قاعدة السوق

 41 - قاعدة السوق 

 

قاعدة السوق [ * ] ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة (قاعدة السوق). وهي أمارة على التذكية وغيرها. وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الاولى في مدركها وهو أمور: الاول: استقرار سيرة المسلمين والمؤمنين على أنهم يدخلون الاسواق ويشترون اللحوم والجلود من دون السؤال عن أنها ميتة أو مذكي حتى أن صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله والائمة المعصومين عليهم السلام أيضا كانوا كذلك، وهذا شيء لا يقبل الانكار، ولم يرد عنهم عليهم السلام ردع عن هذه السيرة، بل هم أنفسهم عليهم السلام كانوا كسائر المسلمين يعملون بها، فيدخلون سوق النخاسين ويشترون العبيد والاماء، من دون أن يسئلوا ويفتشوا هل هم أحرار قهروا فيبيعونهم، أو عبيد. حتى أنه قال عليه السلام في رواية حفص بن غياث: (لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1) وظاهر هذه العبارة أن الاعتناء بهذه الاحتمالات - أي احتمال عدم التذكية في

 

(هامش)

 

[ * ] (القواعد) ص 149، (القواعد الفقهية) (فاضل اللنكرانى) ج 1 ص 487. (1) (الكافي) ج 7 ص 387 الباب (9) من أبواب الشهادات ح 1، (الفقيه) ج 3 ص 51 ح 3307 باب من (*)

 

اللحوم والجلود، واحتمال كونهم أحرار في العبيد والاماء، واحتمال كونه مال الغير وأنه سرق أو غصب في سائر الاموال - يوجب تعطيل الاسواق واختلال أمر المسلمين في معاملاتهم، وهذا أمر مرغوب عنه عند الشارع، فعدم الاعتناء بأسواق المسلمين وترتيب الاثر على هذه الوساوس منفور عنه. الثاني: الاجماع على حجية السوق، فإنه من قديم الزمان لم يشكك أحد في حجية السوق وفي أنها أمارة التذكية. ولكنك عرفت ما ذكرنا مرارا من عدم اعتبار مثل هذه الاجماعات التي لها مدارك للمتفقين يعتمدون عليها، وليس من الاجماع المصطلح الذي بنينا في الاصول على حجيته، وكشفه عن رأى المعصوم عليه السلام. الثالث: الاخبار: منها: ما رواه الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق ؟ فقال: (اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه) (1). وبعد الفراغ من أن الظاهر أن المراد من السوق هو سوق المسلمين، فأمره عليه السلام باشتراء تلك الخفاف المشكوكة - أنها مأخوذه من المذكى أو من الميتة والصلاة فيها حتى تعلم بأنها مصنوعة من الميتة - يدل على أن السوق أمارة التذكية، إلا أن تعلم بخلافها، وإلا فمقتضى أصالة عدم التذكية التي هي من الاصول التنزيلية هو عدم جواز شرائها، وعدم جواز الصلاة فيها، فلا بد وأن يكون هناك أمارة حاكمة على ذلك الاصل، وليست هي إلا السوق حسب المتفاهم العرفي من نفس هذه الرواية.

 

(هامش)

 

يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته ح 27، (تهذيب الاحكام) ج 6 ص 261 ح 695 (91) باب البينات ح 100، (وسائل الشيعة) ج 18 ص 215 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى باب 25 ح 2. (1) (الكافي) ج 3 ص 403 باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ح 28، (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 234 ح 920 (11) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه ح 128، (وسائل الشيعة) ج 32 ص 1071 ابواب النجاسات باب 50 ح 2. (*)

 

ولا يمكن أن يقال إن أمره عليه السلام بالاشتراء والصلاة فيها حكم ظاهري مجعول للشاك حتى يعلم من قبيل أصالة الطهارة، لانه لو كان كذلك لكان استصحاب عدم التذكية حاكما على ذلك الاصل غير التنزيلي، وعلى فرض عدم حجية الاستصحاب نفس أصالة عدم التذكية تجري، لادلة خاصة، فلا يبقي محل لذلك الحكم الظاهري الموهوم. نعم بناء على مسلك صاحب المدارك قدس سره من أن أصالة عدم التذكية ليست أصلا برأسها، وإنما هو نفس الاستصحاب في مورد الشك في التذكية، ولاستصحاب ليس بحجة (1) لكان لهذا الكلام وجه. ولكن ترده أدلة حجية الاستصحاب أولا وعلى تقدير تسليم عدم حجيته ترده الادلة الخاصة التي تدل على حجية أصالة عدم التذكية. ومنها: رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلي فيها ؟ فقال: (نعم ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك) (2). وهذه الرواية ظاهرة بل نص في أن في مورد الشك في التذكية لا يجب السؤال والتفتيش ويصلى فيها، مع أن مقتضى أصالة عدم التذكية هو عدم جواز الصلاة فيها، إلا بعد المسألة وتبين أنها ذكية، فليس هذا إلا لاجل وجود أمارة على التذكية، وهو هنا ليس إلا السوق. ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري عن العبد الصالح

 

(هامش)

 

(1) (مدارك الاحكام) ج 2 ص 387. (2) (قرب الاسناد)) ص 385 ح 1358 أحاديث متفرقة، (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 368 ح 1529 (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ح 61، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1071 أبواب النجاسات باب 50 ح 3. (*)

 

موسى بن جعفر عليه السلام مثله. (1) عن ابن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشترى الخف لا يدري أذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري يصلى فيه ؟ قال عليه السلام: (نعم أنا اشترى الخف من السوق ويصنع لي وأصلي فيه وليس عليكم المسألة) (3). ومنها: رواية الحسن بن جهم قال: قلت لابي الحسن عيه السلام اعترض السوق فاشترى خفا لا أدري أذكي هو أم لا ؟ قال عليه السلام: (صل فيه). قلت: فالنعل ؟ قال عليه السلام مثل ذلك قلت: إنى أضيق من هذا قال: (اترغب عما كان أبو الحسن عليه السلام يفعله) (3). ودلالة هاتين الروايتين الاخيرتين على أمارية السوق على حذو ما سبق، بلا تفاوت أصلا. وهاهنا أخبار أخر تدل على اعتبار سوق المسلمين، وأنه أمارة التذكية (4) تركنا ذكرها، لان في ما ذكرنا غنى وكفاية. الجهة الثانية في أن اعتبار هذه القاعدة هل هو في خصوص إثبات التذكية في مورد الشك

 

(هامش)

 

(1) (الفقيه) ج 1 ص 257 ح 791 باب ما يصلى فيه وما لا يصلى فيه من الثياب وجميع الانواع ح 42. (2) (قرب الاسناد) ص 385 ح 1375 أحاديث متفرقة، (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 371 ح 1545 (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ح 77، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1072 أبواب النجاسات باب 50 ح 6. (3) (الكافي) ج 3 ص 404 باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ح 31، (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 234 ح 921 (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ح 129، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1073 أبواب النجاسات باب 50 ح 9. (4) (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 234 ح 922 (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان و ما لا يجوز ح 130، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1073 أبواب النجاسات باب 50 ح 8. (*)

 

فيها أو أوسع من هذا فيثبت بها الملكية أيضا، فإذا دخل السوق ويريد أن يشتري متاعا ويحتمل أن يكون مسروقا، أو يدخل سوق النخاسين ويريد أن يشتري عبدا أو أمة ويحتمل أن يكونا حرين فهل السوق أمارة على أن ذلك ملك للبايع والامة والعبد مملوكان لبايعهما أم لا بل الذي هو أمارة الملكية هي اليد، فلو فرضنا عدم وجود يد عليه فلا طريق إلى إثبات ملكيته ؟ والظاهر: أن ما هو أمارة الملكية هي اليد، وصرف كونه في السوق لا يدل على أنه ملك لاحد أهل هذا السوق، أو لاحد من الناس، إلا أن يكون من الاموال التي يعلم بأنها ملك لاحدهم، وإن كان المالك مجهولا، فبصرف وجود أشخاص في سوق النخاسين في صف العبيد والاماء لا يمكن الحكم عليهم بالمملوكية ما لم يكونوا تحت يد أحد. وأما مسألة الطهارة في بيع ما يتوقف صحة بيعه على الطهارة - بحيث لو لم يكن طاهرا لا يكون له منفعة أصلا - كالسكنجبين مثلا من جهة أصالة الطهارة، ولذلك في الموارد التي يجري استصحاب النجاسة فيها يحكم بالنجاسة، وبصرف كونه في السوق ووقوع البيع والشراء لا يحكم عليه بالطهارة. وأما في موارد الشك في الطهارة والنجاسة من جهة الشك في التذكية وأن يحكم عليه بالطهارة بواسطة كونه في السوق، ولكن ذلك ليس من جهة إثبات الطهارة بأمارية السوق عليها أولا وبالذات، بل من جهة أن السوق أمارة التذكية، ومن آثار التذكية هي الطهارة، وكذلك الامر في الحلية، فلا يثبت به الحلية ابتداء، بل من آثار التذكية الواقعة على الحيوان المحلل الاكل هو حلية أكل لحمه بعد التذكية. الجهة الثالثة في أنه هل السوق أمارة في عرض اليد - بحيث لو كان من في السوق في دكانه

 

اللحم ويبيعه كالقصاب أو كالفراء الذي يبيع في دكانه الفراء، وهكذا أمثالهما، فهاهنا أمارتان على التذكية في عرض الآخر - أم لا ؟ بل السوق أمارة على الامارة، بمعنى: أن الذي هو أمارة على التذكية أولا وبالذات هي اليد. وأما سوق المسلمين فيستكشف منه أن البايع المجهول الحال - الذي لا يعلم حاله أنه مسلم كي تكون يده أمارة التذكية أم لا فتجري أصالة عدم التذكية ويحكم بلزوم الاجتناب - مسلم ويده يد المسلم وأمارة، وبناء على كونه أمارة على الامارة، فلو كان البائع معلوم الحال فلا أثر للسوق أصلا. وذلك من جهة أن أمارية الامارة متقومة بعدم العلم على خلافها ولا على وفاقها، فلو علم أن البايع مسلم تكون يده حجة قطعا، ولا حاجة إلى السوق أصلا كما أنه لو علم أن البائع مشرك، فكونه في سوق المسلمين لا أثر له، وإن احتمل التذكية بأن تلقاه هذا المشرك من يد مسلم، ولكن هذا الاحتمال لا أثر له، لانه لا يثبت به التذكية، لان السوق المعلوم الوجود ليس أمارة على التذكية على الفرض، ويد المسلم الذي معلوم الا مارية مشكوك الوجود، لان المفروض أنه ليس إلا صرف احتمال أن تكون يد هذا المشرك مسبوقا بيد المسلم وأنه تلقاه من يده. ولكن الظاهر من قيام سيرة المتدينين على الاعتماد على سوق المسلمين في أمر التذكية، وعدم السؤال والتفتيش عنها - هو أن كون هذا الجلد أو اللحم في سوق المسلمين يباع ويقع عليه التعاطي بينهم - علامة أنهم يرونه مذكى في الغالب، كما هو الشأن في أغلب الامارات، وإلا فليس هناك أمارة تكون دائم المطابقة، حتى القطع الوجداني فضلا عن الامارات الظنية التي مناط حجيتها كونها غالب المطابقة. وحاصل الكلام في هذا المقام هو أنه بعد العلم بأن المسلمين يجتنبون عن لحم غير المذكي بنص قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) (1) فتعاطي اللحم بالبيع والشراء في

 

(هامش)

 

(1) المائدة (5): 3. (*)

 

أسواق المسلمين يوجب الظن القوي بأنه مذكى. وهذا الظن أقوى بكثير عن الظن الحاصل عن كونه في يد مسلم خارج السوق، لان احتمال كونه ممن لا يبالي بالاحكام الشرعية - أو الاشتباه في إجراء شرائط التذكية، أو نسيان بعضها مما يضر بها فيه - أكثر مما هو يباع في سوق المسلمين علنا. هذا بالنسبة إلى قيام السيرة على حجية السوق. وأما بناء على أن يكون مدركها الاخبار فلعل الامر أوضح، وذلك من جهة أن قوله عليه السلام: (أنا أشتري الخف من السوق ويصنع لي وأصلي فيه وليس عليكم المسألة)) (1) ظاهر في أن مراده عليه السلام من نفي لزوم السؤال نفي السؤال عن كونه مذكى أو غير مذكي، لا نفي السؤال عن أن البائع مسلم أو لا. ومرجع هذا إلى أن كونه في السوق كاف في إثبات أنه مذكى، فلا يحتاج إلى السؤال والفحص. وكون المراد منه أن السوق كاف في إثبات أن اليد يد المسلم وأنها يثبت أن اللحم أو الجلد أو غيرهما من الاجزاء أو مشتقات حيوان مأكول اللحم من المذكي يكون من قبيل الاكل من القفى. وأما قوله عليه السلام في خبر اسماعيل بن عيسى قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف ؟ قال: (عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه) (2) [ عليكم أنتم أن تسئلوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسئلوا عنه ] لا يدل على عدم اعتبار السوق بالنسبة إلى كشفه عن أصل التذكية.

 

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 158 هامش رقم (2). (2) (الفقيه) ج 1 ص 258 ح 792 باب ما يصلى فيه وما لا يصلى فيه من الثياب وجميع الانواع ح 43، (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 371 ح 1544 (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان و ما لا يجوز ح 76، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1072 أبواب النجاسات باب 50 ح 7. (*)

 

بأن يقال: لو كان السوق كاشفا عن ذلك فلم يكن معنى للسؤال إذا رأوا أن المشركين يبيعونه، وأيضا لم يكن معنى لتعليق عدم السؤال على صلاتهم فيه، وذلك من جهة أن كلامه عليه السلام ظاهر في أن السوق أمارة وحجة كاشفة عن التذكية فيما كان السوق والبيع والمعاملة مخصوصا بالمسلمين، فلا يحتاج إلى السؤال. وأما لو كان المشركون أيضا يبيعون ذلك بحيث يكون السوق مشتركا، أو كان البيع مخصوصا بهم فعند ذلك يجب عليكم المسألة والفحص، ولا أثر لكون البائع وحده في ذلك السوق مسلما في عدم وجوب السؤال، فيمكن أن تعد هذه الرواية من جملة أن دلالة السوق إذا كان مخصوصا بالمسلمين على التذكية أهم من دلالة يد المسلم، خصوصا إذا كان ذلك المسلم في السوق المخصوص بالكفار، بل وفي السوق المشترك أيضا. وأما قوله عليه السلام بعد ذلك (وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه) فمن جهة أن صلاتهم فيه بمنزلة شهادتهم عملا بأنه مذكى، فهو أيضا طريق إلى أنه صار مذكى. و يؤيد ما ذكرناه من أن سوق المسلمين بنفسه طريق إلى أنه مذكى رواية إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عيه السلام أنه قال: (لا بأس بالصلاة الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الاسلام) قلت فإن كان فيما غير أهل الاسلام ؟ قال عليه السلام: (إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس) (1). وهذه الرواية ظاهرة في أن كون الجلد في أرض تكون مخصوصة بالمسلمين أو كان أغلب أهلها من المسلمين موجب لثبوت كونه من المذكى، ولا موجب لذلك ظاهرا إلا أمارية كونه في تلك الارض لكونه من المذكى. ومعلوم أنه لو كان بصرف وجوده في أرض الاسلام أو ما كان الغالب عليها

 

(هامش)

 

(1) (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 368 ح 1532 (17) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان و ما لا يجوز ح 64، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1072 أبواب النجاسات باب 50 ح 5. (*)

 

الاسلام يثبت أنه من المذكى، فبكونه في سوق المسلمين يثبت بطريق أولى، وذلك من جهة أن طريقية السوق إلى ذلك أقوى من طريقية كونه في أرضهم. وكذلك رواية السكوني عن أبي عبد الله عيه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبها وبيضها، وفيها سكين ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (يقوم ما فيها، ثم يؤكل، لانه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن). قيل له: يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي ؟ فقال عليه السلام: (هم في سعة حتى يعلموا) (1). وهذه الرواية يحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السلام فيها: (هم في سعة حتى يعلموا) بيان حكم اللحم الذي مشتبه تذكيته، ولا يعلم أنه مذكى أو ميتة ؟ وأنه عليه السلام بين أن حكم المشتبه هي الحلية كي يعلموا بأنه من غير المذكى الذى هو حرام، فيكون مفادها أصالة الحل في مشتبه المذكى والميتة، فيكون كأصالة الطهارة في مشتبه الطهارة والنجاسة، وأصالة الحل في مشتبه الحلية والحرمة أصلا عمليا غير تنزيلي. ولكن ينفي هذا الاحتمال أن أصالة عدم التذكية الجارية في المقام يثبت موضوع الحرمة، فليسوا في سعة حتى يعلموا، فلا بد من جعل أصل تنزيلي يكون مقدما على أصالة عدم التذكية عند المعارضة، أو أمارة تكون حاكمة عليها، أو رفع اليد عن حرمة غير المذكى في ظرف الشك في التذكية رفعا واقعيا، كي يكون حال الشك حال الاضطرار. لا سبيل إلى هذا الاخير، لاستلزامه للتصويب الباطل، فلا بد من القول بأحد الاولين أي الاصل المقدم، أو الامارة الحاكمة. وهاهنا الامارة الحاكمة المحتملة هو كون السفرة المطروحة في أرض الاسلام

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 6 ص 297 باب النوادر (من كتاب الاطعمة) ح 2، (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1073 أبواب النجاسات باب 50 ح 11. (*)

 

طريقا إلى ثبوت تذكيته، أو أصلا تنزيليا، ولا بعد في ذلك، من جهة غلبة كون اللحم الموجود في مثل هذه السفرة المطروحة في البلاد الاسلام من القسم المذكى، ولذلك حكم أمير المؤمنين عليه السلام بجواز وحلية أكل ما فيها من حيث التذكية لكونها مطروحة في بلاد الاسلام، والتقويم وتغريمهم لما فيها لصاحب السفرة إذا جاء، لقاعدة احترام الاموال إن كان المالك مسلما، لقوله عليه السلام: (حرمة مال المسلم كحرمة دمه) (1). أو لقاعدة: (من اتلف مال الغير فهو له ضامن) وإن لم يكن المالك مسلما لكن كان في ذمة الاسلام، أو كان من المعاهدين مع المسلمين. ونتيجة ما ذكرنا هو أنه إذا اشترى من سوق المسلمين أو وجد في أراضيهم التي كل أهلها مسلمون، لو كان للغالب عليها المسلمون وكان شاكا في تذكيته فكونه في سوق الاسلام وكذلك كون ذلك اللحم أو الجلد في أراضيهم موجب للحكم بأنه مذكى. وهذا فيما إذا لا يعلم أن البائع ليس بمسلم واضح، سواء أكان معلوم الاسلام أو كان مجهول الحال. وأما إذا علم بأنه ليس بمسلم ولكن يحتمل أنه تلقاه من يد مسلم مع فرض أن السوق سوق الاسلام، كما أنه إذا اشترى جلدا أو لحما من نصراني في بغداد، ويحتمل أنه تلقاه من يد مسلم، فبناء على كون السوق أمارة في عرض اليد فلا بد من القول بأنه في حكم المذكى. وبناء على أنه أمارة على الامارة، فمع العلم بأنه غير مسلم ليس للسوق أثر. وبناء على أنه أمارة على الامارة فمع العلم بأنه غير مسلم ليس للسوق أثر. اللهم إلا أن يقال بأحد أمرين: إما تقييد أمارية السوق بعدم كونه في يد غير المسلم، أو يقال بأنه كما أن سوق المسلمين أمارة على التذكية كذلك يد الكافر أمارة على عدم

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 32 ص 268 باب السباب ح 2، (الفقيه) ج 4 ص 377 ح 5871 باب النوادر (من ألفاظ موجزة للنبي (ص) ح 19، (المبسوط) ج 3 ص 59 كتاب الغصب، (مسند أبى يعلى الموصلي) ج 9 ص 55 ح 5119 مسند عبد الله بن مسعود الديلمي في (الفردوس) ج 2 ص 143 ح 2727. (*)

التذكية، فتتعارض الامارتان، وبعد تساقطهما بالمعارضة فالمرجع أصالة عدم التذكية، وإلا فإنكار كون سوق المسلمين في عرض اليد لا مجال له. [ الجهة ] الرابعة في سأنه هل السوق - بعد الفراغ عن اعتباره وحجيته لاثبات التذكية - أمارة أو أصل ؟ وعلى تقدير كونه أصلا هل هو أصل تنزيلي أو يكون من الاصول غير التنزيلية ؟ فنقول: أما كونه أصلا غيز تنزيلي فمما لا ينبغي أن يحتمل، لانه لو كان أصلا غير تنزيلي لكان أصالة عدم التذكية حاكما عليه، وكان لا يبقى مورد لجريانه، كما هو الشأن في كل أصل حاكم مع محكومه. هذا أولا. وثانيا: قيام السيرة على اعتباره ليس إلا لاجل أن المتدينين - بعد ما علموا أن الصلاة لا يجوز في غير المذكى، ومع ذلك كانوا يشترون المشكوك من أسواقهم وكانوا يرتبون آثار التذكية عليه - يرون سوق المسلمين كاشفا وطريقا إلى كونه مذكى، فلذلك كانوا يرتبون آثار التذكية عليه، لا من جهة صرف التعبد بالتذكية في ظرف الشك. وأما أنه أصل تنزيلي، أو أمارة، فالظاهر أنها أمارة، وذلك لما ذكرنا من أن قيام السيرة على دخول المتدينين في الاسواق الاسلامية، وشرائهم المشكوك التذكية والمعاملة معه معاملة المذكى، مع أنهم يدرون أن الصلاة في غير المذكى ليست جائزة - دليل على أنهم يرون أسواق المسلمين طريقا وكاشفا عن كونه مذكى. وبعبارة أخرى: نحن بينا في محله في الفرق بين الاصل والامارة أن الا مارية متقومة بأمرين: أحدهما: أن يكون ذلك الشيء الذي جعل أمارة فيه جهة كشف عن مؤداه، ولو

 

كان كشفا ناقصا، وإلا فالشئ الذي في حد نفسه ليس فيه جهة الكاشفية أصلا، لا يمكن جعله كاشفا في عالم الاعتبار التشريعي، إذ الكاشفية أمر تكويني لا توجد إلا بأسبابها التكوينية، وذلك مثل رافعية شرب الماء للعطش، فإنه أمر تكويني لا يمكن جعله لشئ ليس رافعا للعطش أصلا وبالجعل في عالم الاعتبار والتشريع لا ينجعل. ولذلك قلنا هناك إن معنى تتميم الكشف في باب جعل الامارات ليس أن يضم الجاعل مقدارا من الكشف في عالم الاعتبار إلى ذلك المقدار الناقص الذي لذلك الشيء موجود كي يصير المجموع كشفا تاما، بل المراد منه أن الشارع يرى ذلك المقدار من الكشف الناقص - الموجود في ذلك الشيء في حد نفسه في عالم الاعتبار التشريعي - كشفا تاما ومثبتا لمؤداه وطريقا إليه. ثانيهما: أن يكون نظر الجاعل في مقام جعل الحجية للامارة إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حد نفسه، وإلا فبصرف الامر بالعمل به والتعبد بمؤداه لا يصير ذلك الشيء أمارة، بل يمكن أن يكون أصلا عمليا في عالم الجعل التشريعي مع وجود تلك الجهة من الكشف فيه تكوينا، فأماريته متوقفة على أن يكون جعل حجيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكوينا في عالم التشريع والاعتبار. إذا عرفت هذا فنقول: لا شك في أن كون اللحم أو الجلد الذي في سوق المسلمين يباع فيه جهة كشف عن أنه مذكئ، لانهم غالبا لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلده، ووقوعه في بعض الاوقات من بعض الافراد وإن كان لا ينكر ولكن هذا المقدار القليل لا يمنع عن حصول الظن بكونه من المذكى، لغلبة وجود هذا القسم مقابل القسم الآخر. وأيضا لا شك في أن سيرة المتدينين من الصدر الاول في دخولهم الاسواق واشترائهم اللحوم والجلود بلحاظ أن كونها في أسواق المسلمين تباع يكشف عن

 

أنها مذكي، وسيرة المتدينين لا تحتاج إلى الامضاء مثل سيرة العقلاء، وذلك من جهة كون شيء طريقا عند العقلاء يمكن أن يقبل الشارع طريقيته ويمكن أن يردها، فيحتاج إلى الامضاء، وإلا يبقى على كونه مشكوك الطريقية عنده. وأما سيرة المتدينين بما هم متدينين - مثل الاجماع - كاشف ابتداء عملهم هذا عن موافقته لرأى المعصوم عليه السلام. ولا شك أن السيرة فيما نحن فيه من القسم الثاني، لان التذكية من الامور الشرعية التي لا شأن للعقلاء بها بما هم عقلاء، نعم العقلاء بما هم عقلاء ينظرون إلى اللحم بنظر أنه من الطيبات أو من الخبائث، لا أنه مذكى أو غير مذكى. وأما الروايات الواردة في هذه القاعدة واعتبارها فالظاهر من بعضها أيضا أماريتها، كرواية إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السلام أنه قال: (لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الاسلام). قلت: فإن كان فيها غير أهل الاسلام ؟ قال عليه السلام: (إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس)) (1). وظاهر أن التفريق - في الارض المشترك أهلها بين المسلمين وغيرهم بتعليق الحكم بعدم اليأس على غلبة المسلمين من حيث كثرتهم من غيرهم - دليل على أن نظرهم عليهم السلام في هذا الحكم إلى جهة كاشفية الارض التي أهاليها المسلمون عن كونه مذكى، فإذا كان المسلمون هم الغالبون على الارض فيكون احتمال التذكية أقوى. وكذلك الامر في رواية إسماعيل بن عيسى، ففى قوله عليه السلام فيها (عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه) (2) علق السؤال والفحص عن أنه مذكى أو غير مذكى على بيع المشركين ذلك، وعدم السؤال والفحص على رؤية أنهم يصلون فيه.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 162. (2) تقدم راجع ص 161 هامش رقم (2). (*)

 

ولا شك في أن الاول يوجب ضعف احتمال التذكية، فحكم عليهم بلزوم الفحص والسؤال على ذلك التقدير. والثاني يوجب قوة احتمال تحقق التذكية، لان المسلم بعد أن عرف أن الصلاة لا يجوز في غير المذكى، فإذا صلى فيه، فيكون ظاهره أنه أحرز أنه مذكى، فلا يبقي مجال ومورد للسؤال، ولذلك نفي السؤال عنه على هذا التقدير. ففي هاتين الروايتين حكمه عليه السلام بالصلاة فيه ناظر إلى جهة كشفه، فبناء على الاصل الذي تقدم يكون السوق أمارة لا أصلا بكلا قسميه من التنزيلي وغير التنزيلي. [ الجهة ] الخامسة في نسبة هذه القاعدة مع غيرها من الادلة في مقام التعارض فنقول: أما بالنسبة إلى استصحاب عدم التذكية الجارية في المقام لو لم يكن السوق، فإن قلنا بأنه أمارة كما هو كذلك، فيكون حاكما عليه بلا كلام، كما هو شأن كل أمارة بالنسبة إلى كل أصل، ولو كان من اقوى الاصول التنزيلية. وأما بناء على أنه من الاصول وأنه أصل تنزيلي - لما بينا أن احتمال أنه أصل غير تنزيلي واضح البطلان فلا ينبغي المصير إليه - فأيضا يكون مقدما عليه، وإن كان مقتضى القاعدة التعارض والتساقط، لان كليهما أصلان تنزيليان، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

 

ولكنه في المقام لا بد من ذلك أي تقديمه على الاستصحاب، وإلا لا يبقى له مورد أصلا، فيكون جعله لغوا، فبدلالة الاقتضاء لا بد من تقديم السوق على استصحاب عدم التذكية وإن كان مثله أصلا تنزيليا وفي رتبته. وأما بالنسبة إلى البينة فلو قامت البينة العادلة على أن هذا اللحم أو هذا الجلد من غير المذكى، أو هذا الحيوان الميت مات حنف أنفه، أو ذبح ولكن لم يكن الذبح

 

واجدا لشرائط التذكية وهكذا، فبناء على كونه أصلا وإن كان أصلا تنزيليا فتقديم البينة عليه واضح، لان البينة أمارة وكل أمارة تكون لها الحكومة على كل أصل عند المعارضة. وأما بناء على كونه أمارة كما هو المختار وإن كان مقتضى القاعدة هو التساقط، كما هو الشأن في باب تعارض الامارتين إن لم يكن أحدهما أقوى ولكن مع ذلك تكون البينة مقدمة عليه لاحدى جهتين. الاولى: أن البينة من أقوى الامارات، ولذلك جعلها الشارع ميزانا للقضاء على ذي اليد، مع أن اليد أيضا من الامارات، فإذا كانت تقدم على اليد مع أنها من الامارات القوية تقدم على السوق بطريق أولى. الثانية: أن عمدة الوجه في حجية السوق هي السيرة العملية من المتدينين، وهذه ليست قطعا فيما قامت البينة العادلة على عدم التذكية، بل ولا فيما أخبر البائع بأنه غير مذكى. هذا مضافا إلى أنه على فرض التعارض النتيجة هو التساقط، فيكون المرجع استصحاب عدم التذكية، فنتيجة التساقط وتقديم البينة واحدة. [ الجهة ] السادسة في مورد تطبيق هذه القاعدة فنقول: بعد إحراز موضوع هذه - أي بعد إحراز أنه سوق الاسلام، إما لان كلهم مسلمون، وإما لان الغالب ممن يكون فيه من أرباب المكاسب هم المسلمون - إذا اشترى من مثل هذا السوق أو استعار أو انتقل إليه بسبب آخر من اسباب الانتقال وشك في أنه مذكى أو غير مذكى فلا يخلو الامر، فإما يكون الطرف الآخر الذي انتقل منه إليه معلوم أنه مسلم، أو معلوم أنه ليس بمسلم، أو مشكوك.

 

فهذه الامارة تدل على أنه مذكى في المعلوم أنه أخذ من يد مسلم، وكذلك في المأخوذ من يد مشكوك الاسلام إذا كان السوق سوق الاسلام، وهذا معنى أماريته عند الشك في أنه مذكى. والفرق بين هذين القسمين أن القسم الاول فيه أمارتان: إحديهما سوق المسلم والاخرى يد المسلم بناء على ما اخترناه من عرضية هاتين الامارتين. وبناء على القول بأنه ليس إلا أمارة واحدة وهي يد المسلم لان السوق بناء على ذلك القول الآخر أمارة على أن اليد يد مسلم ومع العلم بذلك - لا يبقى مجال لامارية السوق لذلك. وأما القسم الثاني فأمارة واحدة فقط وهو السوق. وأما القسم الثالث فقد بينا أنه من تعارض البينتين على تقدير وعدم حجية السوق على تقدير. الحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.