القسم الاول: الكتاب

الباب الاول القسم الاول الكتاب العزيز تحديد مفهوم الكتاب، حجيته من الضروريات، حجية الظواهر ودليلها، مصادر التشكيك في حجية ظواهر الكتاب: العلم الاجمالي، الاخبار المأثورة، شبهة  التحريف ومناقشاتها،
------------------------------------------------------------------
(1) تحديد مفهوم الكتاب: والمراد بالكتاب هنا هو كتاب الله عزوجل، الذي أنزله على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ألفاظا ومعاني وأسلوبا، واعتبره قرآنا دون أن يكون للنبي (صلى الله  عليه وآله) دخل في انتقاء ألفاظه أو صياغته. فليس منه ما أنزله الله تعالى على نبيه من الاحكام وأداها باسلوبه الخاص، كما ليس منه ما ثبت من الحديث القدسي وهو ما أثر نزوله على النبي ( صلى الله عليه وآله) ولم يثبت نظمه من قبله في سلك القرآن، وكذلك ما نزل من الكتب السماوية على الانبياء السابقين كالتوراة والانجيل والزبور لعدم اعتبارها قرآنا. وتفسير القرآن وترجمته  ليسا من القرآن في شئ، فلا تجري عليهما أحكام القرآن الخاصة. وثبوت الحجية للتفسير إذا كان صادرا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو أهل بيته فإنما هو لاعتبار كونه - أي التفسير - من  السنة لا من الكتاب. وهذه الامور موضع اتفاق المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ولا أعرف مخالفا في ذلك إلا ما يبدو من أبي حنيفة حيث (جوز القراءة بالفارسية في الصلاة لمن لا يعرف  العربية ولا يقدر على القراءة بها (1)، ووافقه بعضهم على ذلك، وقيل انه عدل عن ذلك وأفتى لمن لا يقدر على القراءة بها أن يصلي ساكتا (2)، وعلى هذا فالقرآن هو خصوص ما
(1 - 2) علم أصول الفقه لخلاف، ص 24. (*)
------------------------------------------------------------------
بين الدفتين دون أن يزاد فيه حرف أو ينقص. ولقد أحصيت آياته فبلغت (ستة آلاف وثلاثمائة واثنين وأربعين آية، منها خمسمائة آية فقط تتعلق بالاحكام (1))، وقد انتظمت هذه الآيات في سور بلغ  مجموعها مائة وأربع عشرة سورة، أولها (الحمد) وآخرها (الناس). وآخر ما نزل من آياته قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا (2)، وقد نزلت في  اليوم الثامن عشر من ذي الحجة في غدير خم عند عودته (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع وبعد أن أعلن الولاية لعلي كما ورد ذلك في كثير من الروايات المأثورة لدى الطرفين (3).  حجيته: والحديث حول حجيته موقوف على تمام مقدمتين أولاهما ثبوت تواتره الموجب للقطع بصدوره، وهذا ما لا يشك فيه مسلم امتحن الله قلبه للايمان، والثانية ثبوت نسبته لله عزوجل وعقيدة  المسلمين قائمة على ذلك، وحسبهم حجة ثبوت اعجازه بأسلوبه ومضامينه وتحديه لبلغاء عصره ونكولهم عن مجاراته، وأخباره بالمغيبات التي ثبت بعد ذلك صدقها ومطابقتها لما أخبر به كما ورد  في سورة الروم وغيرها، وارتفاعه عن مستوى عصره بدقة تشريعاته، إلى ما هنالك مما يوجب القطع بسموه عن قابليات البشر مهما كان لهم من الشأن. وقد استدل بعضهم (4)، فيما يبدو، على  كونه من الله بهذه الآيات
(1) المدخل إلى علم أصول الفقه، ص 20. (2) المائدة 3. (3) اقرأ أسانيدها في الجزء الاول من كتاب الغدير. (4) فلسفة التشريع في الاسلام، ص 144. (*)
------------------------------------------------------------------
المباركة: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (1) و (إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (2) و (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي  يوحى (3) مع وضوح أن دلالتها على ذلك دورية لبداهة ان دلالة هذه الآيات على كون القرآن من الله موقوفة على ان تكون هي من الله، وكونها من الله تعالى موقوف على كون القرآن منه  تعالى، وهي بعضه ولا تميز لها عن بقية آياته من حيث النسبة إليه ليرتفع به الدور، اللهم إلا ان يكون ذكرها لديه من باب الاستئناس بها لا الاستدلال. وعلى أي حال فحجية القرآن أكبر من ان  يتحدث عنها بين المسلمين بعد إيمانهم جميعا بثبوت تواتره وإعجازه ومثل هذا الحديث يقتضي ان يساق إلى غيرهم كوسيلة من وسائل الدعوة إلى الاسلام، لا أن يثار بين صفوفهم ويتحدث فيه.  المحكم والمتشابه: والقرآن فيه محكم ومتشابه لقوله سبحانه (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات (4) وقد اختلف في تعريفهما على أقوال: (قال الجبائي: المحكم ما لا يحتمل إلا  وجها واحدا، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا، وقال جابر: المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله (5)) وقيل (المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل،  والمتشابه ما استأثر الله بعلمه (6)) ولعل هذا التفسير يتلاءم مع ما يبدو من ظهور هذه الآية (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله  والراسخون في العلم، يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الالباب (7))
(1) الم السجدة / 2. (2) النساء / 104. (3) النجم / 4 - 5. (4) آل عمران / 7. (5) متشابهات القرآن لابن شهراشوب، ص 2. (6) إرشاد الفحول، ج / 1  ص 32. (7) آل عمران الآية / 7. (*)
------------------------------------------------------------------
بناء على ظهورها في ان كلمة يقولون خبر إلى (الراسخون) فيكون المتشابه مما استأثر الله عزوجل بعلمه، وما ورد تأويله من غوامض الآيات عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته فهو من  المحكم وللشريف الرضي في تحقيق المراد من هذه الآية حديث يحسن الرجوع إليه في هذا المجال (1). ومهما أريد من لفظ المحكم والمتشابه فان الذي يكون حجة من آيات الكتاب - من دون  توسط التأويل - هو خصوص ما كان منها نصا في مدلوله أو ظاهرا فيه. أما حجية ما كان نصا منها فللقطع بمدلوله لان النص هو ما لم يحتمل فيه الخلاف، والقطع حجة ذاتية - كما سبق - وأما  الظاهر فحجيته من صغريات مسألة. حجية الظواهر: وهي أوضح من أن يطال فيها الحديث ما دام البشر في جميع لغاته قد جرى على الاخذ بظواهر الكلام وترتيب آثارها ولوازمها عليها، بل لو  أمكن ان يتخلى عنها لما استقام له التفاهم بحال لان ما كان نصا في مدلوله مما ينتظم في كلامه لا يشكل إلا أقل القليل. وبالضرورة ان عصر النبي (صلى الله عليه وآله) ما كان بدعا من  العصور، لينفرد به الناس في أساليب تفاهمهم بنوع خاص من التفاهم لا يعتمد الظهور ركيزة من ركائزه، وما كان للنبي طريقة خاصة في التفاهم انفرد بها عن معاصريه، وإلا لكانت أحدوثة  التأريخ، فالقطع باقرار النبي (صلى الله عليه وآله) لطريقتهم في التفاهم كاف في اثبات حجية الظواهر وقد نزل القرآن بلغة العرب وتبنى طريقتهم في عرض أفكاره، وكان
حقائق التأويل، ج / 5 ص 1 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
لكلامه ظاهر يفهمونه ويسيرون على وفقه. وبما أننا نعلم ان من الطرق التي سار عليها الشارع المقدس في تبليغ احكامه الطريقة الشائعة لدى جميع البشر من الاعتماد على القرائن المنفصلة  أحيانا، وان القرآن سار على الطريقة نفسها وبذلك خصصت بعض عموماته بقسم من الآيات، كما خصص القسم الآخر منها بالسنة - بحكم كونها مبينة للمراد من الكتاب - وشارحة له. لذلك كان  علينا قبل ان نعتمد على اصالة الظهور، ان نفحص عن القرينة المنفصلة فإن عثرنا عليها خصصنا أو قيدنا بها الكتاب، وإن يئسنا من العثور عليها في مظانها كان لنا العمل بعموماته أو مطلقاته.  وما يقال عن المخصص والمقيد يقال عن الناسخ، بناء على إمكان النسخ ووقوعه، كما هو رأي جمهرة المسلمين. وما ورد من التشكيك في حجية ظهور القرآن أمر لا يستقيم بحال. مصادر  التشكيك في حجية ظهوره: وغاية ما يمكن ان يذكر من مصادر التوقف عن العمل بظهوره أمور لا تخلو كلها من مناقشة: 1 - ما نسب إلى الاخباريين من دعوى التوقف عن العمل بها لامرين: أ  - العلم الاجمالي بطرو مخصصات من السنة ومقيدات على عموماته ومطلقاته، والعلم الاجمالي منجز لمتعلقه ومانع من جريان الاصول في أطرافه حتى اللفظية منها كاصالتي العموم والاطلاق،  ومع فرض جريانها فهي ساقطة للمعارضة، ونتيجة ذلك سريان الاجمال لكل ظواهره والتوقف عن العمل بها لاحتمال ارادة خلافها ولا مدفع لهذا الاحتمال من أصل وغيره.
------------------------------------------------------------------
والجواب: ان العلم الاجمالي انما ينجز متعلقه إذا لم يتحول إلى علم تفصيلي في أحد الاطراف، وشبهة بدوية في الاطراف الاخر كما هو موضع اتفاقهم، وسيأتي تحقيقه في مباحث الاحتياط. وبما  أن العلم هنا بطرو مخصصات ومقيدات منحل بما عثر عليه منها بعد الفحص في مختلف مظانه من الآيات والاحاديث وهو بمقدار المعلوم بالاجمال، فان العلم الاجمالي ينحل بذلك، ويرجع في  بقية أطرافه المشكوكة إلى الاصول اللفظية، على أن هذه الشبهة لا تختص بالكتاب، بل تعم حتى ظواهر السنة بعد العلم بأن الشارع المقدس كان من طريقته التي اتبعها في البيان الاتكال - أحيانا  ولمصلحة ما - على القرائن المنفصلة مع أنهم لا يلتزمون بالاجمال في السنة. ب - ما ورد من الاحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، وهي متواترة بين الفريقين وما ورد في بعضها من  النهي عن العمل بالكتاب دون الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) وليس في جميع هذه الاحاديث ما يوجب التوقف عن العمل بظواهره أما القسم الاول منها فلخروج الظواهر عنها تخصصا،  لان التفسير إنما يكون للاشياء الغامضة ولا معنى لتفسير الواضحات، والمفروض أن الظواهر واضحة الدلالة فلا تحتاج إلى التفسير بالرأي، وأما القسم الثاني منها فلما قلناه في العلم الاجمالي  من لزوم الفحص عن المخصص والمقيد والمفروض، أننا لا نرجع إلى التمسك بالظواهر إلا بعد اليأس عن العثور عليهما، (ولا يدعي أحد جواز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب، بلا مراجعة  الاخبار الواردة عنهم هذا مضافا إلى ما ورد في جملة من الاخبار لا يبعد أن تكون متواترة معنى من جواز العمل بالكتاب والتمسك به والرجوع إليه، وعرض الاخبار المتعارضة عليه، والاخذ  بما
------------------------------------------------------------------
وافق الكتاب وطرح المخالف، وغير ذلك مما يظهر منه المفروغية عن صحة التمسك بظاهر الكتاب (1)). وعقيدتي أن اخواننا المحدثين لا يريدون اكثر من هذا، فالخلاف بينهم وبين اخوانهم من  الاصوليين وغيرهم من علماء الاسلام خلاف شكلي فهم لا يمنعون من العمل بظواهر الكتاب مطلقا، وإنما يمنعون عنه إذا لم يقترن بالفحص عن مخصصه أو ناسخه أو مقيده. 2 - ما نسب إلى  بعض المحدثين أيضا من ان فهم القرآن مختص بمن خوطب به، واستدلوا على ذلك بروايات منها مرسلة شعيب بن أنس عن ابي عبد الله (عليه السلام) انه قال لابي حنيفة: أنت فقيه أهل العراق.  قال: نعم. قال: (عليه السلام) فبأي شئ تفتيهم. قال: بكتاب الله وسنة نبيه قال: (عليه السلام) يا أبا حنيفة، أتعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ. قال: نعم، قال له: يا أبا حنيفة،  لقد ادعيت علما، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا (صلى الله عليه وآله)، وما ورثك الله تعالى من كتابه حرفا (2)). وفي  رواية زيد الشحام، قال: دخل قتاده على أبي جعفر: فقال له: انت فقيه أهل البصرة. فقال: هكذا يزعمون. فقال (عليه السلام) بلغني انك تفسر القرآن، قال: نعم - إلى ان قال - يا قتادة، ان كنت قد  فسرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت، وان كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت يا قتادة - ويحك - انما يعرف القرآن من خوطب به (3))، وربما أيد
(1) فوائد الاصول، ج 3 ص 48، وللاطلاع على تفصيل هذه الاخبار تراجع رسائل الشيخ الانصاري (2 - 3) البيان في تفسير القرآن ص 184 (*)
------------------------------------------------------------------
بما نسب إلى المحقق القمي من دعوى اختصاص حجة الظواهر بمن قصد إفهامه من المخاطبين بها لاحتمال أن تكون في البين قرينة اعتمدها المتكلم، وهي معهودة بينه وبين المخاطب، ومع هذا  الاحتمال لا يمكن الوثوق بان ظاهر الكلام هو المراد (1) وكلامه وان ركز فيه على السنة بالخصوص إلا انه يصلح أن يكون مؤيدا الدعوى اولئك المحدثين لتوفر ملاك دعواه فيها أحيانا.  والجواب عن هذه الدعوى واضح جدا، أما المرسلة فهي بالاضافة إلى ضعفها بالارسال، وكونها أضيق من المدعي لو تمت دلالتها لاختصاصها بالخاصة من ذرية نبينا (صلى الله عليه وآله)،  والدعوى اختصاص حجية ظواهر الكتاب بمن خوطب به، ومن الواضح أن الخاصة من أهل البيت لم يختصوا وحدهم بالخطاب، بل لم يكونوا كلهم حاضرين وقت الخطاب، فبينهم وبين المخاطبين  عموم مطلق أو من وجه أحيانا - ان المراد منها ان فهم القرآن حق فهمه - ككل أي ما احتاج منه إلى تأويل، وما لم يحتج - مختص بهم بالخصوص، فهي اذن أجنبية عن المدعى من جواز الاخذ  بظواهره فقط، وإلا فمن البعيد جدا ان ينفي الامام عن أبي حنيفة حتى معرفة مثل (قل هو الله أحد) مما يكون نصا أو ظاهرا في مدلوله. وأما الرواية الثانية فهي أجنبية عن المدعى أيضا لانها  واردة فيما يحتاج إلى تفسير، وقد سبق ان قلنا أن الظاهر لا يحتاج إلى تفسير، فخروجها عما دل على حجية الظواهر بالتخصص كما هو واضح. ودعوى المحقق القمي من احتمال الاعتماد على  القرائن في وقت الخطاب يدفعها امكان الرجوع إلى الاصول العقلائية، كاصالة عدم القرينة وأمثالها لدفع الاحتمال. على أنا نقطع - ان الكتاب وهو الدستور الخالد - لا
فوائد الاصول، ج 3 ص 48. (*)
------------------------------------------------------------------
يختص بطائفة دون طائفة، ولا زمان دون زمان، ليصح افتراض اعتماده على القرائن الحالية التي لا يدركها الا من قصد افهامهم بها، ولو فرض اختصاصه بخصوص المخاطبين لوجب قصره  على من كان حاضرا عند نزول الآيات، وهم القلة من الصحابة، وقد لا يكون في الحاضرين عند نزول بعضها غير واحد أو اثنين أفنقصر الحجية على خصوص هؤلاء في كتاب أنزل لهداية  جميع البشر في جميع العصور ؟ 3 شبهة التحريف في القرآن بالنقيصة في بعض آياته، ومع تحكم الشبهة لا يبقى مجال لاعتماد ظواهرها لاحتمال دخول النقيصة على الآية التي يراد العمل  بظهورها مما يعكس خلاف الظهور لو أضيف إليها ما أنقص منها. وكان مبعث هذه الشبهة ما ورد في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث من أحاديث وروايات يتبنى اصحابها فكرة التحريف  والنقص فيه، ففي صحيح البخاري، من خطبة لعمر بن الخطاب (ان الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم  رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده فأخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على  من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ان لا ترغبوا عن ابائكم فانه كفر بكم ان ترغبوا عن ابائكم أو ان كفروا  بكم ان ترغبوا عن ابائكم (1)) والذي يبدو ان هذه الخطبة لو صحت عنه، كانت بعد ان جاءهم بهذه الآية - أعني آية الرجم - فامتنع زيد من الحاقها بالقرآن، ففي رواية ابن أشتة في المصاحف  عن الليث بن سعد قال: أول من جمع القرآن أبو
(1) البخاري، ج 8 ص 169. (*)
------------------------------------------------------------------
بكر وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، وان آخر سورة براءة لم يجدها إلا مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها فان رسول الله (صلى الله عليه وآله)  جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب وان عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لانه كان وحده (1)). وفي صحيح مسلم عن عائشة (انها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم  نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن (2)). وفي روايته الاخرى قال: (بعث أبو موسى الاشعري إلى قراء اهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة  رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الامد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة  فانسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم الا التراب، وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: يا  أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (3)). وفي أصول الكافي عن أبي عبد الله قال: (ان القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد سبعة عشر  الف آية (4))، إلى روايات أخرى حفلت بها هذه الكتب وغيرها، وقد نسب القول في الايمان بهذه الشبهة إلى الحشوية (5)، كما نسب الشيخ ابو زهرة إلى الكليني معتمدا ما
(1) الاتقان، ج / 1 ص 60. (2) صحيح مسلم ج / 4، ص 167. (3) صحيح مسلم، ج / 3 ص 100، وأصول الكافي. (4) ص 536، هامش المجلد / 2 من مرآة العقول.  (5) مجمع البيان، ج / 1 ص 15. (*)
------------------------------------------------------------------
استظهره الصافي من روايته لاخبار التحريف في أصوله وعدم تعقيبه عليها مما يدل على إيمانه بها وبخاصة وقد صرح في مقدمة كتابه انه لا يروي إلا ما يثق به، وقد اعتبر هذا الاستظهار وثيقة  من أهم وثائق التكفير، فسارع إلى تكفيره، يقول في كتابه (الامام زيد): (ومن الغريب أن الذي ادعى هذه الدعاوى الكليني وهو حجة في الرواية عندهم، وكيف تقبل رواية من يكون على هذا  الضلال، بل على هذا الكفر المبين (1)). وما دام الحديث قد بلغ بنا إلى هذا الموضع فلا بد من تحقيق هذه النسبة التي وسعها بعضهم إلى جميع أصحاب الصحاح، وكتب الحديث ممن ذكروا  أحاديث التحريف أخذا بوحدة الملاك في الجميع. والذي يبدو أن الاخ أبا زهرة ممن يستسيغ التكفير بسهولة مع أنه لا يميز - فيما يبدو - بين نوعين من انكار الضروري أحدهما يوجب التكفير  والآخر لا يوجبه، فالذي يوجب التكفير انكار ضروري من ضروريات الدين، أي ما ثبت أنه دين بالضرورة مما يعود انكاره إلى تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) وشبهه، والقول بعد التحريف  لم يثبت أنه دين بالضرورة وإلا لما احتاج إلى الاستدلال عليه بآية: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وما يحتاج إلى الاستدلال لا يكون من الضروريات، على أنهم اختلفوا في صلاحية الآية  للدليلية بشبهة الدور، وما يقال عن هذه الآية يقال عن غيرها من الادلة (2). نعم هو ضروري الثبوت لثبوت تواتره عندنا وانكار الضروريات التي لا تستند في بداهة ثبوتها إلى الدين وان استندت  إليه بالنظر، لا تستوجب تكفيرا كما هو واضح لدى الفقهاء.
(1) الامام زيد، ص 351. (2) راجع استدلالهم في كتاب البيان، ص 144 وما بعدها، وتفنيد آية الله الخوئي له. (*)
------------------------------------------------------------------
ومع الغض عن هذه الناحية فالتكفير لا يكون لاوهام وظنون لان مجرد رواية أحاديث النقص وعدم التعقيب عليها، لا يدل على وثوقه بصدورها، ولعل روايتها في (النوادر) من كتابه، دليل تشكيكه  بصدورها ورفضه لها، وكأنه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله (عليه السلام): (ودع الشاذر النادر)، على أنه التزم في اول كتابه الاخذ بالروايات العلاجية، وهي التي تتعرض لاحكام  الخبرين المتعارضين من اعتبار ترجيح أحدهما على الآخر بعرضه على كتاب الله وسنة نبيه، فما وافق الكتاب أخذ به، يقول رحمه الله في أول كتابه: (فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا  تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء إلا ما أطلق عليه العالم، اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه (1)) والاخبار التي رواها  متعارضة بدليل روايته لما هو صريح بعدم التحريف، وهي الرواية القائلة (وكان من نبذهم الكتاب بأنهم أقاموا حروفه وحرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه (2)) حيث صرحت بنسبة التحريف  إلى الحدود مع اعترافها بإقامة حروفه ومع تحكم المعارضة بينها وبين تلك الرواية التي استظهروا منها التحريف في الحروف، فإن مقتضى منهجه الذي رسمه في بداية الكتاب عرضها على  كتاب الله، ومن الواضح أن الكتاب ظاهر بآية (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وغيرها بعدم طرو التحريف عليه، ولا عبرة بمناقشات هذه الآية لكونها واردة على خلاف ظهورها، والظهور  حجة وان لم يوجب القطع بمدلوله للقطع باعتبار الحجية له، وشبهة الدور لا ترد على مذهب من يؤمن بأهل البيت لامضائهم (عليهم السلام)
(1) أصول الكافي، هامش مرآة العقول، ج 1 ص 6 (2) الامام الصادق لابي زهرة ص 334. (*)
------------------------------------------------------------------
للكتاب القائم بما فيه هذه الآيه كما سيتضح فيما بعد، على ان الثقة بالصدور لا تسلتزم الثقة بالمضمون لعدم التلازم بينهما، وكلامه صريح في ذلك في أول كتابه بعد ذكره للرواية القائلة (ثم خذوا  بالمجمع عليه فان المجمع عليه لا ريب فيه)، (ونحن لا نعرف من ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم وقبول ما وسع من الامر فيه بقوله: بأيما أخذتم من باب  التسليم وسعكم (1)) فردها إلى العالم - مع تعارض مضمونها - والتخيير بينها واخذ أحدها من باب التسليم، كل ذلك مما يدل على ان ثقته بالصدور لا تستلزم الثقة بمدلول الاحاديث والتعبد بها،  نعم ما يختاره منها لعمله ملزم بالاخذ به من باب التسليم، وما يدرينا هنا بأي القسمين من الاخبار المتعارضة قد أخذ لنحمله مسؤوليته، هذا إن لم نقل في أنه قد طرح تلك الاخبار الشاذة لمخالفتها  للكتاب. فرواية هذه الاحاديث في الشواذ النوادر من كتابه وتعارضها في مروياته ولزوم طرحها بالنسبة إلى منهجه الذي رسمه وعدم التلازم بين الايمان بالصدور - لو آمن بصدورها - وبين  الايمان بمضمونها، كل ذلك مما يوجب القطع بطرحه لهذه الاخبار وإيمانه بعدم التحريف. على ان التحريف لو كان مذهبا له لما صح دعوى الشيخ كاشف الغطاء وغيره اجماع الامامية على عدم  التحريف ومثل الكليني ممن لا يتجاهل أمره عادة، ومن الطريف ما ورد من الشيخ أبي زهرة وهو يقارن بين الكليني والسيوطي صاحب الاتقان، ودفاعه عن الاخير بأن روايته لاحاديث التحريف  إنما ذكرها في مقام بيان ما نسخ منها تلاوة، مع أنه ذكر قسما منها في هذا الموضع، وأقساما أخرى في مواضع أخر لا
(1) أصول الكافي هامش مرآة العقول، ج 1 ص 6 (*)
------------------------------------------------------------------
علاقة لها بالنسخ، كالاحاديث الواردة في باب (جمع القرآن وترتيبه (1)) وباب (عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه (2)) وغيرها من كتاب الاتقان، ونحن نذكر له للتفكهة فقط (وشر البلية ما  يضحك) بعض السور التي روى زيادتها في القرآن عن ابن مسعود كالمعوذتين، والسور التي أسقطت من القرآن في رأي أبي بن كعب يقول: (أخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال: كتب أبي بن  كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين واللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد، وتركهن ابن مسعود، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين (3)، وذكر ان في مصحف ابن عباس قراءة  أبي وأبي موسى بسم الله الرحمن الرحيم (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، وفيه: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد واليك نسعى ونحفد نخشى  عذابك ونرجو رحمتك ان عذابك بالكفار ملحق (4) إلى غير ذلك مما رواه، ولم ينكر عليه في كثير من أبواب كتابه، ولعل أبا زهرة لم يستوف هذا الكتاب قراءة، ثم قال بعد ذلك (ان الذين افتروا  هذه الفرية ونسبوها إلى الائمة ومنهم الكليني، ادعوا التغيير والتبديل وذكروا آيات غيرت ونسب هذا إلى الصادق، ولم يقل ذلك أحد من علماء السنة ولم يرو عن أحد منهم). وما أدري هل كانت  هذه النسب إلى كبار الصحابة والتي حفلت بها أهم الصحاح والمسانيد والمستدركات أمثال صحيح مسلم والبخاري، ومسند أحمد والطبراني، ومستدرك الحاكم، وكنز العمال، وغيرها من مفتريات  الكليني، أم ماذا ؟ ! على أن فيها ما هو أفظع من دعوى التحريف، وهو
(1) ج / 1 ص 58 وما بعدها. (2) ج / 1 ص 66 وما بعدها. (3) ج / 1 ص 67. (4) ج / 1 ص 67. (*)
------------------------------------------------------------------
انكار تواتر ما بين الدفتين لروايتهم في كيفية جمعه اعتماد خبر الواحد أو البينة في مقام الجمع، ومن المعلوم أن التواتر إذا كان في بعض طبقاته اخبار احاد لا تفيد القطع لا يصبح مقطوعا  بمدلوله، لان النتيجة تتبع أخس المقدمتين، وقد مر في الروايات وأمثالها كثير مما هو صريح بذلك، وقد جمعها أستاذنا الخوئي في كتابه (البيان) وأبدع في مناقشتها وإثبات تناقضها وكذبها (1).  وما أدري ما رأي الشيخ أبي زهرة في كتاب المصاحف للسجستاني الذي سجل فيه اختلاف مصاحف الصحابة بالزيادة والنقيصة، هل كان مؤلفه الكليني بالذات ؟ ! ! ثم ما أدري أيضا لم لم يجرأ  الشيخ ابو زهرة على تكفير الشيخين لروايتهما في صحيحهما أخبار التحريف وهي لا تتحمل دعوى نسخ التلاوة فيها لتصريح أصحابها بأنها مما يقرأ من القرآن إلى ما بعد وفاة النبي (صلى الله  عليه وآله) وهل يقع النسخ بعد وفاة النبي ؟ ! على أنهما ذكرا هذه الروايات ولم يعقبا عليها بالتشكيك، فالمشكلة ليست مشكلة الاتقان وحده ليتم الدفاع عنه بما ذكر، وانما هي مشكلة جميع من  روي عنهم الاتقان من كتب الصحاح وغيرها رأسا، والشئ الذي يقتضينا ان نفهمه ونوسع له صدرونا أن مجرد نقل الحديث وعدم التعقيب عليه، لا يدل على رأي صاحبه ما دامت هناك مسارب  لحمل الصحة وبخاصة في مسائل تتصل بصميم العقيدة. يبقى سؤال: لماذا دونوا هذه الاخبار في الكتب المعتمدة إذا لم تمثل آراءهم ؟ والجواب على ذلك: ان طبيعة الاعمال الموسوعية لا تتقيد  بوجهات نظر أصحابها وبخاصة في عالم نقل الاحاديث.
(1) راجع ص 156 وما بعدها من كتابه. (*)
------------------------------------------------------------------
ولقد كان من المألوف قديما أن مؤلفي كتب الحديث ما كان ليهمهم تمحيص الاحاديث بقدر ما يهمهم تدوينها، وكأن مهمة التمحيص موكولة إلى المجتهدين في مجالات استنباط أحكامهم، ومن هنا  احتجنا إلى تسليط الاضواء على جميع كتب الحديث واخضاعها لقواعد النقد والتمحيص التي عرضت في كتب الدراية، وحسب هؤلاء المؤلفين أمثال الكليني، والشيخ الطوسي، وأصحاب  الصحلح والمسانيد، ان لا يكونوا موضعا للطعن في أمانتهم في مجالات النقد والتجريح، ولعل لهم من وجهات النظر في نقل مختلف الاحاديث ما يحمدون عليه، وإلا فإن الاقتصار على ما يراه  صاحب الكتاب حقا من الاحاديث وإلغاء ما عداه، معناه تعريض ثرواتنا إلى كثير من الضياع، وإخضاع أكثرها إلى الزاوية التي ينظر منها المؤلف إلى الحديث، وهي تتأثر عادة بعوامل بيئية  وزمانية، بالاضافة إلى ترسبات اصحابها وقيمهم وعواطفهم، على أن في ذلك ما فيه من تحديد لطبيعة الاجتهاد وتضييق نطاقه وحصره في غير اطار صاحبه بل في أطر رواة الحديث بما لهم من  ثقافات ضيقة لو بالغنا في توسعتها لما تجاوزنا بها طبيعة عصورهم وبيئاتهم مع ان الدين بطبعه يتسع لجميع العصور، فما نراه اليوم حقا قد لا يرونه غدا كذلك، وما كانوا يرونه حقا بالامس قد لا  نراه اليوم كذلك، واختلاف المجتهدين من أدل البراهين على هذا الامر. وشبهة التحريف - بعد هذا - من الشبه التي لا تستحق أن يطال فيها الحديث لكونها شبهة في مقابل البديهة، فأخبار التحريف  - مع تضارب مضامينها وتهافتها في انفسها - لا تزيد على كونها أخبار آحاد، وهي لا تنهض للوقوف أمام التواتر الموجب للقطع بأن هذا القرآن الذي بأيدينا هو القرآن الذي نزل على النبي (صلى  الله عليه وآله) دون أن يزاد أو ينقص
------------------------------------------------------------------
فيه، وحسبك ان تعرض ما ادعي اسقاطه أمثال سورتي الحفد والخلع وآية الرجم المأثورة عن الخليفة عمر - على أي سورة من سور القرآن، لترى تباين أسلوبيهما واختلافهما من حيث المستوى  البلاغي بما يقتضيه من عظم الاسلوب وروعة المضامين وعدمهما، على ان دعوى النقيصة فيه لو أمكن أن تكون، فان الذي يتحمل مسؤوليتها عادة الخليفة الثالث لحرقه المصاحف الكاملة. ومثل  هذه المسؤولية لا يمكن ان يسكت عليها الرأي العام المسلم بما فيهم المهاجرون والانصار، وهم الذين انكروا عليه أمورا لا يقاس اعظمها فظاعة بالتلاعب في آيات الله، ولكانت عمليته هذه من  أعظم وثائق الادانة بيد الثوار للتشنيع عليه، وهذا ما لم يحدثنا عنه التاريخ ولم يشر إليه بحرف، على ان الثائرين - وقد تم لهم القضاء على عثمان - كان بوسعهم أن يعيدوا الامور إلى نصابها  الطبيعي، فيخرجوا ما لديهم من النسخ الكاملة للقرآن الكريم وينشروها بين الناس كرد من ردود الفعل التي تقتضيها طبيعة الثورة. والذي يبدو ان عمل عثمان في جمع الناس على رسم واحد  للمصحف ولهجة واحدة، كان له صداه العميق في نفوسهم، لذلك كانت استجابتهم له استجابة جماعية بتسليم ما لديهم من النسخ والتعويض عنها بالنسخة الجديدة ذات الرسم المعين واللهجة المعينة.  والظاهر ان الكثير من تلكم الروايات أراد أصحابها التشنيع بها على عثمان، مثل رواية أبي موسي الاشعري وبعض روايات عائشة السابقة وغيرها، ولم تلق من الناس تشجيعا كافيا، وإلا فما  الباعث لابي موسى على جمع قراء البصرة وإخبارهم بما أخبرهم به من النقص، هذا لو قلنا بصحة نسبة هذه الروايات لاصحابها، وهي موضع شك وتأمل رغم روايتها في الصحاح
------------------------------------------------------------------
المأثورة. والذي يهون الخطب ان أمثال هذه الروايات لم تجد لها أي صدى في نفوس جميع علماء الاسلام على اختلاف طوائفهم شيعة وسنة، إلا من شذ منهم، يقول الشيخ الطوسي: (وأما الكلام  في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا، لان الزيادة مجمع على بطلانها والنقصان منه، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الاليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى  وهو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شئ منه من موضع إلى موضع طريقها الاحاد التي لا توجب علما ولا عملا،  والاولى الاعراض عنها وترك التشاغل بها (1)) ومثل هذا المضمون ورد في كثير من كتب الشيعة والسنة على السواء، وتواتره أوضح من أن يطال فيه الحديث، وما أجمل ما ذكره المرتضى  في ذلك، حيث قال: (إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فان العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله  وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه ما ذكرناه، لان القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والاحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل ما اختلف فيه  من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز ان يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد (2)). ومع هذه البديهة لا أظن أننا نحتاج بعد إلى الاستدلال على عدم التحريف بآية  (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون (3)) وآية (وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (4))
(1) التبيان، ج / 1 ص 3. (2) مجمع البيان، ج / 1 ص 15. (3) الحجر / 9. (4) فصلت / 42. (*)
------------------------------------------------------------------
لان الاستدلال بهما انما يكون مع الشك في التحريف، ومع فرض الشك فإن هذه الآيات لا تصلح للدلالة للزوم الدور بداهة ان دلالتها على عدم التحريف في القرآن موقوفة على ان تكون هي غير  محرفة، وكونها غير محرفة موقوف على دلالتها على عدم التحريف فيه فيلزم الدور. والظاهر ان هذا الدور لا مدفع له مع الشك. نعم من آمن بمذهب أهل البيت، وآمن بامضائهم للكتاب الموجود،  يرتفع هذا الاشكال عنه لان دلالة هذه الآيات على عدم التحريف في القرآن موقوف على كونها غير محرفة، وكونها غير محرفة يثبت بامضاء أهل البيت لها على ما هي عليه، فهي حجة في  مدلولها، ومدلولها ظاهر في عدم تحريف القرآن ولا يتوقف على عدم التحريف في القرآن ومتى اختلف الموقوف عن الموقوف عليه ارتفع الدور. وإمضاء أهل البيت للقرآن المتداول ضروري  واخبارهم بالارجاع إليه والتمسك به وعرض الاخبار الصحيحة عليه في غاية التواتر، وعلى هذا فحجية ظواهر الكتاب مما لا مجال للمناقشة فيها بعدما ثبت تواتر ما بين الدفتين، وانه هو الكتاب  المنزل من السماء من دون زيادة أو نقيصة فيه، والشبه الباقية ليس فيها ما يقف دون الاخذ بحجيتها كما سبق بيانه.