مقدمة الى الفقه المقارن

تعريف الفقه المقارن: يطلق الفقه المقارن - أولا - ويراد به: جمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية على صعيد واحد دون اجراء موازنة بينها. ويطلق ثانيا على: جمع الآراء الفقهية المختلفة  وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلتها وترجيح بعضها على بعض وهو بهذا المعنى أقرب الى ما كان يسميه الباحثون من القدامى بعلم الخلاف أو علم الخلافيات كما يتضح ذلك من تعريفهم له.  تعريف علم الخلاف: فقد عرفه تسهيل الوصول الى علم الاصول انه (علم يقتدر به على حفظ الاحكام الفرعية المختلف فيها بين الائمة أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية وقوادح الادلة (1)).  والخلافي كما يقول في المصدر نفسه هو: (اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك (2)). وجهات الالتقاء بينهما انما هي في عرض آراء الفقهاء والموازنة بينها وان كانا يفترقان في  قربهما من الموضوعية في البحث وبعدهما عنها. فالخلافي كما يوحي به قولهم: (اما مجيب يحفظ وضعا شرعيا أو سائل يهدم ذلك) يفترض آراء مسبقة يراد له تقريرها وتعزيزها وهدم ما عداها  فوظيفته
(1 - 2) دراسات في الفلسفة الاسلامية للتفتازاني ص 127 نقلا عن تسهيل الوصول ص 10. (*)
------------------------------------------------------------------
وظيفة جدلي لا يهمه الواقع بقدر ما يهمه انتصاره في مقام المجادلة والخصومة أو وظيفة محام يضع نفسه طرفا في الدعوى للدفاع عمن يتوكل عنه ولا يهمه بعد ذلك ان يكون موكله قريبا من  الواقع أو بعيدا عنه. بينما يأخذ المقارن وظيفة الحاكم الذي يعتبر نفسه مسؤولا عن فحص جميع الوثائق وتقييمها، والتماس أقربها للواقع تمهيدا لاصدار حكمه ولا يهمه ان يلتقي ما ينتهي إليه مع  ما لديه من مسبقات فقهية، وربما عمد الى تصحيح آرائه السابقة على ضوء ما ينتهي إليه. فوائد الفقه المقارن: ومن هذه المقارنة بينهما تتضح فوائد الفقه المقارن وأهمها: أ - محاولة البلوغ الى  واقع الفقه الاسلامي من أيسر طرقه وأسلمها وهي لا تتضح عادة إلا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي. ب - العمل على تطوير الدراسات الفقهية والاصولية  والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف. ج - ثماره في إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وابعادها عن مجالات  البحث العلمي. د - تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال  مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به. موضوعه: ويراد بالموضوع هنا ما يبحث في العلم عن عوارضه على اختلافها من ذاتية وغريبة  وانما وسعنا في تعريف الموضوع ولم نقصره على خصوص
------------------------------------------------------------------
عوارضه الذاتية كما صنع القدماء ولم نأخذ بوجهة نظر صاحب الكفاية من تعميمه الذاتي الى ما لم تكن فيه واسطة عروضية (1) لعلمنا أن هذا التضييق على التقديرين معا لا يفي بواقع  موضوعات المسائل لاي علم من العلوم ولا يسلم من إشكالات عدم الاطراد والانعكاس. وموضوعنا في الفقه المقارن - وهو الذي يجمع موضوعات مسائله - هو: آراء المجتهدين في المسائل  الفقهية من حيث تقييمها والموازنة بينها وترجيح بعضها على بعض. وانما قيدنا الموضوع بآراء المجتهدين لنبعد من طريقنا آراء المقلدة الذين لا يعكسون سوى الصدى لمراجعهم في التقليد  ونقتصر في بحوثنا هذه على ذوي الاصالة في الرأي من المراجع أنفسهم سواء كانوا أئمة مذاهب أم غيرهم من الاعلام ومن تحديدنا لموضوعه يتضح: الفرق بينه وبين علم الفقه: فموضوع علم  الفقه - فيما نرى - هو نفس الاحكام الشرعية أو الوظائف العملية من حيث التماسها من أدلتها وهذا موضوعه آراء المجتهدين فيها من حيث الموازنة والتقييم ومن هذا الاختلاف في طبيعة  الموضوع نشأ بينهما فارق منهجي فالفقيه غير ملزم بعرض الآراء الاخرى ومناقشتها وانما يكتفي بعرض أدلته الخاصة التي التمس منها الحكم بخلاف المقارن والخلافي فهما ملزمان  باستعراض مختلف الآراء والادلة وإعطاء الرأي فيها فالفارق بينهما اذن فارق جذري وإن تشابها في طبيعة البحوث.
(1) كفاية الاصول ص 3 ج 1 ويريد بالواسطة العروضية الواسطة التي يتقوم بها العرض حقيقة وينسب الى ذي الواسطة تجوزا كنسبة البياض الى مجموع الجسم مع تقومه بالواسطة حقيقة  وهو السطح واكثر محمولات مسائل العلوم من هذا القبيل لتقومها بموضوعاتها الخاصة حقيقة ونسبتها الى القدر الجامع بين الموضوعات نسبة تجوزية. (*)
------------------------------------------------------------------
أصول المقارنة: ونريد بها هنا الركائز التي يجب ان يتوفر على إعدادها وتمثلها الباحث المقارن ليصح له اقتحام هذه المجالات والخوض في مختلف مباحثها وأهمها: أ - الموضوعية: ونقصد منها  هنا ان يكون المقارن مهيأ من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه، والخضوع لما تدعو إليه الحجة عند المقارنة سواء وافق ما تدعو إليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها ! وهذا لا يتأتى عادة  للباحثين إذا لم يمروا بدور معاناة طويلة للتجربة في أمثال هذه المجالات على ان يضع نفسه بعد هذه المعاناة موضع اختبار ليرى مدى قدرته على الانسجام مع واقع هذه التجربة وذلك بتعريض  بعض مسبقاته لنتائج تجربته كأن ينظر مدى استطاعته وقدرته على الايمان بحقيقة كان يؤمن بخلافها لمجرد أن طبيعة البحث العلمي ساقته إلى نتائجها وبخاصة إذا كانت تمس بعض الجوانب  العقيدية أو العاطفية من نفسه ثم ينظر مدى قوته على مواجهة الرأي العام المؤمن بخلافها بإعلان هذه الحقيقة أمامه. فإذا كان بهذا المستوى من القدرة على التحكم بعواطفه وتغليب جانب العقل  عليها كان أهلا لان يخوض الحديث في أمثال هذه الميادين. ب - معرفة أسباب الاختلاف بين الفقهاء: وهي من أهم الاسس التي يجب ان يرتكز عليها المقارن وربما كانت أهمها على الاطلاق ان  لم تكن المقارنة منحصرة في مجالاتها الخاصة كما سيتضح فيما بعد.
------------------------------------------------------------------
ولقد ألفت كتب في تعدادها وشرحها أمثال كتاب (أسباب اختلاف الفقهاء) لعلي الخفيف، و (الانصاف) للبطليموسي الاندلسي وغيرهما. وقد أوجز ابن رشد في مقدمة كتابه (بداية المجتهد ونهاية  المقتصد) هذه الاسباب وحصرها في ستة: (أحدها: تردد الالفاظ بين هذه الطرق الاربع أعني بين ان يكون اللفظ عاما يراد به الخاص أو خاصا يراد به العام أو خاصا يراد به الخاص أو يكون له  دليل خطاب أو لا يكون). (والثاني: الاشتراك الذي في الالفاظ وذلك اما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الاطهار وعلى الحيض وكذلك لفظ الامر هل يحمل على الوجوب أو على  الندب ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو الكراهية، واما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) فانه يحتمل ان يعود على الفاسق فقط ويحتمل ان يعود على الفاسق والشاهد فتكون  التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف). (والثالث: اختلاف الاعراب). (والرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي إما الحذف وإما الزيادة وإما  التأخير وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة). (والخامس: إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة مثل اطلاق الرقبة في العتق تارة وتقييدها بالايمان تارة). (والسادس: التعارض في الشيئين في جميع  أصناف الالفاظ التي يتلقى منها الشرع الاحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في
------------------------------------------------------------------
الافعال، أو في الاقرارات أو تعارض القياسات أنفسها، أو التعارض الذي يتركب من هذه الاصناف الثلاثة أعني معارضة القول للفعل أو للاقرار أو للقياس ومعارضة الفعل للاقرار أو للقياس  ومعارضة الاقرار للقياس (1)). ولكن هذه الاسباب التي اقتبسها غير واحد من الباحثين المتأخرين وركزوا عليها لم تستوف مناشئ الاختلاف من جهة ولم تعرض إلى جذورها الاساسية من جهة  اخرى وكلما عرضته منها أسباب تتصل بالاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور - أعني ظهور الكتاب والسنة - أو لحجية القياس، وكأن الكبريات ليس فيها مجال لاخذ ورد مع أن الخلاف  فيما يتصل بالكبريات مما لا يمكن تجاهله. فالانسب ان يستوعب الحديث في الاسباب إلى ما يتسع لهما معا، وهذا ما يدعونا إلى ان نقسمها إلى قسمين: 1 - الخلاف في الاصول والمباني العامة  التي يعتمدونها في استنباطهم، كالخلاف في حجية أصالة الظهور الكتابي، أو الاجماع، أو القياس، أو الاستصحاب، أو غيرها من المباني مما يقع موقع الكبرى من قياس الاستنباط. 2 - اختلافهم  في مدى انطباق هذه الكبريات على صغرياتها بعد اتفاقهم على الكبرى سواء كان منشأ الاختلاف اختلافا في الضوابط التي تعطى لتشخيص الصغريات بوجهة عامة أم ادعاء وجود قرائن خاصة  لها مدخلية في التشخيص لدى بعض وإنكارها لدى آخرين كأن يستفيد أحدهم من آية الوضوء مثلا - بعد اتفاقهم على حجية الكتاب - ان التحديد فيها انما هو تحديد لطبيعة الغسل وبيان لكيفيته فيفتى  تبعا لذلك
(1) ص 5 - 6 / ج 1 من بداية المجتهد ونهاية المقتصد. (*)
------------------------------------------------------------------
بالوضوء المنكوس بينما يستفيد الآخرون انه تحديد للمغسول وليس فيه أية دلالة على بيان كيفية الغسل أي أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة فلا بد من التماس بيان الكيفية من الرجوع إلى  الادلة الاخرى كالوضوءات البيانية وغيرها. وفي هذا القسم تنتظم جميع تلكم المناشئ التي ذكرها ابن رشد ونظائرها مما لم يتعرض له كمباحث المفاهيم والمشتقات ومعاني الحروف وما يشخص  صغريات حجية العقل كباب الملازمات العقلية بما فيه من بحوث مقدمة الواجب واجتماع الامر والنهي والاجزاء واقتضاء الامر بالشئ، على النهي عن ضده وغيرها من المباحث المهمة. ج -  ان يكون على درجة من الخبرة بأصول الاحتجاج، ومعرفة مفاهيم الحجج، وأدلتها، ومواقع تقديم بعضها على بعض، ليصح له الخوض في مجالات الموازنة بين الآراء وتقديم أقربها إلى الحجية  وأقواها دليلا يقول ابن خلدون - وهو يتحدث عن (الخلافي) - ووظيفته بالطبع وظيفة المقارن من حيث الاساس -: (ولا بد لصاحبه - يعني علم الخلاف - من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى  استنباط الاحكام كما يحتاج إليها المجتهد لان المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من ان يهدمها المخالف بأدلته (1)). وإذا كان الخلافي  يحتاج إلى الاجتهاد لحفظ مسائله والدفاع عنها فان المقارن أكثر احتياجا إليها بعد ان وفرنا له صفة القضاء والحكومة بين الآراء ومن شأن القاضي ان يحيط بحيثيات الحكم والاسس التي يرتكز  عليها لدى الموازنة تمهيدا لاصدار حكمه النهائي في الموضوع.
(1) المقدمة ص 457. (*)
------------------------------------------------------------------
الحاجة إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن ومن هنا يتضح مدى احتياجنا - متى أردنا لانفسنا الموضوعية كمقارنين - إلى مدخل لدراسة الفقه المقارن يتكفل لنا بعرض الاسس التي سوف نرتكز  عليها في مقام الموازنة والتقييم أي ان نبحث الاصول والمباني العامة التي كان يرتكز عليها المجتهدون في استنباطهم للاحكام على أساس من المقارنة. والا فان من الظلم ان نفترض لانفسنا أراء  مسبقة فيها ثم نحاول ان نجعلها منطلقا للمقارنة واصدار الحكم على أساسها من دون ان نعمد على التعرف على وجهات نظر الآخرين فيها وربما كان الحق في جانبهم في الكثير منها. وفي  اعتقادي ان الحديث عن هذه الاسس والمباني - كمدخل لدراسة الفقه المقارن - ضرورة تقتضيها طبيعة المقارنة بل لا تكون المقارنة الا من خلال ما ينتهي إليه المقارن منها. أما الحديث عن  القسم الثاني فلست أرى ضرورة التوسع فيه هنا - وان كنا سنشير إلى المهم من مباحثه - لعدم وجود وحدة قياسية يمكن الرجوع إليها في مختلف المسائل وان جعلت لها ضوابط في كثير من كتب  الاصول التقليدية والسر في ذلك أن أكثرها مما يعود إلى تشخيص الظهور للادلة اللفظية وفي أكثرها تتحكم القرائن الخاصة التي لا يمكن ضبطها بقاعدة على ان الخلاف فيما جعل لها من  الضوابط نادر جدا وهو مما لا يستحق ان يطال فيه الحديث. وعلى هذا فان مدخل هذه الدراسة سوف يتمخض لدراسة الاصول والمباني العامة أو قل ما يصلح ان يقع كبرى لقياس الاستنباط مع  الاشارة إلى قسم من تلك الضوابط التي تصلح ان تكون مرجعا للمجتهد عند الشك في تشخيص احدى الصغريات وإطالة الكلام في بعضها تبعا لحدود ما وقع فيها من اختلاف.
------------------------------------------------------------------
بحوث تمهيدية (2) اصول الاحتجاج أسس الاحتجاج ومصادره، تعداد القضايا الاولية والمسلمة، شكلية الخلاف فيها، الحجة عند اللغويين، الحجة عند المناطقة، الحجة عند الاصوليين، الحجة  الذاتية، الحجة المجعولة، العلم مقوم للحجية، منهجنا في أصول الاحتجاج.
------------------------------------------------------------------
(1) ذكرنا في التمهيد الاول أن من أصول المقارنة وركائزها الاساسية ان يحيط المقارن بأصول الاحتجاج. ومن أصول الاحتجاج وأولياته ان يتعرف المقارن أو غيره ممن يريد الموازنة  والحكم في أية قضية كانت على القضايا الاولية، والقضايا المسلمة لدى كل من يريد الاحتجاج عليهم، ليكون في الانتهاء إلى هذه الاوليات أو المسلمات فصلا في القول وإلزاما في الحجة، ومع  عدم التعرف عليها لا يمكن الفصل في أية مسألة لاصرار كل من الفريقين على وجهة نظره الخاصة، وكل قضية لا تنتهي إلى هذه الاوليات أو المسلمات تبقى معلقة ويتحول الحديث فيها من  عالم الموازنة والتقييم إلى عالم تأريخ المباني والتعرف على وجهات النظر فحسب كما هو الشأن في عالم الاستظهارات ودعاوى الانصراف والتبادر المختلف فيها. وقد يكون من نافلة القول أن  نؤكد على أن فقهاء المسلمين وفلاسفتهم على الاطلاق يعتبرون هذه القضايا الاساسية لكل احتجاج من البديهيات أو المسلمات، وهي القضايا التي يتمثل بها: 1 - مبدأ العلية والمعلولية بما فيها من  امتناع تقدم المعلول على العلة وتأخرها عنه أو مساواتها له في الرتبة ثم امتناع تخلفه عنها فحيثما توجد العلة التامة يوجد المعلول حتما. 2 - مبدأ استحالة التناقض اجتماعا وارتفاعا مع توفر  شرائط الاتحاد
------------------------------------------------------------------
والاختلاف فيه (1). 3 - مبدأ استحالة اجتماع الملكة وعدمها وارتفاعهما مع توفر قابلية المحل. 4 - مبدأ امتناع اجتماع الضدين. 5 - مبدأ استحالة الدور. 6 - مبدأ استحالة الخلف. 7 -  مبدأ استحالة التسلسل في العلل والمعلولات. لذلك لا نرى أية ضرورة للدخول في تفصيل القول في هذه القضايا وما يشبهها ما دمنا نعتقد أن الجميع يؤمنون بها وربما شاركهم فيها فلاسفة العالم  على الاطلاق وان ظهر من بعضهم خلاف ذلك نتيجة عدم تحديد المصطلحات وتوحيد نقطة النزاع فيها، وإلا فلست أظن أن عاقلا من العقلاء يؤمن بإمكان اجتماع النقيضين مع توفر شرائط  التناقض في الاتحاد والاختلاف وهؤلاء الذين يدعون الايمان بإمكان اجتماعهما لا يصورون الاجتماع إلا مع فقد بعض هذه الوحدات كالقائلين بنسبية الاشياء حيث يفقدون في أمثلتهم اما شرط  الزمان أو المكان أو الاضافة وفي بعض أمثلتهم خلط بين جمع النقيض إلى النقيض واجتماع النقيضين حيث لم يحسنوا التفرقة بينهما (2) كما لم يحسنوا التفرقة بين الضد والنقيض. واذن يكون  النزاع بينهم وبين غيرهم حول هذه النقطة بالذات نزاعا
(1) يشترط الفلاسفة في امتناع اجتماع أو ارتفاع النقيضين اجتماع وحدات عشر هي الموضوع، المحمول، الزمان، المكان، الرتبة، الشرط، الاضافة، الجزء والكل، القوة والفعل، الحمل، كما  اشترطوا ضرورة الاختلاف في ثلاثة هي: الكم والكيف والجهة ومع تخلف احدى هذه الوحدات أو عدم توفر الاختلاف في واحد من هذه الثلاث لا يمنع العقل من امكان الاجتماع أو الارتفاع. (2)  اقرأ ما كتبه الماركسيون حول صراع المتناقضات وما كتبه النسبيون حول امكان اجتماع النقيضين على أساس من نظريتهم النسبية مع ان صدق النظرية النسبية لا تبطل استحالة اجتماع  النقيضين لفقد شرط الاضافة فيها كما هو واضح. (*)
------------------------------------------------------------------
شكليا لا يعتمد على وحدة يحوم من حولها الطرفان. على أن الذي يهمنا هنا هو إيمان الاطراف المتنازعة في المسائل الفقهية بهذه القضايا وهذا ما لا موضع لخلاف فيه كما يتضح من عرض  كلماتهم الآتية في مختلف ما نطرقه من مواضيع حتى أن الغزالي وهو ممن عرف بإنكار السببية الطبيعية في الفلسفة لم يعمم إنكارها إلى الفقه وأصوله وانما بنى عليها كثيرا من المسائل المهمة  في القياس وغيره وسنرى بعد حين مدى إيمانه بذلك. وإذا صح هذا عدنا إلى تحديد مفهوم كلمة الحجة لنجعل منها منطلقنا إلى تمييز ما يصلح للاحتجاج به من الاصول والمباني العامة من غيره  محاولين ان نلتمس مختلف وجهات النظر في ذلك على أساس من التقييم والموازنة. (2) تعريف الحجة: والذي يبدو من تتبع موارد استعمال هذه الكلمة لدى الاصوليين وغيرهم ان لهم فيها  اصطلاحات متعددة تختلف باختلاف زاوية المصطلح فاللغويون يطلقونها على كل ما يصح الاحتجاج به أفاد علما بمدلوله أم لم يفد شريطة ان يكون مسلما لدى المحتج عليه ليكون ملزما به يقول  الازهري (الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة (1)) ولا يتم الظفر - بالطبع - الا مع اعتراف الخصم والتزامه بما قامت عليه وانما سميت - فيما يقول الازهري - (حجة لانها تحج  اي تقصد لان القصد لها وإليها (2)) والمرء عادة لا يقصد إلى الشئ الا إذا وجد فيه ضالته والضالة التي ينشدها العقلاء من وراء
(1 و 2) لسان العرب مادة حجج. (*)
------------------------------------------------------------------
قصدهم إلى الحجة الشرعية عادة هو التماس المعذرية، أو المنجزية وهما من اللوازم العقلية التي لا تنفك عن مفهوم الحجة بحال كما ان من لوازمها صحة نسبة مدلول ما يحتج به إلى من يحتج  عليه بعد فرض التزامه به. ولتحديد المراد من هذه اللوازم نخصها بشئ من الحديث. أ - المعذرية: تطلق المعذرية هنا ويراد بها حكم العقل بلزوم قبول اعتذار الانسان إذا عمل على وفق الحجة  الملزمة وأخطأ الواقع وليس للآمر معاقبته على ذلك ما دام قد اعتمد على ما أقامه له من الطرق وألزمه بالسير على وفقها أو كان ملزما بحكم العقل بالسير عليها كما هو الشأن من الحجج الذاتية،  فالمشرع الذي يجعل الطريق إلى قوانينه (جريدة الدولة الرسمية) مثلا لا يسوغ له ان يعاقب مواطنيه إذا اعتمدوا عليها في سلوكهم وتبين فيها الخطأ في النقل بسبب من الطباعة أو غيرها ولو قدر  له ان يعاقب لكان عرضة لكثير من اللوم والتقريع من قبل العقل ولكان أيسر ما يقال له كيف تعاقبه على السير على وفق ما ألزمته بالسير عليه أليس هذا هو الظلم بعينه ؟ ! ب - ا لمنجزية:  ويريدون بها اعتبار ما تقوم عليه الحجة من الامور الموصلة إلى واقع ما تقوم عليه بحيث يسوغ للمشرع ان يعاقب إذا قدر لها اصابة الواقع مع تخلف المكلف عنها فليس للمواطن مثلا إذا بلغ -  بواسطة الجريدة الرسمية - بنفاذ قانون ما ان يتخلف عن امتثاله بدعوى عدم حصول العلم بمدلوله لاحتمال الخطأ أو الاشتباه في الطريق ومن حق الدولة ان
------------------------------------------------------------------
تعاقب وتعتبر عدم الاخذ بما في الجريدة تمردا وعصيانا ولا يجديه اعتذاره بان هذه الطريق لم تفدني العلم ما دام عالما بجعلها طريقا من قبل دولته أو مشرعه ومن هنا صح احتجاج المولى عليه  والزامه بنتائج تمرده. ج - صحة الاخبار بمدلول الحجة: ويتفرع على هذا صحة الاخبار عن مؤدى ما قامت عليه الحجة ونسبته لمن صدرت عنه لان صحة الاخبار وليد اعتبار الطريق موصلة  إلى مؤداها. فالمسلم مثلا من حقه ان ينسب إلى الاسلام تبنيه وجوب الوضوء على الكيفية الفلانية وحجته في ذلك ظواهر القرآن بعد قيام الدليل القطعي على حجية الظواهر وان لم تفد قطعا  بمدلولها، والحجة بهذا المعنى شاملة للعلم ولكل ما ينهى إليه من حيث صحة الاحتجاج واثبات لوازمه سواء كان أمارة أم أصلا كما سيتضح ذلك فيما بعد. الحجة عند المناطقة: ولكن الحجة عند  علماء الميزان لا يراد بها ذلك على اطلاقه بل يريدون منها (الوسط الذي به يحتج لثبوت الاكبر للاصغر من نحو علقه وربط ثبوتي بنحو العلية والمعلولية أو التلازم (1)). وربما أطلقت على  مجموع قضايا القياس مقدمات ونتيجة وهي هنا - بهذا المعنى الذي تبناه علماء الميزان - لا يصح اطلاقها على القطع لان القطع معلول لها وناشئ عنها فهو متأخر عنها رتبة ولا يسوغ أخذ  المتأخر في المتقدم للزوم الخلف أو الدور. والقياس الذي يؤخذ في كبراه القطع الطريقي لا يمكن أن يكون منتجا دائما لكذب هذه الكبرى بداهة فقولنا هذا معلوم الخمرية وكل
(1) نهاية الافكار ج 3 ص 20 تقريرات آغا ضياء العراقي. (*)
------------------------------------------------------------------
معلوم الخمرية خمر يجب الاجتناب عنه فمعلوم الخمرية يجب الاجتناب عنه قياس غير منتج لان قولنا وكل معلوم الخمرية خمر كاذبة (إذ معلوم الخمرية يمكن أن يكون خمرا ويمكن ان لا يكون،  ووجوب الاجتناب لم يترثب على معلوم الخمرية بل على الخمر الواقعي لان الكلام في القطع الطريقي فلا يكون هناك علقة ثبوتية بين العلم وبين الاكبر لا علقة التلازم ولا علقة العلية والمعلولية  وما لم يكن علقة لا يصح جعله وسطا فلا يكون حجة باصطلاح المنطقي (1)). الحجة عند الاصوليين: أما الاصوليون فان لهم اصطلاحهم الخاص فيها فهم يطلقونها على خصوص (الادلة  الشرعية من الطرق والامارات التي تقع وسطا لاثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي من دون ان يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه (2)). ومن الواضح عدم الارتباط  الواقعي بين نفس الامارة وما تقوم عليه سواء كان موضوعا خارجيا أم حكما شرعيا، أما الموضوع الخارجي فواضح جدا لبداهة عدم الارتباط بين الظن بخمرية شئ وبين الخمر الواقعي لا على  نحو العلية والمعلولية ولا على نحو التلازم لان الظن بخمرية ماء مثلا لا يكون علة في تحويل ذلك الماء إلى خمر واقعي كما أنه لا تلازم واقعا بين هذا الظن وثبوت مؤداه، واما في الاحكام  فأمرها أوضح لان الاحكام انما ترد على موضوعاتها الواقعية لا على ما قام عليه الظن إلا على قسم من مباني القائلين بالتصويب وسيأتي الكلام فيها في موضعه، والظن لا يزيد على كونه  واسطة في أثبات متعلقه لا ثبوته.
(1) فوائد الاصول ج 3 ص 4. (2) المصدر السابق ص 4. (*)
------------------------------------------------------------------
والظاهر ان منشأ اطلاق كلمة الحجة على القياس عند المناطقة وعلى الطرق الشرعية والامارات عند الاصوليين هو كونهما من صغريات ما يصح الاحتجاج به عقلا وقد ضيقوها تبعا لحاجتهم  في الاصطلاح. فالحجية اللغوية اذن أوسع نطاقا منها عند المناطقة والاصوليين لصدقها - بحكم ما يتبادر منها على كل ما يصح الاحتجاج به علما كان أو امارة أو أصلا - شريطة أن تتوفر فيه  جنبة اعتراف الشارع به وتبنيه من قبله - باعتباره مشرعا أو سيدا للعقلاء -. وإننا إذ نستعمل كلمة الحجة فيما يأتي من بحوث فإنما نريد بها معناها اللغوي بما له من السعة لانه هو الذي يتصل  بصميم بحوثنا القادمة ما لم ننص على تقييدها بأحد المصطلحات وبهذا ستكون كلمة الحجة شاملة للعلم والامارة وغيرهما مما يصح الاحتجاج به. (3) وإطلاق كلمة الحجة على العلم يختلف عن  اطلاقها على الامارة لان اطلاقها على الاول لا يحتاج إلى توسط شئ واطلاقها على الثاني يحتاج إلى توسط جعل من شارع أو عقل وبهذا صح تقسيمها إلى قسمين ذاتية، ومجعولة. أ - الحجة  الذاتية: وهي التي لا تحتاج إلى جعل جاعل وتختص بخصوص (القطع) لانها من اللوازم العقلية له التي يستحيل تخلفها عنه. وتتضح هذه الملازمة إذا علمنا أن (القطع) ليس هو إلا كشفا للواقع  وطريقا له وطريقيته من
------------------------------------------------------------------
لوازمه الذاتية بل هو في رأي بعض أساتذتنا عين الطريق لان القطع لديه ليس هو إلا انكشافا ورؤية للمقطوع (ومن الواضح ان ثبوت الشئ لنفسه ضروري والماهية هي هي بنفسها فلا معنى  لتوهم جعل الطريقية (1) لها. وإذا ثبت أن العلم عين الطريق أو أن الطريقية من لوازمه الذاتية على الاقل كان ثبوت الحجية له من اللوازم العقلية القهرية وليس وراء الرؤية الكاملة للشئ ما  يلزم بصحة الاحتجاج بما كشفت عنه. ومن هنا ندرك سر التزامهم بعد امكان تصرف الشارع في طريقية العلم أو في حجيته لان الشارع انما يملك التصرف في خصوص مخلوقاته ومجعولاته  كمشرع ولا يملك أكثر من ذلك وهما بعد اتضاح كون أحدهما ذاتيا والآخر من اللوازم العقلية القهرية ليسا من مجعولاته كمشرع وإن دخلا تحت قبضته كخالق ومكون، بمعنى أنه قادر على  اعمال إرادته التكوينية في إزالة القطع عن القاطع فتزول معه طريقيته وحجيته من باب السالبة بانتفاء الموضوع. أما مع وجود القطع وقيامه في نفس القاطع فرفع طريقيته أو رفع حجيته مما  ينهي به إلى الخلف لبداهة أن رفع الذاتيات أو رفع لوازمها العقلية يستلزم رفع نفس الشئ وهو ينافي فرض بقائه من وجهة تكوينية فالزوجية لما كانت من لوازم العدد المزدوج كالاربعة استحال  نفيها عن الاربعة تشريعا وإذا استحال النفي التشريعي استحال الاثبات كذلك لانتهائه إلى تحصيل الحاصل وهو بديهي الاستحالة. على ان مثل هذا التصرف الشرعي لو فرض امكانه من تلكم  الجهة لثبتت
(1) دراسات الاستاذ الخوئي ص 5. (*)
------------------------------------------------------------------
الاستحالة له من جهات أخرى واهمها: 1 - لزوم التناقض إما واقعا واما بنظر القاطع لان التصرف الشرعي بطريقية القطع ينهي إلى ان يكون ما قطع به من الوجوب مثلا غير واجب عليه  ومعنى ذلك اجتماع الوجوب وعدمه وان صادف قطعه الواقع وان لم يصادفه لزم اجتماعهما في نظره لقطعه بوجود الوجوب واقعا وعدم وجوده واجتماع القطعين بالنفي والاثبات بالنسبة لشئ  واحد محال. 2 - على ان اثبات حجية مثل هذا التصرف بالطريقية أو الحجية - لو أمكن - فهو مما يحتاج إلى دليل فان كان غير القطع احتجنا إلى دليل على حجيته أيضا والدليل الثالث على  الحجية ان كان غير قطعي احتجنا إلى دليل وهكذا إلى ما لا نهاية له يقول شيخنا النائني: (طريقية كل شئ لا بد وان تنتهي إلى العلم وطريقية العلم لا بد وان تكون ذاتية له لان كل ما بالغير لا بد  وان ينتهي إلى ما بالذات والا لزم التسلسل (1)) ومن هنا كان علينا ان نفترض وحدة ينتهي عندها التماس الحجج المجعولة لنقطع السلسلة عن الاستمرار وتكون هذه الوحدة مصدرا لجميع  الحجج وليست هذه الوحدة بالبداهة غير العلم، فالعلم اذن هو مصدر الحجج واليه تنتهي وكلما لا ينتهي إليه لا يصح الاحتجاج به ولا يكون قاطعا للعذر. وما دام العلم ذاتيا في طريقيته وعقليا في  حجيته والشارع ليس له التصرف فيه رفعا أو وضعا فانه ليس له التصرف أيضا بشئ من أسبابه فليس له ان يقول ان القطع حجة إذا جاء من السبب الفلاني وليس بحجة إذا جاء من سبب غيره  كما نسب إلى الاخباريين ذلك حيث منعوا حجية القطع إذا كانت أسبابه عقلية لانتهاء مثل هذا التصرف إلى التصرف في
(1) فوائد الاصول ج / 3 ص 3. (*)
------------------------------------------------------------------
نفس القطع من حيث طريقيته أو حجيته وقد قلنا ان هذا التصرف غير ممكن عقلا للاسباب السابقة. وكما استحال تصرف الشارع بالنسبة إلى الاسباب استحال تصرفه بالنسبة إلى الاشخاص -  كأن يقول ان قطع القطاع ليس بحجة - أو بالنسبة إلى الازمان أو المتعلقات كما نسب ذلك إلى البعض لانتهاء كل ذلك إلى التصرف بنفس القطع وهو مستحيل كما مر. ب - الحجة المجعولة:  وهي التي لا تنهض بنفسها في مقام الاحتجاج بل تحتاج إلى من يسندها من شارع أو عقل. وهي انما تتعلق فيما عدا العلم من الامارات والاصول احرازية أو غير احرازية أي فيما ثبتت له  الطريقية الناقصة التي لا تكشف عن الواقع الا في حدود ما، أو لم تثبت له لعدم كشفه عنه. وانما احتجنا إلى من يسندها من شارع أو عقل لعدم توفر الطريقية الذاتية لها لنقصان في كشفها إذا  كانت امارة أو اصلا إحرازيا على قول أو لعدم توفر الطريقية لها إذا كانت اصلا غير احرازي. ومتى انعدمت الطريقية الذاتية انعدم لازمها العقلي وهو صحة الاحتجاج بمضمونها بما له من  المعذرية والمنجزية وغيرهما من اللوازم ولاثبات تمامية الكشف للامارة لا بد ان نحتاج إلى من يتبنى تتميم كشفها من شارع أو عقل أي نحتاج إلى القطع بإمضاء الشارع لها إذا كان تتميمها قائما  لدى العرف أو جعلها من قبله ابتداء بناء على ما هو الصحيح من امكان جعل الطريقية للطرق والامارات أو نحتاج إلى من يجعل الحجية لها بناء على القول الآخر. أما الاصول فاحتياجها إلى  سند قطعي يصحح الاحتجاج
------------------------------------------------------------------
بها من أوضح الامور ما دامت لا تملك شيئا من الكشف عن الواقع، نعم ما كان فيها شئ من الكشف كالاستصحاب وقاعدة الفراغ فحسابه لدى البعض ملحق بالامارة. ووجه الحاجة إلى القطع  بوجود من يسندها طريقية أو حجية هو قطع سلسلة العلل لما سبق ان قلنا: ان كل ما كانت حجيته بالغير لا بد وان ينتهي إلى ما بالذات وإلا لزم التسلسل. ومع كون الامارات أو الاصول لا تملك  الحجية الذاتية بداهة، فهي محتاجة إلى الانتهاء إلى ما يملكها، وليس هناك غير القطع بجعل الحجية لها من قبل من بيده أمر وضعها ورفعها. ولذلك، اعتبرنا ان كل حجة لا تنتهي إلى القطع لا  تصلح للاحتجاج بها، وتسميتها حجة من باب التسامح في التعبير. وأظننا - بهذا المقدار من العرض - لا نحتاج بعد إلى التماس أدلة على نفي الحجية عن كل ما هو غير قطعي بأمثال قوله تعالى:  (ولا تقف ما ليس لك به علم (1)). وقوله تعالى: (ان الظن لا يغني من الحق شيئا (2)). وقوله عزوجل: (آلله أذن لكم أم على الله تفترون (3) ؟). وأمثالها من الآيات المرشدة إلى ذلك الحكم  العقلي والمؤكدة له. والذي يبدو لي أن المسألة - بهذه الحدود - موضع اتفاق بين العقلاء، فضلا عن المسلمين، وان لم تصرح به جميع كلماتهم، ودليل اتفاقهم أنهم عندما يريدون أن يؤصلوا أصلا،  أو يكتشفوا قاعدة، لا يكتفون بالعمل بمقتضى مؤداها بل يلتمسون لها قبل ذلك سندا قطعيا
(1) الاسراء / 36. (2) يونس / 35. (3) يونس / 59. (*)
------------------------------------------------------------------
من شرع أو عقل تحقيقا للجزم بالمعذرية والمنجزية. وربما تناقشوا في إفادة الدليل للمؤدى، وناقشوا بثبوت الجعل الشرعي له، وقالوا: ان الدليل لا يفيد القطع بذلك مما يكشف عن أن القطع هو  أساس جميع الحجج عندهم، يقول الشاطبي - وهو يتحدث عن بعض الادلة غير العلمية -: (ان المعنى المناسب الذي يربط به الحكم الشرعي إذا شهد الشرع في قبوله لا خلاف في صحته  وإعماله، وان شهد الشرع برده كان لا سبيل إلى قبوله، ويكون الحكم الذي يربط به ويقوم عليه لا سبيل إلى قبوله (1)). ويقول الخضري من المتأخرين: (أما الاصولية ككون الاجماع والقياس  وخبر الواحد حجة، فهذه مسائل أدلتها قطعية (2))، وقال غيرهما نظير هذا القول مما يكاد يكون صريحا بعدم أخذهم بالدليل ما لم تلتمس له الحجية من الشارع أو العقل الموجبة للقطع بلزوم  اتباعها، وسيأتي ما يؤيد ذلك عندما نعرض أدلتهم على الامارات والاصول ومناقشاتهم لهذه الادلة. نعم هناك ما يشعر بخلاف ذلك من كلماتهم وبخاصة ما ورد منها في تعريف الاجتهاد، أمثال  تعريف الآمدي له (باستفراغ الوسع في طلب الظن بشئ من الاحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه (3)). واستدراكهم على من أخذ العلم بالاحكام في تعريفه بأن  أكثر الاحكام مما قام عليها دليل ظني، وأن بعض مقدمات القياس المنطقي إذا كانت ظنية كانت النتيجة تبعا لذلك ظنية، لان النتائج تتبع أخس المقدمات
(1) الاسلام ومشكلاتنا المعاصرة، ص 26 نقلا عنه. (2) أصول الفقه، ص 366. (3) الاحكام، ج 3 ص 139. (*)
------------------------------------------------------------------
إلى أمثال ذلك من المناقشات. وأظن أن هذه المناقشات لا تنافي ما استظهرناه من اطباقهم على اعتبار القطع في كل حجة، والخلاف بينهم هنا أقرب إلى الخلاف الشكلي. فالقائلون باعتبار العلم  بالاحكام في تعريف الاجتهاد لا يريدون به العلم بالاحكام الواقعية، وانما يريدون به العلم بالحكم الفعلي وهو أعم من كونه واقعيا أو ظاهريا. والقائلون باعتبار الظن لا يريدون به الظن بالحكم  الفعلي، وإنما أرادوا به الظن بالحكم الواقعي مع قيام الدليل القطعي على اعتباره. وعلى هذا فالقطع في الحجية لا ينافي الظن بالحكم الواقعي، ولا شك بأن الشارع بعد تبنيه لحجية خبر الواحد  مثلا، وقيام الدليل القطعي عليه، فانه ينجز ما قام عليه من الاحكام عند من قام لديه، ويلتمس المعذرية له لو خالف الحكم الواقعي باتباعه له. ومن هنا يتضح معنى قولهم: إن العلم مقوم للحجية وان  الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها، لان الشاك في الحجية قاطع بعدم المعذرية والمؤمنية، لو سلك هذه الطريق المشكوكة وكانت لله عليه الحجة البالغة لو ساء له على أي شئ ارتكزت في  سلوكك هذا وخالفت واقع ما أمرت به، وكيف نسبت الي مع عدم تأكدك مضمون ما شككت بحجيته، آلله أذن لكم أم على الله تفترون. (4) وبهذا فقد تحدد موقفنا مما سنعرضه من المباني العامة  والقواعد الاصولية،
------------------------------------------------------------------
أو ما سنعرضه من المسائل الفقهية في هذا المدخل وغيره من كتبنا اللاحقة انشاء الله تعالى. فالقطع بالحجية اذن هو أساس جميع الادلة، وعلى ركائزه تقوم دعائم الموازنة، والتقييم، وإصدار  الحكم، فكل دليل أنهى إلى القطع بمؤداه، أو قام دليل قطعي على جعل الطريقية أو جعل الحجية له فهو الملزم للجميع، وكل ما لا يكون كذلك فهو ليس بدليل. ولا يكون القطع ملزما للجميع حتى  ينتهي الحديث فيه إلى إحدى تلك القضايا الاولية، أو المسلمة لدى الطرفين. والبراعة في الاحتجاج والالزام، انما تكون بمقدار ما يملك صاحبها من إيصال إلى هذه القضايا وانهاء إليها. ومع عدم  الانتهاء إلى ملزم منها فإن المسألة تتحول إلى مسألة مبنائية لا مجال فيها لفصل أو تقييم، ويترك لكل من الطرفين حق اختياره لما يشاء وبخاصة إذا ادعى لنفسه القطع وهو حجة لا تتجاوز نفس  القاطع ومن كان ملزما بالرجوع إليه. وعلى هذا الضوء، نرجو ان نوفق إلى بحث وتحديد مسائل أصول الفقه المقارن الذي عقد هذا المدخل لدراستها دراسة مفصلة، فنعرض إلى أصل أصل،  ونستعرض آراء الاعلام فيه على اختلاف وجهات نظرهم، ثم نحاول تقييمها على أساس ما قدمناه من أصول الموازنة والتقييم، ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق.
------------------------------------------------------------------
بحوث تمهيدية (3) أصول الفقه المقارن تعريفه، الفروق بينه وبين القواعد الفقهية، الفروق بينه وبين أصول الفقه، موضوعه، الغاية منه، الفارق بينه وبين أصول القانون.
------------------------------------------------------------------
(1) وقبل ان نبدأ هذه الدراسة، فإن علينا ان نحدد مدلول مفردات هذا التركيب الاضافي (أصول، الفقه، المقارن) ليسهل الانطلاق من هذا التحديد إلى التماس تعريفه تعريفا مستوفيا للشرائط  المنطقية من حيث الاطراد والانعكاس. فماذا يراد بهذه الكلمات ؟ 1 - كلمة أصول: وهي جمع، مفردها أصل، ومعناها اللغوي: ما يرتكز عليه الشئ ويبنى وفي المصطلحات الفقهية والاصولية  ذكروا لها معاني وصل بها بعضهم إلى خمسة: 1 - ما يقابل الفرع، فيقال مثلا في باب القياس: الخمر أصل النبيذ، أي ان حكم النبيذ مستفاد من حكم الخمر. 2 - ما يدل على الرجحان، فيقال:  الحقيقة أصل المجاز، أي إذا تردد الامر بين حمل كلام على الحقيقة وحمله على المجاز، كان الحمل على الحقيقة أرجح. 3 - الدليل، أي الكاشف عن الشئ والمرشد له. 4 - القاعدة، أي  الركيزة التي يرتكز عليها الشئ كقوله صلى الله عليه وآله بني الاسلام على خمسة أصول، أي على خمس قواعد. 5 - ما يجعل لتشخيص بعض الاحكام الظاهرية أو الوظيفة كالاستصحاب أو  أصل البراءة.
------------------------------------------------------------------
ولصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود رأي وهو أنها لم تستعمل هنا إلا (بمعناها اللغوي الحقيقي دون نقله إلى استعمال آخر، إذ مخالفة الاصل لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا  لان المعنى مستقيم، واللفظ في الحقيقة وإن كان يشمل البناء الحسي والعقلي، إلا أن إضافة الاصل للفقه الذي هو عقلي صرفته عن الابتناء الحسي، وقصرته على البناء العقلي (1)). وما يراه  صدر الشريعة، لا يخلو عن وجه، والظاهر أن هذه المعاني وإن تعددت في بدو النظر في اصطلاح الفقهاء، إلا أن رجوعها إلى المعنى اللغوي غير بعيد، ومنشأ التعدد في ألسنتهم اختلاط المفهوم  بالمصداق على الكثير مما حملهم على دعوى الاشتراك اللفظي بينها. وإذا كان ولا بد من دعوى التعدد في مفهومها فالذي نراه أعلق بالمفهوم الذي نريد تحديده للعنوان هو كلمة القواعد، كما  سنشير إلى وجه ذلك فيما بعد. 2 - كلمة الفقه: ولكلمة الفقه أيضا مدلولان: لغوي واصطلاحي، فمدلولها اللغوي الفهم والفطنة، ولها في الاصطلاح عدة تعاريف رأينا الانسب منها بعد تكميل  بعضها ببعض، فيما يتصل بعنواننا هي: مجموع الاحكام الشرعية الفرعية الكلية أو الوظائف المجعولة من قبل الشارع، أو العقل عند عدمها. وإذا ضممنا هذين المعنين إلى ما سبق أن حددناه من  كلمة المقارن، اتضح لنا ما نريد من التعريف لعنوان كتابنا هذا.
(1) مباحثات الحكم عند الاصوليين، ص 9. (*)
------------------------------------------------------------------
تعريف أصول الفقه المقارن: فهو: القواعد التي يرتكز عليها قياس استنباط الفقهاء للاحكام الشرعية الفرعية الكلية، أو الوظائف المجعولة من قبل الشارع أو العقل عند اليأس من تحصيلها من  حيث الموازنة والتقييم. وبالطبع لا نريد بالقواعد هنا غير الكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها لانتجت ذلك الحكم أو الوظيفة، لان الكبرى هي التي تصلح ان تكون قاعدة لقياس الاستنباط،  وعليها تبني نتائجه. وبهذا ندرك أن تعريف شيخنا النائني للمسائل الاصولية بأنها (عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الاحكام الشرعية (1)) من أسد التعريفات لولا احتياجه إلى كلمة  (الفرعية الكلية) إخراجا للكبريات التي لا تنتج إلا أحكاما جزئية كبعض القواعد الفقهية وضميمة الوظائف إليه، ليستوعب التعريف مختلف المسائل المعروضة لدى الفقهاء، وستأتي التفرقة بين  الحكم والوظيفة في تمهيدنا اللاحق. وتلاؤم هذا التعريف مع ما يتبادر من كلمة أصل بمفهومها اللغوي من أوضح الامور. فأصول الفقه اذن أسسه التي يرتكز عليها وتبنى عليها مسائله على  اختلافها. إطلاق كلمة الادلة والحجج عليها: وربما أطلق على هذه القواعد كلمة أدلة باعتبار ما يلزم أقيستها من الدلالة على الاحكام أو الوظائف - بحكم كونها واسطة في الاثبات - كما يطلق  عليها كلمة، حجج باعتبار صحة الاحتجاج بها بعد توفر شرائط
(1) فوائد الاصول، ج 4 ص 107. (*)
------------------------------------------------------------------
الحجية لها، وإطلاق هذه الكلمات عليها بما لها من حدود لا تخلو من تجوز. ما يقع موقع الصغرى ليس من الاصول: وإذا صح ما ذكر من أن ما يصلح ان يسمى (أصلا) للفقه هو خصوص  الكبرى المنتجة لانها هي التي تصلح للارتكاز عليها كقاعدة لبناء الاستنباط، اتضح السر في عدم تعميمنا في التعريف إلى ما يشمل الصغريات، سواء ما وقع منها في مجالات استكشاف المراد  من النص كمباحث الالفاظ أم غيرها كمباحث الملازمات العقلية، لوضوح كونها ليست من الاصول التي يرتكز عليها البناء وان توقف عليها انتاج القياس واعطاؤه الثمرة العملية. وأظن أن  الاعلام الذين وسعوا في التعريف إلى ما يشملها فأبدلوا كلمة الكبريات بكلمة (ما يقع في طرق الاستنباط) أو ما يشبهها، كان همهم في الدرجة الاولى وضع تعريف لما اعتادوا تسميته بالاصول،  فوقعوا في مفارقات عدم انعكاس تعريفهم لوقوع كثير مما اتفقوا على تسميته بالمبادئ في صميم علم الاصول لاشتراكها في الكثير من الاحيان في تنقيح الصغريات لقياس الاستنباط كعلوم اللغة  والنحو والبلاغة، بالاضافة إلى خروجهم على ما توحي به هذه الكلمة من دلالة. والحق الذي نعتقده ان بحث ما يتصل بمباحث الالفاظ وغيرها مما يلابس قياس الاستنباط مما اعتادوا بحثه في علم  الاصول وان كان على درجة من الضرورة لاغفال بحثه على هذا المستوى في مظانه من الكتب الاخرى، إلا أن تسميته بالاصول لا يتضح لها وجه. فالانسب اعتبارها من المبادئ وبحثها على  هذا الاساس مع تقليص
------------------------------------------------------------------
بحثها إلى ما تمس الحاجة إليه من حيث تشخيص دلالاتها اللغوية، واقصاء كل ما لا يمت إلى واقعها اللغوي من البحوث الفلسفية وغيرها. (2) الفرق بين القواعد الاصولية والفقهية والذي إخاله  ان تقييدنا للحكم الشرعي بكلمة (كلي) في التعريف السابق سهل علينا الانطلاق إلى التمييز بين القواعد الفقهية والاصولية. وهذه المسألة - أعني التفرقة بينهما - من أعقد ما بحث في مجالها، ولم  تفصح فيها كثير من كلماتهم وان حامت حول ما نريد بيانه أكثرها - فيما نعتقد - وأهم ما ينبغي التنبيه عليه من الفروق ثلاثة وهي: أ - كون القاعدة الاصولية لا تنتج إلا حكما كليا أو وظيفة كذلك  بخلاف القاعدة الفقهية، فان انتاجها منحصر على الدوام في الاحكام والوظائف الجزئية التي تتصل اتصالا مباشرا بعمل العامل. ب - إن القاعدة الاصولية لا يتوقف استنتاجها والتعرف عليها على  قاعدة فقهية بخلاف العكس، لان القواعد الفقهية جميعا انما هي وليدة قياس لا تكون كبراه إلا قاعدة أصولية. ج - ان القاعدة الاصولية لا تتصل بعمل العامي مباشرة ولا يهمه معرفتها لان إعمالها  ليس من وظائفه وانما هو من وظائف مجتهده، ولذلك لا نجد أي معنى لالقائها إليه في مجالات الفتوى، بخلاف القاعدة الفقهية فإنها هي التي تتصل به اتصالا مباشرا وهي التي تشخص له وظيفته،  فهو ملزم بالتعرف عليها لاستنباط حكمه منها بعد أخذها من مجتهده.
------------------------------------------------------------------
ولعل هذا هو مراد شيخنا النائني، وان لم توضحه بعض تقريرات بحثه، فلا يرد على تفرقته هذه ما ذكر (من أن بعض القواعد الفقهية لا يمكن القاؤها إلى العامي ولا يستطيع معرفتها فضلا عن  تطبيقها) وذلك كقاعدة ما لا يضمن، أو التسامح في أدلة السنن، أو قاعدة لا ضرر ولا حرج بداهة ان المكلف عاجز عن تطبيق هذه القواعد على مواردها (1)). لان عجز العامي عن معرفة هذه  القواعد بنفسه لا يرفع عنه مسؤولية فهمها والاستعانة بمن يوضحها له لتعلقها بصميم عمله، وليس من وظيفة المجتهد ان يعدد جميع مصاديق هذه القواعد ليمهد للعامي جهة الانتفاع بها فيما لو  ابتلي ببعضها وإلا لضاق به نطاق الزمان عن استيعابها جميعا، على أنا نشك ان العامي - وبخاصة من قارب درجة الاجتهاد ولم يجتهد بعد - عاجز عن تطبيقها متى حددت له جهتها الفقهية،  وأبرزت له معالمها، وترك له أمر التماس موضوعاتها وتطبيقها على نفسه. ولعل أهم ما يمكن أن تؤاخذ به التفرقة الاولى - وهي العمدة في الفروق - ما شوهد من انتاج بعضها للنتائج الفقهية  والاصولية معا مما يبعث على الحيرة في التماس مقياس موحد للتفرقة بينهما، فقد لوحظ مثلا على الاستصحاب واصل الطهارة انهما ينتجان أحيانا الحكم الكلي، واحيانا الاحكام الجزئية،  وبمقتضى ذلك لا يمكن عدهما من المسائل الاصولية ولا الفقهية بذلك المقياس، وهذا ما حمل البعض على عدم الاخذ به واللجوء إلى التماس مقاييس أخرى. ولكننا لا نجد في هذه المؤاخذة ما  يوجب طرح هذا المقياس، وليس هناك ما يمنع من اشتراك الموضوع الواحد بين علمين وأكثر إذا
(1) مصابيح الاصول ج / 1 ص 13. (*)
------------------------------------------------------------------
تعددت فيه الحيثيات بتعدد العلوم. فالاستصحاب من حيث إنتاجه للحكم الكلي يكون موضوع مسألة أصولية، ومن حيث انتاجه للحكم الجزئي يكون موضوع مسألة فقهية، وتعدد الحيثية يعدد  الموضوع حتما، وكذلك القول في أصل الطهارة وغيرها من الموضوعات المشتركة بين مسائل الفقه والاصول. أما لماذا بحثت بعض هذه الموضوعات في الاصول ولم تبحث في الفقه أو  بالعكس، فالذي احتمله أن قدماء الاصوليين - وهم الذين برمجوا لنا هذه العلوم - لاحظوا الغلبة في نوع انتاج هذه القواعد، فقسموا بحوثها على هذا الاساس، ولهذا السبب بحثوا أصل الطهارة في  الفقه لغلبة انتاجه للنتائج الجزئية، وبحثوا للاستصحاب في الاصول لغلبة انتاجه للحكم الكلي. وربما كان الباعث لبعضهم بالاضافة إلى ذلك، ما يرون في بعضها من تمشيها في مختلف أبواب  الفقه وعدم اقتصارها على باب دون باب، فآثر لذلك بحثها في الاصول تسهيلا للباحث وإبعادا له عن تضييع الوقت في التماسها في مختلف المظان، بخلاف البعض الآخر فانه يخص بعض أبواب  الفقه دون بعض كأصل الطهارة، إذ من السهولة واليسر التماسه في بابه الخاص من الفقه. وهذه وجهات نظر في البرمجة، قد توافق عليها أصحابها، وقد تختلف معهم، ولكنها على كل حال لا  توجب رفع اليد عن المقياس الذي ذكرناه شريطة ان يتقيد بلحاظ الحيثية في هذه المواضيع المشتركة على نحو ما ذكرناه سابقا.
------------------------------------------------------------------
(3) الفارق بينه وبين أصول الفقه: هناك فوارق بينه وبين أصول الفقه، يتصل بعضها في منهجة البحث، وسيأتي الحديث عنه في موضعه، وبعضها في سعة كل منها وضيقه بالنسبة إلى طبيعة  ما يبحثه، فإذا كان من مهمة الاصولي ان يلتمس ما يصلح ان يكون كبرى لقياس الاستنباط، ثم يلتمس البراهين عليه، فان مهمة القارن في الاصول ان يضم إلى ذلك استعراض آراء الآخرين،  ويوازن بينها على أساس من القرب من الادلة والبعد عنها، وما عدا ذلك فطبيعة مسائلهما متحدة كما يدل على ذلك تقارب تعريفيهما وان اختلفا في الغاية من كل منهما، لان الغاية من علم  الاصول تحصيل القدرة على استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. الغاية من أصول الفقه المقارن: بينما نرى أن الغاية من أصول الفقه المقارن هي الفصل بين آراء المجتهدين بتقديم  أمثلها وأقربها إلى الدليلية، وربما كانت رتبة الاصولي المقارن متأخرة عن رتبة الباحث في الاصول، لان الفصل بين الآراء لا يكون إلا بعد تحصيل القدرة على معرفة الامثل من الادلة، وهي لا  تكون إلا للمجتهدين عادة في الاصول. موضوع أصول الفقه المقارن: هو: كل ما يصلح للدليلية من أدلته، وحصره إنما يكون بالاستقراء والتتبع، ولا معنى لتخصيصه بالادلة الاربعة لا بما هي  أدلة كما ذهب
------------------------------------------------------------------
إلى ذلك المحقق القمي، ولا بما هي هي كما ذهب إليه صاحب الفصول ليرد عليهما خروج كثير من المباحث الاصولية، أمثال الاستصحاب والقياس وخبر الواحد لبداهة أنها ليست من الكتاب أو  السنة أو الاجماع، أو دليل العقل وان كانت أدلة حجيتها مما ترجع إليها. وهما - أعني أصولي الفقه والفقه المقارن - متشابهان في تمام مواضيعهما، وإن اختلفا بقيد الحيثية في كل منهما.  والخلاصة: ان في كل منهما مواضع للالتقاء وأخرى للافتراق، فهما يلتقيان في طبيعة مسائلهما وتشابه موضوعاتها، ويفترقان في الغاية من بحثهما وفي منهج البحث، ثم في سعته في أحدهما  وضيقه في الآخر. (4) الفارق بينه وبين أصول القوانين: ويتضح هذا الفارق - الذي رأينا ضرورة بحثه في مثل هذا التمهيد لطبيعة ما بينهما من علائق - من تعريفهم لاصول القانون إن صح أن  له تعريفا محددا، يقول السنهوري: (ليس هناك علم واضح المعالم بين الحدود يسمى علم أصول القانون ولكن توجد دراسات تبحث في القانون وفي نشأته وتطوره وفي طبيعته ومصادره واقسامه  (1)). وفي حدود ما انتهينا إليه من تحديد لكلمة أصل، فان الذي يصلح ان يكون أصلا للقانون مما يتصل بهذه الدراسات هو خصوص مصادر القانون، أما البحث عن القانون وطبيعته واقسامه  ونشأته وتطوره،
(1) أصول القانون للدكتور عبد الرزاق السنهوري واحمد حشمت، ص 1 (*)
------------------------------------------------------------------
فهو خارج عن صميم الاصول وملحق بمباديه ومداخله لبداهة ان تصور نفس الشئ وطبيعته يعد من المبادئ الضرورية لعلمه، ودراسة نشأته وتطوره هي أقرب إلى التاريخ منها إلى العلم. وكلمة  المصادر هنا ذات معناني في أعرافهم لعل أهمها معنيان: 1 - الاصل التاريخي، وهو الذي أخذ القانون الذي يراد دراسته عنه احكامه، فالقانون الفرنسي مثلا، يعتبر أصلا للقوانين المصرية  والعراقية في الكثير من موادها. 2 - السلطة التي تعطي القواعد القانونية قوتها الملزمة وتسمى ب‍ (المصدر الرسمي) ولكل قانون مصدر أو مصادر متعددة. و (المصادر الرسمية هي: التشريع،  والعرف، والقانون الطبيعي، وقواعد العدالة، واحيانا الدين (1)). (ويتصل بالمصدر الرسمي ما يسمى بالمصدر التفسيري، وهو المرجع الذي يجلو غامض القانون ويوضح مبهمه، والمصادر  التفسيرية اثنان: الفقه والقضاء (2)). والتفسير انما يلجأ إليه إذا كان في النص غموض أو تناقض أو نقص، وقد وضعوا للتفسير طرقا قسموها إلى قسمين: داخلية وخارجية، فالداخلية: هي التي  يلتمس المفسر من نفس النص معالم تهديه إلى واقع ما يجهله، وأهم طرقها: (القياس، الاستنتاج من باب أولى (مفهوم الموافقة)، والاستنتاج من مفهوم المخالفة، وتقريب النصوص المتعلقة  بموضوع واحد بعضها من بعض (3)).
(1 - 2 - 3) أصول القانون للدكتور عبد الرزاق السنهوري وأحمد حشمت، ص 164 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
والطرق الخارجية (وهي التي يستند فيها المفسر على عنصر خارجي عن التشريع نفسه، ومن ذلك الاستناد إلى حكمة التشريع والاسترشاد بالاعمال التحضيرية، والاسترشاد بالعادات والرجوع  إلى المصدر التاريخي للتشريع (1)). والذي يبدو ان لعلماء القانون مواقف مختلفة من الدعوة إلى إيجاد مصادر إلى جنب القانون يرجع إليها عند نقصه وعدم إستيفائه لحاجات الناس، فالذي عليه  الاستاذ بلوندو عميد كلية الحقوق في باريس هو الاخذ بالطريقة التقليدية، وهي التي سادت في القرن الثامن عشر ومبدؤها الحجر على الرجوع إلى غير القانون لعقيدة أصحابها (ان التشريع  الرسمي يكفينا وحده للكشف عن جميع الاحكام الحقوقية الضرورية لحاجات الحياة الاجتماعية (2)) وقد (صرح في مذكرته إلى مجمع العلوم الاخلاقية بأن المصدر الوحيد في الوقت الحاضر  انما هو القانون) (وعلى هذا فقد أقصى من مصادر الحكم ما سماه بالمصادر غير الصحيحة التي أقيمت غالبا في مقام إرادة الشارع، وقد عدد منها الاجتهادات والمذاهب القديم منها والحديث  والعرف الذي لم تدل عليه صراحة القانون، وكذلك حسن العدالة وفكرة المصلحة العامة (3)). ولكن القرن التاسع عشر حفل بطريقة جديدة سميت (بالطريقة العقلية) وأرادوا بها (الاستنجاد  بالعقل ليكتشف حلولا وأحكاما للمسائل تكون متناسبة مع فكرة الانصاف والحاجات العملية) ولكن حرصها (على ادخال ما يصدر عنها من حلول وأحكام في نطاق نصوص القانون
(1) أصول القانون للدكتور عبد الرزاق السنهوري وأحمد حشمت، ص 164 وما بعدها. (2 - 3) المدخل إلى علم أصول الفقه ص 332 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
بعد توسيع ذلك النطاق وتبيين تلك النصوص (1)) حولها في نظر العلماء إلى امتداد لتلك الطريقة التقليدية واستمرار لها، مما أوجبت الثورة عليها من قبل الاستاذ فرانسوا جيني الذي جاء بطريقة  (البحث العلمي الحر) كرد فعل لمفعول تلكم الطريقتين، وتقوم نظريته الحديثة على أساس من: 1 - (القول بأن يترك في نطاق القانون جميع ما يصدر عنه (2)) 2 - و (الاعتراف إلى جانب  القانون بمصادر أخرى تمشي موازية له، ويكون لهذه المصادر قيمة حقوقية وإن لم تكن نفس القيمة التي للقانون، وذلك على نحو ما كان عليه الرومان من الاعتراف بالاجتهاد كمصدر من  مصادر الحقوق (3)). وفي حدود ما اطلعت عليه أن الكلمة بعد لم تتفق لدى علماء القانون على وضع أصول وقواعد تفي بحاجات الناس، سواء ما يتصل بالطرق التفسيرية الداخلية أم الخارجية  (وهذا ما جعل القاضي يفسر القانون حين الاقتضاء تبعا لمواهبه المسلكية وحسب ذمته تحت مراقبة مجلس التمييز، وهو يستوحي ذلك من روح القانون التي أراد الشارع بلوغها، ومن الوثائق  التي سبقت وضع القانون وأعدته، ومن هنا يفهم كم هي خطرة هذه السلطة من التفسير (4)). ومن هذا العرض الموجز، ندرك مواقع الالتقاء بين أصول الفقه المقارن وأصول القوانين في اهتمام  كل منهما بالجانب التأريخي. فالمقارن في الدرجة الاولى مسؤول عن التماس القواعد العامة التي يستند إليها الفقهاء ليتعرف عليها تمهيدا للموازنة والتقييم، والباحث عن
(1 - 2) المدخل إلى علم أصول الفقه ص 332 وما بعدها. (3) المصدر السابق ص 335. (4) المصدر السابق ص 7 وما بعدها نقلا عن الموسوعة الفرنسية. (*)
------------------------------------------------------------------
مصادر القانون لا يهمه أكثر من (استيعاب المبادئ الاساسية التي يقوم عليها القانون (1)) وهما في هذه الجنبة يختلفان عن الباحث في علم الاصول في رأي جمهرة الاصوليين، فهو عندما يبحث  المصادر لا يبحثها إلا لتكون مستندا له في استنباط الاحكام، فهو لا يفترض آراء مسبقة في الفقه يريد أن يتعرف على أصولها شأن الباحث المقارن، أو الباحث في أصول القانون، وانما يريد أن  يتعرف على أحكامه من هذه الاصول. ويفترق أصول الفقه المقارن عن أصول القوانين في اهتمامه بالجانب التقييمي بالتماس الادلة والحجج، ومحاولة عرض الاصول عليها، والتنبيه على أقربها  للحجية، بينما لا يهم الباحث في أصول القوانين شئ من ذلك، ويفترقان بعد ذلك في طبيعة المصادر وسعة الجوانب التفسيرية في أصول الفقه عنها في أصول القوانين، فهما وان اشتركا في بحث  بعض مباحث الالفاظ كبعض المفاهيم وبعض مباحث الحجج كالقياس وبحث النسخ والغاء الاحكام السابقة، إلا أن الجنبة الاستيعابية في أصول الفقه أشمل وبخاصة بمفهومه لدى القدماء. والحقيقة  أن علم أصول القوانين، ما يزال بحاجة ماسة إلى يد مطورة تستعين على وظيفتها باقتباس بحوث من أصول الفقه، ليقوم بواجبه من تأسيس قواعد عامة تكون هي المرجع في التماس الوظيفة، أو  الحكم عند تعذر وفاء النصوص بالحاجة إما لغموض أو تضارب أو عدم تعرض للحكم، أو غيرها من موجبات التوقف عن الاخذ بالقانون، ليقطعوا بذلك السبيل على تحكم القضاة واجتهاداتهم التي  لا ترتكز على أساس. والخلاصة: ان علم أصول الفقه المقارن، يلتقي باصول القوانين في
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين ص 40. (*)
------------------------------------------------------------------
ناحيته التاريخية، وان اختلف عنه من حيث سعة بحوثه وتنوعها واخضاعها للجانب التقييمي، سواء ما يتصل منها بتشخيص الصغريات وهو - ما ذكر استطرادا في علم الاصول - أم ما يتصل  منها بتأسيس القواعد الكبروية لقياس الاستنباط.
------------------------------------------------------------------
بحوث تمهيدية (4) مباحث الحكم أضواء على تعريف الاصول، تعريف الحكم وتقسيمه، الحكم التكليفي وأقسامه عند غير الاحناف، تقسيمات الوجوب، المندوب وأقسامه، الحرمة وأقسامها،  الكراهة، الاباحة، شبهة الكعبي في انكار المباح وجوابها، تقسيم الاحناف للحكم التكليفي، الحكم الوضعي وأقسامه، الوجود من حيث التأصل والانتزاع، الاحكام الوضعية بين الجعل والانتزاع،  الصحة والفساد، الرخصة والعزيمة، تقسيم الحكم إلى واقعي أولي وثانوي، تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري، انكار الحكم الظاهري، الفرق بين الحكم والوظيفة، انكار الحكم الشرعي ومناقشته.
------------------------------------------------------------------
أضواء على تعريف الاصول: ومن الحق ان نذكر ان تعريفنا السابق لاصول الفقه المقارن قد امتد في جذوره إلى مدرسة النجف الحديثة في علم الاصول فاقتبس منها تعميمه في التعريف إلى ما  يشمل الحكم والوظيفة معا خلافا لما وقع على ألسن الاصوليين من القدامى والمحدثين في غير مدرسة النجف من الخلط بين مفهوميهما وطبيعة مصاديقهما. وهذا ما يدعونا إلى ان نفيض في  الحديث حول تعريف كل منهما وتحديد أقسامه، وذكر الفروق بينهما مع كل ما يلابس هذا الموضوع. وأظن أن موضع الحديث في ذلك كله هو ما تقتضيه طبيعة التمهيد خلافا لبعض أساتذتنا الذين  عرضوا لذكره في بحوث الاستصحاب أو غيرها في الاصول مع أنها أقرب إلى مبادئ علم الاصول منها إلى الدخول في صميم بحوثه لبداهة أنها ليست من عوارض ما اعتبروه موضوعا لعلم  الاصول. تعريف الحكم: للفظ الحكم اطلاقان يقابل أحدهما معنى الوظيفة، وسيأتي الحديث عنه، وفي الثاني يعمهما معا وهو موضع حديثنا الآن. وقد ذكروا له تعريفات لعل أنسبها بمدلوله هو: ( الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقا مباشرا أو غير مباشر). وانما فضلنا كلمة (اعتبار) على ما جاء في تعريفه من أنه (خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين (1)) كما نقل ذلك الآمدي  عن بعض الاصوليين أو أنه (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين ج / 1 ص 55، والاحكام ج / 1 ص 49. (*)
------------------------------------------------------------------
أو التخيير أو الوضع (1) وهو الذي حكاه صاحب سلم الوصول عن الاصوليين، لان كلمة خطاب لا تشمل الحكم في مرحلة الجعل وانما تختص بمراحله المتأخرة من التبليغ والوصول والفعلية  لوضوح أنها هي التي تحتاج إلى الخطاب لاداء جعل الشارع واعتباره، فتعميمها إلى جميع مراحله أقرب إلى فنية التعريف من وجهة منطقية. وكلمة الاعتبار تغنينا عن استعراض ما أورد أو  يورد من الاشكال على التعريفين السابقين من عدم الاطراد والانعكاس فيهما لعدم شمولهما لقسم من الاحكام الوضعية التي لم يتعلق بها خطاب من الشارع، وانما انتزعت مما ورد فيه الخطاب  من الاحكام التكليفية كالجزئية، والشرطية، والسببية، وشمولها لما ورد فيه خطاب يتعلق بأفعال العباد وليس بحكم كقوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون (2)) وهذا الاشكال انما يرد على خصوص  التعريف الاول لتقييد الخطاب في التعريف الثاني بخصوص الاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وانما عممنا في التعريف إلى التعلق المباشر وغير المباشر بأفعال العباد لنعمم لفظ الحكم إلى جميع ما  كان فيه اعتبار شرعي، وان لم يتعلق بالافعال ابتداء، وانما تعلق بها باعتبار ما يستتبعها من الاحكام التكليفية، سواء تعلق بها مباشرة أم بواسطة منشأ انتزاعها كما هو الشأن في الاحكام الوضعية  المنتزعة. وقد ذكروا للفظ الحكم - بهذا المعنى - تقسيمات متعددة نستعرضها جميعا نظرا لاهمية الحديث فيها ولكثرة ثمراته العلمية المترتبة عليها وبخاصة في مجالات الابانة والتحديد.
(1) المصدر السابق نفس الصفحة، وسلم الوصول ص 29. (2) الصافات 96. (*)
------------------------------------------------------------------
وأول هذه التقسيمات تقسيمه إلى: الحكم التكليفي والحكم الوضعي. 1 - الحكم التكليفي: وأرادوا به (خطاب الشارع المقتضي طلب الفعل من المكلف أو الكف عن الفعل - الترك - أو التخيير بين  فعل الشئ وتركه على حد سواء (1)) وفي هذا التعريف عدة مجالات للتأمل. وأولها: في أخذ لفظة الخطاب في تكليف الشارع، وقد سبق الحديث في نظيره عند تعريفنا لكلمة الحكم. ثانيها:  اعتباره خطاب الشارع من نوع الطلب مع ان مدلوله لا يتجاوز البعث أو الزجر، كما حققه أعلامنا المتأخرون. ثالثها: تفسير الكف عن الفعل بالترك مع انهما مفهومان متغايران، فالكف من  مقولة الافعال لما فيه من صد النفس عن الاتيان بالفعل ومنعها عنه، والترك لا يزيد على عدم الاتيان بالفعل سواء كان عن صد للنفس أم عدم رغبة منها أم غير ذلك من أسباب التروك. رابعها:  اعتبار الاباحة (التخيير) قسما من الحكم التكليفي وهو وان كان قد ورد على السنة اكثرهم إلا ان ذلك لا يعرف له وجه لمجافاته لطبيعة التعبير بالتكليف، لان التكليف ما كان فيه كلفة على العباد  والاباحة لا كلفة فيها فلا وجه لعدها من أقسامه، ولعل الانسب في ذلك اتباع الآمدي فيما سلكه من تقسيم الحكم الشرعي إلى (ثلاثة أنواع: حكم اقتضائي وهو الذي أرى أنه يرادف كلمة تكليفي  وينبغي قصر كلمة تكليفي عليه، وحكم تخييري وهو الخاص بالمباح،... والثالث الحكم الوضعي (2)) اللهم الا ان يكون ذلك مجرد اصطلاح منهم، وليس لنا ان
(1) سلم الوصول، ص 32. (2) مباحث الحكم عن الاصوليين، ج / 1 ص 58 نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
نؤاخذهم فيه، وإذا أردنا ان نجاريهم في ذلك فالانسب ان نعرف الحكم التكليفي بما عرفه به بعضهم من أنه (الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء والتخيير (1) لخلوه عن الاشكالات  السابقة عدا أخذ التخيير فيه. اقسام الحكم التكليفي: قسم غير الاحناف الاحكام التكليفية إلى خمسة أقسام: القسم الاول: الوجوب، ويراد به الالزام بالفعل، فيكون معنى الواجب بالطبع (الفعل الذي  فرضه الله على العباد ولم يرخص لهم في تركه) أو (الفعل الذي ألزم الشارع بالاتيان به)، على اختلاف في التعبير في مقام تحديده. وهو - أعني الوجوب - انما يستفاد في مقام الاثبات من كل ما  يدل عليه بالوضع أو بالقرينة كمادة الوجوب بأية صيغة كانت أو ما يرادفها من الالفاظ، وكبعض الجمل الاسمية التي تقوم معها قرينة على ارادته، والصيغ التي تؤدي إليه هي صيغة افعل وما في  معناها وقد اختلفوا في أن دلالتها بالوضع كما هو مدعى من يستدل عليها بالتبادر، وعدم صحة السلب أو بدليل العقل بادعاء انها لا تدل على اكثر من الباعثية نحو الفعل، والعقل يلزم بالانبعاث  عن بعث المولى ما لم يأت المرخص من قبله والذي عليه محققو المتأخرين من علماء الاصول هو الثاني، ولا يهمنا تحقيقه الآن ما دام الجميع يؤمنون بدلالة الصيغة على الوجوب مهما كانت  أسباب هذه الدلالة وبواعثها. وقد قسموا الوجوب إلى أقسام انطوت عليها تقسيمات متعددة:
(1) مصباح الاصول ص 78. (*)
------------------------------------------------------------------
أ - منها تقسيمه إلى العيني والكفائي. الوجوب العيني: وهو الذي يتعلق بجميع المكلفين ولا يسقط عنهم بامتثال البعض، بل لا بد لكل منهم من امتثال مستقل، ومثاله في الشريعة: الصوم والصلاة.  الوجوب الكفائي: ويراد به الوجوب الذي يتعلق بجميع المكلفين، ويسقط عنهم بامتثال البعض، وعند ترك الجميع يعاقب الجميع، كتغسيل الميت ودفنه والصلاة عليه. ب - تقسيمه إلى التعييني  والتخييري. الوجوب التعييني: ويراد به الوجوب الذي يتعلق بفعل بعينه، ولا يرخص في تركه إلى بدل الوجوب التخييري: وهو الوجوب الذي يتعلق بأحد الشيئين أو الاشياء على البدل على خلاف  في تعلقه بالفرد المردد أو القدر الجامع أو في كل منهما مع سقوطه بفعل الآخر (1)، ومثاله وجوب خصال كفارة الافطار العمدي على غير المحرم. ج - تقسيمه إلى الموقت وغير الموقت.  الوجوب الموقت: وهو ما كان الوقت دخيلا في مصلحته، وله قسمان:
(1) حقائق الاصول ج 1 ص 332، (إقرأ تحقيقه في ذلك). (*)
------------------------------------------------------------------
1 - المضيق، وهو ما يكون الزمان المأخوذ فيه بقدر ما يقتضيه من امتثال، كصوم رمضان. 2 الموسع، وهو ما كان زمانه أوسع مما يقتضيه امتثاله، كالصلوات اليومية. الوجوب غير الموقت:  وهو الذي لا يكون الزمان دخيلا في مصلحته، وتكون نسبته إلى جميع الازمنة نسبة واحدة، كوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. د - تقسيمه إلى المطلق والمشروط. الوجوب المطلق:  ويراد به الوجوب الذي ينسب إلى شئ ما، فلا يكون له مدخلية في أصل ملاكه، ومثاله وجوب الصلاة بالنسبة إلى الاستطاعة المالية حيث لم يقيد الشارع بها حكمه وجودا أو عدما. وينقسم بلحاظ  متعلقه إلى قسمين: منجز ومعلق. 1 - المنجز: وهو ما كان مخلى عن القيد الزماني وجوبا وواجبا، ومثاله الصلاة بعد دخول وقتها. 2 - المعلق: وهو ما كان وجوبه فعليا غير مقيد بالزمان  وواجبه استقباليا، ومثاله الصلاة قبل دخول وقتها بناء على ان وقت الظهر قيد للواجب لا لاصل وجوب صلاة الظهر، وهذا التقسيم مما تفرد به صاحب الفصول، وتبعه بعض المتأخرين، ولهم  حول إمكان الواجب المعلق وعدمه حديث طويل لا يهم عرضه.
------------------------------------------------------------------
الوجوب المقيد: وهو ما قيد بما ينسب إليه من الاشياء لدخوله في أصل ملاكه كالاستطاعة بالنسبة للحج، ويسمى أيضا (الواجب المشروط). ومن هنا يعلم ان الوجوب المطلق والمقيد نسبيان، فقد  يكون الوجوب بالنسبة إلى شئ مطلقا وبالنسبة إلى آخر مقيدا ه‍ - تقسيمه إلى التعبدي والتوصلي. 1 - الوجوب التعبدي: وهو ما توقف تحقق ملاكه على الاتيان به بقصد القربة، وأمثلته كل ما  انتظم في قسم العبادات من كتب الفقه، كالصوم والصلاة والحج وغيرها. الوجوب التوصلي: وهو ما لم يتوقف تحقق ملاكه على الاتيان به قربيا، كدفن الميت، وتطهير الثوب، والصناعات  والحرف التي يتوقف عليها النظام الاجتماعي. و - تقسيمه إلى المحدد وغير المحدد. الوجوب المحدد: ويراد به ما كان متعلقه محددا بأن (عين له الشارع مقدارا معلوما لا تبرأ الذمة إلا بأدائه  بمقداره الذي حدده الشارع وعينه، كالصلوات الخمس، وزكوة الاموال، وصوم رمضان (1)). الوجوب غير المحدد: وهو ما لم يحدد الشارع متعلقه وقد مثل له الشاطبي بالعدل، والاحسان،
(1) مباحث الحكم، ج / 1 ص 81. (*)
------------------------------------------------------------------
والوفاء، ومواساة ذوي القربى، والمساكين، والفقراء، والاقتصاد في الانفاق (1)، وغيرها، وهي تختلف باختلاف الحاجات والاحوال والازمان. ز - تقسيمه إلى الوجوب النفسي والغيري.  الوجوب النفسي: وهو (ما كان واجبا لنفسه لا لواجب آخر (2)) ومثاله وجوب الصلاة وغيرها. الوجوب الغيري: وهو (ما وجب لواجب آخر (3)) كالوضوء بالنسبة للصلاة، وقد اختلفوا في  وجود الواجب الغيري والتحقيق عدم الضرورة بالتزام وجوبه الشرعي، وستأتي الاشارة إلى ذلك في مبحث (سد الذرائع وفتحها). وهناك تقسيمات أخر لا نرى ضرورة الاشارة إليها لعدم  أهميتها. وهذه التقسيمات تكاد تكون موجودة في جل كتب الاصوليين المعنية ببحث أمثالها، عدا ما نص على التفرد فيه من قبل بعض الاعلام وهي متحدة المفهوم وان اختلفت تحديداتهم لها لضيق  في الاداء، وبما أن الدخول في تفصيلاتها غير ذي جدوى لنا فقد آثرت الاشارة إليها بمقدار ما تدعو إليه الحاجة من ايضاح المصطلحات. القسم الثاني: المندوب. ويراد به ما دعا الشارع إلى فعل  متعلقه ولم يلزم به، ويدل عليه
(1) مباحث الحكم، ج 1 ص 81. (2) أصول الفقه للمظفر ج / 2 ص 54. (3) أصول الفقه للمظفر ج 2 ص 54. (*)
------------------------------------------------------------------
لفظة الندب ومرادفاتها والصيغ الدالة على الوجوب مع اقترانها بما يوجب الترخيص ولو كان من طريق الجمع بين الادلة، وقد ذكروا له اقساما لا ترجع إلى محصل، وأهمها ثلاثة: 1 - ما يكون  فعله مكملا للواجبات الدينية، كالاذان بالنسبة للصلاة، وهذا النوع لا يوجب تركه العقاب ولكن يوجب اللوم والعتاب وربما سمى في السنة بعض الاصوليين بالاستحباب المؤكد 2 - ما لا يكون  كذلك وفعله النبي (صلى الله عليه وآله) تارة وتركه أخرى، كالتصدق على الفقراء والمساكين. 3 - ما كان استحبابه بالعنوان الثانوي، أي بعنوان الاقتداء بالرسول، كالتأسي بالنبي (صلى الله  عليه وآله) في طريقة أكله أو نومه أو جلوسه مما لم يثبت استحبابه بالذات القسم الثالث: الحرمة. ويراد بها إلزام المكلف بترك شئ، فيكون معنى الفعل المحرم - بالطبع - هو ما ألزم الشارع  بتركه ولم يرخص فيه، ويؤدى عادة بمادة الحرمة وما يرادفها بأي صيغة وجدت، والصيغ التي تؤديه صيغة (لا تفعل) على خلاف فيها من حيث كونها موضوعة للحرمة كما هو مقتضى دعوى  من يدعي تبادر الحرمة منها، أو ان الحرمة مستفادة بحكم العقل، وهي لا تدل على أكثر من الردع، إلا ان العقل يلزم بالارتداع عن ردع المولى ما لم يأت المرخص من قبله قضاء لحق  المولولية. وقد قسموها بلحاظ متعلقها إلى قسمين: 1 - ما تكون حرمته ذاتية، كالزنى والسرقة والقتل بغير الحق وبيع الميتة (وهذا النوع من المحرم يكون باطلا ولا يترتب عليه حكم
------------------------------------------------------------------
إذ لا يصلح سببا شرعا ليترتب عليه أحكام، لان التحريم لذات الفعل يوجد خللا في أصل السبب أو في وصفه بفقد ركن أو شرط، فلا يثبت بالزنى نسب (1)) ولا بالسرقة أو بيع الميتة ملك  وهكذا، وفي هذا القسم خلط بين نوعين من المحرمات، نوع لم يجعل متعلقه سببا شرعيا أصلا ليقال بامكان ترتب آثاره عليه، كالزنى والسرقة والقتل بغير الحق، ونوع جعل فيه ذلك كبيع الميتة،  ومثل هذا القسم ان كان النهي فيه بداعي الارشاد إلى المانعية أو فقد الشرط، لم يترتب مسببه عليه، وان كان للكشف فقط عن المبغوضية (فالمعروف أنه لا يدل على فساد المعاملة إذ لم تثبت  المنافاة لا عقلا ولا عرفا بين مبغوضية العقد والتسبيب به وبين امضاء الشارع له بعد ان كان العقد مستوفيا لجميع الشروط المعتبرة فيه، بل ثبت خلافها كحرمة الظهار التي لم تناف ترتب الاثر  عليه من الفراق (2)) وقد حررت هذه المسألة في كتب الشيعة في باب النهي عن المعاملة يقتضي الفساد. 2 - ما تكون حرمته لعارض أجنبي عن ذاتها (أي ان حكم العقل في الاصل الوجوب  أو الندب أو الاباحة، ولكنه اقترن بأمر خارجي جعله محرما، وذلك مثل الصلاة في أرض مغصوبة، والبيع يوم الجمعة وقت الاذان، وهذا النوع من المحرم يصلح سببا شرعيا، فتترتب عليه اثاره  لان التحريم لامر خارج عن الفعل عارض له وليس لذات الفعل، فلا يوجب خللا في أصل السبب ما دامت أركان الفعل وشروطه الشرعية مستوفاة، فالصلاة في أرض مغصوبة صحيحة مجزئة  ما دامت مستكملة لاركانها وشروطها الشرعية، ولكن المصلي آثم لانه صلى في أرض مغصوبة (3))
(1) سلم الوصول ص 54. (2) أصول الفقه للمظفر، ج 2 ص 145. (3) سلم الوصول ص 54. (*)
------------------------------------------------------------------
وهذه المسألة محررة أيضا في باب استغرق بحثه عشرات الصحف على يد أساتذة مدرسة النجف الحديثة، ويدعى الباب ب‍ (باب اجتماع الامر والنهي) واستعراض كل ما جاء فيه يخرجنا عن  طبيعة التمهيد. والمسألة قد تفرض مع الاضطرار تارة وعدمه أخرى، وفي صورة وجود المندوحة من الصلاة في الدار المغصوبة وعدمه، والاجتماع قد يفرض اجتماعا مورديا وأخرى موحدا،  ولكل منها حساب فليراجع في كل من حقائق الاصول (1)، وأجود التقديرات (2)، وأصول الفقه (3)، وغيرها. القسم الرابع: الكراهة. وهي ردع الشارع للمكلف عن الاتيان بشئ مع ترخيصه  بفعله، فالمكروه على هذا، هو الفعل المردوع عن الاتيان به مع الترخيص، ويسمى (بالنهي التنزيهي)، ويدل عليه من الصيغ ما يدل على الحرمة مع قرينة الترخيص. القسم الخامس: الاباحة.  ويراد بها تخيير الشارع المكلفين بين اتيان فعل وتركه دون ترجيح من قبله لاحدهما على الآخر، وليس لها صيغ محدودة بل تؤدى بكل ما يعبر عنها من الصيغ والمواد. وقد اختلفوا في وجود  المباح، فالذي عليه جمهرة المسلمين انه موجود، وخالف فيه الكعبي من المعتزلة واتباعه حيث ادعى نفي المباح
(1) للامام الحكيم ج 1 من ص 349 إلى ص 402. (2) لآية الله الخوئي في بحث اجتماع الامر والنهي. (3) للحجة المظفر ج 2 من ص 105 إلى ص 136. (*)
------------------------------------------------------------------
بل نفي الاحكام غير الالزامية على الاطلاق، بتقريب: (انه ما من فعل يوصف بكونه مباحا إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما، وترك الحرام واجب، ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده،  وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لما سبق (1)) وقد اعتبر الآمدي هذه المسألة في غاية الاشكال، وترجى ان يكون عند غيره حلها (2). والجواب ان تمامية رأيه موقوفة على تمامية مقدمات:  أولاها: ان النهي عن الشئ يقتضي الامر بضده العام. ثانيها: ان الضد العام موقوف وجوده على الاتيان بأحد الاضداد الخاصة فهو مقدمة له. ثالثها: الالتزام بالوجوب المقدمي تبعا لوجوب ذي  المقدمة. والجواب عن هذه المقدمات متوقف على ادراك مناشئ التكاليف، فالذي عليه المسلمون ان الاوامر والنواهي وليدتا مصالح ومفاسد، في المتعلقات فالامر لا يكون إلا إذا كانت هناك  مصلحة باعثة على الاتيان به، والنهي لا يكون إلا مع وجود مفسدة فيه باعثة على الردع عنه، وان المصلحة والمفسدة من قبيل الضدين الذين لهما ثالث وهو ما لا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة،  وعليه يتفرع الخطاب الشرعي الذي يفيد الاباحة، فإذا صح هذا، فالقول بأن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده أو ان النهي عن الشئ يقتضي الامر بضده أمر لا ملزم له لجواز ان يكون في  النهي عن الشئ مفسدة وليس في تركه مصلحة ملزمة ليؤمر به، فالنهي اذن عن الشئ لا يستلزم الامر بضده، ولنفس السبب نقول: ان الامر بالشئ لا يستلزم الامر بمقدمته، وعلى هذا الاساس  انكرنا وجوب المقدمة إذ لا ضرورة للقول به، والقول بأن المتلازمين تلازم العلة والمعلول أو
(1) الاحكام ج 1 ص 64. (2) الاحكام ج 1 ص 64. (*)
------------------------------------------------------------------
غيره يجب ان يأخذا حكما متماثلا لا مستند له، لان طبيعة التلازم لا تستدعي أكثر من امتناع جعل الحكمين المتدافعين بأن يكون أحدهما واجبا والآخر محرما لامتناع امتثالهما معا لفرض التلازم،  أما ان يكون أحدهما واجبا والآخر مستحبا أو مباحا فلا محذور فيه، ولزوم الاتيان به تبعا لملازمه لزوم عقلي محض لا يستدعي جعل أمر مولوي. والسر فيه ما قلنا من ان تكاليف الشارع انما  هي وليدة مصالح ومفاسد، ولا يلزم ان يكون المتلازمان متشابهين في مصالحهما ليتماثلا في الحكم، على ان ترك الضد ليس مقدمة لوجود الضد الآخر لكونه في رتبته، وتوقف أحدهما على الآخر  يستدعي تقدم الموقوف عليه على الموقوف رتبة، فلو قلنا بوجوب المقدمة تبعا لذيها، فإنا لا نقول به هنا لعدم المقدمية بين فعل الشئ وترك ضده، نعم هما - أعني الضدين - متمانعان في الوجود.  وخلاصة الجواب أولا: انكار دعوى ان النهي عن الشئ يقتضي الامر بضده لجواز ان لا تكون في الضد مصلحة تستدعي مثل ذلك الامر، وثانيا: إنكار ان يكون فعل الضد الخاص مقدمة لترك  ضده المحرم لعدم المقدمية بين المتحدين رتبة وما دام احد الضدين في رتبة الآخر، وكل ضد هو في رتبة عدمه، فلا بد ان ينتج ان كل ضد هو في رتبة عدم ضده، وطبيعة المقدمية تستدعي تقدما  في الرتبة على ذيها تقدم العلة على المعلول فمع عدم المقدمية تنتفي شبهة وجوب المقدمة المباحة من أصلها، وثالثا: إنكار وجوب المقدمية لو سلمت لنفس السبب الذي ذكرناه من عدم وجود  المصلحة الملزمة في المباح. وإذا كان الغرض من الوجوب المقدمي هو جعل الداعي في نفس المكلف لامتثال ذي المقدمة، فإن أمر ذي المقدمة كاف في جعل الداعي
------------------------------------------------------------------
لامتثاله إن كان المكلف في مقام إطاعة أوامر مولاه، وإن لم يكن في مقام الاطاعة فالامر بالمقدمة لا يضيف إليه شيئا أصلا، فالشبهة الكعبية اذن شبهة لا تستند على أساس متين. رأي الاحناف  في تقسيم الاحكام التكليفية: ذكرنا رأي المسلمين ما عدا الاحناف في تقسيم الحكم التكليفي، أما الاحناف فقد قسموها إلى ثمانية أقسام هي: الفرض، الواجب، الحرمة، السنة المؤكدة، السنة غير  المؤكدة، كراهة التحريم، الكراهة التنزيهية، الاباحة، وأرادوا بالفرض الطلب الالزامي الذي قام عليه دليل قطعي، وبالواجب الطلب الالزامي الذي قام عليه دليل ظني، وبالسنة المؤكدة ما واظب  على فعله الرسول من الطلب غير الالزامي، وبالسنة غير المؤكدة ما لم يواظب عليه منها، ووافقوا غيرهم في مفهوم الحرمة. أما كراهة التحريم، فقد أرادوا منها ما كان طلب الترك شديدا، فهو  أقرب إلى الحرمة بخلاف النهي التنزيهي (1)، وفي الاباحة وافقوا الجميع في مفهومها. وهذا - فيما يبدو - تطويل في التقسيم لا طائل تحته، وثمراته التي ذكروها لا تبرره، ولعلنا سنتحدث عنها  في مواضعها من بحوثنا الفقهية، فالانسب الاقتصار على تقسيم جمهور الاصوليين للاحكام التكليفية. الحكم الوضعي: وقد عرف بتعاريف لعل أسدها (الاعتبار الشرعي الذي لا يتضمن الاقتضاء  والتخيير) وقد اختلفوا في عد الاحكام الوضعية، فقيل
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج / 1 ص 63 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
ثلاثة وهي: السببية، والشرطية، والمانعية، وقيل خمسة، بزيادة العلة والعلامة، وقيل تسعة، بزيادة الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة. والحق انه لا موجب لتحديدها بعدد مخصوص، بل  يقتضي شمولها لكل ما انطبق عليه هذا التعريف، على ان انطباق عنوان الحكم الوضعي على بعضها لا يخلو من تأمل لعدم إمكان تصور الجعل والاعتبار بنوعيه بالنسبة لبعضها وإمكان إلحاق  بعض آخر منها بالاحكام التكليفية، وسيتضح الامر فيها بعد عرض خلافهم في نوع الجعل والاعتبار بالنسبة للاحكام الوضعية، وهل هو بالاصالة أو التبع، ولاهمية هذا البحث وما يترتب عليه من  ثمرات فقهية نعرض له بشئ من الحديث. الاحكام الوضعية مجعولة أو منتزعة: اختلف الاصوليون في كون الاحكام الوضعية مجعولة ابتداء أو منتزعة من الاحكام التكليفية، أي مجعولة تبعا لها.  والتحقيق ان حالها مختلف، فبعضها مجعولة وبعضها منتزعة. ولايضاح كلمة (منتزع) ورفع ما وقع من الالتباس لدى بعض الاعلام في مجال التفرقة بين الامور الانتزاعية والامور الاعتبارية  نقول: إن الشئ الثابت المتصف بالوجود على ثلاثة أنواع: 1 - ما يكون وجوده متأصلا في ظرفه المكاني، كالجواهر والاعراض. 2 - ما يكون وجوده متأصلا في عالم الاعتبار بحيث إذا تجرد  عن اعتبار المعتبر لا يبقى له وجود، كالقيمة النقدية للدنانير والدراهم المسكوكة، فإنها لا وجود لها في غير عالم الاعتبار.
------------------------------------------------------------------
3 - ما يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه وليس له وجود وراء ذلك وهذا على قسمين: قسم يقع منشأ انتزاعه في عالم الواقع، ومثاله: الفوقية والتحتية والبنوة والابوة، إذ لا وجود لهذه الامور إلا  بوجود الاب والابن، والفوق والتحت، والثاني يقع منشأ انتزاعه في عالم الاعتبار كالسببية والشرطية المنتزعة من بعض القيود التي أخذها الشارع في تكاليفه وأحكامه، وذلك مثل سببية الدلوك  لصلاة الظهر، والعقد بالنسبة إلى تحقق الملكية به. وعلى هذا فالفارق بين الامور الاعتبارية والامور الانتزاعية فارق جذري، لان الامور الاعتبارية لها تأصل في الوجود في عالمها بخلاف  الامور الانتزاعية إذ لا وجود لها إلا بوجود منشأ انتزاعها، وهي مجعولة في الامور الاعتبارية تبعا لها. والخلاف بعد ذلك واقع في ان الاحكام الوضعية متأصلة في الجعل، أو أنها تابعة للاحكام  التكليفية ومنتزعة منها. والظاهر أن بعضها متأصل بالجعل كالملكية والزوجية، وليست هي منتزعة من الاحكام المترتبة عليها، كحلية التصرف وجواز التمتع بالزوجة - كما ذهب إلى ذلك بعض  الاعلام - لوضوح انها متأخرة في الرتبة عنها تأخر الحكم عن موضوعه، ومن المستحيل انتزاع المتقدم من المتأخر للزوم الخلف أو الدور. وبعضها منتزع منها كالسببية، والشرطية، والعلية (1 )، والمانعية، بالنسبة إلى التكاليف المقيدة بوجود شئ فيها أو في متعلقاتها، فمن تعلقها بوجود الشئ ننتزع السببية أو العلية أو الشرطية على اختلاف في كيفية التعلق، ومن تقييدها بعدمه ننتزع  المانعية له.
(1) سيأتي في باب القياس تحديد المراد من هذه المصطلحات تفصيلا فراجعه. (*)
------------------------------------------------------------------
وإذا صح كونها من الامور المنتزعة، فإن اعتبارها بالطبع يكون تبعا لاعتبار منشأ انتزاعها وليس له وجود مستقل. ولقد أنكر صاحب الكفاية كون الشرطية أو المانعية أو السببية بالنسبة إلى  التكليف قابلة للجعل التشريعي، لكونها مجعولة بالجعل التكويني تبعا لجعل موضوعها. وفيما ذكره (خلط بين الجعل والمجعول، فإن ما ذكره صحيح بالنسبة إلى أسباب الجعل وشروطها من  المصالح، والمفاسد، والارادة، والكراهة، والميل، والشوق، فأنها أمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف مبادئ له، وليست قابلة للجعل التشريعي لكونها من الامور الخارجية التي لا يعقل تعلق  الجعل التشريعي بها بل ربما تكون غير اختيارية كالميل، والشوق، والمصلحة، والمفسدة مثلا وهي خارجة عن محل الكلام، فإن الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى المجعول وهو  التكليف، وقد ذكرنا أنها مجعولة بتبع التكليف، فكلما اعتبر وجوده في الموضوع فننتزع منه السببية والشرطية، وكلما اعتبر عدمه فيه فننتزع منه المانعية (1)) ومن هذا الحديث يتضح أن اعتبار:  الصحة والفساد: من الاحكام الوضعية غير صحيح على اطلاقه، لان الصحة على قسمين: صحة واقعية، ويراد بها مطابقة المأتي به للمأمور به واقعا، ويقابلها الفساد، ومثل هذه الصحة تابعة  لواقعها، والجعل لا يتناول الامور الواقعية، وكذلك الفساد، أما القسم الثاني وهو الصحة الظاهرية،
(1) مصباح الاصول، ص 81. (*)
------------------------------------------------------------------
كالحكم بصحة الصلاة بعد الفراغ منها عند الشك فيها استنادا إلى قاعدة الفراغ فهي التي تكون قابلة للجعل والاعتبار، وكذلك الحكم بالفساد ظاهرا عند الشك في الصلاة الثنائية مثلا. وما يقال عن  الصحة والفساد الواقعيين من إنكار كونهما حكمين وضعيين يقال عن: العزيمة والرخصة: ولكن لا من حيثية واقعيتهما بل من حيث كونهما راجعين إلى الاحكام التكليفية كما يتضح ذلك من  معناهما المحدد لهما عند الاصوليين. فلقد عرف غير واحد العزيمة بما يرجع إلى (ما شرعه الله أصالة من الاحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف (1)) وفي مقابلها  الرخصة وهي (ما شرعه الله من الاحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف (2)). ورجوعهما بهذين التعريفين إلى الاحكام التكليفية من أوضح الامور، فليست العزيمة  إلا الحكم المجعول للشئ بعنوانه الاولي، وليست الرخصة الا جعل الاباحة للشئ بعنوانه الثانوي، وهما لا يخرجان عن تعريف الاحكام التكليفية بحال. وأمثلة العزيمة التي ذكروها هي: ما ألزم به  الشارع من الصوم، والصلاة، والحج، وترك شرب الخمر، وأكل الميتة وهكذا، ومثلوا للرخصة بما أحل لاجل الاضطرار والاكراه، كأكل لحم الميتة، وشرب الخمر، وغيرهما من العناوين  الثانوية. والذي يبدو ان لفظتي: الرخصة والعزيمة، وردتا على لسان النبي (صلى الله عليه وآله)
(1) علم أصول الفقه لخلاف ص 138. (2) علم أصول الفقه لخلاف، ص 138، وقريب منه ما ذكره الآمدي في الاحكام، ج / 1 ص 68 وغيره. (*)
------------------------------------------------------------------
ففي نهاية ابن الاثير (وحديث ابن مسعود أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه (1))، فمن هذا الحديث وتفسيرات الاصوليين والفقهاء لهما بما سبق، لا يتضح منشأ لتفسير  العزيمة (بسقوط الامر بجميع مراتبه أو سقوط التكليف رأسا) وتفسير الرخصة (بسقوطه ببعض مراتبه، كما ورد ذلك في بعض التحديدات (2)، لوضوح أنه لا معنى للتعبير بأنه يجب ان تؤتى  عزائمه) إذا كان معنى العزيمة سقوط الامر بجميع مراتبه لكون (الاتيان به استنادا إلى المولى تشريعا محرما (3)) كما يصرح بذلك المحدد نفسه، اللهم ان يتعدد فيها الاصطلاح باختلاف  المصطلحين من الفقهاء، وتحديد العزيمة والرخصة بهذا المعنى يشبه إلى حد بعيد تقسيمهم للحكم إلى واقع أولي وواقع ثانوي مع اختلاف في بعض الخصوصيات. 1 - الحكم الواقعي الاولي:  ويراد به الحكم المجعول للشئ أولا وبالذات، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليه من العوارض الاخر، كأكثر الاحكام الواقعية تكليفية ووضعية. 2 - الحكم الواقعي الثانوي: وقد أريد به ما يجعل للشئ من  الاحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الاولي، فشرب الماء مثلا مباح بعنوانه الاولي، ولكنه بعنوان انقاذ الحياة يكون واجبا، والصناعات التي يتوقف عليها نظام  الحياة واجبة على نحو الكفاية، ولكنها مع الانحصار بشخص أو
(1) مادة عزم ج / 3 ص 93. (2) مصباح الاصول ص 86 وما بعدها. (3) مصباح الاصول ص 86 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
فئة خاصة، تكون واجبة عينا إن صح أن الوجوبين مختلفان بالسنخ وهكذا. وما اكثر الاحكام الاولية التي يتبدل واقعها لطرو عناوين ثانوية عليها فالواجب ربما تحول إلى حرام، والحرام إلى مباح،  والمباح إلى مستحب وهكذا... ومن هنا تتضح مرونة الاحكام الاسلامية وتمشيها مع الظروف والاحوال، ولذلك حديث خاص سيأتي في موضعه من أدلة القياس، ان شاء الله تعالى. ومن هنا يعلم  ان الحكم الواقعي الثانوي أعم من الرخصة بالمعنى السابق لاختصاصها باباحة الواجب أو الحرام وشمول الواقعي الثانوي إلى تبدل الحكم إلى غيره حسبما تقتضيه البواعث الثانوية من إباحة، أو  حرمة، أو وجوب، أو رفع حكم وضعي وهكذا، كما أن العزيمة مختصة بالاحكام الالزامية الاولية حسبما توحي به لفظتها (العزيمة) من الالزام وان وسعوا في تعريفها (إلى كل ما شرعه الله  أصالة). تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري: ولهم في كل من الكلمتين - الحكم الواقعي، الحكم الظاهري - اصطلاحان، يراد من الحكم الواقعي في الاول منهما: الحكم المجعول من قبل الشارع  للشئ بعنوانه الاولي أو الثانوي، والمدلول عليه بالادلة القطعية أو الادلة الاجتهادية كالامارات والطرق الظنية التي قام على اعتبارها دليل قطعي، ويقابله الحكم الظاهري، أي الحكم المستفاد من  الادلة (الفقاهتية) المأخوذ في موضوعها الشك، كالحكم المأخوذ من الاستصحاب أو البراءة أو غيرهما، ويراد من الحكم الواقعي في الاصطلاح الثاني الحكم المجعول من قبل الشارع والذي دلت  عليه الادلة القطعية، ويقابله الحكم
------------------------------------------------------------------
الظاهري، وهو ما كان مدلولا للادلة غير القطعية امارة كانت أم أصلا. وقد اختلفوا في وجود الحكم الظاهري بالمعنيين معا في مقابل الحكم الواقعي. والذي عليه أكثر الباحثين من الاصوليين  وجود جعلين واقعيين متعلقين بأفعال المكلفين أحدهما في طول الآخر، أطلق على الاول منهما كلمة الحكم الواقعي، وعلى الآخر وهو الذي جعل في حال الشك أو أخذ في موضوعه الشك كلمة  الحكم الظاهري. وقد أوردت عليهم عدة اشكالات ترجع في أسسها إلى امتناع الجمع بينهما للزوم التضاد أو اجتماع المثلين أو التصويب. بتقريب ان ما يسمى بالحكم الظاهري ان فرض مع  وجوده الحكم الواقعي وكان على وفقه لزم اجتماع المثلين، أو كان على خلافه لزم اجتماع الضدين، وان فرض ارتفاع الحكم الواقعي عند قيامه لزم القول بالتصويب وهو ممتنع على مبنى  المخطئة وهم جمهور المسلمين اليوم، وسيأتي تحقيقة. وقد كانت لهم محاولات في دفع هذا الاشكال لا يخلو أكثرها من مؤاخذة (1)، ولعل أبعدها عن المؤاخذات ما ذكره بعض أساتذتنا من أن  الاحكام لما كانت من سنخ الامور الاعتبارية - والاعتبار خفيف المؤنة - فلا مضادة بين اعتبارين ذاتا وانما يقع التضاد بينهما عرضا، أما لتضاد مبادئهما أو لتضاد فيما ينتهيان إليه، أما من حيث  المبادئ فلا تضاد بينهما هنا لما أفاده في الكفاية (من ان الاحكام الظاهرية ناشئة عن مصالح في جعلها، والاحكام الواقعية ناشئة عن المصلحة في متعلقاتها سواء كانت راجعة إلى المكلف -  بالكسر - فيما أمكن ذلك أو إلى المكلف - بالفتح - كما في
(1) تراجع مفصله في كل من رسائل الشيخ الانصاري والكفاية وحقائق الاصول وغيرها في مبحث الظن. (*)
------------------------------------------------------------------
الاحكام الشرعية، فلا يلزم من اجتماعهما وجود المصلحة والمفسدة أو وجود المصلحة أو المفسدة وعدمه في شئ واحد، وهكذا الشوق أو الكراهة، ففي الاحكام الواقعية يكون الشوق أو الكراهة  متعلقا بنفس المتعلق، وفي الاحكام الظاهرية بنفس الجعل كما في إيجاب الاحتياط حفظا للواقع أو جعل البراءة تسهيلا على المكلفين. وأما من ناحية المنتهى، فلانه لا يعقل وصولهما معا إلى  المكلف، إذ عند وصول الحكم الواقعي لا يبقى موضوع للحكم الظاهري، وما لم يصل الحكم الواقعي يكون الواصل هو الحكم الظاهري فقط، فأين وصولهما عرضا ليبقى المكلف متحيرا في مقام  الامتثال (1)) وغير قادر عليه وهذا الجواب متين جدا لو التزمنا بوجود أحكام ظاهرية، اما مع إنكار وجودها من الاصل فلا حاجة إلى محاولة للجمع بينها. وإيضاح الامر ان المجعول في باب  الطرق والامارات ليس هو مدلول ما قامت عليه الامارة، وانما المجعول فيها هو نفس الطريقية والوسطية في الاثبات وهي من الاحكام الوضعية القابلة للجعل بنفسها، والشارع انما جرى في  اعتبارها على وفق ما جرى عليه العقلاء، وأكثر الامارات والطرق مما اعتمدوها وألغوا احتمال المخالفة للواقع بسيرهم على وفقها، وأعطوها وظيفة العلم من حيث الكاشفية عن الواقع، فهم في  الحقيقة انما تمموا كشفها باعتبارهم لها، وجاء الشارع فأقرهم عليها وألزمنا بها من طريق الامضاء، وإذا كان العلم، وهو أتم كشفا للواقع منها، لا يغير في الواقع ولا يبدل فيه بل لا يضيف إليه  حكما جديدا فيما قام عليه إذا وافقه أو أخطأه، فحساب الامارة فيها أوضح، فما قامت عليه الامارة لا يخلق حكما ظاهريا ليفكر في كيفية الجمع بينه وبين الحكم
(1) دراسات، ج 3 ص 74 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
الواقعي، وكل ما هنالك تبني الشارع لكشفها بتتميمه من قبله وهو لا يستدعي اكثر من ثبوت المنجزية والمعذرية كما سبق بيان ذلك. وما يقال عن الامارة يقال عن الاصل الاحرازي، إذ المجعول  فيه أيضا هو الطريقية والوسطية في الاثبات، لكن لا من تمام الجهات كما كان في الامارات، بل من حيث الجري العملي على وفق ما قام عليه الاصل واعتباره واقعا، ولهذا الفارق بينهما حكمت  الامارة عليه كما يأتي إيضاح ذلك. وأما الاصول غير الاحرازية، فهي غير ناظرة إلى جعل حكم أصلا أو اثباته، وانما هي ناظرة إلى رفع الحيرة فقط عند الشك وألسنتها صريحة بذلك (احتط  لدينك)، (الناس في سعة ما لا يعلمون) ولذلك آثرنا تسميتها بالوظيفة تبعا لبعض أعلامنا الاجلاء، ونفي الحكم الظاهري في الاصول العقلية أوضح إذ لا جعل شرعي ليفكر في كيفية الجمع بينه  وبين الحكم الواقعي. وعلى هذا فالحكم الواقعي باق على واقعه أقصاه أن باعثيته موقوفة على وصوله باحدى الطرق السابقة ذاتية أو مجعولة، ومع عدم الوصول والشك فيه يلجأ إلى احدى تلكم  الوظائف لرفع الحيرة والتماس المؤمن. ومن هنا يتضح الفارق بين الحكم والوظيفة، كما يتضح سر تقسيمهم للحكم بمعناه العام اليهما. الفرق بين الحكم والوظيفة الشرعية: فالوظيفة ليس فيها  نظر إلى الواقع أصلا، وجعلها لا يستند إلى مصلحة أو مفسدة في المؤدى، وانما يستند إلى مصلحة في نفس الجعل، وهي مصلحة التيسير أو المحافظة على الحكم الواقعي بخلاف الحكم فانه
------------------------------------------------------------------
تابع للمؤدى، فإن كان فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك، كان الحكم تبعا لذلك إلزاميا، وان كانت المصلحة أو المفسدة غير ملزمة، جعلت الكراهة أو الاستحباب، ومع خلوها عنهما أو تساويهما  جعلت الاباحة. والوظيفة وان التقت أحيانا بالوجوب أو الحرمة كما في قاعدة الاحتياط، أو بالحكم الترخيصي كما في البراءة، إلا أن الفارق بينهما فارق جذري لتوفر الحكم على متابعة الواقع  بخلاف الوظيفة، فما ورد عن بعض الاساتذة من اعتبار البراءة إباحة شرعية لا يعرف له وجه ما دامت الاباحة وليدة خلو الواقع عن المصلحة والمفسدة معا، أو جودهما وتساويهما من حيث  الاهمية، والبراءة الشرعية ليست ناظرة إلى الواقع أصلا، وربما كان فيه مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك، فكيف يقال برجوعها إليها ؟ وعلى هذا فالوظيفة ليست من سنخ الاحكام التكليفية، وانما  هي من سنخ الاحكام الوضعية المجعولة بنفسها من قبل الشارع لغرض التيسير على العباد ورفع الحيرة عنهم. هذا كله في الفرق بين الحكم والوظيفة الشرعية. أما الفرق بينه وبين الوظيفة  العقلية: فأمره أوضح لان الوظيفة العقلية لا تستند على جعل شرعي أصلا ليلتمس الفارق بينها وبين الحكم، وهما مختلفان بالسنخ وبالرتبة. وهذا التعريف للحكم وتقسيماته المختلفة، إنما يتم على  مبنى من يؤمن بوجود جعل شرعي واعتبار يتعلق بأفراد العباد، أما على مبنى من يدعي ان الحكم ليس هو في واقعه (إلا عبارة عن العلم باشتمال الافعال على المصالح والمفاسد من دون ان  يكون في البين جعل يقتضي الارادة
------------------------------------------------------------------
والكراهة (1)) فلا يتجه الحديث في أكثر هذه البحوث، وقد حكي عن بعض احتمال هذا القول بل الالتزام به. وهذا البعض لا نعرفه على التحقيق وهو في رأيه هذا خارج على إجماع المسلمين -  فيما نعلم - فلا يستحق ان يناقش رأيه ويطال فيه الحديث، على أن استاذنا النائني أطال في رده بعد أن اعطى رأيه فيه بقوله: (ولكن احتمال ان يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون  أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط (2)) وربما استظهر من كلام الاستاذ خلاف نسبة نظيره إلى القائلين بالتقبيح والتحسين العقليين (3)، وسيأتي تحقيقه في مبحث ( العقل) وبيان ان هذا الاستظهار لا مستند له لتصريحهم بوجود الحكم، وان الحاكم هو الله تعالى لا غير. بقيت أمور تتصل بمباحث الحكم وتلابسها، إلا أن أكثرها مما يرجع إلى مباحث الفقه،  لذلك آثرنا عدم عرضها في هذا التمهيد لعدم اتصالها المباشر بطبيعته.
(1) فوائد الاصول، ج 4 ص 138. (2) فوائد الاصول، ج 4 ص 138. (3) مصادر التشريع الاسلامي، ص 76. (*)
------------------------------------------------------------------
بحوث تمهيدية (5) منهج البحث منهج الاحناف في تشخيص الاصول، منهج المتكلمين، منهجنا كمقارنين، الهيكل العام للكتاب، ترتيب الاصول حسب رتبتها، الفرق بين التخصيص والتخصص  والحكومة والورود، منهج الدراسة بوجه عام، أبواب الكتاب.
------------------------------------------------------------------
تحديد المنهج: وقبل ان ننهي الحديث في هذه البحوث التمهيدية التي امتدت بنا كثيرا، نود ان نشير إلى المنهج الذي نريد ان نسلكه في دراسة هذه الاصول والقواعد العامة التي عقدت هذه البحوث  لدراستها ليكون القارئ الكريم على هدى في مسايرة فصولها القادمة. وتحديد ذلك المنهج يدعونا إلى: 1 - تشخيص تلكم الاصول واستنباطها من مصادرها. 2 - وضع هيكلها العام في الكتاب من  حيث التبويب وتقديم بعضها على بعض. 3 - طريقة دراستها وتقييمها والاسس التي ترتكز عليها في مجال التقييم. (1) منهجنا في تشخيص الاصول: هناك منهجان لتشخيص الاصول  واستنباطها: منهج الاحناف، ومنهج المتكلمين، ولكل منهما وجهة نظر ألفت على أساسها جملة من كتب الاصول. أما منهج الاحناف فقد ركز على أساس اعتبار الفروع الفقهية لامام المذهب هي  المنطق إلى التماس الضوابط الاصولية العامة، ووظيفتهم أقرب إلى الوظيفة التأريخية منها إلى الوظيفة العقلية التقييمية، وهذا بالنسبة إليهم طبيعي جدا بعد سد أبواب الاجتهاد على أنفسهم، إذ  النظر
------------------------------------------------------------------
في طبيعة الاصول وتقييمها والتماس أمثلها أو التماس أصول جديدة، لم يعد ذي جدوى بالنسبة إليهم ما داموا لا يملكون لانفسهم حق استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها. وكلما يهمهم بعد ذلك ان  يعرفوا ما اعتمده إمام المذهب من الاصول، وخير الوسائل إلى ذلك ان يجعلوا (أحكام الفروع التي نقلت عن أئمتهم مصدرا لهم لاستنباط الاصول التي اتبعوها عند الحكم فيها (1). وقد ألف على  طريقتهم هذه جملة من أعلام الاصوليين - فيما تحدث بعضهم - كالكرخي، والرازي المعروف بالجصاص، والسرخسي، والنسفي، وغيرهم. منهج المتكلمين: ولكن منهج المتكلمين يختلف عن  ذلك المنهج اختلافا كبيرا حيث يقوم (على تجريد قواعد الاصول عن الفقه والميل إلى الاستدلال العقلي ما أمكن فما أيدته العقول والحجج أثبتوه، وإلا فلا دون اعتبار لموافقة ذلك للفروع الفقهية  فهدفهم ضبط القواعد لتكون دعامة للفقه ضابطة للفروع من غير اعتبار مذهبي (2)). وقد ألف على هذه الطريقة - فيما يقال - كل من الآمدي، والغزالي، والجويني، ومحمد بن علي البصري،  وغيرهم كتبهم في الاصول، وجل كتب الشيعة الاصولية قائمة على هذا الاساس. أما نحن - كمقارنين - فان وظيفتنا هي أخذ واعتماد الطريقتين معا. إذ احتياجنا إلى الاولى انما يكون في التماس  وتشخيص هذه الاصول والتعرف عليها من مصادرها لدى الائمة، لان طبيعة المقارنة تستدعي جمع الآراء من مظانها - في الفقه والاصول - والتأكد من نسبتها لاصحابها
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج / 1 ص 50. (2) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج / 1 ص 48. (*)
------------------------------------------------------------------
ثم التماس أدلتها لديهم تمهيدا لفحصها وإعطاء الرأي فيها. واحتياجنا بعد ذلك لطريقة الكلاميين انما كان لتقييم هذه الآراء بتقييم أدلتها والتماس أمثلها إلى الحجية والدليلية. وليس للمقارن ان  يستغني باحدى الطريقتين عن الاخرى من الوجهة المنهجية وإلا لاخل بطبيعة ما يقتضيه بحثه من نهج. (2) الهيكل العام للكتاب: وفي حدود ما ندعيه لانفسنا من استقراء آراء العلماء في مصادر  التشريع وتتبع هذه المصادر عند أئمة المذاهب وكبار مجتهديهم سواء ما يتصل منها في انتاج الحكم الشرعي ام الوظيفة عقلية أو شرعية، فقد رأينا ان ما ينتظم في بحثنا منها لا يتجاوز العشرين  أصلا بعد غربلة واقصاء ما يتمحض لانتاج الحكم الجزئي أو يغلب عليه إنتاجه وان انتج أحيانا الحكم الكلي مما آثرنا بحثه في كتابنا اللاحق عن القواعد الفقهية العامة، انشاء الله. على ان هذه  الاصول يمكن ارجاع بعضها إلى بعض واختصار عددها إلى النصف تقريبا، إلا اننا رأينا ان مجاراة علماء الاصول في بحثها مستقلة والاشارة إلى ما ترجع إليه ايسر على الباحث وأكثر جدوى  له. وعلى كثرة ما كتب الاصوليون في هذه القواعد والاصول، إلا أنهم لم يلاحظوا وضع بعضها في موضعها الطبيعي من بابها الخاص بل خلطوا بينها فأدخلوا بعض ما ينتج الحكم الكلي ضمن  ما ينتج الوظيفة وبالعكس.
------------------------------------------------------------------
والنهج الذي نراه هو ان يبنى الكتاب على أساس ما لهذه الاصول من ترتب في مقام إعمال المجتهد وظيفته في مجال الاستنباط. فالمجتهد - بالطبع - مسؤول في الدرجة الاولى، عن التماس الحكم  الواقعي من أدلته الكاشفة له، فإن أعياه العثور عليه لجئ إلى الواقع التنزيلي لا لتماسه من اصوله وقواعده، فإن أعياه ذلك لجئ إلى التماس الوظيفة الشرعية من أدلتها، فإن لم يعثر عليها التجأ  إلى ما يقرره العقل من وظائفه، فإذا غم عليه مع ذلك كله كان عليه الرجوع إلى القرعة على قول، فمراحل البحث لدى المجتهد إذن خمسة: 1 - مرحلة البحث عن الحكم الواقعي والاصول التي  يرجع إليها أو إلى بعضها الفقهاء حسب استقرائنا لها من كتب الفقه والاصول هي: الكتاب، السنة، الاجماع، دليل العقل، القياس، الاستحسان، المصالح المرسلة، سد الذرائع، العرف، مذهب من  قبلنا، مذهب الصحابي. 2 - مرحلة البحث عن الحكم الواقعي التنزيلي وأهم أصوله: الاستصحاب. أما الاصول التنزيلية الاخرى كأصالة الصحة، وقاعدتي التجاوز والفراغ، فالذي يغلب على  انتاجها الحكم الجزئي، لذلك آثرنا تأجيل الحديث فيها إلى الكتاب اللاحق. 3 - مرحلة البحث عن الوظيفة الشرعية، وأصولها هي: البراءة الشرعية، الاحتياط الشرعي، التخيير الشرعي. 4 -  مرحلة البحث عن الوظيفة العقلية، وأصولها: البراءة العقلية، الاحتياط العقلي، التخيير العقلي. 5 - مرحلة تعقد المشكلة وعدم التمكن من العثور على أدلة الحكم أو الوظيفة باقسامها، والاصول  التي يرجع إليها عادة هي القرعة بعد
------------------------------------------------------------------
تمامية دليلها ودلالتها. وهذا الترتيب في وظائف المجتهد عند إعمال ملكته، هو الترتيب الطبيعي عادة، وقد اقتضته طبيعة أدلة هذه الاصول وتقديم بعضها على بعض. ولايضاح هذا الجانب، وهو  الاساس في بناء الكتاب، فان علينا أن نعرض المقياس في الجمع بين الادلة أو تقديم بعضها على بعض لنعرف السر في ذلك البناء فنقول: إن الجمع بين الادلة أو تقديم بعضها على بعض من  وجهة دلالية قد يكون لامور لعل أهمها أربعة هي: التخصيص، التخصص، الحكومة، الورود. وكلمتا (الحكومة) و (الورود)، مصطلح متأخر جرى على ألسنة بعض أعلام النجف، منذ ما يزيد  على القرن (1) وتداول على ألسنة جميع الاعلام بعد ذلك وبحثوا كل ما يميزهما عن التخصيص والتخصص، وهما المصطلحان اللذان شاع استعمالهما على ألسنة الاصوليين قديما وحديثا. وكان  الباعث لهم على هذا المصطلح الجديد أنهم وجدوا على طريقتي التخصيص والتخصص لم تعودا وافيتين بحاجة الفقيه إلى معرفة الجمع بين الادلة أو تقديم بعضها على بعض، لان بعض الادلة  تقتضي ألسنتها التقديم وهي ليست تخصيصا ولا تخصصا، وليس لدى القدماء ما يوجبه من الاصول التي وضعوها لذلك. وإذا اقتصر التخصيص والتخصص على الادلة اللفظية، فان الحكومة
(1) المعروف أن الشيخ الانصاري المتوفى سنة 1281، هو أول من وضع هذا الاصطلاح وتبنى مفاهيمه، إلا أن استاذنا الشيخ حسين الحلي تتبع هذا الاصطلاح، فوجده في كتاب (الجواهر)  في أكثر من موضع، وصاحب الجواهر (الشيخ محمد حسن) أقدم طبقة منه وان كانت بينهما معاصرة، ولم يسعني تحقيق ذلك لمعرفة واضع هذا المصطلح، والله أعلم بحاله. (*)
------------------------------------------------------------------
والورود يعمان حتى الاصول المنتجة للوظائف على اختلافها. ومن الحق ان نشير إلى هذه المصطلحات بشئ من الايضاح. التخصيص: فالمراد بالتخصيص إخراج من الحكم مع دخول المخرج  موضوعا، ومثاله كل مكلف يجب عليه الصوم في شهر رمضان إلا المسافر، فالمسافر مكلف ولا يجب عليه الصوم. التخصص: أما التخصص فالمراد به الخروج الموضوعي الوجداني، وهو  الذي يسميه النحويون، بالاستثناء المنقطع، ومثاله كل مكلف يجب عليه الصيام إلا الطفل، فان الطفل خارج عن موضوع (المكلف) وجدانا. الحكومة: والمراد بالحكومة ان يكون أحد الدليلين ناظرا  إلى الدليل الآخر، موسعا أو مضيقا له، فمن القسم الاول ما ورد من أن الفقاع خمر استصغره الناس، فالفقاع، وإن لم يكن خمرا بمفهومه اللغوي، إلا ان الشارع بدليله هذا وسع مفهوم الخمر إلى  ما يشمل الفقاع، وأعطاه جميع أحكام الخمر بحكم عموم التنزيل، وأمثال هذا في الادلة كثيرة. ومن القسم الثاني ما ورد في أدلة نفي الضرر كقوله (صلى الله عليه وآله): لا ضرر ولا ضرار،  وسمة هذه الادلة إلى أدلة الاحكام الاولية، سمة المضيق لها إلى ما لا يشمل الاحكام الضررية، ولسان الكثير من أدلة هذا النوع من الحكومة، لسان نفي للموضوع تعبدا، ونفي الموضوع يستدعي  نفي
------------------------------------------------------------------
الحكم إذ لا حكم بلا موضوع. ومن مزايا الادلة الحاكمة ان النسبة لا تلحظ بينها وبين الادلة المحكومة، كما هو الشأن في الادلة المخصصة، فليس من الضروري ان يكون الدليل الحاكم أخص من  الدليل المحكوم لنلتزم بتقديمه عليه، بل يكفي ان يكون شارحا ومبينا له ليقدم عليه، وان كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه. وسر الفرق بينهما أن التقديم في التخصيص إنما كان لاجل أن  ظهور الخاص في مصاديقه أقوى من ظهور العام في مصاديق الخاص، أو ان الخاص نص فيها والعام ظاهر، والنص والاظهر يقدمان على الظاهر عادة، أو ان الخاص بمنزلة القرينة على  المراد الجدي والظهور لا يتجاوز الكشف عن المراد الاستعمالي للآمر، ومن عدم القرينة على تغاير المراد الاستعمالي للمراد الجدي نستفيد تطابقهما، فإذا جاءت القرينة على المغايرة لم يبق  مجال للاستدلال - بما يكشف عن المراد الاستعمالي - على المراد الجدي، على اختلاف في فلسفة التقديم. ولكن ذلك لا يتأتى في العامين من وجه لان نسبة كل منهما إلى موضع الالتقاء من حيث  الظهور نسبة واحدة، فلا يصلح ان يكون أحدهما قرينة على التخصيص بالنسبة إلى الآخر، ومن هنا التزمنا بالتساقط في العامين من وجه عند تعارضهما في موضع الالتقاء. ولكن لسان الحكومة  لما كان لسان شرح وبيان للمراد من الادلة الاولية، كان قرينة على كل حال فلا بد ان ينزل ذو القرينة عليها عرفا، ومن هنا لم يلحظ العلماء النسبة في أدلة العناوين الثانوية مع العناوين الاولية ولا  أدلة الرخصة مع العزيمة، فيعارضون بينها مع ان النسبة بينهما، في الغالب، هي نسبة العموم من وجه، فأدلة نفي الاكراه أو الاضطرار
------------------------------------------------------------------
عندما تنسب إلى أي حكم تكون نسبته إليها نسبة العموم من وجه، خذوا على ذلك مثلا نسبتها إلى حرمة أكل لحم الميتة، فان أدلة حرمة الاكل تقول: يحرم أكل الميتة على المضطر وغيره، وأدلة  نفي الاضطرار، تقول: ان الحكم المضطر إليه مرتفع كان أكل الميتة أو غيره، وموضع الالتقاء الميتة المضطر إلى أكلها وهكذا، والسر هو ما قلناه من تقديم العرف لهذا النوع من الادلة بعد ان  كان لسانه لسان بيان وشرح للمراد من الادلة الاولية. الورود: أما الورود، فالمراد به الدليل النافي للموضوع وجدانا، ولكن بتوسط تعبد شرعي، ومثاله ما ورد عن الشارع من قوله رفع عن أمتي  ما لا يعلمون ولسانه لسان المؤمن للعبد فيما لو ترك التكليف المشكوك ولم يأت به مع عجزه عن الوصول إليه بالادلة الاجتهادية، المنجزة له، فلو ترك استنادا إلى هذا الحديث فانه لا يحتمل  الضرر، فالقاعدة العقلية القائلة بوجوب دفع الضرر المحتمل لا يبقى لها موضوع إذ لا احتمال للضرر مع وجود المؤمن الشرعي. فسمة حديث الرفع إلى هذه القاعدة سمة الوارد عليها، المزيل  لموضوعها وجدانا، ولكن بواسطة التعبد الشرعي. والفارق بينه وبين التخصص: ان التخصص خروج موضوعي وجداني، ولكن لا بتوسط تعبد من الشارع، والورود: خروج موضوعي وجداني،  ولكن بواسطة تعبد الشارع، فلو لم يأت حديث الرفع كان احتمال الضرر موجودا، وكان حكمه العقلي بلزوم دفعه قائما أيضا، ولكن التعبد الشرعي ازال الاحتمال وجدانا فأزيل معه حكمه تبعا  لذلك، كما أن الفارق بينه
------------------------------------------------------------------
وبين الحكومة واضح، فالحكومة وإن كان لسان بعضها لسان نفي الموضوع، إلا أن نفيها له نفي تعبدي لا وجداني، فقول الشارع: لا ضرر ولا ضرار وان كان فيه نفي للموضوع تعبدا، إلا أن  نفيه التعبدي لم يؤثر على بقائه الوجداني، فالضرر الخارجي قائم وإن نفاه الشارع لنفي آثاره الشرعية بخلاف الورود، فإن قيام المؤمن الشرعي ينفي احتمال الضرر وجدانا، ولعل لنا تفصيلا  أوسع في كيفية الجمع بين الادلة على اختلافها يأتي في مبحث الاستحسان. وفي حدود ما عرضناه هنا كفاية لايضاح وجهة نظرنا في منهجة البحث وبيان السر في تقديم هذه البحوث بعضها على  بعض. (3) وإذا تم هذا، عدنا إلى أدلة اعتبار هذه المراحل التي لا بد وان يتوفر عليها المجتهد لنرى أن أدلة الطرق والامارات بعد ما كان لسانها لسان كشف عن الواقع واثبات له، وان الشارع  أمضى طريقيتها كما سبق، فمع قيامها لا مجال للرجوع إلى أدلة الواقع التنزيلي كالاستصحاب، فالاستصحاب مثلا، لا يريد منك اكثر من اعتبار مشكوكك متيقنا، ومع فرض كونك متيقنا - ولو  بواسطة التعبد الشرعي - لا شك لديك - تعبدا - لتحكم باعتبارك متيقنا، فأدلة الطرق والامارات حاكمة على أدلة الاستصحاب ومزيلة لموضوعه. وأدلة الاستصحاب هي الاخرى لا تبقي مجالا  لالتماس الوظيفة الشرعية، لان الوظيفة الشرعية إنما يلجأ إليها، إذا اختفى الواقع بجميع مراتبه،
------------------------------------------------------------------
حتى التنزيلية منها، ومع قيام الواقع التنزيلي - بإدلة الاستصحاب - لا مجال لمثل حديث الرفع المأخوذ فيه عدم العلم (رفع عن أمتي ما لا يعلمون، لحكومتها عليه بإزالتها لعدم العلم تعبدا، وهو  الذي أخذ في موضوعها - أي البراءة - بمقتضى هذا الدليل، وهكذا بالنسبة إلى الاحتياط والتخيير. ومع قيام أدلة الوظيفة الشرعية، لا مجال للوظيفة العقلية لورودها عليها بإزالتها لموضوعها  وجدانا. فالوظيفة العقلية مأخوذ في موضوعها عدم البيان الشرعي، كما هو مقتضى القاعدة القائلة بقبح العقاب بلا بيان، أو احتمال الضرر كما هو مقتضى قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل. ومع  قيام المؤمن الشرعي بأدلة الوظيفة يزول موضوع القاعدتين وجدانا لوجود البيان الشرعي بالنسبة إلى القاعدة الاولى، وعدم احتمال الضرر مع وجود المؤمن بالنسبة للقاعدة الثانية، وإنما زال  الموضوع فيهما بواسطة التعبد الشرعي (وهو معنى الورود) والقرعة لا مجال لها مع توفر الوظيفة العقلية لعدم الاشكال فيها، وقد أخذ فيها انها لكل أمر مشكل، واين الاشكال مع قيام المؤمن  العقلي، فهو وارد على أدله القرعة ومزيل لها وجدانا، وهو في إزالته لموضوعها، أقرب إلى التخصص الواقعي منه إلى الورود لعدم توسط التعبد الشرعي في إزالة الموضوع وجدانا. (4) أما  الجواب على التساؤل الثالث وهو:
------------------------------------------------------------------
منهج الدراسة: فأظنه يتضح إذا تذكرنا الاسس التي ركزنا عليها في التمهيد الثاني في دراسة أصول الاحتجاج. وبناء على هذا فان مهمتنا تنصب في الدرجة الاولى - بعد استقراء الاصول - على  تتبع أدلتها عند جميع الاطراف والتماس كيفية دلالتها عندهم، ثم محاولة تقييم هذه الادلة وإقرار ما نراه ملزما بالحجية ومناقشة ما لا نتفق عليه معهم، ثم عرض وجهة نظرنا فيه. وكل مناقشة لا  تعود بالدليل إلى احدى تلكم الاوليات أو القضايا المسلمة لدى الطرفين، لا تكون ملزمة لذلك الطرف المناقش ويبقى رأيه حجة عليه، والمسألة تتحول إذ ذاك إلى مسألة مبنائية كما هو الشأن في  عوالم الاستظهار ودعوى التبادر وهي غاية ما تلزم مدعيها، ومن قامت لديه كما أن دعوى القطع - وهو أساس الحجج - لا يكون ملزما لغير من قام عنده ما لم يستند إلى إحدى تلكم الاوليات  والمسلمات، فيكون حجة على الغير لاستحالة تخلفه عنها بعد تنبهه له، وبهذا يصح الاحتجاج والتقييم. وخلاصة ما انتهينا إليه من ذلك كله: اننا بعد استقرائنا لمختلف الكتب الفقهية والاصولية لدى  أئمة ومجتهدي المذاهب - فيما وقع منها بأيدينا - رأينا ان الذي ينتظم منها في كتابنا هذا - بحكم تحديدنا لمفهوم أصول الفقه - هو هذه الاصول التي سبق عرضها لا غير، لذلك ركزنا عليها الحديث  دون غيرها، وعند التماس هيكل الكتاب، رأينا ان نخرج على الطريقة التقليدية فنبوبه على أساس ما لبعض هذه الابواب من تقدم رتبي على بعضها الآخر، وخلص لنا من ذلك ان
------------------------------------------------------------------
أبواب الكتاب ستكون خمسة: 1 - ما يكون سمته سمة الكاشف عن الحكم الواقعي. 2 - ما يكون سمته سمة المحرز للواقع تنزيلا. 3 - ما يكون مثبتا للوظيفة الشرعية. 4 - ما يكون مثبتا  للوظيفة العقلية. 5 - ما يكون رافعا للامور المشكلة بعد تعقدها وفقد الدليل عليها. هذا مضافا إلى ما سبق ان قرأتموه من بحوث التمهيد. وقد آثرنا ان نلحقه بخاتمة وهي أقرب إلى البحوث  الفقهية، وإن اعتادوا إلحاقها بالاصول وهي بحوث: الاجتهاد والتقليد: وانما آثرنا إلحاقها بهذا الكتاب نظرا لاهميتها أولا، ولانها تصلح أن تكون نماذج تطبيقية لهذه الاصول وكيفية استنباط الاحكام  الشرعية منها ثانيا. وأبعدنا عن طريقنا كل ما لا ينتج الحكم الكلي من الكبريات وكلما يقع موقع الصغرى من قياس الاستنباط، وأشرنا إلى بحوثها المهمة جدا في ملابساتها من هذه التمهيدات أو  الاصول.
------------------------------------------------------------------
أصول الفقه المقارن ينحصر بحثنا حول هذه الاصول من حيث انتاجها للحكم الكلي الشرعي فقط لا من الحيثيات الاخرى كصلوحها للدليلية على نفس الاصول أو اثباتها لما يتعلق بأصول الدين  أو غيرها، فإن لذلك مجالا آخر غير هذا الكتاب وإن كان ملاك الحجية فيها واحدا.