القسم التاسع: العرف

الباب الاول القسم التاسع العرف تعريف العرف، الفرق بينه وبين الاجماع، تقسيماته: تقسيمه إلى عام وخاص، العرف العام، العرف الخاص، تقسيمه إلى عرف عملي وقولي: العرف العملي،  العرف القولي، تقسيمه إلى الصحيح والفاسد: العرف الصحيح، العرف الفاسد، مجالات العرف، هل العرف أصل ؟ حجيته وأدلتها
------------------------------------------------------------------
تعريف العرف: ذكروا للعرف تعريفات متعددة، لا يخلو أكثرها من بعد عن الفن نعرض نماذج منها: فقد عرفه الجرجاني بقوله: (العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبايع  بالقبول (1)). وعرفه الاستاذ علي حيدر في شرحه للمجلة عندما عرف العادة بقوله: (هي الامر الذي يتقرر بالنفوس ويكون مقبولا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة) ثم قال: ( والعرف بمعنى العادة (2)). وقريب منهما تعريف ابن عابدين له (3). ويرد على هذه التعاريف أخذها شهادة العقول وتلقي الطباع له بالقبول في مفهومه، مع ان الاعراف تتفاوت وتختلف  باختلاف الازمنة والامكنة فهل تختلف العقول والطباع السليمة معها أم ماذا ؟ ! ثم ان قسما من الاعراف أسموها بالاعراف الفاسدة، فهل ان هذه الاعراف مما تقبلها العقول والطباع السليمة ؟ !  وكيف يتسع التعريف لها وهي مجانبة للسليم من الطباع ! مع أنهم جميعا يذكرون في تقسيماته انقسامه إلى فاسد وصحيح، إلى غير ذلك مما يرد عليها. ولعل أقرب تعريفاته التي ذكروها إلى الفن  ما ورد على لسان الاستاذ خلاف من ان (العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك) ثم قال: (ويسمى العادة (4)).
(1) سلم الوصول، ص 317. (2 - 3) سلم الوصول، ص 317. (4) علم أصول الفقه، لخلاف، ص 99. (*)
------------------------------------------------------------------
الفرق بينه وبين الاجماع: ان الاجماع لا ينعقد إلا باتفاق الامة أو مجتهديها أو مجتهدي مذهب معين على اختلاف في المباني سبق عرضه، ولكن عنصر الاتفاق مأخوذ فيه بينما لا يؤخذ في  العرف هذا العنصر بل يكفي فيه سلوك الاكثرية، ويشترك في هذا السلوك المجتهدون وغيرهم بما فيهم العامة والخاصة، والقارئون منهم والاميون، فهو أقرب إلى ما سبق ان سميناه بالسيرة.  تقسيماته: وقد ذكروا له تقسيمات متعددة نعرض أهمها: أ - تقسيمه إلى عام وخاص: 1 - العرف العام: ويراد به العرف الذي يشترك فيه غالبية الناس على اختلاف في أزمانهم وبيئاتهم وثقافاتهم  ومستوياتهم، فهو أقرب إلى ما أسموه ببناء العقلاء. وينتظم في هذا القسم كثير من الظواهر الاجتماعية العامة وغيرها أمثال رجوع الجاهل إلى العالم، وعدم نقض اليقين بالشك وعادة التدخين. 2  - العرف الخاص: وهو العرف الذي يصدر عنه فئة من الناس تجمعهم وحدة من زمان معين أو مكان كذلك أو مهنة خاصة أو فن، كالاعراف التي تسود في بلد أو قطر خاص، أو تسود بين أرباب  مهنة خاصة أو علم أو فن، ويدخل في هذا القسم كثير من عوالم استعمال الالفاظ وإعطائها طابعا خاصا له تميزه عند اهل ذلك العرف، وقسم من المعاملات التي يتميزون
------------------------------------------------------------------
بها عن غيرهم من اهل الاعرف الاخر، كما ينتظم في هذا أنواع السلوك التي تتصل بآداب اللياقة وأصول المعاشرة. ب - تقسيمه إلى عرف عملي وقولي: 1 - العرف العملي: وأرادوا به العرف  الذي يصدرون عنه في قسم من أعمالهم الخاصة، كشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات. 2 - العرف القولي: وهو الذي يعطي الالفاظ عندهم معاني خاصة تختلف عن مداليلها اللغوية، وعن  مداليلها عند الآخرين من أهل الاعراف كاطلاق العراقيين لفظة الولد على خصوص الذكر بينما يطلق في اللغة على الاعم من الذكر والانثى. ج - تقسيمه إلى الصحيح والفاسد: 1 - العرف  الصحيح: (وهو ما تعارفه الناس وليست فيه مخالفة لنص ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة، كتعارفهم اطلاق لفظ على معنى عرفي له غير معناه اللغوي، وتعارفهم وقف بعض المنقولات  وتعارفهم تقديم بعض المهر وتأجيل بعضه، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من ثياب وحلوى ونحوها يعتبر هدية وليس من المهر (1)). 2 - العرف الفاسد: وهو الذي يتعارف  بين قسم من الناس، وفيه مخالفة للشرع كتعارفهم بعض العقود الربوية، أو لعب الشطرنج، أو ارتياد الملاهي، وشرب المسكرات وغيرها مما علم من الشارع المقدس الردع عنه.
(1) مصادر التشريع الاسلامي، ص 124. (*)
------------------------------------------------------------------
مجالات العرف: ومجالات العرف التي تقع ضمن نطاق حديثنا ثلاثة: 1 - ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه مثل الاستصناع وعقد الفضولي. وانما يكتشف منه مثل هذا الحكم بعد  إثبات كونه من الاعراف العامة التي تتخطى طابع الزمان والمكان لنستطيع ان نبلغ بها عصر المعصومين ونضمن إقرارهم لها لتصبح سنة بالاقرار، ويدخل ضمن هذا المجال كل ما قامت عليه  سيرة المتشرعة أو بناء العقلاء أو قل كلما كان من الاعراف العامة التي تتسع بمدلولها لمختلف الازمنة والامكنة بما فيها عصر المعصومين. 2 - ما يرجع إليه لتشخيص بعض المفاهيم التي  أوكل الشارع أمر تحديدها إلى العرف مثل لفظ الاناء والصعيد، ونظائرها مما أخذ موضوعا في ألسنة بعض الادلة. والظاهر ان بعض الاحكام إنما وردت على موضوعات عرفية، فتشخيص مثل  هذه الموضوعات مما يرجع به إلى العرف، وفي هذا القسم نرى تفاوت الاحكام بتفاوت موضوعاتها الناشئ من اختلاف الاعراف باختلاف الازمنة والبيئات، فمصاريف الزكاة التي ذكرتها الآية  المباركة أكثر مواضيعها عرفية. فالفقير - وهو من لا يملك قوت سنته قوة أو فعلا - تتفاوت مصاديقه بتفاوت الاعراف في تحديد القوت، وفي سبيل الله يتفاوت بتفاوت درجة حضارة الامة  ومستواها، فالامة التي تحتاج إلى صنع مركبة فضائية - مثلا - لضروراتها الحضارية التي لا تتنافى مع الشريعة، أو التي تستخدم لخدمة الدين وتركيز مبادئه كالتي تستعمل في البث التلفزي إذا  استخدمت برامجه في خدمة الانسان ورفع مستواه الخلقي والاجتماعي إلى ما تريده له الشريعة في تعاليمها الخالدة، أقول هذه الامة - فيما أتخيل - لا تخرج في
------------------------------------------------------------------
صنعها لها على موضوع (سبيل الله) المأخوذ من مصاريف الاموال الزكوية، والمقياس فيه هو سد حاجة عامة مشروعة فما انتظم في هذا العنوان كان سبيلا لله وهكذا... 3 - المجال الذي يرجع  إليه لاستكشاف مرادات المتكلمين عندما يطلقون الالفاظ سواء كان المتكلم هو الشارع أم غيره، وينتظم في هذا القسم بالنسبة إلى استكشاف مرادات الشارع ما يرجع إلى الدلالات الالتزامية  بالنسبة لكلامه إذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية، كحكم الشارع مثلا بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خل الملازم عرفا للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه، كما ينتظم فيها كلما يصلح ان يكون  قرينة على تحديد المراد من كلامه، وهكذا... أما بالنسبة إلى استكشاف مرادات غيره فيدخل ضمن هذا القسم منه كلما يرجع إلى أبواب الاقرارات والوصايا والشروط والوقف وغيرها، إذا  استعملت بألفاظ لها دلالاتها العرفية، سواء كان العرف عاما أم خاصا. هل العرف أصل ؟ ومن هذه المجالات يستكشف أن العرف ليس أصلا بذاته في مقابل الاصول. أما ما يتصل بالمجال  الاول فواضح لرجوعه إلى السنة بالاقرار، لان المدار في حجيته هو إقرار الشارع له لبداهة أن العرف لا يكسبنا قطعا بجعل الحكم على وفقه، فلا بد من رجوعه إلى حجة قطعية، وليست هي إلا  اقرار الشارع أو امضاءه له، والامضاء إنما قام على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف. فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلا، وهما حكمان عرفيان،
------------------------------------------------------------------
ولم يمض جميع ما لدى العرف من أحكام، بل لم يمض أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلا في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة. أما المجالان الآخران، فلا يزيد أمرهما على تشخيص  صغريات السنة حكما أو موضوعا، وقد مضى القول منا أن كل ما يتصل بتشخيص الصغرى لمسألة أصولية، فهو ليس من الاصول بشئ، فعد العرف أصلا في مقابل الاصول لا أعرف له وجها.  حجيته وأدلتها: وما ذكر من أدلة حجيته لا يصلح لاثبات ذلك والادلة التي ساقوها على الحجية هي: 1 - رواية عبد الله بن مسعود السابقة (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)، وقد استدل  السرخسي بها في (المبسوط) على ذلك يقول: (وتعامل الناس من غير نكير أصل من الاصول كبير لقوله (صلى الله عليه وآله): ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (1))، كما استدل ابن  الهمام بها على ذلك (2). ويرد على هذا الاستدلال: ما سبق أن أوردناه على الرواية من كونها مقطوعة، واحتمال أن تكون كلاما لابن مسعود لا رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي لا  تصلح للحجية بالاضافة إلى ان العرف لا علاقة له بعوالم الحسن لعدم ابتنائه عليها غالبا، وما اكثر الاعراف غير المعللة لدى الناس، والمعلل منها - أي الذي يدرك العقل وجه حسنه نادر جدا -،  فالاستدلال - لو تم - فهو أضيق من المدعى، وحتى في هذه الحدود الضيقة، لا يجعله أصلا مستقلا وإنما يكون من صغريات حكم العقل لما مر من أن
(1 - 2) سلم الوصول، ص 322 نقلا عنهما. (*)
------------------------------------------------------------------
هذا الحديث لا يزيد على كونه تأكيدا لحكم العقل، أو أنه من أدلة الاجماع، فتكون المسألة على تقديرها من صغريات حجية الاجماع. 2 - قولهم: (إن الشارع الاسلامي في تشريعه راعى عرف  العرب في بعض أحكامه فوضع الدية على العاقلة واشترط الكفاءة في الزواج... الخ (1)). والجواب عليه: أن الشارع لم يراع العرف بما أنه عرف، وإنما وافقت أحكامه بعض ما عند العرف  فأبرزها بطريق الاقرار، ولذلك اعتبرنا إقراره سنة، وفرق بين أن يقر حكما لدى أهل العرف لموافقته لاحكامه وبين أن يعتبر نفس العرف أصلا يرجع إليه في الكشف عن الاحكام الواقعية، فما  أقره من الاحكام العرفية يكون من السنة وليس أصلا برأسه في مقابلها. 3 - قولهم: (إن ما يتعارفه الناس من قول أو فعل يصير من نظام حياتهم ومن حاجاتهم، فإذا قالوا أو كتبوا فإنما يعنون  المعنى المتعارف لهم، وإذا عملوا فإنما يعملون على وفق ما تعارفوه واعتادوه، وإذا سكتوا عن التصريح بشئ فهو اكتفاء بما يقضي به عرفهم، ولذا قال الفقهاء: المعروف عرفا كالمشروط  شرطا. وقالوا: إن الشرط في العقد يكون صحيحا إذا اقتضاه العقد، وورد به الشرع أو جرى به العرف (2)). وهذا الدليل لا أعرف له محصلا فكون ما يتعارفه الناس يصبح من نظام حياتهم لا  يصلح دليلا لاستكشاف الحكم الشرعي منه، وليس عندنا من الادلة ما يسمى بنظام الحياة، والذي نعرفه من أنظمة الحياة التي تعارف عليها الناس ان بعضها ممضى في الاسلام فهو حجة،  وبعضها غير ممضى فهو ليس بحجة ولا يسوغ الركون إليه، وكم من العادات والاعراف
(1) مصادر التشريع، ص 124. (2) مصادر التشريع، ص 124، والاستدلال به كسابقه للاستاذ خلاف فيما يبدو. (*)
------------------------------------------------------------------
التي كانت سائدة في الجاهلية قد استأصلت في الاسلام وبعضها مجهول الحال لعدم الدليل عليه نفيا أو إثباتا، ومثل هذا محكوم بالاباحة الظاهرية. هذا إذا أريد من العرف العرف في مجاله الاول،  أي العرف الذي يراد معرفة حكم الشارع منه، أما إذا أريد منه العرف في مجاليه الآخرين أعني ما أوكل الشارع تحديد موضوعاته إليه، أو ما استكشف من مرادات المتكلمين فهو - وان كان  حجة بمعنى انه المرجع لتحديد المراد أو تشخيص الموضوع - إلا أنه لا يشكل كبرى كلية تقع في طريق الاستنباط ليكون أصلا في مقابل الاصول، وإنما وظيفته تنقيح الصغريات لموضوع الحكم  الكلي، أو الصغريات لقياس الاستنباط وحال الثالث منه في بعض صوره حال مباحث الالفاظ في تنقيح الظهور للسنة أو الكتاب. ولعل مراد العلامة الشيخ ابراهيم الرياحي التونسي من قوله: ( والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق (1))، هو هذا القسم - أعني خصوص الذي يستكشف منه مرادات الشارع فيما يصلح ان يكون قرينة عليها. وبهذا ندرك أنه لا موضع  للاطلاق في أمثال هذه الكلمات التي اشتهرت على ألسنة كثير من الفقهاء والحقوقيين: العرف في الشرع له اعتبار. العرف شريعة محكمة. التعيين بالعرف كالتعيين بالنص. الثابت بالعرف  كالثابت بالنص. العادة محكمة. وأمثالها من التعميمات التي لا تستند بعمومها على أساس.
(1) مصادر التشريع، ص 125. (*)