قاعدة عموم حجية البينة

26 - قاعدة عموم حجية البينة 

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف خلقه وخير بريته سيد الاولين والاخرين محمد واله الطيبين الطاهرين المعصومين. قاعدة عموم حجية البينة (*) ومن القواعد الفقهية المشهورة قاعدة حجية البينة وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الاولى في الدليل على اعتبارها فنقول لا شك في أن المراد من البينة في هذه القاعدة هو شهادة عدلين، فكل دليل نأتى به على اعتبارها لا بد وأن يكون مفاده حجية البينة بهذا المعنى لا بمعنى آخر.

 

(هامش)

 

: (*): القواعد والفوائد ج 1، ص: 405، عوائد الايام ص 88 و 273، عناوين الاصول عنوان 82، خزائن الاحكام ش 40، القواعد الفقهية (فاضل اللنكراني) ج 1، ص 461، القواعد الفقهية (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 46. (*)

 

فنقول أولا ما هو معنى البينة لغة وعرفا ؟ ولا شك في أنها صفة مشبهة من بان، فإذا كان موصوفها مذكرا يقال: هو بين، و إذا كان مؤنثا يقال: هي بينة فهو كسيد وسيده من ساد. وحيث ان موصوفها هي الحجة، فيقال انها بينة أي: حجة واضحة لا سترة و لا خفاء فيها، وهى بهذا المعنى تكون مرادفة للبرهان. وقد استعمل بهذا المعنى في خمسة عشر موضعا من القرآن العظيم، وقد عبر فيه عن المعجزتين اللتين لموسى عليه السلام تارة بكلمة برهان (واخرى) بلفظة البينة في قوله تعالى (فذانك برهانان من ربك) (1) وفى قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السلام (قد جئتكم ببينة من ربكم) (2) إلى قوله تعالى (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) (3) فمعنى هذه الكلمة لغة وعرفا هي الحجة الواضحة والبرهان أي: ما يوجب اليقين. ولكن الظاهر انها في لسان الشرع عبارة: عن شهادة عدلين على أمر، وهذا المعنى - بعد حكم الشارع باعتبارها وبعد أن جعلها أمارة وحجة - تكون من مصاديق الحجة الواضحة بناء على ان حجية الامارات من باب تتميم الكشف في عالم الاعتبار التشريعي، فتبادر هذا المعنى في لسان الشرع يرجع إلى انصراف المفهوم الكلى إلى بعض مصاديقه، ولذلك لم يحتمل أحد من الفقهاء في قوله صلى الله عليه وآله - البينة على المدعى واليمن على من أنكر (4) أو في قوله صلى الله عليه وآله - إنما أقضى بينكم بالبينات و

 

(هامش)

 

: 1 - القصص (28): 32. 2 - الاعراف (7): 105. 3 - الاعراف (7): 107 - 108. 4 - عوالي اللئالي ج 2، ص 345، ح 11، مستدرك الوسائل ج 17، ص 368، أبواب كيفية الحكم، باب 3، ج 4. (*)

 

الايمان (1) أن يكون مراده صلى الله عليه وآله غير هذا المعنى، لان اليد تكون امارة شرعية امضائية لما عند العقلاء. فإذا ادعى أحد على صاحب اليد فتكليفه بالبينة لا يفهم منه إلا شهادة عدلين، و إلا لو كان المراد منها مطلق الحجة - فلو كان سابقا ملكا للمدعى فاستصحاب ملكيته حجة له بناء على اعتبار الاستصحاب كما هو كذلك - فلا يحتاج إلى حجة اخرى. ففهمهم شهادة شاهدين - من ذلك الكلام - دليل على انصراف البينة إلى ما هو المتبادر منها في تلك الاذهان وهو شهادة عدلين، وإلا لو كان مراده صلى الله عليه وآله مطلق الحجة فالمنكر هو الذي يكون قوله مطابقا للحجة الفعلية فلا يبقى مجال لهذا التفصيل بين المدعى والمنكر، بل تكون لكل واحد منهما الحجة. فإذا عرفت ما هو المتبادر من لفظة البينة في الاحاديث الصادرة عن المعصومين عليهم السلام. فنقول: استدلوا لحجية البينة بالمعنى المذكور بامور: (الاول) رواية مسعدة بن صدقة كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثواب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر فبيع أو امراة تحتك و هي اختك أو رضيعتك والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (2).

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 7، ص 414، باب أن القضاء بالبينات والايمان، ح 1، تهذيب الاحكام ج 6، ص 229، ح 552، اب كيفية الحكم والقضاء، ح 3، معاني الاخبار ص 279، وسائل الشيعة ج 18، ص 169، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح 1. 2 - الكافي ج 5، ص 313، باب النوادر (من كتاب المعيشة) ح 40، تهذيب الاحكام ج 7، ص 226، ح 989، باب من الزيادات، ح 9، وسائل الشيعة ج 12، ص 60، أبواب ما يكتسب به، باب 4، ح 4. (*)

 

وبعد ما عرفت من ان المتبادر من لفظة البينة في الروايات هو شهادة شاهدين فدلالة هذه الرواية على عموم حجيتها في كل موضوع - وعدم اختصاصها بباب القضاء - واضحة، إذ الجمع المعرف باللام يفيد العموم مضافا إلى تأكيد كلمة الاشياء بكلمة كلها. فمعنى الرواية ان جميع الاشياء أي: الموضوعات الخارجية على ذلك أي الحلية إلى ان تعرف بالعلم الوجداني حرمتها أو بالبينة، فجعل عليه السلام قيام البينة بمنزلة العلم في حصول غاية الحكم بالحلية في جميع الاشياء سواء أكان في باب القضاء أو غيرها. واورد على الاستدلال بهذه الرواية - على عموم حجية البينة في جميع الموضوعات - بايرادات: الاول عدم اعتبارها لان راويها مسعدة عامي ولم يوثقوه وفيه: ان عمل الاصحاب بها يوجب الوثوق بصدورها، وموضوع الحجية هو خبر الموثوق الصدور لا خبر الثقة. الثاني ان المراد بقوله عليه السلام (حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة) العلم و العلمي، فيحتاج اثبات ان البينة - أعني شهادة عدلين - دليل علمي في جميع الموضوعات سواء أكان في باب القضاء أو غير القضاء إلى دليل اخر غير هذه الرواية. وفيه انه وان تقدم ان لفظة البينة معناها لغة هي الحجة الواضحة ولعله عرفا ايضا كذلك فلو كان المراد في هذه الرواية هذا المعنى فهو كما توهم ويحتاج اثبات ان البينة بمعنى شهاد عدلين من الحجة الواضحة إلى دليل اخر غير هذه الرواية. ولكن قلنا ان هذه الكلمة بواسطة كثرة الاستعمال في شهادة اثنين على موضوع عند العرف صارت منقولا عرفيا، وأن أنكرت كونها منقولا عرفيا فلا يمكن انكار انها منقول شرعي، لما قلنا من انها في لسان الشارع ظاهرة شهادة عدلين. مضافا إلى

 

أنها لو كان المراد منها مطلق الحجة الواضحة يلزم ان يكون قسم الشيء قسيما له لوضوح ان الاستبانة اي العلم قسم من الحجة الواضحة بل اعظم واجلي مصاديقها. الثالث: أن البينة في هذه الرواية جعلت غاية للحل، فكأنه قال عليه السلام كل شيء لك حلال حتى تعلم حرمته أو تقوم البينة على حرمته ولا تدل إلا على حجية البينة لاثبات حكم الحرمة لا اثبات الموضوعات كخمرية مايع أو كرية ماء أو اجتهاد زيد أو عدالته وامثال ذلك من الموضوعات، بل لا تدل على حجيتها لاثبات سائر الاحكام الجزئية كنجاسة ذلك الشيء أو ملكيته لفلان أو زوجية فلانة لفلان و امثال ذلك، والمدعى هو عموم حجيتها في جميع الموضوعات. وفيه: ان الظاهر والمتفاهم العرفي - من هذه الرواية - هو ان الحرمة لا تثبت باحتمال ما هو موضوع الحرمة بل لا بد من العلم بالموضوع وانه سرقه أو هي رضيعة ذلك الشخص، وامثال ذلك مثل انه ميتة أو خمر أو غير ذلك أو أن تقوم البينة على ذلك الموضوع أي: يحتاج اثبات الحرمة وارتفاع الحلية على اثبات ما هو موضوع الحرمة، والمثبت للموضوعات إما العلم أو البينة، فجعل عليه السلام البينة عدلا للعلم. وحيث ان حجية العلم ذاتيه فلا يحتاج إلى جعل تشريعي، بل لا يمكن ذلك ولكن البينة ليست كذلك فيحتاج حجيتها وإماريتها إلى الجعل فلما حكم الشارع بكونها لاثبات الموضوعات مثل العلم يستكشف انها حجة وامارة لاثباتها فيثبت بها الموضوعات فيترتب عليها جميع احكامها من الحرمة والنجاسة والطهارة و الملكية والزوجية وغيرها، فإذا شهدت البينة بعدالة شخص فيجوز الصلاة خلفه و الطلاق عنده وهكذا بالنسبة إلى سائر الاحكام. وبعبارة اخرى ظاهر قوله عليه السلام (الاشياء كلها على ذلك) أي: على الاباحة حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة أي: حتى تقوم امارة العلمي أو العلم على

 

ثبوت موضوع الحرمة، فإذا ثبت بالعلم أو الذى كالعلم في الا مارية أي: البينة فيرتفع الحلية والاباحة. ثم انه بعد هذا الاستظهار من الرواية - وانها تدل على أمارية البينة لاثبات الموضوعات مثل العلم - فلا يبقى مجال لان يقال غاية ما تدل الرواية هي حجية البينة لاثبات الحرمة لا مطلق الاحكام الجزئية وموضوعاتها فالدليل يكون اخص من المدعى، لان المدعى حجيتها لاثبات جميع موضوعات الاحكام وضعية كانت ام تكليفية والتكليفية حرمة كانت أو غيرها، ومفاد الدليل هو حجيتها في خصوص اثبات الحرمة لا سائر الاحكام ولا الموضوعات مطلقا. وذلك من جهة ان هذه الموضوعات التى يعدها عليه السلام في الرواية - من كون المال سرقة أو كون المملوك حرا قهر عليه أو خدع فبيع أو كون المرأة التى تحته اخته أو رضيعته - جعلها فيما إذا كانت مشكوكة موارد لقاعدة الحل الا فيما إذا استبان احد هذه الامور أو قامت عليه البينة، فكما انه لو علم بوجود أحد هذه الامور يترتب عليه جميع احكامه لا خصوص الحرمة فكذلك في صورة قيام البينة: والمشار إليه لكلمة على ذلك في قوله عليه السلام الاشياء كلها على ذلك، وان كان هي الحلية لكن موضوع الحلية في هذه الجملة وهو الاشياء عبارة عنها مع الشك في حكمها من ناحية الشك في موضوع الحرمة بعد الفراغ عن معلومية حكم الموضوعات من ناحية الشبهة الحكمية، فيكون المراد من الاستثناء بقوله عليه السلام (حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة) استبانة الموضوع وانه مما هو محرم كالسرقة وكون المملوك حرا وكون المرأة اخته أو رضيعته وغير ذلك من الموضوعات المحرمة. وكذلك الامر في قيام البينة أي: الموضوعات المشكوكة انها من الموضوعات المحللة أو من الموضوعات المحرمة فهى حلال الا ان يثبت كونها من الموضوعات

 

المحرمة، وطريق اثباتها إما العلم أو البينة، فتدل الرواية على ان البينة مثل العلم طريق مثبت للموضوعات، فيترتب عليها احكامها مطلقا حرمة كانت أو غيرها و هو المطلوب. وبناء على ما ذكرنا فلا يبقى مجال لان يقال غاية ما تدل عليه هذه الرواية هو حجية البينة فيما إذا قامت على الحرمة فلا يقتضى حجيتها على الموضوع فضلا عن عمومها لجميع الموضوعات، لما عرفت من دلالة هذه الرواية على ان البينة مثبتة للموضوعات مثل العلم، فكما ان العلم مثبت لجميع الموضوعات فكذلك البينة، و لا فرق بينهما الا ان طريقية العلم ذاتية وجدانية وطريقية البينة جعلية تعبدية و امضاء لبناء العقلاء على حجيتها. فلا يحتاج إلى أن يتكلف بان قيام البينة على الحرمة اعم من ان تكون الحرمة مدلولا التزاميا أو مطابقيا لما قامت عليه، فإذا قامت على موضوع محرم - كالسرقة أو كون المرأة اختا له أو رضيعته أو كونه حرا فبيع وما شابهها - فقد قامت على الحرمة التزاما، ثم بعدم القول بالفصل - بين مثل هذه الموضوعات وغيرها مما ليس حكمها الحرمة - يتم المطلوب أي: عموم حجيتها على جميع الموضوعات والانصاف ان هذا يشبه الاكل من القفا. الثاني: من أدلة حجيتها هو الاجماع وادعته جماعة، وفى الجواهر نفى وجدانه للخلاف في اثبات النجاسة بها ولم ينقل الخلاف الا من القاضي بن البراج وظاهر عبارة الكاتب والشيخ (قده) قال في الجواهر: بل لا اجد فيه خلافا الا ما يحكى عن القاضي وعن ظاهر عبارة الكاتب والشيخ ولا ريب في ضعفه) (1). ولا ريب في ان المتتبع في كلام الاصحاب يجد تسالمهم على اثبات كل موضوع

 

(هامش)

 

: 1 - جواهر الكلام ج 6، ص 172. (*)

 

ذى حكم شرعى بها فانهم يعترفون بثبوت النجاسة والطهارة والقبلة والوقت للصلاة واسباب التحريم في باب النكاح من النسب والرضاع وثبوت الوكالات للاشخاص وعزلهم والوصايا إلى غير ذلك من الموضوعات أو الاحكام الجزئية بها من غير نكير لاحدهم في اثبات هذه الامور بها الا الشاذ الذى لا يعبأ بخلافه، بل المخالف الشاذ ايضا لا يخالف الا في بعض الموارد الجزئية بجهة اخرى غير انكار حجية البينة، بل يدعى مثلا ان ارتفاع الطهارة لا يكون الا بالعلم بالنجاسة لان طهارة المشكوك مغياة بالعلم بالخلاف والبينة ليست بعلم. وان كان هذا الكلام باطلا لان أدلة حجية البينة بل الاستصحاب بل كل حجة شرعية على النجاسة - كاخبار ذى اليد أو خبر العدل الواحد - لو قلنا بحجيته - تكون حاكمة على قاعدة الطهارة. والحاصل ان الفقهاء لا يزال يستدلون على ثبوت الموضوعات التى لها احكام بقيام البينة عليها ولا ينكر على المستدل بها احد منهم الا المناقشات في تحقق البينة و في جهات اخر غير جهة حجيتها نعم هاهنا مطلب اخر وهو انه تقدم منا مرارا في هذا الكتاب ان هذه الاجماعات ليست مما هو مصطلح الاصولي التى ثبتت هناك حجيتها لاحتمال اعتماد المتفقين بل الاطمئنان بانهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك المذكورة أو على كلها. نعم هذا الاتفاق والتسالم منهم يؤيد ما استظهرنا من رواية مسعدة بن صدقة (1) من مفروغية حجية البينة وانها مثل العلم في اثبات موضوعات الاحكام بها. الثالث: من أدلة حجيتها في جميع الموضوعات الروايات: منها: ما هو المروى في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سليمان عن الصادق عليه السلام

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم في ص 11، رقم (2). (*)

 

في الجبن كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة (1) وظاهر هذا الخبر ان ارتفاع الحلية عن مشكوك الحلية والحرمة لا يكون الا بقيام شاهدين على تحقق موضوع الحرمة وثبوته وهو في المورد عبارة عن كون الميتة فيه أي: في الجبن. فتكون الرواية ظاهرة في ان قيام الشاهدين على وجود موضوع الحرمة - أي: كون الميتة فيه - امارة على وجوده، ومعلوم انه عليه السلام بصدد بيان ان شهادة شاهدين بمنزلة العلم في اثبات ما قامت عليه ولا خصوصية للميتة وانما ذكرها في الرواية لبيان المورد والا فلا خصومية فيها. وأما الاشكال عليها بضعف السند ففيه ان اتفاق الاصحاب على حجية البينة في جميع الموضوعات الا الشاذ منهم يكون جابرا لضعف سندها وموجبا للوثوق بصدورها الذى هو موضوع الحجية، وقد حررنا المسألة من هذه الناحية في كتابنا - منتهى الاصول - (2) ومن أراد فليراجعها. ومنها: الاخبار الكثيرة الواردة في ثبوت الهلال بشهادة عدلين - أي: البينة - كصحيح الحلبي عن ابى عبد الله عليه السلام ان عليا (ع) كان يقول لا اجيز في رؤية الهلال الا شهادة رجلين عدلين (3) وصحيح منصور بن حازم عنه ايضا انه عليه السلام قال صم لرؤية الهلال وافطر لرؤيته فان شهد عندكم شاهدان مرضيان بانهما رأياه فاقضه (4) وروايات اخر

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 6، ص 339، باب الجبن، ح 2، وسائل الشيعة ج 17، ص 91، أبواب الاطعمة المباحة، باب 61، ح 2. 2 - منتهى الاصول ج 2، ص 91 و 613. 3 - تهذيب الاحكام ج 4، ص 180، ح 499، باب فضل صيام يوم الشك، ح 71، وسائل الشيعة ج 7، ص 208، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح 8. 4 - تهذيب الاحكام ج 4، ص 157، ح 436، باب علامة أول شهر رمضان وآخره، ح 7، الاستبصار ج 2، (*)

 

كهاتين الصحيحتين وبهذا المضمون تقريبا. وتقريب الاستدلال بهذه الروايات انه عليه السلام بصدد أنه لا يثبت الهلال الا بالرؤية والعلم أو بما هو بمنزلة العلم في إثبات ما قام عليه، فكأنه عليه السلام جعل أمارية البينة و كونها بمنزلة العلم أمرا مفروغا عنه ومن السلمات، ولذلك قال عليه السلام (إذا شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه) لأن شهادتهما بالرؤية بمنزلة علمك بها مثبت لها. وأيضا ظاهر هذه الروايات أن الحكم بشهادة عدلين لكونها مثبتة وأمارة و لا دخل في كون متعلقها رؤية الهلال في أماريتها ولكن مع ذلك كله ظهور هذه الروايات في عموم حجية البينة - بالنسبة إلى جميع الموضوعات وعدم اختصاصها بإثبات الهلال - لا يخلو من تأمل وإشكال. فالاحسن أن تجعل هذه الروايات من المؤيدات لعموم حجيتها وكونها مؤيدة له لقوة احتمال عدم كون المتعلق وهو رؤية الهلال - دخيلا في اعتبارها. ومنها: الاخبار الواردة في باب الدعاوى وانها وظيفة المدعى وتثبت بها دعواه كقوله عليه السلام (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) (1) وتقريب الاستدلال بها ان حجيتها في مقابل المدعى مع كونه صاحب اليد وله امارة الملكية أو غيرها مما هو محل النزاع تدل على حجيتها بطريق اولى فيما إذا لم يكن مدع وصاحب يد في البين، لانه عليه السلام إذا قال انها حجة على ما قامت عليه مع معارضتها بحجة اخرى من قبل الخصم فالظاهر والمتفاهم العرفي من هذه العبارة حجيتها فيما إذا لم يكن لها معارض بالاولوية القطعية.

 

(هامش)

 

. ص 63، ح 205، باب علامة أول شهر رمضان، ح 7، وسائل الشيعة ج 17، ص 208، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 11، ح 4. 1 - تقدم في ص 10، رقم (4). (*)

 

والسر في ذلك انه عليه السلام جعل البينة طريقا ومثبتا لما قامت عليه وكاشفا له بحيث لا يبقى مع وجودها للمدعى اعتبار ليد المنكر في قبالها. ومنها: قوله عليه السلام (إذا شهد عندك المسلمون فصدقهم) (1). وحكى ايضا (إذا شهد عندكم المؤمنون فاقبلوا) (2). وتقريب الاستدلال بهما هو ان المراد بالشهادة قيام البينة على شيء أو امر فيجب تصديقها أو قبول قولهما وفيه: ان ظاهرهما على فرض ان يكون المراد من التصديق والقبول ترتيب الاثر على قولهم ولزوم العمل على طبق مقالتهم حجية خبر كل مؤمن ومسلم سواء أكان عادلا أم لا وسواء أكان واحدا ام كان المخبر متعددا. وبعبارة اخرى: مفاد هما حجية خبر كل فرد من أفراد المسلمين أو المؤمنين الذي معلوم عدمها نعم ربما يقال بحجية خير كل ثقة في الموضوعات ايضا مثل الاحكام ولكنه بهذا العموم لم يقل به احد. والحق ان هاتين الروايتين على فرض صحة سندهما مفادهما مفاد قوله تعالى (يؤمن باالله ويؤمن للمؤمنين) (3) فيكون المراد منهما ما قيل في تفسير الآية من القبول الصوري وعدم تكذيبهم والانكار عليهم أو بعض مراتب التصديق النفسي فيما ينفعهم أو غيرهم ولا يكون مضرا لغيرهم، لا ترتيب الاثار الواقعية على ما اخبروا به وان كان يضر غيرهم. الرابع: الآيات:

 

(هامش)

 

: 1 - الوافي ج 5 ص 299، باب في حفظ المال وكراهة الاضاعة، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 230، أبواب كتاب الوديعة، باب 6، ح 1. وفيهما: المؤمنون بدل المسلمون . 2 - لم نجده في وسائل الشيعة وبحار الانوار ومستدرك الوسائل. 3 - التوبة (9): 61. (*)

 

منها: قوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (1) وقوله تعالى (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم) (2) وقوله تعالى (واشهدوا ذوي عدل منكم) (3) وقوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) (4) فالاية الاولى وان كانت في مورد القرض والاستشهاد عليه، والثانية في مورد الوصية، والثالثة في مورد جزاء الصيد في حال الاحرام وحكم رجلين عدلين و شهادتهما بالمثلية للصيد. ولكن يستظهر منها ان الله تبارك وتعالى جعل البينة أي شهادة رجلين عدلين طريقا وكاشفا مثل العلم ويثبت بها كل موضوع قامت عليه سواء أكان أحد هذه الثلاثة - أي: القرض والوصية وكون الجزاء مثل الصيد - أو غيرها من سائر الموضوعات وكذلك الآيات التي تدل على وجوب تحمل الشهادة ووجوب ادائها وحرمة كتمانها - كقوله تعالى (واقيموا الشهادة لله) (5) وقوله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (6) وقوله تعالى (ومن يكتمها فانه اثم قلبه) (7) ظاهرة بالدلالة الالتزامية في وجوب قبولها وإلا يكون وجوب تحملها ووجوب ادائها وحرمة كتمانها لغوا وبلا فائدة.

 

(هامش)

 

: 1 - البقرة (2): 282. 2 - المائدة (5): 106. 3 - الطلاق (65): 2. 4 - المائدة (5): 95. 5 - الطلاق (65): 2. 6 - البقرة (2): 283. 7 - البقرة (2): 283. (*)

 

نعم ظاهر هذه الآيات وجوب قبول إخبار العادل بموضوع من الموضوعات و ان كان واحدا ولكن ان يقال بتقييد اطلاقها بكونها متعددة إما بالاجماع أو بالأخبار كرواية مسعدة بن صدقة (1) وغيرها. وخلاصة الكلام ان الفقيه المتتبع - في موارد قبول شهادة الرجلين العادلين إذا أمعن النظر فيها ولاحظ وتدبر - يقطع بأنه لا خصوصية لتلك الموارد بل تكون حجيتها عامة في جميع الموضوعات إلا ما خرج عن تحت ذلك العموم بادلة خاصة. فما روى الصدوق (قده) - في كتاب عرض المجالس عن الصادق عليه السلام وفيه: (فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من اهل العدالة (2) - ظاهر في ان شهادة العدلين في ارتكاب الذنب مثل رؤيته طريق مثبت لارتكاب الذنب و معلوم انه لا خصوصية لارتكاب الذنب من بين سائر الموضوعات. والانصاف ان انكار حجية البينة العادلة - الذي نسب إلى القاضي عبد العزيز بن براج (3) في اثبات النجاسة، وكذا ما هو الظاهر من السيد في الذريعة (4) والمحقق الاول في المعارج (5) والثانى في الجعفرية (6) وبعض اخر - قدس الله أسرارهم - من ان الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه - لا وجه له بعد ما عرفت توافر الآدلة على عموم حجيتها الخامس: من أدلة حجيتها هي سيرة العقلاء من كافة الملل وان لم يكونوا من

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم في ص 11، رقم (2). 2 - الامالي للصدوق، ص 91، ح 3، وسائل الشيعة ج 18، ص 292، أبواب كتاب الشهادات، باب 41، ح 13. 3 - جواهر الفقه ص 9، مسألة 9. 4 - الذريعة ج 2، ص 81. 5 - معارج الاصول ص 201. 6 - الجعفرية ضمن رسائل المحقق الكركي، ج 1، ص 80. (*)

 

أهل الدين، فجميع الملل والعقلاء يرون شهادة شخصين - غير متهمين ولا معروفين بالكذب ولا مغرضين بالنسبة إلى المشهود عليه - طريقا مثبتا لما قامت عليه في احكامهم العرفية بالنسبة إلى جميع الموضوعات. والحاصل ان كون شهادة شخصين بالقيود التي عندهم من الامارات العرفية و طريقا مثبتا لاي موضوع تعلقت به من المسلمات عندهم، وعليها - أي: حجية البينة في اثبات جميع الموضوعات التي لها اثار عندهم - استقرت سيرتهم في معاملاتهم و معاشراتهم وسياساتهم ولم يرد ردع من قبل الشارع بل وردت إمضاآت من قبل الشارع على العمل على طبقها وهي موارد الاخبار الكثيرة المتقدمة، بل يمكن ادعاء جريان سيرة المتشرعة بما هم متشرعة على حجيتها. نعم خصصت هذه القاعدة في موارد مثل شهادتهما على الزناء واللواط و امثالهما مما لا يكتفي بشهادة الاثنين بل ثبوتهما يحتاج إلى شهادة اربع من العدول، وكالشهادة على الميت بكونه مديونا بكذا فانها اي البينة لا تقبل الا مع ضم يمين المدعى إليها، وكشهادتهما على النفي بناء على عدم قبول بينة النفي، وكبينة المنكر المسمى ببينة الداخل بناء على اختصاص هذه الوظيفة بالمدعى وغير ذلك. فهذة قاعدة شرعية قابلة للتخصيص كسائر العمومات الصادرة من الشارع، فيجب الاخذ بها والعمل على طبقها إلا أن يرد دليل وحجة من قبله على التخصيص، وإذا حصل الشك في مخصصية شيء يؤخذ بأصالة العموم كما هو الحال في سائر الموارد. ثم ان هاهنا امور ينبغي ان يذكر. [ الامر ] الاول: في انه بعد ما عرفت من عموم حجية البينة في كل موضوع فاعلم انه لا بد وان يكون له اثر شرعي لانه إذا لم يكن له اثر شرعي لا معنى للتعبد

 

بقبولها. ففي كل مورد لا يكون عدم شيء أو وجوده أو بقاؤه محرزا بالوجدان، والشارع أمر بترتيب الاثر على عدمه، كما في مورد أصالة البرائة أو على وجوده كما في موارد الامارات والاصول المثبتة للتكاليف والاحكام أو لما هو موضوع للحكم الشرعي أو على بقائه وعدم ارتفاعه كما في موارد الاستصحاب - لا بد وان يكون لذلك الوجود أو ذلك العدم أو لبقاء ذلك الشيء بعد القطع بحدوثه سواء أكانت تلك الحالة السابقة هو الوجود أو العدم اثر شرعي كي يكون أمر الشارع بالتعبد بلحاظ ترتيب ذلك الاثر فلا بد في مورد قيام البينة ايضا ان يكون لما قامت عليه اثر شرعي. فان كان موضوع الاثر أمرا محسوسا وقامت البينة عليه فلا كلام، وأما إن لم يكن من الامور المحسوسة - كالعدالة والاجتهاد وسائر الحالات والملكات النفسانية التي لثبوتها اثر شرعي - فهل تقبل البينة فيها أم لا ؟ والتحقيق في هذا المقام هو ان ادلة حجية البينة - سواء كانت هي سيرة العقلاء أو الاجماع أو الاخبار أو الآيات - ظاهرة فيما إذا كان اخبارهما عن حس، إذ هو المتفاهم العرفي عن لفظة الشهادة والبينة. ولكن المشهود به قد يكون من الامور المحسوسة بنفسه، كما إذا شهدا باطلاق ماء أو اضافته أو خمرية مايع وغير ذلك من الامور المحسوسة باحد الحواس الخمسة التي لها اثار شرعية، وهذا هو الذي لا كلام في حجية البينة فيها بناء على عموم حجيتها في جميع الموضوعات. وقد لا يكون من الامور المحسوسة باحد الحواس الخمسة بنفسه ولكن له اثار محسوسة، بحيث تكون بينها وبين ذلك المشهود به ملازمة عرفية، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات ايضا تقبل وتكون احساسها باحساس اثارها غير المنفكة عنها عند العرف.

 

وكذلك إذا كان لها اسباب محسوسة مثل الطهارة والنجاسة والزوجية و الملكية وغير ذلك من الاعتبارات الشرعية أو العرفية التي لها اسباب محسوسة، فالشهادة بمثل هذه الموضوعات ايضا تقبل لامكان عدها في المحسوسات باعتبار كون اسبابها محسوسة. ويمكن ان يقال ان الشهادة على هذا المسبب غير المحسوس شهادة على السبب المحسوس بالالتزام، فإذا ثبت السبب بها لكونه محسوسا يثبت المسبب للملازمة بينهما وحيث ان البينة من الامارات ولا مانع من اثبات لوازم ما قامت عليه، وكذلك ملزوماته بها. فتلخص مما ذكرنا ان نفس المشهود به إذا كان من المحسوسات فيثبت بالبينة وكذلك فيما إذا كان له سبب محسوس أو كان له أثر محسوس وأما فيما عدا ذلك فلا دليل على وجوب قبولها، لان دليل حجيتها إما الاخبار والآيات فهي لا تدل إلا على حجية البينة إذا كانت شهادتهما واخبارهما عن مشاهدة وعيان. وبهذا الاعتبار يطلق على اخبارهما بشئ لفظة الشهادة وذلك لان المتفاهم العرفي من كلمة الشهادة هو الاخبار عما عايناه وعلماه باحدى الحواس الخمس لا مطلق الاخبار عن علم، ولذلك لا يقال للاخبار عن رأيه واعتقاده فيما إذا أخبر المجتهد عن رأيه انه شهد بذلك، وكذلك إخبار أهل الخبرة عن رأيه في موضوع يتعلق بفنه ليس من باب الشهادة ولذلك لو قلنا بحجية قول اهل الخبرة كما هو كذلك لقيام سيرة العقلاء عليها لا يعتبر فيه التعدد ولا العدالة. وإما الاجماع والسيرة - اي: بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة - فلان القدر المتيقن منهما هو فيما إذا كان اخبارهما باحد الطرق الثلاث أي: يكون نفس المشهود به من المحسوسات أو له اثار محسوسة أو يكون له سبب محسوس.

 

الامر الثاني: في أن البينة هل هي عبارة عن شهادة رجلين ؟ وشهادة المرأة خارجة عن البينة موضوعا أم هي أيضا بينة ولكن اعتبر شرعا فيها بدل كل واحد من الرجلين امرأتان، فتكون البينة - فيما إذا كن شاهدات - عبارة شهادة اربع امرأة ؟. ثم على تقدير كون البينة صادقة على شهادتهن عرفا - غاية الامر مقيدة بكون عددهن أربع اجماعا - فهل يكون مقتضى عموم حجية البينة حجية شهادتهن في جميع الموضوعات الا ما خرج بالدليل - كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما مما لا تجوز شهادتهن فيها لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال لنصوص وردت في عدم جواز شهادتهن فيها - أم لا بل قبول شهادتهن في اي موضوع يحتاج إلى ورود دليل على القبول في ذلك الموضوع ؟ وإلا فمقتضى الاصل عدم القبول لا منفردات ولا منضمات ولا في باب الدعاوي ومقام المخاصمة ولا في غيرها ؟. ربما يستشهد لعموم حجيته شهادتهن الا ما خرج بالدليل برواية عبد الكريم بن ابي يعفور عن الباقر (ع) قال (ع) تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من اهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف مطيعات للازواج تاركات للبذاء و التبرج إلى الرجال في انديتهم) (1). وفيه ان ظاهر هذه الرواية انه (ع) في مقام بيان شروط قبول شهادة المرأة وان أي امرأة تقبل شهادتها لا في مقام بيان انه في أي موضوع تقبل كي يؤخذ باطلاقها. والتحقيق في المقام أما في الاول - أي: في شمول مفهوم البينة حسب المتفاهم العرفي لشهادة النساء وعدم خروجها عن مفهوم البينة موضوعا - فالظاهر انها ليست بخارجة عنها موضوعا، بل البينة عبارة: عن شهادة اثنين سواء أكانا رجلين

 

(هامش)

 

: 1 - تهذيب الاحكام ج 6، ص 242، ح 597، باب البينات، ح 1، الاستبصار ج 3، ص 13، ح 34، باب العدالة المعتبرة في الشهادة، ح 2، وسائل الشيعة ج 18، ص 294، أبواب كتاب الشهادات، باب 41، ح 20. (*).

 

أو امرأتين اللهم الا ان يدعى انصرافها إلى الرجلين. وعلى كل تقدير لا شك في ورود الدليل على قبول شهادتهن منفرادت في بعض الموارد ومنضمات إلى الرجال في موارد اخر. والفرق بين الصورتين انه بناء على عدم شمول مفهوم البينة لشهادتهن وضعا أو انصرافا ففيما إذا لم يوجد دليل خاص على القبول في مورد فمقتضى الاصل عدم القبول، وأما بناء على الشمول فلو كان عموم أو اطلاق بالنسبة إلى حجية البينة في كل موضوع - كما ادعينا وجوده - فمقتضى ذلك العموم أو ذلك الاطلاق هو قبول شهادتهن الا ان يأتي دليل في ذلك المورد على عدم القبول. وقد تعرض الفقهاء في كتاب الشهادات لموارد القبول وعدمه منفردات و منضمات إلى الرجال، والروايات الواردة في باب شهادة النساء مختلفة جدا، فمفاد بعضها جواز شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال ان ينظروا إليه ويشهدوا عليه، (1) وظاهر هذا القسم من الروايات انحصار القبول فيما ذكر وعدم قبولها فيما يستطيع الرجال ان ينظروا إليه، ومفاد بعضها جواز شهادتهن في النكاح منضمات إلى الرجال وعدم قبولها في الطلاق (2). ومفاد بعضها عدم قبولها في الطلاق والهلال، معللا بضعف رؤيتهن ومحاباتهن (3) إلى غير ذلك من الاختلافات بينها. وتفصيل هذه المسألة في كتاب الشهادات وليس هاهنا مقام بحثها، والغرض هاهنا بيان حكم مورد الشك وعدم وجود دليل لا على القبول ولا على عدم القبول. وقد ذكرنا الفرق بين عدم شمول اطلاقات أدلة حجية البينة لشهادتهن وشمولها لها، ففي الصورة الاولى مقتضى الاصل عدم القبول وفي الثانية قبولها وجوازها في

 

(هامش)

 

: 1 - وسائل الشيعة ج 18، ص 258، أبواب كتاب الشهادات، باب 24، ح 4، 5، 7، و 9. 2 - وسائل الشيعة ج 18، ص 258، أبواب كتاب الشهادات، باب 24، ح 5، 7، و 11. 3 - وسائل الشيعة ج 18، ص 258، أبواب كتاب الشهادات، باب 24، ح 8، 10 و 11 (*).

 

مورد الشك لعدم دليل لا على القبول ولا على عدمه. الامر الثالث: في انه بعد ما عرفت حجية البينة في جميع الموضوعات التي لها اثر شرعي فيجب على كل من علم بقيام البينة واجدة لشروط اعتبارها على موضوع ترتيب اثر ذلك الموضوع عليه ان كان الاثر المترتب على ذلك الموضوع مما يكون مربوطا إليه سواء أكان غيره أيضا شريكا معه في هذا الاثر أم لا مثلا إذا شهد شاهدان عدلان عنده انك تركت في هذه الصلاة - التي صليتها الان احد اركانها فيثبت بالبينة المعتبرة هذا الموضوع أي: فقدان صلاته للركن الفلاني. ولكن ثبوت هذا الموضوع لا اثر له الا لنفس المصلي إذا كان ما قرأه صلاة نفسه فيجب عليه الاعادة أو القضاء إذا قامت عنده البينة أو علم بوجودها، ولا اثر لقيام هذه البينة في حق غيره. وأما إذا كان غيره شريكا معه في هذا الاثر كما إذا قامت البينة المعتبرة على نجاسة هذا المايع مثلا فمن اطلع على هذه البينة يجب عليه الاجتناب عن هذا المايع. وقد يكون اثر ذلك الموضوع مخصوصا بالغير كقيام البينة عند زيد على ان عمروا مثلا فات عنه الصلاة الفلانية، فهذه البينة بالنسبة إلى زيد لا اثر له، فان علم عمرو بوجود مثل هذه البينة يجب عليه ترتيب الاثر وإلا فلا يجب شيء لا على عمرو ولا على زيد. ثم انه لا يخفى ان ما ذكرناه مبني على ان يكون العلم بقيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع مثبتا لذلك الموضوع عند العالم بقيام البينة عند ذلك الشخص، فيجب ترتيب اثر ذلك الموضوع عليه وان لم يقم عنده البينة، مثلا لو علم بان شاهدين عدلين شهدا عند زيد بأنهما رأيا هلال شوال فبناء على عموم حجية البينة أو حجيتها في خصوص الهلال مثلا يجب على هذا العالم بقيام البينة عند زيد ترتيب اثر شوال أي: الافطار وحرمة الصوم.

 

أما لو قلنا بان قيام البينة المعتبرة عند شخص على موضوع لا يثبت ذلك الموضوع الا لمن قامت عنده البينة - وأما بالنسبة إلى غيره فلا يثبت ذلك الموضوع ولو علم بقيام البينة على وجوده عند شخص اخر. فليس الامر كما ذكرنا وقلنا من الاقسام الثلاثة بان الاثر اما مخصوص بنفس من قامت عنده البينة فيجب عليه ترتيب ذلك الاثر فقط ولا ربط لقيامها بالاخرين واما غيره شريك معه فيجب ترتيب الاثر منه ومن غيره واما مخصوص بغيره فيجب ترتيب الاثر من ذلك الغير فقط دون نفسه. والظاهر من أدلة عموم حجية البينة - سواء أكانت الاخبار والآيات أو كانت هي سيرة المتشرعة وبناء العقلاء - ان قيامها عند أي شخص على موضوع ذي اثر شرعا مثبت لذلك الموضوع للجميع، فكل من كان ثبوت ذلك الموضوع له اثر يجب عليه ترتيب ذلك الاثر سواء أكان من له اثر هو من قامت البينة عنده أو غيره أو كانا شريكين. ثم انه بناء على القول الآخر أي: اختصاص ثبوت مؤدي البينة بمن قامت عنده فلا يجب التعرض للاخر سواء أكان الآخر شريكا معه في اثر ذلك الموضوع الذي قامت عليه البينة، أو كان الاثر مخصوصا بذلك الغير، لان المفروض بناء على هذا القول عدم ثبوت المؤدي له وهو باق على جهله. ولا يتوهم ان له التعرض من باب الامر بالمعروف إذا كان اثر المؤدي هو الوجوب عليه، ككون المؤدي مثلا روية هلال شهر رمضان ومن باب النهي عن المنكر إذا كان المؤدي هي الحرمة، وذلك ككون المؤدي رؤية هلال شوال باعتبار حرمة الصوم في ذلك اليوم في الفرض الثاني ووجوبه في الفرض الاول - لان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر موردهما فيما إذا تنجز التكليف وجوبا في الاول وحرمة في الثاني على المكلف وقام عليه البيان، والمفروض في المقام ان ذلك الغير جاهل و

 

لم يصل التكليف إليه ولم ينجز عليه لعدم ثبوت مؤدي البينة لغير من قامت عنده البينة على هذا القول. نعم لو كان ما قام عليه البينة من المحرمات الكبيرة التي يكون وجودها مبغوضا عند الشارع ولو كان صادرا عن غير المكلفين - كما إذا كان المرتكب صغيرا أو مجنونا أو جاهلا أو غير ذلك مما يرفع الحرمة - فله التعرض والمنع ولكن لا بمناط النهي عن المنكر، بل بمناط حكم العقل بلزوم المنع عن ايجاد ما هو مبغوض وجوده عند الشارع وان كان المرتكب غير مكلف بتركه ولا يعاقب على فعله لرفع القلم عنه لصغره أو لجنونه أو لكونه مكرها على فعله أو لم يتنجز عليه لجهله وعدم وصول التكليف إليه. تتميم وهو انه هل الخبر الواحد الذي مخبره عادل حجة في الموضوعات كما انه حجة في باب الروايات التي مفادها نقل الاحكام عن الامام (ع) أم لا ؟ ذهب جماعة إلى الاول واستدلوا على حجيته في الموضوعات ايضا بسيرة العقلاء وبنائهم أولا وبالاخبار ثانيا. فنقول: أما وجود السيرة وبناء العقلاء على قبول خبر الثقة وان كان غير بعيد الا انه اولا خبر الثقة غير خبر العادل وبينهما عموم وخصوص من وجه، إذ يمكن أن يكون خبر عدل ولا يكون ثقة لكثرة الاشتباه أو عدم الضبط أو غيره ذلك. وأما كونه ثقة وغير عادل فامكانه من الواضحات، بل يمكن ان يكون كافرا و ثقة في اخباره لتحرزه عن الكذب وان ادعى المدعي تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد فعهدة هذه الدعوى عليه، إذ العقلاء لا يهتمون بعدالة المخبر خصوصا إذا كانوا من غير اهل الدين بل ردهم وقبولهم دائر مدار الوثوق بالمخبر وان كان كافرا فضلا

 

عن ان يكون فاسقا، هذا أولا. وثانيا: على فرض تحقق السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر العدل الواحد تكون رواية مسعدة بن صدقة - (الاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة) (1) - رادعة عن هذه السيرة، كما انها رادعة عن السيرة وبناء العقلاء على حجية خبر الثقة أيضا، من جهة ان ظاهر الرواية حصر غاية الحلية فيها في الاستبانة وقيام البينة، فلو كان خبر العدل الواحد أو خبر الثقة إذا كان المخبر واحدا حجة فلم يكن وجه للحصر في ذينك الامرين. ان قلت ان خبر العدل الواحد إذا كان حجة وكذلك خبر الثقة يكون داخلا في الاستبانة تعبدا لحكومة أدله حجية الخبر العدل الواحد وكذلك أدلة حجية خبر الثقة على الدليل الذي اخذ الاستبانة غاية للحلية كرواية مسعدة، كما ان استصحاب الحرمة أيضا حاكم وذلك لما ذكرنا في الاصول ان الامارات والاصول التنزيلية لها حكومة على العلم الذي اخذ في الموضوع على وجه الطريقة (2). قلنا: ان هذا الكلام صحيح ولكن لازمه ان يكون خبر العدل الواحد أو الخبر الثقة الذي يكون مخبره واحدا عدلا للبينة فكأنه (ع) قال: الاشياء كلها على الحلية الا ان تعلم بموضوع الحرمة أو يخبر عدل واحد أو عدلان بما هو موضوع الحرمة وجعل العدل الواحد عدلا للعدلين في غاية الركاكة خصوصا إذا كانت شهادة العدلين تدريجيا لا دفعة واحدة لانه مع شهادة العدل الاول يثبت الموضوع، فشهادة الثاني يكون لغوا وبلا اثر، بل يكون اعتبارها لثبوت المؤدى من قبيل تحصيل الحاصل، فاعتبار التعدد مع ثبوت المؤدي بواحد متنافيان. نعم اعتبار التعدد في خبر العدل غير الثقة مع ثبوت المشهود به بخير الواحد

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم تخريجه في ص 11، رقم (2). 2 - منتهى الاصول ج 2، ص 22 و 538 - 539 (*).

 

الثقة لا تنافي بينهما ولكن اعتبار خبر الواحد الثقة مع اطلاق اعتبار التعدد في خبر العدل أي: وان كانا ثقتين متنافيان. فظهر مما ذكرنا انه مع اعتبار خبر العدل الواحد أو خبر الواحد الثقة لا يبقى لاعتبار التعدد وحجية البينة مجال، فمن دليل حجية البينة وإعتبارها يستكشف عدم اعتبار خبر العدل الواحد أو خبر الواحد الثقة فتكون رواية مسعدة رادعة للسيرة وبناء العقلاء على فرض تحققها. هذا مضافا إلى خبر عبد الله بن سليمان المروي في الكافي والتهذيب في الجبن: (كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة) فجعله (ع) غاية الحلية مجئ شاهدين يشهدان ان فيه ميتة يدل على عدم كفاية مجئ شاهد واحد ولو كان عدلا أو ثقة (1). وخلاصة الكلام ان اعتبار التعدد كما في البينة مع عدم اعتبار التعدد كما في خبر العدل الواحد - أو خبر الثقة الواحد كما هو ادعاء الطرف - مما لا يجتمعان إذ هما متناقضان. اللهم الا ان يقال بعدم اعتبار خبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد في كون الميتة في الجبن وهو لا يخلو مضافا إلى بعده من الغرابة. واما الاخبار التي استدلوا بها على حجية الخبر العدل الواحد وخبر الثقة الواحد: فمنها: حسنة حريز أو صحيحته المروية في الكافي وفيها بعدما وبخ الصادق (ع) ابنه اسماعيل في دفعه دنانير إلى رجل شارب الخمر بضاعة ليعامل بها ويعطي مقدارا من النفع لاسماعيل فاتلف النقود ذلك الرجل قال (ع) له: (لم فعلت ذلك ولا اجر لك ؟) فقال اسماعيل يا ابت اني لم اره يشرب الخمر اني سمعت الناس

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم تخريجه في ص 17، رقم (1) (*).

 

يقولون، فقال: (يا بني ان الله عزوجل يقول في كتابه (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (1) يقول: يصدق الله ويصدق المؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (2) ولا شك في ان قوله (ع) إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، كلمة المؤمنون فيه - حيث انها جمع معرف باللام - يفيد العموم الاستغراقي لان العام المجموعي - بمعنى انه إذا شهد عندك جميع المؤمنين معا فصدقهم - قطعا ليس بمراد لان شهادة جميع المؤمنين الموجودين في الدنيا على موضوع عادة غير ممكن ومحال. فإذا كان العام استغراقيا فتنحل إلى قضايا متعددة حسب عدد افراد المؤمنين كسائر العمومات فيكون مفاد هذه الجملة ان اي واحد من المؤمنين إذا شهد عندك بموضوع - سواء أكان هو شرب الخمر كما انه هو المورد أو كان غيره - فصدقه. ومعلوم ان معني التصديق في المقام هو ترتيب اثر المشهود به على شهادته، وهذا معنى وجوب قبول خبر الثقة والعدل الواحد، وقد روي بعضهم (إذا شهد عندك المؤمنون فاقبلوا) (3) وفيه: اولا ان احدا لم يقل بحجية خبر كل مؤمن بل كل مسلم لما حكى بعضهم المسلمون في هذه الرواية بدل المؤمنون. وثانيا: لم يقل احد بحجية خبر الثقة أو العدل الواحد في باب الحدود بل ينفي تصديق المؤمن الواحد في باب ارتكاب الذنب ما رواه الصدوق في كتاب عرض المجالس وفيه: فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من

 

(هامش)

 

: 1 - التوبة (9): 61. 2 - الكافي ج 5، ص 299، باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الاضاعة، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 230، أبواب كتاب الوديعة، باب 6، ح 1. 3 - تقدم ذكره في ص 19، رقم (2) (*).

 

اهل العدالة والستر) (1). وثالثا من المقطوع عدم حجيتهما في مقام المخاصمة ومقابل ذي اليد. ورابعا يجب تقييدها - اي الحجية بكونهما متعددا - برواية مسعدة بن صدقة (2) وخبر عبد الله بن سليمان (3). هذا كله مضافا إلى انه ليس المراد من وجوب تصديقهم ترتيب الاثر على ما يخبرون به وان كان فيه ضرر على الغير لما ورد (كذب سمعك وبصرك عن اخيك فان شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم (4) اي فيما يضره ولا ينفعهم. فالمراد من وجوب تصديقهم وكذا من قبول قولهم بناء على صحة الرواية الاخرى هو التحذر عما اخبر به فيما إذا احتمل ان يكون على تقدير صحة ما اخبر عنه ضرر عليه كما انه كذلك كان في مورد صدور الرواية. والحاصل انه يدور الامر بين هذه التخصيصات الكثيره التي ربما يكون العموم مستهجنا معها وتقييد واحد وهو تقييد وجوب تصديق المؤمن بكونه متعددا ولا شك في ان الثاني اولى بل هو المتعين وكذلك الحال في مفهوم آية النبأ بناء على ثبوت المفهوم لها وشموله للاخبار عن الموضوعات وعدم كونه مختصا بالاحكام فيدور الامر بين تخصيصه بهذه التخصيصات أو تقييده بالتعدد بالنسبة إلى الموضوعات، ومعلوم ان الثاني اولى بل هو المتعين.

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم تخريجه في ص 21، رقم (2). 2 - تقدم تخريجه في ص 11، رقم (2). 3 - تقدم تخريجه في ص 17، رقم (1). 4 - الكافي ج 8، ص 147، كتاب الروضة، ح 125، عقاب الاعمال ص 295، ح 1، وسائل الشيعة ج 8، ص 609، أبواب أحكام العشرة، باب 157، ح 4. (*).

 

واما الاخبار الواردة في الموارد الخاصة كقول علي (ع) المؤذن مؤتمن (1) وكقوله (ع) الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة (2) وقوله (ع) في رواية اسحاق بن عمار قال: سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا ؟ فقال لي: ان حدث بي حدث فاعط فلانا عشرين دينارا واعط اخي بقية الدنانير فمات ولم اشهد موته فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي انه امرني ان اقول لك انظر الدنانير التي امرتك ان تدفعها إلى اخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ولم يعلم اخوه ان عندي شيئا فقال (ع): ارى ان تتصدق منها بعشرة دنانير) (3) والرواية ظاهرة في وجوب قبول قول هذا الرجل المسلم الصادق حيث ان التصدق على خلاف الارث والروايات الواردة في وجوب الاعلام في بيع الدهن المتنجس (4) ولو لم يكن اخبار البايع واجب القبول كان وجوب الاخبار لغوا. وما ورد في الاعتماد على اخبار البايع بالكيل أو الوزن (5) وكذلك في اخباره باستبراء الامة (6) وغير ذلك من الموارد، وفي الجميع مضافا إلى المناقشات في دلالتها انها موارد جزئية لا يظهر منها الدلالة على قاعدة كلية وهي حجية كل خبر ثقة أو عدل واحد في اي موضوع من الموضوعات.

 

(هامش)

 

: 1 - تهذيب الاحكام ج 2، ص 282، ح 1121، باب الاذان والاقامة، ح 23، وسائل الشيعة ج 4، ص 618، أبواب الاذان والاقامة، باب 3، ح 2. 2 - الفقيه ج 3، ص 87، ح 3385، باب الوكالة، تهذيب الاحكام ج 6، ص 213، ح 503، باب الوكالات، ح 2، وسائل الشيعة ج 13، ص 286، أبواب كتاب الوكالة، باب 2، ح 1. 3 - الفقيه ج 4، ص 235، ح 5561، باب نوادر الوصايا، تهذيب الاحكام ج 9، ص 237، ح 923، باب الزيادات، ح 16، وسائل الشيعة ج 13، ص 482، أبواب كتاب الوصايا، باب 97، ح 1. 4 - وسائل الشيعة ج 12، ص 66، أبواب ما يكتسب به، باب 6. 5 - وسائل الشيعة ج 12، ص 255، أبواب عقد البيع وشروطه، باب 5. 6 - وسائل الشيعة ج 14، ص 501، أبواب نكاح العبيد والإماء، باب 5. (*)

 

واما الاستدلال بما حكي بعضهم المؤمن وحده حجة فلا يخفى ما فيه من حيث السند والدلالة. وأما الاستدلال لقبول خبر الثقة بمضر سماعة: سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال ان هذه امرأتي وليست لي بينة فقال: ان كان ثقة فلا يقربها وان كان غير ثقة فلا يقبل منه (1). ففيه أولا: معارضتها برواية يونس قال: سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان فسألها الك زوج ؟ فقالت: لا فتزوجها. ثم ان رجلا اتاه فقال هي امرأتي فانكرت المرأة ذلك ما يلزم الزوج ؟ قال هي امرأته الا ان يقيم البينة (2) ونحوه مكاتبة الحسين بن سعيد (3) وايضا معارضتها بخبر عبد العزيز المهتدي سألت الرضا (ع) قلت له: ان اخي مات فتزوجت امرأته فجاء عمي فادعى أنه كان تزوجها سرا فسألتها عن ذلك فانكرت اشد الانكار وقالت: ما كان بيني وبينه شيء قط فقال: يلزمك اقرارها ويلزمه انكارها (4). ومعلوم ان المعارض اقوى من مضمر سماعة لكثرة عددها وعمل المشهور بها واعراضهم عنه وعدم الفتوى به.

 

(هامش)

 

: 1 - تهذيب الاحكام ج 7، ص 461، ح 1845، باب الزيادات في فقه النكاح، ح 53، وسائل الشيعة ج 14، ص 226، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 23، ح 2. 2 - تهذيب الاحكام ج 7، ص 468، ح 1874، باب الزيادات في فقه النكاح، ح 82، وسائل الشيعة ج 14، ص 226: أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 23، ح 3. 3 - تهذبى الاحكام ج 7، ص 477، ح 1914، باب الزيادات في فقه النكاح، ح 122، وسائل الشيعة ج 14، ص 226، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 23، ذيل ح 3. 4 - الكافي ج 5، ص 563، باب النوادر (من كتاب النكاح) ح 27، الفقيه ج 3، ص 472، 4650، باب النوادر (من كتاب النكاح)، وسائل الشيعة ج 7 14 ص 226، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 23، ح 1. (*).

 

وثانيا: انه من المحتمل القريب ان يكون النهي عنه من جهة شدة حسن الاحتياط في الفروج خصوصا مع قوة الاحتمال إذا كان المدعي ثقة ولذا جعل الشارع وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية في باب الفروج مثل وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية من باب الدماء لكثرة الاهتمام بهذين البابين. وخلاصة الكلام انه لم نجد دليلا - يمكن الركون إليه والاعتماد عليه من نقل أو بناء العقلاء وسيرتهم - على حجية خبر العدل الواحد أو خبر الثقة الواحد مع امضاء من قبل الشارع بل وجدنا الادلة على عدم حجية كليهما اي خبر الثقة وخبر العدل الواحد وقد تقدم ذكر تلك الادلة. الجهة الثانية في نسبة هذه القاعدة اي قاعدة حجية البينة في جميع الموضوعات مع سائر الادلة من الاصول والامارات التي تستعمل في الموضوعات فنقول اما بالنسبة إلى الاصول الموضوعية كقاعدة الفراغ كما إذا شك في اتيان العمل تام الاجزاء والشرائط وفاقدا للموانع أو اتى به ناقصا بان أتى به تاركا لجزء أو شرط أو اتى به مقرونا بمانع وكان هذا الشك بعد الفراغ عن العمل فمقتضى قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بذلك الشك والبناء على انه اتى به صحيحا وتام الاجزاء والشرائط وفاقدا للموانع فلو قامت بينة شرعية معتبرة على انه ترك الجزء الفلاني أو الشرط الفلاني أو اتى بالمانع الفلاني أو القاطع الفلاني فمقتضى حجية البينة بطلان العمل الا ان يكون هناك دليل اخر على صحة العمل الفاقد لذلك الجزء أو ذلك الشرط أو واجدا لذلك المانع كما انه ورد الدليل بالنسبة إلى الصلاة إن اتى بالناقص نسيانا وهي صحيحة (لا تعاد) في غير الاركان وكما انه وردت ادلة خاصة في باب الحج بان النقص أو

 

 

الزيادة في بعض الاجزاء والشرائط نسيانا لا يضر بصحة العمل وان علم وجدانا بالنقص فضلا عن البينة التي هي امارة تعبدية. وخلاصة الكلام انه إذا وقع التعارض بين قاعدة الفراغ - التي مفادها صحة العمل وعدم الاعتناء بالشك والمضي عنه وعدم وجوب الاعادة - وبين البينة على عدم تماميته وانه تجب الاعادة فيجب العمل على طبق قاعدة حجية البينة والاعادة الا فيما ذكرنا من وجود دليل على عدم وجوب الاعادة وان علم وجدانا بالخلل بالزيادة أو النقيصة وذلك من جهة ان البينة امارة وقاعدة الفراغ على ما هو الصحيح عندنا اصل تنزيلي ودليل الامارة حاكم على دليل الاصل وان كان تنزيليا وقد حققنا المسألة في كتابنا - منتهى الاصول (1). وقد ظهر مما ذكرنا حال تعارض البينة مع سائر الاصول كقاعدة التجاوز واصالة الصحة وقاعدة الوقت حائل وقاعدة الطهارة والاستصحاب واصالة عدم التذكية واصالة الحل كل ذلك في الشبهات الموضوعية والمناط في الجميع واحد وهو حكومة الامارات على الاصول. إذ موضوع الاصل وان كان تنزيليا هو الشك والامارة - على ما هو التحقيق من ان حجيتها من باب تتميم الكشف - يرفع الشك تعبدا وهذا هو معنى الحكومة فلا يبقى موضوع للاصل حتى يعارض الامارة. وأما حالها مع سائر الامارات أما مع اليد فلا شبهة في تقديمها على اليد لان عمدة تشريع حجيتها في باب المخاصمة لابطال التمسك باليد وبواسطة قيام البينة من طرف المدعي يؤخذ المال من ذي اليد ويعطي للمدعي. ولو لم تقدم البينة على اليد يبقى القضاء بلا ميزان لان ميزان القضاء هي البينة على المدعي واليمين للمنكر وليس اليمين ابتداء للمنكر بل ميزانيته في صورة فقد

 

(هامش)

 

: 1 - منتهى الاصول ج 2، ص 537. (*)

 

البينة والا في صورة وجود البينة للمدعي لا ميزانية له فإذا لم يقدم البينة على اليد فيبقى القضاء بلا ميزان ويقف الحكم. واما بالنسبة إلى سوق المسلم فامارية السوق على التذكية أو الحلية أو غير ذلك موقوفة على عدم كون البينة على خلافها. وخلاصة الكلام ان تقديم البينة على اليد والسوق من الواضحات والمسلمات. واما تعارضها مع الاقرار مثل ان اقيمت البينة على ان هذا المال له وهو اقر بانه لزيد مثلا وكذب البينة أو في باب الجنايات فلو شهدت البينة المعتبرة ان هذه الجناية صدرت من فلان وهو اقر واعترف بانه الجاني وفاعل هذه الجناية فمقتضى القاعدة وان كان تساقط الامارتين بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون حجية الامارات من باب تتميم الكشف. ولكن الظاهر ان بناء العرف والعقلاء على تقديم الاقرار عليها ففي المثال المذكور بعد ان اقر أن هذا المال الذي في يده ليس له ولزيد فقيام البينة انه له لا اثر له. ولعل السر في ذلك انهم يرون الاقرار أكشف من البينة كما انه لو علم كذب البينة فلا حجية لها لان التعبد بالامارة في ظرف الجهل بالمؤدي واما لو علم بوجود المؤدي وثبوته أو علم بعدمه فلا معنى ولا مجال للتعبد بوجوده أو عدمه. والحاصل ان العقلاء لا يرون كاشفية للبينة في ظرف اقرار المشهود له على خلافها كما انه لا كاشفية لها مع العلم بالخلاف. ولكن وردت روايات في انه إذا قامت البينة على ان زيدا مثلا قاتل ثم اقر شخص اخر بانه انا القاتل ان للولي الاخذ باية واحدة من الامارتين فله قتل اي واحد منهما إذا اراد وكل ذلك لصحيحة زرارة عن ابي جعفر (ع) (1) وقد عملوا بها

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 7، ص 290، باب النادر (من كتاب الديات) ح 3، تهذبى الاحكام ج 10، ص 172، ح 678، (*).

 

وافتوا على طبقها وان كان مفادها على خلاف مقتضى القواعد والاصول لكنه يجب العمل بها في موردها على كل حال واما تعارض البينة مع مثلها فالتكلم فيه في بيان قاعدة البينة على المدعي واليمين على من انكر. الجهة الثالثة في بيان موارد تطبيقها في الفقه فنقول: ان هذه القاعدة سارية وجارية في جميع ابواب الفقه. ففي كتاب الطهارة مثلا تستعمل في اثبات الطهارة والنجاسة بناء على عموم حجيتها وفي موضوعات احكام النجاسات وفي اثبات الملاقات للنجس وعدم الملاقات وفي اثبات ان هذا الماء كر أو ليس بكر وانه مطلق أو مضاف وانه تغير احد اوصافه الثلاثة بالنجس ام لم يتغير وانه توضأ ام لم يتوضأ وكذلك هل اغتسل ام لا وانه هل كان على البشرة ومحل غسل الوضوء أو مسحه وكذلك في الغسل مانع وحاجب ام لا وانه تيمم ام لا وهل هذا التراب الذي يريد ان يتيمم عليه طاهر ام نجس وانه هل هو مما يصح التيمم عليه ام لا في الشبهة الموضوعية لا الحكمية وفي مقدار المساحة التي يجب الفحص عن الماء في الشبهة الموضوعية لا الحكمية وفي لون الدم الذي تراه المرأة إذا كانت عاجزة عن الرؤية لعمى أو لجهة اخرى وفي نفوذه في القطنة وعدمه كذلك وفي كونه مستديرا على القطنة كي يكون دم العذرة أو لا فيكون استحاضة أو حيضا أو شيئا اخر وانه هل انقطع على العشرة أو تعدي وانه هل كان اقل من الثلاثة ام لا.

 

(هامش)

 

. باب البينات على القتل، ح 18، وسائل الشيعة ج 19، ص 108، أبواب دعوى القتل وما يثبت به، باب 5، ح 1. (*).

 

كل ذلك فيما إذا لم يكن في قيام البينة محذور شرعي. وفي كتاب الصلاة تستعمل في معرفة القبلة والاوقات وفي لباس المصلي من كونه حريرا أو ذهبا أو غير ماكول وفي مكانه من حيث كونه غصبا وفي معرفة ما يصح السجود عليه وفي ضبط عدد الركعات وتعيينها وفي زيادة ركن أو نقيصته وان كان نسيانا وفي حصول المسافة وتعيينها وفي مقدار الاقامة أو مضى ثلاثين مترددا وفي معرفة حد الترخص وفي صلاة الجماعة من حيث عدالة الامام وصحة قراءته والاتصال مع الامام وعدم علو الامام وعدم الحائل بين المأموم والامام كل ذلك في الشبهة الموضوعية وغير ذلك من موضوعات الاحكام في كتاب الصلاة. وفي كتاب الزكاة وصول المال إلى مقدار النصاب في الشبهة الموضوعية وفي اثبات الفقر وكونه ابن السبيل وانه من الغارمين وان دينه لم يكن من جهة الصرف في المعصية ولا من جهة الاسراف وفي كونه عبدا تحت الشدة وفي كونه مسكينا وفي اثبات بلوغ المالك وكونه عاقلا وحرا متمكنا من التصرف في ماله تمام التمكن وان تملكه للغلات بواسطة الزراعة وكونه زارعا أو انتقل إليه الزرع أو الشجر قبل تعلق الزكاة بهما اي قبل اشتداد الحب في الزرع وقبل بدو الصلاح في الاشجار المثمرة اعني النخيل والكروم وفي مقدار مؤنة تحصيل الغلات سواء كانت من قبيل الزرع أو كانت من قبيل اشجار المثمرة اي النخيل والكروم. وفي كتاب الخمس اما بالنسبة إلى ما يتعلق به الخمس فمثل المعدن أو الغوص أو الحلال المختلط بالحرام أو ان له الربح ومقدار الربح مستعمل فيها البينة إذا شك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا المفهومية لان المرجع في الشبهة المفهومية هو العرف أو الادلة الشرعية ان كان تصرف من قبل الشارع فيها اي فيما اخذ موضوعا لحكمه وكذا في بلوغ النصاب فيما له نصاب منها كالغوص والمعدن. واما بالنسبة إلى المستحق فتستعمل في اثبات كونه من بني هاشم وانه لا يملك

 

مؤنة سنته وبالنسبة إلى سهم الامام (ع) وايصاله إلى الفقيه العادل الجامع للشرائط أو صرفه في ما يأذن أو اعطائه لمن يأذن ففي جميع هذه الموضوعات تستعمل البينة لاثباتها. وفي كتاب الحج تستعمل في تعيين المواقيت أو محاذاتها من ناحية الشبهة الموضوعية وكذلك في ثوبي الاحرام وكونهما مما يجوز لبسهما في الاحرام ثم في عدد اشواط الطواف إذا شك فيه وكذلك في عدد السعي بين الصفا والمروة وكذلك في تعيين زمان الوقوف في عرفات ومكانه وكذلك الامر بالنسبة إلى المشعر ومنى زمانا ومكانا كل ذلك من ناحية الشبهة الموضوعية وفي شرائط الذبيحة يوم العيد في منى وغير ذلك من الموضوعات الكثيرة للاحكام الشرعية في كتاب الحج التي لا يخفى على الفقيه المتتبع وانه إذا حصل له الشك فيها من ناحية الشبهة الموضوعية فاحد طرق اثباته هي البينة. واما في ابواب المعاملات فاغلب الموضوعات للاحكام فيها عرفية وبعد اخذ المفهوم من العرف إذا شك في مصداقه فاحد طرق اثباته هي البينة كالعيب في خيار العيب من ناحية الشبهة الموضوعية والغبن ايضا كذلك في خيار الغبن وكذلك الحال في سائر المعاملات. واما في كتاب الصيد والذباحة والاطعمة والاشربة ففي اكثر الموضوعات المشتبهة من حيث المصداق والشبهة الموضوعية تثبت الحلية والحرمة بالبينة مثلا إذا شك في انه عند الرمي هل قال بسم الله ام لا فان شهدت البينة بانه سمى يثبت التسمية أو إذا شك في انه ذبح بالحديد أو بالة من فلز اخر أو من شيء اخر بناء على توقف الحلية على ان يكون الذبح بالحديد فان شهدت بانه كان بالحديد تثبت الحلية بها. وفي الاطعمة والاشربة إذا شك في ان هذا السمك هل له فلس ام لا فان

 

شهدت البينة بانه كان له الفلس تثبت الحلية أو إذا شك ان هذا الطائر هل له حوصلة ام لا وان دفيفه اكثر من صفيفه ام لا فان شهدت البينة ان دفيفه اكثر أو انها شهدت ان له حوصلة أو قانصة أو صيصية فتثبت الحلية، واما في كتاب القضاء وابواب الدعاوي فهي الركن الركين. واما في كتاب المواريث فالبينة تستعمل في اثبات الانصاب ومقدار حصص الورثة وغير ذلك من الموضوعات للاحكام من كفر الوارث أو كونه قاتلا للمورث أو كونه اكبر الاولاد ويستحق الحبوة. وفي كتاب الحدود والديات تستعمل في مقدار الجناية وتعيين الجاني والمجني عليه والحمد لله اولا واخرا وظاهرا وباطنا.