده والتزامه، غاية الأمر مع مراعات ما اعتبره الشارع في كل مورد في صحة ما التزم به وتعهد عليه، وأن لا يكون من الالتزامات الباطلة، كالالتزام بفعل حرام أو ترك واجب. وقد تقدم كل ذلك في بعض القواعد. الجهة الثانية في شرح مفادها وبيان المراد منها. أقول: ظاهر هذه الجملة - أي جملة الزعيم غارم التي في الحديث الشريف - هو أنه يجب على الزعيم - أي الكفيل والمتعهد، سواء كان متعهدا بالمال، أو كان متعهدا بالنفس والبدن - أداء ما تعهد به فإن كان مالا يؤديه وإن كان نفسا يسلمه، أو

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 8، ص 332، ح 514، وسائل الشيعة ج 13، ص 151، أبواب الضمان، باب 3، ح 1. (*)

 

يغرم ما عليه من مال أو حق على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى. وذلك من جهة أن الجملة وإن كانت بظاهرها جملة خبرية، ولكن حيث انه صلى الله عليه وآله في مقام إنشاء الحكم فاستعمل الجملة الخبري في الإنشاء. وقد بينا في الأصول أن الجملة الخبرية التي استعملت في مقام الإنشاء إن كانت موجبة تكون آكد في الوجوب من الجملة الطلبية الإنشائية، وإن كانت نافية تكون آكد في التحريم. فقوله صلى الله عليه وآله في الجمل الأربع التي في الحديث الشريف وهي: العارية مؤداة والمنحة مردودة، والدين مقضى وهذه الجملة، أي جملة الزعيم غارم وإن كان كل واحد منها بصورة الجملة الخبرية، ولكن حيث أنه صلى الله عليه وآله في مقام الحكم فكلها دالة على الوجوب. فالحديث يدل على وجوب أداء الزعيم ما تعهد به، وذلك من جهة أن الزعيم بمعنى الكفيل والغارم هو الضامن، كما ذكره في نهاية ابن أثير (1). والضمان بالمعنى الأعم كون ذمة الشخص مشغولة لآخر بمال أو نفس، وهو ثلاثة أقسام. الأول: الضمان بالمعنى الأخص. وهو عند الفقهاء عبارة عن التعهد بمال ممن ليست ذمته مشغولة لذلك الضامن بمثله. الثاني: الحوالة. وهي عبارة عن التعهد بمال ممن ذمته مشغولة له بمثل م يتعهد. وهذا بناء على عدم صحة الحوالة على البرئ، وإلا يكون هذا التعريف أخص منه كما هو واضح. الثالث: الكفالة. وهي عبارة عن التعهد بنفس للآخر. فالبحث في هذه القاعدة يكون في ثلاث مقامات:

 

(هامش)

 

1. النهاية ج 3، ص 363 (غرم). (*)

 

المقام الأول في الضمان بالمعنى الأخص وهو التعهد بمال في ذمة الغير من ذلك الغير من دون أن يكون له في ذمته مثله، وإلا لو كان في ذمة المضمون عنه للضامن مثل م ضمنه يكون حوالة لا ضمانا في مصطلح الفقهاء، فيسمى المتعهد لذلك المال الذي في ذمة غيره ضامنا، وذلك الغير الذي على ذمته مال - أي المديون - مضمونا عنه، كما أنه يسمى الدائن مضمونا له. وقد أثبتنا شرعيته بالأدلة المتقدمة التي كانت تشمل هذا الضمان بالمعنى الأخص وقسميه أي الحوالة والكفالة، فلا يحتاج إلى الإعادة. والضمان بهذ المعنى عندنا ناقل، أي ينقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، فيبرأ المضمون عنه ويسقط ما في ذمته وتشتغل ذمة الضامن بالدين. وأما مخالفونا فيقولون بأنه ل تبرأ ذمة المضمون عنه بل تكون ذمته وذمة الضامن كلاهما مشغولتان، فيكون المضمون له مخيرا في مطالبة أي واحد منهما، لاشتغال ذمة كليهما له، ولذلك قالوا باشتقاق الضمان من الضم. ويردهم - مضافا إلى صعوبة تصوير ضمانين لمال واحد بأن يكون كل واحد من الضامنين ضامنا لذلك المال في عرض ضمان الآخر، ولا يتوهم انتقاض ذلك بالقول بتعدد الضمان في باب تعاقب الأيادي، فإنه ضمان طولي لا عرضي، ولذلك قرار الضمان على من بيده التلف. والتفصيل ذكرناه في بعض القواعد المتقدمة من هذا الكتاب - ضمان أمير المؤمنين عليه السلام وأبي قتادة عن الميت الذي كان مديونا بدرهمين، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: صلوا على صاحبكم فقال على عليه السلام هما على يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه وآله فصلى عليه، ثم أقبل صلى الله عليه وآله على علي عليه السلام،

 

فقال صلى الله عليه وآله: جزاك الله عن الإسلام خيرا وفك رهانك كما فككت رهان أخيك (1). وأما ضمان أبي قتادة: فعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يصلي على رجل عليه دين، فأتى بجنازة فقال صلى الله عليه وآله: هل على صاحبكم دين؟ فقالوا: نعم ديناران. فقال صلى الله عليه وآله: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، قال: فصلى عليه (2). فقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين بعد أن ضمن عن الميت بدينه فك رهانك كما فككت رهان أخيك دليل قاطع على أن الضمان يوجب براءة ذمة المضمون عنه وسقوط الدين عن ذمته، وكذ صلاته صلى الله عليه وآله بعد ضمان أبي قتادة يدل على براءة ذمة ذلك الميت، وإل فأي فرق بين قبل ضمانه فيمتنع صلى الله عليه وآله عن الصلاة عليه، وبين بعد ضمانه فيصلي عليه مع اشتغال ذمة الميت في كلتا الحالتين. وأما حديث كون الضمان اشتقاقه من الضم - بتشديد الميم - فكلام شعري لا يليق بالذكر والإشكال عليه. فالحق هو أن ذمة المضمون عنه تبرأ بواسطة الضمان، وينتقل الدين إلى ذمة الضامن، وهذا معنى كون الضمان ناقلا فالقول بأن الضمان ضم ذمة إلى ذمة بحيث يكون الدائن مخيرا بين الرجوع إلى الضامن وبين الرجوع إلى المديون لا أساس له. ثم إنه لا شك في أن الضمان بهذ المعنى لا بد وأن يكون بأنشاء الضامن تعهده، ولذلك عرفوه كما في الشرائع (3) والقواعد (4) وغيرهما بأنه عقد شرع للتعهد بمال، إلى آخره. فالمراد بهذا التعريف أن الضمان الذي هو عبارة عن التعهد المذكور يحصل بهذا

 

(هامش)

 

1. الخلاف ج 2، ص 79، وسائل الشيعة ج 13، ص 151، أبواب الضمان، باب 3، ح 2. 2. الخلاف ج 2، ص 80، وسائل الشيعة ج 13، ص 151، أبواب الضمان، باب 3، ح 3. 3. شرائع الإسلام ج 2، ص 107. 4. قواعد الأحكام ج 1، ص 77. (*)

 

ومسبب عنه، لا أنه نفس العقد أي الإيجاب والقبول، كما هو الحال في سائر عناوين المعاملات حيث أنها عبارة عن المسببات بتلك الأسباب. فالبيع مثلا عبارة عن النقل والانتقال الحاصل من قول البايع بعت وعن قول المشتري اشتريت أو قوله قبلت . وعلى كل حال يحتاج إلى صيغة ينشأ بها ذلك التعهد، ويلزم أن يكون اللفظ صريحا في إفادته ذلك التعهد. وهكذا الأمر في سائر العقود بالنسبة إلى سائر العناوين، مثل أنا ضامن أو ضمنت لك أو مالك فلان على ما في ذمته . وقد ذكر في التذكرة ألفاظا كثيرة لإنشاء الضمان، مثل تكفلت أو تحملت أو تقلدت ما على فلان أو التزمت بما على فلان وأمثال ذلك (1). ولا يقع بألفاظ غير الصريحة كما هو الحال في سائر العقود، كما إذا قيل للدائن أنا أعطي أو أؤدي ما على فلان فهذ بالوعد أشبه، وليس صريحا في إنشاء تعهده بكونه - أي المال - في ذمته، وأيضا لا يكفي في حصول الضمان الكتابة لعدم صراحته في ذلك، وكذلك الإشارة من القادر على النطق. وخلاصة الكلام: أنه ليس للضمان خصوصية من هذه الجهة، بل حاله حال سائر العقود وقال في التذكرة: لو قيل له: ضمنت عن فلان أو تحملت عنه دينه ؟ فقال: نعم كفى في الإيجاب، لأن نعم في تقدير إعادة المسؤول عنه (2) وهو حسن. إذا عرفت أن الضمان بالمعنى الأخص عقد يحتاج إلى صيغة كما شرحناه فها هنا أبحاث. [ البحث ] الأول: في الضامن. ويشترط فيه أن يكون مكلفا، أي بالغا، عاقلا،

 

(هامش)

 

1. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 85. 2. المصدر. (*)

 

رشيدا، جائز التصرف، مختارا. أما الأولان لأنه لا يجوز أمر الصبي حتى يحتلم، وأمر المجنون حتى يفيق. وأما الثالث فلأن السفيه ممنوع عن التصرفات المالية ومحجور عليه. وأما الرابع فلأنه لو لم يكن جائزا التصرف لفلس أو غير ذلك لم تنفذ معاملاته شرع. وأما الخامس فلأن من شروط صحة المعاملات أن يكون مختارا ولا يكون مكرها. ومما ذكرن ظهر أنه لا يصح ضمان العبد إلا بإذن مولاه، وذلك من جهة أنه ممنوع عن مثل هذه التصرفات بدون إذن مولاه، لقوله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء). (1) وأيضا ظهر مما ذكرنا عدم صحة ضمان كل من ليس أهلا للتبرع، كالساهي والغافل والسكران إن كان سكره غالبا على عقله، وكذلك الهاذل الذي لا يمكن تشخيص مراده من ظهور كلامه. وهذه الأمور التي ذكرناها كلها يرجع إلى أحد أمور ثلاثة: إم إلى عدم حجية ظهور كلامه في تشخيص مراده، وإما إلى ممنوعيته عن التصرف شرعا، أو إلى عدم نفوذ تصرفاته كالمكره. ويشترط في الضامن الملاءة بالمال الذي ضمنه وقت الضمان، وإلا لو كان معسرا ذلك الوقت ولم يعلم المضمون له بذلك فله الخيار، لنفي الضرر لأن الالتزام بمثل هذه المعاملة ضرري. نعم لو كان عالما بإعساره حال الضمان ورضى مع ذلك بضمانه، فليس له الخيار

 

(هامش)

 

1. النحل (16): 75. (*)

 

ولزمه الضمان، لأن شرط الإيسار حال الضمان لرعاية حال المضون له كي لا يقع في الضرر ولا يتلف ماله، فإذا رضى هو بضمانه حتى مع الإعسار حال الضمان فلا مانع من صحته، لأنه هو بنفسه أقدم على الإتلاف المحتمل أو المظنون، كما أنه لو كان عالما حين الضمان بأنه مماطل كان الأمر أيضا كذلك، لأن رضاءه بضمانه مع علمه بأنه مماطل أيض إقدام منه على الإتلاف المحتمل أو المظنون لما له، فليس له الخيار ويلزمه الضمان في الصورتين. ولو تجدد على الضامن الإعسار بعد ما كان موسرا حال الضمان، فكذلك أيض ليس للمضمون له أن يفسخ، وذلك من جهة أن الضمان عقد لازم وقع عن رضائه بل وعن قبوله، فرضاء المضمون له وقبوله وان كان شرطا في صحة العقد وتماميته إلا أنهما حصل على الفرض، فوقع العقد صحيحا، ولا دليل على أن تجدد الإعسار من موجبات الفسخ. وإطلاقات أدلة اللزوم كافية في إثبات اللزوم فيما نحن فيه، وعلى فرض وصول النوبة إلى الأصول العملية فاستصحاب اللزوم يجري ولا مانع منه. ولو كان حال الضمان معسر ولم يعلم المضمون له بذلك فثبت له الخيار - كما تقدم شرحه - ثم أيسر بعد ذلك ل يرتفع الخيار، لعدم الدليل على أن تجدد الإيسار بعد ما كان معسرا حال الضمان من موجبات سقوط الخيار وأسبابه. مضافا إلى عدم مانع من جريان استصحاب بقاء الخيار لو وصل النوبة إليه. ثم إنه يجوز اشتراط الخيار في عقد الضمان لكل واحد من الطرفين، أي الضامن والمضمون له، وذلك لأن لزوم الضمان ليس حكميا مثل النكاح كي لا يجوز اشتراط الخيار، فيشمله قوله صلى الله عليه وآله كل شرط جائز إلا ما خالف كتاب الله (1) فيشمله عموم

 

(هامش)

 

1. وسائل الشيعة ج 12، ص 352، أبواب الخيار، باب 6. (*)

 

المؤمنون عند شروطهم (1) فيجب الوفاء به. فرع: هل يجوز ضمان الزوجة بدون إذن زوجها أم لا؟ ربما يقال بعدم الجواز، لمزاحمته مع حق الزوج في بعض الأحيان كما لو أفضى ضمانها إلى حبسها لمطل أو جهة أخرى. ولكن لو قلنا بأن أمثال هذه الاحتمالات يكون مانعا عن ضمانها فتمنع عن جميع المعاوضات، لتطرق هذه الاحتمالات ووجود هذ المحذور في جميعها، ولا يمكن القول به. ثم لا يخفى أن المنع في العبد وفي الزوجة - لو قيل به - يرتفع بإذن السيد والزوج، بخلاف الصبي والمجنون فلا يرتفع المنع فيهم بإذن الولي. والفرق بين هذين وذين في كمال الوضوح، فإن المنع في العبد والزوجة من جهة حق الغير، وإلا فهما قابلان لذلك التعهد الذي نسميه بالضمان، بخلاف الطفل والمجنون فإن المحل فيهما غير قابل، لأنهما مسلوبا العبارة بحكم الشرع، وعلى كل حال صحة ضمان الزوجة وإن كان بدون إذن الزوج إجماعي عندنا. ثم إن ها هنا فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في ضمان العبد بدون إذن سيده أو مع إذنه، وصور وشقوق تركنا ذكره لعدم الاحتياج إليها، بل عدم وجود موضوع لها في هذه الأزمان. البحث الثاني: في شرائط صحة الضمان: فمنها: التنجيز وعدم تعليقه على أمر. فإن قال: أنا ضامن لما على فلان إن لم يؤده هو، أو إن رضى بذلك، أو إن فعل كذا وأمثال ذلك، كما أن المتعارف عند الناس الآن -

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 5، ص 404، باب الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز منه، ح 8، تهذيب الأحكام ج 7، ص 371، ح 1503، باب المهور والأجور و...، ح 66، الاستبصار ج 3، ص 232، ح 835، باب من عقد على امرأة وشرط لها...، ح 4، وسائل الشيعة ج 15، ص 30، أبواب المهور، باب 20، ح 4. (*)

 

اعطه نسيئة وأنا ضامن إن لم يف هو إلى زمان كذا، أو إن لم يف أصلا من غير تقييده بزمان - فجميع هذه الصور باطلة، وليس الضامن فيها ملزما بأداء الدين. وذلك للإجماع على بطلان التعليق في العقود، مضاما إلى أن الضمان موجب لنقل الدين من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن إجماعا عندنا، بل هو حقيقة الضمان. وهذا المعنى لا يمكن حصوله مع التعليق، ولأنه من الممكن عدم حصول المعلق عليه أصلا فلا يحصل ذلك النقل أصلا، وهذا مناف لحقيقة الضمان. وبهذا الوجه نقول بعدم جواز التعليق في الإبراء أيض. ومنها: أن يكون الدين الذي يضمنه ثابتا في ذمة المضمون عنه، سواء كان مستقرا أو متزلزلا، لأنه في كلتا الصورتين ثابت على ذمة المضمون عنه شيء قابل لأن ينتقل بالضمان إلى ذمة الضامن. وأما لو لم يكن حال الضمان شيء ثابت على ذمة المضمون عنه فالضمان غير معقول. وهذا هو المراد من قولهم: ضمان ما لم يجب - أي ضمان ما لم يثبت - على ذمة المضمون عنه باطل، لأنه غير معقول، ويكون من نقل المعدوم الذي هو محال. ومنها: تميز الدين، والمضمون له، والمضمون عنه. فلو كان لشخص دينان فقال أنا ضامن لأحد دينيك لا يصح، أو كان لشخصين لكل واحد منهما دين فقال أنا ضامن لدين أحدكما ل يصح أيضا، وكذلك لو كان المديون مرددا بين الشخصين فيقول أنا ضامن لدين الديون منكما، كل ذلك من جهة عدم تحقق حقيقة الضمان مع الإبهام والترديد في نفس الدين، أو المضمون له، أو المضمون عنه. نعم لو كان الدين معينا في الواقع ولم يعلم الضامن جنسه وأنه من النقود أو من العروض مثلا، أو لم يعلم مقداره وأنه دينار أو ديناران مثلا ويضمن أنه على ما لزيد على عمر ومثلا، فهذا الضمان صحيح من جهة أنه ينقل في عالم الاعتبار ما على ذمة عمرو لزيد إلى ذمته والمفروض أن له واقع معلوم عند زيد وعمرو أو عند أحدهما أو

 

مكتوب في الدفتر، فلا بأس بمثل هذا الضمان، لتمامية أركانه وشمول قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم له . هذا بالنسبة إلى نفس الدين. وأما تميز المضمون له فمن جهة كونه طرف العقد بناء على أن الضمان من العقود، ويحتاج بعد وقوع الإيجاب من طرف الضامن إلى القبول من طرف المضمون له كما تقدم، ومع الترديد والإبهام لا يمكن ذلك. ولكن أنت خبير بأنه لو كان المضمون له معينا في الواقع، وحاضرا في المجلس وإن كان لا يعرفه الضامن، فيقول الضامن: دين هذا الرجل سواء كان حيا أو ميتا على، فيقول المضمون له: قبلت، كان هذا الضمان صحيحا ولا إشكال فيه، من جهة تمامية أركانه، وشمول قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم له . فرع: وهو أن الضمان المؤجل للدين الحال جائز إجماعا وبلا خلاف، كما ادعاه صاحب الجواهر، (1) وحكى الإجماع على ذلك عن المسالك، (2) ومحكى التنقيح (3)، وإيضاح النافع (4) وغيرها. وقال في جامع المقاصد في هذا الفرع أي ضمان المؤجل للدين الحال: ظاهرهم أن صحة هذا بالإجماع (5). وصور هذه المسألة: إحديها: هذه المذكورة، أي: ضمان الدين الحال مؤجلا، وهو أن يقول الضامن: أنا ضامن لما في ذمة زيد الذي حل أجله بشرط أن أعطية بعد شهر مثل. الثانية: عكس هذا، وهو أن يضمن الدين المؤجل حالا بأن يقول للمضمون له:

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 129. 2. المسالك ج 1، ص 253. 3. تنقيح الرائع ج 2، ص 188. 4. حكى عنه في جواهر الكلام ج 26، ص 129. 5. جامع المقاصد ج 5، ص 310. (*)

 

أنا ضامن لمالك في ذمة زيد أن يعطى بعد شهر بأن اعطيك الآن وحالا. الثالثة: أن يضمن الدين المؤجل مؤجلا بأزيد من أجله أو بأنقص من أجله. أما ضمان دين المؤجل مؤجل بأجل، أو ضمان الدين الحال حالا فصحتهما واضحة وليس محل الكلام كي يبحث عنها. نعم ادعى بعض بأنه لا بد في الضمان من الأجل، سواء كان الدين حالا أو مؤجلا، بل ادعى بعضهم الإجماع على ذلك. ولكن هذا قول بلا دليل. أما الصورة الأولى من الصور الثلاث التي يمكن البحث عنها، فمضافا إلى أن صحتها إجماعي، يدل عليها عموم أدلة الضمان كقوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم إذ لا شك في صدق الزعيم على مثل هذ الشخص الذي يضمن الدين الحال مؤجلا. ولا يتوهم أنه تعليق في الضمان، لأن الضمان فعلى وبتى بدون قيد وشرط، وإنما المقيد أداء المضمون بأجل. وأما الصورة الثانية: أي ضمان الدين المؤجل حالا، فأيضا يشملها اطلاقات أدلة الضمان كقوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم . ولا إشكال فيه إلا ما تخيل بعض من اشتراط الضمان بكونه مؤجلا وأن الضمان الحال لا معنى له، وادعى بعضهم الإجماع على لزوم كون الضمان مؤجل بأجل معلوم وإن كان الأجل قليلا. ولكن عرفت أنه قول بلا دليل. وأما الصورة الثالثة: أي ضمان الدين المؤجل مؤجلا بأجله أو أنقص، أو أزيد من أجله، فلا وجه لعدم جوازه. وادعى في الجواهر عدم الإشكال والخلاف فيه (1).

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 133. (*)

 

وأما ما يتوهم من أن حقيقة الضمان عبارة عن نقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن بجميع خصوصياته ومن دون تغيير فيه، فلو كان في ذمة المضمون حالا يأتي إلى ذمة الضامن حالا، وإن كان مؤجلا يأتي مؤجلا كما هو، من دون زيادة أو نقيصة في أجله. ففيه: أن حقيقة الضمان هو التعهد بالمال الذي على عهدة المضمون عنه، وأما تقييد أدائه بكونه حالا أو مؤجلا بنفس أجل الدين الذي كان على عهدة المديون أي المضمون عنه أو بالأزيد أو بالأنقص منه، فهذا خارج عن حقيقة الضمان. وهذه القيود تابعة للشروط الواقعة في عقد الضمان برضاية الطرفين، والمؤمنون عند شروطهم. وليس هذه الشروط تعليق في الضمان كي يكون باطلا، كما تقدم بيانه. وفي جميع هذه الصور تبر ذمة المضمون عنه، وليس للدائن المطالبة عنه، لفراغ ذمته بعد تحقق الضمان صحيحا تام الأركان واجدا للشرائط، وينتقل المال إلى ذمة الضامن، ويكون عليه الأداء ولو كان الضامن ضمنه مؤجلا، سواء كان الدين حالا أم موجلا ليس للمضمون له مطالبة الضامن قبل حلول الأجل الذي رضيا به. نعم لو مات الضامن حيث أن الدين المؤجل يحل بموت المديون وإن كان موته قبل حلول أجل الدين ويتعلق بتركته، يؤخذ من تركة الضامن، ويرجع ورثة الضامن على المضمون عنه بما أخذ من تركة مورثهم. فرع: يجوز رجوع الضامن على المضمون عنه فيما أداه إذا كان الضمان بإذنه أو بطلبه، وأما إذا لم يكن بإذنه أو بطلبه، بل تبرع بالضمان من غير طلبه أو إذنه فلا رجوع. إن قلت: قاعدة احترام مال المسلم كاحترام دمه تدل على أن الضامن يستحق على المضمون عنه مثل استحقاق المضمون له عليه.

 

قلنا: هو الذي أتلف ماله إما لغرض دنيوي أو عوض أخروي بإقدامه، وقاعدة الإقدام حاكمة على قاعدة الاحترام، وإلا ينسد باب الهبات والعطايا والإباحات. والمناط في جواز الرجوع وعدمه هو كون الضمان بإذنه أو بطلبه، وأما الأداء فلا تأثير له في الرجوع، سواء كان بإذنه أو لم يكن بإذنه. فإذا كان بإذنه الضمان فيستحق الضامن على المضمون عنه، وإن لم يكن الأداء بإذنه بل وإن منع عن الأداء، لأنه بالضمان بإذنه اشتغلت ذمة الضامن فيجب عليه تفريغ ذمته، فلا تأثير لمنع المضمون عنه عن الأداء. وأما إن لم يكن الضمان بإذنه فلا موجب لاشتغال ذمته وإن قال المديون أد ديني، لا أن يصرح المضمون عنه بأنه أد ديني عني وارجع به على، لجريان قاعدة الاحترام من دون وجود حاكم عليه، لأنه يقدم على الأداء بقصد الرجوع وأمر الطرف بالرجوع عليه. هذا، مضافا إلى عدم خلاف من الأصحاب فيما ذكرنا، بل دعوى الإجماع من صاحب الجواهر قدس سره بقسميه في الصورتين (1)، أي الرجوع مع الإذن في الضمان وإن كان أداؤه بغير إذن المضمون عنه بل ومع منعه عن الأداء، وعدم جواز الرجوع وإن كان الأداء بإذنه، لا فيما استثناه من الأمر بالأداء مع التصريح بالرجوع من طرف المضمون عنه. ثم إن م قلنا من جواز رجوع الضامن على المضمون عنه هو فيما إذا حل أجل دينه، وإلا لو استعجل الضامن وأدى الدين قبل حلول أجله لا يستحق على المضمون عنه قبل حلول أجل دينه، لا بتصريح من قبل المضمون عنه بأن يقول: أد ديني حالا قبل حلول الأجل وارجع به على، فهذا كأنه قرار ومواضعه جديدة بين الضامن والمضمون عنه.

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 133 - 134. (*)

 

هذا فيما إذا كان الدين مؤجلا والضامن ضمنه حالا، أو أسرع في الأداء قبل حلول أجل الدين. وأما لو كان الدين حالا وضمنه مؤجلا، فادى الضمان قبل حلول أجل الذي ضمنه، فله الرجوع على المضمون عنه، لأن هذا التأجيل جاء من قبل الضمان، وإلا فالمضمون له كان يستحق على المضمون عنه من وقت الضمان على الفرض. والتأجيل في الضمان لا يحدث حقا للمضمون عنه، ولا يسقط حق المضمون عنه، ولا يسقط حق المضمون له، وهو كون دينه حالا غاية الأمر بالنسبة إلى الضمان وقع تأجيل، لا أن الدين تغير عن كونه حالا وصار مؤجلا. وإن شئت قلت: إن التأجيل ليس للدين وإنما الأجل للضمان، وإلا فالدين باق على ما كان، فالمديون - أي المضمون عنه - يلزمه أداء الدين من أول وقت وقوع الضمان، فلو أدى الضامن قبل حلول أجل ضمانه وكان الضمان بإذن المضمون عنه يستحق الضامن عليه من حين الأداء، لأنه يكون بمنزلة المضمون له، فيجوز له مطالبة المضمون عنه من ذلك الحين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدين المؤجل لو ضمنه بأكثر من أجله، فلو أدى الضامن بعد حلول أجل الدين ولكن قبل الوصول إلى آخر الأجل الذي ضمنه بذلك، فله المطالبة عن المضمون عنه بعين البيان المتقدم، فإن هذا الأجل الزائد عن أجل الدين لا يغير الدين عما هو عليه، بل إنما هو أجل الضمان لا أجل الدين. وكذلك الأمر لو مات الضامن من قبل انقضاء الأجل وحل الدين وأداه ورثة الضامن من تركته، فلهم الرجوع على المضمون عنه، لأن المفروض أن الدين كان حالا وإنما التأجيل جاء من قبل الضمان، حيث أن الضامن ضمن الدين الحال مؤجلا، وإلا فالدين في نفسه ليس مؤجلا، فإذا مات الضامن وصار الدين بالنسبة إليه حالا وأخذ من تركته فالورثة لم يذهب ما لهم مجانا، بل يستحقون العوض في نفس ذلك

 

الوقت، فلهم الرجوع على المضمون عنه. وأما لو كان الدين مؤجلا وضمن بإذن المضمون له ذلك الدين المؤجل مؤجلا ومات قبل انقضاء أجل الدين وحل ما عليه وأخذ المضمون له من تركته، ليس لورثة الضامن الرجوع إلى المضمون عنه إلا بعد حلول أجل الدين الذي كان عليه قبل الضمان. والسر في ذلك: أن الدين الذي كان على المضمون عنه كان مؤجلا، وبموت الضامن لا يحل الدين بالنسبة إلى المضمون عنه، وإنما يحل بالنسبة إلى الضامن. وهذا بخلاف الصورة السابقة، فإن أصل الدين كان حالا وإنما التأجيل جاء من قبل الضامن وذهب بموته، ولذلك لورثته الرجوع على المضمون عنه. فرع: يجوز ضمان مال الجعالة المسمى بالجعل قبل فعل ما جعل عليه الجعل، وكذا ضمان مال السبق والرماية وهو المسمى بالسبق - بفتح السين والباء - قبل حصول الغلبة على من يسابقه أو يراميه. وقد يقال: إن هذا من قبيل ضمان ما لم يجب، لأنه قبل العمل في كلا البابين لا يثبت في ذمة المضمون عنه شيء كي ينقله إلى ذمة نفسه، فلا وجه لصحة ضمانه بناء على أن الضمان عبارة عن التعهد بما في ذمة الغير ونقله إلى ذمة نفسه. ولكن يمكن أن يقال: إن الجاعل جعل الجعل في ذمته لعنوان من يرد ضالته عليه، فيثبت في ذمة الجاعل ذلك الجعل بنفس العقد وان لم يعمل بالشرط بعد. وكذلك الأمر في باب السبق والرماية بنفس العقد يثبت في ذمة الشارط السبق - بفتحتين - قبل العمل وحصول السبق. غاية الأمر قبل العمل له أن يفسخ العقد فيكون كالبيع الخياري بعد قبض المبيع، فإنه يثبت الثمن في ذمة المشتري بعد قبض المبيع وأن له الفسخ. ومعلوم أنه بالفسخ

 

يرجع المبيع إلى البائع وتبرأ ذمة المشتري، ومع ذلك قبل الفسخ يصح الضمان عن المشتري بلا شك وارتياب. وأيضا يمكن أن يقال: إن العمل في البابين شرط كاشف عن ثبوت المال في ذمة الجاعل بنفس العقد، ورد الضالة خارجا يكون على حد الإجازة من طرف المالك في بيع الفضولي بناء على الكشف الحقيقي، فبوجود العمل خارجا يستكشف ثبوت المال في ذمة الجاعل من حين العقد، كما أن بعدمه يستكشف عدمه. ولكن كلا الوجهين ل يصح الركون إليهما والموافقة عليهما: أما الأول: فلأن الجاعل وإن جعل في ذمته الجعل لذلك العنوان، ولكن نتيجة مثل هذا الجعل أنه بعد وجود مصداق هذا العنوان في الخارج تشتغل ذمة الجاعل بذلك الجعل له، وإلا قبل وجوده ليس من يملك في ذمته. فلو قلن باشتغال ذمته يلزم أن يكون الملك بلا مالك اللهم إلا أن يقال: إن ذلك العنوان الكلي يملك قبل أن يوجد في الخارج، وهذا غريب. وأما الثاني: فلأن الملكية مجعولة لمن كان مصداقا لهذا العنوان بالحمل الشائع، فلا يمكن أن يكون العمل شرطا كاشفا عن ثبوته بنفس العقد قبل العمل. وذلك من جهة جعل الجاعل الجعل لعنوان من رد الضالة بنحو القضية الحقيقية، فكل من كان مصداقا لذلك العنوان يملكه، فحيث أنه قبل العمل ل مصداق لذلك العنوان، فلا مالك في البين، فلا معنى لاشتغال ذمته بناء على أن يكون حقيقة الضمان عبارة عن التعهد بمال ثابت في ذمة شخص غيره. ونتيجته نقل ما ثبت في ذمة الغير إلى ذمته. اللهم إلا أن يقال: يصح تمليك العناوين العامة قبل أن يوجد له مصداق، كالوقف على الأولاد والذرية قبل وجودهم.

 

وأما الإشكال على ثبوت المال في ذمة الجاعل قبل العمل بأن العقد جزء السبب، والجزء الآخر هو العمل، ولا يمكن وجود المسبب عند وجود أحد جزئي السبب دون الجزء الآخر كم هو المفروض في المقام. ففيه: أن ما نحن فيه ليس من باب الأسباب والمسببات التكوينية، بل من باب الحكم والموضوع فيمكن جعل الحكم على الموضوع الكلي قبل أن يوجد له مصداق في الخارج، كما قلنا في الوقف على الأولاد قبل وجودهم بناء على أن الوقف تمليك، غاية الأمر ليست الملكية طلقا بل مقيدة بأن لا تباع ولا تورث. وم قلنا بناء على أن يكون جعل الجعل في الجعالة أو السبق في السبق والرماية على نحو القضية الحقيقية، وأما لو كان على نحو القضايا الخارجية فلا سبيل إلى ثبوت الملكية قبل العمل، وحيث أن الظاهر أن الجعل على نحو القضية الحقيقية وعلى هذا الأساس بنين جريان الاستصحاب فيما إذا شك بعد الفسخ في لزومها، فلا مانع من ضمان مال الجعل حتى قبل الشروع في العمل، فضلا عن صحته بعد الشروع قبل إتمام العمل. ولا يتوهم أن م أشكلنا - من أنه لو كان الجعل بنحو القضية الحقيقية فمفادها أنه إذا وجد في الخارج فرد وكان مصداقا لذلك الكلي يكون محكوما بحكم ذلك الكلي - يأتي ها هنا، وفي الوقف على الأولاد والذرية الأمر كذلك، فما لم يوجد مصداق للأولاد والذرية لا يتصف بالمالكية، فها هنا أيضا ما لم يوجد شخص يرد الضالة لا تشتغل ذمة الجاعل بشيء. وذلك من جهة أن عنوان راد الضالة، أو عنوان من يرد الضال صار مالكا، ولكن أفراد هذ العنوان لا يثبت لهم الملكية إلا بعد وجودهم وصيرورتهم مصداقا خارجيا لذلك العنوان، وهذا لا ينافي اشتغال ذمة الجاعل للعنوان، فيصح أن ينقل الضامن عن الجاعل ما على ذمة الجاعل إلى ذمته.

 

غاية الأمر إن العنوان الكلي ما لم ينطبق على الخارج لا يمكن أن يطالب الضامن، بل إذا وجد فرد ومصداق بالحمل الشائع يأتي ويطالب الضامن، كما أنه لو لم يكن ضامن في البين يطالب الجاعل. ففي المقام يثبت بنفس عقد الجعالة حق للعنوان في ذمة الجاعل الذي هو المضمون عنه، فالضامن ينقل ما يثبت في ذمة الجاعل إلى ذمة نفسه، فتبرأ ذمة المضمون عنه الذي هو الجاعل، وتشتغل ذمة الضامن للعنوان الذي هو المضمون له. فهذ هو المقام الأول الذي يشتغل ذمة الضامن وتبرأ ذمة المضمون عنه الذي هو الجاعل. والمقام الثاني هو مقام أداء حق المضمون له الذي هو العنوان. وفى هذا المقام تكون القضية بنحو القضية الحقيقية، أي يجب على الضامن أن يؤدى ما على ذمته إلى مصاديق ذلك العنوان. وهذا يستقيم فيما إذا كان جعل الضمان بنحو القضية الحقيقية، وإلا فإن كان بنحو القضية الخارجية من أول الأمر يكون المضمون له هم الأفراد. فتأمل فإنه دقيق وبالتأمل حقيق. فرع: يجوز ضمان نفقة الزوجة عن الزوج في المورد الذي ثبت في ذمته. وذلك بالنسبة إلى النفقة الماضية واضح، لأنها كسائر ديون الزوج، لأن الزوجة إذا لم تكن ناشزه وكانت ممكنة زوجها من نفسها متى شاء، فهي تستحق على زوجها نفقتها، فإن لم يعطها تبقى دينا في ذمته، فلا مانع من أن يضمن عنه شخص آخر. وهذا في النفقة الماضية لا إشكال فيه، كما أنه لا إشكال في عدم صحته بالنسبة إلى النفقة المستقبلة، لعدم ثبوت شيء في ذمة الزوج كي يضمن عنه شخص آخر، فيكون الضمان بالنسبة إلى النفقة المستقبلة من قبيل ضمان ما لم يجب، الذي قلنا إنه باطل بل غير معقول.

 

وإنما الكلام في ضمان النفقة الحاضرة، كنفقة ذلك اليوم الذي يقع فيه الضمان. والحق فيه جواز الضمان كالنفقة الماضية. بيان ذلك: أنه بعد البناء على أن الزوجة تملك في صبيحة كل يوم نفقة ذلك اليوم على ذمة الزوج إذا لم تكن ناشزة، ففي نفس ذلك اليوم يصح ضمان نفقة ذلك اليوم المسماة بالنفقة الحاضرة. وأما الإشكال على هذا - بأنه يمكن أن تصير ناشزة في أثناء النهار، فتسقط نفقتها - لا يرد، لأن السقوط بعد الثبوت لا ينافي مع صحة الضمان قبل السقوط. فرع: هل يصح ضمان الأعيان المضمونة أم لا، كالأعيان المغصوبة، أو المقبوضة بالعقد الفاسد، أو العارية المضمونة، أو الأمانة مع التعدي؟ فقال العلامة في التذكره: وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه (1). وقال المحقق في الشرائع: ففي ضمان الأعيان المضمونة كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد تردد، والأشبه الجواز (2). والتحقيق في المقام أن يقال: إن حقيقة الضمان إن كان عبارة عن نقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن وبراءة ذمة المضمون عنه، فلا يجوز الضمان في هذه المذكورات، لعدم براءة المضمون عنه بالضمان إجماعا، بل يجوز للمضمون له مطالبته بل خلاف. ولذلك قال العلامة في عبارته المتقدمة إشكال أقربه عندي جواز مطالبة كل

 

(هامش)

 

1. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 92. 2. شرائع الإسلام ج 2، ص 109. (*)

 

من الضامن والمضمون عنه . وما ذكره أمر ممكن في حد نفسه، ولكنه مخالف لما عليه إجماع الطائفة، على أن الضمان نقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وبراءة ذمة المضمون عنه بمحض وقوع الضمان الصحيح. وأما القول بأن الضمان هاهنا عبارة عن التعهد برد العين المضمونة أو قيمتها أو مثلها. ففيه: أنه خروج عما هو حقيقة الضمان عندنا والالتزام بمعنى آخر، والمعنى العرفي للضمان هو الذي ذكرنا أي التعهد بمال ثابت في ذمة غيره، بمعنى انتقاله إلى ذمة الضامن وبراءة ذمة المضمون عنه التي كانت مشغولة بذلك المال قبل الضمان. وبناء على أن يكون هذا معنى الضمان عرفا فلا تشمل العمومات حتى مثل الزعيم غارم لمثل هذا المعنى، أي الالتزام برد الأعيان المضمونة أو قيمتها أو رد مثلها، فلا دليل على شرعية مثل هذا الضمان بهذا المعنى. وأما قوله تعالى: (اوفوا بالعقود) (1) فالظاهر منه هو وجوب الوفاء بمضمون كل عقد، ومضمون عقد الضمان - بقوله: أنا ضامن لما على فلان - عبارة عن نقل ما في ذمته إلى ذمة نفسه، وليس الالتزام برد ما هو مضمون عنده، أو أداء قيمته، أو رد مثله مضمون عقد الضامن كي يكون مشمولا لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود). بل لو كان هذا المعنى ضمانا صحيحا شرعيا فيكون مفاده أنه يجب على الضامن والمضمون عنه كلاهما رد العين م دام باقية، وأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة. وهذا مرجعه إلى كون حقيقة الضمان ضم ذمة إلى ذمة. وهذا المعنى مما انعقد الإجماع على خلافه. فالضمان بمعناه العرفي - أي التعهد بمال ثابت في ذمة المضمون عنه - لا يصح في الأعيان المضمونة، وإن قال بصحته وجوازه أساطين الفقه، كالشيخ في المبسوط (2)،

 

(هامش)

 

1. المائدة (5): 1. 2. المبسوط ج 2، ص 326. (*)

 

والمحقق في الشرائع (1)، والعلامة في التذكرة (2) والقواعد (3). وأما ما وجهه العلامة - أي ضمان الأعيان المضمونة - في التذكرة بوجهين: أحدهما: أن المراد من ضمانها الالتزام برد نفس أعيانها. الثاني: أن يضمن قيمتها على تقدير التلف (4). ففيه بطلان كلا الوجهين: أما الوجه الأول: فقد عرفت الحال فيه مفصلا، وأنه خروج عن الضمان المصطلح عندنا، وأن مرجعه إلى كونه عبارة عن ضم ذمة إلى ذمة الذي لا نقول به، والإجماع على خلافه. وأما الوجه الثاني: فمرجعه إلى التعليق في الضمان، وأيض يكون ضمان ما لم يجب. وهذا أيضا مما انعقد الإجماع على خلافه. هذا ما ذكروه. والتحقيق في هذا المقام: هو أنه يمكن تصوير كون الأعيان المضمونة في الذمة بوجوده الاعتباري، لا الوجود الحقيقي الخارجي، فإنه غير معقول البتة. وقد حققنا ذلك في قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه مفصلا (5)، وإجماله: أن معنى ضمان العين هو أن العين الخارجية تعتبر في الذمة بوجودها الاعتباري، إذ الذمم ظرف الاعتبار وليست ظرفا للموجودات الخارجية. وقد يعبرون عن الذمة بالعهدة أو الرقبة، وكلها بمعنى واحد. وقلنا هناك: إن معنى الحديث الشريف وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه أن كل مال - سواء كان عينا أو منفعة - تسلط عليه الشخص ولم يكن تسلطه من حيث أنه

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 109. 2. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 90. 3. قواعد الأحكام ج 1، ص 178. 4. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 90. 5. القواعد الفقهية ج، ص. (*)

 

ملكه أو بإذن المالك أو بإذن الله تعالى - ويعبر عن هذين الأخيرين بالأمانة، وأوله أمانة مالكية، وثانيهما أمانة شرعية - فيعتبر ذلك المال في ذمته، ولا يفرغ ذمته بل تكون مشغولة به إلى أن يؤديه، ففراغ ذمته يكون بأداء ما اعتبر في ذمته. فبناء على هذا، ضمان العين عبارة عن اعتبار تلك العين في ذمة الضامن وعهدته، وأسباب ضمان العين مثل أسباب ضمان المال متعددة، ومن جملتها عقد الضمان بأن يقول أنا ضامن للعين الفلانية، فيعتبر تلك العين في عهدته وذمته، ولا يرتفع ولا تبرأ ذمته إلا بأداء م في ذمته بردها إن كانت تلك العين موجودة، وبأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة، فضمان العين لا إشكال فيه في حد نفسه. ولكن الإشكال هاهنا في شيء آخر، وهو أن الأعيان المضمونة - سواء كانت من جهة غصبها، أو من جهة كونها مقبوضة بالعقد الفاسد - لا تبرأ ذمة الضامن إلا بأداء عينها أو مثلها أو قيمتها، كل واحد في محلها. فلو ضمنها شخص فإن كان ضمانة لها بعد أداء الضامن الأول لها بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدمة فضمانها غير معقول، لأنه لم يبق في ذمته شيء كي يضمنه أحد. وإن كان قبل أدائها فبالضمان لا تبرأ ذمته، بل الفراغ يكون مغيى في الحديث الشريف بالأداء بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة، فيجب الأداء على كل واحد منهما، مثل مورد تعاقب الأيادي، ويصح لصاحب العين المطالبة من كل واحد منهما. وهذا خلاف إجماع الطائفة في معنى الضمان، ويكون موافقا لأصول غيرنا. فظهر مما ذكرنا أن ضمان الأعيان المضمونة - سواء كانت مقبوضة بالعقد الفاسد أو مغصوبة بالمعنى المصطلح في الضمان - غير ممكن ول يصح. فرع: يجوز الترامي في الضمان، وهو أن يضمن شخص عما في ذمة الآخر فيأتي شخص آخر ويضمن عما في ذمة الضامن الأول، وهكذا أي يأتي ثالث ويضمن عما في

 

ذمة الضامن الثاني، وهكذا يأتي رابع ويضمن عما في ذمة الضامن الثالث، إلى أي عدد بلغ. والسر في ذلك: أن الضامن المتقدم تشتغل ذمته بما كان في ذمة المضمون عنه وتبر ذمة المضمون عنه، فيكون حاله بالنسبة إلى الضامن الذي يتلوه بدون انفصال حال المضمون عنه بالنسبة إليه، ويتم أركان الضمان وتشمله الاطلاقات بلغ ما بلغ عدد الضامنين. فإذا كان ضمان كل لاحق بإذن المضمون عنه السابق عليه الذي يضمن عنه، فإذ أدى الأخير ما ضمنه للمضمون له فلكل لاحق الرجوع إلى سابقه، إلى أن يصل إلى المضمون عنه الأول الذي كان هو المديون الأول. وأما إن لم يكن إذن من أحدهم بالنسبة إلى ضمان من يضمن عنه، فلا رجوع لكل واحد منهم، وذلك من جهة أن ضمان المضمون عنه للضامن مشروط بأن يكون الضمان بإذنه، لأن اشتغال ذمته للضامن بدون إذنه أو طلبه الضمان عنه يكون بلا سبب وموجب. وأما إن أذن بعضهم دون بعض فالضامن الذي كان مأذونا من قبل من يضمن عنه يرجع إليه، وأما المضمون عنه الذي لم يأذن فلا رجوع إليه. وهذا ضابط كلي في باب الضامن، سواء كان الضامن واحدا أو كان متعددا عن الأشخاص المتعددة. وهذ الأخير هو المسمى بترامي الضمان. فرع: لو ضمن اثنان أو أكثر ما في ذمة زيد مثلا، فإن صرح كل واحد بالمقدار الذي من ذلك الدين، فيكون ذلك المقدار في ذمته، وتترتب عليه آثار ضمان ذلك المقدار، ويكون كالضامن المنفرد بالنسبة إلى ذلك المقدار. وأم إن أطلقا ولم يصرحا بالمقدار وقالا أو قالوا: نحن ضامنون لهذا المال الذي

 

في عهدة فلان، فالظاهر أنه يقسط بينهم على حسب عددهم، فإن كانا إثنين ينتقل إلى ذمة كل واحد منهما نصف الدين، وإن كانوا ثلاثة فالثلث وهكذا، لبناء العقلاء على هذا في موارد الاشتراك، مع عدم دليل على تعيين حصة كل واحد منهم. وأما لو استقل كل واحد بالضمان لتمام ذلك المال عن المديون وقبل المضمون له، فربما يقال بصحة مثل هذ الضمان، وتخيير المضمون له بعد قبوله بين مطالبته من أيهما شاء بتمام المال، أو يطالب بالبعض من أحدهما والبعض الآخر من الآخر، ولا فرق بين أن يكون البعضان متساويين في المقدار أو مختلفين. ولكن الظاهر بطلان مثل هذا الضمان، وذلك من جهة أن هذين الضمانين لو كانا طوليين بحسب الزمان فالضمان الأول لا يبقى محلا للضمان الثاني، لأن الضمان الأول فرغ ذمة المديون ولم يبق شيء في ذمته كي يضمنه الضامن الثاني. وإن كانا في عرض واحد فبناء على ما هو الحق عندنا من أن الضمان عبارة عن نقل ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، فلا يمكن نقل تمام ما في ذمة المديون إلى ذمة كل واحد منهما، لأن كل واحد من النقلين يرفع موضوع النقل الآخر. وقياس المقام بباب تعاقب الأيادي واضح البطلان، فإن الضمان هناك طولي وها هنا عرضي. ول يبعد أن تكون العبارة - وقولهم بعد محالية هذا القسم - ظاهرة في الاشتراك، وهذ الحمل لكلامهم من جهة الصون عن اللغوية وإلا فمقتضى القاعدة بطلان مثل هذا الضمان. فرع: إذا كان على الدين الذي في ذمته رهن، فكما أنه لو أداه ينفك ذلك الرهن، فهل ينفك بالضمان أم لا؟ وجهان، بل قولان: من أن الرهن لأجل حقظ الدين وعدم ذهابه من البين لو صار المديون معسرا بل معدما، فإذا أداه لا يبقى شيء في ذمته كي يحفظ بالرهن، ولذلك بمحض الأداء

 

يفتك الرهن، فيقال إن الضامن بعد أن ضمن ما في ذمة المديون لا يبقى في ذمة المديون شيء كي يحفظ بواسطة الرهن، فيرجع الرهن أمره إلى المديون. ومن أن الدائن بعد وقوع عقد الرهن يحصل له أمران: أحدهما نفس المال وهو الذي في ذمة المديون. والثاني: م يوجب الوثوق بعدم تلف ماله أي ما في ذمة المديون. فالأول يسقط عن ذمة المديون بالضمان، وأما الثاني بعد أن استحقه بعقد الرهن لا وجه لسقوطه بنقل ما في ذمة المديون. نعم لو اشترط الضامن مع المضمون له انفكاكه ينفك، لأنه شرط غير مخالف للكتاب والسنة، وكل شرط جائز إلا ما خالف كتاب الله. والأظهر هو الثاني، أي عدم انفكاك الرهن بالضمان. فرع: لو قال لمن يدعى مالا في ذمة شخص آخر: علي ما عليه - بنحو البت لا بأن يعلق على كونه مديونا بأن يقول للمدعى: إن كان لك في ذمته مال فهو علي - فهذا الضمان صحيح، فيسقط الدعوى عن المضمون عنه، لأنه تبرأ ذمته على كل حال، سواء لم يكن مديونا في الواقع أو كان. إذ بناء على الأول لم تكن ذمته مشغولة من أول الأمر على الفرض، وبناء على الثاني انتقل إلى ذمة الضامن وبرئت ذمته، فمع القطع بفراغ ذمته لا يبقى مجال لكونه طرف الدعوى. نعم يصير الضامن طرف الدعوى فإن ثبت كون المضمون عنه مديونا قبل وقوع هذا الضمان ببينة أو إقرار يلزم الضامن ويؤخذ منه. المقام الثاني في الحوالة وهي عبارة عن تحويل ما في ذمته إلى ذمة شخص آخر. فلا بد في الحوالة من

 

وجود ثلاثة أشخاص: المحتال وهو رب الدين، والمحيل وهو المديون، والمحال عليه وهو الذي ينتقل ما في ذمة المحيل إلى ذمته بعد قبوله بناء على اعتبار قبوله. وهي عقد يقع بين المحيل والمحتال بإيجاب من المحيل، وقبول من المحتال. وأما المحال عليه فهو أجنبي عن كونه طرف العقد وإن قلنا باعتبار قبوله في صحة الحوالة. فهذا العقد كسائر العقود العهدية اللازمة من حيث الشرائط والأركان، لإطلاق أدلتها بالنسبة إلى جميعها، فيعتبر فيها التنجيز وأن لا يكون معلقا على أمر كسائر العقود العهدية، وبلوغ المتعاقدين، واختيارهما، ورشدهما، وعقلهما. ويحتاج إلى إيجاب من المحيل وقبول من المحتال، كما هو الشأن في كل عقد. ويكفى في تحققه وإنشائه كل لفظ يدل دلالة صريحة على إنشاء مضمون هذا العقد من الطرفين، أي الموجب والقابل. والدليل على كل ذلك هو الدليل على اعتبار هذه الأمور في جميع العقود، فلو قال المحيل: احلتك أو حولتك بمالك في ذمتي على زيد مثلا، وقال المحتال: قبلت أو رضيت أو نحو ذلك تتحقق الحوالة ويتم عقدها. فرع: يعتبر في صحة الحوالة أن يكون المال الذي يحيله المحيل على المحال عليه ثابتا في ذمة المحيل، إذ لو لم تكن ذمته مشغولة للمحتال فلا يعقل تحقق حقيقة الحوالة التي هي عبارة عن نقل ما في ذمته إلى ذمة غيره. فعلى هذا لا يصح حوالة دين الذي يأتي في ذمته بواسطة هذه المعاملة التي سيعاملها فيما بعد، قبل تمامية تلك المعاملة، لعدم اشتغال ذمته بذلك الدين قبل ذلك. بل وإن كان وجد سبب ذلك الدين ولكن معلقا على أمر لم يحصل بعد، كما في باب الجعالة فلا تصح حوالة الجعل قبل عمل العامل، وإن كان سبب اشتغال ذمة الجاعل بالجعل وجد بواسطة عقد الجعالة، ولكن حيث أن العامل لا يستحق الجعل

 

بعد العمل فذمة الجاعل ليست مشغولة قبل عمله، فلا يمكن تحقق الحوالة بالمعنى المذكور. وهكذا الحال بالنسبة إلى الأجرة قبل عملهم بناء على عدم استحقاق الأجير على المستأجر قبل اتجار عمله وإتمامه. والسر في ذلك كله أن تحويل المعدوم غير معقول، وهذا واضح جدا. فرع: يعتبر في صحة الحوالة رضى المحال عليه أيضا وإن كان خارجا عن طرفي العقد، لأن العقد واقع بين المحيل والمحتال، ولكن اشتغال ذمته لشخص آخر غير الدائن رغما على أنفه وبدون رضاه لا وجه له ولازم اشتغال ذمته للدائن وجوب تفريغه عند طلبه لا اشتغال ذمته لشخص آخر، خصوصا فيما إذا كان اشتغال ذمته لشخص آخر والتبديل به موجبا لضيق عليه. وهذا فيما إذا كانت ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما يحال عليه، وإلا ففي الحوالة على البرئ على تقدير صحته - كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى - فالأمر واضح، إذ من الواضح البين عدم صحة اشتغال ذمته لشخص بلا سبب وبدون رضاه. فرع: هل الحوالة على البرئ صحيحة، أو يشترط في صحتها أن تكون ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما يحال عليه ولو من حيث القيمة؟ الأقوى عدم الاشتراط، وذلك لأن حقيقة الحوالة عبارة عن تحويل ما في ذمته إلى ذمة الغير، وهذ المعنى يمكن حصوله بقبول المحال عليه وإن لم تكن ذمته مشغولة بمثله للمحيل، فكأن المحال عليه صار ضامنا للمحيل بما كان في ذمته فانتقل ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، لقوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم .

 

وبناء على هذا لا يبقى فرق بين الضمان وهذا القسم من الحوالة إلا أن الضمان يمكن أن يتحقق من غير تحويل المديون بل ولا بالتماسه أو إذنه وفي هذا القسم من الحوالة أيض كسائر الحوالات يحتاج إلى تحويل من طرف المديون، وإلا يكون ضمانا لا حوالة، فيحتاح على عقد الضمان بأن يقول مثلا: أنا ضامن. فرع: هل الحوالة بيع بمعنى أن المحتال يبيع ما يملكه في ذمة المحيل بما يملكه المحيل في ذمة المحال عليه، أم لا بل صرف استيفاء لما في ذمة المحيل؟ والاستيفاء قد يكون بأخذ ما يطلب منه من نفسه، وقد يكون بأخذه من المحال عليه بعد قبوله ورضاه. الظاهر هو الثاني، وذلك من جهة أن الدائن بصدد استيفاء دينه، سواء كان المديون يعطيه بنفسه أو يحوله على غيره. وهذا ما هو المتعارف بين الناس في الأسواق وفي معاملاتهم لا أن الدائن بصدد معاملة جديدة. وتظهر الثمرة بين القولين في أنه بناء على الأول لا تصح الحوالة إلا فيما إذا كانت ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما في ذمته للمحتال، وإلا يكون البيع بلا عوض. وأما بناء على الثاني فيحصل الاستيفاء بضمان المحال عليه ورضائه وقبوله، وهو واضح. فرع: لا فرق في صحة الحوالة بين أن يكون المال الذي في ذمة المحيل عينا، سواء كانت مثليا كالحنطة والشعير، أو قيميا كالحيوانات والأثواب بعد تعيينها بذكر أوصافه التي تخرجها عن الجهالة، أو منفعة كسكناه في دار موصوفة بصفات ترفع بها الجهالة، أو كان عملا لم يشترط فيه مباشرته بنفسه، ففي جميع ذلك تصح الحوالة، لتمامية أركانه. وذلك لأنه بناء على ما اخترناه من أن الحوالة استيفاء لا أنها بيع، فالمحتال

 

يستوفى ماله من المحال عليه، سواء كان عينا أو منفعة أو مالا، فكما يصح أن يحول من في ذمته شعيرا أو حنطة أو غنما أو فرسا أو درهما أو دينارا على غيره سواء كان له على ذمة ذلك الغير مثل ذلك أو كان بريئا، كذلك يجوز ويصح أن يحيل - من في ذمته خياطة ثوب مثلا أو بناء حائط أو قضاء صلوة أو صوم أو حج أو غيرها من العبادات أو من غير العبادات التي صار أجيرا ليأتي بها - شخصا آخرا، بشرط أن لا يشترط عليه المباشرة. وكذلك الأمر لو كانت في ذمته منفعة، كسكنى دار مثلا، أو تمر نخلة، أو فاكهة شجرة أو حليب شاة، أو صافها مع ذكر أوصاف المذكورات لكي يرتفع الجهالة، فيصح في جميع المذكورات وما يشبهها إحالته على شخص آخر، وذلك من جهة قابلية هذه الأمور لنقلها أو تحويلها من ذمة إلى ذمة أخرى مع قبول المحال عليه ورضائه. كل ذلك لإطلاق قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم وقد بينا أنه لا فرق فيما ذكر وشمول قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم بين أن تكون ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ذلك أو لا يكون. فرع: إذا تحققت الحوالة تامة الأركان فهل تبرأ ذمة المحيل عن الدين بمحض وجود الحوالة، أو يكون موقوفا على أخذ المحتال عن المحال عليه واستيفائه منه؟ لا ينبغي أن يشك في أن مقتضى تعريف الحوالة بأنها عبارة عن تحويل ما في ذمته إلى ذمة غيره هو الأول، لأنه بعد التحويل وقبول المحتال ورضاء المحال عليه وإمضاء الشارع الأقدس هذا التحويل بقوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم لا يبقى شيء في ذمته قهرا، وهذا عين براءة ذمته. نعم يبقى الكلام في حال المحال عليه مع المحيل. أقول: إن كان المحال عليه مديونا للمحيل بمثل ما أحال عليه، فبعد الحوالة عليه

 

وقبوله تبرأ ذمته بالنسبة إلى المحيل بنفس الحوالة وقبولها، لأن الدائن استوفى دينه بنفس الحوالة مع قبول المديون، وتشتغل ذمة المديون للمحتال إلى أن يؤدي دينه له. وأما لو لم يكن المحال عليه مديونا للمحيل أصلا، أي لم تكن ذمته مشغولة بشيء فتشتغل ذمة المحيل له بمثل ما أحال إن لم يكن تحويله عليه بشرط أن يعطي للمحتال مجانا وبل عوض، وإلا فلا تشتغل ذمته له بشيء. وأما لو كان مديونا للمحيل بغير جنس ما أحال عليه، مثلا أحال عليه بدينار وكان مديونا له بدرهم، فهل تبرأ ذمته عن دينه له بمقدار قيمة ما أحال، أم لا تبرأ عما في ذمته شيء ويبقى على ما كان، نعم تشتغل ذمة المحيل له أيضا بمقدار ما أحال عليه من نفس جنس ما أحال أو من قيمته، فذمة كل واحد منهما مشغولة للآخر؟ وجهان. والحق في المقام هو التفصيل بين أنحاء الحوالة، بأن المحيل إذا أحال عليه بغير جنس ما يطلب منه، كما قلنا إنه يطلب من المحال عليه من جنس الدراهم ويحول عليه بجنس الدينار وأراد تبديل ما في ذمته من الدراهم بالدينار أولا ثم يعطى الدينار للمحتال وهو قبل هذا المعنى، ورضى به فيسقط عن ذمته من الدراهم بمقدار ما أحال عليه من الدنانير. وفي الحقيقة في المفروض معاملتان: أحدهما: تبديل الدرهم بالدينار، أي اشتغال ذمة المحال عليه بالدينار عوض الدراهم التي كانت في ذمته. وثانيهما: اشتغال ذمته للمحتال بالدراهم التي حولها عليه. ول يخفى أن المعاملة الأولى - أي التبديل في ضمن الثانية - ليست معاملة مستقلة. وأم إن لم يرد التبديل، فتكون الحوالة كالحوالة على البرئ، بل هو هو، لأن المحال عليه بالنسبة إلى ما حول عليه وإن كان مديونا بشيء آخر فيبقى دينه للمحيل على ما كان، وتشتغل ذمة المحيل له بمثل ما أحال، فكل واحد من المحيل والمحال عليه مديون للآخر.

 

فرع: لو كان المحتال جأهلا بإعسار المحال عليه، ثم ظهر له أنه كان معسرا حال الحوالة، كان له الفسخ والرجوع إلى المحيل، لما رواه منصور بن حازم قال: سألت أب عبد الله عليه السلام عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه؟ قال عليه السلام: لا يرجع عليه أبدا إلا أن يكون قد أفلس قبل ذلك (1). ولما رواه الصدوق باسناده عن أبي أيوب أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحيل الرجل بالمال أيرجع عليه؟ قال: لا يرجع عليه أبدا إلا أن يكون قد أفلس قبل ذلك (2). ولقاعدة الضرر، وللإجماع وعدم الخلاف. قال صاحب الجواهر: بلا خلاف أجد فيه (3)، كما عن الغنية الاعتراف (4) به بل في محكى التذكرة نسبته إلى علمائنا (5)، والسرائر إلى أصحابنا (6)، بل عن الخلاف الإجماع عليه (7). وأما لو كان موسرا حال الحوالة ثم بعد ذلك تجدد الفقر والإعسار عليه بعد قبوله حال يساره، فليس له الرجوع على المحيل، لبراءة ذمة المحيل عن دينه بعد ما أحال بحوالة صحيحة تامة الأركان، وعود الاشتغال يحتاج إلى سبب مفقود في المقام.

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 5، ص 104، باب الكفالة والحوالة، ح 4، تهذيب الأحكام ج 6، ص 212، ح 498، باب في الحوالات، ح 3، وص 232، ح 569، باب في كيفية الحكم، ح 20، وسائل الشيعة ج 13، ص 158، أبواب الضمان، باب 11، ح 3. 2. الفقيه ج 3، ص 28، باب الحجر والإفلاس، ح 3259، وسائل الشيعة ج 13، ص 158، أبواب الضمان، باب 11، ح 1. 3. جواهر الكلام ج 26، ص 167. 4. الغنية ضمن الجوامع الفقهية ص 595. 5. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 105. 6. السرائر ج 2، ص 79. 7. الخلاف ج 3، ص 307، المسألة: 6. (*)

 

ولرواية عقبة بن جعفر عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الرجل يحيل الرجل بالمال على الصيرفي ثم يتغير حال الصيرفي، أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضى؟ قال عليه السلام لا (1). وأما عكس هذا، أي لو كان المحال عليه معسرا حال الحوالة مع جهل المحتاج بالحال، فتجدد له اليسار فهل للمحتال الخيار أم لا؟ الظاهر بقاء الخيار الثابت له قبل تجدد اليسار، إذ لا شك في ثبوت الخيار له بواسطة إعساره حال الحوالة وإن كان لا يعلم بهذا الثبوت. وذلك لأن ثبوت الخيار تابع لموضوعه الواقعي، ول تأثير للعلم به في ثبوته، فالحكم بعدم هذا الخيار وسقوطه لا بد وأن يكون مستندا إلى سبب للسقوط، وليس ما يحتمل أن يكون سببا إلا تجدد اليسار، وهو لا يمكن أن يكون، لأن موضوع هذا الخيار هو الإعسار حال العقد لا الإعسار الدائم، وتجدد اليسار لا يرفع الإعسار حال العقد، فالموضوع باق فكذلك حكمه، مع أنه على فرض حصول الشك في بقائه يكون مجرى للاستصحاب. وأما القول بأن ملاك حكم الشارع بالخيار هو عدم تضرر المحتال بلزوم العقد بواسطة عدم إمكان استيفاء المحتال لحقه، فإذا ارتفع بواسطة تجدد اليسار فلا خيار، فاستحسان لا يجوز استكشاف حكم الشرعي به. ثم إن المراد بالإعسار هو أن ل يكون عنده ما يوفى به دينه زائدا على مستثنيات الدين. فرع: البرئ المحال عليه هل يجوز له أن يرجع إلى المحيل بالمال الذي أحاله

 

(هامش)

 

1. تهذيب الأحكام ج 6، ص 212، ح 510، باب في الحوالات، ح 6، وسائل الشيعة ج 13، ص 159، أبواب الضمان، باب 11، ح 4. (*)

 

عليه بصرف القبول ولو كان قبل أدائه إلى المحتال، أم لا يجوز إلا بعد أدائه له؟ مقتضى القواعد جواز رجوعه إليه ولو قبل أدائه، وذلك من جهة ما قلنا إن مقتضى صحة الحوالة على البرئ هو انتقال المال الذي كان في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ولكن بعوض مثله في ذمة المحيل. ونتيجة مثل هذه الحوالة اشتغال ذمة المحال عليه للمحتال واشتغال ذمة المحيل للمحال عليه، وهذا الاشتغالان يحصلان بمحض قبول المحال عليه البرئ ولو لم يؤد المحال عليه بعد، ولازم ذلك صحة رجوعه إلى المحيل قبل الأداء، لأن المحيل مديون له بعد قبوله. ولذلك ليس للمحتال الرجوع إلى المحيل بعد أن أحاله على شخص برضاه وقبول ذلك الشخص، إلا أن يظهر كونه معسرا حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك. وقد تقدم في الفرع السابق الأمر لو كان كذلك - أي كان معسرا حال الحوالة - فللمحتال فسخ العقد، فلو فسخ بعد علمه بإعسار المحال عليه لا يبقى في ذمة المحيل شيء كي يرجع المحال عليه إليه. اللهم إلا أن يقال: إن اشتغال ذمة المحيل للمحال عليه بعد أدائه لا بعد قبوله للحوالة. ولكن أنت خبير بأن لازم هذا الكلام أحد أمرين، كلاهما باطلان: أحدهما: عدم اشتغال ذمة المحال عليه بصرف قبوله وتمامية أركان عقد الحوالة. وهذا خلاف مقتضى عقد الحوالة. أو يقال بأن اشتغال ذمة المحال عليه يكون بلا عوض. وهذا أيضا مناف لما هو المفروض والمتسالم عليه في باب عقد الحوالة، من أن انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ليس مجانا وبلا عوض. فلا بد وأن يقال بأن ذمة المحيل تبرأ عن حق المحتال بالحوالة بعد قبول المحال عليه فيما إذا كانت الحوالة برضاء المحتال الذي هو طرف عقد الحوالة وهو القابل بعد

 

إيجاب المحيل، وتشتغل للمحال عليه بصرف قبوله وإن لم يؤد بعد. فرع: تقدم أن الحوالة عقد لازم، فلا يجوز للمحتال ولا للمحيل ولا للمحال عليه فسخها وحلها إلا في صورة إعسار المحال عليه حال الحوالة مع جهل المحتال بذلك، فإذا علم بذلك فله حل ذلك العقد وإن تجدد للمحال عليه اليسار بعد وقوع الحوالة. وقد تقدم بيان هذا الحكم وذكرنا دليله. فرع: حال المحيل بعد أن أحال دينه على شخص وكانت الحوالة صحيحة واجدة للشرائط وكانت تام الأركان حال الأجنبي بالنسبة إلى ذلك الدين، ووجهه واضح من جهة أن ذمته برئت بنفس الحوالة الصحيحة، فانتقل ما في ذمته إلى ذمة المحال عليه، فإن أعطى الدين قبل أن يؤدى المحال عليه فتبرأ ذمة المحال عليه على كل حال، لعدم بقاء موضوع لاشتغال ذمته بعد أداء المحيل لذلك الدين. نعم يبقى الكلام في أنه هل للمحيل الرجوع إلى المحال عليه أم لا؟ والصحيح في هذا المقام هو أنه لو كان أداء المحيل بقصد التبرع فلا رجوع، وأما لو كان بمسألة المحال عليه فله أن يرجع إليه فيما لم تكن الحوالة على البرئ، وأما إذا كانت على البرئ فحيث أن ذمته اشتغلت له بمثل م أحال عليه فيسقط ما في ذمته، ولا يبقى موضوع للرجوع. فرع: لا يجب على المحتال قبول الحوالة وان كانت على ملئ وفي غير مماطل، لعدم دليل على الوجوب، وما هو الواجب على الدائن هو قبول دينه الحال إذا أراد المديون أن يوفيه، وأما كونه مجبورا في قبول انتقاله إلى ذمة شخص آخر فلا، والأصل هي البراءة.

 

فرع: تبرأ ذمة المحيل عن حق المحتال بمحض وقوع الحوالة الصحيحة تام الأركان، وليست موقوفة على أن يبرأه المحتال. وذلك من جهة أن مقتضى صحة الحوالة بناء على تقدم انتقال الدين عن ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإذا انتقل لا يحتاج إلى تبرئة المحتال بل يكون محالا بالمعناها الحقيقي، لأنها من تحصيل الحاصل. والتمسك لاحتياجها إلى التبرئة بقوله عليه السلام في رواية زرارة، عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يحيل الرجل بمال كان له على رجل آخر، فيقول له الذي احتال: برئت مما لي عليك، فقال عليه السلام إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه، وإن لم يبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله (1) لا أساس له، لأنه مخالف للقواعد المأخوذة عن الآيات والروايات، بل الإجماع على أن الحوالة الصحيحة موجبة لنقل المال من ذمة المديون المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإبراء المحتال له من قبيل تحصيل الحاصل. هذا، مضاف إلى ورود روايات تدل على انقطاع المحتال عن المحيل، وعدم جواز رجوعه إليه بعد تمامية الحوالة. وهذا من لوازم فراغ ذمته بعد تمامية الحوالة، من دون حاجة إلى إبراء المحتال. وقد تقدم رواية منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحيل على الرجل بالدراهم أيرجع عليه؟ قال: لا يرجع إليه أبدا إلا أن يكون قد أفلس قبل ذلك . (2) وقد تقدم رواية أبي أيوب عن أبي عبد الله عليه السلام بهذا المضمون التي رواها

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 5، ص 104، باب الكفالة والحوالة، ح 2، تهذيب الأحكام ج 6، ص 211، ح 496، باب في الحوالات، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 158، أبواب الضمان، باب 11، ح 2. 2. تقدم في ص 129، رقم (1). (*)

 

الصدوق قدس سره عنه (1). فلا بد إما طرح هذه الرواية، لعدم عمل الأصحاب بها وإعراض المشهور عنها. أو توجيهها وتنزيلها على ما إذا ظهر إعساره حال الحوالة الذي كان مورد الاستثناء في رواية منصور بن حازم ورواية أبي أيوب، وحملها بعض على أن المراد من الإبراء فيها قبول الحوالة، ومن عدمه عدمه. وخلاصة الكلام: أن ذمة المحيل بعد الحوالة تبرأ من دون توقفه على إبراء المحتال إلا أنه لو ظهر فيما بعد أن المحال عليه كان معسرا حال الحوالة فللمحتال الخيار وحق حل العقد وفسخه. فرع: يجوز ترامى الحوالات، وهو عبارة عن إحالة المحال عليه المال الذي اشتغلت ذمته به بواسطة الحوالة إلى رجل آخر، وهكذا الحال في المحال عليه الثاني يجوز أن يحيل ما في ذمته بواسطة الحوالة الثانية إلى ثالث، وهكذا غير واقف إلى حد بحيث أن يقال لا يجوز إحالة المحال عليه على غيره. ووجه ذلك: أن المحال عليه يصير مديونا للمحتال، ولكل مديون أن يحيل دينه إلى شخص آخر، خصوصا فيما إذا كان ذلك الآخر مديونا له بمثل دينه جنسا وقدرا، فتشمله اطلاقات أدلة تشريع الحوالة، فلا معنى لوقوفه عند حد. ثم إن ترامى الحوالات قد يكون مع وحدة المحال عليه وتعدد المحتال، وقد يكون بالعكس. فالأول: كما إذا أحال المديون لعمرو دينه على زيد مثلا، فيصير زيدا مديونا لعمرو، فلو كان عمرو مديونا لشخص بمثل ماله على زيد، فيجوز أن يحيل ذلك الرجل

 

(هامش)

 

1. تقدم في ص 129، رقم (2). (*)

 

على زيد، وذلك الرجل أيضا لو كان مديونا لشخص بمثل ماله على زيد يجوز أن يحيل ذلك الشخص على زيد، وهكذا إلى ألف، بل لا يقف عند حد. والثاني: أي تعدد المحال عليه مع وحدة المحتال، ففي المثل المذكور عمرو هو المحتال وزيد هو المحال عليه، فعمرو المحتال لو كان عليه دين يحيله على زيد البرئ بعوض اشتغال ذمته لزيد بمثل ما أحال عليه، فيكون مديونا لزيد فيحيله على بكر البرئ، فكذلك تشتغل ذمته لبكر بمثل ما أحال عليه فيحيله على خالد، وهكذا إلى ما لا نهاية له. وفي الفرض الثاني، أي وحدة المحتال مع تعدد المحال عليه يمكن أن يمثل بإحالة المديون زيدا مثلا على عمرو، فيكون المحتال زيدا والمحال عليه عمروا، ويصير عمروا مديونا لزيد بواسطة هذه الحوالة، فيحيله عمر وعلى بكر، وبكر يحيله على خالد، وهكذا. هذا ترامي الحوالات بكلي قسميه، أي وحدة كل واحد من المحال عليه والمحتال وتعدد الآخر. وكما يمكن تراميها يمكن دورها، وذلك في المثال المذكور أخيرا بأن يحيل خالد زيدا على المديون الأول وهو المحيل الأول إن كان مديونا لخالد بمثل ما يحيل عليه، أو قلنا بجواز الحوالة على البرئ. والدليل على صحة هذه الحوالات هو عموم (أوفوا بالعقود) وإطلاقات أدلة الحوالة، وإطلاق الزعيم غارم . فرع: لو أحال البايع من له عليه دين على المشتري بالثمن وقبل المشتري. فانفسخ البيع بخيار أو ظهر فساد البيع لفقد شرط أو وجود مانع، فذهب المشهور إلى بطلان الحوالة في الثاني، وعدمه في الأول.

 

ووجهه إما البطلان في الثاني، لأن المحيل أحال بالثمن على من له دين عليه، ولا ثمن في البين لفساد البيع، فلا موضوع لهذه الحوالة. وأما الصحة في الأول فمن جهة أن البيع وقع صحيحا وصار الثمن ملكا للبايع إما دينا في ذمة المشتري وإما عينا في يده. وعلى كل حال تقع الحوالة وهي تام الأركان، خصوصا بناء على ما هو الحق من أن الفسخ حل العقد من حين وقوعه لا من الأول، وبعد انحلال العقد بالفسخ بأحد الخيارات وإن كان يرجع الثمن إلى ملك المشتري وكذلك المثمن إلى ملك البايع ولكن رجوع العينين إليهما منوط بعدم تعلق حق الغير بهما. وأما إذا كان تعلق حق الغير بهما أو باحدهم فلا بد من الرجوع إلى بدلهما من مثل أو قيمة، لأن رجوع العين غير ممكن شرعا، فيكون كالتالف فيرجع إلى بدله. ففي المفروض الانحلال الطاري بواسطة الفسخ أو الإقالة يوجب رجوع المشتري إلى بدل الثمن، لتعلق حق المحتال بنفس الثمن. وكذلك الأمر في طرف المشتري لو أحال البايع بالثمن على شخص في الصورتين، أي تبطل الحوالة إذا ظهر فساد البيع وتكون صحيحة وباقية لو انحل البيع بالفسخ أو الإقالة. فرع: لو أحال من له عليه دين على وكيله بمثل ما عليه، وكان ما عند وكيله عينا خارجية وقبل الوكيل، فيجب على ذلك الوكيل أن يدفعها إلى المحتال، وإن لم يدفع يرجع إلى المحيل ويأخذ دينه، مثلا لو كان دينه لزيد وزنة من الحنطة أو كان دينارين أو غيرهما من سائر الأجناس، وكان مثل المذكورات له عند عمرو فأحال الدائن على عمرو بمثل ما له عليه، يجب على عمرو أن يدفعه إلى زيد الدائن، وإن لم يدفع عصيانا أو لجهة أخرى فيرجع الدائن إلى المحيل ويستوفي الدين منه. وذلك من جهة الفرق بين المفروض وبين ما إذا كان المحال عليه مديونا أو بريئا، ففي الأخيرين ينتقل ما في ذمة المحيل للمحتال إلى ذمة المحال عليه، فذمة المحيل تفرغ

 

ولا يبقى فيها شيء كي يرجع إليه الدائن بعد مماطلة المحال عليه واليأس عن الأخذ عنه. وأما في المفروض فليس انتقال ذمة في البين وإنما هو مجرد الأمر لوكيله بإعطاء مثل ما عليه من ما له المعين الخارجي، فإذا لم يعط وإن كان بعد قبوله يرجع الدائن إلى المحيل المديون، لبقاء اشتغال ذمته وعدم تغيرها عما كانت عليه. والفرق بين أمره لوكيله بإعطاء العين الخارجي وبين إحالة ما في ذمته إلى غيره بأن ينتقل ما في ذمته إلى ذمة ذلك الغير في كمال الوضوح، بل تسمية الأول بالحوالة لا يخلوا عن نظر وإشكال. فرع: وهو أنه قال الشيخ في المبسوط: لا تصح الحوالة إلا بشرطين: اتفاق الحقين في الجنس والنوع والصفة، وكون الحق مما يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه (1). وحاصل ما ذكره اشتراط صحة الحوالة بشرطين آخرين غير ما ذكرنا وتقدم. أحدهما: أن يكون الحقان - أي حق المحتال على المحيل مع حق المحيل على المحال عليه - من جنس ونوع واحد، وكذلك في الصفات. مثلا لو كان دين زيد على عمرو من الأرز العنبر المتصف بصفة كذا فيحيله زيد على خالد لحق له عليه، لا بد أن يكون حقه على خالد أيضا كذلك من حيث الجنس، أي يكون أرزا مثلا لا حنطة، ومن حيث النوع أي يكون ماله على خالد من الأرز العنبر لا من قسم آخر من أقسام الأرز، وأن يكون صفاته أيضا مثل صفاته. هذا هو الشرط الأول. وما ذكر في وجه هذا الشرط هو أنه لو لم نراع اتفاق الحقين أدى إلى أن يلزم المحال عليه أداء الحق من غير الجنس الذي عليه، ومن غير نوعه، وعلى غير صفته،

 

(هامش)

 

1. المبسوط ج 2، ص 313. (*)

 

وذلك لا يجوز. والمقصود من هذه العبارة أن المحال عليه بعد قبوله وانتقال ما في ذمة المحيل إلى ذمته يلزم بأداء ما في ذمة المحيل من أي جنس ونوع كان، وبأي صفة كان. والمفروض أن ما في ذمة المحال عليه للمحيل لم يكن من هذا الجنس، ولا من هذا النوع، ولا بهذه الصفة فبأي وجه يكون ملزما بأداء ما ليس عليه. وفيه: أن هذا وجه عجيب، إذ إلزامه بأدائه من جنس ما للمحتال على المحيل ومن نوعه وبصفته ليس من ناحية دينه للمحيل - كي نقول لا يجوز، إذ لا يجوز إلزام المديون بأداء غير ما عليه جنسا أو نوعا أو صفة، إذ الدين تمليك الشيء بعوضه الواقعي، فإن كان مثليا فبمثله في الجنس والنوع والصفة وإن كان قيميا فبقيمته الواقعية - بل من ناحية قبوله. إذ بعد ما أحال المحيل ما في ذمته عليه من جنس كذا، أو من نوع كذا، أو بصفة كذا وقبل هو، ينتقل إلى ذمته عين ما في ذمة المحيل ذي الجهات المذكورة، من الجنس والنوع والصفة. وحيث أن قبوله ليس مجانا بل بعوض ما في ذمته للمحيل، فقهرا تقع معاوضة بين ما في ذمته وم في ذمة المحيل، ولا إشكال فيه إذا كان بتراضي الطرفين وإن كان العوضين من جنسين ونوعين وبصفتين، بل غالب أبواب المعاوضات كذلك، أي من جنسين ومن نوعين وبصفتين. ثانيهما: أنه يشترط في صحة الحوالة كون الحق مما يصح فيه أخذ البدل قبل قبضه، فالحوالة على المسلم إليه بالمسلم فيه لا يجوز، وذلك لعدم جواز أخذ البدل عن المسلم فيه قبل قبضه، إذ الحوالة في الحقيقة ضرب عن المعاوضة، أي تقع المعاوضة بين دين المحتال في ذمة المحيل وبين ذمة المحيل في ذمة المحال عليه. وحيث أن ما في ذمة المحال عليه في المورد المفروض هو المسلم فيه وقد ثبت في محله أنه لا تجوز المعاوضة

 

على المسلم فيه خصوصا إذا كان من المكيل أو الموزون، فلا تصح الحوالة بالمسلم فيه قبل قبضه على المسلم إليه، ولا بد في الحوالة على المسلم إليه بالمسلم فيه أن يكون قبل القبض، إذ بعد القبض لا يبقى حق على المسلم إليه كي يمكن الحوالة عليه. هذ حاصل ما يستفاد مما أفاده الشيخ في المبسوط (1) وجها للشرط الثاني. ولكن أنت خبير بضعف هذا الوجه، إذ الحوالة استيفاء الدين من المحتال ومن المحيل أيضا، فالمحتال يستوفى دينه من المحيل بتوسط الحوالة على المحال عليه، والمحيل أيضا يستوفى دينه من المحال عليه، واستيفاء الدين بغير جنسه جائز إذا كان مع التراضي، فلا معاوضة في البين، هذا أولا. وثانيا: أن المعاوضة على المسلم فيه قبل القبض لو كان فيه إشكال يكون مختصا بما إذا كان من المكيل أو الموزون. وثالثا: المشهور قائلون بكراهة بيع المسلم فيه لا الحرمة، وإن قال به بعض القدماء مثل ابن البراج (2) وابن حمزه (3). ورابعا: القائلون بالحرمة يقولون في خصوص البيع لا مطلق المعاوضة. فقد ظهر مم ذكرنا ها هنا وفيما تقدم عدم اشتراط صحة الحوالة بهذين الشرطين اللذين ذكرها شيخ الطائفة قدس سره. ثم قال الشيخ قدس سره: ويقوي في نفسي أن الحوالة ليست بيعا، بل هي عقد منفرد ويجوز جميع ذلك إلا زيادة أحد النقدين على صاحبه، لأنه رباء (4)

 

(هامش)

 

1. المبسوط ج 2، ص 313. 2. حكي عنه في مختلف الشيعة ج 5، ص 495. 3. الوسيلة ص 282. 4. المبسوط ج 2، ص 317. (*)

 

فرع: هل يجوز الحوالة بما لا مثل له أم لا؟ والمراد بما لا مثل له هو القيمي الظاهر هو الأول، أي جواز الحوالة بما لا مثل له، وذلك من جهة أن المراد من الحوالة استيفاء المحتال، دينه من المحيل وكذلك استيفاء المحيل دينه من المحال عليه إذا لم تكن الحوالة على البرئ وقد تقدم أن استيفاء الدين كما يمكن بنفس ما في ذمته كذلك يمكن بمثله أو قيمته. فلو أحال عليه ثوبا أو حيوانا كان في ذمته، يمكن أن يستوفى المحتال دينه الذي كان على المحيل بقيمته والحوالة صحيحة وإن لم يكن له مثل، ويحصل الغرض من الحوالة الذي هو عبارة عن استيفاء دينه. خلافا للشيخ (1) وابن حمزة، (2) فقد نسب في الجواهر إلى الشيخ في أحد قوليه وإلى ابن حمزة أنهما منعا عن الحوالة بالقيميات للجهالة فيها. (3) وفيه أن رفع الجهالة فيها ممكن بالتوصيف ولذلك بنائهم على صحة بيع المسلم فيها باعتبار انضباطها بالتوصيف. ولا شك في أن اعتبار المعلومية في المال المحال به ليس أشد وآكد من اعتبار المعلومية في المسلم فيه فلا يبقى وجه لإشكالها في صحة الحوالة بالقيميات، مثل الأثواب والحيوانات مما تتعلق بالعهدة بحسب أحد أسباب الضمان. فالعمدة في المال المحال به هو أن يكون ثابتا حال الحوالة في ذمة المحال عليه، ولا فرق بين أن يكون من المثليات أو من القيميات. نعم لا بأس بالحوالة على البرئ وقد تقدم تفصيل ذلك.

 

(هامش)

 

1. المبسوط ج 2، ص 312. 2. الوسيلة ص 282. 3. جواهر الكلام ج 26، ص 169. (*)

 

فرع: قال في الشرائع: إذا قال أحلتك عليه فقبض، فقال المحيل: قصدت الوكالة، وقال المحتال: إنما احلتني بما عليك، فالقول قول المحيل، لأنه أعرف بلفظه وفيه تردد (1). في المسألة صور: إحديها: ما حكيناها عن الشرائع. وحاصل هذه الصورة هو أنه لو كان لرجل دين على الرجل، فقال لدائنه: أحلتك عليه، فقبض الدائن من ذلك الرجل، فوقع النزاع بين المحيل وذلك الدائن، وادعى المحيل أني قصدت الوكالة من قولي: أحلتك عليه، وادعى الدائن الحوالة كما هو ظاهر اللفظ. وثمرة هذا النزاع هو أنه لو كان ادعاء المالك المحيل صحيحا فالمال المأخوذ من ذلك الرجل ليس ملكا للدائن، بل ملك للمحيل، فلو كان له نماء أو ارتفاع قيمة فكلها للمحيل. وأما لو كان قول المحتال صحيحا فيكون المال المأخوذ ملكا له والنماء له. وهناك ثمرات أخر لا تخفى على الفقيه. فقد يقال - كما في الشرائع في العبارة السابقة - القول قول المحيل، وإن أظهر التردد فيه بعد هذه العبارة. وكما في القواعد حيث قال: والأقرب تقديم قول المحيل. (2) وما ذكراه في وجه تقديم قول المحيل وجهان: الأول: أن المحيل أعرف بلفظه وقصده، والمراد من كونه أعرف بلفظه، أي بأنه استعمل لفظ أحلت استعمالا حقيقي أو أراد منه الوكالة مجازا، وكذلك أعرف بما قصده من هذا اللفظ وأنه هل أراد المعنى الحقيقي من لفظ أحلت أو قصد الوكالة، بل

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 114. 2. قواعد الأحكام ج 1، ص 181. (*)

 

لا يعرف ما أراد إلا من قبله، فيسمع قوله إذا قال: أردت من لفظ أحلت الوكالة مجاز. ثم إن المراد من سماع قوله أن في مقام تشخيص المدعي والمنكر بناء على ما هو الحق وأن المنكر هو الذي يكون قوله موافقا للحجة الفعلية، فيكون المنكر هو المحيل، بناء على أن يكون كونه أعرف بلفظه وقصده حجة في مقام الإثبات، فيكلف المحتال بالبينة، فإن لم يأت يتوجه الحلف إلى المحيل. وهذا هو المراد من أن القول قوله. وأيضا الفرض في هذه الصورة هو كون النزاع بعد قبض المحتال المحال به. والوجه الثاني: هو استصحاب بقاء حق المحتال على المحيل، وبقاء حق المحيل على المحال عليه. وفي كلا الوجهين نظر واضح. أما الأول: أي كون المحيل أعرف بلفظه وقصده، فهذا إن كان له فهو فيما إذا كان اللفظ مجملا ولم يكن له ظهور، وأما اللفظ الظاهر في معنى يؤخذ بظاهره في كشف مراده، والظهور حجة في كشف مراد المتكلم حتى فيما عليه، ولذلك يؤخذ بأقاريره، وإقراره حجة عليه يلزم به، وليس له أن يقول: ما أردت هذا المعنى بل أردت المعنى الفلاني من باب المجاز، واستعمال اللفظ في غير ما وضع له أو بحذف أو إضمار أو تقدير أو غير ذلك، وكذلك في سائر أبواب المعاملات. فإذا أوقع معاملة من المعاملات ثم أنكر قصد تلك المعاملة التي يكون اللفظ ظاهرا فيها لا يسمع منه. والسر في ذلك أن بناء العقلاء على حجية الظهورات وأنها كاشفة عن مراد المتكلم، والشارع أمضى هذه الطريقة ومشى عليها، وأصالة الحقيقة أصل عقلائي. فإذا شككنا في وجود قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو على إرادة المعنى المجازي الفلاني، فأصالة عدم القرينة هي المرجع، وإن شئت قلت: أصالة الحقيقة. وفيم

 

نحن فيه الكلام في صورة عدم وجود قرينة أو الشك فيها، ولو تنازعا في صورة الشك في وجود القرينة فالأصل عدمها. وبناء على ما ذكرنا لا يبقى وجه للوجه الثاني، لحكومة الأمارات على الأصول العملية وإن كانت تنزيلية، كالاستصحاب المدعي في المقام. ثم إنه لا يقال: إن استصحاب بقاء حق المحيل على المحال عليه لا يجرى على كل التقديرين، سواء كان المراد من لفظ أحلت الذي قاله للمحتال هي الحوالة أو الوكالة. أما الأول فواضح. وأما الثاني فلأنه وكيلا في قبض حق المحيل، والمفروض أنه قبضه فلا يبقى شك في بقاء حق المحيل على المحال عليه كي يستصحب، لأنه على تقدير الوكالة ليس وكيلا في قبض حق المحيل، بل وكيل في قبض مقدار من المال، فيمكن بقاء الحق في عهدته، ويكون ما يأخذه الوكيل دينا في ذمة الموكل. نعم إذا كان حق المحيل الموكل على المحال عليه مع دينه منه بتوسط الوكيل مساويا في الجنس والنوع والصفة والمقدار، فيتهاتران قهرا. الصورة الثانية: أن يكون هذا النزاع بينهما قبل القبض. وفي هذه الصورة لم يتردد في الشرائع مثل الصورة الأولى بل قال: أما لو لم يقبض واختلفا فالقول قول المحيل قطعا (1). ولعل وجه الفرق بين الصورتين هو أنه في الأولى على تقدير كونه حوالة يكون ما أخذه المحتال ملكا له، فيكون دعوى المحيل على ذي اليد الذي يدعى ملكية ما في يده واليد أمارة الملكية، فيكون المحيل مدعيا والمحتال منكرا، للضابط الذي ذكرناه لتشخيص المدعي والمنكر. وقد ذكرنا أن كون القول قوله هو أن يكون منكرا. فيمكن أن يدعي أحد أنه إن كان النزاع بعد القبض، فليس القول قول المحيل لما

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 114. (*)

 

ذكرنا، بل هو مدع، لأن الحجة الفعلية مع المحتال وهي اليد، وأما لو كان قبل القبض فلا يد للمحتال على المال، فيرجع النزاع إلى مفاد قوله أحلت ، وقد سبق أنه أعرف بمفاد لفظه وقصده، فيكون القول قول المحيل قطعا. وفيه أولا: ما عرفت من أن ظهور قوله أحلت في الحوالة حجة وأمارة على أن المنشأ حوالة، فمدعى الحوالة هو الذي قوله موافق للحجة الفعلية ولا فرق في ذلك بين أن يكون دعواه قبل القبض أو بعده، فل تصل النوبة إلى أنه مالك من جهة يده عليه، واليد أمارة الملكية، فتكون قول المحيل من قبيل دعوى الأجنبي على المالك ذي اليد الذي هو المحتال ها هنا، فيكون القول قول المحتال. وثانيا: محط الدعوى ومصبها هو أن المنشأ حوالة أم وكالة، والقبض وعدمه أجنبي عن هذا المقام، وفيه لا بد من إتيان الدليل على أن أي واحد منهما هو المنشأ، ومعلوم أن ظهور لفظ يعين أن المنشأ هي الحوالة لا الوكالة. الصورة الثالثة: عكس هذ الفرض، وهو أن يدعى المحيل الحوالة ويدعى المحتال الوكالة. وقال في الشرائع: القول قول المحتال (1). ولكن يرد عليه: أنه بناء على ما اختاره في الفرض الأول أنه أعرف بلفظه وقصده وقال: إن القول قول المحيل، مع أن المحيل هناك ادعى إرادة الوكالة عن لفظ الحوالة وها هنا يدعى إرادة الحوالة من لفظ الحوالة، فإذا صدق هناك لأنه أعرف بما أراد فها هنا لا بد أن يصدق بطريق أولى، لأنه هناك يدعى إرادة خلاف الظاهر وه هنا يدعى إرادة ما هو ظاهر اللفظ، ودعواه ها هنا على طريقة العرف والعقلاء وهناك على خلاف طريقتهم.

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 114. (*)

 

ولكن مع ذلك كله يمكن توجيه ما ذكره في الشرائع بأن لفظ أحلت يحتمل فيه أن يكون بمعنى الحوالة التي عبارة عن تحويل ما في ذمته إلى ذمة غيره، ويحتمل أن يكون المراد منه تحويل حق المطالبة عمن هو مديون له إلى آخر، فيكون نائبا عنه في المطالبة فقط، لا أن ذمة المديون تشتغل للمحتال، فإذا كان اللفظ متحملا لمعنيين، فتعين أحدهم يحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام، فيكون مجملا، فالمرجع هي الأصول العملية، ومقتضاها هو سماع قول المحتال، لأصالة بقاء الحقين، أي حق المحيل على المحال عليه، وحق المحتال على المحيل. ويمكن أيضا أن يقال: بأن الحوالة الشرعية متضمنة لمعنى الوكالة، أي أذن المالك المحيل في القبض والأخذ عن المحال عليه، غاية الأمر له خصوصية زائدة وهي أن ماله أخذه عن المحال عليه عبارة عن استيفاء حقه الذي انتقل من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فالقدر المتيقن الذي لا نزاع فيه إنشاء المعنى الأول، أي تحويل حق المطالبة. وأما الخصوصية الزائدة، أي انتقال ما في ذمة المحيل إلى المحال عليه فغير معلوم، وتكون مجرى أصالة العدم. ولكنك خبير بأن أمثال هذه التوجيهات خلاف ظاهر لفظ أحلت ، وهذه اللفظة ظاهرة عرفا وشرعا في الحوالة الشرعية التي عبارة عن تحويل ما في ذمته إلى ذمة غيره وقد ذكرنا أن الظاهر حجة وأمارة، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصول العملية. نعم لو لم يكن لفظ أحلت في البين، وكان النزاع بينهما بأن يقول الدائن للذي هو مديون له: وكلتني في أخذ مبلغ كذا من زيد الذي هو مديون لك وينكر كون ما ذكره المحيل حوالة، والمحيل المديون لهذا المحتال يدعى أني حولتك بمالك علي على زيد بمالي عليه، فحينئذ لا بأس بأن يقال في مقام تشخيص المدعي والمنكر إن القول قول المحتال، لموافقته للحجة الفعلية التي هي المناط في كونه منكرا، وفي سماع قوله، إذ

 

قوله موافق لأصالة بقاء الحقين، أي حق المحيل والمحتال. وقد تقدم بيانه. ولا يجوز للمحتال الذي ينكر الحوالة ويدعى الوكالة مع إنكار المحيل الوكالة أخذ ما يدعي الوكالة فيه، لأن إنكار المحيل المديون لوكالة المحتال بمنزلة عزله، لأن الوكالة من العقود الجائزة في أي وقت شاء له أن يعزله، فإذا قال: أنت لست بوكيلي لا يخلو من أحد أمرين: إما ليس بوكيل واقعا فليس له أن يقبض ما يدعى الوكالة فيه، وإما وكيل واقعا والمحتال صادق في دعواه فينعزل بهذه العبارة، فلا يجوز له القبض على كل حال. فرع: إذا كان له على اثنين ألف درهم مثلا بالسوية، أي كان على كل واحد خمسمائة مثلا، وكان كل واحد منهما كفيلا أي ضامنا لصاحبه، وكان لرجل آخر عليه ألف درهم فأحاله عليهما، صح هذا الحوالة، لتمامية أركانها، وشمول قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم وسائر الاطلاقات لها. قال في الشرائع: وإن حصل الرفق في المطالبة (1). ولعل مراده أنه بناء على أن مقتضى هذه الحوالة هو جواز مراجعة المحتال إلى كل واحد من المحال عليهما ومطالبته بالألف، وذلك من جهة أن كل واحد منهما عليه خمسمائة من ناحية الدين وخمسمائة من ناحية ضمانه لصاحبه. فقوله في الشرائع وإن حصل الرفق دفع توهم، وهو أن الحوالة لا تقتضي أزيد من اشتغال ذمة المحال عليه بنفس ما هو في ذمة المحيل بلا زيادة ولا نقيصة، وها هنا توجب الحوالة زيادة وهو الاتفاق، وذلك لأن المحتال قبل هذه الحوالة كان يستحق استيفاء دينه من شخص واحد وهو المحيل، وبعد الحوالة له أن يستوفي من كل واحد

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 114. (*)

 

منهما، وهذا نحو إرفاق حصل من ناحية الحوالة. وجوابه: أن حصول مثل هذه الإرفاقات ل تضر بصحة الحوالة إذا كانت واجدة لشرائط الصحة التي تقدم ذكرها، لشمول أدلة تشريعه لها. ألا ترى أنه يجوز الإحالة على من هو املاء وأوفى من المحيل، وإذا كان المحيل صعب الوصول إليه فيحيل دائنه إلى طرف له محل شغل في السوق والوصول إليه في كمال السهولة، وتحصيل الدين أسهل منه بكثير عن المحيل. نعم لو كانت الزيادة في نفس م أحال به وهو الذي كان في ذمة المحيل، فهو محل الإشكال، لما بينا أن حقيقة الحوالة عندنا تحويل ما في الذمة إلى ذمة شخص آخر بالشرائط المتقدمة بلا زيادة. وأما اختلاف الأحوال في ناحية المحيل والمحتال والمحال عليه فلا بأس به إن كانت واجدة لشرائط الصحة. نعم ها هنا إشكال آخر أورده في المختلف (1) على ما قاله الشيخ قدس سره في المبسوط، فإنه أول من ذكر هذا الفرع بهذه الصورة في المبسوط على حسب إطلاعن. وخلاصته: أن رجوع المحتال إلى كل واحد منهما بتمام الألف في المثل المفروض إنم يستقيم على مذهب من يقول بأن الضمان ضم ذمة إلى ذمة. وأما بناء على ما هو المختار عند الطائفة من أنه عبارة عن نقل ما هو في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، فليس له مطالبة كل واحد منهما بتمام الألف، وذلك من جهة أن بضمان كل واحد منهما لصاحبه ينتقل ما في ذمة صاحبه من الدين الأصلي إلى ذمة ذلك الضامن، وهو في المثال المفروض خمسمائة درهم. فالنتيجة أن ما في ذمة كل واحد منهما يتبدل بما في ذمة الآخر وهو خمسمائة درهم في المثال المذكور، فبعد الضمان أيضا ليس في ذمة كل واحد منهما إل خمسمائة

 

(هامش)

 

1. مختلف الشيعة ج 5، ص 497. (*)

 

مثل قبل الضمان. إلا أن الفرق بينهما أن قبل الضمان كانت الخمسمائة التي في ذمة كل واحد منهما هي التي كانت من ناحية الدين الأصلي، والتي بعد الضمان هي التي كانت في ذمة صاحبه بالدين الأصلي وانتقل إلى ذمته بواسطة الضمان، وإلا على كل حال ليس في ذمة كل واحد منهما إلا نفس ذلك المقدار الأول، فليس له من كل واحد منهما مطالبة الألف على كل حال، إلا على القول بأن حقيقة الضمان ضم ذمة إلى ذمة أخرى. لأنه لو كان كذلك فالدين الأصلي لكل واحد منهما لم ينتقل عن مكانه، وذمة كل واحد منهم مشغولة به كما كانت، وبواسطة الضمان وضم ذمته إلى صاحبه المديون أيضا بخمسمائة يستحق المحتال مطالبته به أيضا، فيستحق مطالبة الألف من كل واحد منهما، خمسمائة بواسطة الدين الأصلي، وخمسمائة بواسطة ضمانه الذي يقتضي ضم ذمته إلى ذمة المديون. والشيخ قدس سره في المبسوط يصرح بهذا أم لا يمكن يستند إليه مثل هذا القول الذي قد صرح بأنه خلاف ما عليه الطائفة وهو قول مخالفينا. ولذلك وجه كلامه في الجواهر بأن مراده من قوله: وكل واحد منهما ضامن لصاحبه أي: كفيل (1) ومن المعلوم أن الكفالة - وهو الالتزام بإحضار من عليه الحق - لا يوجب انتقال ما في ذمة من عليه الحق إلى ذمة الكفيل، فلا يبقى مجال لإشكال المختلف. ولكن الإنصاف أن عبارة المبسوط لا تلائم مع هذا التوجيه، لأنه صرح في المفروض والمثل المذكور بعد قوله إذا كان له على رجلين ألف درهم على كل واحد خمسمائة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بقوله: فإن للمضمون له أن يطالب أيهما

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 181. (*)

 

شاء بالألف (1). وأنت خبير بأن هذه العبارة لا تلائم مع الكفالة التي في قبال الضمان وقسم آخر من كونه زعيما وهو الالتزام بإحضار الغريم مؤجلا أو معجلا، بل لو كان كفيلا بذلك المعنى، له أن يطالب في المثل المذكور بخمسمائة التي هي دينه وإحضار الغريم الآخر، لا أن يطالب بالألف. نعم لو هو أعطى الألف من عند نفسه أو باستدعاء صاحبه الغريم الآخر تبرأ ذمتهما بلا كلام، إذ لا يبقى بعد ذلك حق للدائن كي تكون ذمة الرجلين الغريمين أو أحدهما مشغولة بشيء له. ولهذا الفرع شقوق وصور باعتبار إحالة الدائن إلى كليهما أو إلى جميعهم إذا كانوا أكثر من اثنين، أو إلى بعضهم، وباعتبار إبراء الدائن جميعهم أو بعضهم، وباعتبار أداء بعضهم أو جميعهم بعض م عليهم أو جميعه. ذكر اغلبها الشيخ في المبسوط (2) وإن شئت فراجع إليه، وتركنا ذكر هذه الصور لوضوح حكمها بعد معرفة المباني من أن حقيقة الحوالة تحويل ما في الذمة إلى ذمة الغير وأن إبراء الأصل أي الدين الأول يوجب إبراء الضمانات المتعاقبة والمترتبة على الدين الأول وأن الوكالة يمكن أن تقع بلفظ الحوالة أو لا يمكن، فل يحتاج إلى ذكرها والنقض والإبرام فيها. فرع: هل يجوز شرط الأجل في الحوالة أم لا، بمعنى أنه يحيل دينه من زيد على عمرو ويشترط عليه أن لا يقبض ذلك الدين من عمرو إل بعد مضي مدة معينة، كانت تلك المدة طويلة أم قصيرة؟ الظاهر أنه لا بأس بهذ الاشتراط، وأنه لا ينافي مقتضى عقد الحوالة، لأن عقد

 

(هامش)

 

1. المبسوط ج 2، ص 329. 2. المبسوط ج 2، ص 317. (*)

 

الحوالة يقتضي انتقال ما في ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه وأن تكون ذمة المحال عليه مشغولة للمحتال بدل ذمة المحيل، وأما جواز المطالبة فورا فليس من مقتضيات عقد الحوالة، وإنما هو من آثار نفس الدين لو لم يكن مؤجلا أو مشروطا بعدم المطالبة والقبض إلا بعد مضي مدة. فلو شرط المحيل على المحتال عدم القبض إلا بعد مضي مدة فل مانع من نفوذ هذا الشرط، لأنه شرط جائز لأنه لا يحتمل عدم جوازه إلا من ناحية كونه مخالفا لمقتضى العقد، وقد عرفت عدم كونه مخالفا لمقتضى عقد الحوالة، فيشمله عموم المؤمنون عند شروطهم . وهذا أمر متعارف في الأسواق عند التجار، خصوصا إذا كان مبلغ المحال به كثيرا والمحيل في بلد والمحال عليه في بلد آخر، فيجعلون في ورقة الحوالة مدة كي لا يقع المحال عليه في ضيق وحرج من ناحية تلك الحوالة، ويتمكن من تهيئة المبلغ في تلك المدة، فكانوا يكتبون في الورقة: سلم إلى فلان - أي المحتال - مبلغ كذا بعد مضي ثلاثة أيام من رؤية هذه الورقة. المقام الثالث في الكفالة وهي في اصطلاح الفقهاء عبارة عن التعهد والالتزام لشخص بإحضار من له حق عليه مؤجلا أو معجلا، أو بإحضار شيء آخر كالأعيان المضمونة. وقال في القواعد: وهي عقد شرع للتعهد بالنفس (1).

 

(هامش)

 

1. قواعد الأحكام ج 1، ص 182. (*)

 

وكذلك قال في الجواهر: والمعروف في تعريفها أنها عقد شرع للتعهد بالنفس (1). والظاهر أن الكفالة عبارة عن نفس التعهد والالتزام بإحضار شخص أو عين، كما ذكرن. والعقد الذي ذكروه في مقام التعريف إن كان المراد به ألفاظ الإيجاب والقبول، فهو سبب وآلة لإنشاء الكفالة لا أنها عين الكفالة، والحال في الإيجاب والقبول فيه كحالهما في سائر عناوين المعاملات من البيع والصلح والرهن والاجارة وغيرها، من أنهما أسباب لها لا أنها عين المسببات وتلك العناوين. وعلى كل فالأمر فيها سهل بعد وضوح المقصود، وما هو المهم في المقام، أي معنى الكفالة التي هي موضوعة للأحكام. فرع: يشترط في صحة الكفالة أمور: منها: رضا الكفيل والمكفول له، ووجهه واضح، إذ الكفالة عقد واقع بين الكفيل والمكفول له، وصحة كل عقد منوطة برضاء المتعاقدين بم هو مضمون العقد، إذ لا تتحقق إنشاء المعاملة حقيقتا من المتعاقدين إلا باستعمالهم لفظ الإيجاب والقبول في معناهما بإرادة جدية، وهذا ملازم مع رضا كل واحد منهما بم هو مضمون، فلو لم يكونا راضيين أو أحدهما لم يتحقق الإنشاء الحقيقي، فلا عقد ول عهد بينهما كي يكون موضوعا للصحة، وهذا واضح جدا. ولكن المراد من الرضاء الرض المعاملي لا طيب النفس، وقد حقق المسألة في شرائط عقد البيع. وقد تكلم شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره في مكاسبه مفصلا في اعتبار الرضا في عقد البيع (2).

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 185. 2. المكاسب ص 118. (*)

 

مضافا إلى ادعاء الإجماع من صاحب الجواهر قدس سره بقسميه، وقال: لا إشكال بل ول خلاف في أنه يعتبر رضاهما أي الكفيل والمكفول له، بل الإجماع بقسميه (1). هذ بالنسبة إلى الكفيل والمكفول له. وأما بالنسبة إلى المكفول فهل يعتبر رضاه أم لا؟ المشهور بل في التذكرة قال: عند علمائنا عدم الاعتبار (2)، وقال الشيخ في المبسوط باعتبار رضاه، وقال ابن إدريس أيضا: الكفالة صحيحة إذا كان بإذن من تكفل عنه (3)، ونسب في الجواهر إلى القاضي وابن حمزة أيضا اعتباره، وقد حكى عن العلامة أنه قال: وفيه أي في اعتبار الرضا في المكفول قوة (4). وقال في الجواهر: لا استبعاد في تركيب عقد الكفالة من إيجاب من الكفيل وقبولين: أحدهما من المكفول له، والآخر من المكفول (5). وإلى هذا مال سيدنا الأستاذ فقيه عصره السيد الاصفهاني قدس سره في وسيلته وقال: والأحوط اعتباره، بل الأحوط كونه طرفا للعقد: بأن يكون عقدها مركبا من إيجاب وقبولين من المكفول له والمكفول (6). ولا شك في أنه لو كان الأمر كذلك لكان اعتباره من الواضحات، لما ذكرنا من أن إنشاء الإيجاب لا بد وأن يكون عن إرادة جدية بمضمونهما، فبناء على كون المكفول أحد القابلين لا مناص عن القول باعتبار الرضا في المكفول أيضا مثل المكفول له. ولكن الشأن في صحة هذا الأمر وأنه من أركان عقد الكفالة كما توهم أم ل

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 186. 2. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 100. 3. السرائر ج 2، ص 77. 4. جواهر الكلام ج 26، ص 187. 5. المصدر. 6. وسيلة النجاة ج 2، ص 214. (*)

 

والعقد واقع بين الكفيل والمكفول له والمكفول أجنبي عن هذا الأمر، وذلك من جهة أن المقصود من عقد الكفالة هو وثوق المكفول له واطمينانه بعدم ذهاب حقه، وهذا أمر راجع إلى الكفيل والمكفول له والمكفول، لا شأن له في هذا المقام، ويكون حاله في باب الكفالة مثل حال المضمون عنه في باب الضمان. فكما أن المضمون عنه خارج عن أطراف العقد - والعقد واقع بين الضامن والمضمون له - فكذلك المكفول. وبناء على صحة كفالة الأعيان المضمونة حال المكفول إذا كان إنسانا حال المكفول إذا كان من الأعيان المضمونة فكما لا يمكن ادعاء اعتبار الرضا فيها ولا يعقل، فكذلك إذا كان إنسان. وبعبارة أخرى: التعاقد والتعاهد بين الكفيل والمكفول له، لأن الكفيل يتعهد للمكفول له بإحضار ذلك مؤجلا بأجل معين أو معجلا، وهذا العقد والتعاهد لا ربط له بالمكفول أصلا. وحال المكفول إذا كان من ذوي العقول حاله إذا كان من غير ذوي العقول، مثل أن يكون حيوانا أو متاعا. وأما ما ذكروا في وجه اعتبار رضاه أن وجهه امكان إحضاره فإنه متى لم يرض لم يلزمه الحضور معه، فعجيب، لأن طريق إحضاره ليس منحصرا بكونه راضي بهذه الكفالة، بل وإن لم يكن راضيا ولا يرى نفسه ملزما بالحضور ولكن الكفيل قادر على إحضاره بالطرق العادية، وهذا المقدار يكفي في تحقق الكفالة وشمول الاطلاقات له. ومنها: تعيين المكفول. قال في القواعد: فلو قال: كفلت أحدهما، أو قال: كفلت زيد فإن لم آت به فبعمرو، أو بزيد أو عمرو بطلت (1). وذلك لما قلنا من أن حقيقة الكفالة هو التعهد بإحضار شخص، ومع الترديد أو كونه مجهولا كيف يتعهد بإحضاره. ولكن الإنصاف أنه لو قال: كفلت أحد هذين، أي أتعهد بإحضار أحد هذين تتحقق الكفالة عرفا وتشمله الاطلاقات، إلا أن يرد دليل خاص على بطلان مثل هذا

 

(هامش)

 

1. قوائد الأحكام ج 1، ص 182. (*)

 

التعهد، وعدم تحقق الكفالة شرعا من إجماع أو غيره. ومنها التنجيز: وعدم تعليقه على أمر، سواء كان مشكوك الوقوع أو معلوم. والعمدة في دليل بطلان التعليق في جميع العقود التي منها الكفالة هو الإجماع، وإلا فلا مانع عقلا. نعم تعليق الإنشاء عقل لا يمكن، وذلك لأن الإنشاء في التشريعيات مثل الإيجاد في التكوينيات، وكما أن الثاني لا يمكن التعليق فيه بل أمره دائر بين الوجود والعدم كذلك الحال في الأول، لأن الإنشاء أيضا إيجاد في عالم التشريع. وأما القضايا الشرطية في لسان الشرع، فالإنشاء منجز على الموضوع المقيد، فقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1) ليس الإنشاء معلقا، بل المعلق هو المنشأ. وبعبارة أخرى: موضوع الحكم مقيد، فكأنه تعالى قال: المستطيع يجب عليه، فأنشأ الحكم منجزا على هذ الموضوع المقيد. وكذا قوله تعالى في باب الجعالة (ولمن جاء به حمل بعير) (2). قال العلامة قدس سره في القواعد: لو قال: إن جئت فأنا كفيل به، لم يصح على إشكال (3). ولعل غرضه من الإشكال هو ورود رواية على الصحة، وهي رواية أبي العباس البقباق قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل كفل لرجل بنفس رجل وقال: إن جئت به وإلا فعلى خمسمائة درهم، قال: عليه نفسه ولا شيء عليه من الدراهم . فإن قال: علي خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه، قال: تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه (4).

 

(هامش)

 

1. آل عمران (3): 97. 2. يوسف (12): 72. 3. قوائد الأحكام ج 1، ص 182. 4. الكافي ج 5، ص 104، باب الكفالة والحوالة، ح 3، تهذيب الأحكام ج 6، ص 210، ح 493، باب في الكفالات والضمانات، ح 10، وسائل الشيعة ج 13، ص 157، أبواب الضمان، باب 10، ح 1. (*)

 

قال فخر المحققين قدس سره في الإيضاح (1) في تقريب دلالة الرواية على صحة الكفالة مع التعليق بأن ظاهرها هو أن لزوم دفع الخمسمائة درهم معلق على عدم الإتيان به، وهذا ملازم مع كون لزوم الإتيان به وإحضاره معلقا على عدم الدفع، فيكون وجوب إحضاره الذي هو عبارة أخرى عن الكفالة معلقا على عدم الدفع، وقد حكم الإمام عليه السلام بصحة مثل هذه الكفالة وأفاد أن حكم الإمام عليه السلام في جواب سؤال الراوي بنحو قضية المانعة الخلو، أي لا يخلو وظيفته وما يجب عليه من أحد أمرين: إما دفع الخمسمائة، وإما الإتيان بذلك الرجل الذي كفل بإحضاره والإتيان به. وهذا كلام عجيب، لأن الرواية ظاهرة في أن لزوم الدفع معلق على عدم الإتيان به، وأما لزوم الإتيان فليس معلقا على عدم الدفع، بل هو لازم على كل حال، دفع أو لم يدفع. نعم هو التزم بالدفع معلقا على عدم الإتيان به، وهذا تعليق في التزامه وليس تعليقا لا في الكفالة ولا في الضمان المصطلح، بل تعليق في ما التزم به، فالرواية أجنبية عن المقام. ولو كانت دالة على تعليق الكفالة يجب طرحها، للإجماع على خلافها. وقد ذكروا ها هن لبطلان التعليق وجوها تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها مضافا إلى عدم صحتها في نفسها. ثم إنه لا يخفى أن الشرائط العاملة التي ذكروها لصحة العقود تأتي كلها في عقد الكفالة أيضا، من البلوغ والعقل والرشد والاختيار بالنسبة إلى المتعاقدين، أي الكفيل والمكفول له إن كان قابلا لأن يقع طرفا في العقد، وإلا ففي وليه. وبعبارة أخرى: هذه الشروط لمطلق المتعاقدين، ولا اختصاص لها بعقد خاص، فلا يجب ذكره وتكرارها في كل عقد بعد أن كان دأب الفقهاء وديدنهم ذكرها في أول أبواب المعاملات أعني البيع. وإنما ذكروا خصوص التنجيز لأجل الرواية التي ذكرناها واستظهار بعضهم عدم اعتبار التنجيز فيها. وقد عرفت الحال فيها وأنه لا دلالة لها

 

(هامش)

 

1. إيضاح الفوائد ج 2، ص 98. (*)

 

على ذلك. فرع: تصح الكفالة حالة ومؤجلة، وذلك من جهة أن الكفالة كما تقدم عبارة عن التزام لشخص بإحضار شخص آخر لحق للأول - أي المكفول له - على الثاني المسمى بالمكفول لاستيفاء حقه منه. وللملتزم أن يلتزم بإحضاره مطلقا من قيد التعجيل والتأجيل، أو يقيد الملتزم به - أي الإحضار - بالتعجيل أي حالا، أو يقيد بالتأجيل فيسمى بالكفالة المؤجلة. والكفيل مختار في جعل التزامه على كل واحد من هذه الأوجه الثلاث، والإنسان مختار في معاهداته والتزاماته، إلا أن يكون ما التزم به حرام. وأما دليل نفوذ هذه الالتزامات على الأوجه الثلاث، فهي اطلاقات باب الكفالة. أم صحتها مؤجلة، فقد ادعى في الروضة أنه موضع وفاق، وادعى في الجواهر عدم الخلاف فيه (1). وأما صحتها حالة ومعجلة، فقد حكى الخلاف فيها عن المفيد في المقنعة (2)، وعن الشيخ في النهاية (3)، وعن ابن حمزة (4)، وسلار (5)، والقاضي في أحد قوليه (6)، ولم يأتوا بدليل يركن إليه في تقييد الاطلاقات. وأما ما ذكر في وجه عدم صحتها من لغويتها لو كانت حالة لأن المكفول له أن

 

(هامش)

 

1. جواهر الكلام ج 26، ص 188. 2. المقنعة ص 815. 3. النهاية ص 315. 4. الوسيلة ص 281. 5. المراسم ص 200. 6. حكى عنه في مختلف الشيعة ج 5، ص 499. (*)

 

يطالبه في نفس وقت إيقاع الكفالة ومع حضور المديون، وهذا يكون عبثا. ففيه: أن مورد تعجيل الكفالة وكونها حالة ليس منحصرا بهذا المورد المذكور كي يكون لغوا وعبثا، بل يمكن أن يكون المكفول في نفس الوقت غائبا عن مجلس الكفالة بل غائبا عن البلد، ولكن الكفيل متمكن من إحضاره فورا ولو بتوسط البرقية أو التلفون. هذا، مضافا إلى أن المراد من كونها حالة ليس بمعناه الدقي، بل بمعناه العرفي ولو بأن يكون زمان حضوره تميد إلى ساعات لا ينافي صدق كونها معجلة وحالة. ثم إنه بعد الفراغ عن صحة كونه مؤجلة لا بد من تعيين مدتها، وذلك للإجماع أولا، ولبطلان المعاملة الغررية بناء على صحة رواية نهى النبي صلى الله عليه وآله عن الغرر (1) أو للإجماع على بطلان المعاملة الغررية. والحاصل: أن الإجماع انعقد على أن العقد اللازم يجب أن لا يكون غرريا وأنه موجب لبطلانها. هذا، مضافا إلى أن العقلاء في العقود اللازمة يبنون على عدم صحة المعاملة الغررية، وهذا لا ينافى مسامحتهم في بعض مراتب الغرر، وكأنه ل يرونه غررا. فرع: لا شبهة في أن للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضار المكفول عاجلا في صورتين من الصور الثلاث المتقدمة، وهما إذا كانت الكفالة حالة أو مطلقة. وأما إن كانت مؤجلة فلا يستحق المطالبة إلا بعد حلول أجله.

 

(هامش)

 

1. عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2، ص 45، ح 168، وسائل الشيعة ج 12، ص 330، أبواب آداب التجارة، باب 40، ح 3، مستدرك الوسائل ج 13، ص 283، أبواب آداب التجارة، باب 33، ح 1، سنن أبي داود ج 3، ص 254، في بيع الغرر، ح 3376، سنن الترمذي ج 2، ص 349، باب 17، ح 1248، كنز العمال ج 4، ص 74، الفرع السابع في بيع الغرر، ح 9585 - 9586. (*)

 

ووجه ما ذكرنا هو التزام الكفيل بذلك، فالمكفول له حسب التزام الكفيل يصير مستحق على الكفيل ما التزم به، فما التزامه عاجلا يستحق عليه عاجلا، ولو كانت مطلقة أيض كذلك، لأن الإطلاق يقتضي وجود أثر العقد بمحض وجوده من دون حالة منتظرة، كما أنه في باب البيع أو الإجارة مثلا تتحقق ملكية العين في الأول، والمنفعة في الثاني بمحض وجود عقديهما تامين جامعين للأجزاء والشرائط مع فقد موانعهما، فكذلك ها هنا بمحض وجود عقد الكفالة يوجد حق المطالبة بالإحضار للمكفول له الذي هو أثر هذا العقد. وأما لو كان ما التزم به إحضاره بعد مضي زمان ومدة معينة، فلا يستحق إلا بعد مضي ذلك الزمان وحلول الأجل، فإن أحضره حسب ما التزم به في الصور المذكورة حسب التزامه فهو، وإلا يحبس حتى يأتي به أو يؤدي حق المكفول له على المكفول. أما حبسه فمن جهة أن كل ممتنع عن أداء حق الغير، للحاكم حبسه إلى أن يؤديه إن كان متمكنا من الأداء وأما لو أدى حق المكفول له فلا يحبس إن كان الأداء قبلا ويطلق لو كان الأداء في أثناء الحبس، لأن بعد الأداء لا يبقى له حق كي يحبس الكفيل لأجله. وها هنا أخبار ذكرها في الكافي والفقيه والتهذيب تدل على حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول. منه: ما نقل عن الكافي، عن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى أمير المؤمنين برجل قد تكفل بنفس رجل، فحبسه وقال: اطلب صاحبك (1). ومنها: رواية أصبغ بن نباتة قال: قضي أمير المؤمنين عليه السلام في رجل تكفل بنفس

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 5، ص 105، باب الكفالة والحوالة، ح 6، وسائل الشيعة ج 13، ص 156، أبواب الضمان، باب 9، ح 1. (*)

 

رجل أن يحبس وقال له: اطلب صاحبك (1). ومنها: رواية إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه أن عليا عليه السلام أتى برجل كفل برجل بعينه، فأخذ بالكفيل فقال: احبسوه حتى يأتي بصاحبه (2). ومنها: رواية عامر بن مروان، عن جعفر، عن أبيه عليهم السلام عن علي عليه السلام أنه أتى برجل قد كفل بنفس رجل، فحبسه فقال: اطلب صاحبك (3). ولكن مفاد هذه الأخبار هو حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول، وليس فيه التخيير بين أن يحضر المكفول أو يؤدي حق المكفول له، فلا بد من التماس دليل آخر لهذا التخيير. وقد عرفت أنه مع أداء الحق لا يبقى شيء يوجب الحبس أو الإحضار. يمكن أن يقال: إن ظاهر هذه الروايات وإن كان كما ذكر، ولكن يمكن أن يكون الحكم بالحبس - إلى أن يحضر المكفول - في مورد امتناع الكفيل عن أداء حق المكفول له، وإلا فالإحضار ليس له موضوعية وإنما هو مقدمة لاستيفاء الحق منه. وما ذكره في الجواهر في وجه إلزامه بالإحضار وعدم قبول الأداء من قوله: إذ ربما يكون غرض المكفول له يتعلق بالأداء من الغريم لا من غيره (4). فيه أولا: أن هذه الفروض النادرة لا يمكن أن تكون منشأ لجعل حكم كلي وهو عدم قبول الأداء من الكفيل وإلزامه بإحضار المكفول مطلقا. وثانيا: ليس للمكفول له حق إلا استيفاء حقه وعدم ضياع ماله، وهو يحصل

 

(هامش)

 

1. الفقيه ج 3، ص 95، باب الكفالة، ح 3400، وسائل الشيعة ج 13، ص 156، أبواب الضمان، باب 7، ح 2. 2. تهذيب الأحكام ج 6، ص 209، ح 486، باب في الكفالات والضمانات، ح 3، وسائل الشيعة ج 13، ص 156، أبواب الضمان، باب 9، ح 3. 3. تهذيب الأحكام ج 6، ص 209، 487، باب في الكفالات والضمانات، ح 4، وسائل الشيعة ج 13، ص 156، أبواب الضمان، باب 9، ح 4. 4. جواهر الكلام ج 26، ص 190. (*)

 

بأداء الكفيل، ووجوب الإحضار على الكفيل وجوب مقدمى لاستيفاء الحق، فإذا كان يصل حقه إليه من دون الإحضار فلا معنى لوجوب الإحضار وجوبا تعيينيا. وبناء العقلاء في باب الكفالة هو هذا أيضا من الأول، أي على أن الكفيل يلزم بأحد أمرين: إما إحضار المكفول، وإما أداء حق المكفول له، ولذلك لو امتنع إحضاره بجهة من الجهات يجب على الكفيل الغرامة. ولعل إلى هذا يشير قوله عليه السلام - في وجه مرجوحية الكفالة، وكراهة ارتكابها وحسن اجتنابه -: الكفالة خسارة غرامة ندامة (1). وخبر داود الرقي قال: مكتوب في التوراة: كفالة ندامة غرامة (2) وغيرهما من الأخبار الأخر. فرع: من أطلق غريما عن يد صاحب الحق قهرا وإجبارا، ضمن إحضاره أو أداء ما عليه. وكذلك لو أطلق قاتلا عمدا عن يد ولي الدم قهرا وإجبارا يلزم عليه إحضاره، وإن تعذر عليه إحضاره لموت القاتل أو لجهة أخرى يجب عليه دفع دية المقتول. أما الأول: أي إطلاق الغريم عن يد صاحب الحق يوجب أحد الأمرين، فقد ذكروا له وجوها. منها: الاتفاق وعدم الخلاف كما عن الرياض (3)، والإجماع كما حكى في الجواهر عن الصيمري (4).

 

(هامش)

 

1. الفقيه ج 3، ص 97، باب الكفالة، ح 3405، وسائل الشيعة ج 13، ص 154، أبواب الضمان، باب 7، ح 2. 2. تهذيب الأحكام ج 6، ص 210، ح 492، باب في الكفالات والضمانات، ح 9، وسائل الشيعة ج 13، ص 155، أبواب الضمان، باب 7، ح 5. 3. رياض المسائل ج 1، ص 599. 4. جواهر الكلام ج 26، ص 198. (*)

 

ومنها: التمسك بقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام . وفي الإجماع ما عرفت مرار في هذا الكتاب أنه ليس من الإجماع المصطلح الذي بيننا في الأصول على حجيته، لأنه من المحتمل القريب اعتماد المجمعين - على فرض تسليم وجوده - على هذه الوجوه المذكورة، وهو كما ترى. وأما في التمسك بقاعدة لا ضرر فلما بينا في محله أن مفاد القاعدة هو رفع الحكم الضرري، لا إثبات حكم يرتفع به الضرر. ومنها: فحوى ما سنبينه في القاتل من حكمه عليه السلام بحبس من أطلق القاتل العمدي عن يد أولياء المقتول حتى يأتي بالقاتل. ولعل مراد من تمسك بهذا الوجه هو أن المطلق في إطلاق القاتل لم يتلف مال أولياء المقتول، وإنما صار سببا لضياع حقهم وعدم إمكان استيفائهم، فإذا كان ذلك موجبا لجواز حبسه حتى يأتي بالقاتل، ففي مورد إتلاف مال الغير أولى. هذا، ولكن الإنصاف أنه لا فحوى ولا أولوية في البين، من جهة أنه لا شك في اهتمام الشارع بأمر الدماء أزيد من الأموال، فيمكن أن يحكم بحبس الذي يطلق القاتل العمدي حتى يأتي به ويقتص الولي منه كي لا يتجرأ الأشقياء على قتل الناس برجاء أن أقرباءهم أو أصدقاءهم يخلصونهم عن أيدي الأولياء، فلا يكون محذور لهم ولا لأقربائهم أو أصدقائهم. وأم عدم إمكان استيفاء ماله وتأخيره، فليس بهذه المثابة والأهمية. هذا، مضافا إلى أن الأولوية الظنية لا يخرج ما ذكر عن كونه قياسا. وأما ادعاء القطع بأن مناط الحكم بالحبس هو تفويت الحق، فأمر غير مبين ولا دليل عليه. ومنها: أن إطلاق الغريم إتلاف لمال الغير عرفا، ومن أتلف مال الغير فهو له ضامن. وتدارك هذه الخسارة التي أورده على الدائن بأحد أمرين: إما إحضار الغريم، وإما أداء ذلك المال الذي كان على عهدة الغريم. وقد ذكرنا عدة فروع من هذا القبيل

 

في قاعدة الإتلاف، وإن شئت فراجعها. ومنها: أن المطلق غصب يد المستولية المستحقة من صاحبها، فكان عليه إعادتها بإحضار الغريم وجعله تحت يده، أو أداء الحق الذي بسببه تثبت اليد عليه. وهذا ما قاله جامع المقاصد (1). وفيه: أنه لم يفهم معنى لغصب اليد، وأما غصب المال الذي في عهدة الغريم فلا بد وأن يكون إما باليد الغاصبة، ولا يد للمطلق عليه، فلا تشمله قاعدة وعلى اليد . وإما بالإتلاف وهو ما تقدم ذكره من أنه هل يصدق الإتلاف عرفا في المقام أم لا؟ وخلاصة الكلام: إن أغمضنا عن الإشكال الذي ذكرنا في الإجماع أو قلنا بالقطع بأن المناط في حكمه عليه السلام - بحبس المطلق للقاتل عمدا من أيدي أولياء الدم حتى يحضر القاتل - هو تفويت حق أولياء الدم، أو قلنا بصدق إتلاف مال الدائن فهو، وإلا فالحكم بحبس المطلق للغريم لا يخلو من إشكال. وأما الثاني: أي إطلاق القاتل عمدا عن يد أولياء الدم، فيأتي فيه بعض الوجوه المتقدمة في الأول، خصوصا الإجماع المذكور عن الصميري، فإنه ادعى الإجماع في هذا المورد أيضا على ما حكى عنه صاحب الجواهر (2) قدس سره وهو نفسه أيضا ادعى عدم وجدان الخلاف في هذا الحكم، أي لزوم إحضار المطلق للقاتل عمدا إياه أو دفعه الدية. ولكن العمدة فيه صحيح حريز، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن رجل قتل رجلا عمدا، فرفع إلى الوالي، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليهم قوم فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء، قال: أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا بالقاتل . قيل: فإن مات القاتل وهم في السجن؟ قال عليه السلام:

 

(هامش)

 

1. جامع المقاصد ج 5، ص 394. 2. جواهر الكلام ج 26، ص 199. (*)

 

وإن مات فعليهم الدية، يؤدونها جميعها إلى أولياء المقتول (1). والإنصاف أن الصحيحة صريحة الدلالة على المقصود، وصحيح السند، ومعمول بها حتى ادعى على مفاده الإجماع، فهي حجة في المقام وكفى. ولكن أنت خبير بأنه ليس التخيير من أول الأمر بين الأمرين إحضار القاتل، أو أداء دية المقتول، بل أداء الدية بعد موته وهم في السجن وعدم إمكان إحضاره للاقتصاص منه لموته، فلو كان مستند هذا الحكم هو هذه الصحيحة ل بد وأن يكون مرادهم هذا، أي يجب عليه الإحضار وإن تعذر لموت القاتل فعليه أو عليهم دفع دية المقتول، كما ذكرنا نحن كذلك. وذكروا ها هنا بعض فروع في هذه المسألة تركن ذكرها لكونها أجنبية عن باب الكفالة التي محل كلامنا، كما أن أصل هذه المسألة أيض ليست من باب الكفالة، ولكن الفقهاء نزلوها منزلة الكفالة من جهة وحدة الأثر، أي لزوم الإحضار أو الغرامة وعنوان الباب الذي ذكر هذه في الوسائل في ذلك الباب هو: باب أن من أطلق القاتل من يد الولي قهرا صار كفيلا يلزمه إحضاره، يحبس حتى يرده أو يؤدي الدية (2). فرع: لا كفالة في الحد، لأنه مضافا إلى أن الحد إجرائه واجب فوري بعد إثباته - وهذا ينافي الكفالة، فإنها توجب التأخير الكفالة فيه توجب تعطيل الحد وعدم إمكان أجرائه في كثير من الموارد، وهي في مثل الرجم والحرق والقطع، ففي هذه الموارد إذا أطلق المحارب، أو الزاني المحصن، أو اللائط، أو السارق يخفى نفسه

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 7، ص 286، باب الرجل يخلص من يجب عليه القود، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 160، أبواب الضمان، باب 15، ح 1. 2. وسائل الشيعة ج 13، ص 160، أبواب الضمان، باب 15. (*)

 

ويهرب ويختفي إلى الأبد، لأن كل شخص ونفس يهرب من الموت، فيلزم تعطيل الحدود - ورود روايات في عدم جواز الكفالة في الحد: منها: ما رواه السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا كفالة في حد (1). ومنها: م رواه الصدوق بإسناده قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أنه لا كفالة في حد (2). ومنها: ما رواه في الفقيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ادرؤوا الحدود بالشبهات، ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حد (3). فرع: عقد الكفالة لازم، فل يجوز فسخه إلا بالإقالة، أو باشتراط الخيار للكفيل، أو المكفول له. أما كونه لازما، فلأنه مقتضى أصالة اللزوم في كل عقد إلا في العقود الإذنية، أو خرج عن تحت أصالة اللزوم بوجود الدليل على الجواز. هذا، مضافا إلى أن الغرض من الكفالة هو الاستيثاق من عدم ضياع ماله والتمكن عن تحصيل الغريم، وبالكفالة يحصل كلا الأمرين، لأن الكفيل يجب عليه إما إحضار الغريم المكفول، وإما أداء المال، وهذا الغرض لا يحصل إلا بلزوم عقد الكفالة، وإلا لو كان جائزا، فبعد ما سافر الغريم أو أخفى نفسه وفسخ الكفيل عقد الكفالة، فلا يحصل الغرض المذكور.

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 7، ص 255، باب أنه لا كفالة في حد، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 161، أبواب الضمان، باب 16، ح 1. 2. الفقيه ج 3، ص 95، باب الكفالة، ح 3400، وسائل الشيعة ج 13، ص 161، أبواب الضمان، باب 16، ح 2. 3. الفقيه ج 4، ص 74، باب نوادر الحدود، ح 5146، وسائل الشيعة ج 18، ص 336، أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، باب 24، ح 4. (*)

 

والحاصل: أن بناء العقلاء في عقد الكفالة على اللزوم، والشارع أمضى ما هو عندهم وبناءهم عليه. وأما فسخه بالإقالة أو باشتراط الخيار، فالإقالة من جهة أنها على القاعدة في العقود اللازمة، إلا أن يأتي دليل تعبدي على عدم تطرق الإقالة فيه كم في باب النكاح، وذلك لما ذكرنا في محله أن التزام كل واحد من المتعاقدين بالوفاء بالعقد ملك للطرف الآخر وبرعايته، فإذا رفع اليد فلا يبقى التزام في البين. وأم جواز اشتراط الخيار لكل واحد من الكفيل والمكفول له، فمن أنه شرط جائز ليس له مانع عقلي ولا شرعي، فيشمله عموم المؤمنون عند شروطهم . فرع: إذا أحضر الكفيل الغريم قبل الأجل، هل يجب على المكفول له تسلمه، أو لا؟ قيل: يجب. وكذلك الكلام بالنسبة إلى المكان الذي عينا إحضاره في ذلك المكان لو أحضره في غير ذلك المكان هل يجب قبوله، أو لا يجب وإن لم يكن ضرر عليه تسلمه في ذلك المكان أو في ذلك الزمان؟ الظاهر عدم وجوب تسلمه في غير المكان أو الزمان الذي عينا إحضاره في ذلك الزمان أو في ذلك المكان، أما مع الضرر فمعلوم، وأما مع عدمه فأيضا لا دليل على لزوم تسلمه، لأن المفروض أنه خلاف ما التزاما به في عقد الكفالة، والأغراض تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة وإن لم يكن ضرر في البين ولا ملزم له على تسلمه وقبوله. نعم لو لم يعين زمانا أو مكانا، لعله كان واجبا إذا لم يكن ضرر عليه، إلا أن يكون الإحضار في زمان أو مكان منصرفا عنه الإطلاق.

 

فرع: قال في الشرائع: ولو سلمه وكان المكفول له ممنوعا من تسلمه بيد قاهرة لم يبر الكفيل (1). والمقصود من هذه العبارة أن الكفيل وإن أحضر المكفول - أي الغريم - وسلمه إلى المكفول له، لكن مثل هذا التسليم - الذي هو لا يقدر على تسلمه لوجود يد قاهرة مانعة عن السلم وأخذ الحق منه - في حكم العدم، لعدم ترتب الغرض عليه وهو استيفاء الدين عن الغريم، ولعل إطلاق الأدلة منصرفة عن مثل هذا التسليم. أما لو كان الغريم المكفول محبوسا، فإما أن يكون محبوسا في حبس الحاكم الشرعي، فلا مانع من تسلمه واستيفاء الحق منه. وأما لو كان في حبس الظالم وليس مانعا عن تسلمه عن الكفيل واستيفاء الحق منه لأنه ربما يقدر الكفيل على ذلك، فلا وجه لإطلاق القول بعدم امكانه، بل لا بد وأن يقيد الحكم بقدرة الكفيل على تسلميه وإمكان استيفاء الدين منه، والحكم بالعدم بعدم قدرته على ذلك. فرع: إذا كان المكفول غائبا، فإما أن يعلم مكانه وليست أخباره منقطعة عن الكفيل، وكانت الكفالة حالة، أو حال أجلها وإن كانت مؤجلة، فطلب المكفول له إحضار المكفول وهو قادر على إحضاره، يجب عليه إحضاره، لأن هذا مقتضى عقد الكفالة ووجوب الوفاء به. ويجب أن يمهل بمقدار ذهابه وجلبه والإتيان به بنحو المتعارف، فإذا أتى به وسلمه تسليما تاما تبرأ ذمته، وإن تماطل يجوز للمكفول له حبسه بأمر الحاكم حتى يأتي به أو يؤدى ما عليه، كما تقدم. وأما إن كان مكانه مجهولا وأخباره منقطعة، فلا يكلف الكفيل بإحضاره، لعدم قدرته على ذلك. ولكن هل يلزم الكفيل بأداء ما عليه أم لا؟ ربما يقال بعدم جواز إلزامه بذلك، لأنه تكفل إحضار نفسه وهو أمر غير مقدور،

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 116. (*)

 

والتكليف بأمر غير مقدور قبيح، ولم يضمن المال فلا وجه لإلزامه بالمال. ولكن الأولى أن يفصل بين ما كان عدم التمكن من إحضاره بتفريط من الكفيل، بأن طالبه المكفول له وكان الكفيل متمكنا من إحضاره في ذلك الوقت ولكنه مستأهل حتى هرب إلى مكان مجهول أو أخفى نفسه فيغرم، وبين ما لم تكن كذلك إما بأن لم يطالبه المكفول له إلى هذا الوقت، أو كان طلبه في وقت لم يكن متمكنا من إحضاره فلا غرم. والوجه في كلتا الصورتين واضح. فرع: قد يقال إن لم يعينا - أي الكفيل والمكفول له - مكان التسليم، فينصرف إلى بلد العقد. وفيه أنه ليس كذلك مطلقا، لأنه لو وقع العقد بينهما في بلد غربة يفارقانه بسرعة وربما لا يمران به بعد ذلك أصلا، فلا انصراف في مثل هذا المورد إلى بلد العقد قطعا، بل يكون منصرفا عنه يقينا. والظاهر أنه ينصرف إلى بلد الذي استقرار المكفول له فيه، ويكون محل عمله وكسبه وتجارته، ويكون استيفاء دينه كسائر أشغاله من مصلحته في مصلحته في ذلك البلد. هذا إذا أطلقا التسليم. وأما إذا عينا بلدا معين أو مكانا كذلك، يجب التسليم في ذلك البلد أو في ذلك المكان، لقوله صلى الله عليه وآله: المؤمنون عند شروطهم وقد تقدم الكلام في مثل ذلك إذا عينا زمانا معين. وبناء على ما ذكرنا لو سلمه إلى المكفول له في غير ذلك المكان لم تبرأ ذمته، لعدم التسليم التام حسب التزامه. فرع: لو اتفق الكفيل والمكفول له على وقوع الكفالة: ولكن قال الكفيل للمكفول له: لا حق لك الآن لأداء المكفول، أو لإبرائك إياه مثلا، فالقول قول المكفول

 

له، وذلك لموافقه قوله مع الحجة الفعلية التي هي المناط في باب تشخيص المدعي والمنكر، وهو عبارة عن أصالة عدم الأداء والإبراء، أو أصالة بقائه بعد ثبوته يقين. نعم على المكفول له اليمين، فإن حلف يؤخذ الحق من الكفيل إن لم يحضر المكفول فيم إذا كان إحضاره واجبا عليه، وإن رد على الكفيل ولم يحلف ونكل فأيضا يؤخذ الحق منه على التفصيل المتقدم، بمعنى أنه يحبس حتى يأتي به أو يؤدى الحق. وأما إن حلف الكفيل فيبرأ عن الكفالة، ولكن لم يبرأ المكفول من المال إلا إذا ادعى أيضا الأداء أو الإبراء ولم يحلف المكفول له ورد على المكفول فحلف على الأداء أو الإبراء. ولو ادعى الكفيل عدم الحق حال الكفالة وأن الكفالة كانت باطلة وأنكر المكفول له، فيكون القول أيضا قوله بيمينه، فإن حلف يؤخذ الحق عن المكفول، وإن رد ونكل المكفول ولم يحلف فأيضا يؤخذ الحق منه، وإن حلف تبرأ ذمته عن الحق وقهرا تبرأ ذمة الكفيل أيضا عن الكفالة، لأنها تابعة لوجود الحق وثبوته، فإذا سقط شرعا بواسطة حلف المكفول فتسقط الكفالة أيضا قهرا. فرع: إذا تكفل رجلان برجل واحد ثم سلمه أحدهما ثم هرب المكفول، فهل تبرأ ذمة الآخر بتسليم الأول، أم للمكفول له الرجوع إلى الكفيل الآخر وطلب إحضاره منه؟ حكى عن الشيخ (1)، والقاضي (2)، وابن حمزة (3) قدس سره عدم براءة الآخر، وأنه للمكفول له الرجوع إليه وطلب إحضاره منه.

 

(هامش)

 

1. المبسوط ج 2، ص 339. 2. جواهر الفقه ص 71 - 72، المسألة 269. 3. الوسيلة ص 281. (*)

 

ولكن قال في الشرائع: ولو بالبراءة كان حسنا (1). ووجه حسنه أن المقصود من الكفالة هو تسلمه من الكفيل والتمكن والقدرة على استيفاء دينه منه، وهذا المعنى قد حصل. ولذلك تقدم أنه لو سلم نفسه تبرأ ذمة الكفيل كما أنه أيضا تبرأ ذمته بتسليم الأجنبي، وليس تسليم أحد الكفيلين المكفول للمكفول له أقل فائدة في حصول الغرض من تسليم الأجنبي، فالأظهر ما قاله المحقق من أن القول بالبراءة حسن. فرع: ولو تكفل لرجلين برجل فسلمه إلى أحدهما لم يبرأ عن الآخر، وهذا واضح جدا. نعم لو كان دين الرجلين على المكفول مشاعا بينهما، وصار كفيلا لكل واحد منهما بذلك الرجل المديون، فسلمه إلى أحدهما وهما شريكان في ذلك الدين وكان الدين لهما بالإشاعة، فإذا استوفى أحدهما تمام الدين المشاع بينهما فلا يبقى مجال لبقاء الكفالة بالنسبة إلى الآخر، لأن بقاء الكفالة تابع لبقاء الحق في ذمة المكفول، فتسقط الكفالة باستيفاء تمام الحق عن الآخر أيضا. ولكن ظاهر الفرض أن يكون كفيلا لكل واحد من الرجلين برجل واحد في دين مستقل لكل واحد منهما، وفي هذا الفرض لا تبرأ ذمة الكفيل عن الكفالة للآخر بتسليم المكفول إلى أحدهما يقينا. فرع: إذا مات المكفول برئ الكفيل عن الكفالة، وكذلك الأمر لو مات الكفيل. أما الأول: فمن جهة أن الغرض من الكفالة إحضار الكفيل المكفول لأن يستوفى المكفول له حقه منه، فإذا مات لا يمكن إحضاره ولا استيفاء الحق منه، بل حقيقة

 

(هامش)

 

1. شرائع الإسلام ج 2، ص 117. (*)

 

الكفالة هو الالتزام بإحضار المديون، والعمل بهذا الالتزام متعذر للكفيل، فالعقد من أول الأمر لا يشمل مثل هذه الصورة، لأنه التزام بفعل لا يقدر عليه. ونحن بينا في هذا الكتاب أن كل عقد لا يقدر المتعاقدان أو أحدهما العمل بمضمونه يكون مثل هذ العقد والتعهد والالتزام باطلا، فإذا بلغ إلى هذا الحد يخرج عن كونه كفيلا وتبر ذمته. هذا، مضافا إلى ادعاء صاحب الرياض قدس سره نفي الخلاف في هذا الحكم، أي براءة ذمة الكفيل بموت المكفول (1) وفي التذكرة قال: إذا مات المكفول به بطلت الكفالة، ولم يلزم الكفيل شيء عند علمائنا (2) وأنت ترى أن هذه العبارة مساوقة لادعاء الإجماع، فلا ينبغي التشكيك في براءة ذمة الكفيل بموت المكفول. وأما الثاني: أي موت الكفيل، فبطلان الكفالة بموته وعدم قيام الوارث مقامه فمن جهة كون ذمة الميت مشغولة بإحضار المكفول به غير ممكن، لعدم إمكان الإحضار في حقه، فاعتبارها في حقه لغو في نظر الشرع والعقلاء، وليس مالا كي ينتقل إلى ورثته. وأما كونه حقا فإن كان كذلك، لكنه حق المكفول له عليه، لا حقه على غيره كي يرثه الوارثون، فقهرا بموت الكفيل ينتفي الكفالة، لعدم بقاء موضوعها وهو شخص الكفيل. نعم بموت المكفول له لا تبطل الكفالة ولا تبرأ ذمة الكفيل، لأن الكفالة كانت حقا للمكفول له على ذمة الكفيل، فيرثه الوارثون بموت مورثهم ويقومون مقامه. فكما أن الدين باق في ذمة المديون، الكفالة أيضا باقية في ذمة الكفيل، وكلاهما ينتقلان إلى الورثة، فللورثة طلب إحضار الغريم من الكفيل، فإن أحضر يستوفون دينهم الذي انتقل إليهم من مورثهم منه، وإل يحبس حتى يحضره أو يؤدى الدين هو على التفصيل الذي تقدم، ويكون حالهم مع الكفيل حال مورثهم معه.

 

(هامش)

 

1. رياض المسائل ج 1، ص 599.

 

2. تذكرة الفقهاء ج 2، ص 102. (*)

 

فرع: لو انتقل الحق بأحد النوافل الشرعية غير الإرث، كما في بيع أو صلح أو هبة أو مهر أو عوض خلع أو غير ذلك، فهل يبرأ الكفيل أم لا؟ الظاهر أنه يبرأ من جهة أنه كفل لهذا المالك كي يتمكن من استيفاء دينه من المكفول، فإذا انتقل دينه إلى غيره فل معنى لكونه كفيلا له. وأما كونه كفيلا للمالك الجديد الذي انتقل إليه الحق فشيء لم يلتزم به ولم يقع عقد ومعاهدة عليه، فيبرأ ذمته قهرا. واحتمال انتقال حق الكفالة إلى المالك الجديد لا وجه له، لأن المالك الجديد ليس وارثا للمكفول له، ولذلك قيدن عنوان المسألة بأن لا يكون الانتقال بالإرث وقد تقدم في الفرع السابق أن الكفالة ل تبطل بموت المكفول له، بل ينتقل حق الكفالة والمال كلاهما إلى ورثته. فرع: يصح ترامي الكفالات، كما قلنا بصحته في الضمان وفي الحوالة. وهو عبارة عن تكفل شخص بإحضار رجل عليه دين لدائنه، ثم يكفل ثان بإحضار ذلك الكفيل الأول، ثم يكفل ثالث بإحضار الكفيل الثاني، وهكذا إلى ما لا يقف على عدد والوجه في صحته ولزومه. أم صحته فلشمول اطلاقات أدلة صحة الكفالة مثل هذا المورد، أي مورد ترامي الكفالات. ومن تلك الأدلة قوله صلى الله عليه وآله: الزعيم غارم لأن كل واحد من أفراد هذه السلسلة يصدق عليه أنه زعيم، أي متعهد بإحضار من تعهد إحضاره، فعليه إحضاره أو أداء الحق، بالتفصيل المتقدم. وأما لزومه: فلقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) ولسائر أدلة التي ذكرناها في قاعدة أصالة اللزوم في العقود العهدية.

 

ثم إنه من آثار وأحكام هذا القسم من الكفالة أنه لو أحضر أحدهم من عليه الحق يبر هو ويبرأ الآخرون أيضا. والوجه واضح، لأن الغرض من الكفالة ولو كانوا ألفا هو إحضار من عليه الحق، فإذا حصل هذا المعنى من أحدهم فقهرا يبرأ ذمة الباقين. أما لو أحضر أحد الكفلاء من تعهد بإحضاره - أي الشخص الذي كفل به - فإن كان هو الكفيل الأول فبرئ ذمة الجميع، لأن من كفل به الكفيل الأول هو نفس من عليه الحق، وبينا آنفا أن بإحضاره تبرأ ذمته الجميع. وأما إن كان هو الكفيل الثاني فتبرأ ذمته وجميع من تأخر عنه في السلسلة، وأما ذمة الكفيل الأول فلا تبرأ، لأنه متعهد بإحضار من عليه الحق ولم يحضره. وخلاصة الكلام: أن كل كفيل في هذه السلسلة - عددها أي مقدار كان - إذ أحضر من تكفل، لا تبرأ إلا ذمة نفسه وذمة من تأخر عنه من الكفلاء، وأما ذمة من تقدم عليه فلا. وأما لو كان المحضر هو الكفيل الأول حيث أن جميع الكفلاء متأخرون وليس كفيل متقدم عليه فتبرأ ذمة الجميع بإحضاره من تكفل عنه، وهو من عليه الحق. فرع: يكره التعرض للكفالات، لروايات تدل على الكراهة: منها: ما عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البخترى قال: أبطأت عن الحج فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما أبطأ بك عن الحج؟ فقلت: جعلت فداك تكفلت برجل فخفر بي فقال: مالك والكفالات، أما عملت أنه أهلكت القرون الأولى. ثم قال: إن قوما أذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها وخافوا خوف شديدا، فجاء آخرون فقالوا: ذنوبكم علينا فأنزل الله عز وجل عليهم العذاب، ثم قال الله تبارك وتعالى خافوني

 

واجترأتم على (1). ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق عليه السلام: الكفالة خسارة غرامة ندامة (2). ومنها: ما عن داود الرقى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: مكتوب في التوراة كفالة ندامة غرامة (3). والحمد لله أولا وآخرا، وظاهر وباطن.

 

(هامش)

 

1. الكافي ج 5، ص 103، باب الكفالة والحوالة، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 154، أبواب الضمان، باب 7، ح 1. 2. تقدم تخريجه في ص 161، رقم (1). 3. تقدم تخريجه في ص 161، رقم (2). (*)