قاعدة الاتلاف

قاعدة الاتلاف

 

ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة التي تمسك بها الفقهاء في موارد الضمان هي قاعدة من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن . والبحث فيها من جهات ثلاث: الجهة الاولى في مداركها أقول: إن هذه القاعدة مما اتفقت عليها الكل ولا خلاف فيها بل يمكن أن يقال إنها مسلمة بين جميع فرق المسلمين وربما يقال إنها من ضروريات الدين. واستدل عليها الشيخ وابن إدريس في المبسوط 1 والسرائر 2 بقوله تعالى: (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) 3. ولا شك في أن إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه إعتداء عليه وتعبيره سبحانه

 

(هامش)

 

الحق المبين ص 87، عناوين الاصول عنوان 58، خزائن الاحكام ش 25، مجموعه رسائل ش 12 ص 474، دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد ص 94، مجموعه قواعد فقه ص 143، قواعد فقه ص 91، اصول الاستنباط بين الكتاب والسنة ص 110، القواعد ص 19، قواعد فقه ص 109 قواعد الفقه ص 137، قواعد فقهي ص 21، القواعد الفقهية (فاضل اللنكراني) ج 1 ص 45، القواعد الفقهية (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 193، قواعد الفقهية ش 41، ص 119، المبادي العامة للفقه الجعفري ص 387، مجله حقوقي دادگسترى العام 1، ش 4 ضمان تلف مصطفى امامى. (1) المبسوط ج 13، ص 60. (2) السرائر ج 2، ص 480. (3) البقرة (2): 194. (*)

 

وتعالى عن أخذ المثل في المثليات والقيمة في القيميات الذي هو عبارة عن كونه ضامنا بالاعتداء للمشاكلة كقوله تعالى: (جزاء سيئة سيئة مثلها) 1 وكقول الشاعر: قالوا اقترح شيئانجد لك طبخه * قلت اطبخوا لي جبة وقميصا فالآية تدل دلالة واضحة على أن من أتلف مال الغير بدون إذنه ورضاه فهو له ضامن. وقال الشيخ في المبسوط: روى الاعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: حرمة مال المسلم كحرمة دمه . ولا شك في أن احترام المال وانه بمنزلة دمه يدل على أنه لو أتلفه متلف لا يذهب هدرا بل يكون ضمانه عليه. وروي الشيخ أيضا في المبسوط عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا من أخذ عصا أخيه فليردها 3. وأيضا روي في المبسوط عن الحسين أو حسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: على اليد ما أخذت حتى تؤدي 4. والرواية الاخيرة أي قوله صلى الله عليه وآله وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي وفي بعض النسخ حتي تؤديه رويت عن طريق الخاصة أيضا 5. كما أن ما رواه ابن مسعود أي قوله صلى الله عليه وآله حرمة مال المسلم كحرمة دمه أيضا رواه الخاصة 6 وأيضا يدل عليه وقوله عليه السلام: المغصوب مردود 7.

 

(هامش)

 

(1) الشورى (42): 40. (2) المبسوط ج 3، ص 59. (3) المصدر. (4) المصدر. (5) مستدرك الوسائل ج 14، ص 7، أبواب كتاب الوديعة، باب 1، ح 15944، عوالي اللئالى ج 1، ص 224، ح 106، وج 2، ص 389، ح 10، وج 3، ص 246 و 251 ح 2 و 3. (6) عوالي اللئالى ج 3، ص 473، ح 4. (7) الكافي ج 1، ص 539، باب الفى والانفال و...، ح 4، تهذيب الاحكام ج 4، ص 128، ح 366، باب (*)

 

وحكى في المستدرك عن دعائم الاسلام: روينا عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب يوم النحر بمنى في حجة الوداع وهو على ناقة العضباء فقال: أيها الناس إني خشيت أن لا ألقاكم بعد موقفي هذا بعد عامي هذا فاسمعوا ما أقول لكم فانتفعوا به ثم قال أي يوم أعظم حرمة ؟ قالوا: هذا اليوم يا رسول. قال: فأي الشهور أعظم حرمة ؟ قالوا: هذا الشهر يا رسول الله. قال: فأي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا: هذا البلد يارسول الله. قال: فان حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقوا ربكم فيسئلكم عن أعمالكم ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم. قال: أللهم أشهد الحديث. 1 وأيضا عنه عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في حديث: فمن نال من رجل شيئا من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك والانفصال من كل ما كان منه إليه وإن كان قد مات فليتنصل من المال إلى ورثته وليتب إلى الله مما أتى إليه حتى يطلع عليه عزوجل بالندم والتوبة والانفصال. ثم قال: - ولست أخذ بتأويل الوعيد في أموال الناس ولكني أرى أن أؤدي إليهم إن كانت قائمة في يدي من إغتصبها ويتنصل إليهم منها وإن فوتها المغتصب أعطى العوض منها فان لم يعرف أهلها تصدق بها عنهم على الفقراء والمساكين وتاب إلى الله عزوجل مما فعل 2. وأيضا في المستدرك عن دعائم الاسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه قضى فيمن قتل دابة عبثا أو قطع شجرا أو أفسد زرعا أو هدم بيتا أو عور بئرا أو نهرا أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد وضرب جلدات نكالا. وإن أخطأ ولم يتعمد ذلك فعليه الغرم (هامش)

 

قسمة الغنائم، ح 2، وسائل الشيعة ج 6، ص 365، أبواب الانفال وما يختص للامام عليه السلام، باب 1، ح 4. و في الكافي والوسائل: لان الغصب كله مردود . وفي التهذيب: لان المغصوب كله مردود . (1) مستدرك الوسائل ج 17، ص 87، ابواب كتاب الغصب، باب 1، ح 20816. (2) مستدرك الوسائل ج 12، ص 105، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 78، ح 13641، وج 17، ص 87، أبواب كتاب الغصب، باب 1، ح 20817. (*)

 

ولا حبس ولا أدب. وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها 1. وأيضا يمكن استفادة هذا الحكم من صحيحة أبي ولاد التي ذكرها الشيخ الانصاري قدس سره في المكاسب 2. ودلالة هذه الاخبار على ضمان المتلف لمال الغير بدون إذنه ورضاه في كمال الوضوح مضافا إلى ما عرفت من الآية الشريفة. وأما ما اشتهر في الالسن من قولهم من أتلف مال الغير فهو له ضامن فلم نجده في كتب الحديث ولعل المتتبع الخبير يجده أو وجده. وعلى كل حال ثبوت هذا الحكم عند عامة الفقهاء بدرجة تكون غنية عن الفحص والبحث في مداركه. الجهة الثانية في بيان المراد من هذه القاعدة أقول: الظاهر أن التلف بمعنى الهلاك والفناء فاتلاف المال عبارة عن إهلاكه وافنائه والافناء قد يتعلق بذات المال وقد يتعلق بماليته مع بقاء ذاته مثلا لاشك في أن الثلج له مالية في الصيف وأما في الشتاء فلا مالية له أي العقلاء لا يبذلون بازائه المال فإذا أفنى ذات ثلج الغير فهذا إتلاف مال الغير. وأما إذا حبسه على صاحبه حتى دخل الشتاء كما لو غصب المثلج أي المكان الذي يذخرون فيه الثلج لبيعه في الصيف فرد على صاحبه مع الثلج الذي فيه في الشتاء فهذا إتلاف مالية الثلج لا نفسه.

 

(هامش)

 

(1) مستدرك الوسائل ج 17، ص 95 أبواب كتاب الغصب، باب 9، ح 20842، وج 18، ص 199 أبواب الدفاع، باب 6، ح 22495، وج 18، ص 333، أبواب موجبات الضمان، باب 34، ح 22882. (2) المكاسب ص 69. (*)

 

والامثلة لهذا القسم من الاتلاف أي إتلاف المالية دون نفس المال كثيرة. والظاهر من إتلاف المال - سواء كان بعبارة من أتلف مال الغير كما هو معقد الاتفاق والاجماع أو كان هو بعبارة حرمة مال المسلم كحرمة دمه - هو المعنى الاول أي إفناء نفس المال لا إفناء ماليته وبناء على هذا المعنى فالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال يحتاج إلى إلتماس دليل آخر. ويكفي في الحكم بالضمان في موارد إفناء المالية دون نفس المال قوله تعالى: (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) بالتقريب الذي تقدم. وأما المراد من المال فالظاهر هو أن كل شيء يكون مطلوبا ومرغوبا عند الناس لاجل قضاء حوائجهم به ويكون دخيلا في معاشهم من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب والاشياء التي يتزينون بها أو شيء يحصل مطلوبهم به كالنقود سواء كانت من ذهب أو فضة أو يكون من جنس آخر فهو المال. والحاصل: أن المال عبارة عن كل شيء يكون للناس احتياج إليه في تدبير أمورهم في حياتهم وعيشتهم في حال صحتهم ومرضهم بل في حال موتهم فالادوية التي يعالج بها المريض مال عند العرف والعقلاء والمعول 1 الذي يحتاجون إليه في دفن موتاهم مال واقسام النقود التي يحصلون بها ما يحتاجون إليه مال. والمال بهذا المعنى قد يكون من قبيل الجواهر الموجودة مستقلا ولا في الموضوع وذلك مثل كلية الاجسام التي تستعمل في رفع الحاجات كما أشرنا إلى بعضها وقد يكون من قبيل العوارض كركوب الدابة وسكنى الدار والتزين بالذهب والفضة والاحجار الكريمة أو غيرها. ويسمى هذا القسم في إصطلاح الفقهاء تبعا للاطلاقات العرفية ب‍ المنافع فالمنافع أيضا مال.

 

(هامش)

 

(1) المعول ج معاول: اداة لحفر الارض. (*)

 

فهذه الامور كلها وأيضا كل ما يمكن به تحصيل بعض هذه الامور مال غاية الامر أن نفس هذه الامور أموال تكوينية ليست ماليتها بجعل في عالم الاعتبار. وما يحصل به أحد هذه الامور قد يكون مالا تكوينا وذلك كالمبادلات الجنسية وقد يكون من الاموال الاعتبارية كالاوراق المالية الموجودة في هذه الاعصار فانها في حد نفسها ليست مما يستعمل في رفع حوائج الانسان أو الحيوان ولكن بعد اعتبارها من ناحية من بيده الاعتبار يمكن تحصيل ما يرفع الحوائج بها وعليها الآن مدار المعاملات والمعاوضات في الاسواق. فتلخص من جميع ما ذكرنا أن مدار مالية المال على أحد أمرين: أحدهما: كون الشيء بحيث يرفع به إحدى حاجات الانسان ولو كان علفا لدابته أو بنزينا لسيارته فضلا عن أن يكون مأكولا أو مشروبا أو ملبوسا لنفسه. والثاني: أن يكون مما يحصل به أحد هذه الامور كالاوراق المالية والنقود الذهبية والفضية أو أحد هذه الامور فيما إذا وقع عوضا في المعاملة لجنس آخر من هذه الامور. ومنه تعريف بعضهم البيع بمبادلة مال بمال وبهذا المعنى الثاني قد تكون مالية المال من الامور الاعتبارية وذلك كالاوراق المالية فهي بالاعتبار تصير مالا وكذلك تسقط ماليتها باعتبار آخر ممن بيده الاعتبار. فقوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) 1 المراد بالمال المذكور في الآية الشريفة هو هذه الامور التي تقضي بها الحوائج وامور المعاش كلها - كما ذكرنا - أو ما يمكن أن يحصل تلك الامور به. والمال بهذا المعنى مدار الغناء والفقر وجودا وعدما. وأما تعريفه كما صدر عن بعضهم بانه ما يبذل بإزائه المال فهو تعريف لفظي وإلا ففيه دور واضح.

 

(هامش)

 

(1) الكهف (18): 46. (*)

 

وأما الضمان في هذه القاعدة: فالمتفاهم العرفي منه هو كون التالف بوجوده الاعتباري في عهدة من أتلفه وهذا هو الضمان الواقعي. وأما الضمان المسمى فهو الذي سماه الطرفان في العقود المعاوضية عوضا عن ما يقابله من الطرف الآخر. فحاصل معنى القاعدة المتسالم عليها هو أنه إن أفنى مال الغير بدون إذنه في ذلك الافناء يكون ذلك المال على عهدته بوجوده الاعتباري وإن لم يكن تحت يده فيجب عليه الخروج عن عهدته باعطاء المثل في المثليات والقيمة في القيميات. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة وقبل ذلك لابد من بيان مقدمة: وهي أن الاتلاف قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالتسبيب. فالاول مثل أن يأكل ماله الذي من المأكولات أو يشرب ماله الذي من المشروبات أو يحرق أثوابه وأمثال ذلك مما يصدر 1 فناء مال الغير عن نفسه بدون توسيط فاعل إرادي أو غير إرادي آخر. والثاني عبارة عن كل فعل صار سببا لوقوع التلف ولم يكن علة تامة للتلف أو جزء الاخير من العلة التامة بل يكون بحيث لو لم يصدر عنه هذا الفعل لم يقع التلف. ولهذا عرفوا السبب بانه ما لا يلزم من وجوده الوجود وإلا فهو العلة التامة أو الجزء الاخير منها ولكن يلزم من عدمه العدم. فعلي هذا المعنى للتسبيب فلو حفر بئرا مكشوفة في الطريق فوقع فيها شيء وتلف

 

(هامش)

 

(1) الظاهر انه غلط والصحيح: يوجب أو يسبب وامثال ذلك. (*)

 

فهو السبب. فالقسم الاول يقينا إتلاف حقيقة فيكون موجبا للضمان قطعا لما ذكرنا من الادلة وعليه الاتفاق من المسلمين قاطبة بل عليه اتفاق جميع عقلاء العالم من المسلمين وغير المسلمين من ذوي الاديان بل ومن غير ذوي الاديان. وأما القسم الثاني أي ما يلزم من عدمه عدم التلف فأيضا يمكن تحصيل الاجماع على كونه موجبا للضمان وقد ادعي في الجواهر 1 نفي الخلاف فيه. هذا مضافا إلى دلالة الاخبار على هذا المعنى: فمنها: صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمر به الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره ؟ فقال عليه السلام: كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه 2. ومنها: صحيح زرارة عنه عليه السلام أيضا قلت له: رجل حفر بئرا في غير ملكه فمر عليها رجل فوقع فيها ؟ فقال عليه السلام: عليه الضمان لان كل من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان 3. ومنها: موثق سماعة: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحفر البئر في داره أو ملكه ؟ فقال عليه السلام: ما كان حفر في داره أو ملكه فليس عليه ضمان وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها 4.

 

(هامش)

 

(1) جواهر الكلام ج 37، ص 46. (2) الكافي ج 7، ص 349، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 2، الفقيه ج 4، ص 155، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه...، ح 5347، تهذيب الاحكام ج 10، ص 223، ح 878، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 11، وسائل الشيعة ج 19، ص 181، أبواب موجبات الضمان، باب 9، ح 1. (3) الكافي ج 7، ص 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 7، تهذيب الاحكام ج 10، ص 230، ح 907، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 40، وسائل الشيعة ج 19، ص 179، أبواب موجبات الضمان، باب 8، ح 1. (4) الكافي ج 7، ص 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 4، الفقيه ج 4، ص 153، باب ما (*)

 

ومنها: خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أخرج ميزابا أو كنيفا أو أوتد وتدا أو أوثق دابة أو حفر بئرا في طريق المسلمين فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن 1. وأيضا هناك روايات معتبرة في باب تغريم شاهد الزور حتى قتله في بعض الصور 2 مثلا لو شهد شاهدان عدلان مرضيان بحسب الظاهر على أن فلانا قتل فلانا فقتل المشهود عليه بواسطة هذه الشهادة ثم رجعا عن شهادتهما. فان قالوا: أخطأنا فعليهما دية المقتول. وإن قالوا: تعمدنا الكذب فيقادان. وخلاصة الكلام أن الروايات في باب ضمان المسبب - بالكسر مثل المباشر - للاتلاف كثيرة وقد ذكرنا جملة منها في شرح قاعدة المغرور يرجع إلى من غر 3.. ثم إن ظاهر الروايات التي ذكرناها بعضها فيه الاطلاق بالنسبة إلى قصد موجد السبب لوقوع المسبب وعدم قصده بل ظاهرها هو الضمان. ولو كان حفره للبئر في غير ملكه بقصد عدم وقوع أحد فيه وبرجاء ذلك، فان كان مدرك الضمان في هذه الصورة هو الاجماع يمكن أن يقال بأن المتيقن منه هو فيما إذا قصد بايجاد السبب وقوع التلف. ولكن إذا كان المدرك هي الروايات كما هو كذلك لما ذكرنا مرارا من أن مع وجود دليل معتبر في المقام لا يبقى مجال للاجماع لان أحد مقدمات تحقق الاجماع المصطلح (هامش)

 

جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه، ح 5341، تهذيب الاحكام ج 10، ص 229، ح 903، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 36، وسائل الشيعة ج 19، ص 180، أبواب موجبات الضمان، باب 8، ح 3. (1) الكافي ج 7، ص 350، باب ما يلزم من يحفر البئر فيقع فيها المار، ح 8، الفقيه ج 4، ص 154، باب ما جاء فيمن أحدث بئرا أو غيرها في ملكه...، ح 5343، تهذيب الاحكام ج 10، ص 230، ح 908، باب ضمان النفوس وغيرها، ح 41، وسائل الشيعة ج 19، ص 182، أبواب موجبات الضمان، باب 11، ح 1. (2) راجع: الكافي ج 7، ص 383، باب من شهد ثم رجع عن شهادته، ح 2 - 5، و وسائل الشيعة ج 18، ص 238، أبواب الشهادات، باب 11 ح 1 و 2، وج 19، ص 69، أبواب القصاص في النفس، باب 62، وج 19، ص 194، أبواب موجبات الضمان، باب 24. (3) القواعد الفقهية ج 1، ص 270، (*)

 

في الاصول - الذي هو من الادلة وقلنا بحجيته - هو عدم وجود دليل معتبر يمكن أن يكون هو منشأ ذلك الاطلاق، فلا شك في إطلاقها في كون إيجاد سبب الفناء والهلاك بالمعنى الذي ذكرنا للسبب موجب الضمان قصد الموجد للسبب ترتب المسبب على فعله أو لم يقصد. نعم يلزم أن يصدق عليه ما أخذ موضوعا للضمان وهو عنوان من حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها شيء فهو ضامن وان قصد العدم أي حفر برجاء عدم وقوع أحد فيها. ولو اجتمع السبب والمباشر فهل الضمان على المباشر أو السبب أو على كليهما بالاشتراك ؟ احتمالات: قال المحقق في الشرائع: إذا اجتمع السبب والمباشر قدم المباشر في الضمان على ذي السبب كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها إنسانا فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع. 1 وادعى جمع - على هذا القول - عدم الخلاف والاجماع وكان تقديم المباشر على السبب عندهم من المسلمات. والامر في هذه الفرع الذي ذكره المحقق وان كان كما ذكره لان الجناية مستند عرفا بل عقلا إلى الدافع وحفر البئر بالنسبة إلى هذه الجناية من المعدات التي لا توجب الضمان مع صدور الاتلاف عن الفاعل المختار وإلا كان صانع السيف ضامنا إذا قتل به المباشر شخصا وهذا مما لم يقل به أحد ولا يصح القول به قطعا. إلا أن جميع موارد اجتماع السبب والمباشر ليس من هذا القبيل مثلا لو وصف الطبيب دواء وكان سما قاتلا والممرض أعطاه للمريض فاتلفه ذلك السم ففي هذا المورد استناد الجناية إلى السبب أي الطبيب أقوى من المباشر خصوصا إذا كان

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 3 ص 237. (*)

 

الممرض جاهلا والطبيب عالما بانه سم قتال. نعم إذا كان الممرض عالما بانه سم قتال فيكون هو الجاني. وكذلك في باب شهادة الزور التي تصير سببا لاتلاف نفس المشهود عليه أو ماله الضمان على السبب أي الشاهد الزور لاعلى المباشر أي الحاكم أو من يأتمر بامره وينفذ حكمه. وخلاصه الكلام في هذا المقام - أي فيما إذا اجتمع السبب والمباشر - أن المباشر إذا كان فاعلا مختارا عاقلا وكان ملتفتا إلى أن فعله هذا يترتب عليه التلف فلا شك في اختصاصه بكونه ضامنا في هذه الصورة وليس على ذي السبب ضمان أصلا. وأما لو يكن المباشر ذا إرادة وشعور فالضمان على ذي السبب وذلك كمن أجج نارا في غير ملكه والريح نشر النار فأصابت النار مال غيره فاحترق أو حفر بئرا في الطريق فدفعه حيوان أو مجنون إلى البئر ووقع فيها فتلف هو نفسه أو ماله ففي مثل هذه الصورة الضمان على ذي السبب لانه المتلف حقيقة والتلف حاصل بسبب فعله بالمعنى الذي ذكرنا للسبب. وأما إن كان عاقلا مختارا في فعله ولكن لم يكن يعلم بان فعله هذا يترتب عليه التلف فان لم يكن مغرورا ولا مكرها فأيضا الضمان عليه أي على المباشر لان هذه القاعدة مفادها أن من أتلف مال الغير فهو له ضامن سواء كان عالما بان فعله هذا يترتب عليه الاتلاف أو لم يعلم لان عدم العلم لا يؤثر في عدم الضمان إذ موضوع كون الضمان عليه هو الاتلاف مطلقا لا الاتلاف مع العلم بانه إتلاف. واما لو كان مغرورا كالممرض الجاهل فيرجع - بما خسره من باب ضمان الاتلاف - إلى الغار. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغار عالما أو جاهلا بتغريره لهذا التلف. وأما إن كان مكرها فليس عليه ضمان إذا كان الاكراه في غير الدماء فإذا أكره على الدفع في البئر فمات فيضمن الدية أو يقاد إذا كان الدفع في البئر من الاسباب

 

العادية للموت لانه لا تقية في الدماء. وأما إذا أكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره - بالكسر - لا على المتلف الذي هو مكره - بالفتح - لان السبب هنا أقوى من المباشر لان المباشر وان كان فاعلا ولكن ليس بمختار. ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره من عقوده وايقاعاته والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره - بالكسر - ويسندون إليه كما أنه لو أمر المكره بهدم دار شخص خدامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته لا ينسب هدم الدار عند العرف إلا إلى ذلك المكره والناس يقولون إن فلانا - الذي هو المكره - هدم دار فلان لانه أمر غلمانه بذلك. وبناء على هذا لو أكره إنسانا على حفر البئر في الطريق فوقع فيها مال شخص وتلف ماله بذلك الوقوع ليس على الحافر ضمان بل الضمان على الآمر المكره. إذا ظهرت لك هذه المقدمة فنقول: ذكروا هيهنا فروعا كثيرة في كتبهم الفقهية واختلفوا في الحكم بالضمان وعدمه في بعض الموارد وانه على السبب في بعضها وعلى المباشر في موارد أخر ونحن نذكر جملة منها إن شاء الله تعالى وبتوفيقه: منها: أنه قال في الشرائع: لو ألقي صبيا في مسبعة أو حيوانا يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع. 1 وهذا كلام حق لما ذكرنا من الضابط في كون الضمان على السبب دون المباشر وهو أن لا يكون المباشر فاعلا عاقلا بل يصدر عنه الفعل بدون ترو وتفكر في عواقبه لعدم قدرته على التروي والتفكر وان شئت عبر عن هذا بان السبب أقوى من المباشر كما عبر به في الشرائع. وبناء على هذا يكون لهذا الفرع نظائر كثيرة تشبهها في هذه العلة مثلا لو أعطى سكينا بيد مجنون فجرح أو قتل أو فتح باب الحبس على سبع ففرس انسانا أو

 

(هامش) *

 

(1) الشرائع ج 3، ص 237. (*)

 

حيوانا أو ألقى حية على نائم أو من ليس بنائم ولكن لا يقدر على التحرز عنها بقتلها أو فراره عنها فلدغته وأمثال ذلك من النظائر الكثيرة. ففي جميع هذه الموارد يكون الضمان على السبب لما ذكرنا ولعدم إمكان كون الضمان على المباشر لعدم العهدة في الحيوان أي السبع أو الحية المباشران للاتلاف حتى يكون الضمان عليهما. وأما ما ذكر في عنوان المسألة في الشرائع بانه لو ألقى صبيا فلعله باعتبار ضمان اليد وان الصبي يقع تحت اليد بخلاف الكبير أو لعل هذا التخصيص بلحاظ عدم قدرة الصبي على الفرار أو الدفاع بخلاف الكبير. فان كان بلحاظ الوجه الاول فهو واضح البطلان لان الحر لا يقع تحت اليد صغيرا كان أو كبيرا ولذلك لو أخذ ولدا صغيرا بالقهر عن وليه فمات حتف أنفه بدون أي تعد أو تفريط في حقه لم يكن ضامنا بخلاف ما لو كان الولد عبدا ومات ولو حتف أنفه وبآفة سماوية يكون ضامنا. وان كان بلحاظ الوجه الثاني فليس بمطرد ولا بمنعكس كما هو واضح ولا يحتاج إلى البيان فالحق أنه لافرق في هذه المسألة بين الصغير والكبير والحر والعبد والانسان والحيوان لان الكلام في ضمان الاتلاف لا ضمان اليد. فالمناط في الضمان إمكان التحرز بالدفاع أو الفرار وعدم إمكانه. ومنها: أيضا ما ذكر في الشرائع من أنه: لو غصب شاة فمات ولدها جوعا ففي الضمان تردد وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتفق تلفها وكذا التردد لو غصب دابة فتبعها الولد 1. ومنشأ التردد هو الترديد في صدق التسبيب في هذه الموارد الثلاث وفتاوى الفقهاء والاساطين مختلفة في هذه الموارد الثلاث ونظائرها جدا.

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 3، ص 237. (*)

 

فبعضهم يفتي بالضمان وبعضهم ينفي وبعضهم كصاحب الشرائع يقف عن الفتوى ويظهر التردد. وعلى كل حال أنت عرفت أن كون التسبيب موجبا للضمان مستفاد من تلك الروايات التي ذكرنا فلا بد من الحكم بالضمان في صدق ما أخذ موضوعا للضمان في تلك الروايات من دون أن ينجر إلى القياس. والعناوين المأخوذة في تلك الروايات موضوعا للضمان: أحدها: عنوان كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه . وهذا العنوان أجنبي عن الموارد الثلاث إلا أن يقال إن المناط في الضمان هو الاضرار بالمسلمين ولا خصوصية لكونه من طريق الطريق وهو لا يخلو من تأمل. الثاني: عنوان من حفر بئرا في ملك غيره أو في الطريق فهو ضامن لما يسقط فيها . ولا شك في أن هذه الموارد الثلاث ونظائرها ليست من مصاديق من حفر بئرا في ملك غيره أو من مصاديق من حفر بئرا في الطريق. أللهم إلا أن يقال: لا خصوصية لحفر البئر بل المراد إيجاد ما هو سبب تلف مال الغير في العادة مع وقوع التلف فعلا وترتبه على السبب وليس ببعيد. الثالث: ما جعل موضوعا للضمان في خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام من قول رسول الله صلى الله عليه وآله: من أخرج ميزابا أو كنيفا 1 إلى آخر ما ذكره من الامور الخمسة. والانصاف أنه يستظهر من هذه الرواية قاعدة كلية وهى أن كل فعل صدر من فاعل عاقل مختار وكان سببا في العادة لوقوع تلف في مال المسلمين أو في نفسه ولم يتوسط بين ذلك الفعل والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بحيث يكون التلف

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 30، ص 238. (*)

 

مستندا إليه عند العرف والعقلاء فهو - أي فاعل السبب - ضامن. وهذا استظهار لا قياس. وبناء على هذا يكون تحقق الضمان وثبوته في الموارد الثلاثة هو الحق ولا وجه للتردد. اللهم إلا أن يقال: إن الرواية ضعيفة من حيث السند لاشتراك هذا اللقب - أي السكوني - بين من هو موثوق إن كان المراد به إسماعيل بن مهران - وغير موثوق إن كان المراد منه هو إسماعيل بن أبي زياد فانه عامي. نعم ظهر لك مما ذكرنا - من أن الضمان يثبت فيما إذا كان الفعل المذكور سببا في العادة للتلف لا بصرف الاتفاق - أن حبس مالك الماشية لو كان سببا في العادة يكون موجبا للضمان وإلا لو اتفق ذلك كما هو مفروض الشرائع في هذا المورد فايجابه للضمان مشكل بل لا ينبغي القول به لعدم إطلاق في الرواية لكي يشمل مثل هذا الفرض. ومنها: ما قال في الشرائع أيضا من أنه: لو فك القيد عن الدابة فشردت أو عن العبد المجنون فابق ضمن لانه فعل يقصد به الاتلاف. وكذا لو فتح قفصا عن طائر فطار مبادرا أو بعد مكث 1. أما كون هذه الامور سببا للضمان واضح بناء على استفادة تلك القاعدة الكلية من الروايات، وهي أن كل فعل صدر من فاعل عاقل مختار - أي غير مكره على ذلك الفعل - وكان سببا لوقوع التلف في العادة والاغلب ولم يتوسط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار فهو أي موجد السبب ضامن لذلك التآلف ولا شك أن فك القيد عن الدابة الشرود خصوصا إذا كان حيوانا وحشيا مقيدا كالغزال من هذا القبيل.

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 3 ص 238. (*)

 

 

ففك القيد عن الظبي المقيد عادة سبب لان يشرد ويتلف ولو بلحوقه إلى البرية فيصير حاله حال سائر الظباء الموجودة في البر فاعتبار الملكية فيها لغو. وهكذا فتح القفص من الطائر الوحشي وهكذا فك القيد عن العبد المجنون يوجب شروده وهو يوجب تلفه عادة ولم يتوسط بين فعله والتلف في الموارد الثلاثة فعل فاعل عاقل متعمد عن اختيار لان الدابة والطائر حال عدم عقلهما معلوم والثالث - أي المجنون - كون فعله عن عقل خلاف الفرض. نعم لو كان العبد المقيد الذي فك القيد عنه عاقلا فلا ضمان لانه توسط بين فعله - أي فك القيد عنه وتلفه - فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار فيكون هو بنفسه مباشرا لاتلاف نفسه وذلك مثل أن فك القيد عنه فالقى نفسه عن عمد واختيار عن السطح فمات. ومنها: أيضا في الشرائع لو فتح بابا على مال فسرق أو أزال القيد عن عبد عاقل فابق ذا لو دل السارق على مال فسرق فلا ضمان في الجميع 1 لان في جميع هذه الصور توسط بين فعله والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار فهو المباشر في الاتلاف ومعه لا يسند التلف إلى السبب البعيد. نعم هو بفتح الباب إن كان ملتفتا إلى أنه يمكن أن يوجب السرقة وبدون إذن صاحب الباب وكذلك بالنسبة إلى إزالة القيد يكون آثما وكذلك في دلالته للسارق آثم قطعا للاعانة على الاثم إن دله بقصد أن يسرق. وحكى في الجواهر عن العلامة في الارشاد القول بالضمان فيما لو دل السارق. 2 والظاهر أنه متفرد في هذا القول ولم يوافقه أحد فيه. ثم إن صاحب الجواهر ذكرها هنا فرعا 3 وهو أنه لو وجدت في البئر المذكورة –

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 3، ص 238. (2) جواهر الكلام ج 37، ص 68. (3) المصدر. (*)

 

أي البئر التي حفرها في الطريق أو في ملك غيره عدوانا وبدون إذن صاحبه - جثة حيوان ميت لا يعلم أن سبب موته هل هو وقوعه فيها كي يكون حافر البئر ضامنا له أو ألقيت ميتة فيها حتى لا يكون ضمان في البين ؟ وحيث أن الضمان موضوعه موته وتلفه بسبب وقوعه فيها فإذا شك فيه يكون مجرى أصالة البرائه عن الضمان، واستصحاب حياته إلى زمان وقوعه مثبت. وأما لو علم بان سبب الموت وقوعه فيها ولكن يحتمل أن يكون بدفع شخص عن عمد واختيار بحيث يكون موجبا لسقوط الضمان عن ذي السبب وذلك لتوسط فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بين ذلك السبب والتلف فالضمان يكون على المباشر المختار لا على ذي السبب. فربما يتوهم كون الضمان على ذي السبب بتوهم أصالة عدم دفع أحد له. ولكن أنت خبير بانه مثبت لان لازم عدم دفع أحد عقلا هو وقوع التلف والتردي بفعل ذي السبب خاصة. إلا أن يقال: إن موضوع الضمان مركب من كون موته بوقوعه فيها مع عدم دفع أحد فأحد جزئي الموضوع وهو الوقوع في البئر بالوجدان على الفرض والجزء الآخر أي عدم دفع أحد بالاصل فتأمل. ومنها: ما قال في الشرائع أيضا: ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن إذا لم يكن يحبسه إلا الوكاء كما لو سال منه ما ألان الارض تحته فاندفع ما فيه ضمن بلا خلاف لان فعله سبب مستقل للاتلاف. أما لو فتح رأس الظرف فقلبته الريح أو طائر أو ذاب بالشمس ففي الضمان تردد والاشبه أنه لا يضمن لان الريح والشمس كالمباشر فيبطل حكم السبب. 1 أقول: أما الاول أي إزالة الوكاء الذي هو عبارة عن الرباط الذي يشد به رأس القربة أو غيرها فالظاهر أنه من الاتلاف مباشرة فخارج عن محل الكلام لان فك

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 3، ص 238. (*)

 

الرباط عن القربة بحيث يكون موجبا لاسالة ما فيها من دهن أو لبن أو دبس أو غيره من المايعات يكون من قبيل المسبب التوليدي كالالقاء في النار والاحراق. ففك الرباط بعنوانه الاولي فك رباط وبعنوانه الثانوي هو إسالة المايع الذي في تلك القربة. وان أنكرت ذلك فلا أقل من أنه من باب العلة التامة والمعلول. هذا فيما إذا كان سيلان ما في الظرف مترتبا على إزالة الوكاء كما هو المفروض. وإلا لو لم يكن كذلك بل كان سيلان ما فيه متوقفا على أمر آخر زائدا على إزالة الوكاء كان يقلبه الريح أو طائر أو على إذابة الشمس له. فهو الشق الآخر الذي ذكره وقال فيه بعدم الضمان معللا بان الريح والشمس كالمباشر فيبطل السبب. وان كان هذا الكلام أيضا محل تأمل بل إشكال لما ذكرنا وتقدم بان كل فعل صدر من فاعل عاقل مختار وكان عادة سببا لوقوع التلف ولم يتوسط بين ذلك السبب والتلف فعل فاعل عاقل مختار وان توسط أمر آخر وعلة أخرى كالريح والطائر والشمس فيكون الضمان على ذي السبب. ولا يبطل حكم السبب إلا بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار. فتلخص مما ذكرنا أن الضمان في مسألة إزالة الوكاء يكون من باب الاتلاف بالمباشرة وليس من قبيل الضمان بالتسبيب. وأما في مسألة فتح رأس الظرف واسالة ما فيه من المايع بواسطة إذابة الشمس لما فيه يكون من باب التسبيب. نعم لو لم يكن فتح رأس الظرف سببا لوقوع التلف عادة وانما وقع التلف من باب الاتفاق كما أنه فتح رأس الظرف في الغرفة ومن باب الاتفاق دخل فيها طائر وقلبتها فلا ضمان في هذه الصورة كما أن في صورة تقليب الريح أيضا كذلك لو لم يكن الظرف في مهب الريح وعلى خلاف المتعارف والعادة هبت ريح وقلبته فأيضا لا ضمان لما ذكرنا من أن في الضمان بالتسبيب لا بد وان يكون فعل ذي السبب سببا لوقوع التلف بحسب العادة لا بصرف الاتفاق.

 

وأما مسألة إلانة الارض تحته لا سالة الماء منه بواسطة إزالة الوكاء فهذا من قبيل المعلول فان كان إزالة الوكاء علة لاسالة الماء منه واسالة الماء منه علة لا لانة الارض تحته وإلانة الارض تحته علة لانقلابه وتلف ما فيه فبايجاد السبب الاول تترتب عليه الاسباب الطولية ويكون حالها حال السبب الاول فيمكن أن يقال إن هذا أيضا من الاتلاف مباشرة. ومنها: أيضا ما هو في الشرائع قال قدس سره ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره أو أجج نارا فاحرقته لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته إختيارا مع علمه أو غلبة ظنه إن ذلك موجب للتعدي إلى الاضرار 1. وفي هذه المسألة صور: إحديها: هذه التي ذكرها في الشرائع. الثانية: عين هذه الصورة إلا أنها مع التجاوز عن قدر الحاجة. الثالثة: أن لا يكون له علم ولا غلبة الظن بالتعدي إلى الاضرار مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة. الرابعة: فيما إذا تجاوز عن قدر الحاجة ولكن لا علم له ولا ظن بالتعدي. الخامسة: عين هذه الصورة الرابعة ولكن مع العلم بعدم التعدي. السادسة: عين هذه الصورة الخامسة ولكن مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة. وفي جميع هذه الصور الست المفروض وقوع التلف وإلا لم يكن محل للبحث في أنه يضمن أو لا يضمن. أقول: أقوال الفقهاء المحققين والاساطين في هذه المسألة مختلفة جدا فليس في المسألة إجماع على الضمان ولا على عدمه فنتكلم فيما هو مقتضى القواعد

 

(هامش)

 

(1) الشرائع ج 3، ص 237. (*)

 

الاولية فنقول: أما الصورة الاولى التي ذكرها في الشرائع فمع علمه بالاضرار وان فعله هذا يكون سببا لتلف مال الغير فلا وجه لتخيل عدم الضمان بصرف إذن الشارع في هذه الفعل لان الاذن الشرعي لا يرفع الآثار الوضعية فلو أذن الشارع في أكل الميتة من باب الاضطرار فلا يرفع هذا الاذن نجاستها. بل يمكن أن يقال: إن هذه الصورة من مصاديق الاتلاف مباشرة وليس من التسبيب لانه إذا علم أنه يترتب على فعله هذا غرق مال الغير أو إحتراقه أو جفاف شجر الجار القريب من النار التي أججها ولو كانت النار في ملكه فهو من مصاديق الاتلاف بالمباشرة حقيقة. هذا مع أن كونه مأذونا في إرسال الماء في ملكه أو تأجيج النار فيه في هذه الصورة كلام بيناه في قاعدة لاضرر. وأما القول بان قاعدة الاتلاف لم ترد بهذه الالفاظ في رواية من من طرقنا وان اشتهرت في الالسنة والافواه فليست دليلا لفظيا كي نتمسك باطلاقها كما ذكره صاحب الجواهر. 1 ففيه أنه بينا في صدر البحث عن هذه القاعدة وقلنا إننا وان لم نجد رواية بهذه الالفاظ لا من طرقنا ولا من طرق الجمهور، ولكن مضمون هذه القاعدة مروية بالسنة مختلفة فتكون من القواعد المصطادة من الموارد المختلفة من الروايات مضافا إلى كونها بهذه الالفاظ من المسلمات بين الخاصة والعامة ولا يزال يستدل الفقهاء عموما بهذه القاعدة على الضمان في الموارد الجزئية المشكوكة. فلو سلمنا أن مدركها الاجماع فقط يكون معقده مطلق فيكون حالها حال الدليل اللفظي فيتمسك باطلاقها.

 

(هامش)

 

(1) جواهر الكلام ج 37، ص 60. (*)

 

والانصاف أن هذه الفتوى من مثل المحقق قدس سره شيخ الفقهاء لا يخلو من غرابة وان أسند هذا القول في المسالك إلى العلامة في القواعد والارشاد أيضا 1. وأما الصورة الثانية فتكون سببا للضمان بطريق أولي ولا يحتاج إلى التوضيح والبيان. وأما الصورة الثالثة أي فيما لا يعلم بالتعدي ولا يظن ولم يتجاوز قدر الحاجة فهذه الصورة على قسمين: فتارة ترتب التلف على هذا الفعل ليس غالبيا وبحسب العادة وانما قد يقع اتفاقا لعارض كما أنه من باب الاتفاق هبت ريح بخلاف العادة والمتعارف فاثرت النار في مال الجار. فالظاهر عدم الضمان في هذه الصورة لا لانه مأذون في هذا الفعل لما ذكرنا من أن الاذن لا يرفع الضمان بل لما اشترطنا من أن الضمان لا يكون إلا فيما إذا كان الفعل الصادر عن ذي السبب سببا في الاغلب وبحسب العادة. واخرى يكون غالبيا وبحسب العادة فالظاهر أنه يضمن لان فعله سبب غالبي لوقوع التلف كما أنه في يوم هبوب الريح لو أجج نارا ولكن لم يحصل له علم ولاظن بالتعدي إلى الاضرار بالجار لغفلته أو بلاهته مع أن التعدي في مثل ذلك اليوم لم يكن اتفاقيا بل كان أمرا عاديا متعارفا ففعله هذا سبب عادي للتلف ولم يتوسط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار الذي هو الضابط في استناد التلف إلى السبب. وأما الصورة الرابعة فيضمن بطريق أولي لان المفروض أنه تجاوز عن قدر الحاجة.

 

(هامش)

 

(1) مسالك الافهام ص 257. (*)

 

وأما الصورة الخامسة فعمدة الوجه في القول بعدم الضمان فيها هو العلم بعدم التعدي. ولكن هذا العلم ليس له أثر لانه على الفرض أوجد سبب التلف الذي هو سبب الضمان ولكن باعتقاد أنه لا يتلف وقد تبين خطأ اعتقاده وانه جهل مركب فما ذكرنا من الضابط في استناد التلف إلى فعله تحقق فيكون ضامنا. واما الصورة السادسة وهي أن لا يتجاوز قدر الحاجة مع علمه بعدم التعدي فإذا كان وقوع التلف اتفاقيا وليس فعله سببا غالبيا لوقوع التلف فلا يضمن لما بينا من اشتراط الضمان بكون فعل ذي السبب سببا غالبيا وإذ ليس فليس. وأما لو كان سببا غالبيا وهو علم بعدم التعدي لغفلته أو بلاهته فيضمن لما ذكرنا في القسم الثاني من الصورة الثالثة. ومنها: ما في التذكرة من أنه: لو فتح القفص أو حل قيد الفرس أو العبد المجنون فبقيا واقفين فجاء إنسان ونفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما لان سببه أخص فاختص الضمان به كالدافع والحافر. 1 ولعل مراده بقوله: لان سببه أخص أن فعل المنفر لا ينفك عن فرارهما بخلاف فتح القفص بالنسبة إلى الطائر وحل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون فانه يمكن أن لا يتعقب بفرار الطائر في فتح القفص وأن لا يتعقب بفرار الفرس والعبد المجنون بالنسبة إلى حل قيدهما فكأنه أراد بذلك أن النفر جزء الاخير من العلة التامة لفرارهما. وأما فتح القفص بالنسبة إلى الطائر الواقف بعد الفتح وكذلك حل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون الواقفين بعد حل القيد من قبيل المعد. ولا شك في أن استناد المسبب إلى العلة التامة أو الجزء الاخير منها أولي من استناده إلى المعد كما أن في مسألة الحافر والدافع يكون الامر كذلك أيضا فالاستناد

 

(هامش)

 

(1) تذكرة الفقهاء ج 2، ص 375. (*)

 

إلى الدافع الذي هو الجزء الاخير من علة التلف أولى من استناده إلى المعد الذي هو حفر الحافر. هذا ما قاله في التذكرة مع ما فسرنا به كلامه قدس سره. ولكن أنت عرفت مما ذكرنا في مقدمة هذه الفروع أن من شرائط كون الضمان على السبب هو أن لا يتوسط بين فعل ذي السبب وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار وإلا ينسب إلى ذلك الفاعل لا إلى السبب وذلك واضح جدا. وفيما نحن فيه وقع ذلك التوسط بين السبب الذي هو عبارة عن فتح القفص وعن حل القيد وبين الفرار فعل الفاعل العاقل المختار وهو تنفير ذلك الانسان فينسب الفرار إليه لا إلى فتح القفص أو حل القيد. ومنها: أيضا ما في التذكرة من أنه: لو حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت بالحل ضمن لانه سبب في الاتلاف سواء كان يعقب فعله أو تراخى. 1 ونظير هذا الفرع تقدم من أنه لو فك القيد عن الدابة فشردت أو عن العبد المجنون فابق وقلنا: يستفاد من الروايات قاعدة كلية. وهي أن كل فعل صدر عن الفاعل العاقل المختار وكان سببا لتلف شيء ولم يتوسط بينه وبين المسبب - أي التلف - فعل فاعل عاقل مختار فيكون التلف مستندا إلى ذي السبب والضمان عليه. فبناء على هذا حيث أن حل رباط السفينة يكون سببا لذهابها إلى عرض البحر فيوجب غرقها أو ضياعها. فبمقتضى تلك القاعدة يكون الضمان على الذي حل الرباط ولا فرق بين حدوث حادث آخر كهبوب الرياح الشديدة والعواصف الموجبة لغرقها وبين عدم حدوث حادث آخر يوجب ذلك وذلك لما بينا من الضابط في الاستناد إلى السبب فانه حاصل ولا يفرق في كلا المقامين. نعم لو لم يكن هذا الفعل - أي حل رباط السفينة –

 

(هامش)

 

(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 375. (*)

 

سببا للغرق أو الضياع في العادة بل حدث عاصفة شديدة من باب الاتفاق فيمكن أن يقال بعدم الضمان في مثل هذه الصورة وقد تقدم جميع ذلك. ومنها: ما ذكر في التذكرة أيضا من أنه لو وثبت هرة حال فتح القفص ودخلته وقتلت الطائر لزمه الضمان لان الفتح يشتمل على إغراء الهرة كما في تنفير الطائر 1. والتشبيه بالتنفير لا يخلو من تأمل لان التنفير في حال انفتاح القفص من قبيل العلة التامة بالنسبة إلى طيرانه وفراره بخلاف فتح القفص فيما إذا لم تكن هرة هناك ولكن من باب الاتفاق وجدت هرة حال الفتح. اللهم إلا أن يقال: إن فرض المسألة في صورة وجود الهرة هناك قبل الفتح وهي بحيث لا مانع من و ثوبها على الطائر إلا انسداد باب القفص فيكون التشبيه في محله. وأما الضمان: ففي المفروض على فاتح القفص على كل حال لما ذكرنا من الضابط. إلا أن يقال: إن فتح باب القفص ليس سببا غالبيا لو ثوب الهرة. وجوابه: أن المفروض حضور الهرة حال فتح القفص وفي مثل هذه الصورة سببية الفتح لوثوبها واتلاف الطائر غالبي. ومنها: أيضا ما في التذكرة من أنه لو كان شعير في جراب وبجنبه حمار ففتح فاتح رأسه فأكله الحمار في الحال لزمه الضمان. 2 وهذا الفرع من جميع الجهات التي ذكرناها مثل الفرع السابق فلا نعيد. ولا أرى وجها لذكره بعد ذكر الفرع السابق كما لا أرى وجها لتقييد قوله: فأكله الحمار بكلمة في الحال إلا تخيل أنه لو لم يكن أكله في الحال فليس الاكل مستندا إلى فتح رأسه وإنما هو مستند إلى التفات الحمار بعد غفلته عنه أو إلى حدوث اشتهائه وهو غريب.

 

(هامش)

 

(1) تذكرة الفقهاء ج 2، ص 375. (2) المصدر. (*)

 

ومنها: ما ذكره في التذكرة أيضا وهو أنه: لو نقل صبيا حرا إلى مضيعة فاتفق أن افترسه سبع فلا ضمان عليه. 1 وذلك أن النقل إلى المضيعة ليس مثل النقل إلى المسبعة لان النقل إلى المسبعة - أي محل السباع - سبب غالبي لافتراسه. وأما النقل إلى المضيعة فليس سببا غالبيا ولو افترسه السبع كان من باب الاتفاق وقد إشترطنا في السبب الموجب للضمان أن يكون سببا غالبيا للتلف لان المضيعة عبارة عن محل الضياع وعدم الاعتناء بشأن من يسكنه وان تهمل شؤونه. ومنها: ما ذكره في جامع المقاصد من أنه لو منع المالك من إمساك دابته المرسلة حيث يتوقع تلفها مع بقائها مرسلة. كما أنه لو أرسلت في الليل في برية ولا تكون تلك الدابة من الحيوانات القوية التي تقدر على حفظ نفسها من السباع أو لم تكن الارض مأمونة من الاخطار فحينئذ يكون إمساك المالك سببا لبقائها مرسلة وبقاؤها مرسلة ربما ينتهي إلى افتراسها أو تلفها من جهة أخرى. 2 هذه جملة مما ذكره أساطين الفن من فروع الضمان بالتسبيب سواء لم يكن إتلاف بالمباشرة في البين أصلا أو كان ولكن كان ضعيفا. ولكن كل هذه الفروع كانت فيما إذا كان السبب واحدا. أما إذا تعدد السبب سواء كانا إثنين أو أكثر فاما يكونان وجدا في عرض واحد وإما مترتبان في الوجود. أما الاول: فهما أو كلهم إن كانو أكثر من إثنين يشتركون في الضمان وذلك كما أنه لو حفر جماعة بئرا في الطريق فوقع فيها دابة أو مال آخر لان اختصاص بعضهم بالضمان دون بعض ترجيح بلا مرجح. وأما الثاني: أي فيما إذا كانا مترتبين في الوجود فحوالة الضمان على أولهما وجودا وذلك لان مع وجود أولهما تحقق ما هو سبب الضمان ولا يرفع حكمه - أي كونه سببا

 

(هامش)

 

(1) تذكرة الفقهاء ج 2، ص 376. (2) جامع المقاصد ج 6، ص 219. (*)

 

للضمان - إلا بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار بينه وبين التلف والمفروض أنه ليس في المقام. فلو حفر أحدهما بئرا في الطريق أو في ملك غيره بدون إذنه ورضاه، فوضع بعد ذلك شخص آخر حجرا في حافة تلك البئر فعثرت دابة بواسطة ذلك الحجر ووقعت في تلك البئر فالضمان على الحافر لما ذكرنا من الضابط. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.