القسم الثامن: فتح الذرائع وسدها

الباب الاول القسم الثامن فتح الذرائع وسدها الذريعة لغة واصطلاحا، أقسام الذريعة، حكمها، الادلة على الحكم: أدلتها من الكتاب والسنة، أدلتها من العقل، خلاصة وتعقيب.
------------------------------------------------------------------
الذريعة لغة واصطلاحا: للذريعة مدلولان: لغوي واصطلاحي، فهي في اللغة الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشئ. وفي الاصطلاح وقعت موضعا لاختلافهم في مقام التحديد، فالشاطبي يحددها ب‍: ( التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة (1)). وقريب منه ما ورد على ألسنة بعض المتأخرين في تحديدها فهي عنده (ما يتوصل به إلى شئ ممنوع مشتمل على مفسدة (2)). ويرد على هذين  التعريفين انهما غير جامعين لاقتصارهما على وسائل الامور المحرمة، بينما تعم الذريعة - كدليل - جميع الوسائل سواء كانت وسائل لمحرمات أم واجبات أو غيرهما من الاحكام، يقول القرافي:  (الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح (3)). وقريب منه قول سلام: (الذرائع إذا كانت تفضي إلى مقصد هو قربة وخير، أخذت الوسيلة حكم المقصد، وإذا كانت تفضي إلى  مقصد ممنوع هو مفسدة، أخذت حكمه، ولذا فإن الامام مالكا يرى انه يجب فتح الذرائع في الحالة الاولى لان المصلحة مطلوبة، وسدها في الحالة الثانية لان المفاسد ممنوعة (4))، اللهم إلا ان  يكون ذلك مجرد اصطلاح خاص لهم ولا حساب لنا معه. ولعل أقرب تعاريفها إلى السلامة ما ذكره ابن القيم من أن (الذريعة
(1) الموافقات، ج 4 ص 199. (2) المدخل للفقه الاسلامي، ص 266. (3 - 4) المدخل للفقه الاسلامي، ص 266. (*)
------------------------------------------------------------------
ما كان وسيلة وطريقا إلى الشئ (1))، وهو مأخوذ من مفهومها اللغوي، إلا أن تعميم الشئ فيه يجعله غير مانع من الغير لدخول جميع الوسائل المفضية إلى غير الاحكام الشرعية، وهو ما لا  يتصل بحثه بوظيفة الاصولي فالانسب تعريفها ب‍: (الوسيلة المفضية إلى الاحكام الخمسة) ليشمل بحثها كل ما يتصل بالذريعة وأحكامها من أبحاث سواء أفضت إلى مصالح أم مفاسد ام غيرها،  على أن الذي ركز عليه الباحثون من أقسامها هو الذريعة المفضية إلى مفسدة وخصوصا بأكثر أحاديثهم. أقسام الذريعة: وقد قسمها ابن القيم إلى أقسام أربعة: 1 - الوسائل الموضوعة للافضاء  إلى المفسدة، ومثل لها بشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، وليس لهذه الافعال ظواهر غير الافضاء إلى المفسدة. 2 - الوسائل  الموضوعة للامور المباحة، إلا أن فاعلها قصد بها التوسل إلى المفسدة، ومثالها فعل من يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا. 3 - الوسائل الموضوعة للامور المباحة،  والتي لم يقصد التوسل بها إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها، ومثالها مسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم فيسبوا الله عدوا، وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن  عدتها. 4 - الوسائل الموضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، ومثلوا لها بالنظر إلى المخطوبة والمشهود عليها، وكلمة
(1) اعلام الموقعين، ج 3 ص 147. (*)
------------------------------------------------------------------
الحق عند سلطان جائر (1). حكمها: أما حكمها فقد اختلفوا فيه، فالذي عليه ابن القيم وجماعة ان الوسيلة تأخذ حكمها مما تنهي إليه، وقرب ذلك بقوله: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا  باسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها واسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب افضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات  والقربات في محبتها والاذن فيها بحسب افضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل). (فإذا حرم الرب تعالى  شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به،  وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الاباء (2)). ومن رأيه - أعني ابن القيم - تحريم جميع تلكم الاقسام، التي ذكرها للوسيلة، عدا القسم الرابع وهو ما كان موضوعا للمباح، وقد يفضي إلى  مفسدة، ومصلحته أرجح من مفسدته (3). ولكن المالكية والحنابلة ركزوا في الحرمة على خصوص القسم الثاني منها - أعني الوسائل الموضوعة للامور المباحة - ويقصد فاعلها التوصل بها  إلى المفسدة (4).
(1) اعلام الموقعين، ج 3 ص 148. (2) أعلام الموقعين، ج 3 ص 147. (3) أعلام الموقعين، ج 3 ص 148. (4) المدخل للفقه الاسلامي، ص 269. (*)
------------------------------------------------------------------
ولقد حررت هذه المسألة في كتب الشيعة الامامية في مبحث مقدمة الواجب من الاصول. وقد كادت ان تطبق كلمتهم على اعتبار المقدمة تابعة في حكمها لذي المقدمة على اختلاف في معنى هذه  التبعية وفي حدودها من حيث الاطلاق والتقييد. وكلماتهم مختلفة في ذلك جدا، وربما بلغت أقوال المسألة أكثر من عشرة. ولعل اسد هذه الآراء واقواها أدلة هو ما ذهب إليه بعض المتأخرين من  الحجج امثال: المرحوم الشيخ محمد حسين الاصفهاني، والسيد محسن الحكيم، والسيد ابو القاسم الخوئي، من انكار تبعيتها لذي المقدمة في حكمها، وإنما لها حكمها المستقل المأخوذ من ادلته  الخاصة. الادلة على الحكم: أدلتها من الكتاب والسنة: ولقد ذكر ابن القيم ما يقارب المائة بين آية وحديث استقرأها في مظانها، فوجد فيها جميعا اتحاد الحكم في الوسائل وما تفضي إليه، مما يدل  على ان الشارع يعطي الوسائل دائما حكم ما تنهي إليه. والامثلة التي ذكرها منصبة في الغالب على الوسائل المحرمة لديه، امثال قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله  عدوا بغير علم (1)) وقوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن (2)). ولكن ليس في هذه المواقع التي عرضها ما يصرح بأن التحريم فيها جميعا انما كان من اجل كونها  وسيلة إلى الغير لا لمفاسد في ذاتها توجب لها التحريم النفسي، كضربهن بأرجلهن والنظر إلى الاجنبية، هكذا...
(1) الانعام / 108. (2) النور / 31. (*)
------------------------------------------------------------------
وإذا شككنا في كون الحرمة نفسية أو غيرية، فمقتضى إطلاقها انها نفسية، لان الحرمة الغيرية مما تحتاج إلى بيان زائد، ومع عدمه وهو في مقام البيان فالظاهر العدم. على أنا لا نمنع أن يتخذ  الشارع احتياطات لبعض ملاكات أحكامه التي يحرص أن لا يفوتها المكلف بحال، فيأمر أو ينهي عن بعض ما يفضي إليها تحقيقا لهذا الغرض، إلا أن ذلك لا يتخذ طابع القاعدة العامة، ولعل  الكثير من الأمثلة التي ذكرها منصبة على هذا النوع. ويكفينا أن لا يكون في هذه الامثلة من التعليلات ما يصلح لان يتمسك بعمومه أو إطلاقه لتحريم جميع المقدمات التي تقع في طريق  المحرمات، مهما كان نوعها، وليس علينا إلا ان نتقيد بخصوص هذه المواقع التي ثبت لها التحريم. أدلتها من العقل: وعمدة ما استدل به على التوافق في الحكم بين المقدمة وذيها، ما أشار إليه ابن  القيم وغيره من دعوى الملازمة، بين حكم الشارع بوجوب أو حرمة شئ، ووجوب أو حرمة وسائله وذرائعه (فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها  تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى، وعلمه يأبى ذلك كل الاباء (1)). والظاهر ان  هذه الدعوى لا مأخذ لها لان الاحكام الواقعية إنما هي وليدة مصالح أو مفاسد في متعلقاتها، وإذا كان في الشئ مفسدة توجب
(1) أعلام الموقعين، ج 3 ص 148. (*)
------------------------------------------------------------------
جعل الحرمة له من قبل الشارع فلا يلزم ان يكون في ذرائعها مفاسد أيضا ليلزم وضع الحرمة على وفقها ودعوى ان المتلازمين يجب ان يأخذا حكما واحدا، لا مأخذ لها كما سبق شرحه، إذ لا  يلزم فيهما ان يكونا متحدين من حيث اشتمالهما على ملاك الحكم ليتحدا في الحكم، وغاية ما تلزم به الملازمة ان لا يفترقا في حكمهما على نحو الوجوب والحرمة لتعذر امتثالهما معا، وفي هذا  الحال تعود المسألة إلى صغريات باب التزاحم الآمري الذي يدعو إلى الموازنة في مقام الثبوت لدى الآمر نفسه، واختيار أصلحهما للمكلف. نعم، قد يقال بأن الهدف من جعل الاحكام، هو جعل  الدواعي في نفوس المكلفين لامتثال تكاليف المولى، وإنما جعلت الاحكام على الذرائع توفيرا لدواعي امثتال ما تفضي إليه. ولكن هذا القول أيضا لا مأخذ له، لان الدواعي إلى الامتثال إن احدثها  الامر بذي المقدمة أو النهي عنها، فالامر بالمقدمة لا يصنع شيئا ولا يولد داعيا للزوم تحصيل الحاصل وإن لم يحدثها - لتمرد المكلف على مولاه - فألف أمر بالمقدمة لا يؤثر شيئا ولا يحدث  داعيا. والظاهر أن هذه هي وجهة نظر اساتذتنا المتأخرين الذين ذهبوا إلى عدم وجوب المقدمة كالسيد الحكيم والشيخ الاصفهاني والسيد الخوئي. وقد ذكر الشيخ المظفر نسبة هذه الرأي إليهم،  واستدل له بقوله: (وذلك لانه إذا كان الامر بذي المقدمة داعيا للمكلف إلى الاتيان بالمأمور به فإن دعوته هذه - لا محالة بحكم العقل - تحمله وتدعوه إلى الاتيان بكل ما يتوقف عليه المأمور به  تحصيلا له، ومع فرض وجود هذا الداعي في نفس المكلف لا تبقى حاجة إلى داع آخر من قبل المولى مع علم المولى، حسب الفرض بوجود هذا الداعي، لان الامر المولوي،
------------------------------------------------------------------
سواء كان نفسيا أم غيريا، إنما يجعله المولى لغرض تحريك المكلف نحو فعل المأمور به، إذ يجعل الداعي في نفسه حيث لا داعي، بل يستحيل في هذا الفرض جعل الداعي الثاني من المولى لانه  يكون من باب تحصيل الحاصل (1)). وما يقال عن الوجوب، يقال عن بقية الاحكام الاقتضائية لوحدة الملاك فيهما. يقول شيخنا النائني: (لا يخفى أن ما ذكرنا من الوجوه والاقوال في مقدمة  الواجب يجري في مقدمة المستحب (2)). ويقول أيضا: (وأما مقدمات المكروه فحالها حال مقدمات الحرام (3)). وإذا صح هذا اتضحت اوجه المفارقة في كلمات ابن القيم من دعواه الملازمة  بين إباحة الذريعة ونقض التحريم، لان اباحة الشئ لا تستلزم الاتيان به ليلزم نقض التحريم، وتوقف امتثال التحريم على عدم الاتيان بالذريعة المفضية إليه توقف عقلي محض، والاحكام العقلية لا  تستلزم احكاما شرعية دائما لما سبق ان قلنا في مبحث العقل من امتناع ذلك احيانا كما هو الشأن في هذه المسألة بناء على ما قالوه من لزوم تحصيل الحاصل فيها، وكما هو الشأن في أوامر  الاطاعة وغيرها، نعم الذي يفضي إلى نقض التحريم هو جعل الوجوب للذريعة لا الاباحة، وليس هناك ما يمنع من ان يبيح الشارع شيئا ويلزم العقل به ما دامت أحكام الشارع وليدة مصالح أو  مفاسد في المتعلقات، فالذريعة التي لا مصلحة ولا مفسدة فيها لا معنى لجعل غير الاباحة لها، وإلزام العقل بها لتوقف امتثال ما تفضي إليه عليها لا ينافي اباحتها الشرعية، وحسب الشارع ان  يتكل على حكم العقل في
(1) أصول الفقه، ج 2 ص 85. (2) أجود التقريرات، ج 1 ص 248. (3) أجود التقريرات، ج 1 ص 250. (*)
------------------------------------------------------------------
لزوم الاتيان بها أو الارتداع عنها لتحقيق غرضه. وبهذا يتضح ان ما ورد على لسان الشارع مما هو صريح بالردع عن الاتيان بالمقدمات المحرمة، انما هو من قبيل الارشاد إلى حكم العقل  والتأكيد له، لا انها أحكام تأسيسية. ومن هنا صح القول بأن الاوامر والنواهي الغيرية لا تستدعي ثوابا ولا عقابا، وبدا مثل هذا القول منطقيا ومنسجما على هذا المبنى، وإلا فما معنى توجيه الامر  المولوي أو النهي إذا كان وجوده كعدمه من حيث استحقاق الثواب والعقاب ؟ وفي حدود ما اطلعت عليه من كلماتهم أنهم متفقون على ان الثواب والعقاب انما هو على خصوص ذي المقدمة،  فالشخص الذي يترك الصلاة مثلا، لا يعاقب على أكثر من تركها، فالوجوب المقدمي المتوجه على التستر والاستقبال وغيرهما من المقدمات، لا تستحق مخالفته عقابا في مقابل ذي المقدمة،  وهكذا بالنسبة إلى مقدمات الحرام. نعم لا يبعد القول ان مخالفة بعض النواهي - التي جعلها الشارع سدا عن الوقوع في بعض المحرمات التي يبغض الشارع وقوعها بغضا شديدا لكثرة مفاسدها،  كالاحكام المتعلقة بالدماء والاموال والفروج مما ثبت نهي الشارع عن اقتحام شبهاتها حذرا من الوقوع في مفاسدها - تستدعي عقابا على المخالفة حتى مع عدم مصادفة الشبهة للواقع، ولكن من  باب التجري أو ما يشبهه - لو قلنا باستحقاق العقاب عليه - لا من باب مخالفة الحكم الواقعي إذ لا مخالفة كما هو الغرض. خلاصة وتعقيب: والخلاصة ان جل من تعرفنا عليهم من الاصوليين -  شيعة وسنة -
------------------------------------------------------------------
باستثناء بعض محققيهم من المتأخرين، هم من القائلين بفتح الذرائع وسدها وإن لم يتفقوا في حدود ما يأخذون منها وما يتركون، يقول الاستاذ سلام: (الواقع ان الفقهاء جميعا يأخذون بأصل الذرائع  مع اختلاف في. مقدار الاخذ به وتباين في طريقة الوصول إلى الحكم، إذ المشاهد في أحكام الفروع ان أكثر الفقهاء يعطي الوسيلة - الذريعة - حكم الغاية إذا تعينت الوسيلة لهذه الغاية، أما إذا لم  تتعين طريقا لها، فالمشهور عن الامام مالك انها تعتبر أصلا للاحكام، ويقرب منه في ذلك الامام احمد، وتبعهما ابن تيمية وابن القيم (1)). والذي يقتضي التعقيب عليه - بعد التغافل عن صلاحية  ما استدلوا به من الادلة على المبنى - هو اعتبار سد الذرائع وفتحها أصلا في مقابل بقية الاصول مع انها لا تعدو كونها من صغريات السنة أو العقل. لان اكتشاف حكم المقدمة اما ان يستفاد من  العقل بقاعدة الملازمة، بمعنى ان العقل يحكم بوجود ملازمة بين الحكم على شئ والحكم على مقدمته، فإذا علمنا ان الشارع قد حكم على ذي المقدمة بالوجوب فقد علمنا بحكمه على المقدمة  كذلك، وعندها تكون من صغريات حكم العقل وليست أصلا برأسه، واما ان يستفاد من طريق الملازمة اللفظية أي من الدلالة الالتزامية لادلة الاحكام، كما هو مبنى فريق بدعوى ان اللفظ الدال  على وجوب الصلاة هو بنفسه يدل على لازمه وهو وجوب مقدماتها، وعليها يكون وجوب المقدمات مدلولا للسنة، فتكون المسألة من صغريات دليل السنة، وقد عرفت ان الادلة السمعية التي  ساقها ابن القيم على كونها أصلا لا تعدو ان تكون إرشادية لحكم العقل بالملازمة. فقول مالك واحمد وابن تيمية وابن القيم: انها من أصول الاحكام في مقابل بقية الاصول، لا يتضح له وجه.
(1) المدخل للفقه الاسلامي، ص 270. (*)