القسم الثاني: الاحتياط الشرعي

الباب الثالث القسم الثاني الاحتياط الشرعي تحديده، الاختلاف في حجيته، أدلة الاخباريين، أدلتهم من الكتاب، أدلتهم من السنة، مناقشها ككل، الاصل في الاشياء، والحظر، خلاصة البحث،  الاحتياط الشرعي وظيفة.
------------------------------------------------------------------
تحديده: ويراد به حكم الشارع بلزوم الاتيان بجميع محتملات التكاليف أو اجتنابها عند الشك بها، والعجز عن تحصيل واقعها مع إمكان الاتيان بها جميعا أو اجتنابها. الاختلاف في حجيته: وقد  اختلفوا في حجيته، فالذي عليه أكثر علماء الاصول أنه ليس بحجة مطلقا، وخالف الاخباريون في ذلك فاعتبروه حجة في خصوص الشبهات التحريمية. أدلة الاخباريين: وقد استدل الاخباريون، أو  استدل لهم بعدة أدلة نعرض أبرزها في الدلالة. أدلتهم من الكتاب: 1 - قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم). باعتبار ان الترخيص في الشبهات التحريمية قول بغير علم، وقد نهت هذه الآية  المباركة عنه. والجواب على ذلك: أن الترخيص فيها قول بعلم لقيام أدلة البراءة السابقة عليه، فهو خارج عن الآية موضوعا لحكومة أدلة البراءة عليها.
------------------------------------------------------------------
2 - قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته (1)). 3 - قوله سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم (2)). بتقريب ان اقتحام الشبهات التحريمية ينافي التقوى التي أمرنا بها بفحوى هذه الآيات ونظائرها.  والجواب: ان اقتحام الشبهة مع وجود المؤمن الشرعي لا ينافي التقوى بحال، ومع قيام أدلة البراءة فالمؤمن حاصل من الشارع، وأي محذور في اتباع رخص الشارع بعد ثبوتها عنه ؟ 4 - قوله  تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (3)). وقد قربوا دلالتها بكون اقتحام الشبهات التحريمية إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وقد حرمته هذه الآية. ويرد على هذا التقريب: 1 - إن كون اقتحام الشبهات  التحريمية إلقاء بالنفس إلى التهلكة أو ليس بإلقاء لا تشخصه الآية، لبداهة ان القضية لا تثبت موضوعها، والمقياس في كونه إلقاء إذا أريد من التهلكة التهلكة الاخروية - أي العقاب - هو نهي  الشارع عنه ومخالفة ذلك النهي، وتوجه النهي إلى اقتحام الشبهات إن أريد إثباته بهذه الآية لزم الدور، وإن أريد إثباته بغيرها فالغير هو الدليل لا هذه الآية. 2 - ان النهي في الآية لو أريد من  التهلكة التهلكة الاخروية، ليس نهيا مولويا، وإنما هو نهي إرشادي، فلا يدل على التحريم لبداهة ان شؤون الاطاعة والعصيان لا تقبل جعلا شرعيا للزوم التسلسل، إذ لو كان هذا النهي نهيا مولويا  لكانت مخالفته موجبة للعصيان وإلقاء النفس إلى التهلكة، وهي محرمة ومخالفتها محرمة، وهكذا إلى غير نهاية.
(1) آل عمران / 102. (2) التغابن / 16. (3) البقرة / 195. (*)
------------------------------------------------------------------
3 - على أن أدلة البراءة - بعد تماميتها - تكون واردة عليها ومزيلة لموضوعها وجدانا. إذ مع كون هذه الادلة مؤمنة من العقاب في جميع مواقع اقتحام الشبهات بما فيها التحريمية، لا يكون اقتحام  التحريمية منها تهلكة فهو خارج وجدانا بواسطة التعبد الشرعي. هذا كله - لو أريد من التهلكة العقاب الاخروي، أما إذا أريد بها التهلكة الدنيوية فالوجدان قاض بان اقتحام الشبه ليس فيه احتمال  التهلكة دائما فضلا عن القطع بوجودها، ولعل ارتكاب أكثر المحرمات المعلومة لا يوجب تهلكة دنيوية وان اوجب ضررا فضلا عن اقتحام شبهها أدلتهم من السنة: وما يصلح للاستدلال به من  السنة طائفتان انتظمت عشرات من الروايات نذكر لكل طائفة نموذجا منها ونناقشها. الطائفة الاولى وهي ما اخذ فيها لفظ الشبهة والوقوف عندها أمثال مقبولة ابن حنظلة، وقد جاء فيها: (إنما  الامور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم). والرواية  الاخرى القائلة: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة). الطائفة الثانية، ما ورد فيها لفظة الامر بالاحتياط أمثال: قوله (عليه السلام): اخوك دينك فاحتط لدينك
------------------------------------------------------------------
وقوله: خذ بالحائطة لدينك. وهذه الروايات (1) بلغت من الكثرة حدا قربها من التواتر المعنوي، فلا جدوى في استعراضها ومناقشة اسانيدها وبيان الضعيف منها من غيره. ويرد على الطائفة  الاولى: 1 - ان كلمة الشبهة التي اخذت فيها جميعا، ظاهرة في الشبهة المتحكمة، أي التي لم يعرف حكمها الواقعي أو الظاهري، ولم يجعل لها الشارع مؤمنات من قبله، إذ مع قيام حكمها  الظاهري أو جعل المؤمن فيها لا معنى لاعتبارها شبهة، وتكون من الامر البين الرشد. وبما ان أدلة البراءة لسانها لسان المؤمن، فهي حاكمة عليها ومزيلة لموضوعها تعبدا. ولذا لم نجد أحدا من  الفقهاء منهم توقف في موارد الشبهات الموضوعية أو الحكمية - إذا كانت وجوبية - اعتمادا على هذه الروايات مع ان لسانها آب عن التخصيص، مما يدل على تحكيمهم لادلة البراءة على هذه  الادلة. 2 - ان لسان الامر بالتوقف وما انطوت عليه من تعليل في بعضها يدلنا على كونها، أوامر ارشادية لاتصالها بشؤون التحذير من الوقوع في العقاب، وشوؤن العقاب والثواب لا تتقبل  أوامر مولوية للزوم التسلسل فيها كما سبقت الاشارة إليه، فالروايات حتى مع الغض عن المناقشة الاولى غير وافية الدلالة ويرد على الطائفة الثانية: 1 - انها أمرت بالاحتياط، للدين، وهو لا  يكون إلا بعد إحراز
(1) لاستقصاء هذه الروايات يحسن الرجوع إلى رسائل الشيخ الانصاري، وفوائد الاصول للشيخ محمد علي الخراساني، وغيرهما من الموسوعات (مبحث الاحتياط). (*)
------------------------------------------------------------------
موضوعه، فمع الشك في كون الشئ دينا أو ليس بدين، لا تتكفل هذه الروايات إثبات كونه منه، لما قلناه مرارا من ان القضية لا تثبت موضوعها. والمفروض في مواقع الشبهات هو الشك في أن  متعلقاتها من الدين أو لا، فلا تكون متناولة لها. نعم إذا أحرز كون الشئ من الدين وجب الاحتياط فيه. وقد يقال ان إحراز كونه دينا يدعو إلى الاتيان به أو اجتنابه، بما أنه مأمور به أو منهي عنه  بالعنوان الاولي، ولا تصل النوبة فيه إلى الاحتياط إذ لا تعدد في المحتملات ولا تصور لاحتمال على الخلاف ليصدق معنى الاحتياط، فأي معنى لهذه الروايات الآمرة بالاحتياط للدين إذن ؟ !  والجواب ان الاحراز يختلف أمره، فقد يكون بالعلم الاجمالي المنجز وقد يكون بغيره من العلم التفصيلي أو العلمي، وإذا لم يكن في الثاني - أعني العلم التفصيلي وما بحكمه - تعدد احتمالات، ففي  العلم الاجمالي موجود والروايات اذن تكون منصبة عليه. 2 - هذا إذا لم نقل ان هذه الروايات إرشادية إلى حكم العقل، لان الاحتياط حسن على كل حال. مناقشتها ككل: والذي يرد على استدلال  الاخباريين بهذه الادلة على لزوم الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية - بعد الغض عن عدم تماميتها في نفسها للمفارقات السابقة التي سجلت عليها - انها جميعا لا تثبت ما سيقت لاثباته  بحال من الاحوال، وذلك:
------------------------------------------------------------------
1 - لان هذه الادلة بمضمونها أعم من مفاد أدلة البراءة، لكونها شاملة للشبهات البدوية، والشبهات في أطراف العلم الاجمالي، والشبهات بعد الفحص، بينما لا تشمل أدلة البراءة الشبهات قبل  الفحص لتقيد أدلتها به - كما سبقت الاشارة إلى ذلك في مبحث الاستصحاب - كما لا تشمل الشبهات في أطراف العلم الاجمالي لما يأتي من قصورها عن ذلك. فهي مختصة إذن بالشبهات بعد  الفحص، ومقتضاه تقديمها على أدلة الاحتياط بالتخصيص بما انطوت عليه من اطلاق وشمول للشبهات التحريمية بعد الفحص. على أن في أدلة البراءة ما هو صريح الدلالة على الشبهات  التحريمية بالخصوص كرواية: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) وهي أخص من أدلة الاحتياط فتقدم عليها. على أن الذي يستفيده الغزالي (1) من جريان استصحاب براءة الذمة الثابتة قبل بعثة  الرسول، يوجب إخراج اكثر الشبهات موضوعا من هذه الادلة، لان أكثر الشبهات، إنما تنشأ من الشك في توجه تكاليف من الشارع بها، فإذا كان عندنا استصحاب يثبت عدم التكليف بها، فلا  شبهة فيها أصلا. ولكن الاشكال في جريان مثل هذا الاستصحاب، وقد مرت الاشارة إلى مناقشته في البحوث السابقة. وربما استدل لهم على وجوب الاحتياط فيها بالقاعدة المعروفة: الاصل في  الاشياء الحظر: على أن يتغاضى عما قربت به من أن المراد منها أن الاشياء محكومة
(1) المستصفى، ج 1 ص 127. (*)
------------------------------------------------------------------
بالحظر قبل ورود الشريعة بها، وهو الذي ذهب إليه البعض (1)، وتقرب بما هو معلوم بالضرورة من أن المكلفين عبيد لله عزوجل، وأفعالهم جميعا مملوكة له، ولا يسوغ التصرف في ملك  الغير إلا بإذنه، فما لم يحرز المكلف الاذن بالتصرف في شئ من أفعاله أو مخلوقاته، لا يسوغ الاقدام عليه لعدم المؤمن. والجواب على هذا التقريب: ان هذه القاعدة - لو تم الاستدلال بها - على  الاحتياط الشرعي بهذا التقريب، فهي محكومة لما دل على ورود الاذن الشرعي في إباحة التصرفات، أمثال قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا (2)). وليس وراء اللام من ( لكم) ما يدل عليه بالاضافة إلى حكومة أدلة البراءة السابقة، ولا أقل من معارضتها برواية: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) واسقاطها لذلك. خلاصة البحث: والخلاصة، ان هذه الادلة غير تامة  في نفسها اولا، وهي غير مجدية لو أمكن اتمامها في إثبات دعوى الاخباريين في الرجوع إلى الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية دون غيرها ثانيا، اللهم إلا إذا تمت قاعدة الحظر. وغاية ما  تثبته بعد الجمع بينها وبين أدلة البراءة، هو اختصاصها في خصوص الشبهات قبل الفحص، والشبهات في أطراف العلم الاجمالي. وهي بذلك منسجمة مع الدليل العقلي من ضرورة الاحتياط  فيهما، وربما كانت إرشادا له.
(1) المستصفى، ج 1 ص 40. (2) البقرة / 29. (*)
------------------------------------------------------------------
وسيأتي في مبحث الاحتياط العقلي ما يشير إليه. الاحتياط الشرعي وظيفة: وبهذا يتضح أن الاحتياط الشرعي - لو تمت أدلته - فهو لا يعدو كونه وظيفة مجعولة من قبل الشارع، عند الشك في  الحكم الواقعي، لبداهة أن الاحتياط لا يؤخذ به، بما انه حاك عن واقع أو مثبت له لافتراض الجهالة بوجود مثل هذا الواقع، وإنما جعل للمحافظة عليه لو كان، فهو لا يزيد على كونه وظيفة فجعل  الاحتياط لا يكشف عن مصلحة في المجعول ليكون من الاحكام.