قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها

44 - قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها 

 

قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة قاعدة: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها). وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الاولى في بيان مدركها فنقول: روى الصدوق عن الصفار أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام في الوقف وما روى فيه عن آبائه عليهم السلام فوقع عليه السلام: (الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله) (1). وروى الكليني قدس سره عن محمد بن يحيى قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبى محمد عليه السلام في الوقوف وما روى فيها فوقع عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله) (2). والظاهر أنها رواية واحدة، ومراد الكليني قدس سره من بعض أصحابنا هو محمد بن

 

(هامش)

 

[ * ] (القواعد)) ص 319. (1) (الفقيه) ج 4 ص 237 ح 5567 باب الوقف والصدقة والنحل ح 1، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 295 في أحكام الوقوف والصدقات باب 2 ح 1. (2) (الكافي) ج 7 ص 37 باب ما يجوز من الوقف والصدقد والنحل...، ح 34، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 295 في أحكام الوقوف والصدقات باب 2 ح 2. (*)

الحسن الصفار أيضا، إلا أن في الاولى بزيادة لفظة (تكون) قبل كلمة (على حسب). وكلمة (يوقفها) بصيغة باب الافعال، وفي الثانية (يقفها) بصيغة الثلاثي، ولعل الثانية أصح، لما ذكره في نهاية ابن اثير: من أنه يقال وقفت الشيء اقفه وقفا، ولا يقال: أوقفت إلا على لغة رديئة (1)، وإن كان بصورة باب الافعال في الروايات كثيرة. ولا حجية لما في النهاية. وروى الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصح كيف هو ؟ فقد روى أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان موقتا فهو صحيح مآمضى، قال قوم: إن الموقت الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الارض ومن عليها، والذي هو غير موقت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحدا، فما الذي يصح من ذلك، وما الذي يبطل ؟ فوقع عليه السلام: (الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله (2). [ الجهة ] الثانية في بيان المراد منها بعد ثبوتها بهذه الروايات المعتبرة التي يثق الانسان بصدورها، وإن كانت مكاتيب، لما ذكره المشايخ الثلاث في جوامعهم وصحة سندها واعتماد جل الاصحاب في فتاواهم عليها واستنادهم إليها. فنقول: الظاهر أنه عليه السلام بعد السؤال عن الوقوف وأحكامه وكيفيته وما روي

 

(هامش)

 

(1) (النهاية) ج 5 ص 216 مادة (وقف). (2) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 132 ح 562 باب الوقوف والصدقات ح 9، (الاستبصار) ج 4 ص 100 ح 348 باب من وقف وقفا ولم يذكر الموقوف عليه ح 2، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 307 في أحكام الوقوف والصدقات باب 7 ح 2. (*)

 

عنهم عليهم السلام فيه يجيب بصورة كبرى كلية لهذه الاسئلة، فيكون مفادها أن كل وقف - لعموم جمع المعروف بالالف واللام - يجب أن يعامل معه بحسب ما وقفه الواقف، من الشروط والخصوصيات والكيفيات، وما عينه من التصرفات فيه، ومن عينه لان يكون ناظرا عليه. ومعلم أن مراده عليهم السلام عن لزوم العمل مع الوقف على طبق جعل الواقف - مما ذكرناه - فيما إذا كان أصل الوقف وجميع خصوصياته وكيفيته وشرائطه المجهولة مشروعة ولم تكن مما منع عنه الشارع، مثلا: الشرط الذي شرطه الواقف في ضمن عقد الوقف يكون واجدا لشرائط صحة الشروط. وهكذا تدل هذه الجملة على أنه لا يجوز أن يعامل مع الوقف ما ينافي حقيقته وإن لم يشترط فيه شرط أصلا. وتوضيح هذا المعنى - الذي ذكرنا في المراد من هذه القاعدة - ببيان أمور: الاول: في بيان حقيقة الوقف وشرح ماهيته ؟ فنقول: عرفه الفقهاء قدس سرهم بأنه تحبيس الاصل وتسبيل الثمرة. والظاهر أن هذا التعريف مأخوذ من الاحاديث والروايات المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الائمة المعصومين عليهم السلام. منها: ما رواه ابن أبي جمهور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (حبس الاصل وسبل الثمرة) (1). ومنها: ما رواه عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وآله قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت

 

(هامش)

 

(1) (عوالي اللئالي) ج 2 ص 260 باب الديون ح 14. (*)

 

بها) (1). والمراد بكلمة (تصدقت بها) هو التصدق بثمرتها، وهو عبارة أخرى عن تسبيل ثمرتها، لان الصدقة هو الاعطاء مجانا بقصد القربة. ومنها: ما تكرر ذكره في روايات الباب عن الائمة المعصومين عليهم السلام وهو قولهم وتعبيرهم عن الوقف ب‍ (صدقة لاتباع ولا تورث) (2) تارة وتعبيرهم ب‍ (صدقة مبتولة) (3) أخرى و (بتابتلا) (4). ثالثة وكل هذه الجمل يرجع مفادها إلى تحبيس الاصل وتسبيل الثمرة. وبعض الفقهاء بدلوا كلمة (التسبيل) بالاطلاق، والمراد واحد في الجميع كما هو ظاهر، وإن كان الاقرب هو الاول، بناء على أنه من العبادات، ويحتاج في وقوعه وصحته إلى قصد القربة، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وبعضهم بدل لفظة (الثمرة) إلى المنفعة، ولا فرق بينهما، وقد عبر عنه في الروايات بالصدقة ولكن بوصف لا تباع ولا توهب ولا تورث. ومعلوم أن الصدقة المتصفة بهذه الصفات معناها أن يكون الشيء موقوفا محبوسا عن النقل والانتقال، وأن تكون ثمرته ومنفعته في سبيل الله ولفظ الوقف

 

(هامش)

 

(1) (صحيح البخاري) ج 3 ص 209 باب الشروط في الوقف، (سنن أبي داود) ج 3 ص 116 ح 2878 باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، (سنن الترمذي) ج 3 ص 659 ح 1375 باب في الوقف. (2) (الكافي) ج 7 ص 54 باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة والائمة عليهم السلام ووصاياهم ح 9، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 148 ح 609 باب الوقوف والصدقات ح 56، (الاستبصار) ج 4 ص 98 ح 380 باب أنه لا يجوز بيع الوقف ح 4، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 303 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 2. (3) (الكافي) ج 7 ص 56 باب ما يلحق الميت بعد موته ح 2، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 292 في أحكام الوقوف والصدقات باب 1 ح 2. (4) (الكافي) ج 7 ص 54 باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة والائمة عليهم السلام ووصاياهم ح 9، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 148 ح 609 باب الوقوف والصدقات ح 56، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 303 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 2. (*)

 

أيضا يفيد معنى التحبيس أو الحبس عن النقل والانتقال، ولكن حيث أنه كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - يعتبر في صحة الوقف قصد القربة، وأيضا صرف حبس المال من دون تسبيل الثمرة أو المنفعة لغو، فلذا يكون أخص من مطلق الحبس، وإلا فلا فرق بين أن يقال وقفته وأوقفته ووقفته - بالتضعيف - وبين أن يقال: حبسته وأحبسته و حبسته بالتضعيف. فالوقف المصطلح عند الفقهاء وعند الشرع - وإن كان استعماله في لسان الشرع قليلا ويعبر عنه في لسان الشرع غالبا بالصدقة، غاية الامر مقيدة بالعناوين التي ذكرناها - هو حبس الاصل وتسبيل الثمرة، كما عرفه الفقهاء بهذا. والمراد من التسبيل هو جعلها في سبيل الله. وما ذكرنا كان لشرح حقيقة الوقف وماهيته، وإلا فتعاريف الفقهاء لموضوعات الاحكام غالبا تكون تعاريف لفظية، تكون بالاعم تارة وبالاخص أخرى لا طرد ولا عكس لها. ثم إنه لا شك في أن هذا المعنى الذي ذكرنا للوقف ليس أمرا تكوينيا كحبس إنسان أو حيوان في الخارج، فإنه لا يحصل إلا بأسباب خارجية، بل هو اعتبار عرفي أو تشريعي لا يوجد إلا بالانشاء ممن له أهلية هذا الانشاء. وإذا كان الامر كذلك فربما يعتبر الشارع أو العرف - بناء على كون هذا المعنى عندهم قبل شرعنا - أمورا في جانب العقد والوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه، كما أنه ظاهرهم الاتفاق على لزوم كون الانشاء بالصيغة. ثم يقع الكلام في أنه عقد يحتاج إلى القبول، أو لا يحتاج مع أنه عقد، أو لانه إيقاع، وكما أنه شرط الشارع في طرف المنشئ أن يكون عاقلا بالغا مالكا غير ممنوع التصرف بحجر من فلس أو سفه وأمثال ذلك، وكما أنه شرط في جانب المنشاء أيضا أمورا نذكرها إن شاء الله تعالى.

 

وبين هذه الامور في ضمن مطالب: المطلب الاول في أن الوقف عقد يحتاج إلى القبول أو إيقاع أو عقد ولكن لا يحتاج إلى القبول القولي بل يكون نفس تصرف الموقوف عليهم في العين الموقوفة وقبضهم لها قبولا فعليا، كما يكون الامر كذلك في باب الجعالة بناء على أنه عقد لا إيقاع، بل في باب الوصية بناء على أنها عقد ولا يعتبر القبول، وإن رجحنا نحن اعتبار القبول فيها، وظاهر الاصحاب أنه عقد وإن اختلفوا في اعتبار القبول فيه ؟ والظاهر أنه عقد كما هو ظاهر الاصحاب، بل صريح جماعة، بل جماعة منهم كالمحقق رحمهم الله وغيره يعرفون الوقف بأنه عقد ثمرته تحبيس الاصل وإطلاق المنفعة (1). ويحكي تعريفه بما ذكر عن القواعد (2) والتنقيح (3) وإيضاح النافع والكفاية (4). وذلك من جهة أنه لا ريب في أن الوقف حقيقة واحدة، بمعنى أنه ليس الوقف على الجهات كالمسجد والرباط والقنطرة حقيقة وعلى العناوين العامة كالفقراء والعلماء والسادات وغير ذلك من العناوين وعلى الذرية مثلا حقيقة أخرى، بل الوقف في الجميع بمعنى واحد كما هو الظاهر المتبادر من استعمالاتهم. وأيضا الظاهر بل المعلوم أن الوقف على العناوين العامة أو الخاصة تمليك لهم كما سيأتي، وظاهر التمليك والتملك الاختياري هو أنه معاهدة من الطرفين، فيكون عقدا

 

(هامش)

 

(1) (شرائع الاسلام) ج 2 ص 211. (2) (قواعد الاحكام) ج 1 ص 266. (3) (التنقيح الرائع) ج 2 ص 300. (4) (كفاية الاحكام) ص 139. (*)

 

حتى إذا كان على الجهات العامة، كالمدارس والمساجد والقناطر والخانات والرباطات. وأيضا صرح جماعة ببطلانه بالرد، ولو كان إيقاعا لم يبطل، وإذا كان عقدا فمقتضى الاصل هو احتياجه إلى القبول، وهو أصالة عدم ترتب الاثر إلا مع القبول. اللهم إلا أن لا يكون القبول دخيلا في تحقق عنوان الوقف عرفا، فإذا تحقق عنوانه فإطلاقه ينفي شرطية القبول في صحته. وعمدة استدلال القائلين بعدم لزوم القبول خلو الاخبار المشتملة على أوقاف الائمة المعصومين عليهم السلام وسيدة نساء العالمين عليهما السلام عن ذكر القبول. وفيه: أنه يمكن أن يكون خلو الاخبار المشتملة على أوقافهم من ذكر القبول من جهة أنها في مقام بيان صدور كيفية الوقف عنهم عليهم السلام لا في مقام بيان تمام سبب حصول الوقف، فلا إطلاق لها كي يتمسك بها، وأيضا يمكن أن يقال باكتفاء القبول من قيم الوقف وإن كان هو نفسه كما في الجواهر (1). وأما التفصيل بين الوقف الخاص والوقف العام - كما صدر عن بعض - فلا وجه وجيه له أصلا، لان اعتمادهم في هذا التفصيل على عدم من هو يقبل، وجوابه إمكان قبول الحاكم أو من بحكمه. وأما جريان الفضولي فيه أولا فمبني على أنه عقد أو إيقاع وأن الفضولي في البيع هل على القاعدة أو لادلة خاصة ؟ فإن قلنا أنه إيقاع فالظاهر الاجماع على عدم جريان الفضولي في الايقاعات، وقد تقدم أنه ليس بإيقاع، وقد تقرر في محله أن صحة معاملة الفضولي على القاعدة، فمقتضى القاعدة جريانه فيه. ولكن يمكن أن يقال بأنه وإن لم يكن مانع عن جريانه فيه بمقتضى القاعدة إلا أنه بناء على اعتبار قصد القربة فيه حال العقد وإنشائه فلا يحصل هذا الشرط وإن

 

(هامش)

 

(1) (جواهر الاحكام) ج 28 ص 7. (*)

 

قصد الفضول القربة حال العقد، لان قصد القربة عن غير الواقف لا أثر له وإن كان بعنوان النيابة عن المالك، خصوصا من غير استنابة المالك. وأما قصد المالك حال الاجازة فغير مفيد، لان الشيء بعد وقوعه لا ينقلب عما وقع عليه. نعم بناء على عدم اعتبار قصد القربة فيه وبناء على كونه عقدا لا إيقاعا وبناء على أن جريان الفضولي في المعاملات على القاعدة لا أنه فقط في البيع وبالادلة الخاصة فلا إشكال في جريان الفضولي، فإذا وقف شخص فضولة ملك شخص وأجازه المالك الواجد لشرائط الاجازة ولكونه واقفا يصح ذلك الوقف ويكون كما صدر عن نفس المالك. وأما اعتبار كونه بقصد القربة في وقوعه وتحققه شرعا أو لا ؟ فقد اختلف الفقهاء في ذلك، واختار العلامة قدس سره في قواعده الاعتبار (1)، وحكى ذلك أيضا عن الشهيد قدس سره في الدروس (2)، ويظهر من السرائر (3) والغنية (4) دعوى الاجماع على الاعتبار، وحكى عن بعض دعوى الاشتهار بين القدماء. ثم إنه لو لم يوجد دليل لا على اعتبار قصد القربة في تحققه ووقوعه ولا عدم الاعتبار، فهل مقتضى الاصل أي واحد منهما ؟ أقول: أما أصالة عدم الاعتبار الذي ذكرها في الجواهر (5) فليس لها حالة سابقة على تقدير كون العدم نعتيا. ومثبت إن كان محموليا. فتكون أصالة الفساد في المعاملات والعقود محكما، لاحتمال دخله في تحقق ماهية الوقف شرعا، ومع هذا الشك والاحتمال لا يبقى مجال للتمسك بإطلاقات أدلة الوقف،

 

(هامش)

 

(1) (قواعد الاحكام) ج 1 ص 267. (2) (الدروس الشرعية) ج 2 ص 264. (3) (السرائر) ج 3 ص 157. (4) (الغنيه) ضمن (الجوامع الفقهية) ص 540. (5) (جواهر الكلام) ج 28 ص 8. (*)

 

فإن قوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) حكم على الوقوف بعد الفراغ عن تحقق أصل حقيقة الوقف وماهيته بجميع ما له دخل في تلك الماهية عرفا أو شرعا. نعم لو كان الوقف معنى عرفيا كالبيع ويكون في نظر العرف موجودا بدون قصد القربة، وتكون المطلقات باعتبار ما هو المفهوم منها عرفا، فإذا احتملنا دخل شيء فيه شرعا ولم يدل دليل على اعتباره فيمكن التمسك بالمطلق لرفع الشك وعدم اعتبار ما شك في اعتباره شرعا في تلك الماهية. وعلى هذا المبنى سلك شيخنا الاعظم قدس سره في التمسك بالمطلقات في باب البيع في مكاسبه (1)، ولكن فيما نحن فيه لا نعلم بتحقق حقيقة الوقف، لان الوقف ليس من العناوين العرفية المحضة، بل تصرف فيها الشارع بضم بعض الخصوصيات وحذف أخرى، فليس المطلق ملقى إلى العرف بما يفهمه العرف ويكون عندهم هو الوقف. ويكون من هذه الجهة شبيها بمفاهيم عناوين العبادات، فإنه هناك يصح التمسك بالمطلقات بعد إحراز عنوان المطلق شرعا وإن احتمل دخل خصوصية أخرى زائدة على المسمى، وإلا لا بد من القول بعدم جواز التمسك بالاطلاقات في أبواب العبادات بناء على الصحيحي والاكتفاء بالاطلاق المقامي في رفع الشك. وأما الدليل على اعتبار قصد القربة في الوقف: فمنها: الاجماع المدعى من السرائر والغنية. ويجيب عنه صاحب الجواهر قدس سره بأنه لم نتحققه، لخلو كثير من عبارات الاصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه. (2)

 

(هامش)

 

(1) (كتاب المكاسب) ص 80 و 96. (2) (جواهر الكلام) ج 28 ص 8 الوقوف والصدقات. (*)

 

أقول: قد تكرر منا عدم صحة التمسك بأمثال هذه الاجماعات - على فرض تحققه - في إثبات الاعتبار، وذلك من جهة معلومية مدرك إجماعهم واتفاقهم، ولا أقل من احتمال كون مدركهم هذه الادلة التي سنذكرها ومع وجود هذا الاحتمال فلا يبقي مجال استكشاف رأي المعصوم عليه السلام بالحدس القطعي من هذا الاجماع والاتفاق. ومنها: قوله عليه السلام: (لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله عزوجل) (1). بناء على أن ماهية الوقف من أنواع الصدقة، فهو صدقة خاصة، ولذا وصفوها عليهم السلام في الروايات العديدة ب‍ (لا تباع ولا توهب ولا تورث) (2) فيكون مفهوم الوقف أخص من مفهوم الصدقة، ولذلك عبر عنه بالصدقة في جميع أصناف الوقف. فالصدقات على أقسام: منها الوقف ومنها: الزكاة ومنها: غيرهما من الصدقات الواجبة والمندوبة. وقد عبر عن الوقف على الولد بالصدقة في بعض الروايات، كرواية على ابن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده ؟ قال عليه السلام: (لا بأس بذلك) (3). واحتمال إرادة غير الوقف من الصدقة بعيد. وخلاصة الكلام: أن تعبيرهم عليهم السلام عن الوقف بالصدقة كثير في الروايات في الاقسام المختلفة من الوقف في الوقف على الجهات وعلى العناوين وعلى الذرية والاولاد، فادعاء أن النسبة بينهما عموم من وجه لا يخلو عن مجازفة.

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 30 باب ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 1، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 151 ح 619 باب الوقوف والصدقات ح 66، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 319 في أحكام الوقوف و

 

الصدقات باب 13 ح 2 و 3. (2) تقدم راجع ص 232 هامش رقم (2). (3) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 137 ح 575 باب الوقوف والصدقات ح 22، (الاستبصار) ج 4 ص 101 ح 389 باب من تصدق على ولده الصغار...، ح 5، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 300 في أحكام الوقوف و الصدقات باب 5 ح 1. (*)

 

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله في بيان الوقف على ما رواه ابن أبي جمهور في عوالي اللآلي عن النبي صلى الله عليه وآله: (حبس الاصل وسبل الثمرة) (1) حتى أن أكثر الفقهاء عرفوا الوقف بأنه تحبيس الاصل وتسبيل الثمرة، ويقول في القاموس: وسبله تسبيلا: جعله في سبيل الله تعالى (2). فبناء على هذا المعنى يكون حقيقة الوقف عبارة عن حبس الاصل وتوقيفه عن التقلبات في عالم الاعتبار التشريعي وجعل ثمرته ومنفعته في سبيل الله، وهل مع هذا يبقى شك في أن قصد القربة داخل في حقيقة الوقف ؟ !. وقال الشيخ قدس سره في النهاية: وعلى كل حال فالوقف والصدقة شيء واحد ولا يصح شيء منهما إلا ما يتقرب به إلى الله تعالى، فإن لم يقصد بذلك وجه الله لم يصح الوقف (3) انتهى. ومما ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الجواهر قدس سره (4) من حصول القطع للفقيه بعدم اعتباره بأدنى ملاحظة فيما ذكره من الوجوه لعدم الاعتبار فإنا لاحظنا في جميع ما ذكره ولم يحصل لنا الظن فضلا عن القطع. وأما ما ذكره من عدم كون الوقف صدقة لعدم اعتبار الفقر فيه مع اعتباره فيها فلا يدل على عدم كونه صدقة، لانه من الممكن أن تكون أصناف الصدقة مختلفة في الاحكام والآثار. وأما صحة الوقف على الكافر أو من الكافر فلا ينافي اعتبار القربة. أما على الكافر الذمي إذا كان أحد أبويه، لانه يمكن أن يتقرب به إلى الله في إحسانه إليهم الذي أمر به الله، بل وفي غير الابوين من الكفار غير الحربيين لا ريب في حسن

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 231. (2) (القاموس المحيط) ج 3 ص 393 (السبيل). (3) (النهاية) ص 596. (4) (جواهر الكلام) ج 28 ص 9. (*)

 

الاحسان إليهم، خصوصا إذا كانوا عجزة فقراء فأيضا ممكن التقرب إلى الله بهذا الاحسان إليهم. وأما من الكافر الذمي، فلانه من الممكن أن يقصد القربة وإن لم يحصل له التقرب. نعم بناء على اشتراط الايمان في صحة العبادة يدل على عدم كونه عبادة منه لا على عدم اعتبار قصد القربة. وأما ما قيل: من أن قوله عليه السلام: (لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله) أن نفي الحقيقة مبالغة في نفي الكمال، فنفي الحقيقة ادعائي لا حقيقي. فهذا الادعاء خلاف ظاهر الكلام وما يفهمه العرف من هذه الجملة، فظاهر (لا) النافية للجنس نفي الحقيقة لا ادعاء. وأما الاشكال على الاعتبار بأن الوقف على الاولاد والذرية بل سائر الاقارب ليس المحرك والداعي إلى الوقف هو التقرب إلى الله بل الداعي إلى ذلك هو حبه لهم والعطف عليهم. وأن لا يبقوا محتاجين وفقراء معرزين. ففيه: أن حبه لهم ليس مانعا عن قصد القربة، لان الله تبارك وتعالى أيضا يحب التودد إليهم والعطف عليهم، فالعاقل إذا علم أن نفي قصد التقرب بهذا الفعل يحصل كلا الامرين: حسن حال أقربائه بنفس هذا الفعل وثواب الآخرة والدرجات الرفيعة بقصده القربة فيه، فلا محالة يقصد القربة بفعله هذا. وأما صدوره في بعض الاحيان عن بعض الاشخاص بدون قصد القربة - وصرف العطف على أقربائه من قلة مبالاته بأمور الآخرة وثوابها وعقابها - فهذا ليس دليلا على عدم الاعتبار، كما أن الذين لا يبالون بمخالفة أحكام الدين يراؤن في عباداتهم لاغراض دنيوية، ولا مانع من الالتزام ببطلان وقفهم في هذه الصورة. كما أنه في العتق أيضا لو أعتق أحد أقربائه غير الذين ينعتقون عليه قهرا لحبه

 

إياهم لا بقصد القربة خصوصا إذا كان في كفارة لا مانع من القول بعدم وقوع الكفارة، بل عدم صحة العتق بناء على اعتبار قصد القربة، كما هو كان ظاهر قوله عليه السلام: (لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى). فتلخص من جميع ما ذكرنا أن القول بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف لا يخلو من نظر وتأمل، بل الاحوط وجوبا مراعاته. ومن جملة ما يعتبر في الوقف - في صحته أو في لزومه - هو الاقباض، وسنتكلم عنه في شرائط الوقف وأنه هل من شرائط صحة الوقف أو من شرائط لزومه إن شاء الله تعالى. ثم إنه بعد وقوع عقد الوقف مع القبول وقصد القربة من الاصيل أو الفضولي وأجاز المالك بناء على جريان الفضولي فيه واجدا لجميع شرائط الوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه يكون من المنجزات فيكون حاله حال سائر المنجزات في دخوله في مفاد المسألة المعروفة، وهي أن منجزات المريض الذي يموت في ذلك المرض هل مثل الوصية ويكون نفوذها في الزائد على الثلث منوطا بإجازة الورثة أم لا بل يكون من أصل التركة وليس معلقا على إجازتهم ؟ وتحقيق الحق والمختار في تلك المسألة موكول إلى محله، والغرض هاهنا بيان أن الوقف بعد وقوعه وتماميته بشرائطه يكون مثل البيع والصلح وسائر العقود المنجزة. المطلب الثاني في شرائط الوقف وهي أمور أربعة: [ الشرط ] الاول: القبض. ولا خلاف في أصل شرطيته واعتباره في الوقف عندنا،

 

وإنما الخلاف في أنه هل هو شرط الصحة أو شرط اللزوم. وتظهر ثمرة القولين في النماء. والدليل على اعتباره في لزومه الروايات الواردة الدالة عليه: منها: صحيح صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الرجل يقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا، فقال: (أن كان وقفها لولده ولغيرهم ثم جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها، لانهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا) (1). ومنها: ما روى عن محمد بن جعفر الاسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمد بن عثمان العمري عن صاحب الزمان عليه السلام: (وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثم يحتاج إليه صاحبه فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار، وكلما سلم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج افتقر إليه أو استغنى عنه. وأما ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيم يقوم فيها ويعمرها ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقى من الدخل لناحيتنا، فإن ذلك جائز لناحيتنا فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره) (2). فقوله عليه السلام في رواية صفوان (لانهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا) يدل على أن علة جواز الرجوع هو عدم حيازتهم وقبضهم للضيعة، وهذه العلة بمفهومها تدل على أن

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 37 باب ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 36، (الفقيه) ج 4 ص 239 ح 5573 باب الوقف والصدقة والنحل ح 7، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 134 ح 566 باب الوقوف والصدقات ح 13، (الاستبصار) ج 4 ص 102 ح 392 باب من تصدق على ولده الصغار...، ح 8، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 298 في أحكام الوقف والصدقات باب 4 ح 4. (2) الصدوق في (كمال الدين) ج 2 ص 520 - 521 ذكر التوقيعات ح 49، (الطبرسي في (الاحتجاج) ج 2. ص 588 - 560 في التوقيعات ح 351، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 300 في أحكام الوقف و الصدقات باب 4 ح 8. (*)

 

الحيازة والقبض موجب لعدم جواز الرجوع الذي هو من لوازم اللزوم. وظهور هذا التعليل في هذا المفهوم عرفي، وإنكاره مكابرة، والفقرة السابقة على هذه الفقرة وهو قوله عليه السلام: (وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع) فعلق عليه السلام عدم جواز رجوعه الذي هو كناية عن اللزوم على الحيازة لهم، لان حيازته حيازة لهم لانه ولي عليهم، فيكون القبض والحيازة علة للزوم الوقف، وهذا منطوق الرواية. وأما رواية الاسدي الفقرة الاولى من تلك الرواية وهي قوله عليه السلام (فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار، وكلما سلم فلا خيار فيه لصاحبه) إلى آخر الرواية فصريحة في أنه شرط اللزوم. بيان ذلك: أنه حكم بالخيار في صورة عدم التسليم الذي هو بمعنى عدم الاقباض، وحكم بعدم الخيار في صورة التسليم - أي الاقباض - ولا شك في أن عدم الخيار كناية عن اللزوم، فعلق اللزوم على التسليم الذي هو بمعنى الاقباض الملازم للقبض. والانصاف أن ظهور هاتين الروايتين في أن القبض موجب للزوم لا يمكن إنكاره. وأما ما ربما يقال، بل قال بعض الاعاظم قدس سرهم من أن بطلان الوقف بموت الواقف قبل إقباضه دليل على أن القبض شرط الصحة لا شرط اللزوم. ففيه: أنه من الممكن أن يكون نفس الموت موجبا لبطلانه إن كان قبله صحيحا غير لازم. وتظهر ثمرة القولين في النماءات، فبناء على أنه شرط اللزوم تكون النماءات من زمان وقوع العقد للموقوف عليهم، وبناء على أنه شرط الصحة تكون للواقف. وهاهنا فروع لا بأس بذكرها الاول: لو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف، لخبر عبيد بن زرارة عن أبي

 

عبد الله عليه السلام في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا قال عليه السلام: (إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لان الوالد هو الذي يلي أمره) وقال عليه السلام لا: (يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله) (1). ودلالة الخبر على بطلان الوقف بموت الواقف واضح لا يحتاج إلى البيان، لان قوله (تصدق على ولد له قد أدركوا) إما صريح في الوقف بالخصوص أو يشمله بالاطلاق. واحتمال المدارك اختصاصه بالصدقة بالمعنى الاخص، فلا يشمل الوقف مما لا شاهد له، لعدم دليل على انصراف المطلق إلى أحد فرديه مع كثرة الاستعمال في الفرد الآخر أيضا. وأما تأييده هذا الاحتمال بذيل الخبر (لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله) فلا وجه له أصلا، لانه من المحتمل القريب أن تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله عليه السلام: (فهو جائز) فيكون مفاده لا يرجع في الوقف إذا كان ابتغاء لوجه الله، أو مطلق الصدقة، وقفا كانت أو الصدقة الخاصة، حيث تصدق بها ابتغاء وجه الله لا يجوز أن يرجع فيها. هذا فيما إذا مات الواقف وأما إن مات الموقوف عليه قبل أن يقبض، فبناء على ما اخترناه من أن القبض شرط اللزوم لا الصحة، فالوقف وقع صحيحا ولا وجه لخروجه عن ذلك. نعم للواقف أن يرجع قبل قبض الطبقة اللاحقة أو الشخص اللاحق، ولا إشكال في البين. وأما بناء على أنه شرط الصحة فالصحة التأهلية باقية، فإذا قبض البطن اللاحق

 

(هامش)

 

(1) (الفقيه) ج 4 ص 247 ح 5585 باب الوقف والصدقة والنحل ح 19، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 137 ح 577 باب الوقوف والصدقات ح 24، (الاستبصار) ج 4 ص 102 ح 390 باب من تصدق على ولده الصغار...، ح 6، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 299 في أحكام الوقوف والصدقات باب 4 ح 5. (*)

 

مثلا تصير فعلية، وأن شك في بقائها فيمكن إحرازها بالاستصحاب. وأما الاشكال عليه بأنه نظير قبول غير من خوطب به، لان ظاهر الاشتراط بالقبض هو القبض ممن كان الطرف في إجراء الصيغة. لا وجه له، لان المفروض أن العقد تم من الايجاب والقبول ممن لهما أهلية ذلك، وإنما الذي بقي حسب اشتراط الشارع صحة الوقف هو قبض طبيعة الموقوف عليه، وقبل موت الطبقة الاولى كان مصداق الطبيعة هو ذلك الشخص في الوقف الترتيبي، وبعد موته صارت الطبقة المتأخرة مصداقا. ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الوقف على عنوان عام - كأولادي - مثلا - نسلا بعد نسل أو كان على أشخاص معينين، أو على شخص معين، ثم على أشخاص معينين أخر أو ثم على شخص معين آخر. الثاني: في أنه هل يشترط في تحقق القبض الذي هو شرط صحة الوقف أو شرط لزومه أن يكون بإذن الواقف أم لا ؟ أقول: مقتضى القاعدة عدم الاشتراط، خصوصا بناء على أنه شرط اللزوم لا الصحة، لان العقد تم من الطرفين بشرائطه، غاية الامر اشترط الشارع شرطا للصحة أو اللزوم، وشرطية أصل القبض معلوم. وأما كونه بإذن الواقف غير معلوم فيكون مجرى أصالة عدم الاشتراط، وأصالة عدم تأثير العقد بدونه - المعبر عنها بأصالة الفساد في أبواب المعاملات - محكوم بإطلاقات أدلة الوقف، لان الوقف تحقق عند العرف. وهذا اعتبار آخر زائد على تحقق حقيقة الوقف عرفا، وإثباته يحتاج إلى دليل معتبر، وليس في البين شيء يكون مانعا من جريان الاطلاقات. فهذا من قبيل الشك في اعتبار بعض الخصوصيات في عقد البيع شرعا بعد تحقق ماهيته عرفا كالعربية والماضوية مثلا الذي قلنا بجريان إطلاقات أدلة البيع ورفع

 

الشك بها. وأما الاستدلال لاعتبار اذن الواقف بقوله عليه السلام: (فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار) بأنه عليه السلام علق الخيار على عدم التسليم لا عدم القبض فيستفاد منه اشتراط الصحة أو اللزوم بالتسليم وإقباض الواقف فلا أثر لصرف قبض الموقوف عليه بدون إقباض الواقف وتسليمه. ففيه: أن المراد من هذه الجملة هو وصول المال الموقوف إلى الموقوف عليه وصيرورته تحت يده، ولذلك عبر عنه عليه السلام في صحيح محمد بن مسلم بقوله عليه السلام: (إذا لم يقبضوا فهو ميراث) (1). ولا شك في إطلاق جملة (فإذا لم يقبضوا) وشمولها لكلتا حالتي الاذن وعدمه وأزيد من هذا قوله عليه السلام في صحيحة صفوان: (ولم يخاصموا حتى يحوزوها) فإنه يدل على أن أخذهم بالقوة ورغما لانف الواقف كاف في الصحة أو اللز وم. الثالث: هل يشترط في القبض أن يكون فورا أم لا ؟ الظاهر عدم اشتراطه، للاصل المتقدم في الفرع السابق، ويمكن أن يستظهر أيضا من قوله عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم: (إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث). وإطلاقة يشمل حتى فيما إذا كان بين العقد مدة طويلة، فإذا حصل القبض بعد العقد بمدة ولكن قبل الموت بساعة مثلا فيؤثر أثره. الرابع: في أن الوقف يتم صحيحا ويصير لازما بقبض الطبقة الاولى، ولا يحتاج صحته أو لزومه بقبض الطبقة الثانية والثالثة، وهذا لانه بعد ما تم وصار لازما لا يخرج عن الصحة أو اللزوم الا بدليل على ذلك.

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 31 باب: ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 7 (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 135 ح 569 باب الوقوف والصدقات ح 16، (الاستبصار ج 4 ص 101 ح 387 باب: من تصدق على ولده الصغار...، ح 3، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 297 في أحكام الوقوف والصدقات باب 4 ح 1. (*)

 

نعم يبقى كلام في أن قبض بعض الموقوف عليهم يكفي عن قبض الآخرين أم لا بل يقسط ويكون صحيحا أو لازما بالنسبة إلى حصة ذلك البعض فقط ؟ الظاهر أنه يحتاج إلى قبض جميع الطبقة الاولى، ولا يكفي قبض بعضهم عن الآخرين، أما أولا: فلان ظاهر قوله عليه السلام: (إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث) أن اللزوم أو الصحة متوقف على قبض الجميع، وكذلك قوله عليه السلام في صحيحة صفوان: (ولم يخاصموا حتى يحوزوها). وثانيا: أن الموقوف عليه جميعهم، فإذا كان قبض الموقوف عليه شرطا في صحة الوقف أو في لزومه، فيجب قبض الجميع. إن قلت: إن الطبقات المتأخرة أيضا هم الموقوف عليهم، فبناء على هذا يجب أيضا قبضهم. أقول: إن الطبقة الاولى إذا قبضوا كلهم إما أن يتم الوقف فلا مجال لاشتراط قبض الباقين لحصول الصحة أو اللزوم، لانه من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وإما أن لا يتم فلا يتم إلى الابد فيما إذا كان وراء كل طبقة طبقة، وهذا شيء مستنكر ومخالف للضرورة الفقهية، فلا بد من القول بأنه يتم بقبض الطبقة الاولى، فلا يحتاج إلى قبض سائر الطبقات. نعم لو وقف على أولاد زيد نسلا بعد نسل - مثلا - وكان لزيد أولاد موجودين حال الوقف، وقبضوا فتجدد له أولاد أو ولد واحد مثلا، لا يبعد أن يكون قبض الولد المتجدد أيضا معتبرا في صحة الوقف أو لزومه، لانهم أيضا من الطبقة الاولى وإن كان القول بتمامية الوقف بقبض الموجودين حال الوقف أيضا له وجه. وأما الموجودين حال الوقف من الطبقة الاولى إن قبض بعضهم دون بعض، فهل يصح الوقف أو يلزم في التمام، أو لا يصح في التمام أو يصح بالنسبة إلى حصة القابضين دون الباقين ؟ وجوه، والاظهر هو الوجه الاخير.

 

الخامس: لو وقف على أولاده نسلا بعد نسل وكان الموجودون كلهم صغارا، فلا يحتاج إلى الاقباض، لان يد الاب والجد الابي يدهم، وقبضهما قبضهم، وهذا الحكم جار في كل من هو ولى شرعا بالنسبة إلى المولى عليه بلا كلام. نعم الذي ينبغي أن يتكلم فيه هو أنه هل يحتاج إلى القصد عن قبلهم أم لا يحتاج ؟ بل حكى عن كاشف الغطاء قدس سره أن قبض الولى هو قبض المولى عليه وان نوى الخلاف (1)، مثلا لو اشترى شيئا للمولى عليه وقبضه وقصد أن لا يكون للمولى عليه بل لنفسه فتلف، فليس هذا التلف من مصاديق تلف قبل القبض، وليس ضمانه على البائع لحصول القبض بفعله له قهرا، وإن قصد خلافه. والظاهر: هو الاول، لان وقوع فعل شخص عن شخص آخر بحيث يصح استناده إلى ذلك الآخر لا بد وأن يكون بقصد أنه عن قبله، وإلا لا مصحح للاستناد إليه، بحيث أن يقال: إن قبض هذا الولي أو هذا الوكيل قبضه، خصوصا مع قصد الخلاف. وأما قوله عليه السلام في خبر عبيد بن زرارة: (فإن تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لان الوالد هو الذي يلي أمره). (2) فلا إطلاق فيه يشمل صورة عدم القصد، لان الظاهر منه أنه لا يحتاج إلى قبض نفس المولى عليه، إذ الوالد يلي أمره. وأما كيفية ولايته لامره - وأنه هل مع القصد عن قبله أو بدون القصد - فليس في مقام بيان هذا، فلا إطلاق لها. ومعلوم أن ما قلنا من كفاية قبض الولي فيما إذا كان في يده وأما إذا كان في يد غيره من غاصب أو آخذ بالعقد الفاسد أو غيرهما فيحتاج إلى قبض الولي وأخذه من يد غيره بعنوان الولاية على الموقوف عليهم. والمراد من كونه في يد غير الولي خروجه عن تحت سيطرته، فلا يضر كونه في

 

(هامش)

 

(1) الشيخ جعفر في (كشف الغطاء) ص 372 كتاب الوقف. (2) تقدم راجع ص 244. (*)

 

يد وكيله أو من استأجر أو استودع عنه، بحيث لا ينافي كونه عند غيره مع سيطرته عليه وكونه في يد نفسه، كما أنه لو كان الوقف بيد الموقوف عليهم فلا يحتاج بعد الوقف إلى قبض جديد، بأن يسترده الواقف ويعطيهم ويقبضهم ثانيا، لان الشرط حاصل، فتحصيله ثانيا من قبيل تحصيل الحاصل. نعم لو قلنا باعتبار إذن الواقف في القبض فيحتاج إلى الاذن في البقاء. ولا فرق في ما قلنا من كفاية كونه في يدهم وأنه لا يحتاج إلى قبض جديد بين أن يكون يدهم يد عادية أو يد أمانة شرعية أو مالكية. ويكفي في قبض المسجد والمقبرة لكافة المسلمين أو لطائفة خاصة صلاة شخص واحد في الاول ودفن ميت واحد في الثاني بقصد أنه وقف المسجد في الاول، وأنه مقبرة وقف على كافة المسلمين، أو خصوص طائفة في الثانية. وذلك بناء على اشتراط القبض في صحة الوقف أو لزومه، وقد تقدم اعتباره، وبناء على أن القبض لا بد وأن يكون بإذن الواقف فلا بد في تحقق قبض المسجد بصلاة واحدة وقبض المقبرة بدفن رجل واحد، أن تكون تلك الصلاة وذلك الدفن بإذن الواقف. السادس: في أنه هل يحتاج صحة الوقف أو لزومه على القبض في الاوقاف العامة - كالوقف على الجهات العامة كالمساجد والقناطر والرباطات والآبار في الطرق العامة وأمثالها، وهكذا الوقف على العناوين العامة كالعلماء والسادات والفقراء وأمثالهم - أم لا ؟ والمشهور هو الاول. ويمكن أن يستدل له بقوله عليه السلام في صحيح صفوان: (فله أن يرجع فيها، لانهم لا يحوزونها) (1) فعلل عليه السلام جواز الرجوع بعدم حيازتهم لها، فيستكشف من هذا التعليل أن حقيقه الوقف وطبيعته لا يصح - أو لا يلزم - لا

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 242 هامش رقم (1). (*)

 

بحيازة الموقوف عليهم له. وأما القول بأنه ليس هناك في الوقف على الجهات العامة من يقبضه. وقد تقدم نظير هذا الكلام في اشتراط الوقف بالقبول وقد أجبنا عنه بأنه إما أن يقبل الحاكم أو أحد مصاديق تلك العناوين. ونقول هاهنا أيضا نظير ما تقدم، مضافا إلى أن مقتضى الاصل أيضا هو اعتبار القبض فيه، إذ ليس عموم يتمسك به لعدم الاعتبار. أما قوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) (1) فلما ذكرنا من أن هذه الجملة ناظرة إلى أحكام الوقف بعد الفراغ عن تحقق ماهيته، وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون القبض دخيلا في تحقق ماهيته، بناء على أنه شرط صحته لا لزرمه. وأما قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) فلاحتمال عدم كونه عقدا، بل يكون إيقاعا، فيكون خارجا عن موضوع عموم الآية. ولكن تقدم أنه عقد فالتمسك لاحتياج كل وقف إلى القبض لصحته أو للزومه بالروايات أولى. وعلى تقدير لزوم القبض حتى في الوقف على الجهات يكفي قبض المتولي أو الحاكم أو أحد المسلمين ممن كان مصداقا لتلك الجهة إن كان قبضه بعنوان أنه مصداق لتلك الجهة، فلو عبر أحد المسلمين من القنطرة التي وقفها لاجل عبور المسلمين بعنوان أنه من مصاديق هذه الجهة فهذا يعتبر فبضا منه لتلك القنطرة. الشرط الثاني من شرائط الوقف الدوام. فلو قال: وقفت هذا الخان - مثلا - على الزوار مدة عشر سنين، فلا يصح ولا يقع وقفا. وقد ادعى الاجماع على اعتبار هذا الشرط، وتمسكوا أيضا بوجوه أخر:

 

(هامش)

 

تقدم راجع ص 229 هامش رقم (1). (*)

 

منها: الروايات الواردة في كيفية وقف الائمة عليهم السلام ومن تعبيرهم عليهم السلام في تلك الروايات عن أوقافهم بالصدقة التي لا تباع ولا توهب ولا تورث (1). ولا شك أن نفي هذه الامور الثلاثة معا ملازم للدوام، بل نفي خصوص الارث يكفي في إثبات شرطية الدوام لتحقق حقيقة الوقف. مضافا إلى أن في بعضها: (حتى يرثها وارث السموات والارض). وفي وقف أمير المؤمنين عليهم السلام داره التي كانت في بني زريق هذه العبارة مروية (صدقة لا تباع ولا توهب حتى يرثها الله الذي يرث السموات والارض) (2). وتقريب الاستدلال بهذه الروايات هو أن الصدقة أنواع، والوقف نوع من تلك الانواع، فهم عليهم السلام لتعيين هذا النوع من بين سائر الانواع وصفوها بهذه الاوصاف وقيدوها بهذه القيود وليست هذه الاوصاف من الشروط الضمنية الخارجة عن ماهية الوقف، لان ظاهر هذه الروايات حسب القواعد العربية أن الصدقة هو مفعول مطلق نوعي ويكون قوله عليه السلام: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) صفة معينة لذلك النوع. فيكون حاصل المعنى أنه عليه السلام يتصدق بهذه الدار - مثلا - صدقة كذائية التي متصفة بكذا وكذا، أي: هذا النوع من الصدقة التي من آثارها وأحكامها عدم جواز بيعها ولا هبتها ولا إرثها حتى قيام القيامة، فعين الوقف وعرفه بهذه الاوصاف. وأما القول بان الصدقة مصدر فلا يتصف بصفات العين. ففيه: أنها تتصف بها باعتبار ما يتصدق به فتدل هذه الروايات على أن الدوام والتأبيد داخلان في حقيقة الوقف وماهيته.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 232 هامش رقم (2). (2) (الفقيه) ج 4 ص 248 ح 5588 باب: الوقف والصدقة والنحل ح 22، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 131 ح 560 باب الوقوف والصدقات ح 7، (الاستبصار) ج 4 ص 98 ح 380 باب: أنه لا يجوز بيع الوقف ح 4، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 304 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 4. (*)

 

ومنها: أن الوقف من العقود المملكة، ومفادها تمليك الموقوف للموقوف عليه، والتمليك لا يمكن بدون التأبيد، فإن الملكية الموقتة غير معهود في الشرع. وفيه: أنه ممنوع بكلتا مقدمتيه: أما كون حقيقة الوقف تمليكا فمنقوض بالوقف على المساجد، ووقف نفس المساجد، حيث أن المشهور قالوا بأنه فك ملك لا أنه تمليك للمسلمين، بل منقوض بجميع الاوقاف التي تقفها الملاك على الجهات العامة، بل حقيقته - كما عرفه أكثر القدماء - مأخوذ من النبوي المشهور بأنه (تحبيس الاصل) وتسبيل الثمرة) (1). وليس في هذه العبارة ما يفيد أنه تمليك. وأما الملك الموقت فلا مانع منه إذا دل الدليل عليه، لانه أمر اعتباري قابل للتوقيت وللتأبيد، فتابع للدليل واعتبار الشارع أو لاعتبار العقلاء. وقد تقدم الكلام فيه في بدل الحيلولة في قاعدة (وعلى اليد ما أخذت) من إمكان رده كون بدل الحيلولة ملكا موقتا إلى زمان حصول المغصوب أو إمكان أو إلى زمان نفس الرد. وأيضا لو وقف على زيد عشر سنين ثم على الفقراء، فملكية زيد عشرة سنين تكون موقتا. فظهر بطلان كلتا المقدمتين أي: لا يكون حقيقة الوقف هو التمليك، ولا يمتنع أيضا الملكية الموقتة، بل هو معهود من الشارع أيضا. وقد حكى هذا الوجه لاعتبار التأبيد عن تقرير بحث شيخنا الاعظم قدس سره وهو من مثله لا يخلو عن غرابة. ومنها: أن الوقف عبارة: عن توقيف العين الموقوفة وحبسه عن التقلبات والنقل والانتقال في عالم الاعتبار التشريعي، ومثل هذا المعنى يلائم مع التأبيد بل ينافي التوقيت.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 231 هامش رقم (1). (*)

 

وفيه: أن الحبس في عالم الاعتبار عن التقلبات مثل الحبس الخارجي عن الانتقال من مكان إلى مكان يمكن أن يكون مؤبدا ويمكن أن يكون موقتا، فالعمدة في دليله هو الاجماع. ولكن فيه أن الاجماع أيضا يمكن أن يكون اتكاء المجمعين على بعض هذه الوجوه المذكورة أو على جميعها، فليس من الاجماع المصطلح الذي قلنا في الاصول بحجيته، ولكن مع ذلك كله الاتفاق التام بحيث لم يوجد مخالف واحد في جميع الاعصار مما يوجب الاطمينان باعتبار هذا الشرط في صحة الوقف. ثم إنه لو وقت الوقف بسنة أو أكثر أو أقل مثلا، فلا يقع الوقف بناء على اعتبار الدوام، ولكن هل يكون هذا الانشاء باطلا وبلا أثر - وكأنه لم يكن - أو يكون حبسا يترتب عليه آثار الحبس وأحكامه ؟ وتحقيق الحق في هذا المقام هو أن الوقف والحبس إن قلنا بأنهما مختلفتان بحسب الماهية والحقيقة فلو قصد الوقف بذلك الانشاء فلا يقع شيء منهما، ويكون ذلك الانشاء لغوا وبلا أثر، أما عدم وقوع الوقف، لانتفاء شرط الصحة، وأما عدم وقوع الحبس، لعدم قصده، والعقود تابعة للقصود. وأما لو قصد الحبس فعدم وقوعه وقفا واضح، لعدم قصده مضافا إلى انتفاء شرطه. وأما وقوعه حبسا فمبني على أن إنشاء الحبس هل يلزم أن يكون بصيغة خاصة أو يصح وإن كان بصيغة وقفت مثلا ؟ وأما لو يعلم أنه قصد أي واحد منهما بعد الفراغ عن أنه ليس في مقام أداء هذا الكلام بلا قصد، وأيضا لم يقصد المعنى الجنسي المشترك بينهما - وإلا فمن المعلوم أنه لو كان أحد هذين الامرين فلا يقع شيء منهما - فهل التوقيت بمدة معينة يكون قرينة على إرادة خصوص الحبس فتدخل المسألة حينئذ في ما ذكرنا من أن الحبس هل يصح بلفظ الوقف أم لا ؟

 

الظاهر: أنه تكون قرينة على إرادة الحبس فيما إذا يعلم باشتراط التأييد في الوقف، وأما تعيين المراد - وأنه قصد الحبس ولم يقصد الوقف - بأصالة الصحة فمما لا ينبغي احتماله. وأما إذا قلنا بأنهما حقيقة واحدة، وكلاهما عبارة عن حبس الاصل وتسبيل الثمرة، غاية الامر أن الوقف مشروط صحته بأن يكون حبس الاصل دائميا حتى يرث الله السموات والارض، فيكون حبسا بلا كلام، لان المفروض أنه لا امتياز بينهما إلا بالتوقيت وعدمه، فإن الوقف غير موقت والحبس موقت، فإذا وقته يكون حبسا ويكون حال هذه المسألة حال عقد الدوام والانقطاع وعدم ذكر الاجل. فكما أنه هناك بناء على أن الزوجية في الدائمة والمنقطعة حقيقة واحدة والفارق بينهما ليس إلا بذكر الاجل في المنقطعة دون الدائمة، فإذا لم يذكر الاجل وإن كان نسيانا تقع دائمة وإن قصد الانقطاع، لانهما حقيقة واحدة. فكذلك هاهنا إذا لم يذكر التأبيد بل وقته بوقت معين قليلا كان أو كثيرا فلا محالة يكون حبسا. ويمكن أن يستدل لكونه حبسا أيضا بصحيحة علي بن مهزيار قلت له عليه السلام: روى بعض مواليك عن آبائك عليهم السلام أن كل وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة وكل وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم السلام ؟ فكتب عليه السلام: (هكذا هو عندي) (1). وصحيح محمد بن الحسن الصفار قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصح كيف هو ؟ فقد روي أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان موقتا فهو صحيح ممضى، قال قوم: إن الموقت هو الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الارض

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 36 باب: ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 31، (الفقيه) ج 4 ص 237 ح 5569 باب: الوقف والصدقة والنحل ح 3، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 132 ح 561 باب: الوقوف و الصدقات ح 8، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 307 في أحكام الوقوف والصدقات باب 7 ح 1. (*)

 

ومن عليها، وقال آخرون: هذا موقت إذا ذكر أنه لفلان وعقبه ما بقوا، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الارض ومن عليها، والذي هو غير موقت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحدا، فما الذي يصح من ذلك ؟ وما الذي يبطل ؟ فوقع عليه السام: (الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله) (1). أقول: ظاهر الصحيحة الاولى أن الوقف الموقت بوقت معلوم صحيح، والموقت بوقت مجهول باطل فالظاهر أنه يقع في الشق الاول وقفا صحيحا لا حبسا صحيحا، ولذا استدل بعض بها على وقوع الموقت المعلوم وقفا صحيحا. اللهم إلا أن يقال بأن الفرق بين الوقف والحبس بصرف التأبيد والتوقيت، فالصحيحة تدل على صحته حبسا، وإن عبر في السؤال بلفظ الوقف. وظاهر الصحيحة الثانية هو أن الواقف بأي كيفية من الكيفيات المذكورة وقف يكون صحيحا، لان الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها، فعلى أي حال كلتا الصحيحتين تدلان على أن الوقف الموقت يقع صحيحا، غاية الامر إما وقفا وإما حبسا. نعم تدل الاولى على أنه إذا كان جهلا مجهولا فهو باطل، ولذلك ترى أن الذي يقول بأن الموقت حبس صحيح والذي يقول بأنه وقف صحيح كلاهما استدلا بهاتين الصحيحتين. الشرط الثالث: التنجيز، بمعنى أنه يلزم أن ينشأ الوقف منجزا غير معلق على شيء، وهذا الشرط لا اختصاص له بالوقف، بل اعتبروه في جميع العقود، وأن التعليق فيها مبطل لها. وعمدة دليلهم على اعتبار التنجيز في العقود هو الاجماع المدعى في المقام، وإلا ليس دليل عقلي على تنافي التعليق مع العقد والعهد إذا كان التعليق في المنشأ.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 229 هامش رقم (1). (*)

 

وأما الانشاء فلا يمكن التعليق فيه، سواء أكان الانشاء والايجاد متعلقه أمرا تكوينيا وموجودا خارجيا أو أمرا اعتباريا، وذلك من جهة أن الانشاء والايجاد أمره دائر بين الوجود والعدم منجزا، لانه إن أوجد ذلك الشيء الخارجي والموجود التكويني في عالم الخارج، أو الموجود الذهني في الذهن، أو الامر الاعتباري كالملكية في عالم الاعتبار فقد تحقق الانشاء جزما بدون أي تعليق في البين وإن لم يوجد ذلك الشيء فلم يتحقق الايجاد قطعا وجزما وعلى كل حال ليس تعليق في البين. وأما تعليق المنشأ فلا مانع منه عقلا، بل واقع في الشرعيات كثيرا، ففي الجعالة - مثلا - ينشأ الجاعل ملكية الجعل لكل من رد عليه ضالته، فالملكية المعلقة على رد الضالة هي التي تعلق بها الانشاء، كما في قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير) (1) وهكذا الحال في الوصية، فهو ينشاء الملكية المعلقة على موته، وفي التدبير ينشأ حرية عبده معلقا على موته. وكذلك في النذر ينشأ ملكية المنذور للمنذور له معلقا على برء مرضه مثلا، أو قدوم ابنه عن سفره وأمثال ذلك مما يتداول بين الناس النذر لاجله. وهذا معنى قولهم أن التعليق في الانشاء محال وأما في المنشأ فلا مانع منه عقلا، إلا أن الاجماع قام على بطلان العقود بالتعليق في منشأتها إلا ما خرج بالدليل، فيكون ذلك الدليل مخصصا للاجماع، كما ورد في الوصية والجعالة والتدبير كما عرفت (2). وأما استدلال صاحب الجواهر قدس سره على بطلان التعليق في العقود، لانه مناف مع ظاهر أدلة تسبيب الاسباب لترتب آثارها عليها، (3) وذلك لان ظاهرها حسب

 

(هامش)

 

(1) يوسف (12): 72. (2) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 191 ح 766 باب: الرجوع في الوصية ح 19، وكذلك ج 8 ص 264 ح 965 باب: التدبير ح 28، وكذلك ج 7 ص 344 ح 1407 باب: العقود على الاماء...، ح 38، ((وسائل الشيعة) ج 13 ص 1387 في أحكام الوصيا باب 18 ح 8، وكذلك ج 16 ص 96 من أبواب التدبير باب 11 ح 1 و 2. (3) (جواهر الكلام) ج 28 ص 63. (*)

 

المتفاهم العرفي آثارها عليها حال وقوعها، فإن ظاهر قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1) ترتيب آثار العقد على كل واحد من العقود حال وقوع ذلك العقد لا أنه يرتب آثار البيع - مثلا - أو النكاح أو الصلح أو غيرها على تلك العقود بعد مضي زمان من وقوعها. ففيه: أن ظواهر تلك الادلة هو العمل على طبق العقد أو الشرط الواقع ووجوب الوفاء بمضمونهما، فإن كانا مطلقين فمطلقا، وإن كانا معلقين على أمر فعند حصول ذلك الامر سواء أكان معلوم الحصول أو مشكوكه، بل إن كان العقد أو الشرط معلقا وعمل بهما قبل حصول المعلق عليه لم يف بعقده أو بشرطه، وعمل بخلاف ظاهر دليل ذلك العقد أو ذلك الشرط. مضافا إلى أن هذا الكلام لا يأتي فيما إذا كان المعلق عليه حاصلا حال العقد أو الشرط، فإنه لا يتأخر ترتيب الاثر عنهما في تلك الصورة. فليس في البين إلا الاجماع وقد عرفت في هذا الكتاب مرارا حال هذه الاجماعات وأن أغلبها مستند إلى أصل أو رواية ضعيفة بحسب المسند أو الدلالة أو كلاهما، أو اعتمد المجمعون على وجوه استحسانية التي أشبه بالقياس من الدليل مع أن في بعض صور التعليق اختلاف كثير بينهم. كما إذا كان التعليق على أمر محقق الوقوع، أو كان معلوم الحصول حال العقد، فالاول كما إذا قال: وقفت هذه الدار على الفقراء - مثلا - إن طلعت الشمس غدا. والثاني كما إذا قال: وقفت هذه الدار على زيد - مثلا - إن كان عادلا ثم على الفقراء، وعدالة زيد معلوم عنده. الشرط الرابع: أخراجه عن نفسه، بمعنى أن لا يكون هو الموقوف عليه ولا

 

(هامش)

 

(1) المائدة (5): 1. (*)

 

داخلا فيه أو شريكا معه، فبناء على هذا لا يصح الوقف على نفسه. وقد ادعى الاجماع على اعتبار هذا الشرط تارة وعدم إمكان الوقف على النفس أخرى لان حقيقة الوقف هو إما تمليك المنافع للموقوف عليه وحده وإما مع العين، ولا يمكن أن يملك الانسان نفسه، لانه تحصيل الحاصل وهو محال. وأجيب عن هذا الدليل بأن حقيقة الوقف ليس هو التمليك لا تمليك العين ولا تمليك المنفعة، بل حقيقته تحبيس الاصل عن التقلبات الاعتبارية الواردة على المال - كبيعه وهبته وعتقه والصلح عليه وغيرهما - وتسبيل ثمرته، وأيضا ليس التسبيل أيضا تمليك الثمرة والمنفعة، بل إباحتها طلبا لمرضاة الله وفي سبيله، فلا مانع عقلا من جعل نفسه موقوفا عليه أو شريكا معه. وثالثة دلالة الروايات على عدم جواز الوقف على نفسه، ولزوم إخراج الواقف الوقف عن نفسه: منها: مكاتبة علي بن سليمان بن رشيد قال: كتبت إليه - يعني أبا الحسن عليه السلام - جعلت فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان، فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين أو أبيعها وأتصدق بثمنها عليهم في حياتي ؟ فإني أتخوف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي، فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيام حياتي أم لا. ؟ فكتب عليه السلام: (فهمت كتابك في أمر ضياعك، فليس لك أن تأكل منها من الصدقة، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ إن كان لك ورثة وبع وتصدق ببعض ثمنها في حياتك، وإن تصدقت أمسك لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه السلام) (1).

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 37 باب: ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل...، ح 33، (الفقيه) ج 4 ص 238 ح 5570 باب: الوقف والصدقة والنحل ح 4، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 129 ح 554 باب: الوقوف والصدقات ح 1، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 296 في أحكام الوقوف والصدقات باب 3 ح 1. (*)

 

ومنها: خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عيه السلام أن رجلا تصدق بدار له وهو ساكن فيها فقال عيه السلام: (الحين أخرج منها) (1). وفيه: أن هاتين الروايتين أجنبيتان عما هو محل الكلام. أما الاولى منهما: فالسؤال فيها عن جواز أكله عنها بعد وقفه على الققراء المفروض في الرواية فأجاب عليه السلام بالعدم، لانه صدقة ووقف على الفقراء وهو ليس من الموقوف عليهم، فلا يجوز له أن يأكل منها، وهذا المعنى غير مربوط بجواز الوقف على نفسه وعدمه. وأما الثانية: فالامر فيه أوضح، لان السؤال عن أن الرجل تصدق بداره التي يسكن فيها، وظاهر هذه العبارة أنه تصدق بها على غيره، فهو ليس من الموقوف عليه فيجب خروجه عنها فورا، ولذلك أمر عليه السلام به. فظهر مما ذكرنا أنه لا دليل في المسألة يدل على عدم جواز الوقف على النفس استقلالا أو تشريكا إلا الاجماع، وما ذكرنا من عدم صحة الوقف على نفسه مستقلا أو تشريكا على فرض تسليمه فيما إذا كان الواقف بنفسه موقوفا عليه مستقلا أو تشريكا معهم. وأما لو وقف على عنوان ينطبق عليه أيضا كعنوان الفقراء والفقهاء فالظاهر صحة مثل هذا الوقف ودخوله فيهم وجواز أخذه من ثمرة المال الموقوف وانتفاعه بها، وليس من قبيل الوقف على النفس، لان الموقوف عليه هي الطبيعة الكلية لا الاشخاص. ولذلك لا يملكون الثمرة إلا بعد الاخذ وتطبيق الطبيعة، وذلك من جهة أن أخذ

 

(هامش)

 

(1) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 138 ح 582 باب: الوقوف والصدقات ح 29، (الاستبصار) ج 4 ص 103 ح 394 باب: من تصدق بمسكن على غيره...، ح 2، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 297 في أحكام الوقوف والصدقات باب 3 ح 4. (*)

 

العنوان متعلقا وموضوعا للوقف من قبيل القضايا الحقيقية لا من قبيل القضايا الخارجية. نعم لو كان أخذ العنوان موضوعا للوقف من قبيل القضايا الخارجية بأن تكون مشيرة إلى أشخاص معينين وموجودين في الخارج والواقف أحدهم كما إذ قال: وقفت داري على الجالسين تحت هذه الخيمة أو الساكنين في هذه الدار الساعة وهو أحدهم فلا يجوز، لانه وقف على النفس. ثم أعلم: أنه بعد ما تم الوقف واجدا لهذه الشروط الاربعة وسائر الشروط التي نذكرها إن شاء الله تعالى يكون لازما، ليس للواقف الرجوع إليه. والدليل على ذلك مضافا إلى قوله تعالى (أوفو بالعقود) (1) وقوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) الروايات الواردة في القبض، وأنه بعده يلزم ولا يجوز الرجوع إليه. منها: ما تقدم من ذيل خبر عبيد ابن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام: (لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله) (2). والظاهر أن المراد من الصدقة في هذه الرواية هو الوقف ولا أقل من شمولها له بالاطلاق. ومنها: غيرها مما تقدم في مسألة اشتراط القبض في صحة الوقف أو لزومه كصحيح صفوان (3) ورواية العمري (4) وعلى كل تقدير لا شك في أن الوقف من العقود اللازمة عندنا خلافا لابي حنيفة (5).

 

(هامش)

 

(1) المائدة (5): 1. (2) تقدم راجع ص 244. (3) تقدم راجع ص 242 هامش رقم (1). (4) تقدم راجع ص 242 هامش رقم (2). (5) السرخسي في (المبسوط) ج 12 ص 27 كتاب الوقف، الميداني في ((اللباب في شرح كتاب) ج 2

 

ثم أنه بعد ما عرفت أن من شروط صحة الوقف الدوام والتأبيد، فلو وقف على من ينقرض غالبا، كما إذا وقف على أولاده بلا فصل أي البطن الاول مثلا، أو ولو قال بطنا بعد بطن إلى عشرة أبطن أو مطلقا ولكن لم يذكر عنوانا آخر كالفقراء أو الفقهاء بعدهم، فهل يبطل فلا يقع وقفا ولا حبسا أو يقع حبسا فيرجع بعد انقراضهم إلى الواقف أو ورثته ؟ فيه أقوال: الاول: وقوعه وقفا. الثاني: وقوعه حبسا. والثالث: بطلانه وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا. أما الثالث - أي البطلان وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا - فنسبه في الشرائع إلى القيل (1)، وقال في الجواهر في شرح العبارة: كما عن المبسوط إرساله أيضا ولكن لم تحققا قائله (2). أما الاول - أي: وقوعه وقفا - فنسب إلى الشيخين قدس سرهم (3) والمختلف (4) والتذكرة (5)، وقال في الجواهر: وأكثر الاصحاب (6). وأما الثاني فنسب إلى جماعة منهم جامع المقاصد وثاني الشهيدين في كتبه

 

(هامش)

 

ص 180 كتاب الوقف، الكاساني في (لا بدائع الصناع) ج 6 ص 218 كتاب الوقف والصدقة. (1) (شرائع الاسلام) ج 2 ص 216. (2) (جواهر الكلام) ج 28 ص 55. (3) الشيخ المفيد في (المقنعة) ص 655، الشيخ الطوسي في (النهاية) ص 599. (4) (مختلف الشيعة) ج 6 ص 265، كتاب الوقف مسألة: 37. (5) (تذكرة الفقهاء) ج 2 ص 433. (6) (جواهر الكلام) ج 28 ص 56. (7) (جامع المقاصد) ج 9 ص 16. (*)

 

الثلاثة المسالك (1) والروض (2) والروضة (3) والارشاد (4) والمختلف (5) والتنقيح (6) وإيضاح النافع وغيرهم. والظاهر أن القول بالبطلان في غاية الشذوذ، وأما القولان الآخران فكل واحد منهما له شهرة، وعلى كل حال فمقتضى ما ذكرنا أن الفرق بين الوقف والحبس ليس إلا بالتأبيد والتوقيت، فيقع حبسا لا محالة، لانه بناء على هذا يكون حبسا للعين وتسبيلا للثمرة مدة عدم انقراضهم، وهذا هو الحبس. غاية الامر يبقى الكلام في أنه يجوز إنشاء الحبس بصيغة (وقفت) أم لا ؟ وهذا ليس فيه كثير إشكال بناء على أن حقيقة الوقف والحبس واحدة وهو إيقاف العين عن التقلبات في عالم الاعتبار التشريعي، غاية الأمر في الوقف دائما وفي الحبس موقتا. ولكن يرد عليه أن الحبس بعد انقضاء المدة يرجع فيه المال المحبوس إلى المالك، وفي الوقف خرج عن ملكه فلا يرجع إليه أو إلى ورثته، بل الصحيح أن في الحبس لم يخرج المال عن ملك المالك بل هو تسبيل المنفعة موقتا، فهذا الاختلاف وغيره من الآثار والاحكام يدل على أنهما ليسا حقيقة واحدة، فإذا قصد الوقف وأنشأ بصيغة الوقف لا بد وأن يكون إما وقفا إن كان صحيحا، وإما أن يكون باطلا. وأما ما يقال: من أنهما حقيقة واحدة والاختلاف في الاحكام والآثار من ناحية اختلافهما في المرتبة كالوجوب والاستحباب عند هذا القائل، فالوقف هو الحبس

 

(هامش)

 

(1) (مسالك الافهام) ج 1 ص 278. (2) (مفتاح الكرامة) ج 9 ص 17. (3) (اللمعة - الروضة البهية) ج 3 ص 169. (4) (إرشاد الاذهان) ج 1 ص 452. (5) (مختلف الشيعة) ج 6 ص 267. (6) (التنقيح الرائع) ج 2 ص 303. (*)

 

المطلق غير المحدود، والحبس هو الحبس المحدود المعين مدته. فعلى فرض صحة هذا الكلام، فإذا قصد مرتبة من تلك الحقيقة لا تقع مرتبة أخرى، لان العقود تابعة للقصود، والمفروض أنه فيما نحن فيه قصد الوقف فوقوع مرتبة أخرى لا وجه له، فبناء على هذا لا بد من القول بوقوعه وقفا إن لم نقل بالبطلان. ولكن يرد على هذا أيضا أن من شرائط صحة الوقف الدوام والتأبيد، بل احتملنا أن يكون داخلا ومأخوذا في حقيقة الوقف. ويمكن أن يجاب عنه أولا: بأن الدوام ليس مأخوذا في حقيقة الوقف، وليس دليل يدل على هذا، وإنما قلنا باعتباره فيه للاجماع وادعاء الاجماع مع شهرة المخالف في هذه المسألة - حيث أنهم يقولون بصحته وقفا - لا يخلو عن غرابة. وثانيا: المراد من الدوام المعتبر في الوقف هو أن لا يحدد الوقف ومدة حبسه، وأما انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه فعقلي وليس من قبيل تحديد الحكم، فلو قال لزيد: بعتك هذه الدار بكذا، فلم يحدد تمليكه لزيد ولكن ملكية زيد ينعدم بموته عقلا، إذ لا يمكن بقاء الحكم بدون الموضوع. وفيما نحن فيه إذا قال: وقفت على أولادي النسل الاول منهم لم يحدد وقفه وحبسه، وإنما ينتفي الحبس بانقراضهم عقلا لا بتوقيت وتحديد من قبل المالك. ولذلك لو قال: وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن واتفق أنهم لم ينقرضوا فالوقف صحيح، مع أن بقاءهم من باب الاتفاق لا ربط له بإنشاء الواقف. ثم إنه بناء على القول بأنه حبس صحيح فلا شك في أنه بعد انقراضهم يرجع إلى المالك أو إلى ورثته. وأما بناء على ما رجحناه من أنه وقف صحيح فهل يرجع إلى المالك أو إلى ورثته إذا لم يكن المالك باقيا، أو يرجع إلى ورثة الموقوف عليه أو يصرف في وجوه

 

البر ؟ وجوه بل أقوال: وبيان الرجوع إلى المالك أو ورثته هو أنه لو قلنا بأن حقيقة الوقف صرف حبس ماله وإيقافه عن ورود التقلبات الاعتبارية عليه، وتسبيل ثمرته على عنوان خاص أو أشخاص مخصوصين من دون إخراجه عن ملكه، فالامر في غاية الوضوح، لانه ملكه وبعد موته ملك وارثه. وأما إن قلنا بأنه تمليك للموقوف عليهم فيما عدا وقف المسجد، بل وفيما عدا الوقف على الجهات، كالقناطر والخانات، والرباطات فمقتضى القاعدة عدم رجوعه إليه أو إلى وارثه، لان رجوعه إليه بعد خروجه عنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود. اللهم إلا أن يقال: إن خروجه عن ملك الواقف ليس مطلقا ودائميا بل مقيد ببقاء الموقوف عليهم، فإذا انقرضوا يرجع إلى حالته الاولى، بل ينبغي أن يقال يبقى على حالته الاولى لا أنه يرجع إليها. وأما إن قلنا بخروجه عن ملك الواقف وصيرورته ملكا مطلقا للموقوف عليهم غير مقيد ببقائهم، فإذا انقرضوا يكون لورثة البطن أو الشخص الاخير، بمفاد قوله عليه السلام: (ما تركه الميت من حق أو مال فلوارثه) (1). وليس التمسك به من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية، لانه بناء على عدم تقييد ملكيته ببقائه يصدق عليه عنوان (ما تركه الميت) يقينا. وأما القول بصرفه في وجوه البر فليس له وجه، إلا أن يقال بأن المال خرج عن ملك الواقف مطلقا ودخل في ملك الموقوف عليهم مقيدا ببقائهم، فلا يرث وارثهم ولا الواقف، لان دخوله في ملكه ثانيا يحتاج إلى دليل وليس، ومع دلك كله الوقف باق على وقفيته، فيكون مثل الوقف المجهول المصرف يصرف في وجوه البر.

 

(هامش)

 

(1) النراقي في (مستند الشيعة) ج 14 ص 412، (مسند احمد) ج 2 ص 453 نحوه، (سنن ابن ماجه) ج 2 ص ص 914 ح 2738 باب ذوي الارحام نحوه. (*)

 

ولكن أنت خبير بعدم تمامية هذه المقدمات، خصوصا المقدمة الاخيرة والاولى، بل الاقوى من الوجوه المذكورة هو الرجوع إلى الواقف، وذلك لان المال إما لم يخرج عن ملكه بالمرة أو يكون خروجه ما دام بقاء الموقوف عليهم لا مطلقا. بقي الكلام في أنه بناء على المختار من أنه يرجع إلى الواقف أو ورثته فهل المراد هو الوارث حين موت الواقف أو حين انقراض الموقوف عليهم ؟ وتظهر الثمرة فيما إذا كان للواقف ولدان - مثلا - أحدهما مات بعد موت المالك الواقف، ولكن قبل انقراض الموقوف عليهم. والثاني باق إلى زمان انقراضهم، فلو كان المراد الوارث حين موت الواقف فيرث ذلك الولد الذي مات قبل انقراض الموقوف عليهم، ويكون شريكا مع أخيه الباقي إلى زمان الانقراض، ويرث منه ورثته الباقون. وأما لو كان المراد الوارث حال الانقراض، فيكون جميع المال لذلك الولد الباقي إلى زمان الانقراض. والظاهر أن المراد من الوارث هو الوارث حال موت الواقف لا الوارث حال الانقراض، وذلك من جهة أن المناط في رجوع المال إليه كونه وارثا لمن يرجع إليه - أي الواقف وهذا المعنى يثبت له حال موت الواقف المورث، ولا ربط لانقراض الموقوف عليهم بكونه وارثا كما هو واضح. إن قلت: إن حال موت الواقف ليس شيء في البين كي يرثه هذا الوارث، لان الرجوع بعد الانقراض، ولا بد في كونه وارثا من صدق (ما تركه الميت من حق أو مال فلوارثه) والمفروض أنه في حال موته لم يترك شيئا كي يرثه هذا الوارث. قلت: بينا أن الرجوع إلى المالك أو وارثه يكون إما بناء على عدم خروج المال الموقوف عن ملك الواقف أصلا وفي هذه الصورة واضح أنه لا إشكال في البين. وإما بناء على أن تمليك الموقوف عليهم ليس تمليكا مطلقا، بل يكون مقيدا ببقائهم، فمن زمان انقراضهم لم يخرج عن ملك المالك من أول الامر.

 

وبعبارة أخرى: صار تقطيعا في ملكية المالك مثل الحبس، حيث أنه يصير ملكا موقتا له، فخروجه عن ملك الواقف بمقدار زمان الحبس، وفي باقي الازمنة باق على ملكه، وفيما نحن فيه أيضا بناء على هذا المبنى كذلك أي خارج عن ملك الواقف بمقدار بقاء الموقوف عليهم، وفي باقي الازمنة باق على ملكه، فلا يبقي إشكال في أنه ينتقل حين موته إلى ورثته. ثم إنه بعد ما عرفت أن أحد شروط صحة الوقف إخراج الواقف نفسه عن الموقوف عليهم كي لا يكون من قبيل الوقف على النفس، لانه باطل إجماعا - كما تقدم مفصلا - فلو وقف على أحد العناوين كالفقهاء أو السادات أو غيرهما من العناوين وشرط عليهم أداء ديونه أو إدرار مؤنته أو عياله أو غير ذلك مما يرجع إلى نفسه، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس كي يكون باطلا أو ليس كذلك فيكون صحيحا ؟ أقول: إن كان شرط عليهم إدرار مؤنته أو أداء ديونه من غير منافع الوقف ومن ماله الآخر فلا إشكال في أنه ليس من قبيل الوقف على النفس، وإن شرط أن يكون من منافع الوقف فيكون وقفا على النفس، من جهة أن المراد من الوقف على النفس هو أن يرجع تمام الثمرة والمنفعة أو بعضها إلى الواقف وما نحن فيه كذلك، فيكون هذا الشرط فاسدا. وحيث أن الشرط الفاسد ليس بمفسد، وهو إحدى القواعد التي رتبناها في الجزء الرابع من هذا الكتاب، فيكون الوقف صحيحا ويصرف في نفس العنوان الموقوف عليهم، ولو شرط صرف بعض منافعه وثمرته على أهله أو أضيافه أو على أولاده وإن كانوا ممن هم نفقتهم واجبة عليه، لان هذا ليس من قبيل الوقف على نفسه. وأما إذا شرط أداء زكاته الواجبة أو الخمس الواجب في ماله فهذا الشرط فاسد، لانه من قبيل الوقف على نفسه، ولو شرط عليهم الحج له به بعد موته من منافع هذا الوقف، فالظاهر عدم صحة هذا الشرط.

 

فرع: إذا استثنى مقدرا من منافع العين الموقوفة أو من نفس العين لنفسه، فالظاهر أنه ليس من الوقف على النفس، بل هو إخراج عن أصل الوقف، فيرجع إلى أنه لم يقف تمام هذه العين أو لم يسبل تمام منافعه، فلا إشكال فيه أصلا. فرع آخر: لو جعل نفسه متوليا وناظرا على الوقف وجعل مقدارا من منافع ذلك الوقف قليلا أو كثيرا للمتولي فهل هذا من قبيل الوقف على النفس وباطل أم لا ؟. أقول: إذا كان بمقدار المتعارف، كالعشر من منافع الوقف، فالظاهر أنه لا إشكال فيه، لانه في الواقع من قبيل الاجرة قابل عمله وتعبه في إدارة الوقف من عمارته وإجارته وإصلاح شؤونه وسائر تصرفاته. ولا شك في أن حال الوقف حال الاملاك الشخصية، كما أنهم يجعلون أجرا للذي يدير ذلك الملك، وقد يكون الاجر حصة من منافع ذلك الملك، وليس معنى ذلك أن يكون شريكا فيه، بل يكون كسائر مؤن ذلك الملك، فيكون حال المتولي والناظر في الوقف حال ذلك الرجل الذي يدير أمر ملك غيره ويديره. وأما إذا كان كثيرا كتسعة أعشار منافعه مثلا لو جعلها للمتولي الذي هو نفس الواقف ما دام حيا وفي الطبقة الاولى وعين غيره بعد مماته، وجعل له مقدارا متعارفا، فالانصاف أنه لا يخلو عن إشكال، لانه بنظر العرف وقف على نفسه، فكأنه جعل نفسه موقوفا عليه، وإن كان بحسب الظاهر يقال: إنه حق التولية ولكن في مقام اللب ليس بإزاء إتعابه في اصلاح شؤون الوقف وإدارة أموره. اللهم إلا أن يقال: إن عمدة دليل بطلان الوقف على النفس هو الاجماع كما تقدم، ولا شك في أنه ليس إجماع في مثل المقام، بل القائلين بصحة مثل هذا المقدار للمتولي كثير إن لم يكن من القائلين بالبطلان أكثر.

 

أو يقال: بأنه من باب استثناء هذا المقدار من المنافع مدة حياة المتولي عن الوقف، فلا إشكال من ناحية الوقف على النفس أصلا. وأما من ناحية الاستثناء فالظاهر أنه أيضا لا إشكال فيه، لان مرجع استثناء هذا المقدار في تلك المدة عدم تعلق الوقف بهذا المقدار من ثمرة الوقف في مدة حياة ذلك المتولي. ولا مانع من هذا لا عقلا ولا شرعا، بل لو استثنى في ضمن إجراء الصيغة مقدار مؤونته ما دام حيا من منافع الوقف، لا إشكال فيه، لان الوقف تعلق بما عدا هذا المقدار. ولذلك يجوز وقف العين باعتبار بعض منافعها، ويبقى الباقي في ملك الواقف، مثلا يجوز وقف الشاة لان يعطي لبنها للاطفال الرضع، ويبقى سائر منافعها للواقف، وكذلك البستان باعتبار ثمرة نخيلها، فتبقى منافعها الاخر للواقف. وصحة هذا القسم من الوقف - بناء على كونه عبارة عن صرف حبس الاصل عن التقلبات في عالم التشريع وجعل ثمرته للموقوف عليهم - لا إشكال فيه، لان هذه الاستثناءات تدل على أن الثمرة المجعولة للموقوف عليهم ما عدا هذا المقدار، كما هو شأن كل استثاء في كل مقام وهو أن حكم المستثنى منه يشمل ما عدا مقدار المستثنى. وأما بناء على أنه عبارة عن تمليك الموقوف عليهم للعين الموقوفة، ربما يتوهم: أنه كيف يمكن أن تكون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين فباعتبار بعض المنافع تكون ملكا للموقوف عليهم، وباعتبار بعض آخر تكون ملكا للواقف. ولكن جوابه: أنه يمكن أن يكون الاصل بتمامه ملكا للموقوف عليهم فاعتبار ذلك البعض من المنافع، ويكون من قبيل ما لو آجر الملك قبل الوقف باعتبار بعض الثمرة، كما لو آجر البستان باعتبار بعض ثمرته، فأوقفه باعتبار بعض الآخر فيصير البستان ملكا للموقوف عليهم ولكن مجردا عن بعض المنافع. وأما لو كان مجردا عن جميع المنافع دائما أبدا فاعتبار التمليك لغو.

 

وأما ما ذهب بعض الاساطين قدس سرهم من مقاربي عصرنا إلى صحة كون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين - بأن تمام العين من دون شركة الآخر ملكا لهذا، وكذلك تمام العين يكون ملكا للآخر، غاية الامر ملكية كل واحد منهما لتمام العين باعتبار بعض منافعها غير بعض الآخر - فلا يخلو عن غرابة. وأما لو وقف على العناوين العامة كالمساجد على المصلين والقناطر لكافة المسلمين بل لكافة العابرين والخانات لكافة المسافرين أو المدارس الدينية لكافة طلاب العلوم الدينية الاسلامية وكان مصداقا لاحد هذه العناوين فلا إشكال في أن هذا ليس من الوقف على النفس لو انتفع بها، لانه كسائر مصاديق هذه العناوين، فحاله حالهم. وذلك من جهة أن الوقف على الجهة ليس من قبيل الوقف على الطبيعة السارية كي يكون كل فرد منها موقوفا عليه، فيكون بالنسبة إلى حصة الواقف من قبيل الوقف على النفس، ولذلك لو وقف على السادات أو الفقهاء أو الفقراء وكان هو منهم، فشموله لنفسه ربما يقال إنه من قبيل الوقف على النفس، والوقف على إمام مسجد يكون هو إمامه حين الوقف أو إذا صار بعد الوقف يكون من هذا القبيل، لان إمام المسجد عنوان عام هو أحد مصاديقه، غاية الامر في كل زمان فرده منحصر بواحد غالبا. وكذلك الوقف على أفقه البلد، أو الافقه بقول مطلق وكان هو مصداقه حين الوقف، أو صار بعد ذلك من هذا القبيل. وأما الفرق بين كونه كذلك حين الوقف في الفرعين - أي: مسألة الوقف على إمام المسجد، ومسألة الوقف على الافقه وأنه صار مصداقا لذلك العنوان بعد الوقف - بالصحة في الثاني دون الاول، فلا وجه له أصلا، والمسألة خلافية ولكن الاظهر عندي هو صحة هذا الوقف، وفاقا للمشهور.

 

أما أولا: فلان الموقوف عليه هو العنوان، وصرف قابليته للتطبيق على نفسه لا يوجب صيرورته موقوفا عليه. وذلك كما أنه لو باع صاعا من هذه الصبرة - مثلا - فالمبيع قابل للانطباق على كل واحد من صيعان الموجودة فيها، ومع ذلك ليس شيء من الصيعان - بعد تفرقها في الخارج وانقسامها إلى صيعان منفصلة - مبيعا إلا بعد التطبيق وإقباضه للمشتري، وإلا قبل القبض تعين أحدها لمعين ترجيح بلا مرجح. وأحدها غير المعين غير معقول، لان الصيعان الموجودة كل واحد معين وجميعها يكون مبيعا، لان قابلية الانطباق في الجميع خلاف الفرض، إذ المفروض أن المبيع صاع واحد، فلا مناص إلا القول بأن قبل القبض كل واحد منها ليس مبيعا وبالقبض يتحقق صفة المبيعية. ففيما نحن فيه تمليك الثمرة للعنوان ولا يصير ملكا لنفس الواقف الذي مصداق إلا بعد فهو ليس بنفسه موقوفا عليه. وثانيا: قلنا إن بطلان الوقف على نفسه لا دليل عليه إلا الاجماع، والاجماع مع ذهاب المشهور إلى جواز انتفاعه من الوقف إذا وقف على عنوان الفقهاء أو الفقراء أو ما يشابههما إذا كان هو من مصاديق تلك العناوين. مسألة: إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج، فيه أقوال: قول بصحة الوقف والشرط جميعا، فيرتب عليه آثار الوقف ما دام لا يحتاج إليه، وعند الاحتياج يعود إلى ملكه. وحكى عن المرتضى قدس سره (1) دعوى الاجماع على هذا القول وادعى بعضهم أن هذا هو قول الاكثر، وعن جماعة بطلان الوقف والشرط، وحكى عن ابن ادريس (2) دعوى الاجماع على ذلك.

 

(هامش)

 

(1) (الانتصار) ص 226. (2) (السرائر) ج 3 ص 156 و 157. (*)

 

وقول بصحته حبسا لا وقفا وصحة الشرط أيضا. وبه قال في الشرائع (1). والاقوى هو القول الاول بناء على عدم كون التأبيد داخلا في ماهية الوقف وهو واضح، وإلا فالقول الثالث الذي قال به في الشرائع، وذلك من جهة أن التأبيد لو كان شرطا في تحقق ماهية الوقف فحيث أن مرجع هذا الشرط إلى عدم التأبيد فلا يقع الوقف قطعا، فيدور أمره بين البطلان بالمرة أو وقوعه حبسا. فإن قلنا: بأن الوقف والحبس حقيقتان مختلفتان فيكون باطلا بالمرة، لان الذي قصده الواقف - وهو الوقف - لم يقع، لعدم التأبيد، والحبس أيضا لا يقع، لان العقود تابعة للقصود ولكن حيث قلنا بأنهما حقيقة واحدة - غاية الامر الفرق بينهما بخصوصية زائدة على الماهية والحقيقة، بل تكون تلك الخصوصية من العوارض المصنفة وهي التأبيد - فيقع حبسا ويصح الشرط أيضا، لعدم كونه مخالفا لمقتضى العقد ولا للكتاب والسنة، لان عود الملك إلى الحابس ليس مخالفا للكتاب ولا الحبس يقتضي عدمه. فالعمدة في المقام هو أن التأبيد داخل في حقيقة الوقف وتحقق ماهيته أم لا ؟ فإن لم يكن داخلا في حقيقة الوقف فيصح الوقف والشرط، كما ذهب إليه المشهور، لانه قصد الوقف وشرط رجوعه إليه عند الحاجة مناف لاطلاق عقد الوقف لا له مطلقا، فلا مانع من صحة الوقف والشرط جميعا. وأما إن كان داخلا في حقيقة الوقف وكان الوقف والحبس حقيقتين مختلفتين، فلا يقع شيء منهما. وهو القول الثاني الذي ذهب إليه ابن ادريس وادعى عليه الاجماع. وأما إن كانا حقيقة واحدة مع اعتبار التأبيد في الوقف شرعا في تحقق الوقف، فيقع حبسا ويصح الشرط أيضا، وهو قول صاحب الشرائع.

 

(هامش)

 

(1) (شرائع الاسلام) ج 2 ص 217. (*)

 

ثم إنه لما رجحنا فيما تقدم في شروط صحة الوقف اعتبار التأبيد فلا يمكن الموافقة مع قول المشهور. ولما رجحنا أن الوقف والحبس حقيقة واحدة، فلا بد - بناء على ما رجحنا - من الذهاب إلى ما قاله في الشرائع من صحة الشرط ووقوعه حبسا. هذا بحسب القواعد. وهناك روايتان تمسك كل واحد من الطرفين من القائلين بالصحة والبطلان بهما: أحدهما: خبر إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير قال: إن احتجت إلى شيء من المال فأنا أحق به، ترى ذلك له وقد جعله لله يكون له في حياته، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا أو يمضى صدقة ؟ قال عليه السلام: (يرجع ميراثا على أهله) (1). الثاني: قوله عليه السلام: (من أوقف أرضا ثم قال: إن احتجت إليها فأنا أحق بها ثم مات الرجل، فإنها ترجع إلى الميراث) (2). ويروي هذا الخبر في المستدرك عن دعائم الاسلام بدل (أرضا) (وقفا) وبدل (ترجع إلى الميراث) (رجع ميراثا) (3) والمعنى واحد. والظاهر أن الثلاثة خبر واحد فتارة نقل مسندا وأخرى نقل مرسلا. وعلى كل حال الذي يستدل بها على بطلان الوقف يقول قوله عليه السلام: (ترجع إلى الميراث) أو (رجع ميراثا) أو (يرجع ميراثا على أهله) كلها تدل على عدم صحة هذا الوقف وبطلانه، لان الوقف لا يرجع ميراثا إلى أهله وباق إلى أن يرث الله

 

(هامش)

 

(1) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 146 ح 607 باب الوقوف والصدقات ح 54 وكذلك ج 9 ص 135 ح 568 باب الوقوف والصدقات ح 15، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 297 في أحكام الوقوف و الصدقات باب 3 ح 3. (2) (دعائم الاسلام) ج 2 ص 344 ح 1288 ذكر ما يجوز من الصدقة ما لا يجوز. (3) (مستدرك الوسائل) ج 14 ص 47 أبواب كتاب الوقوف والصدقات باب 2 ح 3. (*)

 

السموات والارضين وما فيهما. والذي يستدل بها على صحة الوقف والشرط جميعا يقول: إن ظاهر (يرجع) أو (رجع) هو الدخول ثانيا بعد خروجها. فظاهر هذه الروايات هو خروج ما وقف بالوقف ثم رجوعه إليه بالشرط لاحتياجه إليه في حياته، فتدل على صحة الشرط أيضا، فإذا رجع إليه ومات عنه فطبعا يكون ميراثا إلى أهله بقواعد الارث وأدلته، وإسناد الرجوع إلى الميراث من باب أن الميراث معلول لرجوعه إليه بالشرط، فأسند الرجوع إلى المعلول باعتبار رجوع علته، فيكون من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم. والانصاف: هو أن الثاني أصح، لانه عليه السلام بعد قول السائل: (يكون في حياته، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا)، فكأنه فرع كونه ميراثا بعد هلاك الرجل على كونه له في حياته فجوابه عليه السلام بأنه يرجع ميراثا ظاهر في تصديقه عليه السلام له في هذا التفريع، وأنه يكون له في حياته. ومعلوم أن كونه له في حياته لازم صحة الشرط، وصحة الشرط ملازم مع صحة الوقف. إن قلت: كونه له في حياته يمكن أن يكون من جهة بطلان الوقف لا من جهة صحة الشرط. قلت: إن لفظ (الرجوع) ظاهر في العود إليه بعد الخروج عن ملكه، فلا يمكن أن يكون له لبطلان الوقف، لانه مع بطلان الوقف يكون له من أول الامر، ويكون ميراثا من أول الامر بعد هلاكه لا أنه يرجع ميراثا. وأما ما قيل: من أن ظهور الخبرين وإن كان في البطلان وعدم صحة مثل هذا الوقف مع مثل هذا الشرط ثابتا إلا أنه عليه السلام حكم بالفساد والبطلان من جهة قصة الواقف أن يكون هو الموقوف عليه إن احتاج ومعلوم أن مثل هذا الوقف وقف على

 

النفس وباطل لكنه لا ربط له بمحل كلامنا، مضافا إلى أنه خلاف ظاهر هذه الروايات. ينفيه: قوله عليه السلام: (يرجع ميراثا) لما بينا من أن الرجوع هو العود بعد الخروج، وهذا لا يلائم مع ما قال. وأما اعتذاره عن هذا: أنه بملاحظة قصده الوقف وعقده عليه - وان الوقف مما يخرج - فعجيب. وأما ما أوردوا على صحته وقفا: منها: أنه خلاف مقتضى عقد الوقف. وأجبنا عنه: أنه خلاف اقتضاء إطلاق العقد، لا أنه خلاف مقتضى العقد مطلقا. ومنها: أنه خلاف اشتراط الدوام في الوقف. وأجبنا عنه: أن اشتراط الدوام على فرض تماميته هو الدوام في مقابل التوقيت، كان يقول: وقفت هذا سنة أو أزيد أو أقل. ومنها: أنه يرجع إلى الوقف على النفس وفيه: أنه في الحقيقة شرط زوال الوقف لا أن يكون الوقف باقيا، ويكون هو الموقوف عليه. ومنها: التعليق وأن التعليق في العقد موجب لبطلانه إجماعا. وفيه: أن دعوى الاجماع في مورد الخلاف لا ينبغي أن يصدر من الفقيه مضافا إلى أن العقد لا تعليق فيه، وإيقاع الوقف منجز لا تعليق فيه، وإنما الشرط أثره رفع الوقف لا تعليقه، فلا تعليق لا في الانشاء ولا في المنشأ.

 

المطلب الثالث في شرائط الموقوف وهي أن يكون عينا مملوكا يمكن الانتفاع بها مع بقائه، وأن يكون لها البقاء مدة معتدة بها، وأن يكون نفعه محللا، وأن لا يكون متعلقا لحق الغير، بحيث يكون ذلك الحق مانعا عن التصرف فيها وأن تكون مما يمكن إقباضها. أما الشرط الاول: فلانه لو كان منفعة فلا يمكن تحقق حقيقة الوقف الذي هو عبارة عن حبس الاصل وتسبيل ثمرته، لان تسبيل الثمرة ينطبق على نفس أصل الموقوف الذي هي المنفعة، فلا يبقى له أصل حتى يحبس. فبناء على هذا الشرط لا يصح وقف المنافع، كمنفعة الدار أو الدكان أو الخان التي ملكها بالاجارة، وإن كانت لمدة طويلة. وأيضا لا يصح أن يكون دينا في ذمة غيره، كما لو كان له شيئا في ذمة غيره. وأيضا لا يصح أن يكون كليا في ذمة نفسه. والوجه فيهما أيضا عدم صحة اعتبار الحبس ولو في عالم الاعتبار، لان الكلي في ذمة غيره أو في ذمة نفسه حيث أنه غير معين، فلا معنى لحبسه وتسبيل ثمرته. وقياسه على صحة وقوع البيع والصلح عليه لا وجه له، وذلك من جهة أن تلك النواقل الشرعية مفادها نقل ما في ذمته إلى الغير، فيملك ذلك الغير في ذمته ذلك الكلي، أو نقل ما بملكه في ذمة الغير إلى غيره، ولا يتصور مانع في كلا الفرضين، بخلاف الوقف، فإن تحققه موقوف على حسب شيء تكون له ثمرة وتسبيل ثمرته، ومثل ذلك في الكلي الذي في ذمته أو يملكه في ذمة غيره ليس له اعتبار عقلائي. وإن شئت قلت: كما أنه لا يحبس الكلي وطبيعة صرف وجود الانسان مثلا في الحبس التكويني كذلك يكون الامر في الحبس التشريعي. وإن أبيت إلا عن إمكانه وعدم وجود مانع في البين ففي الاجماع غنى وكفاية، حيث أن عدم صحة الوقف

 

الكلي بقسميه - أي سواء أكان في ذمته أو في ذمة غيره - إجماعي لا خلاف فيه. وأما الشرط الثاني: أي كونه مملوكا، لان غير المملوك إما لانه ليس مما يملك كالخنزير وكلب الهراش، لانه ليس له منفعة يسبله. وإما من جهة أنه ملك غيره، فتصرفاته فيه غير نافذة. وأما مسألة الفضولي فقد تقدم الكلام فيه. وأما الشرط الثالث: أي يمكن الانتفاع بها مع بقائها، فلو كان من المأكولات والمشروبات حيث أن الانتفاع بها بإتلافها أكلا أو شربا فلا يصح وقفها، لعدم تصير حبس العين فيها مع تسبيل ثمرتها، وهذا واضح جدا. وأما الشرط الرابع: وهي أن يكون له البقاء مدة معتدة بها، من جهة عدم صدق تحبيس الاصل وتسبيل ثمرته، مع عدم بقاء مدة معتدة بها، فلا يصدق هذا المعنى على وقف الورد للشم، لعدم بقائه مدة يصدق عليه حبس الاصل وتسبيل ثمرته عرفا. وأما الشرط الخامس: أي كانت للعين الموقوفة منفعة محللة، كي يصدق عليه التسبيل، خصوصا إذا كان صحة الوقف مشروطا بقصد القربة، فإذا كانت المنفعة التي يقفها لاجل تسبيل تلك المنفعة محرمة فكيف يتقرب بمثل هذا الوقف إلى الله وكيف يقال: إن الواقف سبلها في سبيل الله تعالى ؟ وهذا الاخير بناء على ما استظهرنا من التسبيل أن المراد من هذه الكلمة جعلها في سبيل الله تعالى. وأما الشرط السادس: وهو أن لا يكون متعلقا لحق الغير المانع عن التصرف. ووجه هذا الاشتراط واضح، لانه إذا كانت العين لا يجوز التصرف فيها ببيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك بواسطة كونها متعلقا لحق الغير، كالعين المرهونة أو الاعيان التي تركها الميت مع كون دينه مستوعبا لتمام التركة، فبناء على الانتقال إلى الورثة ولكن متعلقة لحق الديان، وكالاموال غير المخمسة أو غير المزكاة بناء على كونها متعلقة لحق السادات أو لحق الفقراء وأمثال المذكورات.

 

فكما أن سائر النقل والانتقالات والتقلبات الشرعية لا يجوز - وعلى فرض إيجاد المالك لها تكون غير ممضاة من قبل الشارع فيكون باطلا - فكذلك الوقف مضافا إلى أن الوقف - بناء على ما ذكرنا - يحتاج إلى قصد القربة، وكيف يتقرب بما هو ممنوع شرعا ؟ نعم بعد ارتفاع المنع من التصرف كما إذا فك الرهن - مثلا - أو أجاز المرتهن فلا مانع من وقفه، وهذا واضح. وأما الشرط السابع: أي كونه مما يمكن إقباضه، لانه بناء على أن يكون القبض من شرائط صحة الوقف فواضح، فإن المشروط لا يتحقق بدون شرطه. وأما بناء على أنه شرط اللزوم - كما رجحناه - فلانه لو لم يمكن إقباضه - كالطير في الهواء الشارد من عنده ولا يمكن إعادته، أو الحيوان الآخر النافر الذي لا يمكن قبضه عادة، أو العبد الآبق الذي حصل اليأس من عوده أو وجدانه أو التغلب عليه وأمثال ذلك - يكون تسبيل ثمرته لغوا بل لا ثمرة له كي يسبل. تنبيه: ما ذكرنا في الشرط الخامس أنه لا بد وأن يكون للعين الموقوفة منفعة محللة كي يكون التسبيل بلحاظها، لا يلزم أن تكون تلك المنفعة لها فعلا، بل يكفي في صحته كونها لها ولو بعد مدة، فلو وقف بستانا غرس فيه النخيل وهي صغار لا تحمل إلا بعد سنين، فهذا الوقف صحيح باعتبار تلك المنافع التي لها قوة الوجود، وإن كان وجودها بعد عشر سنين مثلا، وهكذا الحال في سائر الموارد. المطلب الرابع في شرائط الواقف قال في الشرائع: ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل وجواز التصرف (1).

 

(هامش)

 

(1) (شرائع الاسلام) ج 2 ص 213. (*)

 

ولكن الاولى أن يقال: ويشترط في الواقف أن يكون جائر التصرف وأن يكون مختارا غير مكره عليه، لان البلوغ وكمال العقل مندرج في جواز التصرف، فيتفرع على جواز التصرف أن يكون بالغا، لانه لا يجوز أمر الصبي حتى يحتلم، وأن لا يكون مجنونا، لانه لا يجوز أمره حتى يفيق، وأن لا يكون محجورا عليه بفلس أو سفه، وأن لا يكون عبدا بدون إذن مولاه، لعدم نفوذ أمر العبد بدون إذن مولاه، وهو بنفسه لا يقدر على شيء وكل على مولاه. ويتفرع على اشتراط الاختيار أن لا يكون في وقفه مكرها مع عدم لحوق الرضا أولا: للاجماع وثانيا: لحديث الرفع (1)، كما أن الاكراه مع عدم لحوق الرضا موجب لبطلان سائر عقوده وإيقاعاته كبيعه وهبته وصلحه وطلاقه وعتقه، وذلك كله للاجماع المحصل الذي لم يخالف أحد ولحديث الرفع، ولانه (لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه) (2). ولا شك في أن صدور الوقف عن المالك مع الاكراه وعدم لحوق الرضا به مرجعه إلى أن أكل الموقوف عليه لامله يكون من غير طيب نفسه. وأما بناء على ما قاله الشهيدان بل العلامة قدس سرهم (3) من عدم قصد المكره إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فالامر أوضح. هذا فيما إذا لم يلحقه الرضا، وأما فيما لحقه الرضا فإن كان وجه فساد عقد المكره وإيقاعه عدم القصد إلى وقوع مضمونه في الخارج - وأن العقود تابعة للقصود ففيه: أن القصد المعتبر في العقود هو أن يكون قصدا لانشاء المعنى باللفظ، فإن كان المراد

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 2 ص 335 باب ما رفع عن الامة ح 2، (الفقيه) ج 1 ص 59 ح 132 باب: فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه ح 4، (الخصال) ص 417 ح 9 رفع عن هذه الامة تسعة أشياء، (وسائل الشيعة) ج 4 ص 1284 أبواب قواطع الصلاة باب 37 ح 2. (2) الطوسي في (الخلاف) ج 3 ص 410 مسألة: 23، (سنن الدار قطني) ج 3 ص 26 ح 91، (مسند أحمد) ج 5 ص 72، (سنن البيهقي) ج 6 ص 100 باب: من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا. (3) (تذكرة الفقهاء) ج 2 ص 428 فيما يشترط في الواقف. (*)

 

من نفي القصد هذا المعنى في عقد المكره فهو. وإن كان لحوق الرضا فيما بعد لا يجعل العقد الواقع بدون قصد إنشاء المعنى عقدا مقصودا، فيكون العقد باطلا، لما ذكرنا من أن العقود تابعة للقصود. ولكن هذه الدعوى باطلة ليس لها أصل، لان المكره أيضا مثل المختار يقصد إنشاء المعنى باللفظ، غاية الامر أنه ليس له طيب النفس بوقوع مضمون العقد في عالم التشريع، وإن كان مراده هذا المعنى الذي ذكرناه من عدم قصده فهذا لا يضر بصحة العقد بعد حصول الرضا وطيب النفس. وأما احتمال اعتبار مقارنة الرضا وطيب النفس لحال الانشاء لا دليل عليه، بل الاطلاقات كقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (1) و (لا يحل مال امرء مسلم) تدل على خلافه، فأي وقت لحق بالمعاملة الرضا يصدق عليها أنها تجارة عن تراض، وأنها عن طيب النفس، فلا وجه لبطلان وقف المكره إذا لحقه الرضا كسائر معاملاته. ثم إن هاهنا وردت روايات على صحة وقف الصبي الذي بلغ عشرا وكذلك وصيته وعتقه وهي: الاول: خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا أتى على الغلام عشر سنين، فإنه يجوز في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحق فهو جائز) (2). الثاني: خبر جميل بن دراج عن أحدهما عليهما السلام قال: (يجوز طلاق الغلام إذا كان

 

(هامش)

 

(1) النساء (4): 29. (2) (الكافي) ج 7 ص 28 باب: وصية الغلام والجارية التي لم تدرك وما يجوز منها وما لا يجوز ح 1، (الفقيه) ج 7 ص 197 ح 5451 باب: الحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته ح 2، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 181 ح 729 باب: وصية الصبي والمحكور عليه ح 4، ((وسائل الشيعة) ج 13 ص 321 من أحكام الوقوف والصدقات باب 15 ح 1. (*)

 

قد عقل وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم) (1). الثالث: رواية الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم ؟ قال: (نعم إذا وضعها في موضع الصدقة) (2). ودلالة هذه الروايات على صحة وقف الصبي إذا بلغ عشر سنين متوقف على أن يكون المراد من التصدق والصدقة خصوص الوقف، أو المعنى الاعم من الوقف والصدقة بالمعنى الاخص، وإلا لو كان المراد خصوص الاخير فلا دلالة فيها على المدعى في هذا المقام، وهو صحة وقف الصبي الذي لم يبلغ مطلقا، أو خصوص البالغ عشرا منهم. وظهور لفظ الصدقة في خصوص الوقف أو في الاعم لا دليل عليه، بل ظاهره بواسطة القرائن المذكورة فيها - من قوله عليه السلام: (على حد معروف وحق) في الاول، ومن قوله عليه السلام: (قد عقل) في الثاني، ومن قوله عليه السلام: (إذا وضعها في موضع الصدقة)) في الثالث هو خصوص الصدقة بالمعنى الاخص الذي هو إعطاء مال لمؤمن بقصد القربة فلا مخصص لعمومات عدم جواز أمر الصبي حتى يحتلم بالنسبة إلى الوقف، لانه من قبيل الشك في التخصيص، فيتمسك بأصالة العموم. نعم لما وردت أخبار معمولة بها في نفوذ وصيته، فلو أوصى بالوقف ينفذ. ثم إنه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما، بل يجوز وقف الكافر وان قلنا باشتراط قصد القربة فيه، لتمشيه منه. نعم الذي لا يعتقد - العباذ بالله - بوجود إله العالم خالق السموات والارضين، وينكر وجود صانع حكيم فقصد القربة لا يتمشي

 

(هامش)

 

(1) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 182 ح 733 باب: وصية الصبي والمحجور عليه ح 8، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 321 من أحكام الوقوف والصدقات باب 15 ح 2. (2) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 182 ح 734 باب: وصية الصبي والمحجور عليه ح 9، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 321 من أحكام الوقوف والصدقات باب 15 ح 13. (*)

 

منه، لان مثل هذا الرجل لا يعتقد بوجود شخص يتقرب إليه بوقفه. نعم يمكن أن يكون وقفه لعطفه ورأفته على الفقراء والضعفاء، وهذا غير قصد القربة. ثم إنه تقدم أنه للواقف جعل المتولي والناظر للوقف نفسه أو غيره وفي كليهما يجوز استقلالا واشتراكا، وذلك لقوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها). وحاصل الكلام: أنه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما، فيصح وقف الكافر إذا كان واجدا لشرائط صحة الوقف والموقوف والموقوف عليه والواقف إذا كان الموقوف من المسلمين. وأما إذا لم يكن من المسلمين فلا يشترط في صحة وقفه بعض ما كان شرطا للموقوف فيما إذا كان الواقف مسلما، كأن يكون للموقوف منفعة محللة، فيجوز أن يقف الخنزير مثلا على أهل ملته. وهكذا لا يشترط في وقفه بعض ما يشترط في الموقوف عليه إذا كان الواقف مسلما، كأن لا يكون الوقف عليه محرما مثل الوقف على بيوت النيران ويجوز إذا كان الواقف مجوسيا، وكذلك يجوز على البيع والكنائس إذا كان نصرانيا. المطلب الخامس في شرائط الموقوف عليه والمشهور أنها أربعة: الاول: أن يكون موجودا. الثاني: أن يكون معينا. الثالث: أن يكون ممن تصح تملكه.

 

الرابع: أن لا يكون الوقف عليه محرما. أما [ الشرط ] الاول: وهو أن يكون موجودا، فلان الشيخ قدس سره ادعى الاجماع عليه في المبسوط. (1) وقال في الجواهر: ولان الوقف يقتضي تمليك الموقوف عليه للمنفعة وحدها أو هي مع العين، والمعدوم ليس قابلا للتمليك (2). أقول: إن ما ادعاه في الجواهر - من اقتضاء عقد الوقف تمليك الموقوف عليه للعين الموقوفة مع منفعتها أو خصوص منفعتها وأن المعدوم ليس قابلا للتمليك - فمنوع صغرى وكبرى. أما الصغرى: فهو كوقف المسجد وأنه ليس تمليكا لاحد، بل هو فك ملك كالعتق، وعلى كل حال يأتي الكلام فيه مفصلا إن شاء الله تعالى. وأما الكبرى: وهو أن المعدوم ليس قابلا للتمليك ففيه أن الملكية من الامور الاعتباريه وليست من الاعراض الخارجية كي لا يمكن أن توجد قبل وجود موضوعه ولو كان آنا من الآنات، وذلك لان العرض ليس لوجوده استقلال ولو كان آنا واحدا، لان وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه. وإن شئت قلت: إن العرض في جوهر ذاته بحسب الوجود أمر ناعتي، ففرض الاستقلال لوجوده ولو كان بآن خلف. وأما الملكية أمر اعتباري عرفا أو شرعا لا وجود لها في الخارج أصلا، وكما يمكن اعتبارها لشخص موجود كذلك يمكن اعتبارها لشخص معدوم فعلا ولكن سيوجد. نعم لو فرضنا أنه لا يوجد أصلا فالاعتبار له لغو، ولا يساعد على اعتبارها في هذه الصورة لا الشرع ولا العقلاء والعرف، وخصوصا في المعدوم بالمعنى الذي يشمل الحمل، فإنه واقعا بل في بعض الصور تام الخلقة سوى فيه الروح وتمام الاعضاء.

 

(هامش)

 

(1) (المبسوط) ج 3 ص 292 و 293. (2) (جواهر الكلام) ج 28 ص 27. (*)

 

وحاصل الكلام: أن الامر الاعتباري تحققه في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده الاعتبار، ولا دخل في الوجود الفعلي لمن يعتبر له فيه. هذا مضافا إلى ورود نقوض كثيرة على من ينكر إمكان تمليك المعدوم والذي سيوجد: منها: مسألة الوقف على البطون المتنالية بناء على تمليك كلهم حال إجراء العقد الصحيح، فإن الواقف ينشأ ملكية الجميع في ذلك الحال، غاية الامر أن فعلية الملكية لكل بطن في ظرف وجود ذلك البطن، كما هو شأن جعل الاحكام الشرعية بطور القضايا الحقيقية في جميع الموارد، وضعية كانت أم تكليفية. ومنها: أنهم جوزوا الوقف على أولاده الموجودين ومن يوجد بعد ذلك والكلام في تصحيحه كما ذكرنا في تصحيح الوقف على البطون وموارد أخر فلا نطول الكلام. فالانصاف: أن عمدة مدرك هذا الاشتراط هو الاجماع المدعى في المبسوط (1)، فإن تم فهو وإلا فلا موجب لهذا الشرط. وما ذكروه في هذا المقام من عدم قابلية المعدوم للتمليك أو عدم الدليل على صحة مثل هذا الوقف أو فساده كلها لا يرجع إلى محصل. أما الاول: فقد عرفت إمكانه بل وقوعه. وأما الثاني: فلاطلاقات أدلة الوقف. وأما الثالث: فلحكومة الاطلاقات عليها. وأما الشرط الثاني: وهو أن يكون الموقوف عليه معينا لا ترديد فيه، كأن يقول: وقفت هذه الدار على أخي أو ابني، أو يقول: على أحد أولادي، ولكنه يمكن أن يكون بين المثلين فرق بأنه في الاول الموقوف عليه بحسب الواقع مردد بين الاخ والابن ولكن في الثاني مفهوم أحد أولادي قابل للانطباق على كل واحد منهم، فكل واحد

 

(هامش)

 

(1) (المبسوط) ج 3 ص 292. (*)

 

يجوز أن يتصرف فيه بنحو الاستقلال لا بنحو التشريك، فإذا سبق أحدهم فقد تصرف فيما هو له وليس ضامنا للآخرين، وإذا صار بينهم تشاح فالمرجع هي القرعة. وعلى كل الدليل على اعتباره هو الاجماع فإن ثبت فهو والا فالدليل العقلي الذي تمسكوا به فغير تام، وهو عدم إمكان تمليك المبهم المردد، لما عرفت أن الملكية أمر اعتباري وليس من العوارض الخارجية التي تستدعي في الخارج موضوعا معين غير مبهم، فهي قابلة لان تتعلق بأحد الشخصين أو إحدى الطائفتين. وليس أمر هذا الامر الاعتباري أعظم من العلم الاجمالي الذي هو صفة خارجية وموجود واقعي محمول بالضميمة، ومع ذلك يتعلق بالمردد، وكما أنه بناء على صحة تزوبح إحدى بناته، أو طلاق إحدى زوجاته أو عتق أحد عبيده يستخرج ذلك الامر المبهم المردد بالقرعة، فكذلك يتعين الموقوف عليه بالقرعة. وأما الشرط الثالث: وهو أن يكون الموقوف عليه ممن يصح تمليكه، فلو لم يكن قابلا للتملك فلا يصح تمليكه، لان صحة التمليك متوقف على قابلية الطرف للتملك وإلا فالتمليك بدونها غير ممكن، فالكافر الحربي حيث أن الشارع لم يمض كونه مالكا فالوقف عليه باطل، بناء على أن الوقف تمليك وإن كان من جهات أخر لا يجوز الوقف عليه. وعلى كل حال فالبحث هاهنا عن أن الوقف هل هو مشروط بكون الموقوف عليه قابلا لتمليكه العين الموقوفة أم لا ؟ بعد الفراغ عن أنه قابل أو ليس بقابل. وأما البحث عن أن العبد أو المرتد الفطري قابل أو ليس بقابل فهو خارج عن محل كلامنا. إذا عرفت هذا فنقول: لو كان حقيقة الوقف هو التمليك، أو كان التمليك من لوازم طبيعة الوقف شرعا، فاعتبار هذا الشرط في محله، إذ التمليك بدون التملك لا يعقل، وأما إذا لم يكن التمليك من لوازم الوقف - بل كان التمليك في بعض أقسام الوقف من ص 285

 

أحكام ذلك القسم شرعا - فلا وجه لاعتبار هذا الشرط إلا ادعاء الاجماع، فإن ثبت فهو وإلا فلا. وسنتكلم في هذه المسألة وأن الوقف حقيقته التمليك أو ملازم معه أو ليس شيء منها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما الشرط الرابع: وهو أن لا يكون الوقف عليه محرما، وذلك كالوقف على الملاهي، وأن يصرف في المعاصي، وطبع كتب الضلال واستنساخها، وأن يعطى لمن يرد على المذهب ويوقع الشبهات في قلوب المؤمنين، وكالوقف على مبلغي الاديان الباطلة ومروجي العقائد الفاسدة. واعتبار هذا الشرط بناء على اشتراط قصد القربة في تحقق الوقف واضح، إذ لا يمكن قصد القربة بما هو محرم ومبغوض، وبناء على عدم الاشتراط أيضا لا يصح الوقف على من يكون الوقف عليه محرما، لان مثل هذا الوقف مبغوض عند الشارع وما هو مبغوض عنده لا يمضيه قطعا، والمعاملات صحتها تحتاج إلى الامضاء، وإلا فمقتضى الاصل في جميع المعاملات هو الفساد. ولذلك قلنا في دلالة النهي في المعاملات على الفساد أنه ذلك فيما إذا كان متعلقا بالمعنى الاسم المصدري، لانه حينئذ تكون المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أي أثر العقد مبغوضا، فلا يقع الامضاء عليه، فيكون باطلا. إذا ظهر لك ما ذكرنا تعرف أن أغلب الفروع التي ذكرها الفقهاء في هذا المقام يرجع البحث فيها إلى صغريات هذا الشرط: منها: عدم جواز الوقف على الكفار، أو جوازه مطلقا أو التفصيل بين الحربي والذمي، بعدم الجواز في الاول والجواز في الثاني. ومنها: جوازه على الكنائس والبيع وعدم جوازه. ومنها: جواز الوقف على استنساخ وطبع الكتب السماوية المحرفة أي التوراة والاناجيل، فلا وجه لتطويل الكلام فيها.

 

ثم إن الموقوف عليه تارة يكون معينا لا إهمال ولا إجمال فيه سواء أكان شخصا كزيد مثلا أو كليا كعنوان طلبة مدرسة فلان، فلا كلام فيه. وأخرى: يشك في شمول ذلك العنوان الذي جعله موقوفا عليه في العقد لبعض الاشخاص أو الاصناف، فإن ثبت انصراف ذلك العنوان إلى بعض مصاديقه أو إلى بعض الاصناف التي تحت ذلك العنوان فيؤخذ به، وإن لم يثبت فيجب الاخذ بإطلاقه إن كان في مقام البيان من تلك الجهة ولم يقيد وإلا يرجع إلى الاصول العملية. ومعلوم أن مقتضى الاصل عدم ثبوت الوقف لذلك المشكوك، كل ذلك فيما إذا كان مراد الواقف من ذلك مشكوكا. وأما إن كان معلوما فيؤخذ به، إلا أن يكون فيه الاشكال من جهة صحة الانشاء بذلك اللفظ، وذلك من جهة أن المدار في العقود ليس على القصد فقط ولا على الانشاء فقط، بل لا بد وأن تكون المعاملة مقصودة له ومنشأة بالانشاء الصحيح. ولذلك وقع البحث في أنه لو وقف على الفقراء، فالمشهور ادعوا انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف، لان المسلم - مثلا - لا يقصد غالبا من الفقراء في وقفه - بل وفي سائر عطاياه - إذا كانت لوجه الله فقراء غير المسلمين، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح. وقد ذكر بعضهم عناوين كثيرة وألفاظ متعددة وباحث عنها، وكلها يرجع إلى ما ذكرنا وأبحاث صغروية، وقس الحال على هذا المنوال في سائر الموارد والمقامات، فلا نطول المقام بذكر الامثلة. فرع لو وقف على مصلحة معينة، كما إذا وقف على طلاب مدرسة دينية فانهدمت وصارت جزء للشارع العام، بحيث لا أمل بحسب العادة في رجوعها مدرسة، أو وقف على مسجد صار كذلك منهدما وصار جزء للشارع العام، أو على قنطرة على نهر تغير مجرى ذلك النهر، وصارت تلك القنطرة متروكة وبلا فائدة فهل يجب صرفه

 

في وجوه البر أو يرجع إلى المالك أو يصير مباحا لكل أحد كالمباحات الاصلية ؟ وجوه. فالذي يقول برجوعه إلى المالك إن كان، وإلا إلى ورثته فبنى كلامه على أنه من قبيل وقف منقطع الآخر، فأما أن لا يخرج من ملك المالك أبدا، لانه مثل الحبس عبارة عن تسبيل ثمرته مدة بقاء الموقوف عليه، فإذا وقع التلف على الموقوف، فلا يبقى موضوع للتسبيل، فقهرا ترجع المنفعة إلى مالك العين الذي هو الواقف ومنه إلى ورثته. وأما القولان الآخران فمبناهما أن بالوقف يخرج عن ملك المالك، فالذي يقول بأنه يصرف في وجوه البر يقول وإن كان الموقوف يخرج عن ملك الواقف ولكن غرضه من هذا الاخراج صرف منافعه في ما هو البر عند الله تعالى، ويكون موجبا للاجر والثواب، ولكن عين ما هو البر في نظره بموضوع خاص، فإذا ارتفع ذلك الموضوع الخاص الذي رجحه على سائر مصاديق البر فيفقد تلك الخصوصية المرجحة، ولكن صرفه في أصل البر ممكن فيجب، لانه بعض مطلوبه بل أصل مطلوبه، ولم يفقد مما أراد إلا تلك الخصوصية المرجحة. بل يمكن أن يقال: إن المنشأ ينحل إلى طبيعة البر وتلك الخصوصية المرجحة، وليس من قبيل صرف الغرض كي تقول في باب العقود لا أثر للغرض ما لم يقع المراد والمقصود تحت الانشاء، ففي الحقيقة أنشأ تسبيل منفعة هذه العين الموقوفة على البر الذي هو المسجد أو المدرسة مثلا، فإذا تعذرت الخصوصية وأمكن صرفه في الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق يجب العمل به، لمكان (أوفوا بالعقود) بمقدار ما أمكن. وليس الجامع بين هذا لمصداق وسائر المصاديق معنى جنسيا حتى تقول ينعدم الجنس بانعدام الفصل، بل هو معنى متحصل نوعي كسائر الطبائع والمهيات النوعية،

 

والذي يقول بأنه مباح لكل أحد كالمباحات الاصلية يقول بأنه بعد خروجه عن ملك الواقف وعدم دخوله في ملك الموقوف عليه على الفرض لعدم قابلية الموقوف عليه الذي هو جهة من الجهات - وإلا لو كان ملكا للموقوف عليه لكان ينتقل إلى ورثته لا إلى ورثة الواقف - فقهرا بعد تعذر الموقوف عليه يبقى ملكا بلا مالك، فيكون كالمباحات الاصيلة. والصحيح عندي بناء على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف - وسيأتي تحقيقه وما هو المختار عما قريب إن شاء الله تعالى - هو الوجه الاول أي صرفه في وجوه البر. وبناء على عدم خروجه هو الوجه الثاني أي رجوعه إلى الواقف أو إلى ورثته إن لم يكن الواقف باقيا. ووجه المختار في كلا الشقين واضح. أما الاول: فلانه بعد الخروج عن ملكه والقول بالانحلال لا مناص إلا من القول به، وأما الثاني: بعد القول ببقاء العين الموقوفة على ملك الواقف، فلا بد من القول برجوعه إلى الواقف أو إلى ورثته، بل في القول بالرجوع مسامحة، لانه لم يخرج كي يرجع. وأما الوجه الثالث فلا أساس له أصلا، بل الاولى أن يعبر عنه بصرف الاحتمال ولم أجد قولا به في الاقوال المنقولة، بل سمعته عن بعض أساتيذي قدس سرهم قبل ستين سنة. المطلب السادس في اللواحق ونذكر فيه أمور: الامر الاول: في أنه هل بالوقف بعد إن تم بشرائطه يخرج الموقوف عن ملك

 

الواقف ويزول ملكه عنه أم لا ؟ ظاهر المشهور هو الاول، بل ربما يظهر من كلام الغنية (1) والسرائر (2) الاجماع عليه، والظاهر عدم الدليل على ما ذهب إليه المشهور لان الشهرة والاجماع المنقول لا اعتبار بهما، كما أثبتناه في محله، والاجماع المحصل أولا: ثبوته وتحققه غير معلوم. وثانيا: على فرض ثبوته لا اعتبار به، لما ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أن الاجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اعتماد المتفقين على مدرك أو مدارك ذكروها كما في المقام ليس من الاجماع المصطلح الذي اثبتنا حجيته في الاصول. وأما كون تشريع الوقف لاجل إخراج عين الموقوفة عن ملكه - وجعله في سبيل الله - فهذه دعوى بلا بينة ولا برهان، بل ظاهر أدلة تشريع الوقف هو أن يجعل الواقف ماله الموقوف محبوسا في عالم التشريع والاعتبار عن وقوع التقلبات الاعتبارية عليه، ليبقى صدقة جارية على مر الدهور، ويجعل ثمرته في سبيل الله تعالى للموقوف عليه الذي عينه، ومن الواضح المعلوم أن مثل هذا المعنى لا يستلزم الخروج عن ملكه لا شرعا ولا عرفا وأما ما قيل: من أن فائدة الملك هو الانتفاع بثمرته أو وقوع التقلبات الاعتبارية عليه، فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فاعتبار الملكية لغو، لان مورد الكلام هو الوقف المؤبد، وفى غيره لم ينكر المشهور عدم خروجه عن ملك الواقف، بل إما لم يخرج أصلا أو خرج موقتا ثم يعود كما في الحبس، بل وفي الوقف المنقطع الآخر. وهذا الدليل وإن كان لا يخلو عن قوة ولكنه مع ذلك يمكن أن يقال: إن الملكية حيث أنها من الامور الاعتبارية يمكن اعتبارها ولو كان لاثر اعتباري. وأما ما قيل: من أنها صدقة ومن لوازم كون المال صدقة خروجه عن ملك

 

(هامش)

 

(1) (الغنية) ضمن (الجوامع الفقهية) ص 541. (2) (السرائر) ج 3 ص 153 و 155. (*)

المتصدق كما ربما يدل عليه قوله عليه السلام في رواية طلحة ابن زيد: (إنما هو بمنزله العتاقة لا يصلح ردها بعد ما يعتق) (1). ففيه: أن هذا بالنسبة إلى الصدقة بالمعنى الاخص وهو غير الوقف. وإن شئت قلت: إن هذا المعنى من لوازم بعض أقسام الصدقة لا الطبيعة المطلقة. وأما ما قيل من القول بعدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف يلزم تخصيص قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهم) (2) والاصل عدم التخصيص، وذلك لان وطي أمته التي وقفها لا يجوز قطعا، فلو لم تكن خارجة عن ملكه ومع ذلك لا يجوز يلزم تخصيص هذه الآية، لان مفادها جواز وطي كل من كانت ملك يمينه. وهذا استدلال عجيب، لان مورد أصالة العموم - أو بتعبير آخر أصالة عدم التخصيص - فيما إذا كان الشك في الخروج عن تحت العموم، لا ما هو مقطوع الخروج عن الحكم - كما في هذه الآية الشريفة - والشك في كونه مصداقا، فإذا لم يكن دليل على زوال ملكية المال الموقوف عن ملك الواقف ووصلت النوبة إلى حكم الشك فالاصل يقتضي بقاء الملكية. هذا كله في الوقف المؤبد ولكن مع ذلك كله القول ببقاء ملكية الواقف - مع ما عرفت من الاجماع على العدم الذي يظهر من كلام السرائر والغنية، ومع ما عرفت من لغوية اعتبارها مع عدم وجود أثر لها، ومع الاخبار الظاهرة في انقطاع الواقف عن العين الموقوفة، كقول امير المؤمنين عليه السلام في وقف عين التي كانت في ينبع (هي صدقة بتابتلا) (3) والبت والبتل بمعنى القطع والانقطاع، وظاهره أنه عليه السلام قطع نفسه عنها ولم يبق له علاقة معها - مشكل جدا.

 

(هامش)

 

(1) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 152 ح 622 باب: الوقوف والصدقات ح 69، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 316 ح 24430 في أحكام الوقوف والصدقات باب 11 ح 3. (2) المؤمنون (23): 6. (3) تقدم راجع ص 232 هامش رقم (4). (*)

 

ثم إنه بناء على الخروج عن ملك الواقف فهل يدخل في ملك الموقوف عليه أو في ملك الله أو يبقى بلا مالك أو يفصل بين الوقف الخاص والعام ؟ فالاول عبارة عن الوقف على الاشخاص والثاني على العناوين. ففي الاول ينتقل إلى الموقوف عليهم، وفي العام ينتقل إلى الله تعالى، أو يفصل بين الوقف الخاص وبين الوقف على الجهات، كالمساجد والقناطر والخانات التي في الطريق لعموم المسافرين، ففي الاول ينتقل إلى الموقوف عليهم وفي الثاني إلى الله. وتفاصيل أخر. وجوه بل أقوال. أقول: لو لم يوجد دليل على الانتقال إلى الموقوف عليه ووصلت النوبة إلى حكم الشك فلا شك في أن مقتضى الاصل عدم الانتقال. وأما الدليل على الانتقال فعمدته عند القائلين به أمران: أحدهما: بقاء الملك بدون مالك، وهو غير معقول. والثاني: أن الملكية اعتبار عقلائي أمضاها الشارع لترتب آثار عليها، فإذا رأينا أن الشارع يرتب آثار الملكية لشخص، أو عنوان بالنسبة إلى مال نستكشف ملكية ذلك المال لذلك الشخص أو لذلك العنوان عند وجودهما، وهذا من الحكم بوجود الملزوم لوجود لازمه، ولا شك في أن ملكية نماء مال وثمراته من الآثار ولوازم ملكية نفس ذلك المال، وأيضا لا شك في أن نماءات مال الموقوف وثمراته تكون للموقوف عليهم. أقول: أما الاول: ففيه: أن كون المال بلا مالك لا مانع منه، فإن المباحات الاصلية التي يدفع بإزائها المال مال وليس لها مالك، وكذلك الاموال التي يعرض عنها أصحابها بناء على القول بخروج تلك الاموال عن ملك أصحابها بالاعراض عنها، فأموال وليس لها مالك قبل وضع آخر يده عليها. وأما الملك بدون المالك وإن كان لا يمكن وغير معقول إلا أن كون المال الموقوف

 

ملكا بعد زوال ملك الواقف عنه أول الكلام، ويكون ادعاؤه شبه مصادرة. وأما الثاني: فإن ملكية النماءات والثمرات من قبيل لازم الاعم بالنسبة إلى ملكية العين، فإن المستأجر يملك منافع العين بعقد الاجارة مع عدم كونه مالكا للعين، وهكذا في العارية بناء على أنها تمليك منفعة لا تمليك صرف الانتفاع بها. ومعلوم أنه لا يمكن استكشاف الملزوم الخاص من اللازم الاعم. هذا مضافا إلى أن بعض أقسام الوقف، كالوقف على الجهات العامة - كالمساجد والقناطر والجسور والخانات الموقوفة في الطرق لنزول عامة المسافرين - ليس الموقوف عليه فيها قابلا لان يتملك. والقول بأن الملكية أمر اعتباري وليس عرضا خارجيا فتابع لاعتبار المعتبرين فإذا اعتبروه لهذه الجهات فيتحقق في عالم الاعتبار. وفيه: أنها وإن كان كذلك، ولكن العقلاء أو الشارع لا يعتبرون ذلك الامر الاعتباري إلا في مورد يكون مصححا لاعتبارهم، فلا يعتبرون الولاية أو القيمومة على الصغير - مثلا - لسفيه أو مجنون، ونرى بالوجدان أنهم يستنكرون اعتبار الملكية لجهاد أو نبات بل ولحيوان غير الانسان. ومضافا إلى أن هذه الدعوى معارض بمثلها، وهو أنه كما يستكشف من وجود الاثر واللازم وجود الملزوم كذلك يستكشف من نفي الاثر واللازم نفي الملزوم، ولا شك أن من لوازم الملكية جواز التصرف في الملك ببيع أو هبة أو صلح وسائر التقلبات المشروعة في عالم الاعتبار التشريعي، ولا شك في أن الموقوف عليه ليس له هذه التصرفات حقيقة، إذ هي ضد حقيقة الوقف الذي هو الحبس والايقاف في عالم الاعتبار التشريعي. فيمكن أن يقال بعدم الملكية لعدم جواز هذه التصرفات. ولكن الجواب في كلا المقامين واحد، وهو أنه لا وجود اللازم الاعم يدل على

 

وجود الملزوم الخاص، ولا نفي الاثر الذي ليس لازما لنفس الطبيعة، بل قد يكون وقد لا يكون لنفي تلك الطبيعة. وبعبارة أخرى: الاثر فيما نحن فيه - أي: التصرفات في العين وجواز ورود التقلبات عليه - ليس أثرا لطبيعة الملك مطلقا، سواء أكان طلقا أو غير طلق، بل أثر للملك الطلق، والوقف على تقدير كونه ملكا ليس بطلق، فنفي اللازم وإن كان يدل على نفي الملزوم لكن فيما إذا كان من لوازم الشيء مطلقا، لا من لوازم بعض أقسامه، كما فيما نحن فيه نعم يدل على نفي ذلك القسم الذي هو لازمه. ومما ذكرنا ظهر: أن ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره - من التفصيل بين الوقف على الجهات فقال بعدم انتقال الملك إلى تلك الجهة، لعدم قابليتها للتملك ونفي البعد عن الانتقال إلى الموقوف عليهم في الاوقاف الخاصة والعناوين العامة القابلة للتملك (1) - قول وتفصيل لا دليل ولم يقم هو دليل على هذه الدعوى، وما ذكروه عرفت حاله. الامر الثاني: في الوقف على أولاده. وللوقف على الاولاد في مقام الانشاء صور: فتارة: يقف على أولاده بدون قيد الصلبي وأخرى: معه. فإذا كان أولاده بدون قيد الصلبي فهل يشمل أولاد أولاده أو يختص بالصلبي ؟ أي بدون واسطة، كما أنه لو كان مقيدا بالصلبي لا يشملهم يقينا إلا مع قرينة. وظاهر المشهور اختصاصه بالصلبي وعدم شموله لاولاد الاولاد. ولكن هذه الكلمة بحسب الوضع اللغوي تكون موضوعه لمطلق الولد، سواء أكان بلا واسطة أو معها، فيشمل الجميع، إلا أن يدعي الانصراف وهو غير بعيد، لان مشهور الفقهاء الكبار إذا فهموا منه كون الولد بلا واسطة مع أن الاساطين منهم

 

(هامش)

 

(1) السبزواري في (كفاية الاحكام) ص 142. (*)

 

عربيون وهم أعرف بظواهر لغتهم، والمناط في باب الالفاظ هو ظهورها في معنى، فإنه حجة، لا أنه موضوع لكذا أو كذا. وأما لو قال: على أولادي وأولاد أولادي، فهل يشمل خصوص البطن الاول والثاني فقط أو يعم جميع البطون ؟ فذهب المشهور إلى أن كلمة (أولادي) ينصرف إلى بلا واسطة أي البطن الاول، وكلمه (أولاد أولادي) إلى البطن الثاني فقط، فلا يعم جميع البطون. وهو الصحيح، لان ذكر أولاد أولادي قرينة على عدم عموم كلمة أولادي الاول، وإلا لما كان يحتاج إلى الثاني. كما أنه أيضا قرينة على اختصاصه بالبطن الثاني فقط، ولا يشمل سائر البطون لعين تلك الجهة، إذ لو يؤخذ بعموم لفظ (الاولاد) فلم يكن ذكره محتاج إليه بل كان لغوا، فيكون ذكره قرينة على عدم العموم في المضاف وفي المضاف إليه. وأما شمولها للذكر والانثى بل الخنثى وإن كان الولد بحسب الوضع اللغوي عاما يشمل الذكر والانثى والخنثى ولكن حيث قلنا إن المناط هو الظهور لا المعنى الحقيقي، فلا بد من مراعاة الظهورات وهي تختلف بحسب الاعصار والامصار، ففي هذا الزمان - مثلا في العراق - ينصرف لفظ الولد إلى الذكر، ولا يشمل الانثى ولا الخنثى. فلو كان الواقف من أهل هذه البلاد وفي هذا الزمان يجب الاخذ بظاهرهما وما هو المتفاهم العرفي بينهم، وإن كان بحسب الوضع اللغوي له معنى عام. وأما لو قال: وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن، فهل يشمل البطون على الترتيب أو على التشريك ؟ بمعنى أن الابن يشارك أباه، وكذا ابن الابن يشارك أباه وجده وهكذا، أو لا يصل إلى الطبقة الثانية إلا بعد موت الطبقة الاولى، فلو كان للواقف ابن واحد حي وابن مات أبوه فهل يشارك عمه أولا ؟ فبناء على القول بالترتيب لا يشارك، وعلى التشريك يشارك.

 

وقد تقدم أنه بجب الاخذ بظاهر كلامه عند الانشاء إن لم يعلم بمراده. والظاهر حسب المتفاهم العرفي من هذه العبارة هو الترتيب لا التشريك، بمعنى أنه لا تصل النوبة إلى الطبقة الثانية ما دام من الطبقة الاولى يكون موجودا ولو كان واحدا، فلا تصل إلى أحفاده ما دام أولاده الصلبي موجودا. وهذا الترتيب بين الطبقات يستفاد من ظاهر لفظ (بعد)، وهو واضح. والاحتمالات الاخر ملقى بنظر العرف. الامر الثالث: في أن الوقف لا يبطل بخرابه وانهدامه، لا بجواز بيعه. أما الاول: فلان وقف دكان أو دار أو بستان - مثلا - مثل بيعه أو هبته أو سائر الاعتبارات الواردة عليها، فكما أنه لا تبطل تلك العناوين بخرابه وانهدامه، فكذلك في الوقف، لانه أيضا أحد الاعتبارات الواردة عليه، وليس الموقوف عنوان الدار أو الدكان مثلا، بل تلك القطعة من الارض المعنونة بهذا العنوان. فلو ارتفع العنوان فلا ينعدم موضوع الوقف بالمرة، بل الموقوف باق، غاية الامر وقع تغير فيه، وهذا التغيير لا يضر ببقاء الوقف ولا ببقاء الموقوف عليه، فلا وجه لبطلان الوقف. نعم لو جاء دليل على أنه خرج عن كونه وقفا بإتيان دليل على جواز بيعه، فهو المتبع، وإلا فمقتضي الاصل بقاء وقفيته حتى مع جواز بيعه، لبقاء الموضوع عرفا وهو تلك القطعة من الارض التي كانت معنونة بعنوان الحمام أو الدار أو الدكان أو غير ذلك. وأما الثاني: أي: عدم بطلان الوقف بجواز بيعه، فلان بطلان الشيء إما بانعدام علل قوامه - وذلك لانه بعد انتفاء علل قوامه جميعا لو بعضها أو بقي يلزم الخلف أي يلزم أن يكون ما فرضه داخلا في قوامه لا يكون داخلا في قوامه وهو محال - وإما بإتيان دليل تعبدي على بطلانه. أما الدليل التعبدي من إجماع أو آية أو رواية معتبرة فليس شيء من هذه في

 

المقام، فالعمدة هو الوجه الاول أي انتفاء شيء مما هو داخل في قوامه، فلا بد وأن ينظر ويلاحظ هل عدم جواز البيع من مقومات حقيقة الوقف وماهيته كي يبطل بجواز البيع، أو من بعض آثاره وأحكامه كي لا يكون ارتفاعه وجوازه موجبا لبطلانه، إذا جاء دليل من نص أو إجماع على جواز بيعه عند عروض بعض العوارض ؟ إذا عرفت هذا فنقول: قد تقدم أن الوقف عبارة عن الايقاف وحبسه عن التقلبات الاعتبارية كبيعه وهبته والصلح عليه وغير ذلك، ومقتضى هذا التعريف أن عدم جواز البيع كسائر التبدلات الاعتبارية داخل في حقيقة البيع وفي قوام ذاته، أو لا أقل من مقتضيات ذاته، فلا بد من القول ببطلانه عند جوازه. اللهم إلا أن يقال: إن حقيقة الوقف وإن كان هو الحبس عن التقلبات في عالم الاعتبار التشريعي ولكن لا مطلقا، بل ما لم يعرض عليه أحد موجبات جواز بيعه، وإلا ففي صورة حدوث أحد تلك الموجبات لجواز بيعه يجوز بيعه، مع أنه وقف. نعم بوقوع البيع خارجا لا يبقى موضوع للوقف، فيرتفع قهرا. وهذا أيضا يظهر من ظاهر عبارتهم أنه يجوز بيع الوقف في مورد كذا وكذا، فإن ظاهرها أن البيع يرد على الوقف. وعلى كل حال قالوا بجواز بيع الوقف في موارد وصور: الاول: أن يخرب الوقف بحيث يسقط عن المنفعة بالمرة، بمعنى أنه لا يمكن انتفاع الموقوف عليهم به مع بقاء عينه. ووجه جواز البيع في هذه الصورة هو أن حبس العين عن البيع وعن سائر التقلبات كان لاجل أن ينتفع الموقوف عليهم به، وهذه الغاية هو المراد والمقصود الاصلي من إنشاء الوقف، فإن لم يمكن الانتفاع به أصلا فيكون الايقاف لغوا. ولذلك قلنا من شرائط صحة الوقف أن يكون الموقوف ذا منفعة محللة قابلة

 

للتسبيل، فالمنع عن البيع يكون لاجل هذه الجهة، فإذا لم تكن منفعة في البين فلا مانع عن البيع، لان إبقاءه لغو ولا فائدة فيه. وأما أدلة المنع فادعاء الاجماع على عدم جواز البيع مع ذهاب الاكثر إلى الجواز في هذه الصورة فمما لا ينبغي أن يتفوه به. وأما قول أبي الحسن عليه السلام في رواية على بن راشد: (لا يجوز شراء الوقف، ولا تدخل الغلة في ملكك) (1) لا إطلاق لها يشمل هذه الصورة، لورود هذه الرواية في مورد وجود منفعة العين الموقوفة كاملة، وإنما كان سؤال الراوي عن اشتراء الوقف من جهة مجهولية الموقوف عليه، ولذلك قال عليه السلام: (ادفعها إلى من أوقفت عليه) قال: لا أعرف لها ربا، قال عليه السلام: (تصدق بغلتها) فليس عليه السلام في مقام بيان أن الوقف بأي حال من الاحوال لا يجوز شراؤها. وإن شئت قلت: إنها منصرفة عن هذه الصورة التي ترجع إلى ابقائها بلا فائدة حتى تتلف. وبعبارة أخرى: المراد منها أن الوقف ليس على حد سائر الاملاك المطلقة، بحيث يجوز بيعه وشراؤه مطلقا. وأما قوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) فأجنبي عن هذا المقام، لان ظاهره لزوم العمل على طبق ما قرره الواقف من القيود والشروط حين إنشاء الوقف. ومعلوم أن إبقاؤها وعدم بيعها بعد ما لم تكن لها منفعة أصلا - وكان إبقاؤها لغوا وبلا فائدة - ليس من الكيفية التي إنشا الواقف الوقف بتلك الكيفية ولا من الشروط أو القيود التي قرر الوقف عليها حال الانشاء.

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 37 باب: ما يجور من الوقف والصدقة...، ح 35، (الفقيه) ج 4 ص 242 ح 5576 باب: الوقف والصدقة والنحل ح 10، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 303 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 1. (*)

 

وأما قوله عليه السلام: (صدقة لا تباع) في طائفة من الاخبار المتقدمة (1) فالظاهر أن المراد منه أن الوقف ليس على حد سائر الاملاك المطلقة، بل لا يجوز بيعه وشراؤه إلا بعد دليل على الجواز في بعض الحالات الطارئة عليه، فيكون مخصصا لادلة عدم جواز بيعه إن كان لها عموم، ومقيدا إن كان لها إطلاق. ويكون ذلك الدليل الدال على الجواز حاكما على أصالة عدم جواز البيع أو استصحاب المنع الذي كان قبل طرو تلك الحالة على تقدير جريانه وتمامية أركانه، فيدور الامر بين أحد هذه الامور الثلاثة: أحدها: إبقاؤها حتى تتلف. وهذا مما يأباه الذوق الفقهي والفهم السليم. والثاني: بيعه وإعطاء ثمنه للموجودين. وهذا تضييع لحق البطون اللاحقه. الثالث: تبديله بعين أخرى تكون ذات منفعة جارية كالمبدل، فتكون صدقة جارية كالاصل، وربما يكون في البدل نفعا أكثر من الاصل. ويمكن أن يوجه التبديل مضافا إلى ما ذكرنا بأن الواقف أنشأ حبس العين بجهاتها الثلاث لجريان منافعها على الموقوف عليهم، والمراد من الجهات الثلاث: الخصوصيات والنوعية والمالية للعين الموقوفة. وبعد تعذر إبقاؤها شرعا بجهاتها الثلاث لكونها لغوا لا فائدة فيه ولا يترتب عليه الاثر المقصود من وقفها وإمكان إبقائها بجهتين أي: المالية والجهات النوعية كما إذا كان الموقوف دارا فخربت وهي في مكان لا ينتفع بها أصلا، ولكن أرضها واقعة بجنب دار أو دكان أو خان يشتريها رب تلك الدار أو ذلك الدكان أو الخان بأعلى القيم، فيشتري دارا أخرى بثمن تلك الخربة دارا أوسع وأحسن منه بعشر مرات، فيمكن إبقاء حبس مالية تلك الدار الموقوفة مع جهاتها النوعية، فلا وجه لعدم الالتزام بالابقاء، والقول بذهابه من البين. ثم إنهم ذكروا هاهنا احتمالات وأقوال لا يهمنا ذكرها، بعد ما عرفت مما هو

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 232 هامش رقم (2). (*)

 

الصواب، فذكرها والنقض على بعضها وإبرام بعضها الآخر لا فائدة فيها إلا تطويل المقام. الصورة الثانية: أن يكون خرابه سببا لقلة الانتفاع به، كما إذا خرب دكان أو خان وكان نفعهما حين ما كانا دكانا وخانا كثيرا، لانهم كانوا يستأجرونهما لمحل كسبهم وتجارتهم، ولكن بعد خرابها وصيروتها عرصتين وإن كانوا يستأجرونهما بمقدار قليل لبعض الحوائج ولكن بالنسبة إلى النفع الاول في حكم العدم، فالمشهور ذهبوا إلى عدم جواز بيعه، لان إبقاءه ليس بلا فائدة. غاية الامر قليلة ولو كان قلة المنفعة كانت سببا لجواز البيع، فإذا كان الدكان أو الخان في سوق كثير المارة مزدحمة بالناس، ثم اتفق أن صار ذلك السوق قليل المارة بواسطة وجود الشوارع ولاسواق المعمورة في ذلك البلد وإقبال الناس عليها، فيقل طلاب ذلك الدكان أو ذلك الخان، وربما يبلغ في القلة ونزول غلته إلى عشر ما كان في الاول، فهل ترضى من نفسك أن تقول بجواز بيع مثل ذلك الدكان والخان ؟ ! فالانصاف: أن ما ذهب المشهور إليه من عدم جواز بيعه في هذه الصورة جيد ولا بأس به. نعم لو قلت منفعته بمقدار لا يعده العرف ذا منفعة، بل يرونه عادم المنفعة، فالظاهر إلحاقه بالصورة الاولى، لان الوقفية أيضا اعتبار من اعتبارات الشرع، بل هو أيضا مثل الملكية من الاعتبارات العرفية التي أمضاها الشارع، وليس من مخترعاته، فإذا كان نفعه قليلا بحيث يرى العرف حبسه وتسبيل منفعته لغوا فلا تشمله أدلة المنع عن بيع الوقف. اللهم إلا أن يقال بجريان استصحاب عدم جواز البيع قبل أن تقل منفعته إلى ذلك الحد، وذلك أيضا فيما إذا حصل الشك. وأما إذا كان اعتبار الوقف لغوا في مثل هذا المال الذي بنظرهم يكون مسلوب المنفعة - وإن كان له منفعة قليلة - فلا يأتي شك كي يستصحب المنع.

 

الصورة الثالثة: لو زال العنوان الذي وقفه الواقف بذلك العنوان، كالحمام والبستان، فوقف الاول لان يغتسل فيه الزوار أو الطلاب مثلا، والثاني لان ينتفع بثمرته الفقراء، فخربا وصارا عرصتين، ولكن يمكن أن ينتفع الموقوف عليهم بهما بعد خرابهما وزوال عنوانهما بمنافع أخر أكثر من الاول أو ما يساويه. فقال جماعة بجواز بيعهما بعد زوال عنوانهما، لان الواقف وقف الحمام أو البستان، والمفروض أن ما هو الموجود ليس بحمام ولا ببستان، فلم يبق ما هو الموقوف كي يقال بوقفيته. وأشكل عليه: بأن تعلق الوقف بهذه العناوين مثل تعلق البيع والهبة بها، فكما أنه لو باع الحمام أو البستان أو وهبهما لا يخرجان عن ملك المشتري أو الموهوب له بزوال عنوانيهما وصيرورتهما عرصتين، فكذلك لا يخرجان عن الوقفية بزوال العنوانين. وما قيل في الفرق: بأن الحمام أو البستان في البيع والهبة مورد وفي الوقف عنوان لا يخلو عن مجازفة. اللهم إلا أن يكون مراد هذا القائل أن في باب البيع والهبة يملك الارض مع بنائها للمشتري والموهوب له، ولذلك لو خربا وانهدما لا تخرج أرضهما عن ملكه بخلاف الواقف فإنه يحبس هذا العنوان لتسبيل منفعته. فعمدة نظره إلى تسبيل منفعة هذا العنوان، فإذا زال فلا يبقى موضوع للحبس ولا لتسبيل منفعته، لانه بناء على ما ذكرنا يكون مراد الواقف - وما أنشأه - هو تسبيل منفعة هذا العنوان لا منفعة هذه الارض التي بنى عليها هذا العنوان فإذا وقف دارا على أن يسكن فيه إمام المسجد الفلاني مثلا فانهدمت وصارت عرصة لا بناء عليها، فإنه وإن كان من الممكن أن تكون لتلك الارض منافع كثيرة، بجعلها مخزن للبعض الاجناس، أو محلا للسيارات، ولكن هذه المنافع لم ينشأ تسبتها من

 

طرف الواقف. نعم لو قلنا بأن حقيقة الوقف تمليك للموقوف عليهم لكان حال الوقف حال البيع والهبة، وقياسه في محله. ولكنك عرفت أن حقيقة الوقف هو إيقاف العين لتسبيل ثمرتها، أو هو مركب من الامرين. نعم لو كان إعادة العنوان ممكنا بمقدار من غلته كما إذا كانت إعادة البستان أو كونه حماما أو دكانا أو خانا وهكذا بغرس الاشجار في الاول، وبناء مثل ما انهدم في البقية بأن يواجره لمدة، خصوصا إذا كانت المدة قليلة، فلا يبعد عدم جواز بيعه ولزوم إعادة عنوانه، مثلا الدكان الذي وقع في محل مرغوب من البلد - ويستأجرونه بمقدار كثير من المال - لو انهدم ويمكن إعادة عنوانه بنصف إجارته السنوية لا يصح بيعه وإبطال الوقف مع إمكان إبقائه عرفا وإن كان بتجديد بنائه. وهكذا الامر والحال في سائر العناوين. وقد تقدم عدم بطلان وقفيته بخرابه وانهدامه وكلامنا الآن في عدم جواز بيعه بعد الفراغ عن عدم بطلان وقفيته. وحاصل الكلام: أن ما ذكرنا في وجه جواز بيعه هو الذي اثبتنا فساده وبطلانه في مقام بيان عدم زوال وقفيته بالخراب والانهدام، فالحق أنه لا يجوز بيعه بصرف زوال عنوانه مع بقاء منفعته بمقدار يعتنى به، وخصوصا إذا كان إعادة عنوانه ممكنا بمقدار من غلته. الصورة الرابعة: أن يكون بيعها انفع وأعود للموقوف عليهم، بأن يبيعوها ويشترون بثمنها شيئا من أمثالها أو من غير أمثالها، ويقفونه على من كان موقوفا عليه على النهج الوقف الاول، وتكون غلة الثاني أكثر بمقدار معتد به، بل اتفق في زماننا أنه لو كان بيعها صحيحا في هذه الصورة يكون أعود عليهم بآلاف مرة، بل ليس قابلا للقياس عرفا، مثلا: كانت مزرعة وقفا على مدرسة دينية تزرع فيها

 

الخضروات، فصارت متصلة بمكان مرغوب من بلد كبير مزدحمة بالسكان، يشترون كل متر من أرض تلك القرية بمقدار كثير من المال بحيث يمكن أن تكون منفعة ثمن هذا المتر الواحد لو يشترون به شيئا آخر مساويا لمنفعة تمام تلك القرية التي هي مآت ألوف من الامتار، فهذا شيء غير قابل للقياس عرفا. فهل يجوز بيعها في هذه الصورة أم لا ؟ حكى عن المفيد - رضوان الله عليه - جواز بيعه، (1) ولكن أنكر بعض صحة هذه الحكاية، والذي رأيته في المقنعة عبارته هكذا: (أو يكون تغيير الشرط في الوقف إلى غيره أعود عليهم وأنفع لهم) (2). وأنت خبير بأن هذه العبارة لا تدل على جواز بيع الوقف إن كان البيع أعود لهم، بل راجع إلى تغيير الشرط إذا كان ذلك التغيير أنفع لهم، كما إذا شرط أن يكون زرعه شعيرا وكانت الحنطة أعود وأنفع لهم، أو شرط أن يشغل فيه خباز، وكانت الصيدلة أنفع لهم، وهكذا. وعلى كل حال مقتضى أدلة المنع التي تقدم ذكرها عدم جواز بيعها، وليس مخرج عنها إلا ما يتوهم من دلالة بعض الروايات على الجواز. منها: رواية جعفر بن حنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام إلى أن يقول: قلت: فللورثة من قرابة الميت أن يبيعو الارض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة ؟ قال: (نعم إذا رضوا كلهم، وكان البيع خيرا لهم باعوا) (3). ومنها: خبر الحميري كتب إلى صاحب الزمان عجل الله فرجه: روى عن

 

(هامش)

 

(1) الشيخ الانصاري في (كتاب المكاسب) ص 170 حكى عن المفيد. (2) (المقنعة) ص 652 باب الوقوف والصدقات. (3) (الكافي) ج 7 ص 35 باب: ما يجوز من الوقف والدقة...، ح 29، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 133 ح 565 باب الوقوف والصدقات ح 12، (الاستبصار) ج 4 ص 99 ح 382 باب: لا يجور بيع الوقف ح 6، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 306 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 8. (*)

 

الصادق عليه السلام غير مأثور: إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم أن يبيعوه، فهل يجوز أن يشتري من بعضهم ان لم يجتمعوا كلهم على البيع أم لا يجوز إلا أن يجتمعوا كلهم على ذلك ؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه ؟ فأجاب عليه السلام: (إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه،) وإذا كان على قوم من المسلمين فليبع كل قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرقين إن شاء الله تعالى) (1). أما الرواية الاولى: فظاهر السؤال أنه يجوز بيع الوقف عند احتياج الموقوف عليهم، وعدم كفاية غلته لهم، فأجاب عليه السلام بالجواز مع رضاية كلهم وكان البيع خيرا لهم، وهذه الصورة غير التي الآن محل كلامنا، وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى. وأما رواية الحميري: فظاهرها جواز البيع مطلقا، سواء أكان أعود أو لم يكن كذلك ولم يقل به أحد. وعلى كل حال خارج عما هو محل كلامنا. الصورة الخامسة: أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة وحاجة ولا يكفيهم غلته. فذهب جماعة إلى صحة البيع وجوازه في هذه الصورة وحكى عن السيدين المرتضى (2) وابن زهرة قدس سرهم (3) الاجماع على الجواز. وعمدة الاستدلال على الجواز هو قوله عليه السلام في خبر جعفر بن حنان قال: (نعم إذا رضوا كلهم) في جواب السائل، حيث يسأل عن جواز البيع إن احتاجو ولم يكفهم غلته. ولكن يمكن أن يقال: إن ظاهر الجواب هو جواز البيع مطلقا، لان العبرة بعموم

 

(هامش)

 

(1) (الاحتجاج)) ص 490 في توفيعات الناحية المقدسة، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 306 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 9. (2) (الانتصار) ص 226. (3) (الغنية) ضمن (الجوامع الفقهية) ص 541. (*)

 

الجواب لا بخصوصية المورد ولا بالخصوصية التي تذكر في السؤال. مضافا إلى ضعف هاتين الروايتين وإعراض الاصحاب عنهما وعدم العمل بمضمونهما. فالانصاف عدم جواز البيع في هذه الصورة أيضا، بملاحظة أدلة المنع. الصورة السادسة: أن يقع بين أرباب الوقف اختلاف ربما ينجر إلى تلف الاموال والنفوس. فذهب جماعة إلى جواز بيعه في هذه الصورة، وعمدة الدليل على هذا القول هو مكاتبة علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: أن فلانا ابتاع ضيعة، فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس، ويسأل عن رأيك في بيع حصتك من الارض أو تقويمها على نفسه بما اشتريها أو يدعها موقوفة ؟ فكتب إلى: (أعلم فلانا أنى آمره ببيع حقي من الضيعة، وإيصال ثمن ذلك إلى، وإن ذلك رأيي إن شاء الله، أو يقومها على نفسه إن كان ذلك أوفق له) (1). وكتبت إليه: أن رجلا ذكر أن بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا، وأنه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ويدفع إلى كل إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته ؟ فكتب إلى بخطه: و (اعلمه أن رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل، فإنه ربما جاء في الاختلاف تلف الاموال والنفوس) (2). ودلالة هذه الرواية على جواز البيع - إذا كان بين الموقوف عليهم اختلافا يظن

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 36 باب: ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 30، (الفقيه) ج 4 ص 240 ح 5575 باب الوقف والصدقة والنحل ح 9، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 304 في أحكام الوقوف والصدقات باب 6 ح 5. (2) (الفقيه) ج 4 ص 240 ح 5575 باب الوقف والصدقة والنحل ح 9، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 130 ح 557 باب الوقوف والصدقات ح 4، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 306 في أحكام الوقوف و الصدقات باب 6 ح 6. (*)

 

أنه يوجب تلف الاموال أو النفوس - واضح لا ريب فيه. ولكن من المحتمل القريب أن يكون تجويزه عليه السلام ذلك في الوقف المنقطع لا الدائم والمؤيد الذي هو محل الكلام، لان الوقف المنقطع الآخر مثل الحبس إما لا يخرج عن ملك الواقف أصلا، أو على فرض خروجه يكون خروجه موقتا وما دام بقاء الموقوف عليهم، فيجوز للواقف المالك أن يبيع ماله. ويؤيد هذا الاحتمال ظهور الرواية في كون الثمن للموجودين، ولو كان مؤبدا لكان منافيا مع حق البطون اللاحقة، فلا بد من الحمل على الوقف المنقطع. وأيضا من المحتمل أن يكون مورد السؤال هو الوقف بعد إجراء الصيغة وقبل القبض، فيجوز رجوع الواقف وأن يبيعه. ويؤيد هذا الاحتمال أن حصة الامام عليه السلام كانت قبل القبض يقينا، لانه يخبره بأنه جعل لك في الوقف الخمس والقبض فضولة لا معنى له وصاحب الوسائل قدس سره أيضا يدعي ظهور الرواية في عدم القبض (1). ويؤيد كونه أي تجويزه عليه السلام للبيع في الوقف المنقطع ما عن دعائم الاسلام أنه ذكر جواب الامام هكذا: فكتب عليه السلام: (إن رأيي له إن لم يكن جعل آخر الوقف لله أن يبيع حقي من الضيعة ويوصل ثمن ذلك إلي، وأن يبيع القوم إذا تشاجروا، فإنه ربما جاء في الاختلاف إتلاف الاموال والانفس) (2). فبناء على صحة هذا النقل جعل جواز البيع مشروطا بأن لم يجعل آخر الوقف لله تعالى، وهذا عبارة عن الوقف المنقطع، ولكن الظاهر أنه نقل بالمعنى، فيكون هذا الشرط حسب فهمه واجتهاده في استظهار المراد من الرواية، فلا اعتبار به، وعلى فرض عدم كونه اجتهادا منه في فهم المراد، بل كان نقلا للرواية، فأيضا لا

 

(هامش)

 

(1) (وسائل الشيعة) ج 13 ص 306 في أحكانم الوقوف والصدقات باب 6 ح 5 و 6. (2) (دعائم الاسلام) ج 2 ص 344 ح 1290 ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز. (*)

 

اعتبار به، لانه ليس قابلا للمعارضة مع ما رواه في الكافي (1) والتهذيب (2). مضافا إلى أن في أصل حجية كتابه كلام بل إشكال، فالاحسن حمل الرواية على عدم حصول القبض كما حمله في الوسائل. وعلى كل حال مع وجود هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لرفع اليد عن الادلة المانعة بهذه الرواية. الصورة السابعة: فيما إذا اشترط الواقف بيعه لو خرب أو قل نفعه، أو إذا كان بيعه أعود عليهم، أو إذا وقع بينهم الاختلاف، أو عند حدوث أمر آخر غير المذكورات، فهل يجوز البيع ويكون الشرط نافذا أو يكون الشرط فاسدا أو يكون الشرط والوقف كلاهما باطلان بناء على أن الشرط الفاسد إذا وقع في ضمن عقد يكون مفسدا لذلك العقد ؟ والظاهر صحة الشرط والوقف جميعا، وذلك لانه لا وجه لبطلانهما أو بطلان خصوص الشرط، إلا ما يتوهم من أن هذا الشرط خلاف مقتضي العقد أو خلاف الكتاب والسنة، وكلاهما ليس في محله. أما توهم الاول: فلان مقتضي عقد الوقف لو كان عدم جواز البيع مطلقا لكان لهذا التوهم وجه، ولكن الظاهر أن عدم جواز البيع مقتضى إطلاق عقده لا مقتضى عقده مطلقا، ولذلك يصح وقف المنقطع الآخر. وأيضا لذلك قلنا بعدم بطلان الوقف بجواز البيع، وإنما يذهب موضوعه بنفس البيع خارجا، لانه بعد البيع خارجا لا يبقى شيء في عالم الاعتبار كي يقال بأنه موقوف، والمناط في كون الشرط مخالفا لمقتضى ذات العقد لا لاطلاقه هو أن يكون بين الشرط وبين ما أنشأه مضادة في عالم الاعتبار التشريعي.

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 36 باب ما يجوز من الوقف والصدقة...، ح 30. (2) (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 130 ح 557 باب الوقوف والصدقات ح 4. (*)

 

كما إذا اشترط في عقد الاجارة عدم تصرف المستأجر في الدار المستأجرة أصلا، أو عدم استمتاع الزوج من الزوجة أصلا في عقد النكاح ولو بالنظر أو التقبيل، فتجويز الشارع بيع الوقف في بعض الاحيان - كالصور المتقدمة - دليل على عدم المضادة بينهما. وأما توهم الثاني - أي: كونه خلاف الكتاب والسنة، لكونه مخالفا للادلة الشرعية المانعة عن بيع الوقف - ففيه أن مفاد تلك الادلة ليس عدم جواز بيع الوقف مطلقا، بل عدم جوازه ما لم يكن دليل على الجواز ولذلك لا معارضة بين أدلة الجواز وبين الادلة المانعة. وإن شئت قلت: إن الادلة المانعة تدل على عدم الجواز بعنوانه الاولى، وأدلة الجواز عند طرو حالة أو فيما إذا شرط الواقف، فيكون قوله عليه السلام (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) وقوله عليه السلام: (المؤمنون عند شروطهم) (1) يدل على نفوذ الشرط بلا معارض. هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يقال: إنه بناء على أنه يجب أن يشتري بثمنه بعد بيعه بدله وجعله وقفا فلا إشكال قطعا، وليس خلاف مقتضى العقد يقينا، وذلك لان كون البيع خلاف الكتاب والسنة على فرض صحته يكون فيما لو أتلف ثمنه، وكذلك كونه خلاف مقتضى العقد أما لو اشترى بدله فالوقف باق ببقاء الجامع بينهما، لان عقد الوقف لم يتعلق بالخصوصية العينية. هذا ما أفاده شيخنا الاستاذ (2) تبعا لشيخنا الاعظم (3) قدس سرهم. ولكن أنت خبير بأن قوله: (وقفت هذا) يكون مثل قوله: (بعت هذا)، وفي كليهما المشار إليهما هو هذا الشخص الخارجي، فيتعلق الوقف بخصوصيتها العينية الشخصية،

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 191 هامش رقم (4). (2) النائيني في (المكاسب والبيع) ج 2 ص 383. (3) (كتاب المكاسب) ص 168. (*)

 

فالجواب الصحيح هو الذي قلنا. وربما يقال: بأن قضية وقف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عين ينبع (1) يدل على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا، حتى مع وجود البطن الاول وبصرف إرادة الحسن عليه السلام ومع عدم اشتراء بدله بثمنه. ولذلك يقول شيخنا الاعظم قدس سره أن السند صحيح وتأويله مشكل والعمل به أشكل (2). وأفاد شيخنا الاستاذ قدس سره في توجيه الصحيحة بأنه منزل علي أن مرجع الشرط إلى أن له أن يجعله وقف المنقطع وأن يبقيه على حاله (3). وفيه: أنه عليه السلام أوقف تلك العين ولا يمكن أن يكون وقفه مرددا بين المؤبد والمنقطع وأن يكون المنشأ هو الجامع، ويجعل اختيار أحدهما بيد الحسن عليه السلام بعد مدة إذا أراد، بل الظاهر - من الصحيحة ومن روايات أخر في قضيه وقف عين ينبع - هو أنه عليه السلام جعله وقفا مؤبدا، لقوله عليه السلام حين ما أوقفه (بتا بتلا). ولاشك في ظهور هذه العبارة في الوقف المؤبد، فتجويز بيعه للحسن عليه السلام يدل على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا، حتى في الوقف المؤبد. وأما ما أفاده شيخنا الاعظم قدس سره - أن العمل به أشكل (4). ففيه: أنه لا إشكال فيه أصلا بعد ما عرفت أن هذا الشرط مناف لمقتضى إطلاق العقد لا لمقتضى ذاته.

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 49 باب: صدقات النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة والائمة عليهم السلام ووصاياهم ح 7، (تهذيب الاحكام) ج 9 ص 146 ح 608 باب الوقوف والصدقات ح 55، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 312 في أحكام الوقوف والصدقات باب 10 ح 4. (2) كتاب المكاسب) ص 172. (3) النائيني في (المكاسب والبيع) ج 2 ص 400 في بيع الوقف. (4) (كتاب المكاسب) ص 172. (*)

 

الصورة الثامنة: فيما لو ظن أن بقاءه يؤدي إلى خرابه، فيجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه بديله ويقفه. وذلك كما إذا كان وقف دارا قريبا من الشط، فبواسطة تبدل مجرى الشط لبعض العوارض والطواري صارت على حافة الشط، فيظن أنها تخرب في أيام فيضان ماء الشط، وذلك لان إبقاءها لا طريق له إلا بهذا الشكل، فيدور الامر بين ذهابه عن البين بالمرة أو بقائه بهذا الشكل، ولاشك في أن الثاني أولى وأوفق بغرض الواقف. ولكن هذا الكلام لا يستقيم إلا بناء على لزوم إبقاء عين الموقوفة، ولو كان بماليتها وخصوصياتها الصنفية وهو مشكل جدا. المطلب السابع في المتولي والناظر للعين الموقوفة وهما بمعنى واحد، والمراد بهما من ينظر في شؤون المال الموقوف ويدبر أمره. وربما يطلق المتولي على المتصرف والمباشر لتدبير أمور الوقف استقلالا أو مع شراكة الغير، والناظر على من يلزم أن يكون تصرفات المتولي بإطلاعه أو باستصوابه وتصويبه. ومما ذكرنا ظهر أن الناظر على قسمين: أحدهما: أن يكون إعمال المتولي بإطلاعه. والثاني: أن يكون بنظره وتصويبه. ووجه التسمية في كلتا الصورتين معلوم، وقد عبر عنهما في بعض الاخبار بالوالي، وهي رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن موسى عليه السلام (1).

 

(هامش)

 

(1) (الفقيه) ج 4 ص 249 ح 5593 باب: الوقف والصدقة والنحل ح 27، (تهذيب الاحكام) ج 9 (*)

 

وعلى كل حال ففيه أمور: [ الامر ] الاول: لا شك في جواز جعل الواقف نفسه استقلالا أو مع شركة الغير، وكذلك غيره ناظرا ومتوليا على الوقف في ضمن العقد الذي يقف مالا، وذلك للاجماع، ولم ينقل خلاف إلا من ابن إدريس قدس سره وعبارته ليست صريحة في الخلاف، كما ذكره صاحب الجواهر قدس سره ونقل عين عبارته (1) وأنا شاهدتها في كتابه السرائر (2)، وعلى كل حال مقتضى قوله عليه السلام (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) وسائر المطلقات صحة هذا الجعل بجميع شقوقه التي ذكرناها. نعم إذا جعل التولية لنفسه وجعل حق التولية من منافع العين الموقوفة أكثر من أجرة مثل عمله ربما يتوهم أنه يكون من قبيل الوقف على النفس الذي قلنا إنه باطل إجماعا مضافا إلى عدم كونه تسبيلا للمنفعة الذي يعرف الوقف به، وقد تقدم تفصيل ذلك فلا نعيد، ويجوز أن يجعل في ضمن عقد الوقف أمر جعل التولية بيده، بأن يعين المتولي والناظر متى شاء وكذلك له أن يجعل أمر عزل المتولي بيده، بأن يعزله متى شاء وأن ينصب غيره متى شاء، ويجوز أن يجعل أمر جعل التوالية بيد غيره، بأن يجعل من يريد متوليا متى شاء ويعزل هذا وينصب غيره متى شاء، ودليل جميع هذه الشقوق هو قوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) ويجوز أيضا أن يجعل لكل متول أن ينصب متوليا بعده. الامر الثاني: لو لم يعين المتولي في ضمن نفس العقد، ومعلوم أنه لا بد في الوقف من متول يلي أمره ويدبر شؤونه، فهل له أن يعين متوليا على الوقف أو للموقوف

 

(هامش)

 

ص 149 ح 610 باب الوقوف والصدقات ح 57، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 314 في أحكام الوقوف والصدقات باب 10 ح 5. (1) (جواهر الكلام) ج 28 ص 22. (2) (السرائر) ج 3 ص 156 شروط صحة الوقف. (*)

 

عليهم أو للحاكم أو يفصل بين الوقف العام فللحاكم وبين الوقف الخاص فللموقوف عليهم ؟ وجوه وأقوال: أقول: أما الواقف بعد أن تم الوقف يكون كسائر الاجانب بناء على ما تقدم من زوال ملكه بالوقف، فلو لم يعين في متن العقد فليس له أي مداخلة في شؤون الوقف. وأما ما يقال: من أنه كان له النظر في شؤون هذه العين التي وقفها، وأيضا كان له أن يعين غيره للنظر فيها والذي معلوم زواله بالوقف هو الملك لا كون النظر فيها وتدبير شؤنها بنفسه أو بتعين الغير له فيستصحب. ففيه: أن كون النظر له من شؤون الملكية، فإذا زالت فيزول قطعا، فلا يبقى مجال للاستصحاب. فيدور الامر بين أن يكون أمر التولية وتعيين الناظر بيد الحاكم أو الموقوف عليه، وقد تقدم الوقف على الجهات العامة - كالمساجد والقناطر والخانات الموقوفة للمسافرين وأمثال ذلك - لا يملكه أحد، ففي مثل هذه الاوقاف لا شبهة في أن أمر توليتها بيد الحاكم، بأن يباشر تدبير شؤونها، إما بنفسه وإما بأن يعين غيره. وأما بالنسبة إلى الاوقاف الخاصة - كالوقف على أولاده وذراريه مثلا - والاوقاف على العناوين العامة التي قابلة لان تتملك، فبناء على كونهم مالكين للوقف وإن كان في بادئ النظرتأتي إلى الذهن قوة احتمال أن يكون أمر النظر مباشرة أو تعيينا إليهم، لكونهم ملاك ولهم السلطنة على أموالهم بمباشرتهم بأنفسهم، أو بتعيينهم شخصا آخر ولكن عند التأمل حيث أن هذه الملكية ليست كسائر الاملاك المطلقة ليكون المالك مطلق العنان - بل لا بد من مراعاة حقوق البطون اللاحقة أيضا في جميع التصرفات على أنحائها في هذا الملك، ولست البطون اللاحقة بالنسبة إلى البطن السابق كالوارث، لان المورث مطلق العنان، وملكه طلق، بخلاف البطن السابق بالنسبة إلى اللاحق - فليس له ولاية التصرف في هذا الملك الذي لا بد من ملاحظة

 

حقوق آخرين فتكون الولاية في أمرهم للحاكم، لانهم بمنزلة الغيب والقصر، بل أنزل منهم، فالمتعين أن يكون المرجع في تعيين الناظر والمتولي هو الحاكم حتى في الاوقاف الخاصة، كالوقف على الذراري. نعم بعض التصرفات من طرف الموقوف عليهم التي لا يضر بحقوق البطون يجوز لهم ولا مانع عنه، لانهم مالكون. الامر الثالث: هل تعتبر العدالة في الناظر أم لا ؟ أو يفصل بين من يجعله الواقف فلا تعتبر فيه ومن يجعله الحاكم فتعتبر فيه ؟ ومقتضى الاطلاقات - مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها - عدم اعتبارها فيمن يعينه نفس الواقف في ضمن عقد الوقف. وأما ما قيده في وقف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في قضية وقف عين ينبع من قوله عليه السلام: (فإن وجد فيهم من يرضى بهداه وإسلامه وأمانته، فإنه يجعله إليه إن شاء) (1) أي: يجعله ناظرا فلا يدل على اعتبار العدالة، لان الهدى والاسلام والامانة غير العدالة. نعم جعل فاسق يفسد الوقف ويفنيه ربما يكون منافيا لجعله صدقة جارية، فالانصاف أنه: لا تعتبر العدالة، بل ولا الامانة فيمن يجعله الواقف. نعم لو عين الفاسق الذي لم يعمل بالوقف طبق ما جعله الواقف ويهمل شؤونه حتى يحتمل فناؤه وخرابه فلا يبعد وجوب ضم الامين إليه من طرف الحاكم، وإن كان المتولي والناظر المنصوص هو نفس الواقف فضلا عن أن يكون غيره. وذلك من جهة أن حفظ الوقف مطلوب من قبل الشارع ولا يرضى بتركه، فيكون أمره بيد الحاكم، لانه من الحسبيات، وحيث أن عزله لا يجوز - لان الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها - فلا بد من ضم أمين إليه بمنعه عن التعدي وعن الاهمال جميعا.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 308 هامش رقم (1). (*)

 

وأما من يعينه الحاكم فلا بد وأن يكون ثقة وأمينا، لانه لا بد في جعله من مراعاة مصلحة الوقف فليس له أن يأتمن الخائن. وأما الفاسق الذي يرتكب الذنب - وإن كان صغيرة فإن كان أمينا موثوقا في أعماله، بحيث يطمئن بعدم إهماله شؤون الوقف وتدبير أمره، ويعمل على طبق الوقف ولا يتعدي عن مضمون الوقف فالقول بعدم جواز تعيينه متوليا وناظرا مشكل، لعدم دليل على اعتبار عدالة الناظر، إلا كونها موجبة للاطمينان بحفظ شؤون الوقف، فإذا حصل من دونها فلا وجه لاعتبارها. وأما إدعاء الاجماع - من الكفاية (1) والرياض (2) والحدائق (3) فغير مسموع، مع ذهاب جمع كثير إلى عدم الاعتبار. الامر الرابع: في أن الواقف لو جعل شخصا ناظرا على المتولي في ضمن عقد الوقف، فلا ريب في جواز ذلك له، لان هذا ليس مخالفا للكتاب، فبمقتضى (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) يكون جعله نافذا. وحيث أن الناظر - على ما تقدم ذكره - قسمان: اطلاعي واستصوابي. والاول عبارة عن أن كل فعل يصدر من المتولي يلزم أن يكون باطلاعه. والثاني عبارة عن أن يكون بتصويبه لا صرف اطلاعه عما فعل، ففي القسم الاول للمتولي أن يفعل بدون لزوم أخذ الاذن منه، بل صرف اطلاعه كاف، وأما في القسم الثاني فيحتاج نفوذ تصرفاته إلى أخذ الاذن منه وتصويبه لذلك الفعل. هذا في مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات فلا بد من مراجعة كلامه، وأنه ظاهر في أي واحد من القسمين فيؤخذ به وإن لم يستظهر منه شيء من القسمين فلا بد

 

(هامش)

 

(1) (كفاية الاحكام) ص 141. (2) (رياض المسائل) ج 2 ص 23. (3) (الحدائق الناضرة) ج 22 ص 184. (*)

 

للمتولي في مقام العمل من الجمع بين الامرين أي أخذ الاذن منه واطلاعه على العمل أيضا، وذلك من جهة أصالة عدم جواز عمله ونفوذ تصرفاته إلا بالامرين. الامر الخامس: لو جعل التولية لاكثر من واحد فتارة على وجه الشركة وأخرى على وجه الاستقلال. فإن كان من القسم الاول فلا يجوز تصرف كل واحد منهما على الانفراد بدون مداخلة الآخر، لان معنى الشركة أن كلاهما بمنزلة شخص واحد، كما أن الشركة في المال أيضا ذلك، ولذلك هناك أيضا ليس كل واحد منهما مستقلا في التصرف فيجب اجتماعهما على تصرف كي ينفذ، وإن امتنعا أجبرهما الحاكم مع الامكان وإن لم يمكن فالمرجع هو الحاكم. وأما إن كان من القسم الثاني، فإذا اجتمعا فلا إشكال، وأي واحد منهما تصرف بدون رضا الآخر نافذ. ولو تصرف كلاهما، مثلا آجر أحدهما من زيد والآخر من عمر وقدم المقدم، ولو كانا في زمان واحد بطلا. والسر واضح. الامر السادس: في أن الواقف إذا عين وظيفة المتولي في ضمن عقد الوقف فيعمل بما عين له من الوظيفة، وإذا لم يعين وظيفة وجعله متوليا من دون بيان عمل له، فالظاهر من هذه العبارة والمتفاهم العرفي منه أنه عليه تدبير شؤون الوقف، من حفظه عن الخراب وإجارته وتحصيل مال الاجارة نقدا وجنسا، وتقسيمه على الموقوف عليهم، وإيصال حصة كل واحد منهم إليهم وغير ذلك مما هو وظيفة المتولي عند العرف. وذلك من جهة أنه بعد البناء على لزوم العمل بما أراده الواقف من لفظ المتولي حال الجعل، فطريق تشخيص مراده هو ظهور كلامه، ففي أي معنى كان ظاهرا فيه فيحكم بأنه مراده. وهذا معنى أصالة الظهور وحجية الظواهر، ومعنى الظهور هو ما يفهم العرف من الكلام عند إلقائه إليه، ففيما نحن فيه إذا قال الواقف: وقفت المال الفلاني

 

وجعلت فلانا ناظرا ومتوليا عليه، فما يفهمه العرف من لفظ (المتولي) يحكم بأنه مراده. ولا ريب في أن العرف يفهم الذي يكون عليه ما ذكرنا من إدارة شؤون الوقف من عمارة ما انهدم منه أو ما يوجب حفظه عن الانهدام وجمع غلته وتقسيمه على الموقوف عليهم. لا كلام في هذا. إنما الكلام في أنه هل لغير المتولي المنصوص - وإن كان موقوفا عليه، أو وإن كان هو الحاكم - هذه التصرفات أم لا ؟ والظاهر أنه مع وجود المتولي المنصوص من طرف الواقف في ضمن عقد الوقف ليس لغيره هذه التصرفات، لان الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها، ولما في التوقيع عن محمد بن عثمان العمري عن صاحب الزمان عليه السلام وفيه: (وأما ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيم يقوم فيها ويعمرها ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما بقى من الدخل لناحيتنا، فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره) (1). فإن ظاهر التوقيع المبارك عدم جواز هذه التصرفات لغير من جعله متوليا وقيما، وعدم مزاحمة غيره له. الجهة الثالثة من جهات البحث في هذه القاعدة هي جهة تطبيقها على مواردها وقد عرفت أن موارد تطبيقها بعد ما صدق عليه الوقف عرفا وتحقق مفهومه،

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 242 هامش رقم (2). (*)

 

فعند ذلك كل شرط أو قيد اعتبر الواقف وجوده أو عدمه فهو نافذ وماض، لقوله عليه السلام: (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) وقد طبقناها على مواردها في تضاعيف ما تقدم، فلا يحتاج إلى الاعادة. وفي الحقيقة هذه القاعدة كسلاح للفقيه لدفع ما يتوهم من عدم صحة بعض الشروط أو القيود التي قيد الواقف بها الوقف أو الموقوف أو الموقوف عليه أو المتولي أو الناظر وقد تقدم موارد كل ذلك، فعليك بالتتبع التمام والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا