قاعدة كل مدع يسمع قوله فعليه اليمين

29 - قاعدة كل مدع يسمع قوله فعليه اليمين 

 

قاعدة كل مدع يسمع قوله فعليه اليمين (*) ومن القواعد الفقهيه قولهم: كل مدع يسمع قوله فعليه اليمين . وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الاولى في بيان المراد منها فنقول: المراد من سماع قوله عدم تكليفه بالبينة أو بحجة اخرى في الحكم له، مثلا يقال: ان المالك يسمع قوله إذا ادعى تلف العين الزكوية في اثناء الحول أي قبل حلول وقت الزكاة، أو ادعى انه اديت زكاتي المتعلق بمالي، أو ادعى الكافر اسلامه قبل حلول وقت الجزية، أو المدعى الذى بلا معارض مثلا يسمع قوله أي لا يطلب منه البينة، أو الودعي يسمع قوله، أي لا يطلب منه البينة إذا ادعى التلف، أو الرد إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التى يسمع قوله ولا يطلب منه البينة أو حجة اخرى، ففى جميع ذلك يكون عليه اليمين الا ما خرج بالدليل، وسنذكر ان شاء الله تعالى تلك الموارد.

 

(هامش)

 

: (*): عناوين الاصول عنوان 78. (*)

 

[ الجهة ] الثانية في مدرك هذه القاعدة فنقول: ان هذه القاعدة من قواعد باب القضاء بمعنى ان الحاكم في مقام حكمه إذا يسمع قول مدع ولا يطلب منه البينة فلا يحكم له الا بعد اليمين، مثلا إذا تخاصم المودع مع الودعي ولم يكن للمودع بينة على ان الودعى اتلف ماله أو قصر في حفظه، أو تصرف في الوديعة من دون اذن المودع، أو غير ذلك مما يوجب الضمان، فلا يحكم الحكم بعدم اشتغال ذمته الا بعد حلف الودعى على نفى هذه الامور، وهذا معنى سماع قوله، لا انه بمحض ان لا تكون للمودع بينة على احد هذه الامور يحكم للودعي بدون أي شيء. واستدلوا على لزوم الحلف للمدعى الذى يسمع قوله من دون بينة بامور: الاول: ان الحكم في مقام المخاصمة لا يجوز إلا بأحد الميزانين، وهما البينة واليمين، لقوله صلى الله عليه وآله: (انما أقضى بينكم بالبينات والايمان) (1). ولا شك في أن (إنما) كلمة حصر فيدل قوله صلى الله عليه وآله هذا على ان سبب الحكم منحصر في أحد هذين، فإذا لم يطالب المدعى بالبينة - كما هو المفروض في المقام - فاما أن يحكم له بدون اليمين أيضا، وهذا خلاف قوله صلى الله عليه وآله: ان قضائه بأحد الامرين، وإما ايقاف الدعوى وعدم الحكم أصلا، وهذا خلاف حكمة جعل القضاء. ويلزم اختلال النظام وتضييع الحقوق والهرج والمرج وخلاف الآية الشريفة: (يا داود انا جعلناك خليفة فاحكم بين الناس بالحق) (2) فلا بد وان نقول بان الحكم له

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 7، ص 414، باب أن القضاء بالبينات والايمان، ح 1، تهذيب الاحكام ج 6، ص 229، ح 552، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 3، معاني الاخبار ص 279، وسائل الشيعة ج 18، ص 169، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 2، ح 1. 2 - ص (38): 26. (*) ص 113

 

بذلك الميزان الاخر، أي اليمين. لا يقال: انه في بعض الموارد ورد الدليل على عدم الحلف أيضا كما في باب العبادات المالية كالزكاة والخمس وسماع قول المالك في عدم التعلق وفى الاداء أيضا وكسماع قول الفقير في دعوى الفقر، كل ذلك من دون بينة ولا حلف. لانه لا نقول نحن بان الحصر عقلي ليس قابلا للتخصيص، فإذا جاء الدليل في مورد على عدم لزوم الحلف ايضا يخصص العمومات. الثاني: ان قول المدعى في هذه المقامات حجة، لان الدليل الذي يفيد قبول قوله من دون قيام البينة من طرفه، يرجع إلى ان قوله حجة فلا يكون من المدعى بالمعنى المراد من المدعى والمنكر في قوله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعى واليمين على من انكر) (1) و هو ان يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية، بل يكون بمنزلة المنكر في ان قوله مطابق للحجة الفعلية، بل هو المنكر حقيقة بناء على ما عرفنا المنكر بانه عبارة: عمن يكون قوله مطابقا للحجة الفعلية. ان

 

قلت: أليس يقال المدعي ؟ قلنا: اطلاق المدعى عليه من قبيل اطلاقه على ذى اليد باعتبار معناه اللغوى أي مطلق من يدعى، وان كان دعواه موافقا للحجة الفعلية. الثالث: الاجماع على ان كل مدع يسمع قوله ولا يطالب بالبينة فعليه اليمين، وذلك مثل الامين إذا ادعى التلف يقبل قوله ولا يطالب بالبينة الا ان عليه اليمين، ولذلك اشتهر في لسان الفقهاء وفى كتبهم: انه ليس على الامين الا اليمين. ثم لا يخفى ان المراد من الاجماع في هذه المسألة هو انعقاده على هذه الكلية، أي كل مدع يسمع قوله ولا يطالب بالبينة فعليه اليمين، فلا يرد على هذا الدليل ان تحقق

 

(هامش)

 

: 1 - عوالي اللئالي ج 2، ص 345، ح 11، مستدرك الوسائل ج 17، ص 368، ابواب كيفية الحكم، باب 3، ح 4. (*)

 

الاجماع في بعض الموارد لا يفيد في مورد الخلاف والشك في لزوم الحلف، لان انعقاد الاجماع على هذا العنوان الكلى مما يجعله كورود دليل لفظي عليه، فيمكن التمسك باطلاقه عند الشك والخلاف كما يتمسك بالاطلاقات اللفظية. ولكن فيه أولا: انه في تحقق مثل هذا الاجماع في ذلك العنوان الكلى خفاء. وثانيا: على فرض تحققه في حجية مثل هذا الاجماع اشكال بل معلوم عدمها، وذلك لما ذكرنا مرارا ان وجه حجية الاجماع هو كشفه عن راي الامام (ع) والحدس القطعي بكون الاتفاق مسببا عن رأيه (ع) ومثل هذا لا يكون الا فيما لا يكون مدرك اخر غير التلقي عن الامام (ع) يتكئون ويعتمدون عليه، وفى المقام مع وجود هذه المدارك والادلة المذكورة لا يبقى مجال لتحقق الاجماع المصطلح الذى اثبتنا حجيته في الاصول. الرابع: ان قول المنكر - مع انه موافق للحجة الفعلية - يحتاج إلى اليمين، وبدون اليمين لا يحكم له، فإذا قبل قول المدعى بدون الاحتياج إلى البينة وهو مخالف للحجة الفعلية كما هو المفروض فيكون الاحتياج إلى اليمين فيه بطريق اولى، وذلك من جهة ان المقصود من الحلف إما ارتداع من ليس له الحق عن بغيه وعدوانه وإما قوة احتمال مطابقة قوله للواقع، وعلى كلا الوجهين يقتضى في المدعى الذى يقبل قوله - ولا يطالب بالبينة ايضا - ان يكون عليه اليمين بطريق اولى. وفيه: ان هذه المذكورات امور استحسانية لا ادلة شرعية فلا يمكن استناد الاحكام الشرعية إلى امثال هذه الظنيات. نعم لو حصل القطع بان ملاك كون الحلف واليمين على المنكر احد هذين الامرين فللقول بان المدعى الذى يسمع قوله بدون البينة ايضا يحتاج إلى اليمين مجال. ولكن أنت خبير بان هذه الامور لا توجب اكثر من الظن. نعم في بعض صغريات هذه القاعدة - كالامين والمحسن - أدلة لفظية تدل على عدم جواز اتهامهم

 

وعدم السبيل عليهم، كقوله (ع) في رواية قرب الاسناد: (ليس لك ان تتهم من قد ائتمنته) (1) وقوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) (2). ولا شك في ان تكليف الامين باليمين اتهام له، وأيضا تكليف المحسن باليمين سبيل عليه، وهما منفيان بحكم الآية والرواية. اقول: هذا الكلام بالنسبة إلى المحسن في محله، وأما بالنسبة إلى الامين فليس معنى عدم الاتهام الا عدم استناد الخيانة والتعدي والتفريط إليه، فيرجع إلى عدم انشاء الدعوى عليه. والرواية بهذا المعنى لم يعمل بها قطعا لانه لا شك في صحة دعوى الاتلاف أو التعدي والتفريط على الامين، فهذا حكم أخلاقي معناه: لا تأتمن الرجل الخائن، وان إئتمنت أحدا فلا تظن به السوء ولا تتهمه. وأما القطع بخيانته وتعديه وتفريطه فقطعا يجوز الدعوى معه، غاية الامر لو ادعى التلف يقبل قوله أي: لا يطالب بالبينة، ولكن اليمين عليه لما ذكرنا. هذا مضافا إلى ان دعوى الاتلاف من طرف المالك مع انكار الامين - يجعل الامين منكرا، فيكون الحلف عليه اجماعا ونصا مستفيضا، بل متواترا، وليس من طرف الامين الا الانكار، فيكون خارجا عن محل بحثنا، لان محل كلامنا في المدعي الذى يسمع قوله، وأما كون اليمين على المنكر فمن ضروريات الفقه. والحاصل ان يد الامين ليست يد ضمان، لانها يد مأذونة إما من قبل مالكه وإما من قبل الشرع، فالتلف في يده لا يوجب الضمان الا مع التعدي والتفريط، أو اتلاف الامين له، فصاحب المال ان كان يطلب الضمان فلا بد له من إدعاء احد هذه الامور أي الاتلاف أو التعدي والتفريط، فيكون الامين منكرا والحال في المحسن أيضا كذلك. الخامس: ان المدعى ان كان له شاهد واحد عادل على ما يدعيه فلا يحكم له

 

(هامش)

 

: 1 - وسائل الشيعة ج 13، ص 229، ابواب كتاب الوديعة، باب 4، ح 9. 2 - التوبة (9): 91. (*)

 

بذلك الشاهد الواحد، بل لا بد من ضم يمينه إليه، فإذا لم يكن له شاهد أصلا فيجب عليه اليمين لاستخراج حقه الذى يدعيه بطريق أولى وفيه: ان هذا الدليل ينبغى ان يعد من المغالطات، لان انضمام اليمين هناك إلى الشاهد الواحد من جهة ان المدعى هناك عليه البينة، وحيث انه عاجز عن اقامة البينة بتمامها - ولم يقم الا شاهدا واحدا - خفف عنه بقيام اليمين مقام الشاهد الآخر، بخلاف ما نحن فيه، فانه ليس عليه البينة أصلا، إذ المفروض سماع قوله بدون البينة، فلا وجه لتكليفه باليمين الا ما ذكرنا من الوجهين الاولين. السادس: ان لقوله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعى واليمين على من انكر) (1) دلالتين: أحدهما: ان المتداعيين والمتخاصمين كل واحد منهما يحتاج في اثبات ما يقول إلى حجة، وبدون الحجة لا يحكم له والثانى: تعيين تلك الحجة في حق كل واحد منهما، وانها هي البينة في حق المدعى واليمين في حق المنكر، والحجة في حق الاثنين منحصرة فيهما، وليست هناك حجة اخرى تكون ميزانا للقضاء. فإذا جاء الدليل على عدم تكليف بعض المدعين في بعض الموارد باقامة البينة ولا يطالب بها، فهذا الدليل لا يدل على ان الحكم لا يحتاج إلى حجة اخرى اصلا، وذلك لان نفى الاخص لا يلزم منه نفى الاعم. وحيث ان الحجة في باب القضاء منحصرة بهما - أي: البينة واليمين - وهدا الدليل يدل على عدم مطالبته بالبينة، فبحكم دلالة قوله صلى الله عليه وآله - على لزوم اصل الحجة - التى كانت فيما ذكرنا اولى الدلالتين - يجب عليه ان يقيم حجة على ما يدعيه واذ ليست هي البينة كما هو المفروض والحجة منحصرة فيهما فيكون عليه اليمين.

 

(هامش)

 

: 1 - عوالي اللئالي ج 2، ص 345، ح 11، مستدرك الوسائل ج 17، ص 368، ابواب كيفية الحكم 7 باب 3، ح 4. (*)

 

وفيه: انه صلى الله عليه وآله عين وظيفة لكل واحد من المدعى والمنكر في مقام المخاصمة، فإذا جاء الدليل في مورد - أو في قسم من اقسام المدعي - انه يسمع قوله من دون ان يطالب بالبينة - فلا بد وان يكون هذا التخصيص لجهة ونكتة، فالقضاء تجرى إما بالحكم له من دون اليمين أو بتوجه الامر إلى الطرف الاخر، فان حلف فلا شيء عليه ويحكم له، وان رد اليمين أو نكل تجرى احكام الرد والنكول. اللهم الا أن يقال: معنى سماع الدعوى بدون مطالبة البينة هو انه يحكم للمدعى بمحض دعواه، والحكم لا يمكن بدون أحد الميزانين أي: البينة أو اليمين لقوله صلى الله عليه وآله: (انما اقضي بينكم بالبينات والايمان) (1) بناء على حصر ميزان الحكم في هذين الميزانين، وعدم تحققه بدون احدهما، وحيث ان البينة لا تطلب منه فلا بد وان يكون باليمين. ولكن هذا مرجعه إلى الوجه الاول الذى ذكرناه وليس وجها اخر، وهو الوجه الوجيه ومبناه على استفادة الحصر - في ما هو ميزان القضاء بهذين وعدم صدور الحكم بدون احدهما - من قوله صلى الله عليه وآله -: (انما اقضي بينكم بالبينات والايمان). وقد تقدم جميع ذلك. الجهة الثالثة في بيان موارد هذه القاعدة وصغرياتها أي: الموارد التى يسمع دعوى المدعى فيها بدون ان يكون عليه بينة وبيان وجه سماع دعواه. فنقول: أما مواردها وصغرياتها فكثيرة جدا، ولكن هذه الموارد الكثيرة ليست

 

(هامش)

 

: 1 - تقدم تخريجه في ص 112، رقم (1). (*)

 

تحت جامع واحد وكبرى واحدة، بل هناك كبريات متعددة. منها: كون المدعى أمينا حيث انه ليس على الامين الا اليمين ومنها: كون المدعى بلا معارض ومنها: كون المدعى ممن يملك فعل ما يدعيه ومنها: كون ما يدعيه لا يعلم الا من قبله ومنها: ما هو خارج عن تحت هذه الكبريات الاربع، لكن ورد دليل خاص على سماع قوله. وأما عد سماع قول ذى اليد ايضا من هذه الكبريات - كما ذكره استاذنا المحقق (قده) في كتاب قضائه (1) - فليس كما ينبغى، من جهة ان اطلاق المدعى على ذى اليد غير خال عن الخلل، بل المتفاهم العرفي من المدعى: هو الذى يدعى - مثلا - ملكية شيء ليس ذلك الشيء تحت يده فان كان تحت يده ويدعيه غيره فهو منكر، وذلك الغير مدع. والحاصل ان العرف والشرع متفقان على عدم صحة اطلاق المدعى على ذى اليد حتى انه بعضهم عرف المدعى والمنكر: بمن لم يكن في يده وهو المدعى، ومن كان في يده وهو المنكر. ويشهد لما ذكرنا - من اتفاق العرف والشرع في ان المدعى هو من ليس ما هو محل النزاع والمخاصمة في يده. والا ان كان في يده فهو منكر - استدلاله (ع) في بعض الاخبار على كفاية اليمين منه وعدم مطالبة البينة منه (2) بانه انما أمر النبي صلى الله عليه وآله ان يطالب البينة من المدعى لا من ذى اليد.

 

(هامش)

 

: 1 - كتاب القضاء ص 86 - 87. 2 - وسائل الشيعة ج 18، ص 214، ابواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 25. (*).

 

وخلاصة الكلام ان كلامنا في ان كل مدع يسمع قوله ولا يطلب منه البينة فعليه اليمين، وليس ذى اليد مدعيا كي يكون من صغريات هذه القاعدة. فلنتكلم في الكبريات الاربع: الاولى: كبرى (كون المدعي أمينا)، أما مصاديق هذه الكبرى فكل ما كان تحت يد شخص باذن المالك فهى امانة مالكية - كالعارية والوديعة والعين المستأجرة وغير ذلك من موارد اليد المأذونة من قبل المالك، أو باذن الشارع فهى أمانة شرعية كاللقطة، وما في يد القيم للصغار أو المجانين من اموالهم، وما في يد الحاكم الشرعي من اموال الغيب والقصر والحقوق الشرعية التى تعطى للحاكم الشرعي لان يصرف في مصرفها من الاخماس والزكوات والصدقات الواجبة غير الزكاة كالكفارات ورد المظالم إلى غير ذلك مما هو وظيفة الحاكم الشرعي حفظها أو صرفها فيما يلزم صرفها فيها. ومن هذا القبيل الاوقاف التى لم يجعل لها متول أو مجهول توليتها، فجميع ذلك - في يد الحاكم أو وكيله أو المنصوب من قبله - أمانة شرعية أي: يكون تحت يده باذن الشارع، وفى كلا القسمين ليست اليد يد ضمان فلا ضمان الا مع التعدي والتفريط. واما وجه سماع قول الامين - وعدم مطالبته بالبينة - فمن جهة ما تقدم منا وزكرناه من ان التلف عنده لا يوجب الضمان، لان مدرك الضمان في باب التلف إما اليد غير المأذونة، أو خيانته بالتعدي أو التفريط. وفى الحقيقة هذا ايضا يرجع إلى انه بالخيانة ليست يده مأذونة، فيكون ضمانه ضمان اليد. نعم لو كان اتلاف في البين يكون هو سببا وموجبا للضمان ولكن حينئذ يكون الطرف مدعيا للاتلاف وهو منكر فيتوجه عليه اليمين.

 

وحاصل الكلام: ان قول الامين - ما لم يخرج عن كونه امينا بالخيانة - يسمع من دون مطالبته بالبينة، لانه لا يخلو إما ان لا تكون دعوى الاتلاف في البين ولا خيانة، فلا ضمان. وإما أن تكون فيكون الطرف مدعيا وهو منكر، فليس وظيفته البينة، وفى كلتا الحالتين لا تجوز مطالبة البينة من الامين لا في التلف ولا في الاتلاف، فهذا وجه سماع قول الامين. الثاني: كبرى المدعي بلا معارض، وهو انهم يقولون: بسماع قول المدعي الذى بلا معارض وقبوله بغير بينة في الماليات وان لم يكن له يد عليه، فإذا ادعى ان المال الفلاني الذى لا يد لاحد عليه، أو ينفي صاحب اليد كونه لنفسه ولا يدعي كونه لشخص معين، بل يعترف بعدم علمه بمالكه - انه لي، وليس هناك معارض يعارضه، يقبل قوله ويعطى له مع يمينه بناء على ما ذكرنا من تمامية هذه القاعدة. وأما في غير الماليات - كما انه كما لو ادعى طهارة شيء أو نجاسته وهو ليس بمالك ولا بذي اليد عليه أو ان هذا اليوم يوم العيد وامثال ذلك من غير الماليات ولا معارض له، فلا يسمع دعواه، بل يحتاج اثباته ألى البينة أو احدى الامارات الشرعية الاخر، وذلك من جهة ان عمدة مدرك سماع هذه الدعوى هي سيرة العقلاء وبنائهم على قبول قول المدعي الذى لا يعارضه أحد بغير البينة، ولكن هذه السيرة القدر المتيقن منها هو فيما إذا كان ما يدعيه من الماليات وان لم يكن لذلك المدعي يد عليه أو كان من الحقوق كادعائه تولية وقف، أو يدعي حق التحجير، أو حق السبق في مكان، أو حقا اخر ولا يعارضه احد في هذه الدعوى. واما الاجماع الذي إدعاه صاحب الرياض (1) وصاحب الجواهر (2) (قدهما) فايضا القدر المتيقن منه هو فيما ذكرنا من الماليات والحقوق والارتباطات كالزوجية والنسب كأن

 

(هامش)

 

: 1 - رياض المسائل ج 2، ص 413. 2 - جواهر الكلام ج 40، ص 398. (*)

 

يقول: هذه المرأة زوجتي، أو هذا الغلام ابني أو هذه الصبية بنتي، ومن هذه الجهة لو ادعى في اللقطة انها لي، ولم يكن له معارض يعطى المال له. وربما يستدل لسماع قول المدعى بلا معارض برواية الكيس المعروفة وهى ان يونس بن عبد الرحمن روى عن منصور بن حازم قال: قلت لابي عبد الله (ع): عشرة كانوا جلوسا وسطهم كيس فيه الف درهم فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس ؟ فقالوا: كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي فلمن هو ؟ قال (ع): للذي إدعاه) (1). وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على قبول قول مدعي الذى ليس له معارض واضح، لانه (ع) قال: هو للمدعي الذى لم يعارضه احد من تلك العشرة بل كلهم نفوا عنهم. ولكن استشكل على هذا الاستدلال شيخنا الاعظم الانصاري على ما نقل بعض الاجلة من تلامذته (قده) وقبله ابن ادريس (2) بأن سماع قول ذلك المدعي ليس من جهة انه مدع بلا معارض له في دعواه بل ان الكيس الكائن في وسط جماعة يكون تحت يد تلك الجماعة، ولذلك لو ادعاه شخص من غير تلك الجماعة ومن الخارج فلا يقبل قوله الا بالبينة. وأما لو كان من تلك الجماعة فان ادعى الباقون ايضا مثله فيجرى عليه حكم الشريكين الذين يدعى كل واحد منهما تمام ما في يدهما، وأما إذا نفى الباقون كونه لهم فتسقط أمارية اليد في حقهم. وأما الذى يدعيه ولا ينفي عن نفسه فامارية يده باقية،

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 7، ص 422، باب النوادر (من كتاب القضاء والاحكام) ح 5، تهذيب الاحكام ج 6، ص 292، ح 810، باب من الزيادات في القضايا، ح 17، وسائل الشيعة ج 18، ص 176، ابواب كيفية الحكم، باب 7، ح 1. 2 - السرائر ج 2، ص 191. (*)

 

ويكون هو بحكم ذي اليد الواحد الذي ليس لغيره يد عليه، فيحكم بانه له من جهة يده عليه لا من جهة انه مدع بلا معارض له في دعواه هذه. وبعبارة أوضح: أمارية اليد لكون ما في يده ملك له متوقفة على عدم اقراره بانه ليس له، فإذا نفى عن نفسه واقر بانه ليس له تكون يده كالعدم لا امارية لها، واليد بنظر العقلاء تكون كاشفة وامارة بالمطابقة بان ما هو تحت اليد ملك لذي اليد، وبالدلالة الالتزامية تدل على انه ليس لغير ذي اليد. فالكيس الذي كان في وسط جماعة حيث ان لتلك الجماعة يد عليه فبالدلالة الالتزامية تدل يد جميعهم على انه ليس لغيرهم ويد كل واحد منهم وان كانت تدل على انه له إما تماما كما احتمل، أو بنسبة نفسه إلى الجميع على نحو الشركة ثلثا أو ربعا أو خمسا وهكذا حسب عدد الجماعة كما هو الصحيح، ولكن هذه الدلالة سقطت بواسطة اقراره بانه ليس له. واما ذلك الشخص الواحد الذى ادعاه حيث انه لم يقر انه ليس له، بل ادعى على طبق يده انه له، فيبقى ليده كلتا الدلالتين: المطابقة والالتزامية، فتثبت انه له وليس لغيره كما هو الحال في اليد الواحدة التى ليس لها يد اخرى شريكة معها، فيحكم له الا ان يأتي المدعي الخارج عن تلك الجماعة بالبينة على انه له، كما هو الشأن في سائر المقامات بالنسبة إلى الدعوى على ذي اليد الواحد. فحكمه (ع) بان الكيس لذلك الواحد المدعي ليس من أجل انه بلا معارض، بل من جهة انه ذو اليد على موازين باب القضاء. اللهم إلا أن يقال: ان صرف كون الكيس في وسط جماعة ليس ظاهرا عند العرف في ثبوت اليد لتلك الجماعة عليه. أو يقال بان اليد الواحدة - أي الاستيلاء والسيطرة الواحدة قائمة بالمجموع وليس لكل واحد منهم يد مستقلة، فإذا نفوا عنهم ما عدا واحد منهم فتسقط تلك اليد الواحدة القائمة بمجموع تلك الجماعة، وليس هناك

 

استيلاء اخر كي يكون امارة على الملكية، لان اليد القائمة بالمجموع سقطت عن الاعتبار، ويد المدعي كانت في ضمن تلك اليد القائمة بالمجموع ولم يكن لها وجود مستقل فلا بد وان يكون حكمه (ع) بكونه لذلك الواحد المدعي مستندا إلى جهة اخرى غير اليد وليست الا انه مدع ليس له معارض. ولكن أنت خبير بعدم صحة كلتا الدعويين: أما عدم صحة دعوى عدم ظهور كون الكيس في وسطهم عرفا في ثبوت اليد لهم فمما يشهد عليه العرف والوجدان. نعم في بعض الفروض يمكن دعوى عدم الظهور عرفا في ثبوت اليد لهم، كما إذا كان الكيس موجودا في ذلك المكان قبل اجتماعهم فيه وبعد ذلك اجتمعوا وصار الكيس في وسطهم، لكن هذا الفرض وامثاله خارج عن ظاهر الرواية، وتكون الرواية منصرفة عنها. وأما دعوى ان لمجموع تلك الجماعة يد واحدة وليس لكل واحد منهم يد مستقلة ففيها: انه لو كانت الجماعة كلهم يدعون انه لهم فبنظر العرف - الذي هو المناط في فهم مفاهيم الالفاظ وتعيين المراد منها - كان الامر كما ادعاه صاحب هذه الدعوى بمعنى: ان لكل واحد منهم كانت يد غير تامة وغير مستقلة، كما في الشريكين أو الشركاء في دكان مثلا. وقد بينا في محله ان اليد غير التامة على المجموع بمنزلة اليد التامة المستقلة على بعض ذلك المجموع بنسبة عدد الشركاء، فإذا كانا اثنين متصرفين في الدكان مثلا يرى العرف ان لكل واحد منهما الاستيلاء التام على النصف وان كانوا ثلاثة يرى الاستيلاء واليد التامة على الثلث وهكذا. واما ان نفوا عنهم ما عدا واحد الذي ادعى المجموع ففي هذه الصورة يرى العرف ان الاستيلاء لذلك الواحد فقط، لان سائرهم بواسطة اقرارهم بعدم كونه لهم أسقطوا يدهم عن الاعتبار، فصارت يدهم كأن لم تكن فيد هذا الواحد كأنها يد

 

واحدة مستقلة على المجموع. والحاصل ان دلالة الرواية على قبول قول المدعى الذى ليس له معارض في غاية الاشكال. ثم انه لا شك في ان جميعهم أو بعضهم لو ادعى ملكية ذلك الكيس بعد نفيه عن نفسه أو عن أنفسهم لا يسمع، لانه انكار بعد الاقرار واقرار العقلاء على انفسهم جائز، فاقراره السابق بعدم كون الكيس له اسقط ماليته ظاهرا وان كان ماله بحسب الواقع، إلا أن يأتي بدليل حاكم على ذلك الاقرار، أو علم بان اقراره كان على خلاف الواقع لنسيانه أو لجهة اخرى. الثالث: كبرى من ملك شيئا ملك الاقرار به فلو ادعى انه طلق زوجته أو باع ماله الفلاني من فلان - أو وهبه لفلان، أو أعطيت زكاتي الواجب علي وامثال ذلك سواء أكان له أو عليه، يسمع بدون ان يطالب بالبينة لتلك القاعدة، وعمدة فائدة هذه القاعدة فيما لا يكون الاقرار على ضرره والا فلا احتياج إليها لكون موارد الاقرار على ضرر نفسه مشمولا لقاعدة اقرار العقلاء على انفسهم نافذ أو جائز . وأما الدليل على هذه الكبرى، أي كبرى من ملك شيئا ملك الاقرار به فقد تقدم في شرح هذه القاعدة في الجزء الاول من هذا الكتاب فلا نعيد. الرابع: كبرى انه يسمع كل دعوى لا يعلم الا من قبل مدعيها واستدلوا لهذه الكبرى بوجوه: الاول: الاجماع على ان من يدعى شيئا لا يعلم الا من قبله يسمع قوله من دون ان يطالب بالبينة، ولكن الحكم له بعد الحلف الا ان يأتي دليل خاص على تصديقه بدون الحلف، والشاهد على اتفاقهم على هذا الحكم هو انهم يعللون في بعض الدعاوي سماعها بانه شيء لا يعلم الا من قبله ويرسلونه ارسال المسلمات ولا ينكره

 

احد منهم، بل كل واحد من الفقهاء (قدهم) يقبل هذا التعليل ولا يستشكل عليه ولا يطلبون من القائل الدليل عليه، فيكون من الكبريات المسلمة عندهم. وفيه: انه ممنوع صغرى وكبرى أما الصغرى: فمن جهة ان قولهم هذا في بعض الموارد لا يدل على اتفاقهم على هذه الكبرى الكلية وبعبارة اخرى: التعليل إذا كان في آية أو رواية أي كان في كلام من يجب اتباعه فيجب الاخذ بظاهره فإذا كان ظاهرا في العموم يجب الاخذ بذلك الظهور والحكم بعموم التعليل واما لو كان في كلام من ليس كلامه حجة فلا بد من وجود دليل على وجوب الاخذ بظاهر ذلك الكلام، والمفروض انه ليس هاهنا دليل الا الاجماع، فلا بد ان يكون نفس هذا التعليل أي: عنوان لانه لا يعلم الا من قبله - معقدا للاجماع، واثبات هذا الاتفاق في غاية الاشكال. ثم على تقدير ثبوته يرد عليه ما ذكرنا مرارا ان مثل هذا الاتفاق ليس كاشفا قطعيا عن رأيهم عليهم السلام، لاحتمال ان يكون منشأ اتفاقهم هو بعض ما ذكروه من الادلة على قبول دعوى التى لا تعلم الا من قبل مدعيها، فلا يكون من الاجماع المصطلح في الاصول الذي قلنا بحجيته. الثاني: ان حكمة جعل القضاء والقاضي هو رفع التشاجر والمخاصمة بين الناس وحسم النزاع، فإذا كان دعوى المدعى لا يعلم الا من قبله فلا يمكن له اقامة البينة عليه، لان المفروض ان غير المدعى لا يعلمه كى يشهد به، ولا يمكن لخصمه المنكر ان يحلف لان المفروض ان الخصم المنكر لا يعلم به ولا حلف الا عن بت، فيبقى القضاء بلا ميزان ولا يرفع المخاصمة. أقول: وهذا الوجه مما يمكن الركون إليه. لا يقال: هذا الوجه صحيح فيما لا يمكن اقامة الشهود والبينة المعتبرة للمدعي، وموارد سماع دعوى من لا يعلم ما يدعيه الا من قبله - كما ذكروا - ليست منحصرة بما

 

لا يمكن اقامة البينة ويتعذر، بل أعم منه ومما يتعسر، ففي القسم الثاني منه يمكن اقامة الشهود غاية الامر مع التعسر، لان التكليف بالامر المتعسر ايضا ليس من دأب الشارع وديدنه غالبا ولا يناسب الشريعة السمحة السهلة إلا فيما تكون المصلحة مهمة، بحيث يكون على المكلف بذل كل نفس ونفيس كالجهاد والدفاع مع الكفار فيما إذا هجموا على المسلمين مثلا. فبناء على هذا يكون المتعسر بحكم المتعذر، وكون التعسر حكمة للجعل كثير في الشريعة كجعل التيمم بدلا عن الطهارة المائية، والتقصير والافطار في السفر وامثال ذلك. الثالث: انه وردت اخبار على ان الحيض والعدة إلى النساء كصحيح زرارة عن أبي جعفر (ع): (العدة والحيض للنساء إذا ادعت صدقت) (1) وقول الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في ارحامهن) (2) قد فوض الله إلى النساء ثلاثة اشياء: الحيض والطهر والحمل (3). ومعلوم ان تفويض هذه الامور إلى النساء من جهة انها لا تعلم إلا من قبلهن، وادعى بعضهم ان في بعض هذه الاخبار تعليل قبول قولهن في هذه الامور بتعذر الاشهاد منهن عليها لاجل عدم اطلاع غيرهن عليها ومعلوم ان هذا الكلام في قوة ان يقول لانها لا تعلم إلا من قبلهن ولكنني فتشت بمقدار وسعي ولم اجده. نعم ورد في رواية محمد بن عبد الله الاشعري قال: قلت للرضا (ع): الرجل

 

(هامش)

 

: 1 - الكافي ج 6، ص 101، باب أن النساء يصدقن في العدة والحيض، ح 1، تهذيب الاحكام ج 7 8 ص 165، ح 575، باب عدد النساء ح 174، الاستبصار ج 3، ص 356، ح 1276، باب أن العدة والحيض الى النساء...، ح 1، وسائل الشيعة ج 15، ص 441، ابواب العدد، باب 24، ح 1. 2 - البقرة (2): 228. 3 - مجمع البيان ج 2، ص 326، وسائل الشيعة ج 15، ص 441، ابواب العدد، ب 24، ح 2. (*).

 

يتزوج... الخ الى آخره ؟ فقال (ع) أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد ان ليس لها زوج (1). والحاصل ان ظاهر هذه الاخبار قبول قول المرأة في الحيض والحمل والطهر والعدة وهذه امور لا تعلم إلا من قبلهن في الغالب، فمن هذا يستكشف كبرى كلية، وهو ان كل ما لا يعلم إلا من من قبله يسمع قوله فيه. هذا إذا لم يكن ذلك التعليل في البين وأما إذا كان كما ادعاه الكني (قده) في قضائه (2) فالامر أوضح، لانه بناء على ثبوت ذلك التعليل ووجوده في بعض الاخبار يكون الحكم بالقبول دائرا مدار وجود تلك العلة، ففى كل دعوى يتعذر الاشهاد عليها أو يتعسر يجب قبولها من دون مطالبة البينة عن مدعيها. ومعلوم مطابقة دعوى التى يتعذر الاشهاد عليها مع ما لا يعلم الا من قبله، بمعنى ان كل دعوى لا تعلم الا من قبل مدعيها يتعذر الاشهاد عليها، لان الاشهاد فرع معرفة الشاهد وعلمه بالمشهود به، وعلمه بالمشهود به مع كون الدعوى مما لا تعلم الا من قبله خلف. الرابع: لا شك في ان قول المنكر مع انه موافق للحجة الفعلية - كما بيناه - يحتاج في الحكم له وثبوت قوله إلى اليمين فكيف يكون الحكم للمدعي بصرف الادعاء بدون اليمين ؟ مع ان قوله مخالف للحجة الفعلية كما عرفت في بيان معنى المدعى. وبعبارة اخرى: حيث ان المدعي كان قوله مخالفا للحجة الفعلية فجعل الشارع وظيفته اثقل ميزاني القضاء - أي البينة - ولكن بالنسبة إلى بعض الدعاوي ارتفع هذا الثقل - أي البينة - عنه لمصلحة وملاك لاحدى الجهات التى تقدمت، ولم يكلف

 

(هامش)

 

: 1 - تهذيب الاحكام ج 7، ص 253، ح 1094، باب تفصيل أحكام النكاح، ح 19، وسائل الشيعة ج 14، ص 457، ابواب المتعة، باب 10، ح 5. 2 - كتاب القضاء ص 104. (*).

 

بالبينة. ولكن لا يمكن أن يكون حاله احسن من المنكر الذي قوله موافق مع الحجة ولا يحتاج إلى اليمين ايضا، وهذا معناه عدم الاعتناء بالحجة. وفيه: ان هذا صرف استحسان ولا يصح ان يكون مناطا وملاكا للحكم الشرعي، والشارع عين وظيفة للمدعي وهى البينة ووظيفة اخرى للمنكر أي اليمين بقوله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعي واليمين على من انكر) (1) وهذان الحكمان - أي كون وظيفة المدعي هي البينة ووظيفة المنكر اليمين - عامان يشمل كل مدع وكل منكر، فجاء المخصص بالنسبة إلى بعض اقسام المدعي واسقط لزوم اقامته البينة فكون وظيفة اخرى له يحتاج إلى جعل اخر والى دليل على ذلك الجعل في مقام الاثبات واذ ليس فليس. نعم الدليل هو الوجه الثاني الذي ذكرناه من ان قوله صلى الله عليه وآله: (انما اقضي بينكم بالبينات والايمان) (2) يستفاد منه أمران: احدهما حصر ميزان القضاء في هذين الاثنين. والثانى: عدم جواز الحكم بدون الميزان، فبضميمة عدم جواز ايقاف الحكم وارتفاع البينة عنه لا بد وان نقول بان الحكم لمثل هذا المدعي لا يجوز الا مع حلفه. ثم انهم ذكروا هاهنا وجوها استحسانية اخر لهذا الحكم - أي: كون اليمين على المدعي الذي يسمع قوله - تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها وعدم صحتها في انفسها. ثم ان هذه القاعدة خصصت في موارد بمعنى انه جاء الدليل على قبول قول بعض المدعين بدون ان يكون عليه البينة أو اليمين أي: ليس عليه كلتا الوظيفتين، وما قلنا ان الحكم لا يجوز بدون احد الميزانين ليس حكما عقليا غير قابل للتخصيص، بل

 

(هامش)

 

1 - سبق تخريجه في ص 113. 2 - سبق تخريجه في ص 112، رقم (1). (*)

 

كان مفاد الحديث الشريف، أعني قوله صلى الله عليه وآله: انما اقضي بينكم بالبينات والايمان فإذا اتى دليل على عدم لزوم كلتا الوظيفتين يخصصه. فمنها: دعوى المالك للعامل اداء ما عليه من الزكاة فيقبل قوله من دون ان يكون عليه حلف أو بينة، لقول علي عليه السلام لعامله في خبر غياث إذا أتيت على رب المال فقل تصدق رحمك الله مما اعطاك الله، فان ولى عنك فلا تراجعه (1) ولغير خبر غياث مما يدل على المقام. ومنها: دعوى الفقير الفقر فقالوا: انها تقبل بلا ان يكون عليه البينة أو اليمين لخبر عبد الرحمن العزرمي عن ابى عبد الله (ع) قال (ع): (جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما السلام وهما جالسان على الصفا فسألهما فقالا: ان الصدقة لا تحل الا في دين موجع أو غرم مقطع أو فقر مدقع ففيك شيء من هذا ؟ قال: نعم فاعطياه (2). ولمصحح عامر بن جذاعة: رجل أتى ابا عبد الله (ع) فقال يا ابا عبد الله قرض إلى ميسرة فقال أبو عبد الله (ع): (إلى غلة تدرك ؟) قال: لا قال (ع): (إلى تجارة تؤب ؟) قال: لا والله، قال (ع): (عقدة تباع ؟) قال: لا والله فقال أبو عبد الله (ع): (فانت ممن جعل الله له في اموالنا حقا) فدعى بكيس فيه دراهم (3). تذييل لا يخفى ان ما قلنا - من سماع دعوى المدعي الذى لا يمكنه الاشهاد على ما يدعيه،

 

(هامش)

 

1 - الكافي ج 3، ص 538، باب أدب المصدق، ح 4، وسائل الشيعة ج 6، ص 90، ابواب زكاة الانعام، باب 14، ح 5، وص 217، ابواب المستحقين للزكاة، باب 55، ح 1. 2 - الكافي ج 4، ص 47، باب النوادر (من كتاب النكاح)، ح 7، وسائل الشيعة ج 6، ص 45، ابواب المستحقين للزكاة، باب 1، ح 6. 3 - الكافي ج 3، ص 501، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق، ح 14. (*)

 

 

وان شئت قلت: سماع دعوى الذي لا يعلم ما يدعيه الا من قبله انما يكون فيما إذا لم يظهر المدعى خلاف ما يدعيه وما ينافي دعواه، فلو اقر على خلاف ما يدعيه أو كان ظاهر كلامه خلاف ما يدعيه، فلا يسمع دعواه وان كان ما يدعيه لا يعلم الا من قبله. وذلك من جهة ان اقراره أو ظاهر كلامه حجة عليه فيما إذا كان على ضرره، فإذا اقر بانه غنى وليس بفقير، أو أقرت واعترفت بانقضاء العدة أو كان ظاهر كلامه ذلك فلا يسمع دعواه، لانه من قبيل الانكار بعد الاقرار وباقراره أو ظاهر كلامه علم من قبله بالحجة، فدعواه يكون معلوم البطلان شرعا. فلو قال وادعى عدم القصد في المعاملة الفلانية أو ادعت عدم القصد في عقد النكاح مثلا أو غير ذلك من العقود والايقاعات كالطلاق أو الجعالة مثلا، فلا تقبل دعواه وان كانت الدعوى مما لا يعلم الا من قبله، أو وان كانت مما يتعذر الاشهاد عليه، لان ظاهر كلامه حجة عليه فهو بدعواه هذه يكذب نفسه. والحاصل انه علم شرعا خلاف ما يدعيه من قبل نفسه فلا يتعذر الاشهاد، فخرج عن موضوع هذا الحكم خروجا تعبديا. ان قلت: أليس انهم يقولون بسماع دعوى الزوج عدم القصد إلى الطلاق حقيقة في الطلاق الرجعي في العدة مع ان ظاهر صيغة الطلاق مخالف لهذه الدعوى ؟ قلت: هذا من جهة انها ما دامت في العدة له الرجوع وليس للمرأة ان يعارضها لقوله تعالى (وبعولتهن احق بردهن) (1) بل ربما يقال انها ما دامت في العدة حقيقة زوجة، فليس هذا المورد من باب المدعي والمنكر بل هذا من حقوق نفسه بدون مقابل يعترض عليه ويلزمه بظاهر كلامه. نعم لو كانت هذه الدعوى بعد انقضاء العدة لا يسمع دعوى عدم القصد إلى

 

(هامش)

 

: 1 - البقرة (2): 228. (*)

 

الطلاق حقيقة، لانه يدعي بذلك على المرأة بقائها في حبالته وهى تنكر وتقول بانقطاع الزوجية وبينونتها عنه، ولا يجري استصحاب بقاء الزوجية لحكومة ظاهر كلام الزوج - أي: انشاء الطلاق وانه مع القصد - على هذا الاستصحاب كما هو الشأن في باب تعارض الامارات والاصول. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.