قاعدة حرمة أخذ الاجرة على الواجبات

20 - قاعدة حرمة أخذ الاجرة على الواجبات 

 

قاعدة حرمة أخذ الاجرة على الواجبات * ومن القواعد الفقهية المعروفة بين الفقهاء أنه يحرم أخذ الاجرة على كل ما هو واجب عليه . فنقول: اختلف الفقهاء في أنه هل يجوز أخذ الاجرة على الواجبات أم لا ؟ فالمشهور ذهبوا إلى عدم الجواز مطلقا، بل ادعى جماعة الاجماع عليه كما في الرياض 1، وجامع المقاصد 2 في بعض فروع المسألة، وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا، وبعضهم فصل بين التعبدي والتوصلي فقال بالجواز في خصوص الثاني، وفصل آخرون بين التعييني والتخييري، وجماعة أخرى بين الكفائي والعيني وبعضهم فصل بين الكفائي والتوصلي فقال بالجواز ومنع في سائر الاقسام إلى سائر التفاصيل التي يجدها المتتبع في كلام القوم لا يهمنا ذكرها وإنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة و يعلم منه قهرا حال سائر الاقوال. فنقول: إن الحق في المقام هو عدم جواز أخذ الاجرة بل مطلق العوض - بأي عنوان كان، سواء أكان من باب الاجارة أو من باب سائر العقود المعاوضية - على مطلق ما هو واجب على الانسان فعله، سواء أكان واجبا عينيا أو كفائيا أو تعيينيا أو تخييريا نفسيا أو غيريا تعبديا أو توصليا، لا على احتمال في التخيير الشرعي.

 

(هامش)

 

بلغة الفقيه ج 2، ص 3 - 44، رسالة قى حرمة أخذ الاجرة على الواجبات (اصفهاني) مع الحاشية على المكاسب، أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة ص 119، قواعد فقهى ص 149، القواعد الفقهية (فاضل اللنكراني) ص 510. (1) رياض المسائل ج 1، ص 505. (2) جامع المقاصد ج 4، ص 36. (*)

 

نعم هناك شيء يجب التنبيه عليه وهو أن هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشيء واجبا بالمعنى الاسم المصدري وأما إذا كان واجبا بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الاجرة عليه، وسيأتي تفصيل هذا الكلام وتحقيقه عند التكلم في الواجبات النظامية إن شاء الله تعالي. إذا عرفت ما ذكرنا فلابد في تحقيق المقام من تمهيد مقدمة، وهي أنه يشترط في صحة عقد الاجارة - بل في سائر العقود المعاوضية التي تقع على الاعمال - أمور: الاول: أن لا يكون سفهيا، أي يكون في العمل منفعة محللة مقصودة للعقلاء تعود إلى المستأجر، وإلا يكون أكل المال بإزائه أكل للمال بالباطل، وهذا واضح جدا. الثاني: أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر لان حقيقة الاجارة هي تمليك العمل للمستأجر بعوض مالي معلوم في إجارة الاعمال فإذا لم يكن هذا العمل قابلا لان يملكه المستأجر فتكون هذه المعاوضة باطلة لان حقيقة المعاوضة بين شيئين لا يتحقق إلا بعد إمكان أن يدخل كل واحد من العوضين في ملك الآخر، وهذا أمر زائد على الشرط الاول لانه من الممكن أن تعود منفعة العمل إلى شخص بدون دخول العمل في ملكه. الثالث: أن يكون العمل مقدورا للعامل تكوينا وتشريعا وفعلا وتركا. أما إشتراط القدرة التكوينية في العمل المستأجر عليه بالنسبة إلى العامل فمعلوم لانه لو كان عاجزا عن العمل - والمفروض أن الاجارة وقعت على عمله مباشرة - فلا يقدر على تسليم العمل الذي استؤجر عليه ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لغو في نظر العقلاء ويكون من قبيل وهب الامير ما لا يملكه . وأما اشتراط القدرة التشريعية فلان الشارع لو سلب القدرة في عالم التشريع عن مثل هذا العمل فيرى العامل في عالم اعتباره التشريعي عاجزا فيرى المعاملة باطلة. فظهر أن صحة المعاملة في باب إجارة الاعمال متوقفة على أن يكون الاجير قادرا

 

على فعل العمل وتركه تكوينا وتشريعا. إن قلت: عرفنا لزوم القدرة على الفعل ولكن لماذا يلزم القدرة على الترك ؟ قلنا: لان معنى مقدورية فعل من الافعال هو أن يكون الفعل والترك بارادته و تحت اختياره، وإلا لو كان الفعل ضروريا، كحركة الارتعاش في اليد مثلا لا يقال إن هذا الفعل مقدور له. إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إن الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييري الشرعي التوصلي - على احتمال سيأتي - لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري - أي يكون المطلوب منه العمل الصادر لاجهة إصدار العمل لان في العمل جهتين: إحداهما نفس الصادر والثانية جهة إصداره أي فاعلية العامل لهذا العمل. وربما يكون هذا هو المراد من قولهم: جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر، بخلاف اسم المصدر - فلا يمكن أخذ الاجرة عليه، لان الفعل والعمل بواسطة الايجاب خرج عن تحت قدرته واختياره تشريعا لان الشارع في عالم تشريعه يرى العمل ضروري الوجود وانه ليس للمكلف تركه، فكما أن في الحركة الارتعاشية في عالم التكوين ليس له تركه وخارج عن تحت قدرته تكوينا كذلك في جميع الواجبات في باب الاعمال إذا كانت واجبة بالمعنى الاسم المصدري تخرج عن تحت قدرة المكلف تشريعا فليس بقادر على العمل تشريعا. وقد ذكرنا في المقدمة إناطة صحة الاجارة على أن يكون العمل الاجارة على أن يكون العمل مقدورا تكوينا و تشريعا، ولذا قلنا بعدم صحة الاجارة على الفعل المحرم. فالحاصل أن العمدة في عدم صحة أخذ الاجرة على الواجبات بحيث يكون وافيا بجميع أقسام الواجب - من التعبدي والتوصلي والعيني والكفائي والتعييني والتخييري والنفسي والغيري - هو هذا الوجه، وإلا سائر الوجوه التي ذكروها إما غير تام في حد نفسه أو أخص من المدعى.

 

ومن جملة الوجوه التي ذكروها في المقام هو الاجماع على عدم الصحة. ولكن أنت خبير أولا بأن الاجماع في أمثال هذه المسائل التي مدرك المجمعين و مستند المتفقين معلوم ليس من الاجماع المصطلح عند المتأخرين الذي بنينا على حجيته، بل لابد من الرجوع إلى مداركهم والنظر فيها وانها هل صحيحة هي أم لا ؟ وثانيا: كيف يمكن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة التي اختلاف الاقوال فيها بهذه الكثرة. ومن جملتها منافاة أخذ الاجرة لقصد الاخلاص والقربة. وأجاب عن هذا صاحب الجواهر قدس سره بأن الاجارة توجب تأكد الاخلاص لان الوجوب يتضاعف بسبب الاجارة 1. وأورد عليه شيخنا الاعظم قدس سره في مكاسبه، بأن العمل الذي ليس فيه أجر دنيوى وكون الداعي على إتيانه فقط هو امتثال أمر الله تعالى، قطعا أخلص من العمل الذي فيه أجر دنيوي ويكون تمام الداعي أو بعضه على الاتيان ذلك الاجر، بل إذا كان تمام الداعي ذلك الاجر الدنيوي فلا إخلاص فيه أصلا، لا أن العمل المجرد أخلص فقط 2. فالانصاف أن أخذ الاجرة في العباديات ينافي الاخلاص وقصد القربة، وانكاره مكابرة. ولكن هذا الدليل كما ذكره الشيخ الاعظم قدس سره أخص من المدعى، من جهة عدم شموله للتوصليات، بل أعم من المدعي من وجه لجريانه في المندوبات التعبدية التي هي مندوبة ومستحبة على نفس الاجير 3. إن قلت: إن كان أخذ الاجرة ينافي الاخلاص فما تقول في العبادات المستأجرة (هامش)

 

(1) جواهر الكلام ج 22، ص 117. (2) المكاسب ص 62. (3) المصدر. (*)

 

التي كانت واجبة على المنوب عنه، وذلك كاجارته للحج عن قبل الميت أو للصلاة عن قبله، فان جواز الاجارة مع وقوع العمل والعبادة صحيحا إجماعي فلو كان أخذ الاجرة ينافي العبادية ووقوع العمل متقربا لما وقع صحيحا. قلت: أجيب عن هذا الاشكال بوجوه: منها: أن أخذ الاجرة من قبيل الداعي على الداعي أي يصير داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره كما أن في باب الامر بالمعروف رهبة وخوفا من الآمر بالمعروف لكن يكون خوفه داعيا على أن يأتي بالعمل بداعي أمره، وإلا لا يكاد بتحقق الامر بالمعروف إذا كان عبادة لانه لو أنكرنا مسألة الداعي على الداعي فلا يقدر على إتيان المعروف بعد ما كان الداعي على الاتيان هو الخوف عن الآمر بالمعروف. وهكذا مورد إتيان العمل العبادي رغبة في أمور دنيوية مترتبة على العبادة كسعة الرزق أو طول العمر أو الصحة والعافية وأمثال ذلك، فلو لم تكن هذه الامور دواع على إتيان العمل بداعي أمره وكان لا يعقل لما كان العمل صحيحا والعبادة واقعة إذا أتى بأحد هذه الدواعي الدنيوية، مع أن صحتها ووقوعها على الظاهر من المسلمات، بل ورد في بعض الروايات أنه أفعل كذا إذا أردت قضاء حاجتك الفلانية مثلا. وهذا الوجه لو تم لا اختصاص له بباب أخذ الاجرة في النيابيات بل يجرى أيضا في محل البحث أي في العبادات الواجبة على نفس الاجير. ولكن أنت خبير بأن حديث الداعي على الداعي ليس إلا صرف عبارة. لسنا نقول إن الداعي على الداعي لا يمكن، كيف وان الداعي على الداعي في الدواعي الطولية أمر ضروري، مثلا يحفر القناة لاجل الماء ويريد الماء لاجل الزرع ويزرع لاجل تحصيل الحنطة ويريد تحصيل الحنطة لاجل قوته وقوت عياله ففي الحقيقة العلة المحركة لحفر القناة ليس إلا قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلا لم يقدم على الحفر أصلا.

 

وبعبارة أخرى: في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلة الاصلية للعمل هو الداعي الاول فانه هو المحرك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلا. فان اعترفت هيهنا أيضا بأنه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقق الاخلاص ولعمري هذا واضح جلي اللهم إلا أن يراد بقصد الاخلاص صرف الخطور بالبال، وما أظن أن يلتزم به هذا القائل. وأما حديث الامر بالمعروف فنقول: في الفرض الذى فرضت إذا كان الداعي على العمل ليس إلا الخوف فهذا العمل لا يقع عبادة البتة وانما الامر إليه وجب في الواجبات واستحب في المستحبات، إما لاجل أن نفس هذه الصورة محبوبة عند الله تعالى لحكم ومصالح، وإما من جهة أنه يتمرن ويتعود حتى يسهل عليه العمل فيأتي بداعي أمره بعد هذا، كما أنه المعروف من بعض أكابر العلماء في بعض البلاد حيث كان يجبرهم على صلاة الجماعة لاجل أن يتعودوا فيعملوا فيما بعد بداعي أمره. وأما إتيان العبادة بداعي الاثر الدنيوي المترتب عليه فقياسه على المقام فاسد لان الآثار الدنيوية المترتبة على امتثال الامر قصدها لا ينافي قصد الامر وقصد القربة. بيان ذلك: أن حقيقة قصد القربة واتيان العمل بقصد الاخلاص معناه إتيانه لمحبوبيته عند الله تعالى، وذلك يحصل بأحد الامور الثلاثة: إما أن يكون محركه على الاتيان هو نفس أمره تعالى ولا شك أن هذا المعنى محبوب له تعالى ومثل هذا العمل تعبد له. وإما أن يكون الداعي له على إيجاد العمل ما هو واقع في سلسلة علل الامر كالمصلحة الموجبة للامر، فلو أوجد العمل بداعي المصلحة التي هي موجبة للامر لكان متقربا لان مثل هذا المعني محبوب له تعالى ولذلك أمر به. وقد أجيب عما استشكل به البهائي قدس سره - في مبحث الضد من إنكاره الثمرة بأن العبادة باطلة على كل حال، سواء قلنا بالاقتضاء أم لا، لعدم الامر واحتياج العبادة

 

 

إلى الامر لان التقرب المعتبر في العبادة لا يحصل إلا بقصد الامر بأن قصد المصلحة كاف في تحقق العبادة. وإما أن يكون الداعي ما هو واقع في سلسلة معاليل الامر سواء أكان من الامور الاخروية، كتحصيل الدرجات المترتبة على العبادة أو الفرار عن الدركات المترتبة على عدمها، أو كان من الامور الدنيوية كسعة الرزق أو برئ مرض وأمثال ذلك. وأما إن كان المحرك لا يرجع إلى أحد هذه الثلاثة - بل كان أمرا دنيويا أجنبيا عن العبادة بالمرة - فلا يمكن تحقق الاخلاص والعبادة بمثل هذا الداعي فتصحيح أخذ الاجرة على الواجب العبادي على الاجير وعدم منافاته للاخلاص - بأنه من قبيل الداعي على الداعي - مما لا يمكن المساعدة عليه ويقول شيخنا الاستاذ قدس سره: عد هذا إشكالا أولى من عده جوابا عن الاشكال 1. ومنها: أن فعل النائب والاجير فعل تسبيبي للمستأجر وبعبارة أخرى: العمل الصادر من الاجير له نسبتان: نسبة إلى الاجير باعتبار أنه مباشر له ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنه مسبب له، فيصح إسناد العمل إلى كل واحد منهما وأن يقال لكل واحد منهما: أنه فاعل لهذا العمل، فله فاعلان: فاعل تسبيبي وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل، وهيهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد الفاعل الآخر أي الفاعل المسبب أعني المستأجر. وهذا الجواب أيضا لو صح لا اختصاص له بباب النيابة بل يجري فيما إذا كان العمل المستأجر عليه هو الواجب على نفس الاجير. وفيه: أن حديث وقوع العمل الصادر عن الاجير بصفة العبادية بواسطة صدور قصد القربة من المستأجر من أعجب الاعاجيب لان العمل الذي يصدر من الفاعل

 

(هامش)

 

(1) منية الطالب ج 1، ص 17. (*)

 

المباشر بداع شهواني مثلا كيف يعقل أن يصير عباديا بواسطة قصد القربة من شخص آخر. وأما حديث بناء المسجد الذي يصدر من البنا بداعي أخذ الاجرة وهو الفاعل المباشر - ومع ذلك يصير قربيا بواسطة صدور قصد القربة من الفاعل التسبيي أي الذي يعطي الاجرة - فهو أجنبي عن المقام لان العبادة هناك عبارة عن نفس التسبيب وصرف الدراهم والدنانير لاجل بناء المسجد، فلو فعل هذه الاشياء بداع شهواني كالشهرة والسمعة أو الرياء وأمثالها لا يقع عمله عبادة لا عمل الاجير البناء فان عمله لا يقع عبادة إذا كان بداعي أخذ الاجرة سواء أكان معطى الاجرة قاصدا للقربة في بذله أم لا. وبعبارة أخرى: لو كان عمل الاجير في نفس المثل فرضا من العباديات وقد أتى به بقصد أخذ الاجرة لا يقع صحيحا سواء قصد باذل الاجرة القربة أم لا. وحيث أنه لا دليل على لزوم أن يكون البناء الصادر من البناء الذي يبني المسجد قربيا و عباديا بل يكفي قصد القربة من الواقف لان فعله - أي الوقف - عبادي لا فعل البناء فلا مانع للبناء الاجير أن يأخذ الاجرة لان فعله ليس بعبادة، ولا فرق بين أن يشتغل في بناء خان أو دكان أو مسجد من جهة عدم كون عمله عبادة في الجميع. ومنها: أن أخذ الاجرة في باب العبادات المستأجرة على إهداء الثواب إلى المنوب عنه. وهذا أعجب من سابقه وان كان صادرا عن بعض الاعاظم (قدس سرهم) لان المفروض صحة الاجارة على العبادة الواجبة على الغير بحيث يشتغل ذمة الاجير بما كان مشغولا ذمة المنوب عنه بعد الاجارة. ومسألة إهداء الثواب أجنبية عن هذا الباب بالمرة فهو في الحقيقة اعتراف بالاشكال وعدم إمكان دفعه. والصواب في الجواب هو ما أفاده الشيخ الاعظم الانصاري قدس سره في الجواب عن هذا

 

الاشكال بابداء الفرق بين المقامين أي باب أخذ الاجرة على الواجب على غير الاجير كما في باب النيابات وبين ما كان العمل المستأجر عليه واجبا على نفس الاجير 1. بيان ذلك وتوضيحه: أن في باب الاجارة على ما هو الواجب على نفس الاجير، كما إذا آجر نفسه على أن يصلي صلاة الظهر لنفسه، فمتعلق الامر الاجاري ليس إلا ذات العمل غاية الامر مقيدا باتيانه بقصد القربة وكذلك متعلق الامر العبادي ليس إلا ذات العمل، إما وحده إذا قلنا بأن قصد الامر لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الامر لا بأمر واحد ولا بأمرين بل يكون بحكم العقل، واما مقيدا بقصد الامر بناء على ما هو التحقيق عندنا من إمكان أخذ قصد الامر في متعلقه بأمرين وجعلين يكون أحدهما متمما للآخر. وعلى كل فمتعلق كلا الامرين - أي العبادي والاجاري - واحد بالنسبة إلى ذات العمل أعني نفس المقيد غاية الامر بناء على ما هو التحقيق يكون المتعلق واحدا في مجموع القيد والمقيد، وبناء على القول الآخر في خصوص نفس المقيد أي ذات العمل وكلا الامرين متوجهان إلى الاجير وهذا واضح. وأما في باب النيابات: فهما مختلفان من كلتا الجهتين: أما من جهة التوجة والمخاطب - فالامر العبادي متوجه إلى المنوب عنه والامر الاجاري مخاطبه الاجير ويكون متوجها إليه. وأما من جهة المتعلق فالامر العبادي المتوجه إلى المنوب عنه بالاعم من المباشرة والنيابة متعلق بذات العمل إما وحده وإما مقيدا بقصد الامر على القولين. والامر الاجاري متعلق بجعل نفسه نائبا عن الميت أو عن الحي الذي ناب عنه في إتيانه هذا العمل بقصد الامر المتوجه إلى المنوب عنه لا المتوجه إلى نفسه. وهذا الفرق أوجب صحة الاجارة في باب النيابيات وعدم الصحة فيما هو واجب

 

(هامش)

 

(1) المكاسب ص 65. (*)

 

على نفس الاجير. بيان ذلك: أن الاجير إذا أخذ الاجرة على إتيان ذات العمل بقصد الامر المتوجه إلى نفسه - كما هو المفروض في باب إجارة ما هو الواجب على نفس الاجير - فلا يمكن أن يكون صدور هذا العمل منه بداعي الامر المتوجه إليه لان المفروض أن المحرك له إلى العمل هو الامر الاجاري التوصلي. وبعبارة أخرى: يكون صدور العمل لاجل الوفاء بالاجارة واعطاء حق الغير. إن قلت: من الممكن أنه لا يعتني بأمر الاجاري، بل ليس غرضه من إيجاد العمل إلا امتثال الامر العبادي المتوجه إليه بحيث لو لم يكن ذلك الامر العبادي في البين لم يقدم على الاتيان أصلا، بل كان يعصي الامر الاجاري التوصلي. قلنا: نعم إن هذا أمر ممكن في بعض الاحيان ولكنه لابد في الامر الاجاري أن يكون المكلف بحيث لو أراد أن يوجد العمل المستأجر عليه بقصد الوفاء بذلك الامر الاجاري لكان له ممكنا. وبعبارة أخرى: لابد أن يكون ممكنا للاجير إتيان العمل بقصد تفريغ ذمته و إعطاء حق الغير ومعلوم أن مثل هذا المعنى لا يمكن بالنسبة إلى ما هو الواجب على نفس الاجير تعبديا لمنافاته للاخلاص. وأما إذا أخذ الاجرة على جعل نفسه نائبا عن قبل الغير في إتيان عمل عبادي كان واجبا عليه - أي على ذلك الغير لا على نفسه - فلا ينافي ذلك الاخلاص لان أخذ الاجرة على جعل نفسه نائبا لا على إتيان العمل بقصد أمره حتى تقول إن المحرك إلى العمل في الحقيقة هو أخذ الاجرة وجعل نفسه نائبا ليس أمرا عباديا بل توصلي يقع بقصدها بأي داع كان. وبعبارة أخرى: هاهنا أمران عرضيان ليس أحدهما في طول الآخر حتى يكون من قبيل الداعي على الداعي:

 

أحدهما: جعل نفسه نائبا الذي قد يفعله تبرعا، وهذا أمر توصلي يقع بأي داع كان، وهذا الامر يقع متعلقا للاجارة ولا يلزم منه محذور أصلا. والثانى: إتيان العمل الذي كان واجبا على المنوب عنه، وهذا أمر عبادي لكن لم تقع الاجارة عليه فما وقعت الاجارة عليه ليس بعبادي وما هو عبادي لم تقع الاجارة عليه. إن قلت: إذا كانت الاجارة على صرف جعل نفسه نائبا فيستحق الاجرة بصرف هذا الجعل ولو لم يعمل وان كان يشمل العمل أيضا فيعود المحذور. قلنا: الاجارة على صرف جعل نفسه نائبا لكن في إتيان العمل الفلاني، ومعلوم أن تحقق عنوان النيابة في العمل الفلاني مثل كونه نائبا عن شخص في الحج مثلا لا يمكن وغير معقول بدون وجود العمل الفلاني، فوجود العمل الذي جعل نفسه نائبا عنه في إتيان ذلك العمل عنه مقدمة لتحقق عنوان النيابة التي استؤجر عليها، لا أنه بنفسه متعلق للاجارة أو قيد لمتعلقها. قال الشيخ: الذي ينساق إليه النظر أن مقتضى القاعدة جواز أخذ الاجرة على كل عمل كان له منفعة محللة مقصودة للعقلاء وان كان ذلك العمل واجبا على الاجير. ثم قال رحمه الله: إن ذلك العمل بعد وقوعه متعلقا للاجارة إما صالح لان يمتثل به الواجب المذكور أو كان مما يسقط الواجب به أو عنده فقد حصل الامران أي برائة ذمته عن الواجب واستحقاقه للاجرة، وإلا يستحق الاجرة فقط ويبقى الواجب في ذمته لو بقى له وقت يمكن إتيانه فيه أو كان مما له القضاء فيقضيه، والا يكون معاقبا على تركه وعصيانه عن عمد 1. وبعبارة أخرى: صرف وجوب الشيء ليس بمانع عن أخذ الاجرة عليه، بل هيهنا تفصيل وهو أن الواجب على الاجير إما من قبيل الواجب العيني التعييني أم لا.

 

(هامش)

 

(1) المكاسب ص 63. (*)

 

فالاول لا يصح أخذ الاجرة عليه ولو كان للعمل منفعة محللة مقصودة للعقلاء. وحاصل ما أفاد في وجه المنع أن مثل هذا العمل ليس بمحترم، فأكل المال بإزائه أكل بالباطل لانه مقهور على إيجاده وليس له أن يتركه في عالم التشريع، بل لو أراد أن يتركه يجبر على الاتيان من باب الامر بالمعروف طاب نفسه على الاتيان أم لا، و ما هذا شأنه خارج عن تحت قدرته واختياره في عالم التشريع فلا يصح أخذ الاجرة عليه، لما ذكرنا في المقدمة من اشتراط صحة الاجارة بأمور ثلاثة: أحدها: أن يكون الاجير قادرا على إتيان العمل الذي يؤجر نفسه عليه ولا فرق بين عدم القدرة التكوينية والتشريعية. ثم يقول: لا فرق في هذا بين التعبدي والتوصلي غاية الامر الواجب التعبدى إذا كان عينيا تعيينيا يختص بوجه آخر. مضافا إلى هذا الوجه وهو منافاة أخذ الاجرة مع الاخلاص وقصد القربة كما تقدم. ثم يجيب عن النقض الوارد عليه بجواز أخذ الاجرة للوصي على عمله بعد أن أوقعه وعمل - مع أن العمل واجب عيني تعييني على الوصي بعد أن قبل الوصية أو وصل الخبر إليه بعد موت الموصي - بأنه ليس من باب أخذ الاجرة وتحقق المعاملة الخاصة، بل حكم شرعي أجاز الشارع أن يأخذ الوصي بدل عمله ولا ربط له بباب الاجارة أصلا. هذا حاصل ما ذكره قدس سره في الواجب العيني التعييني، وأما سائر شقوق الواجب وأقسامه فسننقل كلامه مع ما فيه إن شاء الله. وأنت خبير بأن ما ذكره شيخنا الاعظم قدس سره في مكاسبه في هذا المقام، الذى نقلناه بطور الخلاصة والمعنى إلى هاهنا، فيه مواقع للنظر. أما أولا: قوله: إن كل ماله منفعة محللة عقلائية يجوز أخذ الاجرة عليه نقول: صرف هذا المعنى لا يكفي في صحة الاجارة بل يحتاج إلى أمرين آخرين:

 

أحدهما: أن يكون العمل تحت اختياره وقدرته بمعنى أن يكون الاجير قادرا على الفعل والترك تكوينا وتشريعا فلو كان عاجزا عن الفعل أو الترك تكوينا أو تشريعا كما أن المكلف عاجز عن الفعل تشريعا في المحرمات وعن الترك في الواجبات، فلا يصح أخذ الاجره على مثل هذا العمل لانه بواسطة الوجوب مقهور على الفعل وليس له أن يترك. ثانيهما: أن يكون العمل قابلا للتمليك بحيث يمكن أن يصير ملكا للمستأجر، لان حقيقة الاجارة هو تمليك منفعة أو عمل بعوض مالي معلوم. إذا تبين هذا فنقول: إن قوله قدس سره: إن كل ماله منفعة محللة عقلائية يجوز أخذ الاجرة عليه - ولو كان واجبا وصرف الوجوب ليس مانعا عن جواز أخذ الاجرة - ليس كما ينبغي لان صرف الوجوب وطبيعته كان متخصصا بأى خصوصية و تحقق في ضمن أي قسم من أقسامها أي سواء كان عينيا أم كفائيا، وسواء أكان تعيينيا أم تخييريا، وسواء أكان نفسيا أم غيريا. وكل واحد من هذه الاقسام تعبديا كان أم توصليا أصليا كان في مقام الاثبات أم تبعيا مانع عن صحة الاجارة على نفس الواجب الذي هو محل الكلام، وأما تعلق الاجارة بأمر خارج عما هو متعلق الوجوب فخارج عن محل الكلام. والحاصل: أن ما تعلق به الوجوب خرج عن تحت قدرة الاجير على فعله وتركه في عالم الاعتبار التشريعي، ويراه الشارع في عالم اعتباره التشريعي واجب الوجود ولا يرضى بتركه، ويرى الملكف الاجير ملزما بفعله، فنفس طبيعة الوجوب منافية لاخذ الاجرة غاية الامر إذا كان تعبديا تنضم إليه جهة أخرى أيضا وهو منافاته مع قصد القربة. وأما ثانيا: ما يقول في استحقاق الاجير للاجرة على كل حال غاية الامر إذا كان العمل الواجب مما يمتثل به الواجب أو يسقط الواجب به أو عنده فيبرأ ذمته عن

 

الواجب أيضا علاوة على استحقاقه للاجرة، وإلا يبقى الواجب في ذمته لو بقى وقته وإلا عوقب على تركه، فتصوير استحقاق الاجير للاجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الاشكال لان الاجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحق الاجرة بناء على الجواز وإلا لم يستحق الاجرة أيضا، فالتفكيك بينهما لا نعقله بل لو كان توصليا وقلنا ببطلان الاجارة كما هو التحقيق يسقط الواجب ولا يستحق الاجرة. نعم إذا كان تعبديا وقلنا بأن قصد القربة لا يتحقق منه فلا يحصل كلا الامرين أي لا يسقط الواجب ولا يستحق الاجرة مع أنه هناك أيضا مقتضى بطلان الاجارة وامكان تحقق قصد القربة سقوط الواجب بالامتثال وعدم استحقاقه للاجرة، وعلى كل تقدير استحقاقه للاجرة مع عدم سقوط الوجوب شيء لا نعقله. وأما ما ذكره من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب العيني التعييني فحق لا محيص عنه، وقد أجاد فيما أفاد في وجه ذلك فجزاه الله خير الجزاء. وأما ما ذكره أخيرا من جواب النقض عليه بجواز أخذ الوصي أجرة عمله بأنه حكم شرعي فعجيب لان ما يأخذه بعنوان أجرة عمله لا بعنوان التعبد وانه إلزام من قبل الشرع باعطائه مجانا، فلو كان عمله غير محترم كما هو اعتراف شيخنا قدس سره في هذا المقام فليس له أخذ شيء بعنوان بدل عمله فانه أكل بالباطل كما هو مصرح به في كلامه 1. والثانى أي ما ليس من قبيل الواجب العيني التعييني، فهو إما من قبيل التخييري ولو كان عينيا، أو من قبيل الكفائي ولو كان تعيينيا. أما التخيري فهو إما توصلي أو تعبدي، فان كان توصليا قال شيخنا الاعظم قدس سره: لا أجد مانعا عن جواز أخذ الاجرة على أحد فرديه بالخصوص، ثم يمثل لذلك بما إذا

 

(هامش)

 

(1) المكاسب ص 63. (*)

 

تعين دفن ميت على شخص وتردد الامر بين حفر أحد موضعين يكون أحدهما راجحا عند الولي لغرض من الاغراض فيستأجره على حفر ذلك الموضع الخاص لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجبا عليه مقدمة للدفن 1. وأنت خبير بأنه فرق واضح بين أن يستأجره لايجاد الخصوصية فقط - التي هي خارجة عن متعلق الوجوب ولا يتحقق إلا فيما كان للخصوصية وجود مستقل ولو كان ملازما ومنضما إلى الطبيعة دائما بحيث لا تنفك عنها - وبين أن يستأجره لايجاد الطبيعة المتخصصة كما هو المفروض في مثال الشيخ. ولا شك في أن في القسم الثاني الذي هو ظاهر كلام شيخنا الاعظم قدس سره يتحد متعلق الوجوب والاجارة في نفس الطبيعة، وهذا موجب لبطلان الاجارة بعين البرهان الذي تقدم في الواجب التعييني، بل هو عين التعييني لانه ليس هناك واجب تعييني لا يتطرق فيه التخيير العقلي إلا فيما شذ وندر أي فيما إذا تعلق الوجوب بشخص فعل ممتنع الصدق على كثيرين كالصوم في شهر رمضان أو النذر المعين، مع أنه بالنسبة إلى صوم شهر رمضان أيضا يعقل التخيير بالنسبة إلى الامكنة. نعم في نذر المعين لو عين جميع جهاته من الزمان والمكان وسائر الجهات يمكن فرض عدم مجئ التخيير العقلي في البين أصلا. نعم في القسم الاول لا مانع من أخذ الاجرة لكنه خارج عن موضوع البحث لان كلامنا في أخذ الاجرة على الواجبات وفي ذلك الفرض الواجب شيء ومتعلق الاجارة شيء آخر. وبعبارة أخرى: موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلق الاجارة شيئا واحدا بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للاجير أمران: أحدهما: سقوط الواجب عن ذمته.

 

(هامش)

 

(1) المصدر. (*)

 

والثاني: استحاقه للاجرة. وقد تقدم الاشكال على شيخنا قدس سره حيث أنه قال بامكان التفكيك بين الاستحقاق للاجرة وسقوط الواجب عن عهدة الاجير. هذا كله فيما إذا كان توصليا وأما إذا كان تعبديا - وذلك كغسل الميت إذا تعين على شخص وتردد الامر بين أن يكون بماء الفرات أو بماء آخر مثلا - قال شيخنا قدس سره في هذا المقام أيضا: إن قلنا بكفاية الاخلاص في القدر المشترك ولو كان إيجاد الخصوصية لداع آخر فيجوز أخذ الاجرة على الخصوصية وإلا فلا 1. وأنت خبير بأنه لا وجه لعدم كفاية الاخلاص في القدر المشترك أترى أن أحدا يمكن أن يستشكل فيما إذا اختار المصلي مكانا خاصا لصلاته من جهة برودة الهواء وحسنها أو لداع آخر عقلائي فليس في المسألة إشكال من هذه الناحية أصلا، بل الاشكال من الجهة التي تقدمت في التوصلي لان ذلك الاشكال مشترك بين التوصلي والتعبدي. والحاصل أن اتحاد الطبيعة مع الخصوصية في الوجود الخارجي لا يمنع من أن يكون قصدها للاخلاص وقصد الخصوصية لغرض آخر. هذا كله كان في التخيير العقلي وأما التخيير الشرعي كخصال الكفارة فهل يجوز أخذ الاجرة على اختيار أحد الافراد أم لا ؟ وليس في كلام شيخنا قدس سره تعرض لهذا القسم أصلا. والتحقيق فيه: أنه إن قلنا بأن في التخيير الشرعي أيضا متعلق الوجوب هو الجامع لامتناع قيام غرض واحد بالمتعدد بما هو متعدد - كما قيل - فمرجع التخيير الشرعي حينئذ إلى العقلي بل هو هو، ويكون تسميته بالتخيير الشرعي من جهة خفاء الجامع عن نظر العرف وتصريح الشارع بالمصاديق فحاله حال التخيير العقلي

 

(هامش)

 

(1) المكاسب ص 63. (*)

 

- كما عرفت مفصلا - بل هو هو. ولكن هذا القول بمعزل عن التحقيق كما حقق في محله في الاصول. وان قلنا بان الواجب التخييري بالتخيير الشرعي عبارة عن تقييد إطلاق الواجب بعدم الاشتغال بعدله بمعنى أن كل واحد من الافراد حقيقة متعلق الوجوب غاية الامر ليس وجوبه مطلقا بل مقيد بصورة عدم الاشتغال بسائر الافراد، مثلا يجب إطعام ستين مسكين اما لا مطلقا حتى في صورة الاشتغال بأحد عدليه من صيام شهرين متتابعين أو تحرير رقبة، بل مقيد بصورة عدم الاشتغال بأحدهما، فليس ملزما باتيان أحد الافراد بالخصوص ولا جامع في البين حتى نقول ملزم باتيان ذلك كما قلنا في التخيير العقلي، فإذا لم يكن إلزام مطلق في البين فيبقى احترام عمله على حاله ولا يسقط بواسطة المقهورية. وبعبارة أخرى: حيث أن الشارع لم يلزم المكلف بخصوص أحد الافراد بل جوز الانتقال إلى بدله واختيار عدله، فاختيار أي واحد من الافراد والعدول يبقى على احترامه ويجوز أخذ الاجرة عليه. وأما الواجب الكفائي إن كان تعبديا فالامر فيه واضح أن أخذ الاجرة مناف للاخلاص - كما بينا وعرفت - وان كان توصليا قال الشيخ قدس سره لا مانع من أخذ الاجرة ويقع العمل لباذل الاجرة لا للعامل 1. ولكن أنت خبير بان الكلام في أخذ الاجرة على ما هو الواجب على نفس الاجير يعني يأتي بما هو الواجب على نفسه ويأخذ الاجرة عليه فوقوع العمل لغيره - أي المستأجر - مع أنه أتى بما هو واجب على نفسه خلف. وبعبارة أخرى: لا يمكن أن يملك المستأجر العمل الذي واجب على الاجير ولو كان الوجوب كفائيا بعين البرهان الذي تقدم في الواجب العيني التعييني، من أن

 

(هامش) * (1) المكاسب ص 63. (*)

 

المكلف ملزم بهذا الفعل ولا يجوز له تركه إلا في صورة اشتغال الغير، وأما في صورة عدم اشتغال الغير - كما هو المفروض في المقام - فهو مقهور في الفعل وليس له الترك، حتى أنه لو ترك يجبر من باب الامر بالمعروف فلا يبقى لعمله احترام على مذاق شيخنا الاعظم قدس سره كما أفاد في مكاسبه 1، أو ليس بقادر على الفعل والترك في عالم التشريع وهو الملاك في عدم صحة الاجارة عندنا. والحاصل: أن كلما كان واجبا على المكلف سواء أكان وجوبه عينيا أو كفائيا، تعيينيا أو تخييريا، نفسيا أو غيريا، تعبديا أو توصليا لا يجوز أخذ الاجرة عليه إلا في بعض أقسام التخييري أي التخيير الشرعي كما تقدم، وما قلنا من جواز أخذ الاجرة في التخيير الشرعي هو فيما إذا لم يكن تعبديا وأما التعبدي فلا يجوز مطلقا. إذا عرفت ما ذكرنا - من عدم صحة أخذ الاجرة على جميع أقسام الواجبات - فيرد الاشكال المشهور وهو أنه لا شك في جواز أخذ الاجرة على الصناعات التي تجب كفاية على جميع المسلمين لاختلال سوقهم ونظام معاشهم بدون ذلك فكيف التفصي عن هذا الاشكال مع قولكم بعدم جواز أخذ الاجرة على جميع أقسام الواجب ؟ وقد تفصى عنه بوجوه: منها: خروج هذه الواجبات عن تحت تلك القاعدة بالاجماع والسيرة. وفيه: استبعاد أن يكون أخذ الاجرة حكما تعبديا من طرف الشارع مخالفا لقواعد باب الاجارة بل المعاملات جميعا. منها: أن نقول في أصل المسألة بالفرق بين التعبدي والتوصلي بأنه يجوز أخذ الاجرة في التوصلى دون التعبدي كما هو مسلك جماعة، والواجبات النظامية كلها - إلا ما شذ وندر - توصلي فلا مانع من أخذ الاجرة عليها أصلا، ونلتزم فيما إذا كانت

 

(هامش)

 

(1) المصدر. (*)

 

تعبدية بالعدم على فرض وجود التعبدي فيها. وفيه: أن هذا الاشكال يجري ويرد على ما اخترناه من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب مطلقا فلابد من التماس جواب آخر بالنسبة إلى من يختار مثل ما اخترناه. منها: اختصاص الجواز بصورة قيام من به الكفاية وفي تلك الصورة ليس بواجب. والجواب عنه أنه أولا: بقيام شخص آخر لا يسقط الوجوب ما لم يفعل فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتى يتكلم في أنه يجوز أخذ الاجرة عليه أم لا ففي ظرف جواز أخذ الاجرة الذي هو ظرف عدم وجود الواجب من قبل ذلك الغير القائم به الوجوب باق ولم يسقط عن الاجير فيأتي الاشكال. مضافا إلى أنه من المسلمات جواز أخذ الاجرة على هذه الواجبات ولو لم يكن أحد قائما بها، ولو تعين عليه بواسطة عدم وجود من به الكفاية. منها: الفرق بين الواجبات التي مطلوبة لذاتها لوجود مصالح فيها فلا يجوز، وذلك مثل دفن الميت وغسله وكفنه حيث أن في نفس هذه الافعال مصالح ملزمة اوجبت مطلوبيتها من قاطبة المكلفين كفاية وبين ما يكون مطلوبيتها لاجل عدم تحقق اختلال النظام وعدم قيام السوق للمسلمين. والجواب: أن هذا الفرق دعوى بلا برهان، بل ظاهر الدليل الذي يمنع عن جواز أخذ الاجرة على الواجبات عدم الفرق بين هذين القسمين من الواجب الكفائي. هذا مع أن نفس هذا التقسيم لا يخلو عن مناقشة. ومنها: أن الوجوب في هذه الامور مشروط بالعوض بمعنى أنه يجب على الخياط مثلا الخياطة بشرط إعطاء العوض على عمله، وهكذا بالنسبة إلى الصنائع الاخر ولا شك أن الواجب المشروط ليس بواجب عند عدم شرطه، وعند تحقق شرطه –

 

أي: إعطاء العوض باجارة أو جعالة أو غيرهما - فرض عدم جواز أخذ الاجرة خلف. والجواب عنه: أنه كيف يمكن أن يكون الوجوب مشروطا بما ينافيه ويضاده ؟ فلا بد من رفع المنافاة والمضادة بينهما أولا ثم القول باشتراط الوجوب بالعوض باجارة أو غيرها. والتحقيق في الجواب عن هذا الاشكال هو أن الوجوب تارة يتعلق بفعل المكلف بالمعنى المصدري واخرى يتعلق به بالمعنى الاسم المصدري. بيان ذلك: أنه لو تعلق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلف لا بما هو الصادر - أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وان لا يمتنع عن الاشتغال به وإلا فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه - فلا يمنع عن أخذ الاجرة عليه لان المفروض أن المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلف بالفعل وعدمه امتناعه عنه، وهذا هو الذي ألزم به فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلا صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل، وأما نفس العمل الصادر فليس بمطلوب فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه فيكون وجوب هذا القسم من الاعمال في باب الاعمال، كوجوب بيع الحنطة مثلا وعدم جواز احتكاره في باب الاموال، فكما أنه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه فكذلك هيهنا وجوب صدور العمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر لا على جهة الاصدار. فما هو الواجب شيء - أي جهة الاصدار والمعنى المصدري - وما هو يؤخذ العوض عليه شيء آخر أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري. هذا كله فيما إذا تعلق الوجوب بالمعنى المصدري كجميع الواجبات النظامية التي

 

بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقق اختلال النظام. وأما لو تعلق الوجوب بما هو الصادر أي تعلق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعا ويكون ملزما باتيانه، وليس له أن يتركه ولا يأتي به بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الامر بالمعروف. وقد بينا سابقا أن من شرائط صحة الاجارة - بل كل معاوضة في باب الاعمال - أن يكون العمل تحت سلطانه وقدرته تكوينا وتشريعا، فلو خرج عن ذلك لا يجوز أخذ الاجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاملات المعاوضية. فظهر مما ذكرنا وجه جواز أخذ الاجرة على الواجبات النظامية. ولا يرد هذا الاشكال على القائل بعدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات مطلقا، لما عرفت من أن جهة الوجوب في الواجبات النظامية غير جهة أخذ الاجرة، و مسألة وجوب بذل المال للمضطر ووجوب الارضاع أيضا من هذا القبيل أي الواجب في الموردين هو العمل بالمعنى المصدري، فلا ينافي وجوبهما جواز أخذ عوض المال المبذول في الاول، وجواز أخذ الاجرة في الثاني كما هو صريح قوله تعالى: (فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) 1 ولا يردان نقضا على ما قلنا أيضا. والحاصل: أن أخذ الاجرة بل مطلق العوض بعنوان المعاوضة لا يجوز بالنسبة إلى العمل الذى يكون واجبا بالمعنى الاسم المصدري سواء أكان وجوبه تعبديا أم توصليا، عينيا أم كفائيا تعيينيا أم تخييريا، نفسيا أم غيريا، إلا فيما إذا كان الواجب واجبا تخييريا شرعيا، على احتمال أبديناه سابقا. هذا تمام الكلام بالنسبة إلى أخذ العوض في باب الواجبات. وأما المحرمات: فقد سبق الكلام في عدم جواز أخذ الاجرة عليها لان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فالعمل المحرم غير مقدور شرعا فلا يجوز أخذ الاجرة بل كل

 

(هامش)

 

(1) الطلاق (65): 6. (*)

 

قسم من أقسام المعاوضة، وأما المباح والمكروه فلا مانع من التكسب بهما أصلا. وأما المستحب: فالتحقيق فيه أنه إن كان تعبديا بالمعنى الاخص - يعني كان تحققه وامتثاله متوقفا على إتيانه بقصد القربة - فلا يجوز أخذ العوض أيضا عليه، لما ذكرنا في الواجب من منافاته مع الاخلاص المعتبر فيه فلا نعيد. وأما إن لم يكن كذلك بل كان توصليا يمكن أن يؤتى به بدون قصد القربة فلا وجه لعدم جواز المعاوضة عليه، وذلك كمسألة نيابة شخص عن غيره في عمل مستحب أو واجب على ذلك الغير فيما إذا كانت النيابة عن الغير في تلك الاعمال مستحبة ولكن لا يكون تعبديا، بل كان يمكن أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في عمل بدون قصد القربة وإن كان يمكن أن يقصد القربة ويستحق الثواب لكن ذلك ليس بلازم، بل ذلك بأي داع كان سواء أكان بداعي التقرب أو بداعي أخذ الاجرة، فحينئذ لا وجه للقول بعدم جواز أخذ الاجرة عليه لان المفروض أنه ليس تعبديا حتى يكون أخذ الاجرة منافيا للاخلاص، ولا بواجب كي يكون مقهورا ومجبورا بالاتيان في عالم التشريع فيكون خارجا عن تحت قدرته تشريعا، فلا يكون واجدا لاحد شروط صحة الاجارة كما تقدم الكلام فيه في الاجارة على الواجبات مفصلا. نعم ربما يتوهم في باب النيابة في العبادات إذا استؤجر عليها إشكال آخر لا ربط له بمسألة أخذ الاجرة على المستحبات التوصلية، وهو أن النيابة في العمل العبادي إذ وقعت متعلقة للاجارة فقهرا يكون نفس العمل العبادي أيضا داخلا في المستأجر عليه باعتبار كونه قيدا ومتعلقا للنيابة الخاصة فيكون أخذ الاجرة عليه منافيا للاخلاص. ونحن دفعنا هذا الاشكال فيما تقدم في الفرق بين أخذ الاجرة على ما هو واجب على نفس الاجير وبين ما هو كان واجبا على الغير وهو يأتي بالعمل بعنوان النيابة عنه بعدم الجواز في الاول والجواز في الثاني فلا نعيد.

 

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وأهل بيته الطاهرين المعصومين.