قاعدة مشروعية عبادات الصبى

39 - قاعدة مشروعية عبادات الصبى 

 

قاعدة مشروعية عبادات الصبي [ * ] ومن جملة القواعد الفقهية المعروفة التي وقع الخلاف فيها بين الفقهاء هي قاعدة (مشروعية عبادات الصبي غير البالغ) وفيها جهات من البحث: [ الجهة ] الاولى في بيان المراد منها والاقوال فيها وما هو المختار منها أما الاول: فالمراد منها أنه هل توجه إليهم الاوامر والنواهي غير الالزامية - بعد الفراغ عن عدم توجه الالزام إليهم لا أمرا ولا نهيا - أم لا ؟ ففي الحقيقة النزاع في أنه هل شرع في حقهم العبادات بحيث يصدق على إتيانهم بتلك العبادات الاطاعة والامتثال للاوامر المولوية الاستحبابية أم لا، إذ لم يشرع في حقهم تلك العبادات أصلا، وحالهم حال البهائم والمجانين فلو أتوا بها بقصد الاطاعة والامتثال للاوامر المولولية يكن تشريعا وافتراء محرما عقلا لا مولويا ؟ وأما الثاني: ففيه أقوال: الاول: أنها مشروعة في حقهم، غاية الامر ليس من طرف المولى إلزام عليهم بالفعل في الواجبات ولا بالترك في المحرمات، فتكون الواجبات في حقهم كالمندوبات،

 

(هامش)

 

[ * ] (خزائن الاحكام) ش 23، (القواعد الفقهية) (فاضل لنكراني) ج 1 ص 344. (*)

 

والمحرمات كالمكروهات. وإن شئت قلت: إن الاحكام التكليفية في حقهم ثلاثة: فالواجبات والمستحبات مندوبات، والمحرمات والمكروهات مكروهات، إذ لا وجوب ولا حرمة في حقهم. وأما المباح فباق على إباحته، فالتكاليف منحصرة في حقهم في ثلاث: المستحب والمكروه والمباح. الثاني: أنه لم يتوجه إليهم خطاب من طرف المولى أصلا، لا الوجوبي ولا الاستحبابي ولا التحريمي ولا التنزيهي، والصبي المميز - الذي له شعور وإدراك - حاله من هذه الجهة حال غير المميز. وأما الخطابات المتوجهة إلى الاولياء بأمرهم لهم بالصلاة والصيام قبل أن يصيروا بالغين فللتمرين، لا أن الاولياء أمروا بأن يأمروا بنفس الصلاة مثلا لمصلحة في نفس الصلاة بل أمروا أن يأمروا بالصلاة والصيام، لان يتمرنوا ويتعودوا لكي لا يكون إتيانها بعد الوجوب ثقيلا عليهم، فليس أمر الاولياء بأن يأمروا الصبيان والاطفال بالعبادات داخلا في مسألة أن الامر بالامر بشئ هل أمر بذلك الشيء أم لا ؟ كي يقال إذا كان الامر بالامر بالشئ أمر بذلك الشيء، فتكون العبادات متعلقا للامر المولوي، وبعد الفراغ عن عدم وجوبها على الصبيان لا بد وأن تكون تلك الاوامر أوامر ندبية، ففي الحقيقة أمر الشارع للاولياء أن يأمروا صبيانهم بالعبادات تعلق بعنوان التمرين والتعويد أي: مرنوهم وعودوهم على الصلاة والصيام. الثالث: أن الشارع أمر الصبيان كالبالغين بهذه العبادات لكن أمره بها ليس لمصلحة في أنفسها، ولذا لو حج الصبي غير البالغ المستطيع لا يكفي حجه عن حجة الاسلام، وذلك ليس إلا لعدم مصلحة في حجه، بل أمره لهم بها لمصلحة التمرين فقط، فكأنه قال: مرنوا أنفسكم على الصلاة والصيام أو غيرهما من العبادات. وعودوها عليها، فالمستحب عليهم هو عنوان تمرين أنفسهم وتعويدهم على العبادات.

 

وتظهر الثمرة بين هذا القول والقول الاول أنه بناء على القول الاول يجوز أن ينوب في عمله العبادي عن غيره بأجرة كي يكون أجيرا، أو بدون أجرة كي يكون تبرعا، لان عمله واجد للمصلحة التامة بدون نقص فيها، غاية الامر رفع الشارع الالزام عنهم لطفا ورحمة عليهم ومن باب الرفق بهم والامتنان، فيكون رفع التكليف الالزامي عنهم مثل الرفع في باب الحرج، وعدم جعله التكاليف الحرجية على قول، وهو رفع الالزام من دون تغيير في ناحية الملاك، ولذا لو أتى بها وتحمل الحرج يكون عمله صحيحا ومجزيا عند أرباب هذا القول. وأما بناء على هذا القول فلا يصح أن ينوب عن قبل غيره لا مع الاجرة ولا بدونها، إذ عمله يكون عبادة بحسب الشكل فقط ولا روح له، فلا يجوز إجارته لعمل عبادي، ولا تبرأ ذمة الميت بإتيانه ما فات عنه. وظهر مما ذكرنا الفرق بين القول الثاني والاول، وأنه بناء على القول الثاني لا يصح أن ينوب عن غيره بطريق أولى، إذ بناء على القول الثالث تكون لعمله مصلحة التمرين وإن لم يكن في نفس عبادته من صلاته وصومه وحجه مصلحة وملاك أصلا. وأما بناء على القول الثاني لا خطاب ولا ملاك، حتى ملاك التمرين. وأما الفرق بين القول الثاني والثالث هو أنه بناء على القول الثاني مصلحة التمرين في متعلق أمر الاولياء، فالشارع أمرهم بتمرين أولادهم، فالثواب وجزاء التمرين لهم، لانه مستحب عليهم، ولا ربط لا للملاك ولا للخطاب بالصبيان، لان خطاب الشارع إلى الاولياء، ولا خطاب إلى الصبيان أنفسهم. وأما بناء على القول الثالث فالخطاب إلى الصبيان لكن لا بملاك في عباداتهم بل الملاك في تعودهم، وإلا فنفس العبادة التى يأتي بها صرف صورة ويكون بشكل العبادة فقط.

 

وأما الثالث: فالمختار هو القول الاول وهو المشهور بين الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وسنذكر الدليل عليه في بيان الجهة الثانية وذكر مستند القائلين بالمشروعية. [ الجهة ] الثانية في بيان مدرك هذه القاعدة فنقول: أما مشروعية عباداته وأنها شرعت في حقهم - غاية الامر أنها ليست بواجبة عليهم بل تكون مأمورة بالامر الاستحبابي - فلوجوه: الاول: شمول الادلة العامة والمطلقات لهم، فقوله تعالى: (وأقيمو الصلاة) (1) وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (2) وأمثالهما من العمومات والاطلاقات في أدلة العبادات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين. ولا مخصص للعمومات ولا مقيد للمطلقات عدا ما يتخيل من قول علي عليه السلام (أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبى حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) (3). وقد يدعي أيضا انصراف تلك العمومات والاطلاقات إلى البالغين. وفيهما: أما في دعوى الانصراف فإنها لا تخلو عن مجازفة، إذ لا شك في أن الشارع لم يتخذ في مقام تبليغ أحكامه طريقا خاصا، بل يبلغ ويفهمهم على طريق

 

(هامش)

 

(1) البقرة (2): 43، 83، 110، النساء (4): 77، يونس (10): 87، النور (24): 56،... (2) البفرة (2): 185. (3) (الخصال) ص 40 و 175 باب الثلاثة ح 4 و 223، (وسائل الشيعة) ج 1 ص 32 أبواب مقدمة العبادات باب 4 ح 11. (*)

 

أهل المحاورة، ولا شك في أن أهل المحاورة لا يفرقون في توجيه الخطاب وألفاظ المخاطبة بين البالغين ومن كان عمره أقل من عمر البالغ بساعة. بل يخاطبونهم على نسق واحد وبلفظ واحد، فدعوى أن العمومات لا تشمل غير البالغين أو تكون منصرفة عنهم مجازفة محضة وبلا دليل ولا برهان. وأما حديث رفع القلم الذي هو عمدة دليل القائلين بعدم شرعية عبادات غير البالغين فالانصاف أنه في مقام الامتنان واللطف والرأفة والرحمة، فلا يدل على أزيد من رفع الالزام. مثل قاعدة الحرج عند المشهور فإنهم يقولون: ببقاء الملاك وارتفاع الالزام والوجوب للامتنان، ولذلك يقولون: لو تحمل الحرج وأتى به يكون صحيحا ومجزيا. وأما عدم إجزاء حج الصبي عن حجة الاسلام فلعله لخصوصية في حجة الاسلام لا تحصل تلك الخصوصية إلا بأن يكون بالغا، كما أنه في اشتراط الحرية أيضا كذلك، فليس من جهة عدم مصلحة وملاك في حج غير البالغين كما توهمه هذا القائل. ولكن ربما يرد هاهنا إشكال وهو أنه لا شك في أن مفاد حديث رفع القلم هو رفع الوجوب عن غير البالغين فإذا ارتفع الوجوب فلا دليل على استحباب ذلك الفعل، لان دليله كان مفاده الوجوب وهو ارتفع على الفرض، فما الذي يدل على استحبابه في مقام الاثبات ؟ وإن لم يكن دليل على عدم استحبابه أيضا ولكن صرف عدم الدليل على عدم استحبابه لا يكفي في الحكم باستحبابه، فإثبات الاستحباب لا طريق إليه. وفيه أولا: أنه ربما يقال بأنه يمكن إثباته بالاستصحاب بأن يقال بأن القدر الجامع بين الواجب والمستحب وهو مطلق الطلب وجد، وبارتفاع الوجوب يشك في بقاء الجامع لاحتمال بقائه في ضمن الطلب الاستحبابي. وفيه: أن هذا الاستصحاب من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي،

 

وأثبتنا في الاصول عدم جريانه. وأما الاشكال عليه بأنه على تقدير جريانه يكون مثبتا، لان إثبات خصوص فرد باستصحاب الجامع بعد زوال الفرد الذى وجد الجامع في ضمنه يقينا، واحتمال وجود فرد آخر من أول الامر أو من حين زوال ذلك الفرد المتيقن الوجود يكون من إثبات اللازم العقلي بالحكم ببقاء الملزوم. فلا يرد، لان في المقام لا يحتاج إلى إثبات خصوص الفرد أي الطلب الاستحبابي، لان الاثر مترتب على نفس بقاء الجامع، وهو الطلب المشترك بين الاثنين. ولكن يمكن هاهنا تصوير الاستصحاب بنحو لا يكون من القسم الاول أو القسم الثاني من القسم الثالث اللذان أثبتنا عدم جريانها، بل يكون من القسم الثالث من القسم الثالث من الاستصحاب الكلي الذي قلنا بجريانه مع وحدة القضية المشكوكة مع المتيقنة عرفا. بأن يقال: إن الطلب الاستحبابي مرتبة من الطلب منطوية في الطلب الوجوبي، فإذا ارتفعت تلك المرتبة الاكيدة من الطلب - المسمى بالطلب الوجوبي - فيشك في بقاء تلك المرتبة الضعيفة التى كانت منطوية في المرتبة الاكيدة، فيستصحب. وأركان الاستصحاب تامة من اليقين بوجود تلك المرتبة سابقا والشك في بقائه. وفيه أن هذا المبنى - من كون الاستحباب مرتبة ضعيفة من الطلب منطوية في المرتبة الاكيدة المسمى بالوجوب - غير تام. وثانيا: أنه مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب بحكم العقل بلزوم إطاعته، إلا أن يأذن هو في الترك، فالاستحباب ليس مقتضى طبع الطلب، بل يستفاد من إذنه في الترك، والاذن في الترك كما يحصل من نفس هذا العنوان - إلى التصريح بحواز الترك كذلك يحصل بعناوين آخر مثل رفع العسر والحرج، ومثل هذا العنوان أي

 

رفع قلم الالزام، ورفع القلم عن شخص أو طائفة مقابل ما كتب عليه أو عليهم. فكما لا يفهم من العبارة الاخيرة غير اللزوم والوجوب فكذلك لا يفهم من الاولى إلا رفع الوجوب والالزام والاذن في الترك، فحديث رفع القلم بمنزلة الاذن في ترك الواجبات، فقهرا يكون مفاد الاوامر الاولية بعد ورود الاذن في الترك بتوسط حديث الرفع هو الاستحباب. لا أن حديث الرفع يرفع الخطاب الوجوبي من رأس، كي تقول إذا ارتفع الخطاب الوجوبي بحديث رفع القلم عن الصبي فليس هناك آخر يستفاد منه الاستحباب. هذا مضافا إلى أن هذا الاشكال مختص بالواجبات ولا تأتي في المستحبات. الثاني: العمومات التى دلت على ترتب الثواب على من صلى أو صام أو حج أو أعطى زكاة ماله وأمثال تلك المذكورات من العبادات، وهذه العمومات تشمل غير البالغين كشمولها للبالغين. ودعوى الانصراف إلى البالغين خروج عن ظاهر اللفظ بدون دليل عليه. ولا شك في أن ترتب الثواب على فعل من لوازم استحباب ذلك الفعل، فهذه العمومات والاطلاقات تدل بالدلالة الالتزامية على استحباب تلك الواجبات على غير البالغين بعد القطع بعدم وجوبها عليهم. الثالث: أن العقل مستقل بحسن بعض الواجبات كرد الامانة وحفظ النفس المحترمة، ولا يفرق في حكم العقل بحسن ذلك الفعل واستحقاق الاجر والثواب عليه بين أن يكون للفاعل من العمر خمسة عشر سنة بالتمام أو كان ناقصا مقدار ساعة بل يوم بل شهر، فكون الصبي غير البالغ مستحقا للاجر والثواب على مثل ذلك الفعل مما يستكشف منه استحباب ذلك الفعل، وبعدم القول بالفصل يثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضا. مضافا إلى أنه يثبت بهذا الدليل مشروعية عبادات الصبي في الجملة مقابل

 

السلب الكلي الذي يدعية الخصم. إن قلت: إن حديث رفع القلم يخصص العمومات بغير الصبي من العاملين الممتثلين لتلك العبادات، لانه إذا كان مفاد الحديث رفع قلم التكليف مطلقا سواء أكان وجوبا أو استحبابا فيرفع استحقاق الصبي غير البالغ للاجر والثواب من باب نفي اللازم بنفي الملزوم. فجوابه: أن مفاد حديث رفع القلم ليس رفع التكليف مطلقا كما توهم، بل مفاده وظاهره رفع خصوص الالزام والوجوب بالبيان المتقدم. الرابع: كمال الاستبعاد أن لا يستحق غير البالغ القريب إلى وصوله إلى البلوغ بزمان يسير كيوم مثلا أو أقل، مع إتيانه بالصوم مثلا في نهار طويل من أيام شهر رمضان وفي حر شديد مع كمال الاخلاص، وهو يتحمل الاذى قربة إلى الله تعالى، أو يمشي إلى الحج مثل هذا الصبي مخلصا لله تعالى راجلا مع كمال المشقة، ثم يقال إن هذا لا يستحق شيئا من الاجر والثواب لانه لم يصل إلى حد البلوغ. فالانصاف أن القول بعدم استحقاق مثل هذا الولد في هذا العمر مع أنه في كمال الشعور والادراك - خصوصا إذا كان من أهل الفضل والتقوى، بل ربما يتفق أن يكون من الفقهاء، كما يقال في حق بعض الفقهاء الكبار قدس سره إنه صار فقيها وبلغ إلى درجة الاجتهاد قبل أن يصير بالغا - خلاف الانصاف بل خلاف الوجدان، وكيف يمكن أن يقال مثل هذا مع أنه صلى الله عليه وآله قال: (في كل كبد حراء أجر) (1). هذا ولكن أنت خبير بأن هذا الوجه مع هذا التفصيل المذكور بالخطابة أشبه من كونه دليلا فقهيا يكون مدركا للفتوى، وذلك من جهة أنه لو صدر عمل أشق مما ذكرنا من أكبر العلماء وكان إتيانه بعنوان أنه من

 

(هامش)

 

(1) (مسند أبي يعلى الموصلي) ج 3 ص 137 ح 1568، ((المعجم الكبير للطبراني) ج 20 ص 323 ح 763، (السنن الكبرى للبيهقي) ج 4 ص 186 باب ما ورد في سقي الماء. (*)

 

الدين يكون ذلك تشريعا محرما ولا يستحق شيئا من الاجر والثواب، بل يستحق اللؤم والعقاب. ففيما نحن فيه أيضا يقال: حيث أنه لم يدل دليل على أن مثل ذلك الصوم أو مثل ذلك الحج مشروع فلو أتى به بعنوان العبادة وأنه مشروع يكون تشريعا ولا يستحق عليه شيئا من الاجر والثواب. ثم ذكروا هاهنا وجوها أخر لمشروعية عبادات الصبي غير البالغ تركنا ذكرها، لكونها من الاستحسانيات التي لا يصح جعلها مدركا للحكم الفقهي، وفيما ذكرنا غنى وكفاية. وما ذكرنا كان مدرك القول الاول القائلون بمشروعية عبادات الصبي غير البالغ كالبالغين، وأن الواجبات أيضا في حقهم مستحبات. وأما مدرك القول الثاني - أي عدم مشروعية عباداتهم أصلا وأن الشارع أهملهم كالبهائم والمجانين - هو عموم حديث رفع القلم عنهم للواجبات والمستحبات، فكما أن الوجوب مرفوع عنهم كذلك الاستحباب أيضا مرفوع، لانه لا شك في أن قلم التكليف عام يشمل الاحكام الخمسة كلها، والنفي وارد على هذا المعنى، فمعنى رفع القلم عنهم هو أن كلما يكون مندرجا تحت عنوان قلم التكليف فهو مرفوع عنهم، فرفع القلم مقابل وضع القلم. فكما أن وضع القلم عند البلوغ معناه أن الاحكام الخمسة كلها تكتب في حقه، فكذلك معنى رفع القلم عدم كتابة شيء منها عليه، لا الوجوب ولا الاستحباب ولا الحرمة ولا الكراهة حتى ولا الاباحة بعنوان أنه حكم شرعي، فمع رفع القلم عنه وعن أفعاله لا يبقى مجال للقول بمشروعية عباداته واستحبابها، ولذلك ترى أن العرف إذا يقولون: إن فلانا مرفوع القلم، أي: لا اعتبار بأقواله ولا بأفعاله أي حاله حال البهائم. والانصاف أن الحديث وإن كان ظاهره بحسب المتفاهم العرفي هو هذا المعنى

 

ولكن القرائن المقامية تدل على أن المراد منها هو خصوص الاحكام الالزامية، كالوجوب والحرمة لا مطلق الاحكام لكي يشمل الاستحباب والكراهة، بل الاباحة الشرعية، وذلك لما ذكرنا من أنه تبارك وتعالى في مقام الرحمة والرأفة بالعباد، وأن الصبي غير البالغ غالبا لا يميز بين الضرر والنفع، ولا يعتنى بأن ترك الواجب وفعل الحرام مجلبة للضرر، لقصور عقله أو لغلبة شهواته الحيوانية. ولذلك رفع المؤاخذة والعقاب عنه برفع منشائهما وهو الحكم الالزامي أي الوجوب والحرمة. وأما الروايات في عدم جواز أمره حتى يحتلم (1). وأيضا ما ورد من أن عمده خطأ فأجنبي عن هذا المقام، لان الطائفة الاولى راجعة إلى عقوده وإيقاعاته وسائر معاملاته وإن لم يكن بعقد أو إيقاع، كمعاملاته المعاطاتية. والطائفة الثانية راجعة إلى باب الجنايات، لانها ظاهرة فيما يكون لعمده حكم ولخطائه حكم فقال عليه السلام في رواية إسحاق بن عمار: (عمد الصبيان خطأ) (2) أي حكم المترتب على ما صدر عنه عمدا هو حكم هذا الفعل لو كان يصدر من البالغ خطأ، ولذلك قال عليه السلام بعد هذه الجملة جملة أخرى وهي قوله عليه السلام: (يحمل على العاقلة). فالقول بعدم مشروعية عبادات غير البالغين لا أساس له، وإن كان يظهر من جماعة من أعاظم الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأما مدرك القول الثالث وهو أنها شرعية لا من حيث عناوينها الاصلية أي ليست الصلاة مثلا مشروعة ومستحبة من حيث أنها صلاة، وكذلك في الصوم والحج وسائر العبادات الواجبة ليست مشروعيتها من تلك العناوين أنفسها بل من حيث

 

(هامش)

 

(1) (الكافي) ج 7 ص 197 باب حد الغلام والجارية اللذين يجب عليهما الحد تماما ح 1، (السرائر) ج 3 ص 596 المستطرفات، (وسائل الشيعة) ج 12 ص 233 ح 22750 أبواب عقد البيع باب 14 ح 1. (2) (تهذيب الاحكام) ج 10 ص 233 ح 921 في باب ضمان النفوس وغيرها ح 54، (وسائل الشيعة) ج 19 ص 307 ح 35835 أبواب العاقلة باب 11، 3. (*)

 

القعود وتمرين النفس على إتيانها فكان للصلاة مثلا جهتين: جهة الصلاتية التى هي عنوان أولى لها وجهة التمرن بإتيانها كي لا يشق عليه بعد البلوغ إتيانها. فالمدعى بناء على هذا القول الثالث ليس هو مشروعية الصلاة من حيث أنها صلاة، بل مشروعيتها من حيث حصول التمرين والتعود على أداء الواجبات بإتيانها ففي الحقيقة موضوع الاستحباب ليس هو نفس الصلاة بل موضوع الاستحباب هو التمرين الذي يحصل بإتيان الصلاة في كل يوم في وقتها، فهو مركب - أي القول الثالث - من أمرين: أحدهما: عدم مشروعية العبادات من حيث عناوينها الاصلية. وفي هذا الامر دليلهم دليل القول الثاني وجوابهم عين ذلك الجواب ثانيهما: استحباب تلك العبادات ومشروعيتها من حيث حصول التمرين بإتيانها. ودليلهم في هذا الامر الاخبار الكثيرة التي مفادها استحباب التمرين والتعود. (1) وفيه: أن دليل رفع القلم لو شمل المستحبات فهذا الاستحباب أيضا مرفوع عنهم، فهذا التفصيل لا وجه له. نعم الاخبار الكثيرة واردة في أنه على الولي أن يأمره بإتيان الواجبات لمصلحة التمرين (2)، فيستحب أو يجب على الولي الامر لمصلحة التمرين لا على الصبي. فلا يخلو الامر عن أحد هذين: وهو أن حديث رفع القلم مفاده إما رفع جميع

 

(هامش)

 

(1) (الخصال) ص 626، (تهذيب الاحكام) ج 2 ص 381 ح 1590 (18) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ح 7، (الاستبصار) ج 1 ص 409 ح 1563 باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ح 5، (وسائل الشيعة) ج 3 ص 11 أبواب أعداد الفرائض ونوافلها باب 3 ح 1 - 8. (2) (الكافي) ج 3 ص 409 باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ح 1، (الفقيه) ج 1 ص 281 ح 863 باب الحد الذي يؤخذ فيه الصبيان بالصلاة ح 3، (تهذيب الاحكام) 9 ج 2 ص 381 ح 1590 (18) باب الصبيان متى يؤمرون بالصلاة ح 7، (وسائل الشيعة) ج 3 ص 11 أبواب اعداد الفرائض باب 3 ح 1 - 5 - 6 - 7 - 8. (*)

 

الاحكام حتى المستحبات فلا فرق بين أن يكون موضوع الاستحباب نفس عناوين العبادات أو يكون التعود والتمرين على إتيان تلك العبادة، فلا يستحب على الصبي شيء بأي عنوان كان. وأما مفاده رفع خصوص الالزام ووجوب الفعل أو الترك، فنفس هذه العناوين مستحبات. وقد تقدم التفصيل فظهر أن القول الثالث لا وجه له. الجهة الثالثة في بيان موارد تطبيق هذه القاعدة والفروع المترتبة عليها فنقول: الاول: الطهارات الثلاث، فبناء على القول بالمشروعية تكون مستحبة على غير البالغ بعد دخول وقت الصلاة، لانها واجبة على البالغين في ذلك الوقت، كما أنه بناء على القول باستحبابها في أنفسها تكون أيضا مستحبة على غير البالغين. وفي كلتا الصورتين له أن يأتي بها بقصد أمرها الاستحبابي، غاية الامر في إحديهما بعد دخول الوقت وفي الاخرى وإن كان قبل دخول الوقت. الثاني: في تجهيز الميت من الغسل والكفن والصلاة عليه ودفنه بعد الصلاة عليه فبناء على المشروعية يستحب عليه هذه الامور وإن كان على البالغين واجبا كفائيا، فيجوز له أن يتصدى ويرفع موضوع الوجوب عن البالغين. وأما بناء على عدم المشروعية فليس له أن يجهز الميت وإن كان أباه أو أمه. الثالث: المستحبات من الافعال والاذكار الواردة في الطهارات الثلاث قبلها وبعدها وفي حين الاشتغال بها، فبناء على المشروعية يستحب كل ذلك على الصبي غير البالغ أيضا كالبالغين، وكذلك الحال في مستحبات تجهيز الميت.

 

الرابع: الاذان والاقامة قبل الصلاة مستحب عليه قبل الدخول في الصلاة، وكذلك أذان الاعلام بناء على المشروعية، وليس شيء منها مستحبا بناء على عدم المشروعية، وكذلك نفس الصلاة مع مستحباتها الكثيرة - التي كتب الشهيد قدس سره فيها كتاب الالفية والنفلية مستحبة في حقه بناء على مشروعية عباداته، ولا يستحب شيء منها بناء على عدم المشروعية. وكتاب الالفية مشتمل على ألف واجب، وكتاب النفلية مشتمل على ما يزيد ثلاثة آلاف من المستحبات، فجميع هذه الاربعة آلاف أو أكثر من واجبات الصلاة ومستحباتها مستحبة على الصبي غير البالغ بناء على المشروعية، فله أن يأتي بها بقصد أمرها الندبي. وذكرها وبيان مدرك وجوبها واستحبابها خارج عن طور هذا الكتاب، وقد اتعب الشهيد الاول قدس سره نفسه في استقصائها وذكرها في كتابيه، وشرحهما الشهيد الثاني قدس سره أحسن شرح، فلا حاجة إلى ذكرها. والغرض هاهنا بيان أن هذه القاعدة - أي قاعدة مشروعية عبادات الصبي غير البالغ - من أكبر القواعد الفقهية وأكثرها فرعا. الخامس: الحج نفسها وواجباتها ومستحباتها الكثيرة التي بعد الصلاة لا يماثلها في كثرة الواجبات والمستحبات عبادة، فجميعها مستحبة في حق الصبي، ويثاب ويوجر على الاتيان بها بناء على القول بمشروعية عبادات الصبي كما هو المختار. وأما بناء على عدم المشروعية فلا يستحب شيء منها عليه. السادس: الصوم واجباته ومستحباته مستحبة على غير البالغ بناء على المشروعية كما أن الاعتكاف أيضا كذلك. وأما بناء على عدم المشروعية فلا يستحب شيء منها عليه، وواجبات الصوم ومستحباته كثيرة، وكذلك الاعتكاف. ثم إنه بناء على ما اخترنا في معنى حديث رفع القلم عن الصبي من أن المراد برفع

 

القلم رفع الاحكام الالزامية كالوجوب والحرمة، فالمكروه أيضا كالمستحب ليس مرفوعا عنه، فبناء على هذا لو صام في شهر رمضان استحبابا أو في غيره من الازمنة التي يكون الصوم فيها مستحبة وهو كل أيام السنة إلا المنهي عنه، والمؤكد منها أيام خاصة كصوم أيام الليالي البيض، ويوم الغدير وصوم ثلاثة أيام من كل شهر وهو أول خميس منه وآخر خميس منه وأول أربعاء من العشر الثاني، ويوم السابع عشر من ربيع الاول، ويوم السابع والعشرون من رجب، ويوم دحو الارض - وهو اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة - إلى غير ذلك من الايام التي يستحب فيها الصوم، فالمكروهات في حال الصوم مكروه في حقه كالاكتحال والسعوط وشم الرياحين وغير ذلك. كما أن أقسام الصوم المكروه كصوم يوم عاشوراء بناء على كراهته أيضا مكروه عليه، كما أنه لو صار جنبا بإدخاله في امرأة قبلا أو دبرا أو إدخال الغير فيها قبلا أو دبرا يكره عليه كل ما يكره على الجنب. والحاصل: أن المكروهات كالمستحبات غير مرفوع عنه، فتكون في حقه مكروها كالبالغين، إلا أن يكون دليل الكراهة مخصوصا بالبالغين وذلك كالملاعبة مع زوجته في حال الصوم خوفا من الانزال، فهذا التعليل يوجب اختصاص هذا الحكم بالبالغين. ثم إنه بناء على مشروعية عبادات الصبي غير البالغ المميز لا وجه للقول بعدم جواز استيجاره للصلاة أو الصوم أو الحج عن الميت، بناء على ما هو المفروض من كون فعله ذا ملاك تام كالبالغين، وإنما ارتفع اللزوم إرفاقا ورأفة بهم، فيمكن للصبي المميز أن ينوب عن الميت ويأتي بما على عهدته، ويفرغ ما في ذمته، لانه لا خلل ولا نقصان في فعله. فعدم الجواز وعدم الاجزاء لا يبقى له مجال، ولو كان دليل على اشتراط البلوغ

 

في صحة عبادة لكان تعبدا يجب الالتزام، ولكنه ليس في البين إلا حديث رفع القلم (1)، وحديث أن عمده خطأ (2)، ورواية أن جواز أمره موقوف على الاحتلام - أي البلوغ (3) - وقد عرفت الحال في هذه الاحاديث. فالاقوى جواز استيجاره للعبادات التي يمكن النيابة فيها، وإن الاحوط تركها، خروجا عن مخالفة جمع كثير من أعاظم الفقهاء قدس سرهم. وأما نذره أن يفعل ما هو عبادة غير مالي فأيضا بناء على مشروعية عباداته، فبمقتضى القواعد الاولية ينبغى أن يقال بصحته، ولكن لا قائل بها، بل الظاهر انعقاد الاجماع على اشتراط البلوغ في صحة النذر. مضافا إلى أنه يمكن أن يقال: إن من لوازم صحة النذر وجوب الوفاء به، لقوله تعالى: (ويوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) (4) فإذا لم يكن وجوب الوفاء في مورد فلا يصح النذر في ذلك المورد، لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم المساوي. ولكن يمكن الجواب عن هذا بأن النذر لازمه أن يمكن الوفاء به، ولذلك لا يجوز نذر ما لا يقدر عليه، كما إذا نذر أن يحج ماشيا مع عدم قدرته على ذلك. وأما وجوب الوفاء، فهذا من الاحكام الشرعية التي رتب الشارع عليه، فمن الممكن أن يرفع الشارع هذا الحكم رأفة وامتنانا في بعض الموارد، فالعمدة في وجه بطلان نذر الصبي غير البالغ هو الاجماع لا غير. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

 

(هامش)

 

(1) تقدم راجع ص 112 هامش رقم (3). (2) تقدم راجع ص 118 هامش رقم (2). (3) تقدم راجع ص 118 هامش رقم (1). (4) الدهر (76): 7. (*)