القسم الثالث: التخيير الشرعي

الباب الثالث القسم الثالث التخيير الشرعي تحديده، التخيير الشرعي وظيفة، التخيير والواجب المخير، التخيير ومقتضى الاصل، أدلة التخيير ومناقشتها، خلاصة البحث.
------------------------------------------------------------------
تحديده: ويراد به جعل الشارع وظيفة اختبار إحدى الامارتين للمكلف عند تعارضهما، وعدم إمكان الجمع بينهما، أو ترجيح احداهما على الاخرى بإحدى المرجحات التي عرضناها سابقا. التخيير  الشرعي وظيفة: وكون التخيير الذي نتحدث عنه وظيفة شرعية لا حكما شرعيا، يتضح أمره إذا علمنا ان جعل التخيير، عند تعارض الامارتين، لا يكشف عن وجود مصلحة في متعلق الجعل  ليكون من سنخ الاحكام، وإنما جعل لرفع الحيرة فقط، واختيار المكلف لاحداهما لا يسري إلى الواقع فيغيره عما هو عليه. التخيير والواجب المخير: وهذا التخيير غير الواجب المخير الذي سبق  التحدث عنه في بحوث التمهيد، لان ذلك من الاحكام لبداهة ان كلا من فردي التخيير هناك، وهو الذي وجه إليه التكليف على سبيل البدل، فيه مصلحة توجب جعل الحكم على وفقها بخلافه هنا، فإن  كلا من فردي التخيير لا يعلم وجود المصلحة فيه، وإنما المصلحة في متعلق إحدى الامارتين فحسب، لافتراض التناقض بينهما، وصدور واحدة منهما دون الاخرى، والمصلحة إنما هي في نفس  الجعل لا في المتعلق، وهي لا تتجاوز مصلحة التيسير.
------------------------------------------------------------------
التخيير ومقتضى الاصل: وجعل التخيير هنا على خلاف مقتضى الاصل، لاقتضائه التساقط في المتعارضين. لان دليل الحجية بالنسبة للخبرين المتعارضين لا يخرج عن أحد ثلاثة فروض: 1 -  ان يفترض شموله لهما معا، وهذا مستحيل بالبداهة، لاستحالة ان يتعبدنا الشارع بالمتناقضين. 2 - ان يفترض شموله لاحدهما دون الآخر، وتعيينه بالذات وترجيح لاحد المتساويين على الآخر من  دون مرجح. 3 - ان يقال بعدم شموله لهما معا، وهذا هو الذي يتعين الاخذ به. وادعاء أن أحدهما حجة واقعا لحكايته عن الواقع لا يخلو من مغالطة، لان المدار في الحجية على العلم بها، لان  العلم مقوم للحجية، كما سبق بيانه، لا على وجودها الواقعي. ومع فرض جهالتنا به من بينهما لا يكون حجة علينا حتما، وقد تخيل بعض الاصوليين: (ان مقتضى الاصل عن التعارض هو التخيير،  لان كلا من المتعارضين محتمل الاصابة للواقع، وليس المانع من شمول دليل الاعتبار لكل منهما إلا لزوم التعبد بالمتناقضين). (وهذا المحذور يندفع برفع اليد عن اطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى  كل منهما بتقييده بترك الاخذ بالآخر (1)). وأجيب على هذا بأن الاخذ بكل منهما عند ترك الآخر لا يرفع محذور التعبد بالمتنافضين، لان لازم جعل الحجية لكل منهما عند ترك
(1) مصباح الاصول، ص 366. (*)
------------------------------------------------------------------
الآخر هو جعل الحجية لهما عند ترك الاخذ بهما معا لصدق القيدين، ومقتضاه هو التعبد بهما بما ينطويان عليه من التناقض. وهناك توجيه آخر للتخيير فحواه دعوى امكان تقييد الحجية في كل  منهما بالاخذ به، ونتيجة ذلك هو التخيير لتمكنه من الاخذ بأيهما شاء. ولكن لازم هذا التوجيه ان لا يكون كل منهما حجة عند عدم الاخذ بهما، وهو ما لا يلتزم به الموجه حتما. على ان علمنا بكذب  احدى الامارتين بحكم ان الواقع الواحد لا يتحمل صدق حكايتين متناقضتين يحول التخيير إلى تخيير بين حجة ولا حجة لو صح صدق التعبير بالحجة في هذا المجال. أدلة التخيير ومناقشتها: ولكن  القائل بالتخيير استند إلى روايات عدة جلها أجنبي عن مقام التعارض المصطلح، على ان قسما منها مناقش فيه سندا، نذكر نماذج منها: 1 - ما رواه احمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي عن  الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام) قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيهما الحق. قال (عليه السلام): فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت (1)). ودلالة هذه  الرواية وافية جدا إلا أنها مرمية بالضعف لارسالها. 2 - ومثلها مرسلة الكافي (بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك) استدلالا وجوابا. 3 - ما رواه الشيخ باسناده عن احمد بن محمد عن العباس  بن معروف عن علي بن مهزيار قال: (قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي
(1) مصباح الاصول، ص 423. (*)
------------------------------------------------------------------
الحسن (عليه السلام) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن ابي عبد الله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: صلهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلهما إلا على الارض،  فوقع (عليه السلام): موسع عليك بأية عملت (1)). وهذه الرواية لا دلالة لها على أكثر من التخيير في افراد الكلي، لان كلا من الصلاتين صحيحة ومحققة للغرض والتخيير بين أفراد الكلي  سواء كان عقليا أم شرعيا لا محذور فيه، والمطلقات كلها من هذا القبيل. وإن شئت أن تقول ان هذه الانواع من الروايات ليست متعارضة في واقعها، وإن تخيلها الراوي كذلك، والامام لم يصنع  اكثر من تنبيهه على إمكان الجمع بينها بمفاد (أو)، والكلام إنما هو في الروايات المتعارضة. 4 - ما رواه الكليني بسنده عن سماعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل اختلف  عليه رجلان من اهل دينه في أمر، كلاهما يرويه، احدهما يأمر بالاخذ والآخر ينهاه، كيف يصنع ؟ قال (عليه السلام): (يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه (2)). وهذه الواقعة  المسؤول عنها من قبيل دوران الامر بين المحذورين (يأمر وينهى)، والمكلف بواقعه لا بد ان يصدر عن أحدهما، فالتخيير بينهما تخيير تكويني، والتعبير بالسعة مساوق للتعبير بإسقاطهما،  والصدور عن أحدهما بحكم ما يقتضيه واقعه التكويني، وربما سمي هذا النوع من التخيير بالتخيير العقلي، فتكون الرواية إرشادا له، وسيأتي الحديث عنها. خلاصة البحث: والخلاصة ان أدلة  التخيير - وهي لا تخرج عن الطوائف التي عرضنا
(1) مصباح الاصول، ص 424. (2) مصباح الاصول. ص 224، ويحسن الرجوع إليه للتوسع في هذا البحث. (*)
------------------------------------------------------------------
نماذج منها - بين صحيح لا يدل بمضمونه، ودال لا يصح سندا، فهي لا تنهض بإثبات ما سيقت له. على أن الحق يقتضينا ان نسجل ان القائلين بالتخيير لم نعرف لاحد منهم فتوى فقهية مستندها  ذلك، وربما وجدت في الموسوعات وضيعها علينا نقص الفحص. ثم ان هذه الادلة، لو تمت دلالتها، فهي لا تنعرض إلى اكثر من التعارض بين الاخبار، ولا صلاحية فيها لاستيعاب أبواب  التعارض كلها، فالدليل إذن أضيق من المدعى. ولذا لم نعرف من عمم أدلة التخيير إلى جميع الابواب، فالقاعدة تبقى محكمة، ومقتضاها التساقط إلا في الاخبار، بناء على تمامية هذه الادلة.