قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعية بالبلوغ

42 - قاعدة عدم اشتراط الأحكام الوضعية بالبلوغ 

 

قاعدة عدم اشتراط الاحكام الوضعية بالبلوغ [ * ] ومن جملة القواعد الفقهية - المشهورة - قاعدة (عدم شرطية البلوغ في الاحكام الوضعية). وفيها جهات من الكلام. (الجهة الاولى) في مدلولها وهو أمور: (الاول): الاجماع، فانه لا خلاف بينهم في أن إتلاف الصبي مال الغير كاتلاف البالغين موجب للضمان، واشتغال ذمته بمثل ما أتلف إن كان مثليا وبقيمته ان كان قيميا، وكذلك الحال في ضمان اليد، فلو استولى الصبي على مال الغير وغصبه فتلف ذلك المال في يده - بل وإن كان التلف في يد غيره غاية الامر استقرار الضمان على من وقع التلف في يده - يكون ضامنا وان لم يكن باتلافه، بل كان بتلف سماوي. وهذا الاجماع محقق لكل من تتبع في الفقه، إذ لم ينقل الخلاف من أحد، ولا يمكن ان يكون اعتمادهم في هذا الاتفاق على عمومات أدلة الضمان، مثل قوله صلى الله عليه وآله (وعلى اليد ما اخذت حتى تؤديه). وما هو المعروف (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) وغيرهما مما ذكرناها في قاعدة الاتلاف.

 

(هامش)

 

[ * ] (عوائد الايام) ص 268 (عناوين الاصول) عنوان 84 (القواعد الفقهية) ج 1 ص 331. (*)

 

وذلك من جهة وقوع الخلاف بينهم في انصراف الادلة العامة عن الصبي، ولم يقع خلاف في أصل الضمان، فهذا اجماع يمكن الاعتماد عليه، ولا يرد عليه ما أوردنا على الاجماعات التي ادعيت في أغلب القواعد الفقهية المذكورة في هذا الكتاب. الثاني: سيرة المتدينين، بل العقلاء قاطبة على ان الصبي إذا اتلف مال الغير - أو غصبه فوقع عليه التلف وان كان التلف في غير يده - فهو له ضامن، بل ربما يقولون بضمانه إن فوته على المالك وإن لم يقع يده عليه ولا اتلفه، كما لو حبس حرا ففوت عليه منافعه، خصوصا إذا كان عاقلا ذا شعور وإدراك وفهم حاد وكان أقل من زمان البلوغ بزمان يسير، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة بل امضاها باطلاقات الادلة العامة، كما سنتكلم عنها وعما قيل بانها رادعة ان شاء الله تعالى. الثالث: الروايات والادلة العامة الواردة في ابواب الضمانات والنجاسات والطهارات، وفي باب إحياء أراضي الموات، وفي ابواب الديات والحيازات، فانه في جميع تلك الادلة عامة أو مطلقة تشمل البالغ والصبي على نهج واحد. فان قوله صلى الله عليه وآله (من أحيى أرضا مواتا فهي له) (1) أو قوله (من حاز شيئا من المباحات ملكه) (2) أو قوله صلى الله عليه وآله (وعلى اليد ما اخذت حتى تؤديه) (3) وامثال ذلك مما يدل على جنابة الواطى والموطوء وان لم ينزل، ولكن بعد غيبوبة الحشفة في احد الماتيين (4). أو ما يدل على نجاسة بدن الذي لاقي النجس أو المتنجس مع الرطوبة (5).

 

(هامش)

 

(1) (تهذيب الاحكام) ج 7 ص 152 ح 673 (1) باب أحكام الارضين ح 22 (وسائل الشيعة) ج 17 ص 327 أبواب إحياء الموات باب 1 ح 5 و 6. (2) (جواهر الكلام) ج 26 ص 291. (3) تقدم راجع ص 52. (4) (الكافي) ج 3 ص 26 باب ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة ح 1 و 2 (تهذيب الاحكام) ج 1 ص 118 ح 310 (6) باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ح 1 (الاستبصار) ج 1 ص 108 ح 358 (62) باب ان التقاء الختانين يوجب الغسل ح 1 (وسائل الشيعة) ج 1 ص 469 أبواب الجنابة باب 6 ح 1 - 9 (5) (الكافي) ج 3 ص 60 باب الكلب يصيب الثوب والجسد وغيره... ح 1، 2، 3: (تهذيب الاحكام) ج 1 = (*)

 

والحاصل ان الفقيه المتتبع إذا نظر في تلك الادلة مع كثرتها يتيقن بشمولها لغير البالغين مثل البالغين، خصوصا إذا كان غير البالغ واجدا لجميع شرائط التكليف ما عدى مقدار قليل من الزمان، كيوم بل وان كان كشهر باقيا إلى ان يصير بالغا بحسب العمر. ولا شك ان دعوى انصراف تلك الادلة عن مثل هذا الصبى الذي لم يبق إلى بلوغه بحسب العمر الا يوما، لا يخلو عن مجازفة، فإذا شمل مثل هذا الفرض يتم في سائر الموارد بعدم القول بالفصل، ولا مخصص ولا مقيد في البين لهذه العمومات والاطلاقات بعد الفراغ عن عدم انصرافها إلى خصوص البالغين. عدا ما يتخيل من قول علي عليه السلام: (أما علمت رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) (1). وبيانه ان قوله عليه السلام (رفع القلم عن الصبي) معناه ان الصبي ليس عليه جعل من قبل الشارع، وكذلك الحال في المجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ، فاهملهم كما اهمل الحيوانات، ولم يكتب عليهم شيئا لا وضعا ولا تكليفا، فالمنفي في هذا الحديث الشريف هو قلم جعل الاحكام مطلقا سواء أكانت الاحكام وضعية ام تكليفية، فهذا الحديث الشريف تخصص به الادلة العامة، أو تقيد به الاطلاقات الواردة في الابواب المختلفة. وفيه (أولا) ان الظاهر من هذه العبارة - التى في مقام الامتنان والتسهيل - هو رفع المؤاخذة عن هذه الثلاثة، لعدم التفاتهم إلى المصالح والمفاسد، أما المجنون لعدم عقله

 

(هامش)

 

= ص 421 ح 1333 (22) باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ح 6 (وكذلك ج 1 ص 260 ح 756 (12) باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ح 43 (وسائل الشيعة) ج 2 ص 1034 أبواب النجاسات باب 25 ح 1 و 3. (1) (الخصال) ص 40 و 175 باب الثلاثة ح 40. 233 (وسائل الشيعة) ج 1 ص 32 أبواب مقدمة العبادات باب 4 ح 11. (*)

 

قبل ان يفيق، وأما الصبي لقلة عقله غالبا. وأما النائم لغفلته بواسطة نومه وعدم تنبههه إلى المضار والمنافع. والمؤاخذة من آثار مخالفة التكاليف الالزامية أي: ترك الواجب وفعل الحرام، فيستكشف من نفي اللازم - الذي هو المؤاخذة، نفي الملزوم - أي الوجوب والحرمة - فيدل على عدم تنجز التكاليف الالزامية على النائم لغفلته وعدم توجيه التكليف الالزامي إلى الصبي والمجنون لقلة عقله في الاول وعدمه في الثاني، ولا يدل على نفي الاحكام التكليفية غير الالزامية فضلا عن نفي الاحكام الوضعية. وهذا المعنى مناسب مع ما اشتهر بينهم من عدم اشتراط البلوغ في الاحكام الوضعية، وايضا لما اشتهر بينهم من مشروعية عبادات الصبي. وثانيا: على فرض تسليم أنه ليس المراد من رفع القلم خصوص نفي العقاب والمؤخذة - بل المراد نفي قلم الجعل عليه - فلابد وان يكون المراد منه ان الافعال التي تترتب عليها الآثار لو صدرت عن البالغ العاقل المستيقظ لو صدرت عن الصبي أو المجنون أو النائم لا تترتب عليها، وذلك من جهة فقد البلوغ في الصبي والعقل في المجنون والانتباه في النائم. فبناء على هذا المعنى لا يشمل الحديث الشريف الافعال التي تترتب عليها الآثار، من دون فرق بين الالتفات وعدمه، وكذلك الاختيار وعدمه، وتكون مثل هذه الافعال خارجة عن مورد هذا الحديث تخصصا فتكون ابواب الديات والجنايات والجنابة والاحداث مطلقا، والاتلاف والضمان - من ناحية اليد - والنجاسة والطهارة خارجة عن مورد هذا الحديث الشريف تخصصا. وخلاصة الكلام أنه يظهر من هذا الحديث الشريف وذكر الصبي في سياق المجنون والنائم - هو انه كما لا قصد في المجنون والنائم تكوينا قصد الصبي في حكم العدم تشريعا، فكل اثر فعل كان مترتبا على تعمد ذلك الفعل وقصده بحيث لو صدر عنه

 

بلا التفات ليس ذلك الاثر فإذا صدر عن الصبى لا يترتب عليه ذلك الاثر وان قصده وصدر عنه عمدا ويؤيد هذا المعنى ما رواه في قرب الاسناد بسنده عن ابي البختري عن جعفر عليه الاسلام عن ابيه عليه السلام عن علي عليه السلام انه كان يقول: في المجنون المعتوه لا يفيق، والصبي الذي لم يبلغ: (عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم) (1) فقوله عليه السلام (وقد رفع عنهما القلم) بعد حكمه بأن عمده خطأ - بمنزلة العلة لهذا الحكم، فيكون معنى رفع القلم عنه أن الاثر الذي كان يترتب على الفعل الذي يصدر عن العاقل عن عمد وقصد لو كان بالغا لا يترتب على مثل ذلك الفعل لو صدر عن الصبي غير البالغ فيكون قصده كلا قصد، وعمده كالخطأ. فالافعال التي لا فرق في ترتب الاثر عليها بين أن تكون صادرة عن قصد وعمد - مع الالتفات إليها أو عدم الالتفات إليها - ليس مشمولة لهذا الحديث الشريف. وأما ما يقال - من أن الاحكام الوضعية اعتبارات من قبل الشارع ابتداء أو إمضاء من قبله لما اعتبره العرف والعقلاء، والامور الاعتبارية سواء أكانت اعتبارات ابتدائية من قبله أو كانت إمضائية تكون اعتبارها بلحاظ الآثار المترتبة عليها، وان قلنا بأنها مستقلة في الجعل، وليست منتزعة عن الاحكام التكليفية كما هو المختار عندنا، والا لو يكن لها اثر يكون اعتبارها لغوا لا يصدر عن عاقل فضلا عن الشارع الحكيم. ففي الحقيقة اعتبار الاحكام الوضعية - أي: جعلها في عالم التشريع - لاجل ترتب الاحكام التكليفية عليها، والفرق بين هذا القول المشهور والمذهب المنصور مع ما ذهب إليه شيخنا الاعظم قده سره هو ان الحكم الوضعي عند المشهور ملزوم وموضوع

 

(هامش)

 

(1) قرب الاسناد) ص 155 ح 569 أحاديث قهزقة. (*)

 

للاحكام التكليفية (1)، وعند الشيخ (قدس سره) من لوازمها ومنتزعه عنها (2)، والا ففي كلا القولين الحكم الوضعي بدون الحكم التكليفي لا يمكن ان يوجد، اما لعدم امكان وجود الملزوم بدون اللازم كما هو المذهب المشهور المنصور أو لعدم امكان وجود اللازم بدون الملزوم، كما هو المنسوب إلى الشيخ الاعظم (قدس سره). فلو سلمنا ان معنى الحديث الشريف هو رفع خصوص الاحكام التكليفية - لا الاعم منها ومن الوضعية - لكن النتيجة في كلتا الصورتين واحدة، إذ رفع الاحكام التكليفية ملازم مع رفع الاحكام الوضعية ايضا لما قلنا من عدم امكان وجود اللازم بدون الملزوم، بناء على انها منتزعات عن الاحكام التكليفية، وعدم امكان وجود الملزوم بدون اللازم، بناء على المختار من أن الاحكام التكليفية من لوازم الاحكام الوضعية، لانها بمنزلة الموضوع. فجواز الاستمتاعات من لوازم الزوجية، لا ان الزوجية منتزعة عن جواز الاستمتاعات، وكذلك جواز التصرفات ونفوذها من لوازم الملكية وآثارها، لا ان الملكية منتزعة عن جواز التصرفات. والدليل على ذلك الادلة الواردة في الموارد المتفرقة من الاحكام الوضعية مثلا: (الناس مسلطون على اموالهم) (3) يدل على أن موضوع السلطنة وجواز التصرفات هي الملكية، وكون الشيء مالا له، وموضوع وجوب الاطاعة والتمكين هي الزوجية، وموضوع عدم جواز الاكل والشرب هو كون المأكول والمشروب نجسا، وهكذا الامر في سائر الموارد، وهذا ينبغي أن يعد من الواضحات. فقد اجيب عنه بوجوه: (الاول) ان المراد من رفع القلم هو رفع المؤاخذة التي من لوازم مخالفة التكليف

 

(هامش)

 

(1) (فرائد الاصول) ج 2 ص 601 (2) (فرائد الاصول) ج 2 ص 602 - 603 (3) (الخلاف) ج 3 ص 176 في أحكام القرض مسألة: 290. (*)

 

الالزامي بترك الواجب واتيان الحرام، وحيث ان رفع اللازم مستلزم لرفع الملزوم فالمرفوع هي التكاليف الالزامية لا مطلق التكاليف، فالاحكام الوضعية لا تبقى بلا اثر - كما توهم - بل يستحب عليه إتيان الواجبات وترك المحرمات، بناء على شرعية عبادات الصبي. الثاني: أن أثر الوضع هو وجوب تفريغ ذمة الصبي على الولي، إذ لا مانع من أن يكون فعل الصبي موضوعا للحكم التكليفي الالزامي على شخص آخر، وهاهنا هو الولي، بل هذا المعنى صريح قوله عليه السلام: (عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة) (1) فجناية الصبي إن كان عن عمد موضوع لوجوب الدية على العاقلة، ولذلك لو اتلف الصبي مال شخص، أو تلف بعد وقوع يده عليه ولو كان بتلف سماوي يجب على الولي اداء مثله من مال ذلك الصبي ان كان مثليا وقيمته ان كان قيميا، وهكذا الحال في باب جناياته ودياته التي اشتغلت ذمته بها، بل وكفاراته التي تعلقت به وسائر الضمانات التي تعلقت به. الثالث: وجوب ترتيب الاثر عليه بعد البلوغ، وهذا كاف في عدم لغوية ذلك الاعتبار. فظهر مما ذكرنا ان الادلة الواردة في الابواب المتفرقة - التي تدل على ان بعض الافعال موضوع أو سبب لثبوت حكم وضعي - عمومات أو مطلقات - تشمل افعال البالغين وغير البالغين. فقوله: (من حاز شيئا من المباحات ملكه) (2) أو قوله عليه السلام: (من أحيى أرضا مواتا فهي له) (2) وكذلك سائر الادلة الكثيرة المتفرقة في الابواب المختلفة - لا اختصاص لها بالبالغين، وحديث رفع القلم لا يخصصها.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 118. هامش رقم (2). (2) (جواهر الكلام) ح 26 ص 291. (3) تقدم راجع ص 179 هامش رقم (2). (*)

 

وأما الروايات الواردة في ان عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة فموافق للعمومات، لا انها مخصصة لها، لان مفادها ان الصبي إذا صدر عنه فعل عن عمد لا يترتب عليه اثر العمد، بل يترتب عليه اثر الخطأ، فكل فعل إذا صدر عن الصبي و كان لصدوره خطأ اثر يترتب عليه. وباب الجنايات والديات والجنابة من هذا القبيل، فإذا وجدت أسباب هذه الامور - وان كان صدورها منه خطأ - تترتب عليها تلك الامور، فالنتيجة ثبوت الاحكام الوضعية لغير البالغ ايضا مثل البالغين. واما الروايات - التي مفادها توقف نفوذ أمره على البلوغ (1) فأجبني عن محل كلامنا. (الجهة) الثانية في بيان المراد من هذه القاعدة فاقول: ان الفعل الذي يكون موضوعا لحكم وضعي - وقد يسمى ذلك الفعل سببا لذلك الحكم، ولكن التحقيق ان ذلك الفعل موضوع لذلك الحكم، وليس سببية في البين، لان سبب الحكم هو الجعل الشرعي، فالشارع هو السبب الموجد له، وانما موضوع حكمه يكون ذلك الفعل - قد يصدر من البالغ وقد يصدر من غير البالغين، وليس بلوغ الفاعل شرطا لتحقق ذلك الحكم. مثلا حيازة المباحات - كالاحتطاب والاعتشاب - موضوع لملكية ذلك الحطب وذلك العشب للفاعل، سواء صدر عن البالغ أو من غيره، فليس بلوغ من احتطب أو اعتشب شرطا في تحقق ملكية ذلك الحطب أو ذلك العشب. وقد تقدم الدليل على عدم شرطية البلوغ لحصول الحكم الوضعي في الجهة

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 118 هامش رقم (1) (*)

 

الاولى، وهو قوله عليه السلام: (من حاز شيئا من المباحات فقد ملكه) وكذلك الامر في سائر الامثلة، والمقصود من ذكر هذه الجهة بيان مفهوم هذه القاعدة. (الجهة) الثالثة في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة. فنقول: منها: حصول الجنابة لغير البالغ بغيبوبة الحشفة في احد فرجيه، سواء أكان مع إنزال الواطى البالغ أو مع عدمه، بل وكذلك تحصل الجنابة له مع غيبوبة حشفته في فرج الآخر سواء أكان الموطوء بالغا أو لم يكن. ومنها: حدوث الحدث الاصغر لمن خرج عنه البول أو الغائط أو الريح أو نام، سواء أكان بالغا أو لم يكن. ومنها: حصول الضمان واشتغال ذمة من أتلف مال الغير، سواء أكان المتلف بالغا أو لم يكن، ودليله هو عموم من اتلف مال الغير فهو له ضامن) - وقد تقدم شرح هذه القاعدة في بعض مجلدات هذا الكتاب (1) - من غير مخصص لذلك العموم. ومنها: حصول الضمان لمن تلف ماله في يده غير المأذونة، سواء أكان صاحب تلك اليد بالغا أو لم يكن، ودليله عموم قوله صلى الله عليه وآله (وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه) (2) من دون وجود مخصص لهذا العموم، وقد شرحنا هذا الحديث الشريف دلالة وسندا في قاعدة (وعلى اليد). ومنها: ما لو فوت على الحر منافعه - بان حبسه عن شغله، ففاتت تلك المنافع التي

 

(هامش)

 

(1) راجع ج 2 ص 25. (2) تقدم راجع ص 52. (*)

 

كان يحصلها لو لم يحبسه - فهو له ضامن، سواء أكان هذا الذي فوت منافعه بالغا أو لم تكن. ودليله إما قاعدة الاتلاف - بناء على صدق الاتلاف عليه عرفا، ولا شك في انه لو حبس مالك الاغنام والاغنام في درية فاكلها الذئب يصدق على الحابس غرفا أنه أتلف الغنم. وكذلك لو حبس مالك البستان ففسدت ثمراته - لعدم من يصلحها أو يبست أشجارها لعدم من يسقيها - فيصدق على الحابس أنه أتلفها. فكذلك لو حبس ذا صنعة أو منعه عن الاشتغال بشغله، كما لو منع البناء من أن يبني، أو الصائغ من الصياغة يصدق عليه عرفا انه اتلف منافعه من عمله. وفيه: الاتلاف اعدام شيء موجود، لا المنع عن ايجاده. وإما قاعدة احترام مال المسلم وأن احترامه كاحترام دمه فإذا حبس ذا صنعة فوت عليه منافع اشغاله وأعماله التي كان يعملها لو لا منع الحابس عن الاشتغال بها. ولا شك في ان تلك المنافع مال وماله محترم، فمن فوته يجب عليه تدركه وغرمه. وفيه ان المنافع وان كانت مالا ولكن بعد وجوده لا قبل، والحابس لم يتلف مالا موجودا ولا فوته على صاحبه، بل إنما منع عن أن يوجد، فلم يفوت مالا على صاحبه كي يكون ضامنا له بقاعدة الاحترام، ولكنه حيث يصح ان يواجر نفسه - والاجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم عند أكثر الفقهاء قدس وإن عرف بتعاريف اخر ولا يمكن تمليك ما ليس بمالك له - فلابد وأن يقال بأن أعماله قبل وجودها مال، ولذلك تبادل بالمال، فإذا فوتها على المالك فقد فوت مالا محترما عليه، فيضمن بقاعدة الاحترام.

 

وإما قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1) ولا شك أن من حبسه ومنعه عن عمله - واستيفاء منافعه - فقد اعتدى عليه، فله أن يعتدى عليه بمقدار الضرر الذي اورده عليه ويغرمه. والتحقيق في مسألة تفويت المنافع غير المستوفاة هو انه ان كانت تفويت المنافع بواسطة وقوع ذي المنفعة تحت يده - كما لو حبس عبده أو دابته ومنعهما عن ايجاد منافعهما - فهذا يرجع إلى ضمان اليد. والدليل عليه: قوله صلى الله عليه وآله: (وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه) وذلك من جهة ان اليد على الشيء يد على منافعه، فكما انه يجب ارجاع العين ورده إلى صاحبه يجب عليه ارجاع المنافع غير المستوفاة ايضا، لانها وقعت تحت يده بتبع وقوع العين تحت يده. وهذا لمعنى لا يمكن في حبس الحر، لعدم إمكان وقوع الحر تحت يده، وعدم صدق الموصول عليه في قوله صلى الله عليه وآله: (ما اخذت)، لان الحر ليس شيئا مأخوذا بحيث يكون الاخذ سلطانا عليه، ويكون له التصرف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك من التصرفات، فلابد لاثبات الضمان فيه إلى التماس دليل آخر غير قوله صلى الله عليه وآله وعلى اليد). وقد ذكرنا ما قالوا من اندراجه تحت قاعدة الاتلاف، وقاعدة الاحترام أو الاعتداء في الآية المباركة، وقد عرفت ما فيها. والمسألة من حيث الاقوال ايضا فيها اختلاف كثير، ذكرها شيخنا الاعظم (قدس سره) في مكاسبه، وهو بنفسه له كر وفر ونسب إلى المشهور القول بالضمان (2).

 

(هامش)

 

(1) البقرة (2): 194. (2) (كتاب المكاسب) ص 105. (*)

 

ولكن عرفت ان هذا فيما يقع تحت اليد لا اشكال فيه، وإنما الكلام فيما لا يقع تحتها، كما قلنا في صورة حبس الحر وهو الذي يقال أنه مورد لقاعدة التفويت، وقد ذكرنا ما يمكن ان يكون مدركا لقاعدة التفويت مع ما فيها من الخلل. وأما ما يقال إن مدركها الروايات فالروايات التي نحن اطلعنا عليها ترجع إلى قاعدة الاتلاف، وقد ذكرنا عدة منها في مقام بيان مدرك قاعدة الاتلاف (1)، وعلى كل حال كون قاعدة التفويت في قبال قاعدة الاتلاف - وقاعدة الاحترام وقاعدة على اليد قاعدة اخرى - ويكون لها مدرك مختص بها - في غاية الاشكال. نعم لو قلنا بان منع الحر - عن استيفاء منافعه بواسطة منعه عن العمل، أو بواسطة منعه عن استثمار املاكه - موجب للضمان مع عدم كونه مندرجا تحت قاعدة الاتلاف ولا تحت قاعدة الاحترام ولا تحت قاعدة على اليد كما هو المفروض، فلابد وأن نقول إن هناك قاعدة اخرى وهي قاعدة التفويت. فضمان المنافع غير المستوفاة - بدون وقوعها تحت اليد ولو بتبع العين - مدركة قاعدة التفويت، ومدرك قاعدة التفويت - بعد الفراغ عن عدم كون المذكورات مدركا له - هو بناء العقلاء على ذلك مع عدم صدور ردع عن قبل الشارع، وتقريبه أن في أبواب الضمانات غالبا امضى الشارع الطرق العرفية. ولا شك في أن العرف والعقلاء يرون من حبس شخصا حرا ومنعه عن الاشتغال باشغاله - خصوصا إذا كان اشغاله ذات فائدة كثيرة وقيمة كبيرة - ضامنا ويحكمون بتغريمه واخذ ما خسره المحبوس عنه. وهذا دليل قطعي على ان تفويت المنافع على شخص موجب للضمان وان كانت تلك المنافع غير مستوفاة، وحيث أن الشارع لم يردع عن هذه الطريقة العقلائية فعدم

 

(هامش)

 

(1) راجع ج 2 ص 45. (*)

 

الردع دليل على إمضائها. (ومنها) حيازة المباحات، فإنه لا فرق بين ان يكون من حاز بالغا أو غير بالغ في حصول الملكية له بالحيازة، ودليله على عموم الحكم قولهم: (من حاز شيئا من المباحات ملكه) (1): من دون مخصص لهذا العموم. ومنها: عموم حكم الشارع بتعلق الدية بذمة من أوجد سببها، سواء أكان بالغا أو غير بالغ، من دون مخصص في البين. ودليله الاخبار الكثيرة الواردة في موارد الديات، كرواية أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام: (من أضر بشئ من طريق المسلمين فهو له ضامن) (2). وكرواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: (من اخرج ميزابا أو كنيفا أو اوتد وتدا لو أوثق دابة أو حفر شيئا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن) (3) إلى غير ذلك من الاخبار الواردة في أبواب الديات والجنايات ومعلوم ان الموصول عام يشمل غير البالغين كما يشمل البالغين، ولا مخصص في البين، عدا ما توهموه وقد عرفت عدم صحة ما ذكروه. (ومنها) عموم حصول ملكية كل من أحيى أرضا ميتة، سواء أكان بالغا أو لم يكن

 

(هامش)

 

(1) (جواهر الكلام) ج 26 ص 291. (2) (الكافي) ج 7 ص 350 باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ح 3 (الفقيه) ج 4 ص 155 ح 5346 باب ما جاء فيمن أحدث بئرا... ح 6 (تهذيب الاحكام) ح 10 ص 230 ح 905 (18) باب ضمان النفوس وغيرها ح 38 (وسائل الشيعة) ج 19 ص 180 أبواب موجبات الضمان باب 8 ح 2 (3) الكافي) ج 7 ص 350 بابا ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار ج 8 الفقيه ج 2 ص 154 ح 5343 باب ما جاء فيمن أحدث بئرا.. ح 3 (تهذيب الاحكام) ج 10 ص 230 ح 908 (18) باب ضمان النفوس وغيرها ح 41: (وسائل الشيعة) ج 19 ص 182 أبواب موجبات الضمان باب 11 ح 1. (*)

 

والدليل عليه قوله عليه السلام: (من أحيى أرضا مواتا فهي له) (1) والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا. (هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 158 هامش رقم (1). (*)